الفصل الرابع

كيفية ظهور الله للبشر عامة، في العهد الجديد

أولاً - الحاجة إلى ظهوره في الجسد

عرفنا مما سلف أنه بسبب سقوطنا في الخطيئة قد فقدنا امتياز الاتصال بالله ومعرفة ذاته ومقاصده معرفة صحيحة. ولذلك كان أقنوم الكلمة أوالابن يظهر للأنبياء والأتقياء في العهد القديم في هيئة ملاك أو إنسان، ليقرِّبهم إلى الله ويعلن لهم ذاته ومقاصده. لكن ظهوره بهذه الهيئة أو تلك، وإن كان كافياً حينذاك للمهمة التي كان يظهر من أجلها، لم يكن ظهوراً كاملاً أو عاماً، إذ أنه لم يكن يفسح المجال لهم للتوافق مع الله أو الانسجام معه، كما أنه كان قاصراً عليهم وحدهم، ولذلك لم يفد منه غيرهم من البشر. وبما أن الله يتَّصف بالمحبة المطلقة التي تتَّجه إتجاهاً كاملاً إلى جميع البشر بلا استثناء، كان من البديهي ألاَّ يكتفي الله بمثل هذا الظهور الشكلي أو يجعله قاصراً على فئة الأنبياء دون غيرهم. ولذلك لا غرابة إذا طالعنا في الكتاب المقدس بعد ذلك أن الله أو بالحري أقنوم الابن ظهر في جسد حقيقي مثل أجسادنا، وعاش على أرضنا مدة مناسبة من الزمن، خاطب فيها البشرية وأعلن ذاته إعلاناً واضحاً جلياً.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة، انه جاء في (سورة الشورى 51): وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، والكتاب المقدس كان قد أعلن من قبل، أن جسد المسيح هو الحجاب (عبرانيين 10: 20) الذي كلمنا الله من ورائه، فقد قال: الله بعد ما كلم الآباء بالانبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه (عبرانيين 1: 1، 2).

ثانياً - توافق ظهوره في الجسد، مع ذاته وصفاته

ينظر بعض الناس إلى ظهور الله في الجسد كأمر غريب، ولكنه في الواقع ليس أكثر غرابة من ظهوره للأنبياء والأتقياء السابق ذكرهم، في هيئة منظورة أو غير منظورة، لأن الغرابة ليست في اتخاذه جسداً مثل أجسادنا، بل الغرابة هي في: كيف يكون غير المحدود معيَّناً (واللامحدودية تتعارض عقلياً مع التعيُّن) وكيف يظهر المنزَّه عن المكان في مكان، وظهوره فيه يتعارض عقلياً مع عدم تحيّزه بمكان؟ وكيف يصبح المنزَّه عما سواه ذا علاقة مع سواه، والعلاقة معه تتعارض عقلياً مع ثباته، وعدم انتقاله من حال إلى حال؟ وكيف يتكلم من لا أعضاء له ولا تركيب فيه، والتكلم يتطلب وجود أعضاء أو تركيب في المتكلم؟ وهذه الصعوبات تواجهنا عند البحث في كيفية تحدُّث الله مع الأنبياء والأتقياء، وفي كيفية ظهوره لهم بهيئة منظورة أو غير منظورة. بل وتواجهنا أيضاً عند التأمل في كُنْه ذاته، ووجود علاقات بينه وبين خلائقه، كما تواجهنا عند البحث في ظهوره في جسد إنسان سواءً بسواء. ولذلك لا يحق لإنسان يؤمن بظهور الله للأنبياء وتحدُّثه معهم، أو حتى بوجوده الذاتي وإمكانية معرفته، والدخول في علاقة معه، أن يعترض على ظهوره في الجسد بأي وجه من الوجوه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن ظهوره في الجسد هو وسيلة لإعلان محبته الكاملة للناس، اتضح أيضاً لنا أن ظهوره فيه لا يتعارض مع ذاته أو صفاته في شيء. بل بالعكس يتوافق مع ذاته وصفاته كل التوافق، لأن المحبة ليست دخيلة على الله، بل إنها (إن جاز التعبير) هي من نفس كيانه، وذلك للأسباب الآتية:

(أ) خلق الله الإنسان على صورته كشبَهه ليكون في حالة التوافق معه، ولذلك لا يستنكف من أن يتخذ لنفسه أيضاً جسداً مثل جسده، إذا رآه في حاجة إلى إحسان يتطلَّب ظهوره له في هذه الهيئة.

(ب) إن ظهوره للإنسان في جسد مثل جسده، ليس في الواقع إلا مظهراً من مظاهر المحبة له والعطف عليه، ليستطيع الإنسان أن يدنو منه ويحيا معه. وغرض مثل هذا يتوافق مع كمال الله وصلاحه كل التوافق.

(ج) إن ظهوره في مثل هذا الجسد لا يترتب عليه حدوث أي تغيير في ذاته أو خصائصه وصفاته، كما يتضح لنا بالتفصيل في الباب التالي.

ثالثاً - توافق ظهور الابن في الجسد، مع أقنوميته

(1) بما أن أقنوم الابن هو الذي كان يعلن الله للأنبياء في العهد القديم، في هيئة ملاك أو إنسان كما مرَّ بنا، كان من البديهي أنه هو الذي يتخذ أيضاً لنفسه جسداً ليقوم بهذه المهمّة للبشرية بصفة عامة.

ويعتقد كثير من علماء المسلمين في تجسُّد الحقيقة المحمدية ما نعتقده في تجسد أقنوم الابن تقريباً، فقد جاء في كتاب الدين والشهادة ص 169-182: إنك أمام الحقيقة المحمدية أمام نور الأنوار الذي تجسّم وتجسّد فكان ذاتاً بشرية، ثم كان محمداً بن عبد الله .

(2) لئن كان الله بأقانيمه الثلاثة هو الذي خلقنا، إلاَّ أن الخلق يُنسب بصفة خاصة إلى أقنوم الابن ، وبما أن الذي خلقنا هو الذي يتولى أمر خلاصنا وهدايتنا إليه، كان من البديهي أيضاً أنه هو الذي يقوم باتخاذ الجسد المذكور، دون الأقنومين الآخرين.

الصفحة الرئيسية