الجهاد الفريضة الغائبة

 

 

بقلم محمد عبد السلام فرج

( رحمه الله )

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 } من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً { الأحزاب: 23

اعلموا أحبتي ... أن ليس بعد إعلان التوحيد عمل أعظم وأجل في ميزان العبد من السعي لإقامة الدين حتى لا يكون إلا لله، وذلك بالجهاد والقتال لقوله تعالى: } وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ..{ ولقول المصطفى r : في الحديث الصحيح ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) وبدون الجهاد .. من لمقدسات المسلمين؟ من لهذا الدين؟ من لنصرة المستضعفين؟.

 

وبعد:

 

فهذه طبعة جديدة منقحة تشتمل على تصويبات جميع ما وقع من أخطاء فيما سبقها من طبعات .. ثم لا مزيد .. فإن الكلمات التي يخطها أصحابها بدمائهم بعد أن سطرها مدادهم أنفذ وأبلغ من أي تعديل أو زيادات .. ففيها الروح التي لا تدب إلا في كلمات مات أصحابها في سبيلها ..

وقد سطرها الأخ محمد عبد السلام فرج .. لتكون نبراساً على طريق الحق لكل مسلم يعمل من أجل إعلاء كلمة الله بالجهاد.   وهذه الكلمات يعاد طبعها وتهدى إلى:

* الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.

* الذين حملوا أرواحهم على أكفهم وانطلقوا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله.

* الصادقين الذين استجابوا لله نُصرةً لدينه ودفاعاً عن عقيدتهم .. عصام القمري، خميس مسلم، نزيه نصحي، ضياء الدين حافظ، عادل عوض، طلعت ياسين ، أشرف إبراهيم ... إلى آخر قافلة الشهداء.

* الأسرى المجاهدين .. نبيل المغربي، محمد الأسواني، عبود الزمر،

ناجح إبراهيم، كرم زهدي، أنور عكاشة، مجدي سالم، عبد الرؤوف أمير الجيش، ... وإلى جميع الأسرى في سجون طواغيت مصر.

* المجاهدين الشرفاء في شتى أنحاء الأرض.

واسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وما كان فيه من خير وصواب فمن الله وحده وإلا فأسأله المغفرة.  

 27 رمضان    1415هجرية

 26  فبراير    1995ميلادية

     

أخوكم في الله

من أبناء الحركة الإسلامية - مصر

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى روح الشهيد محمد عبد السلام فرج وإخوانه الكرام

} . . من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً{ . . . المائدة:32

* (  لزوال السماوات والأرض أهون على اللّه من قتل امرئ مسلم بغير حق ( صدق رسول اللّه r .

* ولقد قُتلت بغير حق .. يا أخي .. محمد عبد السلام فرج .. كما قُتل إخوانك: خالد الإسلامبولي، عبد الحميد عبد السلام، عطا طايل، حسين عباس.

* قُتلتم بغير حق إلا أن تقولوا ربنا الله! كما قُتل من قبلكم .. حسن البنا، وعبد القادر عودة، وسيد قطب، وصالح سرية، وكارم الأناضولي، ويحيى هاشم .. لتكونوا حبات اللؤلؤ في ذلك العقد الفريد !

* قُتلتم تنفيذاً لأمر أسيادهم من اليهود الذين جعلوا دمائكم الطاهرة الغالية ثمناً لحبات رمل سيناء - كما قُتل إخوانكم السابقين .. تنفيذاً لأمر الروس والأمريكان!

* لكن .. هل خسرتم شيئاً؟ إن أرواحكم كأرواح اخوة لكم من قبلكم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ترد أنهارها وتأكل ثمارها ثم تأوى إلى قناديل من ذهب معلقة تحت العرش-  اقرؤا إن شئتم قول الله سبحانه وتعالى: } ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين { . آل عمران: 169 -171 .

      نعم يا إخواني .. يا أحبتي .. أكاد أسمع صوتكم الحبيب من الجنة . } . . يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين { .  يس: 26 - 27 .

 

* أما قاتلوكم فهم الخاسرون في الدنيا والآخرة ..  ولينتظروا انتقام الله الذي وقع بقوم من قبلهم } وما أنزلنا على قومه من بعده من جُند من السماء وما كنا منزلين، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون { .

* لينتظروا وعيد الله .. } وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، فلا تحسبنّ الله مُخلف وعده رُسله، إن الله عزيز ذو انتقام { . إبراهيم:46- 47 .

} وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد { . هود:102

 

* هل استطاعوا بقتلكم أن يقتلوا دعوتكم؟.. أبداً .. إن دماءكم الزكية الطاهرة تغذى شجرتها، فتضرب جذورها في الأرض وتمتد فروعها في السماء، تؤتى أُكلها كل حين بإذن ربها! هل استطاعوا أن يحبسوا كلماتكم .. إن كلماتكم تعيش في آذاننا وفي قلوبنا- كلمات خالد الإسلامبولي وكلمات عبد السلام فرج .. وكلمات غيركم ..

 

وهذه هي الكلمات التي سطرها الأخ محمد عبد السلام فرج تطبع وتوزع بعد قتله .. آلافاً للطبعة الثانية !!

      ترى أليسوا بعد ذلك خاسرين؟ -  وألستم يا شهداءنا بإذن الله رابحين؟

 

نعم .. أنتم الرابحون .. أنتم الرابحون .. أنتم الرابحون.. وهم هم الخاسرون، وهم بإذن الله في النار خالدون.

} وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون { .

 

            شعبان  1402 هجرية.                                   أخوكم في الله

            يونيو   1982 ميلادية                                   من الأرض الثكلى

                                                                     أرض الكنانة المسلمة                                                          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

}  ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومانزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون {  الحديد: 16 .

قال عبد الله بن المبارك: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: }  ألم يأن للذين آمنوا أن . .{  الآية.

 

مقدمة

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أما بعد:

فإن الجهاد في سبيل الله بالرغم من أهميته القصوى وخطورته العظمى على مستقبل هذا الدين فقد أهمله علماء العصر وتجاهلوه بالرغم من علمهم بأنه السبيل الوحيد لعودة ورفع صرح الإسلام من جديد، آثر كل مسلم ما يهوى من أفكاره وفلسفاته على خير طريق رسمه الله سبحانه وتعالى لعزة العباد. والذي لا شك فيه هو أن طواغيت هذه الأرض لن تزول إلا بقوة السيف ولذلك يقول r : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ) . أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمر والطبراني في الكبير وأبي يعلى في مسنده.

 

ويقول ابن رجب: قوله r : ( بعثت بالسيف )  يعني أن الله بعثه داعياً بالسيف إلى توحيد الله بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إلى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دعي بالسيف.

 

هديه r  في مكة: ويخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم طواغيت مكة وهو بها ( استمعوا يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ). فأخذ القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع وحتى أن أشدهم عليه ليلقاه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انطلق يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً، ورسول الله r  بقوله: ( لقد جئتكم بالذبح ) قد رسم الطريق القويم الذي لا جدال فيه ولا مداهنة مع أئمة الكفر وقادة الضلال وهو في قلب مكة.

الفريضة الغائبة

 

الإسلام مقبل

 

إن إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة قد بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا فضلاً عن كونها أمر من أوامر المولى جل وعلا .. واجب على كل مسلم أن يبذل قصارى جهده لتنفيذه.

 

(أ) يقول عليه الصلاة والسلام ) إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشرقها ومغربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة والترمذي .. وهذا يحدث إلى الآن .. حيث أن هناك بلاداً لم يفتحها المسلمون في أي عصر مضى إلى الآن وسوف يحدث إن شاء الله .

 

(ب) يقول عليه الصلاة والسلام  )ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبرٍ إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الله الإسلام وذلاً يذل به الكفار( . رواه أحمد والطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ( المدر: أهل القرى والأمصار، الوبر: أهل البراري والمدن والقرى ) .

 

(ج) وفي الحديث الصحيح يقول أبو قبيل: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ .. فدعا عبد الله بصندوق له حلق فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبد الله بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً- يعني } القسطنطينية { . رواه أحمد والدارمي، } رومية: هي روما { كما في معجم البلدان وهي عاصمة ايطاليا اليوم. وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله ولابد، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين.

 

(د) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام جراءة في الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئاً إلا أخرجته). ذكره حذيفة مرفوعاً ورواه الحافظ العراقي من طريق أحمد وقال هذا حسن صحيح .. والمُلك العاض قد انتهى، والملك الجبري هو عن طريق الانقلابات التي تجعل أصحابها على الحكم رغم إرادة الشعب. والحديث من المبشرات بعودة الإسلام في العصر الحالي يمد هذه الصحوة الإسلامية وينبئ أن لهم مستقبلاً باهراً من الناحية الاقتصادية والزراعية.

 

الرد على اليائسين

 

وردّ بعض اليائسين على هذا الحديث وهذه المبشرات بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس: ( اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم. سمعت هذا من نبيكم عليه الصلاة والسلام )، قال الترمذي حسن صحيح .. ويقولون لا داعي لإضاعة الجهد والوقت في أحلام. وهنا نذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمتي أمة مباركة لا تدري أولها خير أم آخرها) رواه ابن عساكر عن عمرو بن عثمان وأشار السيوطي إلى حُسنه ولا تناقض بين الحديثين حيث أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم موجه إلى جيل الصحابة حتى يلقوا ربهم .. وليس الحديث على عمومه بل هو من العام المخصوص أيضاً بدليل أحاديث المهدي الذي يظهر في آخر الزمان ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.

 

وبشر الله طائفة من المؤمنين بقوله عز وجل :  } وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون به شيئاً ..{ النور: 55 والله لا يخلف الميعاد. نسأله جل وعلا أن يجعلنا منهم.

