الفصل الثاني

آراء الفلاسفة المسيحيين

أما الفلاسفة المسيحيون، وهناك عدد كبير منهم، فقد أجمعوا على أن أقنوم الابن اتحد بناسوت حقيقي اتحاداً تاماً. ومما يجعل لآرائهم قيمة في نظر العلماء ورجال الدين معاً، أن هؤلاء الفلاسفة، فضلاً عن أنهم كانوا من القديسين المشهود لهم بالحياة الروحية السامية، قد كانوا أيضاً من الخاصة الذين نبغوا في العلوم والفلسفة والأدب والطب، وتقلدوا أرقى الوظائف العلمية والاجتماعية والدينية في أيامهم. ويعوزنا الوقت إذا حاولنا تسجيل آرائهم جميعاً، ولذلك نكتفي بما يأتي:

1 - قال القديس بطرس الأول في القرن الرابع: أقنوم الكلمة، الواحد مع أقنومَيْ الآب والروح القدس في اللاهوت، قد تجسد ليعلن لنا اللاهوت، الذي لا نستطيع من تلقاء أنفسنا أن ندركه أو نراه .

2 - وقال القديس الكسندر الأول في القرن الرابع: المسيح، الذي هو صورة الله منذ الأزل، اتحد بناسوت في يوم من الأيام، ليعلن لنا الله، ويجعلنا في حالة التوافق معه .

3 - وقال القديس أثناسيوس الرسولي في القرن الرابع: المسيح هو ابن الله وابن الإنسان معاً، وليست له طبيعتان (أو شخصيتان، كما يقول غيره)، نسجد لإحداهما ولا نسجد للأخرى، بل نسجد له سجوداً كاملاً (أي غير مقتضب)، لأنه له المجد شخص واحد . وقال أيضاً: ابن الله هو بعينه ابن الإنسان، وابن الإنسان هو بعينه ابن الله .

4 - وقال القديس غريغوريوس النزيزي في القرن الرابع: الله الذي لا جسد له، ظهر في جسد، لنراه ونعرفه، وتكون لنا علاقة حقيقية معه .

5 - وقال العلامة أوريجانوس: إن المسيح هو مظهر العقل الخالد. وأن ظهوره في المسيح حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الله .

6 - وقال القديس يوحنا فم الذهب في القرن الرابع: اللاهوت والناسوت اتحدا معاً اتحاداً تاماً في المسيح، حتى أنك تستطيع أن تقول عنه إن هذا الإنسان هو الله .

7 - وقال القديس باسيليوس الكبير في القرن الرابع: إن لاهوت المسيح لم يفارق ناسوته لحظة واحدة، أو طرفة عين .

8 - وقال القديس تيموثاوس في القرن الرابع: المسيح من حيث أقنوميته هو واحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت، ومن حيث الناسوت هو مساوٍ لنا في كل شيء ما عدا الخطية .

تعليق: ليس المسيح مساوياً للآب والروح القدس في اللاهوت، بل هو واحد معهما فيه، لأن اللاهوت واحد ووحيد، لا شريك له أو نظير. ولكنه ليس واحداً معنا في الناسوت، بل هو مساوٍ لنا فيه، لأن الناسوت يشترك فيه البشر قاطبة - هذا مع مراعاة أن ناسوته لم يكن مثل ناسوتنا في كل شيء، إذ كان خالياً من الخطيئة خلواً تاماً، الأمر الذي لا يتوافر لأحد منا على الإطلاق.

9 - وقال القديس كيرلس الكبير في القرن الخامس: أقنوم الكلمة لا يُدعى المسيح بالانفصال عن الناسوت، والناسوت المولود من العذراء لا يُدعى المسيح بالانفصال عن أقنوم الكلمة، لأنهما متحدان معاً اتحاداً تاماً . وقال أيضاً: ربنا يسوع المسيح هو أقنوم واحد، لأن ناسوته متحد مع لاهوته باتحاد إلهي لا مجال فيه للتفكك أو الانفصال على الاطلاق .

10 - وقال القديس ديسقوروس الأول في القرن الخامس: اتحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح، لم يكن بامتزاج أو اختلاط، لأن كلاً منهما غير قابل للامتزاج أو الاختلاط بالآخر، بل كان بوسيلة إلهية تفوق العقل والادراك .

11 - وقال العلامة ترتوليان الشهير: هل التجسد غير لائق بكمال الله؟ الجواب طبعاً لا، بل هو لائق بكماله كل اللياقة، لأن من مستلزمات هذا الكمال، العطف على الناس وإنقاذهم من خطاياهم وتقريبهم إلى الله، ليعرفوه ويفيدوا منه . والتجسد هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الأغراض.

