القرآن والكتـــــاب

نظريــة القرآن في الأديان

التوحيد القرآنى كتابى

هل نسخ القرآن الإنجيل والتوراه؟

القرآن يشهد بالصحة للكتاب الموجود في زمانه

هل يقول القرآن الكريم بتحريف الكتاب المقدس

تذييل على أستحالة تحريف الكتاب

قيمة الكتاب في القرآن

قيمة الإنجيل في القرآن

موقف القرآن من أهل الكتاب

تقديم عام

كانت هذه الدروس استجابة إلى الدعوة التى وجهها شيخ مشايخ الازهر الشريف فضيلة الاستاذ مصطفى المراغي, ورئيس مجلس الشيوخ المصرى السابق الدكتور حسين هيكل في تقديم (حياة محمد )

"ألا تراه يقول: وأذهب أبعد مما تقدم فأقول ان البحث جدير بأن يهدى الانسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التى تلتمسها. واذا كانت نصرانية الغرب تستكبر ان تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتلتمس هذا النور في "ثيوزوفية الهند" وفي مختلف مذاهب الشرق من المسلمين واليهود والنصارى خليقون بأن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والانصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق".

استجبنا الدعوة ويقيننا انا فعلنا بنزاهة واخلاص.

بدأنا منذ زمن بعيد بمقالات, تطورت إلى كتاب, اتسع إلى هذه " الدروس القرآنية ". وهذا هو الكتاب الأول منها.

لا نبغى فيه تبشيراً, ولا نقصد منه جدلاً عقيماً. بل كان رائدنا الدرس العلمى النزيه أملاً بالوصول إلى حق القرآن.

ونبتهل إلى الله تعالى مع فاتحة القرآن:

"بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين.

إياك نعبد وإياك نستعين: اهدنا الصراط المستقيم..."

عسانا نسمع الجواب:

"أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ..."

"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (أيها النبي)".

(أنعام 89 و 90 )

مقدمة

"وقولوا: آمنا بالذى أنزل الينا وانزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون " (العنكبوت 46)

ما جاء في القرآن الكريم عن المسيح والإنجيل والنصارى, فيليق بكل مؤمن بالله واليوم الآخر ان يطلع عليه. هذا ما اردنا ان نقوله في هذا الكتاب الأول من سلسلة دراستنا التى نقدمها لأبناء الشرق العربي. كثيرون من المسلمين يجهلون الكتاب المقدس، وكثيرون من المسيحيين لا يعرفون القرآن الكريم ؛ ولو أن الجميع تعارفوا لتقاربو وتصافحوا وتحابوا.

يعيش الاسلام والنصرانية في الشرق معاً: لذلك يجب عليهما أن يتفاهما ؛ وآن لهما أن يفعلا. أقول هذا خاصة في هذا الزمن العصيب الذى نجاهد فيه لأجل تراثنا الروحى , وقوميتنا العربية لكى نحافظ على كياننا فلا تبتلعنا الكتل الاجنبية ؛ وأرسله نداء حارآ لكل الذين يؤمنون بالله وايوم الآخر كى يتمسكو بحجر الزاوية هذا. وما احوجنا في عصر المادة الذى نجتازه, تجاه تيار الالحاد الجارف , أن نتذكر هذه الحقيقة الجوهرية , وبجعلها رابطة لنا دينية وقومية في هذا الشرق موطن الوحى ومهبط الروح.

وأملى ان نخرج من هذه الابحاث[†]، كما ختم النبي العربي كرازته في مكة بهذا المبدأ السمح الموحد: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن _ إلا الذين ظلموا منهم _ وقولوا: آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل اليكم والهنا والهكم واحد, ونحن له مسلمون".

(عنكبوت 46 )

نظرية القرآن في الأديان

"بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق"

(بقرة 213)

"لا نفرق بين احد من رسله" (بقرة 136 و 285 ؛ آل عمران 4 نساء 163)

من يتصفح الكتاب والقرآن يتحقق من بادرة لا ريب فيها ألا وهى اتفاقهما في الجوهر على التوحيد أى "الايمان بالله واليوم الآخر " تلك هى حقيقة الحقائق وهما يرددانها بكل لحن، وبلا ملل.

نشأ محمد في الحجاز ودعا إلى الله ( سجدة 72 ) في محيط مشبع بدعوة التوحيد[‡] الإسرائيلية والمسيحية والحنيفية وسط الشرك الحاكم.

فكان لابد للنبي العربي من أن يتعرض للكتاب والإنجيل. فما كان صدى تأثيراته؟

وكان لابد له أيضاً من أن يتصدى للأديان السابقة، والكتب المنزلة، والأنبياء المتعاقبين:

فما هى نظرية القرآن في الأديان؟

نكتفي هنا بذكر آيه من القرآن: "ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر...." ( بقره 177 ) وآيه من الإنجيل في رسالة القديس بولس إلى العبرانيين " وبدون ايمان يستحيل ارضاء الله اذ لابد لمن يدنو إلى الله أن يؤمن بأنه كائن وانه يثيب الذين يبتغونه " ( ف 11 ع 6 )

للقرآن نظرية خاصة، جامعة في الأديان المنزلة، ولا نقول غير المنزلة لأنه لا يعترف بها. فالقرآن يعلم بصراحه وحدة الكتاب المنزل على جميع الانبياء، ووحدة الرسالة النبوية عند جميع المرسلين، ووحدة الدين الموحى به لجميعهم.

الكتاب المنزل واحـد

يعلم القرآن أن أصل الكتبfgلمنزلة واحد، عند الله، ( مؤمنون 63 ) ويسميه "ام الكتاب[§]، ( زخرف 4 )، و"يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب " ( رعد 41)، ويدعوه أيضاً " اللوح المحفوظ" ( البروج 21 و22)، " والامام المبين ": " وكل شىء احصيناه في امام مبين " ( يس 12)

وقد انزل الله كتابه الواحد على جميع الانبياء والمرسلين: " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " ( بقره 212 ). يقول " الكتاب" فهو معروف، وهو واحد.

ونزل كتاب الله على آجال: " ما كان لرسول أن يأتى بآية الا باذن الله: لكل اجل كتاب. يمحوا الله ما يشاء ويثبت، وعنده ام الكتاب " ( رعد 40 - 41 ). من أجل إلى أجل قد يمحوا الله ما يشاء مما أنزل ويثبت غيره، محتفظا بوحدة التنزيل لان عنده ام الكتاب في اللوح المحفوظ.

والكتب المنزلة عديده بقى منها اربعة: توراة موسى، وزبور ( مزامير ) داود، وانجيل عيسى، وقرآن محمد، وكلها نسخ طبق الاصل عن الكتاب الازلى: " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه ( قبله). وانزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وانزل الفرقان " ( آل عمران 3)[**]

فبإنزاله القرآن والإنجيل والتوراة اوحى الله الفرقان كله اى " جنس الكتب السماوية لانها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل " ( الزمخشرى )

وهذه النسخ يصدق بعضها بعضا، ويشهد بعضها لبعض: " وقفينا على اثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الاتجيل فيه هدى ونور. وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه (قبله) من الكتاب ومهيمنا عليه " ( مائدة 46 - 51 )[††]

وهكذا يكون القرآن نسخة عربية عن الكتاب: " والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " ( زخرف 1،2 ).

لذلك يأمر القرآن أهله ان يؤمنوا ايمانا واحدا بالكتب المنزلة كلها: " يا ايها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا " ( نساء 135)

وهذا الايمان الواحد الذى يأمرهم به – بسبب وحدة التنزيل والكتاب – يجعله ركنا من اركان الاسلام:

" ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين " ( بقره 177)

وبسبب وحدة الوحى ووحدة الكتاب المنزل مع الرسل جميعهم ينذر القرآن بعذاب واحد من كفر بأحد الكتب لانها جميعها "الكتاب": " الذين كذبوا بالكتاب وبما ارسلنا به رسلنا فسوف يعلمون اذ الاغلال في اعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسحرون " ( غامز 72 )

وهكذا يرى القرآن في الكتب المنزلة نسخا عن "الكتاب"الواحد.

والرسالة النبوية واحدة عند جميع الأنبياء والمرسلين

ان تصريحات القرآن في هذا الصدد واضحة متكرره[‡‡].

فهو يعلن وحدة الايمان في وحدة الرسالة:" قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا الينا وما انزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط، وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم. لا نفرق بين احد منهم ؛ ونحن له مسلمون[§§]" ( بقرة 136) يعلن ان من الاسلام الايمان بالانبياء جميعهم على السواء،

رادا بذلك على دعوة اليهود والنصارى إلى ملتهم: " وقالوا: كونوا هودا او نصارى تهتدوا ! بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين " ( بقرة 135 )، لان الاصل التوجيد ولا خلاف بين المسلمين والكتابيين عليه:

" قل: اتحاجونا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم اعمالكم ونحن له مخلصون " ( بقرة 139)

وتقوم وحدة النبوة ووحدة الرسالة على التوحيد، ويسمى هذا التوحيد اسلاما[***]" أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها واليه يرجعون. قل آمنا بالله وبما أنزل علينا وما أنزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط، وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا فرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " (آل عمران 83—85 ) فكل الانبياء يريدون دين الله وقد دعوا اليه.

ويصرح بأن وحدة الرسالة والنبوة تأتى من وحدة الوحى: " انا اوحينا اليك كما اوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، واوحينا إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما، رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجه بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما " ( نساء 162 – 164 )

وهكذا فلا تجوز التفرقه بين الانبياء لان الموحى اليهم واحد، والوحى واحد عند جميعهم فهم سلسلة واحده متصلة الحلقات يحملون رسالة واحدة.

والدين واحد في جميع الكتب ومع جميع الانبياء

ان كل رسول دعا إلى الله: " ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة " ( نحل 36 ) وغمر البشر بالرسل الداعين إلى التوحيد

"جاءتهم الرسل من بين ايديهم ومن خلفهم الا تعبدوا الا الله " ( السجدة 14 ) وكل ذكر نزل من الله اوحى ان لا اله الا الله: " ام اتخذوا من دونه آلهة! قل هاتوا برهانكم! هذا ذكر من معى وذكر من قبلي[†††]

بل اكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون: " وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه انه لا اله الا انا فاعبدون " ( انبياء 24 و 25 ) ؛ اوحى الله التوحيد لكل رسول ارسله، وهذه كتب الله الموحاة كلها ليس في واحد منها ان مع الله الها مما قالوا ( الجلالان )

ودعوة الانبياء إلى الله هى التوحيد وهى الاسلام الذى يكرز به القرآن: " افغير دين الله يبغون وله اسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها.

قل امنا بالله وبما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما اوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون. ومن يبتغ غير الاسلام دينآ فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " ( آل عمران 85 و 84 و 83). نص خطير، جامع مانع , يحدد معنى الاسلام بالتوحيد، "دين الله[‡‡‡]" الذى يخضع له من في السماوات والارض طوعآ وكرهآ , وهو الذى أنزل على الانبياء جميعهم كما نزل على محمد , ومن يبتغ غير اسلام التوحيد فهو من الخاسرين في الدنيا والاخرة.

بهذا الدين، وبهذا التوحيد شهد الانبياء جميعهم , وأولو العلم , والملائكة والله نفسه: " شهد الله أنه لا اله الاهو، والملائكة واولو العلم، قائما بالقسط، لا اله الا هو العزيز الحكيم ان الدين عند الله الاسلام[§§§]"

( آل عمران 18 و 19 ) ؛ فالسماء والارض تشهدان ان "لا دين مرضى عند الله سوى الاسلام وهو التوحيد " ( البيضاوى) قرن منزلة " اولى العلم " بالملائكة والله ! (الرازى)

وحسب نظرية القرآن، جميع الانبياء ليس فقط كرزوا بالاسلام بل كانوا هم انفسهم مسلمين. فابراهيم[****] وابنه اسماعيل مسلمان "ربنا، واجعلنا مسلمين لك " ( بقرة 128 ) ووصى ابراهيم بنيه من بعده بالاسلام:"اذ قال ربه: اسلم. قال اسلمت لرب العالمين. ووصنى بها ابراهيم بنيه"(بقرة 131) فحفظوا الوصية وتناقلوها: " ويعقوب: يا بنى، ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون "(بقرة 132)

فلا تموتن الا وأنتم مسلمون " ( بقرة 132 ) ؛ وقبل الاسباط هذه الوصية بالاسلام ( بقرة 133 ). وهكذا فملة ابراهيم بفرعيها من اسماعيل واسحاق مسلمة: " ومن ذريتنا امة مسلمة لك "

(بقرة 128)، فقد قال الاسباط ليعقوب: "نعبد الهك واله آبائك ابراهيم واسماعيل واسحاق الهآ واحدآ ونحن له مسلمون " ( بقرة 133 ).

والنبيون ما بين موسى وعيسى مسلمون: " انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا " ( مائدة 47) يعنى أنبياء بنى اسرائيل أو موسى ومن بعده ( البيضاوى ). واليهود الذين يحفظون التوراة بهدى أنبيائهم مسلمون معهم: " ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون أيأمركم بالكفر بعد اذ أنتم مسلمون " ( آل عمران 80 )، فيشهد أن اليهود الذين يخاطبهم ويسفه غلوهم في اكرام الملائكة والبنين هم مسلمون: انها حال قائمة " بعد اذ انتم مسلمون!"

والمسيح نفسه وأنصاره الحواريون مسلمون: " ولما أحس عيسى منهم الكفر (اى من اليهود ) قال: من أنصارى إلى الله؟ قال الحواريون[††††]: نحن انصار الله! آمنا بالله! واشهد بأنا مسلمون " ( آل عمران 52 و 53). وقد قبل الحواريون دعوة عيسى واعتنقوا "الاسلام " بعد معجزة المائدة التى أنزلها عيسى عليهم من السماء: "واذ اوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى ! قالوا: آمنا , واشهد بأنا مسلمون" (مائدة 115 – 119).

لذلك لما حاول محمد ان يجتذب اهل الكتاب إلى ملته التى انشأها في المدينة مستقلاً عن أهل الكتاب أجابوه بأنهم مسلمون من قبله: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله ( من قبل القرآن ) هم به مؤمنون ؛ واذا يتلى عليهم

قالوا: آمنا، انه الحق من ربنا، انا كنا من قبله مسلمين ! اولئك يؤتون أجرهم مرتين[‡‡‡‡]" ( قصص 52 – 54 ). وهكذا بشهادة القرآن الصريحة، وبنص الوحى القاطع، اليهود والنصارى , المعاًصرون محمدآ، مسلمون قبل النبي العربي وامته، وسوف يؤتون اجرهم مرتين بما صبروا. " وايمانهم به ليس مما احدثوه حينئذ وانما هو امر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتاب " قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلى أنما الهكم واحد فمن كن يرجو لقاء ربه فليعمل عملآ صالحآ ولا يشرك بعبادة ربه احدآ (الكهف111 ). واقتدى بهداهم ( انبياء 90 ) وتبع اسلامهم: " أمرت ان اكون من المسلمين " ( انعام 14 ) وبلغ قومه هذا الدين: " اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينآ " ( مائدة 3 ) وبذلك أمسى هو اول المسلمين

" قل ان صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وانا اول المسلمين " ( انعام 163 ) والمسلمون متبعو عيسى فىالاسلام وان اختلفت الشرائع " ( الزمخشرى، آل عمران ).