 

إقامة الدولة الإسلامية

 

هو فرض أنكره بعض المسلمين وتغافل عنه البعض مع أن الدليل على فرضيّة قيام الدولة واضح بَيّن في كتاب الله تبارك وتعالى فإن الله سبحانه وتعالى يقول: }  وأن احكم بينهم بما أنزل الله .. { المائدة: 49، ويقول } ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون {  المائدة: 44 ويقول جل وعلا في سورة النور عن فرضيّة أحكام الإسلام:

}  سورة أنزلناها وفرضناها ..{  النور: 1 ومنه فإن حكم إقامة حكم الله على هذه الأرض فرض على المسلمين، وتكون أحكام الله فرضاً على المسلمين وبالتالي قيام الدولة الإسلامية فرض على المسلمين، لأن ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأيضاً إذا كانت الدولة لن تقوم إلا بقتال فواجب علينا القتال، ولقد أجمع المسلمون على فرضية إقامة الخلافة الإسلامية وإعلان الخلافة يعتمد على وجود النواة وهي الدولة الإسلامية. ) ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية ( رواه مسلم. فعلى كل مسلم السعي لإعادة الخلافة بجد لكيلا يقع تحت طائلة الحديث، والمقصود بالبيعة بيعة الخلافة.

الدار التي نعيش فيها

 

ويبدو هنا تساؤل: هل نحن نعيش في دولة إسلامية؟ من شروط الدولة أن تعلوها أحكام الإسلام وأفتى الإمام أبو حنيفة أن دار الإسلام تتحول إلى دار كفر إذا توفرت ثلاث شروط مجتمعة:

1- أن تعلوها أحكام الكفر.

2- ذهاب الأمان للمسلمين.

3- المتاخمة أو المجاورة ..  وذلك بأن تكون تلك الدار مجاورة لدار الكفر بحيث تكون مصدر خطر على المسلمين وسبباً في ذهاب الأمن ... وأفتى الإمام محمد والإمام أبو يوسف صاحبا أبي حنيفة بأن حكم الدار تابع للأحكام التي تعلوها فإن كانت الأحكام التي تعلوها هي أحكام الإسلام } فهي دار إسلام {، وإن كانت الأحكام التي تعلوها هي أحكام كفر } فهي دار كفر { وأفتى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفتاوى 28/241: عندما سئل عن بلد تسمى (ماردين) كانت تُحكم بحكم الإسلام ثم تولى أمرها أُناس أقاموا فيها حكم الكفر هل هي دار حرب أو سلم؟ فأجاب: أن هذه مركب فيها المعنيان فهي ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه .. انتهى. والحقيقة أن الناظر في هذه الأقوال لا يجد تناقضاً بين أقوال الأئمة .. فأبو حنيفة وصاحباه لم يذكروا أن أهلها كفار .. فالمسلم الذي يستحق السلم لن يستحق الحرب. كالدولة تحكم بأحكام الكفر بالرغم من أن أغلب أهلها مسلمون.

 

الحكم بغير ما أنزل الله

 

والأحكام التي تعلو المسلمين اليوم هي أحكام الكفر بل هي قوانين وضعها كفار وسيّروا عليها المسلمين ويقول الله سبحانه وتعالى: } ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون {  المائدة: 44 فبعد ذهاب الخلافة نهائياً عام 1924 واقتلاع أحكام الإسلام كلها واستبدالها بأحكام وضعها كفار ... أصبحت حالتهم هي نفس حالة التتار كما ثبت في تفسير ابن كثير لقوله سبحانه وتعالى: } أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون { المائدة: 50 قال ابن كثير: ينكر تعالى على من خرج عن- حكم الله - الحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حُكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.

ابن كثير - الجزء الثاني -  ص 64 .

 

وحكام العصر قد تعددت أبواب الكفر التي خرجوا بها من ملة الإسلام بحيث أصبح الأمر لا يشتبه على كل من تابع سيرتهم ، هذا بالإضافة إلى قضية الحكم. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الفتاوى 28/524 } ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غيرشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب كما قال تعالى: } إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذابا مهيناً{ النساء: 150- 151. {

 

حكام المسلمين اليوم في ردة عن الإسلام

 

فحكام هذا العصر في ردة عن الإسلام، تربوا على موائد الاستعمار .. سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية، فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء وإن صلى وصام وادعى أنه مسلم، ويقول ابن تيمية في الفتاوى 28/534: وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه الجزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي. ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزاً عن القتال بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك واحمد .. ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد . ومنها أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام، وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه .. إذن فما موقف المسلمين من هؤلاء؟.

 

يقول ابن تيمية أيضاً في الفتاوى 28/510 511 512: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة. كذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع السلف مثل: أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته أو التكذيب بآيات الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين .. أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور قال الله تعالى: } وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ..{ الانفال: 39 فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله وقال تعالى: } ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ..{  البقرة: 278- 279 وهذه الآية نزلت في أهل الطائف وكانوا قد أسلموا وصلوا وصاموا لكن كانوا يتعاملون بالربا... والربا هو آخر المحرمات في القرآن وهو مال يؤخذ بتراضي المتعاملين، فإذا كان من لم ينته عنه محارباً لله ورسوله، فكيف بمن يترك كثيراً من شعائر الإسلام أو أكثرها كالتتار؟ انتهى. وقال أيضاً في الفتاوى 28/545:  وقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إن امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها إذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة أو عن تحريم الفواحش أو الخمر أو نكاح ذوات المحارم أو من استحلال النفوس والأموال بغير حق أو الربا أو الميسر أو الجهاد للكفار أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب ونحو ذلك من شرائع الإسلام فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله.  انتهى.

 

 

المقارنة بين التتار وحكام اليوم

 

 

1- واضح من قول ابن كثير السابق بهذا الكتاب في تفسير قوله تعالى: } أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون {  المائدة: 50 أنه لم يفرق بين كل من خرج عن الحكم بما أنزل الله اياً من كان وبين التتار، وفي الحقيقة أن كون التتار يحكمون بالياسق الذي اقتبس من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه .. فلاشك أن الياسق أقل جرماً من شرائع وضعها الغرب لا تمت للإسلام بصلة ولا لأي من الشرائع .

 

2- وفي سؤال موجه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية من مسلم غيور .. يقول السائل واصفاً حالهم للإمام: هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وقد تكلموا بالشهادتين وانتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا؟ وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرهاً { أي أنهم يضمون المسلمين إلى صفوف جيشهم كرهاً .. التجنيد الإجباري }؟ وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والتصوف ونحو ذلك؟ وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون والمقاتلون لهم مسلمون وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما. انتهى 28/509 . وهي نفس الشبهة الموجودة الآن وسوف يتم توضيحها إن شاء الله .

 

3- ويقول ابن تيمية في الفتاوى 28/520 في وصف التتار: ولم يكن معهم في دولتهم إلا من كان من شر الخلق، إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام في الباطن- أي أن يظهر الإسلام - وإما من هو من شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم- وهم من أصحاب البدع -  وإما من هو من أفجر الناس وأفسقهم. وهم في بلادهم مع تمكنهم لا يحجون البيت العتيق وإن كان فيهم من يصلي ويصوم فليس الغالب عليهم إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة. انتهى. أليس ذلك هو الكائن..؟

 

4- وهم يقاتلون على مُلك جنكيز خان ( اسم ملكهم ) فمن دخل في طاعتهم جعلوه وليهم وإن كان كافراً، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدواً لهم وإن كان من خيار المسلمين لا يقاتلون على الإسلام ولا يضعون الجزية والصغار بل غاية كثير من المسلمين منهم من أكابر أمرائهم ووزرائهم أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصارى.  الفتاوى 28/520     521

 

ملحوظة: أليست هذه الصفات هي نفس الصفات لحكام العصر هم وحاشيتهم الموالية لهم الذين عظموا أمر الحكام أكثر من تعظيمهم لخالقهم.

 

5- ويضيف شيخ الإسلام أيضاً في الفتاوى 28/522 واصفاً الموالين لجنكيز خان: فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمداً كجنكيز خان وإلا فهم مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكيز خان على المسلمين المتبعين لشريعة القرآن، ولا يقاتلون أولئك المتبعين لما سنه جنكيز خان كما يقاتلون المسلمين بل أعظم. أولئك الكفار يبذلون له الطاعة والإنقياد ويحملون إليه الأموال ويقرون له بالنيابة ولا يخالفون ما يأمرهم به إلا كما يخالف الخارج عن طاعة الإمام للإمام وهم يحاربون المسلمين ويعادونهم أعظم معاداة ويطلبون من المسلمين الطاعة لهم وبذل الأموال، والدخول في ما وضعه لهم ذلك الملك الكافر المشرك المشابه لفرعون أو النمرود ونحوهما بل هو أعظم فساداً في الأرض منهما. انتهى.

 

6- ويضيف ابن تيمية فيقول: ] فمن دخل في طاعتهم جعلوه ولياً لهم وإن كان كافراً، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدواً لهم وإن كان من خيار المسلمين [

 

7- ويضيف شيخ الإسلام متكلماً عن القضاة في عصر التتار فيقول: وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان حتى تولى قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والإلحاد والكفر بالله ورسوله، بحيث تكون موافقة للكفار والمنافقين من اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة على ما يريدونه أعظم من غيره ويظهرون من شريعة الإسلام بما لابد له منه لأجل من هناك من المسلمين حتى أن وزيرهم هذا الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفاً مضمونه أن النبي r رضى بدين اليهود والنصارى وأنه لا ينكر عليهم ولا يذمون ولا ينهون عن دينهم ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام. واستدل الخبيث الجاهل بقوله تعالى: }  قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين { .  وزعم أن هذه الآية تقتضي أنه يرضى دينهم، قال وهذه الآية محكمة، ليست منسوخة. مجموع الفتاوى 28/ 525- 526 انتهى. فسبحان الله أليس مصنف وزير التتار هو نفس مصنف (الإخاء الديني )، ( مجمع الأديان ) بل الأخير أفظع وأجرم.