12 - وقال القديس أبيفانيوس في القرن السادس: الرب نفسه أخذ ناسوتاً خالياً من الخطيئة، وظهر به في العالم بيننا، ثم احتمل في هذا الناسوت آلامنا وأوجاعنا عوضاً عنا. لكن اللاهوت مع اتحاده بالناسوت لم يقع عليه شيء من هذه الآلام أو الأوجاع، لأنه غير قابل للتأثر بأي عرض من الأعراض .

13 - وقال العلامة ساويرس بن المقفع في القرن العاشر: أقنوم الكلمة تجسد وتأنس، دون أن يطرأ عليه تغيير ما .

14 - وقال توما الأكويني في القرن الثامن ما ملخصه: الكلمة الأزلي هو الذي خلقنا، ومن خَلَقنا لا يقسو علينا بل يحبنا ويعطف علينا. وبما أننا بسقوطنا في الخطيئة قد انفصلنا عنه وعجزنا عن العودة إليه، كان من البديهي أن يظهر هو بيننا ليأخذ بأيدينا ويقربنا إليه. وقيامه بهذا العمل يتطلب اتخاذه جسداً مثل أجسادنا لأننا لا نستطيع الاتصال به مباشرة .

15 - وقال يحيى بن عدي تلميذ الفارابي في القرن العاشر: إذا كان الباري علّة وجود خلائقه، فليس إذن من شأنه أن يفسدها أو يهجرها. وإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن أن يقف منها موقف المعادي لها أو المبتعد عنها، بل موقف المحب لها أو القريب منها، الذي لا يستنكف من أن يوجد معها في موضع واحد. والتجسد هو اتحاد الباري بالطبيعة البشرية، ووجوده معها في موضع واحد .

16 - وقال كانت في القرن الثامن عشر: لقد قرَّب المسيح بين مملكة الله ومملكة الإنسان . وطبعاً ما كان من الممكن أن يقوم بهذه المهمة، لولا أنه هو الله متأنساً، لأنه لو كان إنساناً إلهياً فقط، (كما يقول بعض الهراطقة) لما استطاع أن يقوم بذلك، لأن الإنسان لقصوره الذاتي لا يستطيع أن يقرِّب بين الله والناس، ولكن الله لكماله الذي لا حدَّ له يستطيع أن يقرِّب بين ذاته وبينهم.

17 - وقال شلينج، في القرن التاسع عشر: المرحلة الأخيرة، هي مرحلة الحكمة الالهية التي بدأت بالمسيحية، إذ أصبح الله موضوعياً لأول مرة في التاريخ، بأن تجسّد في المسيح . وقال أيضاً: وأخيراً جاءت المسيحية، وهي الديانة التي نزل بها الوحي، والتي تناقض عبادة الطبيعة وعبادة الإنسانية كلتيهما. والمسيحية هي اتحاد الواحد (الله) والكثير (الناس)، وهي تناسق الجلال والجمال والقوة، وهي التوافق بين الضرورة والحرية. وحقاً لقد بلغت المسيحية بتعليمها أسمى فكرة عن الله، لأنها تعلن أن الله تجسّد في الإنسان يسوع المسيح. ولأن فيها ذلك السر العجيب الذي يلائم بين النهائي واللانهائي، أي بين الإنسان وخالقه، وبذلك تمّ التوفيق بين الضدين في شخص المسيح .