فحسب تعليم القرآن الصريح ان اهل التوراة واهل الإنجيل واهل القرآن كلهم مسلمون أى موحدون يؤمنزن ايمانآ واحدآ بالله واليوم الآخر. وقد اكد القرآن ذلك إلى اخر عهده: " ملة ابيكم ابراهيم، هو[§§§§] سماكم المسلمين من قبل وفي هذا " ( الحج 78 ) فالله سمى المؤمنون به مسلمين في القرآن وفي الكتب التى سبقته منذ ابراهيم: فالدين واحد.

وهذا الاتفاق الجوهرى على العقيدة لا يضيره اختلاف ثانوى في البشريعة ؛ ففي صفحة خالدة من اواخر حياة النبي العربي يقر القرآن في سورة المائدة هذا التفرق ويجعله سبب تنافس وتسابق في الخيرات.فهو يقر امة موسى على شريعتهم: " وكيف يحكمونكم وعندهم التوراة فيها حكم الله... انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانو عليه شهداء " ( مائدة 47 و 48 ). ويقر أمة عيسى على شريعتهم: " وقفينا على آثارهم بعيسى

ابن مريم مصدقآ لما بين يديه من التوراة , وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقآ لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين: وليحكم اهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ؛ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " (49 - 51 ). ويقر امة محمد على شريعتهم: " وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقآ لما بين يديه من الكتاب ومهيمنآ عليهم. فاحكم بينهم بما أنزل الله " (51 ).

ويختم بهذا المبدا الجامع المانع الشامل الكامل، الأولى النهائى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجآ ! ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة[*****]. ولكن ليبلوكم في ما آتاكم: فاستبقوا الخيرات " (51) لقد جمعكم الله على عقيدة واحدة , ولو شاء لجعلكم على شريعة واحدة ولكن فرقكم فرقآ ليختبركم فيما آتاكم حتى تتنافسوا وتتسابقوا في الخيرات " كل حسب شرعته ومنهاجه.

تلك نظرية القرآن في الأديان والأنبياء والكتب النزلة: الدين واحد , ورسالة الأنبياء التى تحمله واحدة , والكتاب الذى يحويه رغم تعدد نسخه واحد. لذلك يكرر تصريحاته بشجب التفرقة بين الأديان والرسل والكتب " أن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلآ أولئك هم الكافرون واعتدنا للكافرين عذابآ مهينآ. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم " ( نساء 151 ) أجل " لانفرق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون " ( بقرة 136 و285 , آل عمران 84 , نساء 163 ) لأن الله " بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق " (بقرة 213 ).

تذييل لنظرية القرآن في وحدة الأديان المنزلة

نجد في كتاب الملل والنحل ص 202 للشهر ستانى ( طبعة ( Leipzig 1923 Cureton

خلاصة الرأى القديم عن وحدة الدين بين اهل الكتاب واهل القرآن ننقلها لتمام الفائدة: " والتقسيم الضابط أن نقول: من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم السفسطائية. ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم الطبيعية , ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود واحكام وهم الفلاسفة الدهرية. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والاحكام ولا يقول بالشريعة والاسلام وهم الصائبة: ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ما واسلام ولا يقول بشريعة المصطفى ص. وهم اليهود والنصارى. ومنهم من يقول بهذه كلها , وهم المسلمون ". اذآ خلاف اهل الكتاب واهل القرآن ليس في العقيدة حسب زعمهم بل في الشريعة وحدها كما رأينا في القرآن.

ونجد في ( حياة محمد ) لحسين هيكل خلاصة الرأى الحديث: " صحيح ان تعاليمهم ( موسى وعيسى ) تنتهى في جوهرها إلى ماتنتهى اليه تعاليم محمد في جوهرها , مع خلاف في التفاصيل ليس هنا موضع ايضاحه "

( ص 112 ). وقال آخر: " اما المسلمون ففي دينهم قسم مشترك بين الديانات كلها ؛ فهم يؤمنون بموسى ويوقرونه، ويعتبرون التهجم على مكانته كفرآ بالاسلام. وهم كذلك يؤمنون بعيسى ويكرمون مولده وينزهون نسبته ويرون الطعن في عفاف امه أو شرف ابنها كفرآ بالاسلام. وهم يضمون إلى ايمانهم بموسى وتوراته , وعيسى وانجيله ايمانآ جديدآ بمحمد وقرآنه على اساس ان النبوة الاخيرة جاءت تصديقآ لما قبلها ومحوآ للفوارق والخلافات التى مزقت شمل العالم. فالاسلام هو يهودية موسى ونصرانية عيسى معاً وهدآيات من قبلها من رسل الله الأكرمين جميعا ( التعصب والتسامح بين المسيحية والاسلام ص 57 ) لمحمد الغزالى.

ومن احدث ما قرأنا مقالآ في مجلة الهلال 1 يناير 1955 بقلم منصور رجب الاستاذ بكلية اصول الدين في الازهر الشريف عن رسالة الازهر: نص قرآنى بين يقرر في صراحة ان الأديان السماوية , كلها في الاصل شىْ واحد , لافرق بين يهودية او مسيحية او اسلام ولذلك يقول في سورة الشورى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحآ – والذى اوحينا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان: اقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه. والبخارى نفسهنقل تفسير هذه الآية بأن قال " اوصيناك يا محمد وانبياءه دينآ واحدآ... وكأنى بواحد يسائل نفسه: وما الفرق اذن بين هذه الأديان؟ - الفرق انما هو في الشرائع اى في الفروع ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة المائدة " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجآ. مثلآ الصلاة اصل من اصول الدين الاانها تختلف في الكيفية في كل شريعة عنها في الاخرى. وهكذا يقال في كل مايتصل بهذه الناحية ( 47 و 148 ).

التوحيد القرآنى كتابى

"هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا" ( الحج 78 )

القرآن الكريم دعوة جارفة إلى التوحيد. فهل كان مستقلآ في هذه الدعوة عن الكتاب الذى نزل من قبله أى عن الإنجيل والتوراة؟ من يقرأ القرآن حسب ترتيب نزوله كما ورد في المصحف الاميرى[†††††] يلحظ تطورآ ظاهرآ. لقد جاء التوحيد القرآنى في مكه كتابيآ محضآ. ثم استقل بأحكامه في المدينة قوميآ حنيفيآ , ولكن ظل في عقيدته وفي دعوة التوحيد كتابياً[‡‡‡‡‡].

يعلن القرآن منذ السور المكية الأولى عن مصادره[§§§§§].

ففي آخر سورة الاعلى يقول عن تعليمه فيها: " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى " (18و19). قد أخذ القرآن كرازته عن توحيد الخالق الاعلى (1و2) وعن الآخرة التى هى خير من الحياة الدنيا وأبقى (16و17) وعن فلاح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى (15و16) عن صحف ابراهيم وموسى أى عن الكتاب المقدس. قال الشهرستانى[******]: " ثم قال عز من قائل إن هذا لفي الصحف الأولى: فبين ان الذى اشتملت عليه هذه الصحف هو مااشتملت عليه هذه السورة ".

يسند القرآن إلى الكتاب تعليمه العام ,وتعاليمه الخاصة ايضآ. ففي سورة النجم يقول: " أولم ينبآ بما في صحف موسى وابراهيم الذى وفي ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للانسان الا ما وأن سعيه سوف يرى" (37 – 40) يقول: لا تحمل نفس ذنب غيرها وليس لها من سعى غيرها للخير شىء (الجلالان). ويضيف "أن إلى ربك المنتهى وانه هو امات وأحيا وانه خلق الزوجين الذكر والانثى , وأن عليه النشأة الاخرى, وأنه أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى وأنه أهلك عادآ الأولى وثمودآ فما ابقى... فبأى آلاء ربك تتمارى! هذا نذير من النذر الأولى" (41-56) سياق الحديث يدلنا على انه ينقل تعاليم السورة عن صحف ابراهيم وموسى وأنه يعتبر نفسه نذيرآ من جنس المنذرين الأولين[††††††] وهذا يدلنا على وحدة الرسالة ووحدة التعليم.

وفي سورة البروج يعطى استشهاد نصارى نجران على يد ذى نواس ملك اليمن المتهود مثلآ على التوحيد وصحة الايمان بالله: " قتل اصحاب الاخدود , النار ذات الوقود , وهم عليها قعود ! وما نقموا منهم إلا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد" (1-10) قد فهم العلماء منذ سيرة ابن هشام ان المقصود باصحاب الاخدود نصارى نجران[‡‡‡‡‡‡]. ألا يدل هذا الاستشهاد بهم على وحدة الدين والايمان بينهم وبين النبي العربي؟

وفي سورة القمر يذكر قومه بعاقبة الكفار الغابرين مستخلصآ من سيرتهم عبرة لقومه: " أكفاركم خير من أولئكم؟ أم لكم براءة في الزبر؟ " اى "زبر الأولين " كتبهم كالتوراة والإنجيل ( الجلالان: شعراء)؛ يقول " اكفاركم يامعشر العرب خير من اولئك الكفار المعدودين قوة وعدة أو مكانة ودينآ عند الله تعالى؟أم انزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمان من العذاب؟ " ( البيضاوى ).أليس فيه دليل على أن من أمن بإيمان الكتاب إشارةجلية إلى مصدر تعليمه وايمانه؟ ويعود أيضاً إلى مثلها في قوله: " ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مذكر؟ وكل شىء فعلوه في الزبر " (51-52) فتعاليمه وقصصه مأخوذة عن الكتب المقدسة التى تقدمته. وما وظيفة القرآن سوى تذكير العرب بما جاء في الكتاب المقدس: "وقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر؟ " ( 17و23و32و40).

ويطلبون من النبي آية على صحة رسالته وصدق نبوءته فيجيبهم: آيته انه يبين لهم ما في الصحف الأولى[§§§§§§]: " وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه؟ أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى1 فيكفيه برهانآ أنه بلغهم تعليم الكتاب. ويضيف أنه اهتدى إلى الصراط السوى بإيمانه بما في الصحف الأولى: " قل كل متربص ! فتربصوا ! فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى " (طه 135 ) من الضلالة , أنحن الذين آمنا بالصحف الأولى أم أنتم المنكرون لها !

يعود في الشعراء إلى الجواب على طلبهم منه آية ليؤمنوا: " وانه لتنزيل رب العالمين على قلبك لنكون من المنذرين بلسان عربي مبين , وانه لفي زبر الأولين " (192-196 ) اى " ان ذكر القرآن المنزل على محمد لفي كتب الأولين كالتوراة والإنجيل " ( الجلالان ) فآية النبي العربي مطابقة قرآنه للكتاب. ويعطيهم آية أخرى تؤيد الأولى: " أولم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بنى اسرائيل "؟ (197) والبرهان على مطابقة القرآن للكتاب شهادة علماء بنى اسرائيل بذلك. ستظل هذه الشهادة منهم له حجته الكبرى إلى آخر حياته: " كفى بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب "( آخر الرعد)[*******]. ومحمد يعتد ويتقوى ويطمئن بشهادة الذين أوتوا العلم من اهل الكتاب له على موافقة تعليمه تعليمهم: "وبالحق انزلناه وبالحق نزل. وما ارسلناك الا مبشرآ ونذيرآ. وقرآنآ فرقناه لتقرأه على الناس على مكتب ونزلناه تنزيلآ.قل آمنوا به او لا تؤمنوا: ان الذين اوتوا العلم من قبله[†††††††] اذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدآ , ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعآ " (105-109).لقدفرح اهل الكتاب وازدادوا خشوعآ لموافقةالقرآن تعليمهم , وهكذا قويت شوكتهم تجاه المشركين , واطمأن محمد إلى تلك الموافقة واعطاهم دليلآ على صحة رسالته وصدق نزول قرآنه. وفى فاطر يبين لقومه اصطفاء الله لعباده الذين يتلون كتاب الله الذى اورثوه وجاء قرآنه مصدقآ له: " إن الذين يتلون كتاب الله... يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله.- والذى اوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقآ لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير – ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله هو الفضل الكبير " ( 29و31و32)[‡‡‡‡‡‡‡]. انه يثنى على مؤمنى الكتاب , ويستجلب الثناء لنفسه لأن قرآنه من الكتاب " وحقيقته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الاحكام "( البيضاوى) وفضل الله الكبير في اصطفاء اهل الكتاب وتوريثهم الكتاب. انه يشهد لأهل الكتاب ويستشهد بهم. ألايخيل اليك ان صاحب هذا الاعتقاد واحد منهم؟

القرآن يأخذ " من الكتاب ". لابل يأمر نبيه أن يهتدى بهدى الكتاب واهلة.

فى صفحة رائعة من سورة الانعام يحرض القرآن محمدآ على الاقتداء بهدى أنبياء الكتاب المقدس: يذكر سلسلة الأنبياء المحسنين الصالحين الذين فضلهم على العالمين " ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم , واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم: ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده. ولو أشركوا لحبطعنهم ما كانوا يعملون – أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء ( مشركى مكة ) فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ( اهل الكتاب ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " (83-90). من هم المقصودون الذين يجب ان يقتدى النبي بهداهم؟ " هم الانبياء المذكورون ومتابعوهم. والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد واصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست هدى مضافآ إلى الكل"[§§§§§§§]. اذن يحرض القرآن النبي على الاقتداء بهدى وتوحيد ودين انبياء الكتاب ومتابعيهم من اليهود والنصارى. وبعبارة أصرح يأمر القرآن محمدآ ان يتبع اهل الكتاب في هداهم وايمانهم على آثار انبيائهم. فهدى الكتاب المقدس هو وحده صراط القرآن المستقيم.

فهل بعد هذا التصريح من شل في ان محمدآ كان يدعو إلى التوحيد الكتابى في مكة ويهتدى بأنوار الكتاب المقدس؟ وانه يسترشد " بمن عنده علم الكتاب " ( رعد 45 )؟

وفى سورة الانعام أيضاً يجعل القرآن ذاته تفصيل الكتاب: " أفغير الله ابتغى حكمآ وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلآ ؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق , فلا تكونن من الممترين " (114) لاحظ من تعريف " الكتاب " في الموضعين ان المنزل على محمد والمنزل من قبل واحد ؛ والثاني تفصيل الأول.

ويدعو محمد قومه إلى " دراسة " الكتاب الذى نزل على طائفتين من قبلهم فقد كانوا إلى زمانه غافلين عن دراستهم: " أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين " ( انعام 176)[********] ؛ فسبب نزول القرآن (155) هو عدم قراءتهم للكتاب الذى نزل على اليهود والنصارى لجهلهم لغته , وهو ينقله لهم بلسان عربي مبين ليقرأوه. فيفهمون منه جليآ انه درس الكتاب الذى ينقله لهم ويدعوهم إلى دراسته: " وليقولوا: درست"[††††††††] اى " ذاكرت أهل الكتاب أو درست كتب الماضين وجئت بهذا منها " ( الجلالان ).