 

مجموعة فتاوي لإبن تيمية تفيد في هذا العصر

 

ومن هنا يجدر بنا أن ننقل بعض فتاوي ابن تيمية في حكم هؤلاء .. وكنا قد ذكرنا فتواه في حكم بلدة } ماردين {   التي كان يحكمها التتار بقوانين تجمع ما بين شريعة اليهود والنصارى وجزء من الإسلام وجزء من العقل اليهودي فقال: أما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التي تسرى عليها أحكام الاسلام لكون جندها مسلمين ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه. انتهى 28/241

 

 

ما هو حكم إعانتهم ومساعدتهم؟

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رداً على هذا السؤال ص 240 كتاب الجهاد: } وإعانة الخارجين عن شريعة الإسلام محرمة سواءاً أكانوا أهل ( ماردين ) أو غيرهم والمقيم بها إن كان عاجزاً عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه وإلا استحبت ولم تجب، ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم ويجب عليهم الإمتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب أو تعريض أو مصانعة فإذا لم يكن إلا بالهجرة تعينت. ويضيف ابن تيمية قاصداً أهالي ماردين الذين يعاونون التتار السلطة الحاكمة { .  ولا يحل سبهم عموماً ورميهم بالنفاق بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم [ أي ليس كلهم.

 

ويقول ابن تيمية ص 26 -  كتاب الجهاد- في رجل جندي وهو يريد ألا يخدم ..؟ الجواب: إذا كان المسلمين به منفعة وهو قادر عليها لا ينبغي له أن يترك ذلك لغير مصلحة راجعة للمسلمين .. بل كونه مقدماً في الجهاد الذي يحبه الله ورسوله أفضل من التطوع بالعبادة كصلاة التطوع والحج وصيام التطوع والله أعلم. انتهى.

 

 

حكم أموالهم

 

 

مسألة )514( إذا دخل التتار الشام ونهبوا أموال النصارى والمسلمين ثم نهب المسلمون التتار وسلبوا القتلى منه فهل المأخوذ من أموالهم وسلبهم حلال أم لا؟ الجواب: كل ما أخذ من التتار يُخمّس ويباح الإنتفاع به ( ومعنى يخمس أي غنيمة ) .

 

حكم قتالهم

 

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى: قتال التتار الذي قدموا إلى بلاد الشام واجب بالكتاب والسنة فإن الله يقول في القرآن: } وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله {  الأنفال: 39 والدين هو الطاعة فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله ولهذا قال الله تعالى: }  يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ..{  البقرة: 278- 279 وهذه الآية نزلت في أهل الطائف لما دخلوا في الإسلام والتزموا الصلاة والصيام ولكن امتنعوا عن ترك الربا فبيّن الله أنهم محاربون لله ولرسوله ... فإذا كان هؤلاء محاربين لله ورسوله يجب جهادهم فكيف بمن يترك كثيراً من شرائع الإسلام أو أكثرها كالتتار..؟ وقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها وإذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة أو الزكاة أو صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة أو عن تحريم الفواحش أو الخمر أو نكاح ذات المحارم أو استحلال النفوس والأموال بغير الحق أو الربا أو الميسر أو الجهاد للكفار أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب ونحو ذلك من شرائع الإسلام فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله. وقد ثبت في الصحيحين أن عمر لما ناظر أبا بكر في مانعي الزكاة، قال له أبو بكر: كيف لا أقاتل من ترك الحقوق التي أوجبها الله ورسوله وإن كان قد أسلم، كالزكاة؟ وقال له: فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقاً ( عقال بعير ) كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق. وقد ثبت في الصحيح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج وقال فيهم: ( .. يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كمايمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد) . وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء وأول من قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومازال المسلمون يقاتلون في صدر خلافة بني أُمية وبني العباس مع الأُمراء وإن كانوا ظلمة كان الحجاج ونوابه ممن يقاتلونهم فكل أئمّة المسلمين يأمرون بقتالهم. والتتار وأشباههم ) أمثال حكام اليوم ( أعظم خروجاً عن شريعة الإسلام من مانعي الزكاة والخوارج من أهل الطائف الذين امتنعوا عن ترك الربا، فمن شك في قتالهم فهو أجهل الناس بدين الإسلام وحيث وجب قتالهم قوتلوا وإن كان فيهم المكره باتفاق المسلمين.

 انتهى 28/544 - 545 - 546 .

 

هل قتالهم قتال بغي؟

 

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى: فقد يتوهم البعض أن هؤلاء التتار من أهل البغي المتأولين ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام بما أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج. وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله.ويقول ابن تيمية في 28/540 541: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمه فهو شهيد ).. فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم، فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين: في أنفسهم، وأموالهم، وحرمهم، ودينهم وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين، لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون، فقد أخطأ خطأً قبيحاً .. وضل ضلالاً بعيداً، فإن أقل ما في البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به ولهذا قالوا: إن الإمام يراسلهم فإذا ذكروا شبهة بينها وإذا ذكروا مظلمة أزالها فأي شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فساداً الخارجين عن شرائع الدين ولا ريب أنهم لا يقولون إنهم أقوم بدين الإسلام علماً وعملاً من هذه الطائفة.

 

حكم من والاهم ضد المسلمين

 

يقول ابن تيمية في كتاب الجهاد ص 530 - 531: وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام، وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين؟!. ويقول ابن تيمية 28/535: وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفاراً فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالاً ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقهاً أو متصوفاً أو تاجراً أو كاتباً أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام، ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء  على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك وينقادون للإسلام وشرائعه، وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين ونافقوا في بعض وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين.

 

حكم من يخرج للقتال في صفهم مكرهاً

 

 

يقول ابن تيمية 28/535 أيضاً: } فإنه لا ينضم إليهم طوعاً من المظهرين الإسلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر ومن أخرجوه معهم مكرهاً فإنه يبعث على نيته ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره { . ويقول ابن تيمية محذراً المكره في 28/539: فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم. فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون . . . كما لو أكره رجل رجلاً على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو. انتهى

 

آراء وأهواء

 

 

وهناك آراء في القضاء الإسلامي لإزالة هؤلاء الحكام وإقامة حكم الله عز وجل فما قدر هذه الآراء من الصحة.

 

الجمعيات الخيرية

 

هناك من يقول أننا نقيم جمعيات تابعة للدولة تدفع الناس إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال الخير .. والصلاة والزكاة وأعمال الخير تلك أوامر من الله عز وجل لا يجب التفريط فيها، ولكن إذا تساءلنا هل كل هذه الأعمال والعبادات هي التي سوف تقيم دولة الإسلام؟ فالإجابة الفورية دون أدنى تفكير هي: لا. هذا بالإضافة إلى أن هذه الجمعيات خاضعة أصلاً للدولة ومقيدة بسجلاتها وتسير بأوامرها.

الطاعة والتربية وكثرة العبادة

وهناك من يقول: أن علينا أن ننشغل بطاعة الله وبتربية المسلمين وعلينا بالاجتهاد في العبادة لأن كل هذا الذل الذي نعيش فيه من ذنوبنا، ومن أعمالنا سُلط علينا، ويستدل أحياناً بالحكمة المروية عن مالك بن دينار يقول الله عز وجل: } أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليّ ؟ أعطفهم عليكم } والحقيقة من ظن أن هذه الحكمة هي ناسخة لفريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أهلك نفسه وأهلك من أطاعه واستمع له، ومن يريد حقاً أن ينشغل بأعلى درجات الطاعة وأن يكون في قمة العبادة فعليه بالجهاد في سبيل الله وذلك مع عدم إهمال بقية أركان الإسلام، ورسول الله r  يصف الجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام ويقول r : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق ) رواه مسلم. ولذلك يقول المجاهد في سبيل الله عبد الله بن المبارك الذي أبكى الفضيل :

 

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا                     لعلمت أنك بالعبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه                    فنحورنا بدمائنا تتخضب

 

ويقول البعض: إن الانشغال بالسياسة يقسي القلب ويلهي عن ذكر الله، وأمثال هؤلاء كأنما يتجاهلون قول النبي صلى الله عليه وسلم :( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) حديث صحيح عن أبي سعيد. والحق أقول: من يتكلم بهذه الفلسفات إما إنه لا يفهم الإسلام أو هو جبان لا يريد أن يقف بصلابة مع حكم الله.

 

الاجتهاد من أجل الحصول على المناصب

 

وهناك من يقول أن على المسلمين الاجتهاد من أجل الحصول على المناصب فمثلاً نملأ المراكز بالطبيب المسلم والمهندس المسلم وبذلك يسقط النظام الكافر وحده وبدون مجهود ويتكون الحاكم المسلم، والذي يسمع هذا الكلام لأول وهلة يظنه خيالاً أو مزاحاً ولكن الحقيقة أن بالحقل الإسلامي من يفلسف الأمور بهذه الطريقة وهذا الكلام بالرغم من أنه لا دليل له من الكتاب والسنة فإن الواقع حائل دون تحقيقه .. فمهما وصل الأمر إلى تكوين أطباء مسلمين ومهندسين مسلمين فهم أيضاً من بناة الدولة ولن يصل الأمر إلى توصيل أي شخصية مسلمة إلى منصب وزاري إلا إذا كان موالياً للنظام موالاة كاملة.

 

الدعوة فقط وتكوين قاعدة عريضة

 

ومنهم من يقول: إن الطريق لإقامة الدولة هو الدعوة فقط وإقامة قاعدة عريضة وهذا لا يحقق قيام الدولة بالرغم من أن البعض جعل هذه النقطة أساس تراجعه عن الجهاد والحق أن الذي سيقيم الدولة هم القلة المؤمنة، والذين يستقيمون على أمر الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم  دائماً قلة بدليل قول الله عز وجل: } وقليل من عبادي الشكور {  سبأ: 13 وقوله سبحانه: } وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ..{ الأنعام: 116 وتلك سنة الله في أرضه، فمن أين سنأتي بالكثرة المأمولة؟ ويقول سبحانه: } وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين { والاسلام لا ينتصر بالكثرة فالله سبحانه وتعالى يقول: } كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ..{  البقرة: 249 ويقول سبحانه: } .. ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ..{ التوبة: 25 . ويقول صلى الله عليه وسلم: ) يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أو من قلةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن، فقال قائل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ) رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن والطبراني في الأوسط وسنن أبي داود. ثم كيف تنجح الدعوة هذا النجاح العريض وكل الوسائل الإعلامية الآن تحت سيطرة الكفرة والفسقة والمحاربين لدين الله... فالسعي المفيد حقاً هو من أجل تحرير هذه الأجهزة من أيدي هؤلاء .. ومعلوم أنه بمجرد النصر والتمكين تكون هناك استجابة، فيقول سبحانه وتعالى: } إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً { النصر. ويجدر بنا في استعراض هذه النقطة الرد على من يقول أنه لابد أن يكون الناس مسلمين حتى يمكن تطبيق الإسلام عليهم كي يستجيبوا له وكي لا نفشل في تطبيقه والذي يتشدق بهذا الكلام فهو إنما يتهم الإسلام بالنقص والعجز دون أن يشعر، فهذا الدين صالح للتطبيق في كل زمان ومكان وقادر على تسيير المسلم والكافر والفاسق والصالح والعالم والجاهل، وإذا كان الناس يعيشون تحت أحكام الكفر فكيف بهم إذا وجدوا أنفسهم تحت حكم الإسلام الذي هو كله عدل.