ويقصد شلينج بالمرحلة الأخيرة المرحلة الأخيرة في معاملة الله للبشر. والمرحلة الأولى هي مرحلة الضمير (وتبتدىء من خروج آدم من الجنة إلى ما قبل نزول الناموس، أو الشريعة الموسوية) والثانية هي مرحلة الناموس (وتبتدئ من نزول الناموس إلى بدء المسيحية). والثالثة هي مرحلة النعمة، او الرحمة والمحبة للذين لا يستحقون رحمة أو محبة (وتبتدىء من ظهور المسيحية وتمتد إلى نهاية الدهر الحاضر). فالله في بدء علاقته مع البشر تركهم لضمائرهم ليفعلوا الخير ويتجنَّبوا الشر من تلقاء أنفسهم. ولما لم يُصغوا لضمائرهم ويطيعوها أعطاهم الناموس بناءً على رغبتهم (خروج 19: 7، 17) لكي لا تغيب عن أذهانهم حدود الخير أو الشر. لكنهم عجزوا كما عجز ويعجز غيرهم، عن العمل بهذا الناموس من تلقاء أنفسهم، لأن البشر جميعاً عاجزون بطبيعتهم عن إرضاء الله وحفظ وصاياه. ولذلك أتاهم في المسيح بالنعمة، مانحاً الغفران الشامل لكل من يؤمن منهم إيماناً حقيقياً، وعاملاً فيه بالروح القدس ليرتقي فوق قصوره الذاتي، ويحيا مع الله حياة التوافق والانسجام. وقد سُميت مرحلة النعمة هذه ب- المرحلة الأخيرة لأن من لا يفيد من معاملة الله فيها لا يفيد من أية معاملة أخرى. والحق أن هذه المراحل الثلاث تتفق مع وسائل التربية الصحيحة كل الاتفاق، فالمربي الحكيم يترك التلميذ في أول الأمر لضميره ليقوم بالواجب عليه من تلقاء نفسه. فإذا لم يقم به أرشده إلى الصواب ونهاه عن الخطأ، وأظهر له فائدة الأول وضرر الثاني. فإذا وجد بعد ذلك أن التلميذ قد عجز عن السير في طريق الصواب من تلقاء ذاته غضَّ النظر عن ضعفه وعجزه، وشمله بالعطف والشفقة، وآزره بنفسه على السير في هذا الطريق. فإذا لم يفد التلميذ بعد ذلك من هذه المعاملة، فطبعاً لن يفيد من غيرها على الإطلاق.

18 - وقال يوحنا داربي: لا نفرِّق في أذهاننا بين اللاهوت والناسوت، وحتى إن فرّقنا بينهما لفظياً، فإنه لا يغيب عن أذهاننا أن الذي جمع في نفسه بين اللاهوت والناسوت هو شخص واحد. فنحن نقول أحياناً إن المسيح هو الله، وأحياناً أخرى إنه إنسان، والحال أنه هو الاثنان معاً. فالكتاب قد قال عنه: لأن فيه سُرَّ أن يحل كل الملء أي أن كلّ ملء اللاهوت كان في المسيح. ولذلك أنشد قائلاً: يا له من حب يجلُّ عن التعبير، ويسمو فوق حدود التفكير، ذاك الذي أعلنتَهُ لنا يا مخلصنا العزيز القدير... ففيك نرى الله والإنسان متحدين في فرد واحد اتحاداً ليس له نظير .

19 - وقال الاستاذ نورمن أندرسون في القرن العشرين ما ملخّصه: إن كائناً علوياً مثل الله، يدرك ما يحسُّ به البشر من حاجة إليه، لا يمكن أن يوجد في معزل عنهم، بل أن يتجلى ويظهر لهم. وكيف يقوم بهذه المهمة؟ الجواب: إن أول ما يتبادر إلى الذهن، هو أن يختار أشخاصاً لهم بصائر روحية مجلوَّة، يودعهم على قدر استعدادهم أفكاره ومقاصده ليبلّغوها إلى غيرهم من البشر. ولكن هذه الوسيلة وإن كانت نافعة، إلا أنها تقصر دون إشباع نفوس البشر، لأن هذه لا تحتاج إلى مجرد معرفة عن أفكار الله ومقاصده، بل تحتاج إلى الاتصال به شخصياً، لأن في الاتصال به راحة لها وحلاً لكل مشكلاتها، ولذلك كان من البديهي ألا يقف عند حد إعلان أفكاره ومقاصده للناس، بواسطة الرسل والأنبياء، بل أن يتفضّل ويظهر بذاته لهم، في هيئة يستطيعون معها الاتصال به والافادة منه. وهذه الهيئة لا تكون شيئاً سوى الهيئة البشرية .

20 - وقال الاستاذ سمسون في القرن العشرين: إن أبرز صفات المحبة هي الخدمة والكرم والتضحية، فإذا كان الله محبة (كما أعلن الكتاب) كان من البديهي أن يخدمنا ويضحي من أجلنا ويمنحنا كل ما نحن في حاجة إليه، ولذلك كان من المتوقع جداً أن يتجسّد، لأن التجسّد هو الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها الاقتراب منه والتمتع به، وبكل ما لديه من خير .

21 - وقال الأستاذ طمسون في القرن العشرين: إن تجسّد الله هو الوسيلة الوحيدة التي تهيء للإنسان سبيل الاتصال به، وفي هذا الاتصال يبلغ الإنسان ذروة المجد والجمال . وقال كذلك: إن أعظم إعلان قدَّمه الله للبشر هو كلمته متجسداً أو متأنساً، ولذلك لسنا بعد في حاجة إلى وحي يعلن لنا شيئاً عن الله، لأننا في هذا الكلمة المتأنس قد عرفنا كل ما يمكن معرفته عنه .