فهل من شهادة اوضح وأصرح على اتصال محمد بأهل الكتاب , ودرسه , ونقل القرآن عن الكتاب؟

ويرجع إلى الاستشهاد بأهل الكتاب في سورة سبأ: " ويرى الذين أوتوا. العلم[‡‡‡‡‡‡‡‡] الذى أنزل اليك من ربك هو الحق , او يهدى إلى صراط العزيز الحميد " (6) يستشهد دائمآ بالذين اوتوا العلم المنزل ؛ وهؤلاء يشهدون له بصحة تعليمه التوحيد وأحكامه , وشهادتهم له هى حجته الكبرى.

وفى سورة الأحقاف يصرح نهائيآ بما لايقبل الشك ان إمام القرآن كتاب موسى: " قل ما كنت بدعآ من الرسل ! وما أدرى ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم , إن اتبع الا ما يوحى إلى ! وما أنا الا نذيرمبين. قل أرأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به – وشهد شاهد من بنىاسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم -..واذا لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم ! ومن قبله كتاب موسى إمامآ ورحمة , وهذا كتاب مصدق لسانآ عربيآ لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين " (9-12)[§§§§§§§§]. لقد شهد شاهد من بنى اسرائيل على ان القرآن مثل التوراة , كيف لا وإمام القرآن كتاب موسى , وهو كتاب مصدق التوراة لسانآ عربيآ , لينذر المشركين وبشرى للمؤمنين بالكتاب والقرآن – لا فارق بين الكتابين ولا جديد سوى اللسان العربي.

كما ان الكتاب السماوى امام للكتاب المنزل ( يس 12) كذلك كتاب موسى امام للقرآن (احقاف 12).

فى سورة الانبياء يوضح تضامنه مع اهل الكتاب في التوحيد , تجاه جميع المشركين: " أم اتخذوا من دونه آلهة ! قل هاتوا برهانكم ! هذا ذكر من معى وذكر من قبلى[*********]! بل اكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون. وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه أنه لا إله الا أنا فاعبدون " ( 24-25) رسالة الأنبياء جميعهم هى التوحيد, وهو تعليم القرآن والإنجيل والتوراة والمؤمنين بها. فبرهان النبي المتواصل على صحة دعوته هو ذكر من قبله من المؤمنين الطابق للقرآن. يكثر في هذه الفترة من الاستشهاد بأهل الكتاب , على كل شىء: " وما ارسلنا من قبلك إلا رجالآ نوحى اليهم: فسئلوا اهل الذكر إن كنتم لاتعلمون" ( انبياء7) " اهل الذكر هم العلماء بالإنجيل والتوراة فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقهم اقرب من تصديق محمد , فاسألوهم. ( الجلالان ). ويختم اخبار الانبياء في هذه السورة بقوله: " إن هذه أمتكم , اسمه[†††††††††] واحدة. وأنا ربكم فاعبدون " ( 92) امة الانبياء واحدة وهى أيضآ امتهم , فاتبعوها. وفى آخر سورة الانبياء ينقل آية بنصها الحرفى عن المزامير التى اخذتها عن التوراة: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر(التوراة ) ان الارض يرثها عبادى الصالحون[‡‡‡‡‡‡‡‡‡] " فالوحى حسب القرآن واحد من نوح إلى ابراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد. كما نقل آية اخرى في سورة الحج " وإن يومآ عند ربك كألف سنة مما تعدون ": من ينقل عن كتاب ألا يؤمن به , ألا يعرفه , ألا يتضامن معه؟ أيجوز ان يتنكر له , او يتهمه بالتحريف , او يدعى نسخه؟

حجة محمد الكبرى كما رأيت هى شهادة اهل الكتاب له.فهو يحيل سامعيه في سورة النحل اليهم ليستوثقوا منهم عن صحة ما يوحى إلى محمد: " وما أرسلنا من قبلك الا رجالآ نوحى اليهم: فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر. وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون " ( نحل 43و44) ؛ ان كانوا يجهلون المعجزات النزلة والكتب المقدسة فهو يعلمها وهى تقول بإرسال البشر للبشر لا الملائكة. وإن كنتم لا تعلمون ولا تصدقونى فاسألوا العلماء بالتوراة والإنجيل فإنهم يعلمونه وانتم إلى تصديقهم اقرب ( الجلالان ). لاحظ أن الوحى القديم والجديد كلاهما وردا بلفظ واحد معرف بأل للدلالة على وحدة التعليم ؛ وأن وظيفة التعليم الجديد هى تذكير الناس بما نزل اليهم من قبل لعلهم يتفكرون. وأهل مكة يشهدون له أن قرآنه من خرافات الأولين: " واذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين " ( نحل 24 ) وهم بالذكرين كافرون.

لابل يأمر القرآن محمدآ في يونس اذا ارتاب من نفسه ومن صحة ما يوحى اليه ان يطمئن نفسه ويوطد ايمانه عند أهل الكتاب الأول: " فإن كنت فى شك مما أنزلنا اليك فسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك[§§§§§§§§§]: لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين , ولاتكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين " ( يونس 94 ) يقول:" إن كنت يا محمد تشك فيما أنزلنا اليك فاسأل الذين يقرؤون التوراة من قبلك فإنه ثابت عندهم يخبروك بصدقة فلا تكونن من الشاكين فيه " (الجلالان ) فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك: والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها ؛ ثم وصف اهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل اليه ( البيضاوى ). واذ كان يجب على النبي العربي أن يتثبت من ايمانه وتعليمه لدى علماء اليهود والنصارى أفلا يكونون هم أساتذته في الدين والتوحيد؟

وفى سورة يونس أيضاً يصرح بأن القرآن تفصيل الكتاب: " وما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله ولكن تصديق الذى بين يديه ( قبله) وتفصيل الكتاب , لاريب فيه, من رب العالمين " (37). لاريب ان القرآن تصديق الكتاب الذى سبقه وتفصيل له: فكيف نشك بعد ذلك أنه ليس منه ولا يأخذ عنه ! ألا نفهم انه يبلغ العرب تعليم الكتاب بلسان عربي , وأنه يعتبر قرآنه نسخة عربية عن الكتاب؟

وفى سورة هود صدى لما ورد في الاحقاف: " أفمن كان على بينة من ربه- ويتلوه شاهد منه- ومن قبله كتاب موسى إمامآ ورحمة: اولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده. فلا تك في مرية منه , إنه الحق من ربك ولكن اكثر الناس لا يؤمنون " (17)2[**********] فلا نشك يامحمد بالحق الذى معك فانه يشهد له من كان على بينة من ربه وهم اهل العلم من مؤمنىالإنجيل والتوراة , فإنهم " يؤمنون به " ولو انكره اهل مكة ومن تحزب معهم. الايكفيه شهادة ان إمامه كتاب موسى. فالقرآن ذاتةه ينوع التصاريح على ان " قاعدة " القرآن في تعليمه هى الكتاب: والترديد المتواصل زيادة في التأكيد.

وفى سورة السجدة يعود إلى تأكيد علاقة النبي العربي بموسى والتوراة: " ولقد آتينا موسى الكتاب , فلا تكن في مرية من لقائه[††††††††††], وجعلناه هدى لبنى اسرائيل , أو جعلنا منهم أئمة يهدون يأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" (23 و24) ؛ اى لاتشك يامحمد في اتصالك بكتاب موسى بواسطة ائمة بنى اسرائيل فإنهم يهدون بأمرنا إلى هدى الكتاب كما يفعلون معك.

وفى سورة الشورى يعطى نظريته في طريقه الوحى والتنزيل , ومكانه منها: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيآ أومن وراء حجاب او يرسل رسولآ فيوحى بإذنه ما يشاء إنه على حكيم. وكذلك اوحينا اليك روحآ من امرنا. ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورآ نهدى به من نشاء من عبادنا , وإنك لتهدى ( لتهدى ) إلى صراط مستقيم, صراط الله " ( 51و52) وقال في مطلع السورة: " كذلك يوحى اليك والى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم" (2) دالآ على مواصلة الوحى في موضوعه ونوعه[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] لكن هذا الوحى كان على طرائق ثلاث: بالوحى اى بالمشافهه او المناداة كما وقع للمسيح ؛ او من وراء حجاب كما حصل لموسى عند قبة الشهادة ؛ او بواسطة رسول منه إلى النبي. وهذه ا لطريقة الثالثة, في العدد والرتبة , كانت من نصيب محمد و كذلك اوحينا اليك روحآ من امرنا. وكيف كانت واسطة الوحى هذه عند النبي العربي؟ كانت بواسطة الايمان بالكتاب الذى نزل قبله فقد جعله الله نورآ يهدى به من يشاء , وابن عبد الله اهتدى به إلى صراط الله المستقيم. فبواسطة الكتاب المقدس الذى آمن به اهتدى وهدى " وقل آمنت بما انزل الله من كتاب[§§§§§§§§§§] وامرت لأعدل بينكم " ( شورى 15). اخيرآ في سورة العنكبوت يأتى التصريح النهائى بوحدة الايمان والتعليم بين الكتاب والقرآن , بين محمد والنبيين قبله بين اهل القرآن واهل الكتاب: " اتل ما اوحى اليك من الكتاب ( فالقرآن من الكتاب )... ولاتجادلوا اهل الكتاب الا بالتى هى احسن – الا الذين ظلموا منهم – وقولوا: آمنا بالذى انزل الينا وانزل اليكم ( بالقرآن والكتاب على السواء ) , والهنا والهكم واحد ( هذا هو موضوع ديننا المشترك ) ونحن له مسلمون ( موحدون , وهذا موضوع ايماننا المشترك ). و كذلك " انزلنا اليك الكتاب ( فالقرآن هو الكتاب الذى نزل من قبل ): فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به , ومن هؤلاء ( اهل مكة ) من يؤمن به , وما يجحد بآيتنا الا الكافرون ( مشركو العرب )... بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ( اليهود والنصارى ) وما يجحد بآياتنا الا الظالمون " ( 45-50 ). في آخر عهده بمكة يتحقق محمد ان اليهود والنصارى وبعض العرب الذين انضموا اليه متفقون على وحدة الكتاب ووحدة الوحى ووحدة الايمان ووحدة الدين , وما جحد بالقرآن الاكفار مكة الظالمون. فكما انزل الله الكتاب من قبل نورآ يهدى به انزله اليوم واوحى منه إلى محمد , واهل العلم بالكتاب شهداء على ذلك.

وهكذا كانت الدعوة الاسلامية في مكة كتابية من كل نواحيها. كانت كتابية في مصدرها.

فالقرآن يعتبر ذاته نسخة عن الكتاب بلسان عربي مبين: " إن هذا ( القرآن ) لفى الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى " ( الاعلى 18 و 19 , النجم 37, طه 133 , شعراء 129 ) ؛ كل الآيات التى نقلناها تدل على أنه كان يهتدى بالكتاب المقدس ويهدى به ( شورى 52 , عنكبوت 50 .

كانت كتابية في موضوعها.

فالقرآن يدعو إلى الايمان بالله واليوم الآخر , أولاً بنداءاته ثم بقصصه. يأمره وحيه ان يقتدى بهدى الكتاب وأهله ( انعام 90 ). ويصرح بما لا يقبل الشك ان إمام القرآن كتاب موسى ( أحقاف 12 , هود 17 ). ويعلن بأجلى بيان ان القرآن تصديق الكتاب وتفصيله ( يونس 17 , أنعام 114 ).

كانت كتابية في طريقتها.

أى كانت دعوى دينية اجتماعية. مزج محمد الاصلاح الاجتماعى بالدينى , لا بل كان الاصلاح الاجتماعى سبيلآ إلى الاصلاح الدينى. كما كان يكرز قبله في سورية الارامية يوحنا فم الذهب وأفرام السريانى أو السورى. بدأ محمد كرازته مثل الإنجيل. " بدأ يسوع يطوف القرى كلها يبشر قائلآ: توبوا فقد اقترب ملكوت الله " كذلك القرآن: " إن إلى ربك الرجعى " ( علق 8 ) " بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وابقى " ( اعلى 16 ). وكما بدأ الإنجيل شريعته على الجبل بتطويب المحرومين والدعاء بالويل على الاثرياء الفاسقين: " طوبى لكم أيها المساكين ! طوبى لكم أيها الجياع ! طوبى لكم ايها الباكون ! ولكن ويل لكم ايها الاغنياء ! ويل لكم ايها المشبعون ! ويل لكم ايها الضاحكون " ( لوقا ف 8ع 20 – 26 )كذلك كانت كرازة محمد في مطلعها: ويل لكل همزة لمزة الذى جمع مالآ وعدده " ( همزة 1و2 ) " فأما اليتيم فلا تقهر ! وأما السائل فلا تنهر " ( الضحى 9 و 10 ) " أرأيت الذى يكذب بالدين , فذلك الذى يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين " ( ماعون 1-4 ) وما تنفع صلاة الغاشين الوزن والكيل " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون , الذين هم يراؤون , ويمنعون الماعون[***********]" (5-7 ) " فويل للمطففين الذين اذا اكتالواعلى الناس يستوفون , واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " ( المطففين 1-2 ).

ومن الدعوة إلى الاصلاح الاجتماعى ارتقى إلى الدعوة للاصلاح الدينى , ومن الكرازة باليوم الآخر وعدآ ووعيدآ انتقل إلى تعليم التوحيد.

كانت الدعوة الاسلامية كتابية في قصصها.

والقصص القرآنى طريقة خاصة بمحمد حاول بها الاقتداء بأمثال الإنجيل , ونقل أخبار الانبياء الأولين وهى تملأ القسم الثاني من السور المكية: " ولأخبار القرآن أمثلة تقابلها في التوراة خلا بعض الانبياء الذين قصتهم عربية محضة , كذلك عاد وثمود ولقمان وأصحاب الفيل وخلا قصتين ترمزان إلى الاسكندر والى اصحاب الكهف[†††††††††††]". وهكذا تعليمه وأخباره واسلوبه كتابى بلسان عربي مبين.

وكانت الدعوة القرآنية كتابية في جدلها.

حجة محمد على صحة رسالته وصدق نبوءته من اعجاز القرآن , موقوتة عابرة ظهرت في اواخر العهد بمكة ولم تتعد سورة البقرة ( يونس 38, هود 13, إسراء 88, بقرة 23). أما استشهاد القرآن بأهل الكتاب وشهادتهم له على صحة تعليمه التوحيد فهى من أول سورة إلى آخر سورة. وكفى بما نقلناه في هذا البحث دليلآ. حتى ان محمدا نفسه يؤمر ان يستطمن عن صحة تعليمه وايمانه ووحيه لدى أهل الكتاب: "فإن كنت في شك مما اوحينا اليك فسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك: لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين " ( يونس 94 ).

وهكذا " فمن البين انه كان في ظل المؤثرات اليهودية والنصرانية. ويؤكد هذا فكرة التوحيد والوحى نفسها والعناصر الكثيرة التى تعود إلى الكتاب المقدس عن طريق غير مباشر[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] ".

ثم كانت الهجرة إلى المدينة , ذلك الانقلاب الشامل الكامل:

انقلاب في الدعوة , فقد دخلت السياسة الدين !

انقلاب في الداعية , الذى اصبح رجل دولة وحروب !

انقلاب في طريقة الدعوة , لقتال المشركين حتى يؤمنوا , والكتابيين حتى يخضعوا للجزية !

انقلاب في الاسلوب , كان " بالحكمة والموعظة الحسنة " فصار بالقتال والجهاد !