 

وقد أخطأ الفهم من يفهم كلامي هذا بمعنى التوقف عن الدعوة ( دعوة الناس إلى الإسلام) فالأساس هو أن نأخذ الإسلام ككل ولكن رداً على من جعل قضيته هي تكوين القاعدة العريضة وانشغل عن الجهاد من أجلها وأوقفه وعطله.

الهجرة

 

وهناك من يقول إن الطريق لإقامة الدولة الإسلامية هو الهجرة إلى بلد أخرى وإقامة الدولة هناك ثم العودة مرة أخرى فاتحين، ولتوفير جهد هؤلاء فعليهم أن يقيموا دولة الإسلام ببلدهم ثم يخرجون منها فاتحين، وهل هذه الهجرة شرعية أم لا؟ للإجابة على هذا التساؤل تدرس أنواع الهجرة والواردة في السنة في تفسير الحديث ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه، ويقول ابن حجر: ( والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه من غيره). وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه وقد وقعت في الإسلام على وجهين:

 

الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.

 

الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليها من أمكنه ذلك من المسلمين. ولا عجب في ذلك فإن هناك من يقول: أنه سوف يهاجر إلى الجبل ثم يعود فيلتقي بفرعون كما فعل موسى وبعد ذلك يخسف الله بفرعون وجنوده الأرض .. وكل هذه الشطحات ما نتجت إلا من جراء ترك الأسلوب الصحيح والشرعي الوحيد لإقامة الدولة الإسلامية ... إذا فما هو الأسلوب الصحيح؟

يقول الله تعالى: }  كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ..{  البقرة: 216 ويقول سبحانه وتعالى: } وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله { الأنفال 39 .

 

الانشغال بطلب العلم

 

وهناك من يقول إن الطريق الآن هو الانشغال بطلب العلم، وكيف نجاهد ولسنا على علم وطلب العلم فريضة؟! ولكننا لم نسمع بقول واحد يبيح ترك أمر شرعي أو فرض من فرائض الإسلام بحجة العلم خاصة إذا كان هذا الفرض هو الجهاد فكيف نترك فرض عين من أجل فرض كفاية! ثم كيف يتأتى أن نكون قد علمنا أقل السنن والمستحبات وننادي بها ثم نترك فرضاً عظمه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أن الذي تعمق في العلم إلى درجة أنه عرف الصغيرة والكبيرة كيف يمر عليه قدر الجهاد وعقوبة تأخيره أو التقصير فيه؟ ومن يقول أن العلم جهاد عليه أن يعلم أن الفرض هو القتال لأن الله سبحانه وتعالى يقول: } كتب عليكم القتال .. { .

 

ومعلوم أن رجلاً شهد الشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نزل ميدان القتال فقاتل حتى قتل قبل أن يفعل شيئاً سواءً في العلم أو في العبادة فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا العمل القليل وبالأجر الكثير، ومعلوم أن من علم فرضيّة الصلاة فعليه أن يصلي، ومن علم فرضية الصيام فعليه أن يصوم، كذلك من علم فرضية الجهاد فعليه أن يجاهد، ومن يحتج بعدم علمه بأحكام الجهاد فعليه أن يعرف أن أحكام الإسلام سهلة وميسرة لمن أخلص النية لله فعلى هذا أن ينوي الجهاد في سبيل الله وبعد ذلك فأحكام الجهاد تدرس بسهولة ويسر وفي وقت قصير جداً والأمر لا يحتاج إلى كثير من الدراسة، ومن أراد أن يزداد من العلم فوق هذا الحد فليس هناك حكر على العلم فالعلم متاح للجميع. أما تأخير الجهاد بحجة طلب العلم فتلك حجة من لا حجة له .. وهناك مجاهدون منذ بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهود التابعين حتى عصور قريبة لم يكونوا علماء وفتح الله على أيديهم أمصاراً كثيرة ولم يحتجوا بطلب العلم أو بمعرفة علم الحديث وأصول الفقه بل إن الله سبحانه وتعالى جعل على أيديهم نصر للإسلام لم يقم به علماء الأزهر يوم دخل نابليون وجنوده الأزهر بالخيل والنعال. ماذا فعلوا بعلمهم أمام تلك المهزلة؟ فالعلم ليس السلاح الحاد والقاطع الذي سوف يقطع دابر الكافرين ولكن هذا السلاح الذي ذكره لنا المولى عز وجل في قوله: } قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين { التوبة: 14 ونحن لا نحقر قدر العلم والعلماء بل ننادي به ولكن لا نحتج به في التخلي عن فرائض شرعها الله .

بيان أن أمة الإسلام تختلف عن الأمم الأخرى

في أمر القتال

 

يوضح الله تعالى أن هذه الأمة تختلف عن الأمم الأخرى في أمر القتال ففي الأمم السابقة كان الله سبحانه وتعالى ينزل عذابه على الكفار وأعداء دينه بالسنن الكونية كالخسف والغرق والصيحة والريح .. وهذا الوضع يختلف مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم قائلاً لهم: }  قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين { التوبة: 14 أي أنه على المسلم أولاً أن ينفذ الأمر بالقتال بيده ثم بعد ذلك يتدخل الله سبحانه وتعالى بالسنن الكونية وبذلك يتحقق النصر على أيدي المؤمنين من عند الله سبحانه وتعالى.

 
الخروج على الحاكم

 

جاء في صحيح مسلم بشرح النووي عن جنادة بن أبي أُمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. ( كفراً بواحاً): أي ظاهراً والمراد بالكفر هنا المعاصي، عندكم فيه من الله برهان: أي تعلمونه من دين الله (. ويقول النووي في شرح الحديث: قال القاضي عياض أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها وكذلك قال عند جمهورهم البدعة، قال: وقال بعض البصريين تنعقد له وتستدام له لأنه متأول، قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر. انتهى 12/229 وهذا الباب هو أيضاً رد على القائلين بأنه لا يجوز القتال إلا تحت خليفة أو أمير . ويقول ابن تيمية: ( كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين ). مجموع الفتاوي 28/510 .

 

العدو القريب والعدو البعيد

 

وهناك قول بأن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس كأرض مقدسة والحقيقة أن تحرير الأراضي المقدسة أمر شرعي واجب على كل مسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف المؤمن بأنه كيس فطن أي أنه يعرف ما ينفع وما يضر ويقدم الحلول الحاسمة الجذرية وهذه نقطة تستلزم توضيح الآتي:

 

أولاً: إن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد .

ثانياً: إن دماء المسلمين ستنزف حتى وإن تحقق النصر .. فالسؤال الآن هل هذا النصر لصالح الدولة الإسلامية القائمة؟ أم أن هذا النصر هو لصالح الحكم الكافر وهو تثبيت لأركان الدولة الخارجة عن شرع الله .. وهؤلاء الحكام إنما ينتهزون فرصة أفكار هؤلاء المسلمين الوطنية في تحقيق أغراضهم غير الإسلامية وإن كان ظاهرها الإسلام فالقتال يجب أن يكون تحت راية مسلمة وقيادة مسلمة ولا خلاف في ذلك.

ثالثاً: إن أساس وجود الاستعمار في بلاد الإسلام هم هؤلاء الحكام فالبدء بالقضاء على الاستعمار هو عمل غير مجدٍ وغير مفيد وما هو إلا مضيعة للوقت، فعلينا أن نركز على قضيتنا الإسلامية وهي إقامة شرع الله أولاً في بلادنا وجعل كلمة الله هي العليا، فلاشك أن ميدان الجهاد الأول هو اقتلاع تلك القيادات الكافرة واستبدالها بالنظام الإسلامي الكامل ومن هنا تكون الانطلاقة.

 

الرد على من يقول أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط

 

ويجدر بنا في هذا الصدد الرد على من قال إن الجهاد في الإسلام للدفاع وإن الإسلام لم ينتشر بالسيف وهذا قول باطل ردده عدد كبير ممن يبرز في مجال الدعوة الإسلامية والصواب يجيب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل ( أي الجهاد في سبيل الله ) قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) . هذا الحديث في الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن أبي موسى، فالقتال في الإسلام هو لرفع كلمة الله في الأرض سواء هجوماً أو دفاعاً، والإسلام انتشر بالسيف ولكن في وجه أئمة الكفر الذين حجبوه عن البشر، وبعد ذلك لا يكره أحد .. فواجب على المسلمين أن يرفعوا السيوف في وجوه القادة الذي يحجبون الحق ويظهرون الباطل وإلا لن يصل الحق إلى قلوب الناس. واقرأ معي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ... عن ابن عباس في صحيح البخاري. ونصها:

 

بسم الله الرحمن الرحيم .. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى ... أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، واسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. وتضيف نص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ايضاً: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك. وأخرج البيهقي نص رسالة الرسول إلى أهل نجران وهي: باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران .. سلام عليكم فإني أحمد إليكم إله اسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوك إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد .. فإن أبيتم فالجزية .. فإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب .. والسلام. وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسائل مشابهة إلى المقوقس وإلى ملك اليمامة وإلى المنذر بن ساوى عظيم البحرين وإلى الحارث بن أبي شمر الغسانى وإلى الحارث بن عبد كلال الحميري وإلى ملك عمان وغيرهم.