22 - وقال الدكتور ولسن في القرن العشرين: المسيحية التي أسسها المسيح تختلف عن كل دين من الأديان، للأسباب الآتية: (أ) الدين يطلب أولاً من الإنسان أن يسعى ليعرف الله، أما المسيحية فتعلنه له من أول الأمر بوضوح وجلاء. (ب) الدين يطلب أولاً من الإنسان أن يسعى ليُرضي الله. أما المسيحية فتنبئه من أول الأمر أن الله يُسرّ بالإنسان، لأنه خلقه على صورته كشبهه. (ج) الدين يظهر نقائص الإنسان وعيوبه، فيحيا الإنسان لذلك حياة الحزن والخوف، أما المسيحية فتغطي عيوب الإنسان ونقائصه، فيحيا حياة الفرح والاطمئنان. (د) الدين يطلب من الإنسان أن يجاهد بنفسه في سبيل تنفيذ وصايا الله، ولذلك لا يستطيع واحد من البشر أن يقوم بتنفيذها، لأنهم جميعاً عاجزون بطبيعتهم عن التوافق مع الله، أما المسيحية فتنبئه أن الله يعطي حياة روحية لكل من يؤمن إيماناً حقيقياً،و بهذه الحياة يستطيع تنفيذ تلك الوصايا، على أكمل وجه. (و) الدين هو فلسفة الحياة، أما المسيحية فهي الحياة نفسها، لأن المسيح محا الخطيئة التي تفصل الإنسان عن الله، ووضع يد الإنسان في يد الله، ويد الله في يد الإنسان، وهذه هي الحياة بعينها . ولا يستطيع القيام بذلك إلا من كان هو الله متجسداً.

23 - قال الدكتور الكسندر فندلي: إذا أردنا أن نفهم معنى القول إن الله تجسّد أو أن المسيح هو الله يجب أن نضع أولاً أمامنا أن الله محبة . فهو لا يتصف فقط بالمحبة، بل أن كيانه (إن جاز هذا التعبير) هو محبة. والمحبة لا يمكن أن تختفي، بل لا بد أن تتجلى وتظهر. ولذلك إذا رجعنا بأبصارنا إلى الوراء، رأينا أن المحبة في الله أول ما ظهرت بالنسبة لنا، في خلقه للعالم المتناسق الجميل، بما فيه من جماد ونبات وحيوان، ثم ظهرت بعد ذلك في خلقه للإنسان على صورته كشبهه، ليكون في حالة السمو والتوافق معه. ولذلك كان من البديهي أنه المحبة نفسها يأخذ جسداً ويظهر فيه للإنسان، بعدما فسدت طبيعته وعجز عن الدنو منه، ليستطيع الإنسان أن يتصل به ويعود إلى الحالة السامية التي كان قد خُلق عليها من قبل. ولا سبيل إلى الظن أن تجسّد الله يعرضه للتغير أو التطور، لأن الزمن لا ينفصل عن الأزلية، بل هو متصل بها كل الاتصال: فالمحبة التي كانت في ذات الله أزلاً، والتي كانت متبادلة بينه وبينها حينذاك، لم يكن من الممكن أن تتوارى، عندما دعت ظروف الإنسان إلى ظهورها، بل أن تظهر وتظهر بكمالها. ولذلك لا عجب إذا رأينا المسيح (الذي هو الله متجسداً) لم يكن محباً فقط، بل كان هو المحبة بعينها، فقد كان يشع محبة لا حد لها، ليس نحو الذين أكرموه وأحبوه فقط، بل ونحو الذين أبغضوه وأساءوا إليه أيضاً، دون أن تكون له غاية، سوى تطهير الجميع من خطاياهم، والارتقاء بهم إلى جو القداسة والطهارة ليستطيعوا التوافق مع الله والتمتع به .

والحق أن المحبة هي الكمال بعينه، لأنه إذا خلت صفة صالحة من المحبة فقدت جمالها بل وقيمتها أيضاً. فالقوة إذا خلت من المحبة كانت بطشاً، والعظمة إذا خلت من المحبة كانت كبرياء، والعزيمة إذا خلت من المحبة كانت استبداداً، والعدالة إذا خلت من المحبة كانت قسوة وجفاء. كما أن الرحمة إذا خلت من المحبة كانت تساهلاً، والكرم إذا خلا من المحبة كان تبذيراً، والوداعة إذا خلت من المحبة كانت مذلة وخنوعاً، وهكذا الله كامل في عدالته ورحمته، كامل في عظمته ووداعته، ولا حد لكماله في أية ناحية من النواحي.

الصفحة الرئيسية