لقد دخلت السياسة الدعوة الاسلامية فغيرت في موقفها من أهل الكتاب لقد أمل محمد ان يجد بهجرته إلى المدينة , نصرة عند يهودها لوحدة التوحيد بينه وبينهم , فينتصر بهم على قريش فيدينوا بالاسلام عنوة واقتدارآ بعد ان رفضوه اختيارآ. فشعر اليهود ان النبي يريد ان يستعلى عليهم , وخشوا خطره فرفضوا اتباعه والاعتراف به فوقعت الواقعة بينه وبين انصار الامس أصحاب الدعوة الواحة.

لقد جمعهم الدين ففرقتهم السياسة. وان السور المدينة لتصف لنا تطور الاستقلال الاسلامى الذاتى , فالانفصال " الطائفى "[§§§§§§§§§§§].

لقد ظلوا متفقين في عقيدة التوحيد , وتميز محمد عنهم في الشريعة والمنهاج.

ففى سورة البقرة يظهر استقلال النبي العربي عن اهل الكتاب بإنشاء " ملة وسط ". ليست الملة شيئآ فالأصل التوحيد: " وقالوا لن يدخل الجنة الا من كانوا هودآ أونصارى ! – تلك امانيهم ! قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. بل من اسلم وجهه لله[************] وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ( 111 و 112 ). فالخلاص في التوحيد وليس في ملة بعينها ؛ لذلك له الحق ان يستقل عنهم , لا بل يجب عليه ذلك: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ! – قل ان الهدى هدى الله , ولئن اتبعت اهواء هم بعد الذى جاءك من العلم , مالك من الله من ولى ولا نصير " ( 120 ). والافضل اذن ان يتبع ملة ابراهيم التى يتبعها حنفاء زمانه[††††††††††††] مسمين اياها " الحنيفية ": " وقالوا كونوا هودآ او نصارى تهتدوا ! – بل ملة ابراهيم حنيفآ وما كان من المشركين " ( 125 ). فابراهيم والآباء والاسباط كانوا موحدين قبل نزول الإنجيل والوراة (140 ) فيحق لمحمد وقومه كما يقول الحنفاء ان ينتسبوا هم أيضاً إلى ابراهيم مباشرة وان يستقلوا عن اهل الكتاب. " وكذلك جعلناكم امة وسطآ[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدآ " ( 143) وتم الاستقلال باختيار يوم الجمعة للصلاة , وبتغيير القبلة , شعار الدين والملة: " ولئن اتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما اتبعوا قبلتك وما انت بتابع قبلتهم , وما بعضهم بتابع قبلة بعض ! ولئن اتبعت اهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك اذآ لمن الظالمين " (145 ). فسبب الانشقاق " الاهواء " التى عصفت بالقوم ! مع ذلك فالاستقلال في الملة ليس انفصالآ في الدين وعقيدة التوحيد لانه " لكل وجهةهو موليها , فاستبقوا الخيرات " ( 148 )[§§§§§§§§§§§§]. ولان الاصل الاساسى الجامع هو الايمان بالله واليوم الآخر: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب , ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " ( 177 ). وهذا الاساس هو واحد عند الجميع.

فى سورة آل عمران , بعد واقعة بدر وانتصار المسلمين , يتمكن الاستقلال عن أهل الكتاب باعتناق الحنيفية القومية العربية. في هذه الفترة يسمى التوحيد الحنيفى " اسلامآ " والموحدين " مسلمين " ويصير ابراهيم , جد الموحدين , " حنيفآ مسلمآ ".

ليس الدين مقصورآ على اليهود والنصارى بل الدين القيم هو الاسلام لله بتوحيده: " شهد الله أنه لا إله الاهو , والملائكة , وأولو العلم , قائمآ بالقسط[*************] لا إله الا هو العزيز الحكيم: ان الدين عند الله الاسلام ! وما اختلف الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيآ بينهم " ( آل عمران 18و 19 )[†††††††††††††]. لم يختلفوا في العقيدة بل اختلفوا في التشريع والاحكام المفروضة بالتوحيد الكتابى فيقول: " فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن " (20 ) لابل التوحيد وحده يكفى: " وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين ( الذين لا كتاب لهم كمشركى العرب ) أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا ؛ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ " (20 ). كيف تخالفون ياأهل الكتاب , وقد اتفق الانبياء على اسلام التوحيد: " فالمسيح كان مسلمآ والحواريون تلاميذه كذلك " (51و 52 ) وابراهيم أيضاً كان حنيفآ مسلمآ: " ياأهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل الا من بعده أفلا تعقلون؟ ما كان ابراهيم يهوديآ ولا نصرانيآ ولكن حنيفآ مسلمآ , وما كان من المشركين " ( 64-67 ). – في السور المكية كان ابراهيم من المؤمنين فقط فصار في سورة البقرة حنيفآ (135 ) وأمسى في آل عمران مسلمآ (67).- لذلك فمحمد والحنفاء الذين يأتمون به مباشرة والمسلمون اولى بابراهيم من اليهود والنصارى " إن اولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه ( الحنفاء ) وهذا النبي (محمد ) والذين آمنوا ( المسلمون ) والله ولى المؤمنين " ( 68 )[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡]. فالتوحيد وحده هو دين الله لا دين غيره: " أفغير الله يبغون وله أسلم من في السماوات والارض طوعآ وكرهآ وإليه يرجعون " ( 83 ). هكذا آمن الانبياء جميعهم وعلموا (84) " فمن يبتغ غير الاسلام ( التوحيد ) دينآ فلن يقبل منه في الآخرة من الخاسرين[§§§§§§§§§§§§§]" (85) , " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (93) قل صدق الله فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفآ وما كان من المشركين " (95).

وهكذا استقر محمد على " ملة ابراهيم " اى الحنيفية , متخطيآ عيسى وموسى ليتصل مباشرة بجد الموحدين. وهكذا جاء الاسلام " ملة وسطآ " بين الذين اوتوا الكتاب والاميين ( آل عمران 20 ) فكان على مثال ابراهيم حنيفآ , وما كان يهوديآ ولا نصرانيآ في شرعه , وما كان من المشركين (67).

فى سورة النساء وما يليها يتم الانفصال عن اهل الكتاب ويظهر الرسول لفضيلة الاسلام اى الحنيفية الابراهيمية على سائر ملل التوحيد. اجل كل موحد صالح يخلص: وقد تفاخر المسلمون واهل الكتاب في ضرورة ملة كل منهم للخلاص فأجاب القرآن: " ليس بأمانيكم ولا امانى اهل الكتاب ! من يعمل سوءآ يجز به ولا يجد له من دون الله وليآ ولا نصيرآ ؛ ومن يعمل من الصالحات من ذكر او أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرآ " ( 122 و123 ). ولكن أفضل الموحدين من اتبع ملة ابراهيم حنيفآ:

"ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا، واتخذ الله ابراهيم خليلا " (نساء 125)

فطلبوا منه البينه على هذه الافضليه " لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينه " (بينه 1) والبينه التى يطلبون " رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة" (2،3) اى نبي يتلوا الكتاب فيؤمن به ويعمل بموجبه. فيجيب. لقد جائتهم بينه ما في الصحف الأولى، صحف ابراهيم وموسى: "وما تفرق الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة " الطلوبة (4) وهى في كتابهم ان التوحيد وحده هو الدين القويم:"وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، حنفاء، ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة" (6)

كان الاسلام في مكة توحيدا كتابيا محضا، فامسى في المدينة توحيدا قوميا عربيا على طريق الحنفاء[**************]. وهذا التوحيد الحنيفى في المدينة ظل كتابيا في جوهره كما كان في مكة، ولم يتغير فيه الا التشريع[††††††††††††††]. فبينما كان في مكه ينحو منحى الشريعة الكتابية اخذ في المدينة يهمل احكام الإنجيل والتوراة، ويتقرب من شرائع قومه مع صبغها ودمجها بالتوجيد كما كان يفعل الحنفاء. في سورة النساء يبين في آيتين متتابعتين اقتفاء القرآن سنن الكتاب ثم العدول عنها ليخفف عن قومه: "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم.....يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا" (25- 27). فالتخفيف عن قومه في الشرائع والاحكام الكتابية هو سبب الخلاف بين محمد واهل الكتاب وليس الايمان بالله واليوم الاخر[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡].

فالقرآن في المدينة صريح كل الصراحة كما كان في مكة على وحدة التوحيد فيهوفى الكتاب من سورة البقرة (136) إلى آل عمران (84) إلى النساء (135) كما رأينا. وهو وان لام اهل الكتاب على غلوهم في الدين، بتعبدهم للملاءكة والنبيين، يشهد بأنهم مع ذلك مسلمون:"ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة وانبيين اربابا !

ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون؟ ! " (آل عمران80 [§§§§§§§§§§§§§§]) يشهد ان اهل الكتاب، والربانيين منهم الذين يدرسون الكتاب ويعلمونه للناس (آل عمران 79) في حال خطابه لهم، هم مسلمون من قبله:"الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. واذا يتلى عليهم، قالوا:آمنا به، انه الحق من ربنا ! إنا كنا من قبله مسلمين " (قصص 52،53[***************]) اى موحدين[†††††††††††††††] فذلك "يدل على ان ايمانهم به ليس مما احدثوه حينئذ بل هو امر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمه وكونهم على دين الاسلام قبل نزول القرآن " (البيضاوى)

ويشهد القرآن في آخر عهده ان الاسلام الذى يكرز به انما هو في الكتب المتقدمة:"وجاهدوا في الله حق جهاده: هو اجتباكم ملة ابيكم ابراهيم ! هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡]": من قبل في الكتاب المقدس، وفى هذا القرآن (الحج78) ؛ فمعنى "الاسلام" موجود في الكتاب قبل القرآن ؛ لا بل اسم "الاسلام" ذاته حسب نص القرآن القاطع موجود في كتاب اليهود والنصارى قبل كتاب المسلمين: فالله مع ابراهيم الخليل سمى الموحدين مسلمين في التوراة والإنجيل قبل:

قل:" هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا " (الحج 78)

هل نسخ القرآن الإنجيل والتوراة؟

" ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها " ( بقرة 106 )

لقد شاع بين المسلمين رأى بأن القرآن نسخ الكتاب اى ابطله , كما نسخ الإنجيل و التوراة من قبل: فهؤلاء القوم يقولون بنسخ كتاب بكتاب , ودين بدين , وشريعة بشريعة. هذا الزعم لا اساس له في القرآن.

فى الإنجيل، يقول السيد المسيح صراحة في اعلان شريعته على الجبل: لا تظنوا انى جئت لانقض الناموس او الانبيباء: ما جئت لانقض بل لأكمل ! الحق اقول لكم، انه إلى ان تزول السماء والارض لا يزول من الناموس ياء ولا نقطة حرف حتى يتم الكل" (متى 17:5)

وقد فسر القديس بولس في رسالته إلى الرومانيين (رو 2: 14-16) والى العبرانيين (عب 8- 13) معنى هذا التكميل: فالعقيدة واحدة، والشريعة الخالدة واحدة قد طبعها الله في طييعتنا قبل ان ينزلها على موسى في الالواح "فإذا ما الأمم الذين ليس عندهم ناموس عملوا طبيعيا بما هو في الناموس، فهؤلاء الذين ليس عندهم ناموس هم ناموس لانفسهم إذ يظهرون أن ما يفرضه الناموس مكتوب في قلوبهم، وضميرهم يشهد"

(رو14:2) ولكن هناك بعض الاحكام الثانوية المرتبطة بزمان ومكان فهى عرضة للتحول والتطور والتكميل ليس من قبل المشترع الالهى بل على ما يقضى رقى البشرية وحاجتها على مدى العصور: وليس هذا من النسخ في شىء.

والقرآن الكريم يجهل قضية نسخ دين بدين جهلا تاما. لا بل كله، روحا ونصا، ينفى تلك البدعة المسندة اليه.

ينكر أولاً نسخ عقيدة التوراة والإنجيل.

فالقرآن يعلم ان عقيدة الكتاب والقرآن الجوهرية، اى التوحيد، هى واحدة فكيف ينسخها؟ كل انبياء الله قد كرزوا بالتوحيد:" وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه انه لا اله الا انا فاعبدون " ( انبياء25)

ولا يوحى إلى محمد الا التوحيد:" قل انما يوحى إلى انما الهكم واحد، فهل انتم مسلمون"؟ (انبياء 108) فكيف يمكنه ان ينسخ هذا التعليم؟ والمسلمون يؤمنون بالكتاب كله (آل عمران 119 ) بالذى انزل اليهم والذى انزل إلى اليهود والنصارى (عنكبوت46 ) فكيف ينقض الوحى بعضه بعضا؟ ويعلن مرارا انه لا يفرق بين احد من رسل الله، ونحن له مسلمون[§§§§§§§§§§§§§§§] ( بقرة 136 و285، آل عمران 84، نساء 163 ) فكيف يبطل نبي نبيا ويعطل دعوته؟ والدين عند الله الاسلام، من نوح إلى محمد: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا

والذى اوحيا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه " (شورى 13)

فكيف يجسر احد بعد هذا التصريح وغيره ان يقول بأن القرآن او الاسلام نسخ ما قبله؟ من اين تراهم جاؤوا

بهذه البدعة!

والقرآن يأمر بالايمان بالكتاب فكيف ينسخه ! يطلب ايمانا واجدا بالكتابين " يا ايها الذين امنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله، والكتاب الذى انزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالابعيدا" (نساء 135) فكيف يجوز ان ندعى بأن القرآن قد ابطل الكتاب؟ ويعلن ايمانا واحدا بجميع الانبياء (آل عمران 84) فكيف ندعى انهم يدحض بعضهم بعضا؟ ويجعل الايمان بالتوراة والإنجيل وانبيائهما ركنا من اركان الاسلام: " ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين " (بقرة 177) فكيف نقول ان الاسلام نسخ ما قبله ! وكيف يأمر القرآن بالايمان بما ينسخه ويبطله ويلغيه !!

والقرآن تصديق الكتاب فكيف ينسخه ! " لقد جاءهم كتاب من الله مصدق لما معهم " (بقرة 89) "وهو الحق مصدق لما معهم " (91،97) فكيف ينسخ ما جاء تصديقا له ! " الله الحى القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه (قبله) وانزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " (آل عمران 3) فهل بطل هذا الهدى وقد جاء القرآن ليصدقه! ما هذه البدعة0 التى تفترى على القرآن نقبض ما يعلم صراحة ! ان إمامه في الهدى كتاب موسى وهو تصديق له:" ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين " (احقاق 12) فكيف ينقض القرآن هدى إمامه وهو يصدقه؟ ! من خصائص الكتاب إما مته للقرآن، ووظيفة القرآن تصديق الكتاب إنذارا للعرب المشركين وبشرى للكتابيين المحسنين: فكيف تنقض النسخة الاصل؟ وفى صورة المائدة نظرية القرآن النهائية في علاقة الإنجيل بالتةراة وعلاقة القرآن بهما: يصدق بعضهما بعضا ويشهد بعضهما لبعض: " وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه(قبله) من التوراة...وانزلنا اليك يا (محمد) الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه (قبله) من الكتاب ومهيمنا عليه"(52050) فالقرآن رقيب للكتاب، شاهد للتوراة والإنجيل، فكيف ينسخها؟ حقا انها لفريه كبيرة تلك القولة المشؤومة!!