 

آية السيف

 

ولقد تكلم أغلب المفسرين في آية من آيات القرآن وسموها آية السيف، وهي قول الله سبحانه وتعالى: }  فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد { التوبة } الآية:5{

قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: ( قال الضحاك بن مزاحم: أنها نسخت كل عهد بين النبي r  وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة.

 

ويقول الحافظ محمد بن أحمد بن جزي الكلبي صاحب تفسير التسهيل لعلوم التنزيل: ( ونجد هنا ما جاء من نسخ مسألة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه فإنه وقع منه في القرآن مائة وأربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة نسخ ذلك كله بقوله } .. فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ..{  } كتب عليكم القتال ..{ .

وقال الحسين بن فضل فيها: آية السيف هذه نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء، فالعجب ممن يستدل بالآيات المنسوخة على ترك القتال والجهاد، وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن حزم في الناسخ والمنسوخ }  باب الإعراض عن المشركين { : في مائة وأربع عشرة آية في ثمان وأربعين سورة، نسخ الكل بقوله عز وجل } .. فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ..{  سنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى. ويقول الإمام المحقق أبو القاسم هبة الله بن سلامة: } .. فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ..{ الآية الخامسة من سورة التوبة وهي ناسخة ولكن نسخت من القرآن مائة آية وأربعة وعشرين ثم صار آخرها ناسخاً لأولها وهي قوله تعالى:

} . . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ..{  . كتاب الناسخ والمنسوخ .

 

فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب

 

وقال السدي والضحاك: إن آية السيف منسوخة بآية }  فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء { محمد: 4 وهي أشد على المشركين من آية السيف وقال قتادة: بالعكس ولا أعلم أحد خالف القول بالمنسوخ سوى السيوطي قال في كتاب الإتقان: الأمر حين الضعف والقلة بالصبر والصفح ، ثم نسخ بإيجاب القتال وهذا في الحقيقة ليس نسخاً بل هو من قسم المنسأ كما قال تعالى: } أو ننسأها {  فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوي المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف وليس كذلك بل هي من المنسأ وقال مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعراً بالتوقيت والغاية مثل قوله تعالى } فاعفو واصفحوا حتى يأتي الله بأمره { البقرة 109. محكم غير منسوخ لأنه مؤجل بأجل. انتهى كلام السيوطي. وبالرغم من مخالفة السيوطي لكل الأقوال السابقة مما لا يدع مجالاً للشك بأن الصواب هو الأخذ بالقول الأول، فبالإضافة إلى ذلك فإنه قد أخطأ من فهم أن القول بعدم نسخ آيات العفو والصفح يعني فريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإسقاط فرض الجهاد فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ) ويقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتاب علم أصول الفقه ص 277 فإن كونه ماضياً إلى يوم القيامة يدل على أنه باقٍ ما بقيت الدنيا، وتعطيل الجهاد بحجة النسأ ليس إيقاف للغزو فقط ولكنه إيقاف لنية الغزو أيضاً وخطورة ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ( من لم يغزو أو تحدثه نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية) رواه مسلم عن أبي هريرة. والأمر المتفق عليه أن المسلمين كي يجاهدوا لابد لهم من قوة ولكن كيف تتحقق هذه القوة وأنت معطل لفرض الجهاد والله سبحانه وتعالى يقول: } ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ..{ التوبة: 46. فكونك لا تريد الخروج يتلوه ترك للعدة فالمسلم الذي أوقف فرض الجهاد كيف له أن يأخذ بأسباب القوة؟

ويقول r ( إذا ضن الناس بالدرهم والدينار، وتبايعوا بالعينة، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، وأخذوا أذناب البقر أنزل الله عليهم من السماء بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم ). رواه الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما.

 

مواقف المسلمين في القتال

 

جيوش المسلمين على مر العصور قليلي العدد والعدة، وكانوا يواجهون جيوشاً أضعافهم ويحتج البعض بأن تلك خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام. والرد على ذلك هو أن وعد الله بالنصر دائم مادامت السماوات والأرض، ومن الممكن أن تتطلع على ما حدث مع ظهير الدين بابر الذي واجه الملك الهندوكي( دانا سنجي ) وجيشه عشرون ألفاً فقط وجيش الملك الهندوكي مائتا ألف، وانتصر القائد المسلم بعد توبته عن شرب الخمر .. وغيره كثيرون.

 

وهناك من يدعي أننا نعيش في مجتمع مكي مجتهداً في ذلك كي يحصل على رخصة بترك الجهاد في سبيل الله، فإن من يضع نفسه في مجتمع مكي لكي يترك فريضة الجهاد فعليه أن يترك الصوم والصلاة، وأن يأكل الربا لأن الربا لم يحرم إلا في المدينة... والصواب هو أن مكة هي فترة نشأة الدعوة ، ويقول الله سبحانه وتعالى: } ..اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً..{  المائدة: 3 وهذه الآيات قد نسخت كل هذه الأفكار النمطية بحجة أننا مكيون، فنحن لا نبدأ كما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نأخذ بما انتهى إليه الشرع .. ونحن لسنا في مجتمع مكي ولسنا أيضاً في مجتمع مدني ولكي تعرف المجتمع الذي نعيش فيه راجع فصل ( الدار التي نعيش فيها ) .

 

القتال الآن فرض على كل مسلم

 

والله سبحانه وتعالى عندما فرض الصيام قال } .. كتب عليك الصيام ..{ البقرة:183 وفي أمر القتال قال }  كتب عليكم القتال ..{  أي أن القتال فرض وذلك رد على من قال أن الفرض هو الجهاد، ومن هنا يقول أنني إذا قمت بواجب الدعوة فقد أديت الفرض لأن ذلك جهاد، وإذا خرجت في طلب العلم فأنا في سبيل الله حتى أرجع بنص الحديث فبذلك قد أديت الفرض. فالغرض واضح بالنص القرآني أن القتال هو المواجهة والدم. والسؤال الآن: متى يكون الجهاد فرض عين؟ يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع:

 

أولاً -  إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حُرم على من حضر الانصراف وتعين عليهم المقام لقوله تعالى: }  يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار { الأنفال: 15 .

 

ثانياً -  إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.

ثالثاً - إذا استنفر الإمام قوماً لَزمهُم النفير لقوله تعالى } يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير { التوبة: 38-39 . وقال r ( إذا استُنفِرتُم فانفروا ) . . . انتهى.

 

وبالنسبة للأقطار الإسلامية فإن العدو يقيم في ديارهم ... بل أصبح العدو يمتلك زمام الأمور وذلك العدو هم هؤلاء الحكام الذين انتزعوا قيادة المسلمين ومن هنا فجهادهم فرض عين، هذا بالإضافة إلى أن الجهاد الإسلامي اليوم يحتاج إلى قطرة عرق كل مسلم.

واعلم أنه إذا كان الجهاد فرض عين فليس هناك استئذان للوالدين في الخروج للجهاد كما قال الفقهاء فمثله كمثل الصلاة والصوم.

 

مراتب الجهاد وليس مراحل الجهاد

 

الواضح أن الجهاد اليوم فرض علي كل مسلم وبالرغم من ذلك نجد أن هناك من يحتج بأنه يحتاج إلى تربية نفسه، وأن الجهاد مراحل وأنه مازال في مرحلة جهاد النفس ويستدل على ذلك بقول الإمام ابن القيم .. الذي قسم الجهاد إلى مراتب:

 

1- جهاد النفس.

2- جهاد الشيطان.

3- جهاد الكفار والمنافقين.

 

وهذا الاستدلال ينبئ من خلفه إما عن جهل كامن أو جبن فاحش ذلك لأن ابن القيم قسم الجهاد إلى مراتب ولم يقسمه إلى مراحل، وإلا فعلينا أن نتوقف عن مجاهدة الشيطان حتى ننتهي من مرحلة جهاد النفس، والحقيقة أن الثلاثة مراتب تسير سوياً في خط مستقيم ونحن لا ننكر أن أقوانا إيماناً وأكثرنا مجاهدة لنفسه أكثرنا ثباتاً، ولكن من يدرس السيرة يجد أنه عندما ينادي منادي الجهاد كان الجميع ينفر في سبيل الله حتى مرتكبي الكبيرة وحديثي العهد بالإسلام، ويروي أن رجلاً أسلم أثناء القتال ونزل في المعركة فسقط شهيداً فقال صلى الله عليه وسلم: ( عملٌ قليل وأجرٌ كبير ). وقصة أبي محجن الثقفي الذي كان يدمن الخمر وبلاؤه في حرب فارس مشهور، وذكر ابن القيم أن حديث ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .. قيل ما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: جهاد النفس )، إنه حديث موضوع } المنار المنيف { وما قُصد بوضع هذا الحديث إلا التقليل من شأن القتال بالسيف لشغل المسلمين عن قتال الكفار والمنافقين.