والقرآن تفصيل الكتاب فكيف ينسخه؟ " ما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله، ولكن تصديق الذى بين يديه(قبله) وتفصيل الكتاب، لا ريب فبه، من رب العالمين " ( يونس 37) " جاء تصديقا اى مطابقا لما تقدمه من الكتب الالهيه المشهوده على صدقها، ولا يكون كذبا ! كيف لا وهو لكونه معجزا دونها، عيار عليها، شاهد على صحتها. وتفصيلا للكتاب اى تفصيل ما اثبت وحقق من العقائد والشرائع " (البيضاوى)؛ ان رب العالمين يفصل في القرآن عقائد وشرائع الكتاب، فكيف نقول انه ينقصها؟ويقول القرآن عن نفسه انه تفصيل الكتاب للعرب:" افغير الله ابتغى حكما وهو الذى انزل اليكم الكتاب مفصلا"(انعام 114) فكيف نفترى عليه ونقول انه ينسخه؟ انها مقالة سوء يقصد بها باطلا!

اصول الدين والتوحيد هدى ابدا لا تنسخ على الاطلاق.[****************]

ينكر القرآن ثانيا نسخ شريعة الإنجيل والتوراة.

قالوا لم ينسخ القرآن عقيدة الكتاب بل شريعته. كلا !بل نقل للعرب حسب رأيه شريعة الكتاب:"شرع لكم من الدين[††††††††††††††††] ما وصى به نوحا والذى اوحينا اليك – وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "(شورى 13 )

فكيف يبطلها؟ لقد شرع لجميع الانبياء شريعة واحدة وامرهم ان يقيموها ويعملوا بها، ولا يتفرقوا فيها، فكيف نزعم ان القرآن ينقض شريعة من تقدمه؟ يعلن القرآن عن نفسه انه يهدى العرب إلى سنن اهل الكتاب "يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم " (نساء25)[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] فكيف يهدى القرآن إلى شرائع الانبياء وندعى انه ينسخها؟

والقرآن يأمر اهل الكتاب بالعمل بما في احكام كتابهم، فكيف نقول انه ينسخها؟ يأمر اهل التوراة ان يحكموا بما انزل الله فيها:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور... ومن لم يجكم بما انزل الله فيها فأولئك هم الكافرون"

(مائدة47) فهل ناقض الله نفسه ونسخ هذا الأمر؟ واين؟ ثم يأمر اهل الإنجيل ان يحكموا بما انزل الله فيه:"وليحكم اهل الإنجيل بما انزل الله فيه" (مائدة50) فهل سنها الله وابطل امره؟ ويؤكد القرآن أمره:

"قل يا اهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل[§§§§§§§§§§§§§§§§] وما انزل اليكم من ربكم " (مائدة72) ويرغبهم في العمل بأحكام كتابهم:"ولو انهم اقاموا التوراة والإنجيل وما انزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم" (مائدة69) ألا تناقض نظرية النسخ تعاليم القرآن كلها؟؟

ليس في تعليم القرآن نسخ شريعة بشريعة. بل كما فسر الزمخشرى والبيضاوى سورة الشورى (آية13) والمائدة (آية 51) والانعام (90):يعلن وحدة الاصل في الدين والشريعة،مع الاستقلال والاختلاف في فروع الشرع[*****************]. وهذا الاختلاف في الفروع الشرعية لاينقض وحدة الاصول فيها وكم بالاحرى وحدة التوحيد. يقول القرآن في اول العهد بالمدينة بعد تغيير القبلة في الصلاة , وهى عنوان تغيير المذهب والملة: " ولكل وجهة هو موليها: فاستبقوا الخيرات " ( بقرة 148 )[†††††††††††††††††]. امة من الموحدين قبلة في صلاتهم ولاهم الله إياها ليتسابقوا في عمل الخير والصلاح: فلا تنسخ قبلة قبلة !

وفى منتصف العهد يصرح: " لكل امة جعلنا منسكآ ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام , فإلهكم اله واحد فله أسلموا " ( الحج 34)[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] يقول: " لكل جماعة مؤمنة سلفت قبلكم جعلنا ذبحآ وقربانآ ( أو مكان ذبح وقربان ) ليذكروا اسم الله عند ذبحها , فإلهكم اله واحد فله اسلموا " فتنوع طرائق العبادة لايعتبره القرآن اختلافآ في التوحيد ! فلا تنسخ ضحية ضحية ! ويقول أيضاً: " لكل امة جعلنا منسكآ هم ناسكوه: فلا ينازعنك في الامر " ( حج 67 ) اى " لكل امة جعلنا شريعة هم عاملون بها فلا تنازعنهم في الامر , وادع إلى دين ربك انك لعلى دين مستقيم " ( الجلالان ) فاختلاف الشريعة لايعنى اختلاف التوحيد حتى ولا نسخ الشريعة السابقة.

وفى آخر العهد بالمدينة , يقر اهل التوراة على دينهم ( مائدة 46 ) واهل الإنجيل على حكم كتابهم (50 ) واهل القرآن على تشريعه (51 ) ويختم بقوله: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجآ ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة. ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات , إلى الله مرجعكم جميعآ " ( 51 ) فسره الجلالان:

" لكل جعلنا منكم ايها الامم شريعة وطريقآ واضحآ في الدين تمشون عليه ولو شاء الله لجعلكم على شريعة واحدة ولكن فرقكم فرقآ ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة , لينظر المطيع منكم والعاصى , فسارعوا إلى الخيرات ". وهكذا فقد أقر القرآن كل امة من امم التوحيد على شرعها المختص بها وهذا الاختصاص بشرع مختلف لا ينقض وحدة الشريعة الاصلية , ولا وحدة العقيدة الدينية.

فالقول بأن القرآن نسخ شريعة الكتاب[§§§§§§§§§§§§§§§§§] فرية على الاثنين: روح القرآن ونصه يقضيان عليها قضاء مبرمآ: فنظرية القرآن تؤكد وحدة الايمان , ووحدة الشريعة الاساسية , مع اختصاص واختلاف في الاحكام الثانوية لكل من اليهود والنصارى والمسلمين ؛ وقد صرح ببقاء شريعة الإنجيل والتوراة ملزمة لاهلها , كما اعلن أن أحكام القرآن لا تلزم سوى أهله[******************].

والقائلون ببدعة النسخ لا سند لهم سوى آية النسخ هذه: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها: ألم تعلم ان الله على كل شئ قدير " ( بقرة 106)[††††††††††††††††††]. في اسباب النزول: " أخرج ابن ابى حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: ربما نزل على النبي الوحى بالليل ونسيه بالنهار فأنزل الله الآية ( ما ننسخ ). قال الجلالان: " لما طعن الكفار في النسخ وقالوا: ان محمدآ يأمراصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدآ نزلت: ومعناها ما ننزل حكم آية , مع لفظها أولاً , أونمحها من قلبك , نأت بأنفع منها للعباد في السهولة أو كثرة الاجر ". قال البيضاوى: " نزلت لما قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر اصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه... ونسخ الآية بيان انتهاء القيد بقراءتها او الحكم المستفاد منها او بهما جميعآ ". وهكذا انزلت الآية ردآ على شكوك المشركين والكتابيين والمسلمين في تبديل آى القرآن , والآية صريحة على اقتصار النسخ على آيات القرآن , يقع فيها ومنها وعليها , لا يتعداه إلى سواها. وعليه قال السيوطى: " إن النسخ مما اختص به الله هذه الامه ".فنقلوا فكرة النسخ المحصورة في القرآن إلى أمم اخرى وعمموها على الكتب المتقدمة ؛ بينما خصها القرآن بآيه فقط.

فلا أساس على الاطلاق في الآية وما حولها من معنى نسخ دين بدين وكتاب بكتاب وشريعة بشريعة. بل بالعكس يلزم القرآن كل امة بالتقيد بشريعتها ويفرض القرآن على النبي والمسلمين احترام شريعة الإنجيل والتوراة واحكامها ( مائدة 49 – 51 ).

وقد يقول قائل ان القرآن كمال النبوة ومحمد خاتم النبيين , وقد تضمن كتاب النبي الأمى " تفصيل الكتاب " كله ( يونس 37 ) فلا حاجة بعده إلى نبي او كتاب سابق او لاحق[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡]: فهو يكفى وحده. – لقد نسى هؤلاء القوم ان القرآن يعتبر الكتاب المقدس إمامه ( احقاف 12 ). ومحمد نفسه يعلن انه كان يقتدى بأنبياء الكتاب ويتبع هداهم ( انعام 90 ) فكيف يقولون انه ينقض نبوتهم وينسخ رسالتهم ويستغنى عن كتبهم ! ويصرح القرآن بأن محمدآ كان يتبع الكتاب والقرآن على الواء: " قالوا سحران تظاهرا , وقالوا إنا بكل كافرون ! – قل فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما اتبعه ان كنتم صادقين " ( قصص 49 ) ألا يليق بنا ان نقتفى اثار النبي العربي فنتبع الكتاب الذى كان إمامه ونقتدى بهدى انبيائه؟

ونختم هذا البحث بدليل عام على استحالة نسخ القرآن للكتاب , والاسلام لدين الإنجيل والتوراة , من تصريحات القرآن بأنه " لا مبدل لكلمات الله " ( انعام 34 و 115 ) بنقض او خلف ( الجلالان ). فلا تبديل لوحى الله: " واتل ما أوحى اليك من كتاب ربك: لا مبدل لكاماته " ( كهف 27 ) ولا تبديل لمواعيد وحيه: " الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة: لا تبديل لكلمات الله , ذلك هو الفوز العظيم " ( يونس 64 ) قال البيضاوى " لا تغيير لاقواله ولا اخلاف لمواعيده ". كيف يعلن القرآن ان كلام الله لايبدل , والإنجيل " إنه إلى ان تزول السماء والارض لا يزول من الناموس ياء ولا نقطة حرف حتى يتم الكل " ونفترى نحن عليهما ببدعة النسخ.

فنسخ دين بدين , وكتاب بكتاب , وشريعة بشريعة , ونسخ الاسلام والقرآن للانجيل والتوراة , إنما هى بدعة مغرضة وفرية مفضوحة لا اثر لها في القرآن الكريم. فالقرآن يهتدى بهدى الكتاب وقصصه وسننه ( انعام 90 , نساء 25 ) ويهدى بها واليها , فلا ينسخها ولا ينقضها ولا يبطلها ولا يستغنى عنها. والنسخ المذكور في القرآن ( بقرة 106 ) يقتصرعلى آى القرآن وحده لا يتعداه إلى سواه:

" ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها ".

القرآن يشهد بالصحة للكتاب الموجود في زمانه

" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته , اولئك يؤمنون " ( بقرة 121 )

اى " يقرؤونه كما أنزل " ( الجلالان )

إنها تهمه شائعة بين الجهلة من المسلمين أن الكتاب الذى بين ايدى اليهود والنصارى محرف: فلايمكن أن نطمئن إلى صحته. أجل يشهد القرآن للكتاب ولكن لذلك الكتاب الذى نزل على موسى وعيسى , وليس للذى بين ايدى الناس اليوم , أو للذى كان في زمن محمد. فشهادته لا تصدق على التوراة والإنجيل في صورتهما الراهنة...

أما العقلاء منهم والراسخون في العلم فيقولون معنا بأن القرآن يشهد للكتاب بصحته , وللتوراة والإنجيل الموجودينفى زمانه بسلامتهما من التحريف[§§§§§§§§§§§§§§§§§§].

نجد دليلآ عامآ حيث يقول إنه " لا مبدل لكلمات الله"[*******************].

فالقرآن يردد أنه " لامبدل لكلمات الله " ( انعام 34 و 115 , كهف 27 , يونس 64 ). وقد وردت في (انعام 34 ) بمعنى لايخلف الله مواعيده لأنبيائه المرسلين بنصرهم على قومهم الكافرين: أليس حفظ الوحى من ضمن هذا النصر الموعود؟ بتنزيل القرآن تمت كلمة الرب التى لا مبدل لها: " أفغير الله أبتغى حكمآ وهو الذى أنزل اليكم مفصلآ... وتمت كلمت ربك صدقآ وعدلآ , لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " ( انعام 114 و 115 ) أى تمت كلمة الله بالأحكام والمواعيد , صدقآ وعدلآ , لا مبدل لكلماته بنقض أو خلف[†††††††††††††††††††]. فبلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده لا أحد يبدل شيئآ منها بما هو اصدق واعدل[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡]. لاحظ أن القرآن " كلمت من الرب " وقد سبقت له " كامات " , وعدم التبديل بالنقض او الخلف او التحريف او النسخ[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] يشمل كل كلمات الرب: فكلام الله لا يتغير ولا يمكن ان يلحفه تحريف لا معنى ولامبنى. فلا يليق بالله ان يغير وحيه , ولا المؤمن به الحافظ له يستطيع ذلك: " واتل ما اوحى اليك من كتاب ربك: لا مبدل لكلماته " ( كهف 37)[********************] فالقرآن وحى من كتاب الله السابق لا يقدر النبي ذاته ان يبدله , ردآ على قولهم " ائت بقرآن غير هذا او بدله ". لانه لا أحد يقدر على تغيير كلمات الله التى أنزلها. فكلام الله لا يلحقه التحريف في الفاظه ولا في معاًنيه: " الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الآخرة: لاتبديل لكلمات الله ! ذلك هو الفوز العظيم " ( يونس 64 ) " فلا تغيير لأقوال الله ولا إخلاف لمواعيده[††††††††††††††††††††]".

فالتوراة والزبور والإنجيل كلام الله فاذا كان كلام الله لا يبدل على الاطلاق فكيف يمكن ان يتسرب التحريف والتبديل والتغيير إلى الكتاب المقدس[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡]. واذا كان الكتاب في زمن محمد قد تطرق اليه التحريف فكيف جاز للقرآن ان يقول على الاطلاق " لامبدل لكلمات الله " وما القرآن سوى " كلمت " منها , و " وحى " مأخوز من كتاب الله؟

ونجد دليلآ عامآ آخر في تسمية الكتاب المقدس الذى كان بين ايديهم في زمن النبي العربي: " كتاب الله " و " كلام الله ".

جاء في القرآن: " ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب , كتاب الله , وراء ظهورهم كأنهم لايعلمون " ( بقرة 101 )[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§]. فهو يسمى التوراة الموجودة في أيامه " كتاب الله " الذى يصدقه ويشهد له , ويستشهد به ضد اليهود فينبذونه وراء ظهورهم. وأيضاً: " ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرآ في كتاب الله يوم خلق السماوات والارض " ( توبة 37 ). فكيف يجوز للقرآن ان يسمى التوراة او الإنجيل كتاب الله اذا كان محرفآ؟

ويسميه أيضاً: الكتاب المنير " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير " ( آل عمران 184 ). اى الواضح وهو التوراة والإنجيل ( الجلالان ).

ويحتكم النبي في خلافاته مع اليهود إلى كتاب الله الذى بين ايديهم في عصره " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبآ من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ,ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ! ذلك بأنهم قالوا: لن تمسنا النار الا أيامآ معدودات , وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون " ( آل عمران 23و 24)[*********************]. يستشهد محمد بالتوراة ويحتكم اليها ويقبل حكمها: فكيف جاز له ذلك لو كان يعتقد انها محرفة؟ وكيف يمكن ان يسميها " كتاب الله "؟

ويجئ النص القاطع: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور , يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا , والربانيون والاخبار بما استحفظوا من كتاب الله , وكانوا عليه شهداء " ( مائدة 47 ): يسمى التوراة التى بها حكم النبيون وبها يحكم الربانيون والاحبار " كتاب الله ": فلو ان في التوراة او الإنجيل تحريفآ لما جاز له ان يسميهما كتاب الله على الاطلاق , دون ان يقيد هذه التسميه.

التوراة هى كتاب الله وهى أيضاً كلام الله: " افتطمعون ان يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما علقوه وهم يعلمون " ( بقرة 75 )[†††††††††††††††††††††] اى كيف تريدون ايها المسلمون ان يؤمنوا بذكركم ولا يفسرونه على هواهم وقد كانوا يؤولون كلام الله المنزل اليهم حسب اهوائهم بعد ان فهموه تمامآ , وخالفوه وهم يعلمون , فحاذروا مخادعتهم لكم. فالقرآن يسمى " كلام الله " التوراة الموجودة في زمنه والتى نزلت على موسى , وفسرها قوم موسى ويهود عصر النبي على هواهم ؛ ورغم هذا التأويل فهى تظل " كلام الله ".ولايمكن ان يسميها " كلام الله " لو كانت محرفة مبدلة مغيرة !

ويسمى الكتاب " آيات الله " بقوله: " يااهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون " ( آل عمران ) قال الزمخشرى: " آيات الله التوراة والإنجيل ؛ وكفرهم بها انهم لايؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله " ويسفههم على مخالفتها. وأيضاً: " فيما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق " ( نساء 154 ). وأيضاً: " ولا تشتروا بآياتى ثمنآ قليلآ " ( مائدة 47 ).

ويشهد القرآن بأن النصارى واليهود في زمانه يتلون كتاب الله حق تلاوته كما أنزل.

جاء في سورة البقرة: " الذين آتيناهم الكتاب – يتلونه حق تلاوته – اولئك يؤمنون به , ومن يكفر به فأولءك هم الخاسرون " ( 121 )[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] – هل بعد هذه الشهادة الصريحة من صراحة: الكتاب الذى نزل على موسى وعيسى وسائر النبيين , يتلوه المؤمنون به في زمن النبي " حق تلاوته " اى يقرأونه كما أنزل ( الجلالان ). أجل يتلون الكتاب الذى يؤمنون به " حق تلاوته " بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه ( البيضاوى ).واهل الكتاب على حق في ايمانهم بكتابهم لأن من يكفر بهذا الكتاب المقدس فهو من الخاسرين. فالنص واضح والتفسير صريح وكلاهما شهادة قاطعة بصحة الكتاب الموجود في زمن النبي , وصحة تلاوته. والقرآن يكفر من ينكر ذلك ويتوعده.

فهذا النص القاطع يكفى وحده لتأثيم تهمة التحريف اللفظى او المعنوى: فاليهود والنصارى " يتلون كتابهم حق تلاوته ".

ويختصم اليهود والنصارى , ويكفر بعضهم بعضآ فيعجب محمد لذلك لأن الطائفتين تتلوان الكتاب: " وقالت اليهود ليست النصارى على شئ , وقالت النصارى ليست اليهود على شئ. وهم يتلون الكتاب ! " (بقرة 113)[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] يوبخ القرآن الفريقين على تكفير بعضهم بعضآ وانكار نبي الفريق الآخر وكتابه , وهم يتلون الكتاب: الواو للحال , والفعل مضارع يدل على دوام الحال. يستغرب القرآن وينكر هذه المناظرة وهذه المقاولة , فالفريقان "يلون الكتاب المنزل عليهم وفى كتاب اليهود تصديق عيسى وفى كتاب النصارى تصديق موسى " ! ( الجلالان ). فلو كان القرآن لا يعتقد بصحة التوراة والإنجيل الموجودين في زمانه , وصحة فهمهما , لما بقى بحال لدهشته.والنبي الامى يوبخ اهل الكتاب على اهمال العمل بموجبه وهم يتلون الكتاب , فهم لذلك ألزم من غيرهم بإقامته: " أتأمرون ( يابنى اسرائيل ) الناس بالبر وتنسون أنفسكم , وانتم تتلون الكتاب افلا تعقلون ! ( بقرة 44 )[**********************]. يتعجب كيف يأمرون الناس بالايمان (41) والصدقة (43 ) وينسون انفسهم وهم ألزم الناس بذلك لانهم يعلمون من تلاوة التوراة وعيد الله على مخالفة القول العمل. فأى بر في التلاوة والامر لو كان الكتاب محرفآ؟ وأى مبرر للتبكيت لو كان كتاب الله الذى يتلون مبدلآ؟ واى معنى للاية كلها لو كان الكتاب الذى يتلونه غير ما انزل الله؟؟

ويمدح القرآن رهبان عيسى على تلاوة آيات الله أناء الليل وهم يسجدون ويثنى على صلاحهم وتقواهم: " ليسوا سواء ! من اهل الكتاب أمة قاءمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ويسارعون في الخيرات. واولئك من الصالحين وما يعملوه من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين " ( آل عمران 133 )[††††††††††††††††††††††]. تجد هذه الآية تفسيرها في سورة المائدة (85 ). ليس الخطاب للمسلمين فقد انتهى منه ( 100- 110 ) ؛ وليس لليهود ( 110 – 113 ) , فهو يستثنى منهم هذه الأمه التقية , امة عيسى ورهبانه فهم اكثر مودة للذين آمنوا ولا يستكبر القسيسون منهم والرهبان عن احترام النبي الأمى ( مائدة 85 ). فهذه الأمة الصالحة يتلون كتاب الله " كما انزل " معنى ومبنى: معنى من حيث إنهم " يؤمنون بالله واليوم الآخر " , ومبنى من حيث " يتلون آيات الله ". يؤمنون ويعملون بموبموجب ايمانهم لأنهم " يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ". وهم من الصالحين الذين لايضيع اجرهم. فهو يشهد بأنهم " يتلون آيات الله" , وهذه الشهادة تنطق بصحة كتابهم وصحة تلاوته. والا فكيف ينسب اليهم الصلاح اذا جازانهمحرفوا الكتاب , اوقبلوا كتابآ محرفآ , او سمحوا بتحريفه؟ ومهماكانت الامة المقصودة , فالأصل هو الكتاب المتلو , اى الكتاب المقدس " آيات الله ". فكيف يمكنه ان يسمى كتابهم " آيات الله " اذا لم يكن بعد إلى زمنه " آيات الله "؟

فيأمر محمد قومه أن يؤمنوا بالكتاب: " ياايها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل " ( نساء 135 ) فكيف يأمرهم أن يؤمنوا بكتاب قد تحرف وضاعت صورته الأصلية؟ فهل يجوز ان يأمرهم بالايمان بكتاب كأنه من الله وهوليس بعد من الله؟ ان أمرآ كهذا لايفهم مع امكان التحريف! بل هو مشاكة في التحريف وموافقة عليه ! يقولون انه يأمر بالايمان بالكتاب السماوى , أو بالذى انزل على عيسى وموسى , وليس بالكتاب الموجود في زمن النبي مع اليهود أو النصارى. – ان هذا القول لمردود لان التصاريح تؤكد انه يخاطب ويقصد اهل الكتاب في زمانه , وكتابهم الذى يتلونه: " وقل آمنا بالذى أنزل الينا وأنزل اليكم " ( عنكبوت 46). أيؤمنون بشئ لا وجود له؟ ! أيأمرهم بالمحال؟ فلو تغيرت التوراة والإنجيل قبل زمن محمد , كيف كان يسمح أو يأمر قومه العائشين معه بالايمان بها؟

والايمان بالكتاب كله ,من التوراة إلى الزبور إلى الإنجيل إلى القرآن , من أركان الاسلام حسب الآية الشهيرة: " ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب. ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين " ( بقرة 177): أيكون الكتاب المزور موضوع ايمان , وباب خلاص؟ أليس من العبث تحريضهم على الايمان بكتاب زالت صحته وضاعت صورته , وبدلت نبوته؟ وكيف يجوز الايمان بالكتاب كأساس في الدين مع امكان الشك في صحته؟ وكيف يعلن ايمانه وايمان المسلمين بالكتاب كله: " هاانتم أولاًء تحبونهمولا يحبونكم , وتؤمنون بالكتاب كله " ( آل عمران 119 ) " والحال انكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم " ( الزمخشرى )؟

فالقرآن يعدد الشهادات والتحريضات والاوامر على الايمان بكتاب منزل موجود لا بكتاب غير موجود , والا فهى مناقضات لا معنى لها.

ويشهد القرآن لنفسه انه يصدق الكتاب الذى مع اليهود والنصارى في زمانه: فهل يصدق التحريف والتزوير؟؟ قال: " أنزل اليك الكتاب بالحق مصدقآ لما بين يديه " ( قبله ) , وقد جاء ذلك في مواضع شتى في اعراف , يونس , يوسف , انعام , فاطر. إنه يصدق الكتاب الذى مع بنى اسرائيل الذين يخاطبهم: " يابنى اسرائيل آمنوا بما أنزلت مصدقآ لما معكم " ( شورى )[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] ؛ ويحرض اهل الكتاب على الايمان بالقرآن لانه يصدق " لما معهم " ( بقرة 41 و89 و 91 ) , وأيضاً: " ياأيها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما انزلت مصدقآلما معكم " ( نساء ). وأيضاً: " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقآ لما معهم " ( بقرة 89 ). والرسول أيضاً يصدق لما معهم: " ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم , نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب , كتاب الله , وراء ظهورهم كأنهم لايعلمون " ( بقرة 101 )[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§].

فهل يمكن ان يصدق القرآن كتابآ قد حرف وضاع كلام الله فيه؟فكيف يجسرون على القول بان القرآن لا يقصد بتصديقه الكتاب المقدس الموجود في زمانه مع اليهود والنصارى , وهو يعنى بكل صراحة الكتاب " الذى معهم "!

إنهم يفترون على القرآن مالايعلمون !

وحكم العربي؟ " ولوانهم اقاموا التوراة والإنجيل , وما أنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم , ( مائدة 69)[***********************] فهل يقصد معاًصرىموسى او عيسى , ام يخاطب معاًصرى زمانه؟ انه يأمر يهود ومسيحى زمانه ان يعملوا باستقامة حسب كتابهم لأن ما فيه " أنزل اليهم من ربهم ". والعمل بموجب التوراة والإنجيل سبب سعادة لهم , لو فطنوا , ينالون من ورائهما خيرات الدنيا كلها.

وهو يحرض على تتميم احكام الكتاب تحريضآ بليغآ متواصلآ: " قل يااهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما انزل اليكم من ربكم " (مائدة 71 ) – قل بربك هل يقصد كتابآ مضى , وقومآ مضوا؟ ألا يخاطب كتابى وقته ويقصد التوراة والإنجيل الموجودين معهم؟ فهل يجوز ان يبالغ القرآن في التحريض على اتمام شرائع الكتاب اذا فرضنا التحريف والتزوير في كلام الله وإرادته واحكامه؟ ام هل تنسجم فكرة التحريف الكلى او الجزئى , اللفظى او المعنوى , مع هذه الأوامر المتواصلة؟

بتهمة التحريف يفرضون المتناقضات على القرآن , ويحملونا على قبولها ! ألا ساء ما يفترون !

والقرآن يأمر اهل الكتاب ان يحكموا بما فيه لانه حكم الله. فالكتاب الذى يشهد القرآن على صحة ما فيه من احكام الله , ويطلب تنفيزها , لايجوز ولا يقبل على الاطلاق ان يكون محرفآ !

فالإنجيل فيه حكم الله ويجب ان يحكم اهل الإنجيل بما فيه من أحكام: "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه[†††††††††††††††††††††††]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فيه فاولئك هم الفاسقون " ( مائدة 50 ) ؛ فحكم الإنجيل منزل من الله , والقرآن يأمر اهل الإنجيل في زمانه ان ينزلوا عند أحكام الله التى في كتابهم , وفاسق من لايحكم بما أنزل الله فيه. فهل حرفت احكام الله؟ وكيف يقيدنا بأحكام محرفة؟

والتوراة كذلك , تلك التى في عصر محمد , فيها أيضاً حكم الله: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا , والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( مائدة 47 )[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] إنه يكفر من لايحكم بأحكام

_________________

(1)

(2)

-57-

التوراة لأنها هدى ونور , وهى كتاب الله , انزله الله , بها حكم الأنبياء قديما , وبها يحكم اليوم الربانيون والاحبار , كهنة اليهود وعلماؤهم لانهم لم يزالوا شهداء على كتاب الله وأحكامه يحفظونها وينفذونها. فكيف نجترئ على القول بأنها ليست كتاب الله وأحكامه؟ وكيف نكذب القرآن الذى يشهد ان علماء اليهود في زمانه شهداء على صحة الكتاب وحقيقته؟

بل يوبخ القرآن النبي الجديد فيما لو فكر ان يعدل بهم عن كتابهم: " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ! " ( مائدة 46 )[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§]: الخطاب لمحمد عن يهود زمانه يحذره من الحكم بينهم بغير ما أنزل الله في التوراة من أحكام , كأن القرآن يردهم إلى احكام كتابهم التى هى من الله. فأى معنى لهذا التحذير للنبي , ولارجاع اهل الكتاب إلى كتابهم لو أن لتهمة التحريف ظلا في ضمير محمد؟

فكل كلمة من هذه الآيات تنفى شبه التحريف في الإنجيل أو في التوراة: فأمر القرآن بالحكم في الحاضر والمستقبل بما أنزل الله في الكتاب المقدس , والتكفير لمن يرفض أحكام الإنجيل والتوراة المنزلة من الله , وهذا التوبيخ للنبي الامى فيما اذا حاول ان يفرض نفسه حكمآ على اهل الكتاب لا تفهم مطلقآ مع فكرة التحريف ومحمد يحتكم إلى الكتاب اذا اختلف مع اهل الكتاب او غيرهم. فلو شك النبي في صحة الكتاب او في سلامته من التحريف هل كان اتخذه شاهداً وحكمآ في صحة رسالته وصدق قرآنه قال: " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبآ من الكتناب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " ( آل عمران 23): يرفض اليهود النبي الجديد فيحتكم إلى التوراة " كتاب الله " الذى بين ايديهم فيعرضون. ومع ذلك يشهد بأنهم يعرفون صحة تعليمه من كتابهم: " وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم " ( بقرة 144 ) ؛ انهم يعرفون صدق كرازة القرآن ولو كتموا الحق: " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ( محمدآ او القرآن ) كما يعرفون ابناءهم وإن فريقآ منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون , الحق من ربكم فلا تكونن من الممترين " ( بقرة 146 و147 )[************************]. يعتد بشهادة الكتاب , ويسميها " الحق من ربك " ! فكيف تبقى حقآ وقد حرفت؟ وكيف يستشهد بما ليس حقآ؟ وكيف يعاتبهم على كتمان شهادة مزورة , وحق مكذوب؟

اختلف محمد مع اليهود لقولهم: " لن تمسنا النار إلا ايامآ معدودات "( آل عمران 24 ) فدعاهم إلى " كتاب الله " فأعرضوا (23 ). حاججهم في قوله: " ان الذين عند الله الاسلام " اى التوحيد , فأنكروا وقد علموا ذلك من كتابهم " وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيآ بينهم ومن يكفر بآيات الله فان الله سريع الحساب " ( آل عمران 19 ) , كفروا بآيات الله التى يعلمونها من كتابهم. ونزل لما قال اليهود إنك تزعم انك على ملة ابراهيم وكان لا يأكل لحوم الابل وألبانها , فخاصمهم قائلآ: " كل الطعام كان حلآ لبنى اسرائيل – الا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة ؛ قل فاتوا بها فاتلوها ان كنتم صادقين " ( آل عمران 93 ).