 

خشية الفشل

 

وهناك من قال بأننا نخشى أن نقيم الدولة ثم بعد يوم أو يومين يحدث رد فعل مضاد يقضي على كل ما أنجزناه. والرد على ذلك هو أن إقامة الدولة الإسلامية هو تنفيذ لأمر الله ولسنا مطالبون بالنتائج والذي يتشدق بهذا القول الذي لا فائدة من ورائه إلا تثبيط المسلمين عن تأدية واجبهم الشرعي بإقامة شرع الله قد نسى أنه بمجرد سقوط الحكم الكافر فكل شيء سوف يصبح بأيدي المسلمين بما يستحيل معه سقوط الدولة المسلمة ثم إن قوانين الإسلام ليست قاصرة ولا ضعيفة عن إخضاع كل مفسد في الأرض خارج عن أمر الله. وبالإضافة إلى ذلك فإن قوانين الله كلها عدل ولن تجد سوى كل ترحاب حتى ممن لا يعرف الإسلام، ولتوضيح موقف المنافقين في عدائهم للمسلمين يطمئن الذين يخشون الفشل بقول المولى عز وجل }  ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون، لئِن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئِن نصروهم لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثم لا يُنصرون { الحشر:11-12، وهذا وعد الله فإنهم ( المنافقين ) إذا رأوا أن القوة في صف الإسلام سوف يعودون مذعنين فلا تنخدع لهذه الأصوات فإنه سرعان ما تخمد وتنطفئ، وموقف المنافقين سوف يكون موقف كل أعداء الإسلام ويقول الله تعالى: } إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم {  محمد:7

القيادة

 

وهناك من يحتج بعدم وجود قيادة تقود مسيرة الجهاد، وهناك من يعلق أمر الجهاد على وجود أمير أو خليفة، والقائلون لهذا القول هم الذين ضيعوا القيادة، وأوقفوا مسيرة الجهاد، والرسول صلى الله عليه وسلم يحض المسلمين في أحاديثه على تكوين القيادات ... يروي أبو داود في كتاب الجهاد قال: قال r : ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ). ومن هنا ندرك أن قيادة المسلمين بأيديهم هم الذين يظهرونها ويقول r  ( من استعمل على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين ) رواه الحاكم واشار السيوطي إلى صحته. فينبغي أن تكون للأحسن إسلاماً ويقول r  لأبي ذر ( إنك ضعيف وإنها أمانة ) وينبغي أن تكون للأقوى والأمر نسبي .. فليس هناك حجة لمن يدعي فقدان القيادة فإنهم يستطيعون أن يخرجوا من أنفسهم القيادة، وإذا كان في القيادة شيء من القصور فما من شيء إلا ويمكن اكتسابه ... أما أن تُفقد بحجة فقدان القيادة فهذا لا يجوز، فقد نجد فقيهاً ولكن ليس عالماً بأحوال الزمان والقيادة والتنظيم وقد نجد العكس ولكن هذا لا يعفينا من إيجاد القيادة وأن نخرج أنسبنا لقيادتنا في وجود الشورى، والنواقص يمكن استكمالها .. والآن لم تعد هناك حجة لمسلم في ترك فريضة الجهاد الملقاة على عاتقه، فلا بد من البدء وبكل جهد في تنظيم عملية الجهاد لإعادة الإسلام لهذه الأمة وإقامة الدولة واستئصال طواغيت لا يزيدون عن كونهم بشر لم يجدوا أمامهم من يقنعهم بأمر الله سبحانه وتعالى.

 

البيعة على القتال والموت

 

أخرج البخاري عن سلمة رضي الله عنه قال: بايعت النبي r  ثم عدلت إلى ظل شجرة فلما خَفَّ الناس قال: يا ابن الأكوع ألا تبايع؟ فقلت: بايعت يا رسول الله، قال أيضاً: فبايعته الثانية فقلت له يا أبا سلمة على أي شيء كنتم يومئذ تبايعون؟ قال: على الموت .. أخرجه أيضاً مسلم والترمذي .. وأخرج البخاري أيضاً عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: ( لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال: إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت فقال: لا أبايع على هذا أحداً بعد رسول الله r  ) أخرجه أيضاً مسلم والبيهقي. والرواية السابقة تُفيد جواز البيعة على الموت ولسنا بصدد دراسة موقف عبد الله بن زيد وهناك فارق بين بيعة الموت والبيعة المطلقة للخليفة فقط، وليس معنى ذلك أن أمير الجهاد لا يطاع فقد قال رسول الله r : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصي الأمير فقد عصاني ) . متفق عليه. وعن ابن عباس في قوله تعالى: } أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم .. { النساء: 59 نزلت في عبد الله بن حذافة بعثه رسول الله في سرية ( أي كان أمير جهاد ) .

 

التحريض على القتال في سبيل الله

 

ولا يجب على المسلم إلا أن يعد نفسه للجهاد في سبيل الله ... والرسول r  يقول: ( تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمانٌ بي وتصديقٌ برسلي فهو ضامنٌ أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة..) رواه مسلم عن أبي هريرة. ويقول r : ( من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ). رواه مسلم عن سهل بن حنيف. وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد قال: لا أجده. فقال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ فقال: ومن يستطيع ذلك. رواه البخاري. وقال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليمتن ( يتحرك ) في طوله يكتب له حسنات.. رواه البخاري. ويقول r : ( إن للشهيد عند الله ست خصال .. أن يُغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُحلى حلة الإيمان، ويُزوج من الحور العين ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار ويُشفّع في سبعين من أقاربه ). رواه الترمذي وصححه.

 

عقوبة ترك الجهاد

 

ترك الجهاد هو السبب فيما يعيش فيه المسلمون اليوم من ذل ومهانة وتفرق وتمزق فقد صدق فيهم قول المولى عز وجل: }  يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير {  التوبة: 38-39

 

ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآيات: هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله r  في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ فقال تعالى: }  يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ...{ أي إذا دُعِيتُم إلى الجهاد في سبيل الله } اثاقلتم إلى الأرض { أي تكاسلتم ومِلتُم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار } أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة { أي ما لكم فعلتم هكذا رضاً منكم بالدنيا بدلاً من الآخرة، ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ورغب في الآخرة فقال } فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل {  ثم توعد الله تعالى من ترك الجهاد فقال } إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً {  قال ابن عباس: استنفر رسول الله r  حياً من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم } ويستبدل قوماً غيركم { أي لنصرة نبيه وإقامة دينه كما قال تعالى } وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم {  } ولا تضروه شيئاً { أي ولا تضروا الله شيئاً بتوليكم عن الجهاد ونكولكم وتثاقلكم عنه. انتهى. ابن كثير 2/342

 

ويقول r : ( إذا ضن الناس بالدرهم والدينار وتبايعوا بالعينة، وتركوا الجهاد في سبيل الله وأخذوا أذناب البقر أنزل عليهم من السماء بلاء .. فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم ) ولا يجب على مسلم أن يرضى أن يكون الآن في صفوف النساء كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جهادهم في الحج والعمرة.

 

شبهات فقهية والرد عليها

 

هناك من يخشى الدخول في هذا النوع من القتال محتجاً بأن الذين يواجهونه هم جنود فيهم المسلم وفيهم الكافر .. فكيف نقاتل مسلمين ورسول الله r  يقول: إن القاتل والمقتول في النار. ولقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لنفس السؤال فكانت مسألة من مسائل مجموع الفتاوى 28/546-547-548: في جنود يمتنعون عن قتال التتار ويقولون أن فيهم من يخرج مكرهاً معهم ( والجواب ) يقول ابن تيمية: فمن شك في قتالهم فهو أجهل الناس بدين الإسلام وحيث وجب قتالهم قوتلوا وإن كان فيهم المُكره باتفاق المسلمين كما قال العباس لما أُسر يوم بدر: يا رسول الله إني خرجت مكرهاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله، وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا ( أي احتموا ) بمن عندهم من أسرى المسلمين وخِيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون، وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم وإن لم يخف على المسلمين ففي جواز القتال المفضي إلى قتل هؤلاء المسلمين قولان مشهوران للعلماء، وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيداً، فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قُتل من المسلمين يكون شهيداً ومن قتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيداً، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم فقيل يا رسول الله فيهم المكره فقال: يبعثون على نياتهم ) فإذا كان الذي ينزله الله بالجيش الذي يغزو المسلمين ينزله بالمكره وغير المكره فكيف بالعذاب الذي يعذبهم الله به أو بأيدي المؤمنين، كما قال تعالى } قل هل تربصون بنا إلا أحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ..{ . ونحن لا نعلم المكره ولا نقدر على التمييز فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين وكانوا هم على نياتهم فمن كان مكرهاً لا يستطيع الامتناع فإنه يحشر على نيته يوم القيامة فإذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قتل من يُقتل من عسكر المسلمين وأما إذا هرب أحدهم فإن من الناس من يجعل قتالهم قتال البغاة المتأولين وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فهل يجوز اتباع مدبرهم وقتل أسيرهم والإجهاز على جريحهم؟ على قولين للعلماء مشهورين فقيل: لا يفعل ذلك، لأن منادي علي بن أبي طالب نادى يوم الجمل لا يتبع مدبر ولا يُجهز على جريح ولا يقتل أسير، وقيل بل يفعل ذلك لأنه يوم الجمل لم يكن لهم طائفة ممتنعة وكان المقصود من القتال دفعهم فلما اندفعوا لم يكن إلى ذلك حاجة، بمنزلة دفع الصائل وقد روي أنه يوم الجمل وصفين كان أمرهم بخلاف ذلك، فمن جعلهم بمنزلة البغاة المتأولين جعل فيهم هذين القولين .. والصواب أن هؤلاء ليسوا من البغاة المتأولين ، لأن هؤلاء ليس لهم تأويل سائغ أصلاً .. وإنما هم من جنس الخوارج المارقين، ومانعي الزكاة، وأهل الطائف والخُرَّمِية ونحوهم ممن قوتلوا على ما خرجوا عنه من شرائع الإسلام. وهذا موضع اشتبه على كثير من الناس من الفقهاء .. انتهى.

 

 

أسلوب القتال المناسب

 

مع تقدم الزمن وتطور البشرية يبدو تساؤل ... لا شك أن أساليب القتال الحديثة قد تختلف شيئاً ما عن أساليب القتال في عهد النبي r  .. فما هو أسلوب قتال المسلم في العصر الحديث؟ وهل له أن يعمل عقله ورأيه؟

 

 

من فنون القتال في الإسلام

 

يقول النبي r : ( الحرب خدعة ) ويقول النووي في شرح الحديث ( اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل ). ومعلوم أنه لا عهد بيننا وبينهم حيث أنهم محاربون لدين الله سبحانه وتعالى والمسلمون أحرار في اختيار أسلوب القتال المناسب على أن نحقق الخدعة وننال النصر بأقل الخسائر وأيسر السبل.

 

 

أسلوب القتال في غزوة الأحزاب

 

بعد أن نجح اليهود في تأليب الأحزاب الكافرة على النبي r  ودعوته وأصبح الوضع خطيراً، رسم المسلمون على عجل خطة فريدة لم يسمع العرب عنها من قبل، فهم لا يعرفون إلا قتال الميادين المكشوفة وتلك الخطة أشار بها سلمان الفارسي، وهي حفر خندق عميق يحيط بالمدينة من ناحية السهل ويفصل بين المدافعين والمغيرين، فأسلوب القتال ليس وحياً ولا سنة ثابتة وكأن المسلم له أن يعمل عقله ويدبر ويخطط والأمر يعود فيه للشورى.