فهل كان احتكم محمد إلى التوراة التى في زمانه بين بين ايديهم , وطلب اليهم ان يتلوها أمامه لو لم تكن هى هى نفسها " كتاب الله " و " الحق" الذى انزله , وفيها " آيات الله " إلى زمانه والى أبد الدهر؟ أمن الممكن ان يحتكم القرآن إلى كتاب محرف او مغشوش؟ !

محمد يستشهد على صحة تعليمه من صحة الكتاب الذى بيد اليهود والنصارى. اذا شك احد في صحة ما يوحى إلى محمد فعليه ان يعرضه على الكتاب السابق , فإنه إمامه في الهدى ( أحقاف 12 ) بل هو منه " تنزيل رب العالمين , بلسان عربي مبين , وإنه لفى زبر الأولين " ( شعراء 197 ) اى في كتبهم كالتوراة والإنجيل ( الجلالان ). فمن شك في صحة الوحى الجديد , ونبيه , وطريقته فليسأل أهل الوحى القديم: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالآ نوحى اليهم فاسألوا أهل الذكر[††††††††††††††††††††††††] ان كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر " ( نحل 43 ). لاحظ انه يستشهد مباشرة بأهل الذكر وليس بكتابهم فقط مما يدل على صحة فهمهم له. ويتخذ شهادتهم آيه له: " أولم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بنى اسرائيل؟ " ( شعراء 197 ). فحجة محمد انما هى مطابقة تعليمه لتعليم اهل الكتاب , ومطابقة قرآنه للذكر الحكيم وزبر الأولين.

فهل يجوز أو يعقل ان يستشهد القرآن لنفسه بكتاب محرف وبعلماء محرفين؟

القرآن يعاتب اهل الكتاب على اختلافهم فيه، وعلى كتمانه. لقد جاءفى القرآن قوله: " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذلين، وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ؛ وما اختلف فيه الا الذين أتوه من بعد ما جاء تهم البينات بغيا ً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه، من الحق " ( بقرة 213)، فالذين آمنوا على عهد محمد اهتدوا إلى ما اختلفوا فيه من حق الكتاب الذى نزل بالحق على النبيين: يشهد اذن بصحة نزول الكتاب، وبصحة بقاء الحق المنزل إلى يومه.

ومن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببغضه يعده القرآن وغيدا ً شديداً ؛ " أفتئمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياه الدنيا ويوم القيامة يردوه إلى اشد العذاب " [‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡]

: ايتوعد اهل الكتاب بالهلاك لكفرهم ببعض الكتاب لو كان لا يؤمن كله.

ويهددهم بالنار الابدية اذا كتموا الكتاب الذى انزله الله بالحق او اختلفوا فيه: " ان الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب، و يشترون به ثمنا ً قليلا ً اولئك ما يأكلون في بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم... ذلك بان الله نزل الكتاب بالحق و ان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " (بقرة 174و 176 ).

هل من معنى لهذه التهديدات الشديدة لو لم تبق حقيقة الكتاب ثابتة كاملة كما أنزلت بالحق، إلى يوم محمد؟

القرآن يحيل محمدآ إلى اهل الكتاب ليطمئن في حالات الشك من نفسه ومن وحيه. إلى من يجهل أمور الوحى وطرائقه يقول دائمآ: " فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ". فإذا كان هؤلاء لا يؤتمنون على كتابهم , فكيف جاز له ان يحيل الناس اليهم ليطمئنوا في ايمانهم؟

واذا ارتاب محمد من نفسه , ومن حقيقة ما يوحى اليه , فعليه ان يطمئن نفسه ويوطد ايمانه عند أهل الكتاب الأول: " فإن كنت في شك مما أنزلنا اليك , فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك " ( يونس 94 ) فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§], فهو يصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل اليهم وأنزل محمد[*************************]. لاحظ ان القرآن يحيل محمدآ إلى اهل الكتاب , لا إلى الكتاب مباشرة , وهذه شهادة لهم على صدق أمانتهم في حفظ الكتاب , كما أنها شهادة على صحة الكتاب ذاته.

فهل يجوز ان يحيل القرآن محمدآ إلى وحى مزور , محرف , ضاعت صورته الأولى؟ أيجتمع الوحى الصادق مع وحى كاذب؟ !

وهل يمكن ان يطمئن رسول الله عند محرفين لكتاب الله؟ ما معنى هذه المواقف المتناقضة؟

ونختم بتصريح عام من القرآن على استحالة التحريف: ذلك ان الله يحفظ وحيه وكفى به حفيظآ !

جاء في القرآن: " إنا نحن نزلنا الذكر , وإنا له لحافظون " ( حجر 9 ) قالوا ان المقصود بالذكر هنا هو القرآن[†††††††††††††††††††††††††] بناء على قوله: " وقالوا ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون " ( حجر 6 ). وفاتهم ان لفظة ذكر معناها الوحى , وقد وردت صفة ونعتآ واسمآ للتوراة والإنجيل والقرآن على السواء: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادى الصالحون " ( انبياء 105 ) " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرآ للمتقين. وهذا ذكر مبارك أنزلناه " ( أنبياء 48و 50 ). فالقرآن كما سنرى يطلق اسماء " الذكر والفرقان والكتاب " على التوراة والإنجيل والقرآن على السواء: لقد وحدها في التعليم , ألا يوحدها في التسمية ! وهكذا فالله يحفظ وحيه " من التبديل والتحريف والزيادة والنقص " كما قال الجلالان. وحفظ الذكر من عواذى الزمن يشمل كل وحى انزله الله , وإلا أضاع الله الفائدة من وحيه. الله مكلف بحفظ وحيه كى لا يضيع فائدته الخلاصية على الاجيال المتعاقبة , وكفى به حفيظآ !

فكل هذه الشهادات وكثير غيرها تدل دلالة جامعة مانعة على انه لا تحريف في الكتاب منذ نزوله إلى زمن محمد , وأنه يستحيل ذلك. فشهادتة القرآن قاطعة نهائية على صحة الكتاب في زمن النبي فانهم " يتلونه حق تلاوته " كما انزل[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡].

هل يقول القرآن الكريم بتحريف الكتاب المقدس؟

" يحرفون الكلم عن مواضعه " ( نساء 45 مائدة 14 و 44 ).

يقول بعض الجهلة من المسلمين: " يختلف الاسلام اختلافآ جوهريآ في عقائده وتشاريعه ونظمه عن كلتا الديانتين الاسرائيلية والمسيحية في صورتيهما المعروفتين الآن بل في صورتيهما اللتين كانتا في عهد محمد عليه الصلاة والسلام. صحيح أن القرآن قد ذكر في اكثر من موضع أنه فيما يقرره من عقائد قد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل. ولكن القرآن يقصد التوراة والإنجيل في صورتهما الأولى قبل ان يدخلهما التحريف ويقرر أن هذه الصورة قد بدلت وغيرت وحرفت عن مواضعها وطمست جميع معاًلمها فيما يسمى الآن بالديانتين اليهودية والمسيحية ".[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§]

- فهل من تحريف في الكتاب المقدس؟

- وهل شهد القرآن بهذا التحريف؟[**************************]

ان التهمة لخطيرة ؛ وهى ترد في كل مناسبة ؛ بل هى سلاحهم الاخير كلما قام جدل. لذلك سنوفيها حقها من التمحيص , فنذكر الآيات التى جاء فيها معنى التحريف تلميحآ أو تصريحآ ثم نرى ما يقصد بها القرآن أتغيير النص أم تأويل المعنى.

أولاً: النصوص التى تحمل تهمة التحريف

سورة البقرة 1 ) " يابنى اسرائيل... آمنوا بما أنزلت مصدقآ لما معكم ولا تكونوا اول كافر به. ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا، وإياى فاتقون. ولا تلبسوا الحق وأنتم تعلمون. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم و انتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون؟" (14- 44)*.

2) " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. واذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا؟ واذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: اتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون؟ فويل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله ليشتروا به ثمنآ قليلآ؟ فويل لهم مما كتبت ايديهم؟ وويل لهم مما يكسبون؟" (75-79). ‍ ‍

3) "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببغض؟" (80).

4) " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا , فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. بئسما اشتروا به انفسهم أن يكفروا بما أنزل الله , بغيآ أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين. واذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله , قالوا: نؤمن بما أنزل علينا , ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقآ لما معهم " ( 89 –91 ).

5) " ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب , كتاب الله , وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوالشياطين " (101 ).

6) " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم... ( 120 ) الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به. ومن يكفر به فاولئك هم الخاسرون " ( 121 ).

7) " وان الذين اوتوا الكتاب يعلمون انه الحق من ربهم. وما الله بغافل عما يعلمون " ( 124 ).

8) " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وان فؤيقا منهم ليكتمونالحق وهم يعلمون " ( 146 ).

9) " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويسترون به ثمنآ قليلآ , اولئك ما يأكلون في بطونهم الا النار... ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق. وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد " ( 174 و 176 ).

_____________________

وفسره البيضاوى: ( أفتطمعون ) الخطاب للنبي والمؤمنين , ان يصدقوكم لاجل دعوتكم. يعنى اليهود. وقد كان طائفة من اسلافهم يسمعون التوراة ( ثم يحرفونه ) كنعت محمد ص. وآية الرجم. أوتأويله: فيفسرون بما يشتهون. وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره ان استطعتم ان تفعلوا هذه الاشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا , فلا بأس. كذلك الزمخشرى.

ومفاد تفسير الثلاثة أن الحديث عن اليهود وحدهم وعن التوراة وحدها. وان التحريف المذكور هو كتمان نعت محمد وآية الرجم او تأويلهما على ما يشتهون ؛ وفى ذلك إسرارهم الكفر واعلانهم الايمان.

بقرة 85 أفتؤمنون بالفداء المذكور في الآية 85 وتكفرون ببعض وهو ترك القتل والاخراج والمظاهرة لقومهم على حلفائهم.

بقرة 89 ( فلما جاءهم ما عرفوا من الحق ) وهو بعثة محمد كفروا به حسدآ وخوفآ على الرئاسة.

بقرة 101 ( نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب , كتاب الله , وراء ظهورهم ) نبذ اليهود التوراة اى لم يعملوا بما فيها من الايمان بالرسول وغيره ( كأنهم لا يعلمون ) ما فيها من انه نبي حق أو انها كتاب الله.

10) " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم البينات بغيآ بينهم. فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " ( 213 ).

سورة الأنعام , وهى مكية ؛ فيها آية مدنية في المعنى نفسه:

" وما قد روا الله حق قدره اذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شئ ! قل: من انزل الكتاب الذى جاء به موسى نورآ وهدى للناس تجعلونه قراطيس

________________

بقرة 121 " يتلونه حق تلاوته اى يقرؤونه كما أنزل " الجلالان. " يريد بالذين آتيناهم الكتاب مؤمنى اهل الكتاب ؛ يتلونه حق تلاوته بمراعاة اللفظ عن التحريف , والتدبر في معناه , والعمل بمقتضاه. وهو حال مقدرة او خبر. ( اولئك يؤمنون به ) بكتابهم دون المحرفين ". البيضاوى. " هم مؤمنواهل الكتاب لايحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله. اولئك يؤمنون بكتابهم دون المحرفين " الزمخشرى. _ هذه الآية وحدها تكفى لتفسير التحريف بالتأويل المعرض.

بقرة 146 يعرفونه اى محمدآ من نعته في كتبهم. يكتمون الحق اى ذلك النعت.

بقرة 174 ( ان الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ) المشتمل على نعت محمد. وهم اليهود يتاجرون ببيع نسخ التوراة.

انعام 91 سورة الانعام متبعضه اى بعضها مكى وبعضها مدنى. وهذه الآية مدنية لأنه كما يقول الزمخشرى , لم يكن في مكة جدال مع اهل الكتاب. ( ما قدروا الله حق قدره ) ما عظموه حق عظمته , او ما عرفوه حق معرفته اذ قالوا للنبي وقد خاصموه في القرآن: ما انزل الله على بشر من شئ.

تبدونها وتخفون كثيرآ وعلمتم ما لم تعلموا انتم ولا آباؤكم؟قل: الله ! ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " (91 ).

" أفغير الله ابتغى حكمآ وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلآ. والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ". (144 ).

سورة آل عمران:

1) " ألم تر الذين اوتوا نصيبآ من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " (23 ).

2) " ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم. وما يضلون الا انفسهم

_________________

( تجعلونه قراطيس ) اى تكتبونه في دفاتر مقطعة , ( تبدونها ) اى ما تحبون اباءه منها , ( وتخفون كثيرآ مما فيها ) كنعت محمد , ( وعلمتم ) ايها اليهود , في القرآن ( ما لم تعلموا ) من التوراة , ببيان ما التبس عليكم.

انعام 114 آية مدنية. ( والذين آتيناهم الكتاب ) التوراة ( يعلمون انه ) اى القرآن منزل من ربك.

آل عمران 23 نزلت في اليهود: زنى منهم شريفان فتحاكمواالى النبي فحكم عليهما بالرجم كما في التوراة فأبوا. فجئ بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما فغضبوا. ( يدعون إلى كتاب الله ) التوراة.

آل عمران 72 ( لم تكفرون بآيات الله ) القرآن ( تكتمون الحق ) نعت محمد في التوراة.

آل عمران 73 تصف احدى مؤامرات اليهود: التظاهر بالايمان بمحمد ثم الكفر به ليحملوا الناس على التشبه بهم اذ يقولون: ما رجع هؤلاء عنه بعد دخولهم فيه وهم اولو علم إلا لعلمهم ببطلانه.

وما يشعرون. ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ! ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون !

وقالت طائفة من اهل الكتاب: " آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون. ولاتؤمنوا الا لمن تبع دينكم ". (69- 73 ).

3) " وان منهم لفريقآ يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب , وما هو من الكتاب. ويقولون هو من عند الله , وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " (78 ).

4) قل: ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله , والله شهيد على ما

________________

آل عمران 78 " يلوون ألسنتهم بالكتاب " قال البيضاوى: " المحرفون ككعب ومالك وحى بن اخطب يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب فيميلونها عن المنزل إلى المحرف , او يعطفونها بشبه الكتاب ". قال الجلالان: يعطفونها بقراءته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبي. ( لتحسبوه ) ايها المسلمون , والضمير للمحرف. قال الزمخشرى: " هم كعب بن الاشرف ومالك ابن الصيف وحى بن أخطب وغيرهم يفتلون السنتهم بقراءة الكتاب عن الصحيح إلى المحرف. والضمير في ( لتحسبوه ) يرجع إلى مادل عليه يلوون السنتهم بالكتاب وهو المحرف. ويجوز ان يراد يعطفون السنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب. وقرئ ليحسبوه. وعن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الاشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابآ بدلوا فيه صفة رسول الله ص. ثم اخذت قريظة ما كتبوه وخلصوه بالكتاب الذى عندهم ".