 

الكذب على الأعداء

 

وقد صح في الحديث الكذب في ثلاثة أشياء. قال الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل .. هذا كلامه .. والظاهر هو إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل والله أعلم. من شرح النووي 12/45 .

 

تخطيطات إسلامية

 

من خلال دراسة السرايا يخرج المسلم بتخطيطات إسلامية وخدع قتالية تمضي أحكامها على كثير من المسلمين، ونذكر على سبيل المثال:

1- سرية مقتل كعب بن الأشرف في السنة الثالثة من الهجرة: عن جابر بن عبد الله قال رسول الله r : من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال يا رسول الله ( أنا يا رسول الله ) أتحب أن أقتله؟ قال نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئاً ( وهو استئذان من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتكلم كلاماً وحتى لو كان منافياً للإيمان وذلك لإظهار الكفر أمام كعب بن الأشرف فأذن به). قال r : قل، قال: فأتاه محمد بن مسلمة وذكره ما بينهم قال إن هذا الرجل ( يقصد النبي r ) قد أراد الصدقة وعنانا ( وهذا القول ظاهره إنكار الصدقة والتعدي عليه r  وهذا كفر ) .. وقد يفيد بأنه من الممكن للمسلم إظهار موالاته الكاملة للعدو في الحرب ولو وصل الأمر إلى إظهار الشرك والكفر. وإني قد أتيتك استحلفك فلما سمعه قال وأيضاً والله لتملنه قال: إنا قد تبعناه ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى شيء يصير أمره وقد أردت أن تسلفني سلفاً. قال فما ترهنوني نسائكم؟ قال: أنت أجمل العرب أنرهنك نسائنا؟ قال: ترهنوني أولادكم. قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهنت في وسقين من تمر ولكن نرهنك  اللَّأمة ( أي السلاح ) قال: نعم. فواعده أن يأتيه بالحرب فأتى عبس بن حبر وعباد بن بشر فجاؤا فدعوه ليلاً فنزل إليهم قال سفيان: قال غير عمرو قالت امرأته: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم قال: إنما هذا محمد ورضيعه أبو نائلة إن الكريم لو دعى إلى طعنة ليلاً لأجاب قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمُدّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم ( وتلك هي طريقة للتمكن من قتله حيث أنه كان ضخم الجثة قوي البنية ) قال: فلما نزل، نزل وهو متوشح قالوا: نجد منك ريح الطيب قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال أفتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم فشم ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه ثم قال: دونكم فقتلوه. ( متفق عليه ) [ الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص70 -71 ]. وفي هذه القصة من الفوائد الكثيرة في فن القتال.  وقد زعم بعض المستشرقين ومن في قلوبهم مرض أن مقتل كعب بن الأشرف كان غدراً وخيانة له والرد عليهم هو أن ذلك الكافر قد نقض عقده وأمعن في إيذاء المسلمين وقد جاء اليهود إلى النبي r  بعد مقتل كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد: قد طرق ( قتل) صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا، وقد قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه . . قال النبي r أنه لو فر كما فر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه أذانا وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف.

 

2-  سرية عبد الله بن أنيس رضي الله عنه: وكانت في السنة الرابعة وسببها أن النبي r  بلغه أن خالد بن سفيان الهُذلي يُقيم بِعُرنة وأنه يجمع الجموع لحرب المسلمين فأمر رسول الله r  عبد الله بن أنيس بقتله .. قال عبد الله قلت يا رسول الله انعته لي ( صفه لي ) حتى أعرفه فقال r  ( إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان .. وأية ما بينك وبينه ذلك ). قال: واستأذنت رسول الله r  أن أقول ( هو نفس إذن محمد بن مسلمة ) فأذن لي ثم قال لي: انتسب إلى خزاعة .. وهذا كذب ولكنه مباح. قال عبد الله: فعرفته بنعت ( أي بوصف ) رسول الله r  وشعرت بالخوف منه فقلت صدق رسول الله. قال عبد الله وكان وقت عصر قد دخل حين رأيته فخشيت أن تكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: ممن الرجل؟ قلت: من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك ( ففي هذا القول إظهار الموالاة ) قال: أجل إني لأجمع له قال عبد الله: فمشيت معه وحدثته فاستحلى حديثي وأنشدته وقلت عجباً له، أحدث محمد من هذا الدين الحدث! فرق الآباء وسفه أحلامهم ( وهذا القول كفر) .. قال أبي سفيان إنه لم يلق أحد يشبهني، وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه إلى منازل قريبة منه وهم يطيقون به، فقال هلم يا أخا خزاعة فدنوت منه .. فقال اجلس .. قال عبد الله: فجلست معه حتى إذا مدَّ الناس وناموا اغتلته فقتلته وأخذت رأسه ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه. فلما قدمت المدينة وجدت رسول الله r  فلما رآني قال: أفلح الوجه .. قلت أفلح وجهك يا رسول الله ثم وضعت الرأس بين يديه وأخبرته خبري.

 

3- قصة نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب: لما جاء نعيم بن مسعود مسلماً أوصاه أن يكتم إسلامه ورده إلى المشركين يوقع بينهم .. فذهب نعيم إلى بني قريظة وقال لهم على هيئة النصيحة: لا تقاتلوا مع القوم ( يقصد قريش وغطفان ) حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم .. وذلك بعد أن أقنعهم أن قريشاً وغطفان بصفتهم ليسوا من أهل المدينة فإن حدث شيء لحقوا ببلادهم وتركوهم للنبي r  فقالوا له: لقد أشرت بالرأي: ثم أتى قريشاً وأخبرهم أن يهود بني قريظة قد ندموا على تحالفهم معكم وأرسلوا إلى محمد يقولون ( هل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين رجالاً من أشرافهم .. فتضرب أعناقهم) وأتى غطفان فقال مثل ذلك، فأرسل ابو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم: أغدوا للقتال حتى نناجز محمداً .. فأجابوا بأن هذا يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً ولن نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا فإنا نخشى إن اشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم، فلما رجعت الرسل قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لهو الحق. إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فقالت بنو قريظة إن الذي ذكر لكم نعيم لهو الحق ومن هنا انتسب نعيم للفرقة في صفوف الأحزاب.

 

 

نقطة هامة:

 

جواز انغماس المسلم في صفوف الكفار إن كان في ذلك مصلحة للمسلمين.

 

يقول ابن تيمية في الفتاوي 28/540-541 وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي r  قصة أصحاب الأخدود .. وفيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة الدين ولهذا جَوَّز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. انتهى. ويعني كلام ابن تيمية جواز انغماس المسلم في صفوف الجيش الكافر وإن أدى ذلك إلى قتله حتى قبل أن يرى بعينه الفائدة من انغماسه.

 

 

الدعوة قبل القتال

 

جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير إنذار .. روى الإمام مسلم عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال فكتب اليّ: إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله r  على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ ( قال يحيى: أحسبه قال ) جويرية ( أو قال البتة ) ابنة الحارث.

 

الشرح: قال النووي: في هذا الحديث جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي .. أحدها يجب الإنذار مطلقاً قال مالك وغيره .. وهذا ضعيف .. والثاني لا يجب مطلقاً وهذا أضعف منه أو باطل .. والثالث يجب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب وهذا هو الصحيح وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور .. قال ابن المنذر وهو قول أكثر أهل العلم .. انتهى. صحيح مسلم شرح النووي 12/35-36

 

 

جواز تبييت الكفار ورميهم وإن

أدى ذلك إلى قتل ذراريهم

 

عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال قلت: يا رسول الله إنا نُصيب في البيَات من ذراري المشركين ( ذريتهم ) قال: هم منهم .. رواه مسلم

الشرح: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم صبيان المشركين الذين يُبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل فقال هم من آبائهم أي لا بأس لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القصاص وفي الديات وغير ذلك، والمراد إذا لم يُ تَ  عمدوا من غير ضرورة. انتهى .. صحيح مسلم شرح النووي 12/49

 

الكف عن قصد النساء والرهبان والشيوخ بالقتل

 

 

عن ابن عمر قال: وُجِدَت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي r  فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ( رواه الجماعة إلا النسائي ).

 

ويروي أحمد وأبو داود أنه في إحدى الغزوات مر رسول الله r  على مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني وهم يتعجبون من خَلْقها حتى لحقهم رسول الله r  فقال:  ما كانت هذه لتقاتل ، فقال لأحدهم الحق خالداً فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً ( أي أجيراً ). وحديث ابن عباس السابق في جواز قتل الذراري لا يتناقض مع هذا الحديث حيث أن لكل منهما حالة تختلف عن الأخرى.

 

الاستعانة بمشرك

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج رسول الله r  قبل بدر فلما كان بحرّة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله r  حين رأوه فلما أدركه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله قال: لا. قال: فارجع فلن أستعين بمشرك ... قالت: ثم رجع فأدركنا بالبيداء فقال له كما قال أول مرة تؤمن بالله ورسوله قال: نعم. فقال r  فانطلق. ( رواه مسلم ) .. يقول النووي وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي r  استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره .وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم له، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور وقال الزهري والأوزاعي: يسهم له والله أعلم .. انتهى. صحيح مسلم بشرح النووي 12/199.

ويقول مالك في الاستعانة بالمشركين والكفرة: إلا أن يكونوا خداماً للمسلمين فيجوز... وقال أبو حنيفة يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق متى كان الإسلام هو الغالب والجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره الاستعانة بهم.

وقال الشافعي يجوز ذلك بشرطين: أحدهما أن يكون المسلمين قلة ويكون المشركون كثرة، والثاني أن يعلم من المشركين حُسن رأي في الإسلام وميل إليه ومتى استعان بهم رضخ لهم ولم يسهم ( أي أعطاهم مكافأة ولم يشركهم في سهام المسلمين من الغنيمة )

 

جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها

 

روى الإمام مسلم عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  حرق نخل بني النضير وقطع وهي البُوَيرَة. زاد قتيبة وابن رمح في حديثهما فأنزل الله عز وجل: }  ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين {  الحشر: 5  قال النووي في شرح الحديث: جواز قطع شجر الكفار وإحراقه. صحيح مسلم شرح النووي 12/50

 

أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( بعث النبي r  سرية عيناً وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه .. فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عُسفان ومكة ذُكروا لِحَيٍّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه .. فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد ، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم خبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل. وبقي خبيب وزيد ورجل آخر رضي الله عنهم، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجرَّروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، وذكر قصة قتل خبيب إلى أن قال: استجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا.

 

تنظيم الجيش المسلم

 

عن عمار بن ياسر: أن رسول الله r  كان يستحب الرجل أن يقاتل تحت راية قومه. رواه أحمد.

 

عن البراء بن عازب: قال رسول الله r  ( إنكم ستلقون العدو غداً فإن شعاركم ... لا ينصرون ) رواه أحمد. وعن الحسن عن قيس بن عباد قال: كان أصحاب رسول الله r  يكرهون الصوت عند القتال. رواه أبو داود.

 

وعن كعب بن مالك: أن النبي r  خرج في يوم الخميس في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم الخميس. متفق عليه. وعن النعمان بن مقرن: أن النبي r  كان إذا لم يقاتل في أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر .. رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم وأصله في البخاري بلفظ ( إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة ).

 

استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو وأدعية القتال

 

من أدعية الرسول r  في القتال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم .. صحيح مسلم 12/47

 

أمر هام يجب التنبيه عليه

الإخلاص في الجهاد في سبيل الله: والإخلاص هو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل من جميع الشوائب .. وقيل هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.

وفي كتاب تلبيس إبليس ص 146-147 باب تلبيس إبليس على الغزاة قال الإمام ابن الجوزي: قد لبس إبليس على خلق كثير فخرجوا إلى الجهاد ونيتهم المباهاة والرياء ليُقال فلان غاز وربما كان المقصود أن يُقال شجاع أو كان طلب الغنيمة وإنما الأعمال بالنيات. وعن أبي موسى قال جاء رجل إلى النبي r  فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال r  من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. أخرجاه في الصحيحين.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال إياكم أن تقولوا مات فلان شهيداً أو قتل شهيداً فإن الرجل ليقاتل ليغنم ويقاتل ليذكر ويقاتل ليُرى مكانه. وبالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r  أنه قال: أول الناس يقضي فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد فأُتِىَ به فعرَّفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها قال: قاتلت فيك حتى قتلت قال كذبت ولكنك قاتلت ليقال هو جرئ فقد قيل ثم أمر به فَسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها .. فقال: ما عملت فيها قال: تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن .. فقال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم فقد قيل وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار .. ورجل وسع الله عليه فأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها فقال: ما تركت من سبيل أنت تحبه أن ينفق فيها إلا انفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أُمِرَ به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار. انفرد بإخراجه مسلم.

 

وبإسناد مرفوع عن أبي حاتم الرازي قال سمعت عبدة بن سليمان يقول: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه الرجل فقتله، فازدحم الناس عليه فكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا قلت: فانظروا رحمكم الله إلى هذا السيد المخلص كيف خاف على إخلاصه برؤية الناس له ومدحهم إياه فستر نفسه. وقد كان إبراهيم بن أدهم يقاتل فإذا غنموا لم يأخذ شيئاً من الغنيمة ليوفر له الأجر.

وقد لبس إبليس على المجاهد إذا غنم، فربما أخذ من الغنيمة ما ليس له أخذه فإما أن يكون قليل العلم فيرى أن أموال الكفار مباحة لمن أخذها ولا يدري أن الغلول من الغنائم معصية. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله r  إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً وغنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله r  عبدٌ له، فلما نزلنا قام عبد رسول الله r  بحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه فلما قلنا له هنيئاً له الشهادة يا رسول الله فقال: كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم، قال ففزع الناس. فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: أصبته يوم خيبر فقال رسول الله r : شراك من نار أو شراكان من نار.

 

وقد يكون الغازي عالماً بالتحريم إلا أنه يرى الشيء الكثير فلا يصبر عنه، وربما ظن أن جهاده يدفع عنه ما فعل. وها هنا يتبين أثر الإيمان والعلم.

 

روينا بإسناد عن هبيرة بن الأشعث عن أبي عبيدة العنبري قال: لما هبط المسلمون المداين وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه ما رأينا مثل هذا قط ما يعد له ما عندنا ولا ما يقاربه فقال له هل أخذت منه شيئاً؟ فقال أما والله، لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا: من أنت؟ فقال والله لا أخبركم لتحمدوني ولا أغريكم لتقرظوني ولكن أحمد الله وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.

 

هناك من يتم استبعاده عن الطريق

 

فانتبهوا إن للشدائد أصلاً وذروا ما تزين الأهواء. فهو يطلب منهم الانتماء الفتي ويدعوهم إلى الإفصاح عما ستروه من دافع حب الراحة وتجنب المشقة وهو نفسه الدافع الذي حكاه القرآن عن المخلفين في سورة التوبة عندما يقول الله تعالى: }  فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون {  التوبة: 81

إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة وطراوة الإرادة وكثيرين هم الذين يشفقون من المتاعب وينفرون من الجهد ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز وهم يتساقطون أعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال. تفسير في ظلال القرآن 3/1682 .

 

هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد في - ساعة العسرة - وتخلفوا عن الركب في أول مرة هؤلاء لا يصلحون للكفاح ولا يُرجَون لجهاد ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين. }  فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين {  التوبة: 83 . إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب .. فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء، جناية على الصف كله. تفسير في ظلال القرآن 3/1683 .

 

فتاوي الفقهاء في تنقية الصف

 

كان للسلف أقوال كثيرة في ذلك فمثال كلام السلف الأول من ذلك استعراض الإمام الشافعي في كتاب الأم لحوادث المنافقين المتتالية عن المشاركة في الغزوات النبوية الكريمة وتنبيه إلى من يشتهر في أجيال المسلمين بعد ذلك بمثل ما وصف به أولئك المنافقون فإنه يقاس عليهم ويعاقب بمثل ما عوقبوا به.

 

يقول الشافعي ( رحمه الله تعالى ): غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزا معه بعض من يعرف نفاقه فانخذل يوم أحد عنه بثلثمائة ثم شهدوا معه يوم الخندق فتكلموا بما حكى الله عز وجل من قولهم: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق فشهدها معه عدداً فتكلموا بما حكى الله تعالى من قولهم : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل  وغير ذلك مما حكى الله عز وجل من نفاقهم .. ثم غزا غزوة تبوك فشهدها معه قوم منهم قد نفروا ليلة العقبة ليقتلوه فوقاه الله عز وجل شرهم وتخلف آخرون منهم فيمن بحضرته ثم أنزل الله عز وجل في غزوة تبوك من أخبارهم فقال سبحانه وتعالى }  ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين {  التوبة: 46

 

قال الشافعي: فأظهر الله عز وجل لرسوله أسرارهم وخبر السماعين لهم وابتغائهم أن يفتنوا من معه بالكذب والإرجاف والتخذيل لهم فأخبره سبحانه وتعالى أنه كره انبعاثهم فثبطهم إذ كانوا على هذه النية كان فيهم ما دل على أن الله عز وجل أمر أن يمنع من عرف بما عرفوا به من أن يغزو مع المسلمين لأنه ضرر عليهم.

 

يقول الشافعي: فمن شهد بمثل ما وصف الله تعالى المنافقين لم يحل للإمام أن يدعه يغزو معه ولم يكن لو غزا معه أن يسهم له ولا يرضخ لأنه ممن منع الله عز وجل أن يغزو مع المسلمين لطلبه فتنته وتخذيله إياهم وأن فيهم من يستمع له بالغفلة والقرابة والصداقة وإن هذا قد يكون ضرراً عليهم من كثير من عدوهم. الأُم للإمام الشافعي4/89 .

 

واستمر الفقه على هذا حتى استلم رايته ابن قدامة المقدسي فقال: ولا يستصحب الأمير معه مخذلاً وهو الذي يثبط الناس عن الغزو ويُزَهِّدَهم في الخروج إليه والقتال والجهاد، مثل أن يقول الحر أو البرد الشديد والمشقة شديدة، ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش وأشباه هذا، ولا مرجفاً وهو الذي يقول: قد هلكت سرية المسلمين وما لهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد وصبر ولا يثبت لهم أحد ونحو هذا ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار وإطلاعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودلالتهم على عوراتهم أو إيواء جواسيسهم ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد لقول الله تعالى: }  ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة {  التوبة: 46-47 . ولأن هؤلاء مضرة على المسلمين فيلزمه منعهم ( المغنى لابن قدامة 8/351 ).

غرور الفقيه يمنع تأميره

 

إننا نجد في فقه عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما يسوغ إبعاد الصادق صاحب الخير عن المسئولية إذا كان فيه نوع من حب الظهور والخيلاء سداً للذريعة وصيانة له من احتمالات الافتتان والجناية على نفسه وعلى الدعوة.

 

فقد روى أن الراشد الخامس لما وُلِّىَ الخلافة أرسل إلى أبي عبيد المذحجي وكان فقيه في فقه الحديث من شيوخ الأوزاعي ومالك. وممن يستعين به الخليفة سليمان بن عبد الملك فقال له عمر: هذا الطريق إلى فلسطين وأنت من أهلها فالحق بها فقيل له يا أمير المؤمنين لو رأيت أبا عبيد وتشميره للخير فقال: ذاك أحق ألا نفتنه كانت فيه أبهة للعامة. ( تهذيب التهذيب 12/158 ) .

 

ولقادة جماعات المسلمين هذا اليوم أن يقولوا لكل داعية يتطلع للسمعة والجاه والمكانة الاجتماعية المرموقة مثل الذي قاله عمر لأبي عبيد، ويفهموه أنك قد أخطأت بداية الطريق إلى مرادك فمررت بديار دعوة التواضع والبذل والالتزام الخططي وهذه الطريق على ديار أشكالك فالحق بهم.

 

 

الفهرس