- فيظهر انها حيلة فريق منهم فيما يخص صفة النبي الذى تذكره التوراة: اخفوا النص الحقيقى وأظهروا غيره وليس هذا بتحريف النص.

تعملون ! قل: ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن، تبغونها عوجا وأنتم شهداء، وما الله

انكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم ولا يؤمنون بشىء من كتابكم (الزمخشرى). _

كيف يؤمن المسلمون بكتاب محرف؟؟ وفي حال حملات النبي على تخريفة؟

أل عمران 178 عهد في الكتاب إلى اهل الكتاب ان يبينوا الكتاب للناس ولا يكتمونة عنهم فطرحوا العهد وراء ظهورهم ولم يعملوا بة بكتمان الكتاب عن النبي والمسلمين (عن الجلالين). " أكد عليهم ايجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانة" (الزمخشرى) وهذا يدل ان التهمة كلها فيما يظن كتمان صفة النبي المذكورة في التوراة، لاتغيير تلك الصورة.

سورة النساء:

"ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون ان تضلوا السبيل … من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعة وبقولون: سمعنا وعصينا ‍‍‍‍1 واسمع غير مسمع وراعنا: ليا بالسنتهم وطعنا في الدين "

"ولو أنهم قالو: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا لكان خيرا وأقوم. ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا ".

نساء 44 " يحرفون الكلم عن مواضعه". جاء في الجلالين: " قوم من اليهود يغيرون الكلم الذى انزل الله في التوراة من نعت محمد عن مواضعه التى وضع عليها. يقولون للنبي اذا أمر بشىء: سمعنا قولك وعصينا امرك ! واسمع غير مسمع: حال بمعنى الدعاء اي لاسمعت ! ويقولون اه: راعن ! وهي كلمة سب في لغتهم. ليا بألسنتهم اي تحريفا وقدحا في الاسلام ".- وعندنا ان سياق الحديث يعنى كلاممحمد لاكلام التوراة: يلوون السنتهم عند النطق به هزءا وسخرية، ويسبون محمدا بخطابه: راعنا !

قال البيضاوى: " من الذين هادوا قوم (يحرفون الكلم عن مواضعه) اي يؤواونه على ما يشتهون فيميلونه عما انزل الله فيه. ( واسمع غير مسمع ) اي مدعوا عليك بلا سمعت ! واسمع غير مجاب إلى ماتدعو اليه ! او غير مسمع كلاما ترضاه ".

- ألا يظهر ان الكلام المحرف عن معاًنية لا عن الفاظه هو كلام محمد بدليل هزئهم به؟

قال الزمخشرى " يحرفون الكلم ( او الكلم ) عن مواضعه" يملونة عنها ويزيلونة لأنهم اذا بدلوه ووضعوا كلما غيره فقد امالواه عن مواضعه التى وضعه

"ياأيها الذين اوتوا الكتاب امنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل ان نطمس واجودها فنردها على، او نلعنهم كما لعنا اصحاب السبت وكان امر الله مفعولا" (44_47 )

"...لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك" (262).

سورة المائدة:

" ولقد أخذنا ميثاق بنى اسرائيل... فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية. سيحرفون الكلم عن مواضعة. ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين " (14 ).

الله فيها وأزالوه عنها وذلك نحو تحريفهم " اسمر ربعة" عن موضعه في التوراة بوضعهم " ادم طوال " مكانه ونحو تحرفهم الرجم بوضعهم الحد بدله. فان قلت كيف قيل هنها " عن مواضعه " وفى المائدة " قلت اما عن مواضعه فعلى مافسرناه من ازالته عن مواضعة التى اوجبت حكمة الله وضعة فيها. واما عن بعد موضعة فالمعنى انه كانت له مواضع هو قمن بان يكون فيها فحين حرفوه كالغريب

الذى لاموضع له بعد مواضعة ومقاره. والمعنيان متقاربان.

مائدة 14 " يحرفون الكلم عن مواضعه". جاء في الجلالين: " يحرفون الكلنم الذى في التوراه من نعت محمد وغيره (عن مواضعه) التى وضعه الله عليها أي يبدلونه. وتركوا نصيبا مما امروا في التوراه من اتباع محمد".

قال البيضاوى: " استئناف لبيان قساوة قلوبهم فانه لاقساوة اشد من تغيير كلام الله والاقتراء عليه. ويجوز ان يكون حالا من مفعول لعناهم

" ومن الذين قالوا انا نصاري اخذننا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به. فأغرينا بينهم العداوه والبغضاء إلى يوم القيامة. وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" (15).

" ياأهل الكتاب قد جائكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" (16).

" ياأيها الذين قالوا انا نصاري اخذنا الرسول لايحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا امن بأفوههم وام تؤمن قلوبهم. ومن الذين هادوا سماعون للكذب، سماعون لقوم اخرين لم ياتوك – يحرفون الكلم من بعد مواضعة: يقولون ان اوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا" (44).

" ياأيها الذين امنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤا ولعبا من الذين لامن القلوب اذ لاضمير له فيه.

والمعنى انهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه. وقيل معناه انهم حرفوه فزلت بشؤمة اشياء منهما عن حفظهم".

قال الزمخشيرى: لاقوة اشد من الاقتراء على الله وتغيير وحيه. وتركوا نصيبا جزيلا وقسطا وافيا مما ذكروا به في التوراة: اغفال حظ عظيم. وقيل تركوا نصيب انفسهم مما امروابه من الايمان بمحمد وبيان نعته.

مائدة 15 لاحظ انه لاينسب تحريفا ما إلى النصارى بل يذكر البغض بينهم وبين اليهود، او بين فرق النصارى (البيضاوى).

مائدة 16 "ياهل الكتاب... مما كنتم تخفون" المقصود بأهل الكتاب اليهود وحدهم هنا لايهود والنصارى لأن تهمة كتمان الكتاب لم ينسبها القرآن مطلقا إلى النصارى (15) كما نسبها إلى اليهود

(14). "مما كنتم

اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار، أولياء.... وإذا ناديتم اى الصلوة اتخذوها هزؤا ولعبا"(57و58).

"لتجدن أشد لناس عداوة للذين آمنوا اليهود اليهود والذين اشركوا،ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى وأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون.واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع بما عرفوا من الحق"(85-88).

ثانيا: معنى التحريف المذكور

تلك هى مجموعة النصوص القرىنية التى وردت فيها تهمة التحريف والكتمان والاخفاء واللى والكذب والهزء وإلباس الحق بالباطل. فما معنى هذه التهمة الخطيرة؟ وما قصد القرىن باسناده اليهم التحريف.

ملاحظات عامة هامة:

1) لاحظ أنها تهمة واحدة من الأول إلى الآخر ولو تنوع التعبير عنها.

تخفون من نحو صفة الرسول ومن نحو الرجم"(الزمخشرى والجلالان).

نقول اليس في هذا الإخفاء معنى تحريف الكلم المذكور قبله 14 وبعده17

مائدة 44 قال الزمخشرى: السماعون للكذب بنو قريظة والآخرون يهود خيبر (يحرفون الكلم) يميلونه و يزيلونه (عن بعد مواضعه) التى وضعه الله تعالى فيها فيهملونه بغير مواضع عبد أن كان ذا موضع بعد ان كان ذا مواضع. (إن أوتيتم) هذا المحرف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا انه الحق واعملوا به وإن أفتاكم محمد بخلافه اى بالجلد دون الرجم لمن زنى، فإياكم وإياه فهو الباطل. قال البيضاوى: يميلونه عن مواضعه اما لفظا بإهماله أو تغيير وضعه واما معنى بحمله على غير المراد..

لذلك لا يجوز تفسير تلك الآيات مجزأة بل يجب ان يفسر بعضها بعضا والا مسخ المعنى.

2 ) لقد اوردنا اآيات بحسب ترتيب نزولها فيبدو من ذلك أن تهمة التحريف ما وردت الا في السور المكية كما في سورة الانعام مثلا فالمصاحف تدل على ان هذه الآيات مدنيات أقحمت في السور المكية لغاية نجهلها. خومن ثم فلو كانت تهمة التحريف قديمة لوجدنا لها أثرا في حياة النبي المكية حيث نرى محمد يستشهد بالكتاب وبمن عنده علم الكتاب على صحة قرآنه: ايجوز أن يستشهد بمحرفين وبكتاب محرف؟(شعراء 197).

3)لا شك أنك لاحظت أيضاً ان النزاع قائم منذ البداية حتى النهاية (مائدة85)بين محمد واليهود:فلا ذكر هناك مطلقا لنزاع بين النصارى ومحمد –وإن قال مرة واحدة انهم غير راضين عن تغيير القبلة واقتراقه عنهم (بقرة121), ولا هو يتهمهم بالكفر والتحريف (مائدة 15)فتهمة التحريف إذن-مهما كان معناها –لا يلصقها القرآن بالنصارى ولا بإنجيلهم، انما يوجه التهمة دائما إلى اليهود وحدهم, بل إلى فريق منهم:"وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه"(بقرة 101)،وان فريق منهم ليكتمون الحق"(بقرة 146)،تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا"(انعام91)، فتهمة التحريف والكتمان اذن تقع على التوراة من قوم موسى. وكل اهل الكتاب المقصودين بالتحريف ومقاومة النبي في آل عمران هم اليهود وحدهم (33و69-73و78و98) بدليل انه يستثنى منهم رهبان عيسى وملته(113). وكذلك في سورة النساء:"الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه" (مائدة13-14)"ومن الذين

هادوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه "(مائدة44). فالتهمة تعنى صراحة قوما من اليهود لا جميعهم، وهم الذين كانوا يقاومونه ويتآمرون عليه باقوالهم وأعمالهم.

فلا أثر إذن البتة لهذه التهمة بحق النصارى وانجيلهم.انه يذكر النصارى مرتين بقوله: "لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم "(بقرة 121)وقوله:ومن الذين قالوا انا نصارى اخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به" (مائدة 15)، وهذا القول لا يمت من قريب أو بعيد إلى تهمة التحريف التى يذكرها قبله (14) وبعده (44) بحق فريق من اليهود. ولئن هو أضاف في المائدة، بعد ذكر اليهود والنصارى(14و15)، تهمة الإخفاء من الكتاب (16) فلا يقصد الا قوما من اليهود فقط لأنه لا يخص النصارى بمثل هذه التهم على الإطلاق، ثم لأن سياق الحديث لايزال عن تغيير الرجم بالجلد(14) واخفاء نص الرجم عن الناس(16) كما ذكرت أسباب نزول هذه الآية.

ويستثنى القرآن النصارى وبخاصة رهبانهم من مقاومة النبي الجديد من اول القرآن ال آخره في سورة التوبة.ويصرح بهذا الإستثناء حيث يذكر تهم المقاومة والتحريف والكتمان والعداوة في سورة آل عمران(113) و المائدة(85).

5) ان تهمة التحريف بحق فريق من اليهود تقتصر على آية أو آيتين لا غير: 1 في حد الزنى بحسب التوراة هل هو الرجم ام الجلد،ومدار الجدال وتغيير الكلم عن مواضعه في سورة المائدة (14و44) هو عليه. قال الزمخشرى: "روى أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان،وحدهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما. فبعثوا رهطوا منهم إلى بنى قريظة ليسألوا رسول الله(ص) عن ذلك وقالوا: ان امركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وان امركم بالرجم فلا تقبلوا. وارسلوا الزانيين معهم فامرهم بالرجم.

---------------------

(1) يظهر ان افظة " ولاالنصارى " مدسوسه على الايه اذ لاشيء في سياق الحديث يقتضيها، فخلافه، إلى سورة التوبه، في القرآن كله مع اليهود.

فابوا ان ياخذوا به.فجعل بينه وبينهم حكما ابن صوريا من فدك. فشهد بالرجم وشهد للنبي: انك رسول الله النبي الامي العربي الذي بشر به المرسلون"!

وعليه المحدثون،والمفسرون بالاجماع في تفسيرهم

(مائدة 14و44)،وعليه اسباب النزول كلها (السيوطى في الجلالين ).

2 ثم في صفة ونعة" النبي"الذي يذكره موسى في توراته: كان اهل مكه والمدينه يسمعون هذا الوصف قبل مبعث محمد.فلما بعث ظنوا ان الوصف يعنيه.


[†] تنبيه عام: لا نقصد بهذا الكتاب عرض الديانة المسيحية على المسلمين ولا عرض الإسلام على المسيحين: فليعذرنا الجميع إذا وجدونا مقصرين. إننا ندرس فيما نعرض له وجهة نظر القرآن وحدها، كما فهمناها، وليس وجهة نظر الإنجيل أو المسيحية؛ فنرجو الانتباه لئلا نُتهم بما نحن منه براء.

([‡]) التوحيد هو الايمان بالله واليوم الاخر. سترى ذلك من مجموع الآيات التى سننقلها في هذا الكتاب.

[§] " وعنده ام الكتاب " اصله الذى لا يتغير منه شىء وهو ما كتبه في الازل ( الجلالان).

[**] " وانزل الفرقان " ذكر ذلك بعد الكتب الثلاثه ليعم ما عداها. وقد يراد به الزبور او القرآن كرره مدحا ( البيضاوى )

[††] " مهيمنا عليه " شاهدا له ( الجلالان ) رقيبا عليه ( البيضاوى ) ؛ " والتوراة والإنجيل: اسمان اعجميات وتكلف اشتقاقهما الفرقان: جنس الكتب السماوية لان كلها فرقان يفرق بين الجق والباطل او للكتب التى ذكرها "

[‡‡] في مكة يعتبر محمد نفسه واحدا من أهل الكتاب كما سترى في فصل "التوحيد القرآنى كتابى" وفي المدينة يستقل عنهم في الملة ويبقى معهم في العقيدة كما ترى من النصوص المدينة التى نوردها.

[§§] "لافرق بين أحد منهم " فنؤمن ببعض ونكفر ببعض (الجلالان) كاليهود " فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، ونحن لله مذعنون مخلصون " بيضاوى.

[***] نعتقد مع بعض العلماء ان لفظة "اسلام" كناية عن التوحيد وهى من صنع محمد او بالحرى من المحيط الحنيفي الذى مال اليه محمد في المدينة ؛ كما يستدل من قوله:"هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا " ( الحج 78).

[†††] " هذا ذكر من معى" اى امتى وهو القرآن " وذكر من قبلى " من الامم وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله ليس في واحد منها ان مع الله الها مما قالوا ( الجلالان).

[‡‡‡] راجع الزمخشرى آل عمران 19و85. والزمخشرى يرجع لفظة الاسلام إلى قوله "اسلم وجهه لله" ( مائدة 114 ) أى اخلص له العبادة.

[§§§] الاسلام من " اسلم وجهه لله وحده " اى دعا الله مخلصا له الدين بعيدا عن كل شرك (المؤمن 14 ؛ الزمر 2،3،11،12،14،15) " ان الدين عند الله الاسلام " اى الشرع المبعوث به المرسل المبنى على التوحيد (الجلالان) وفي قراءة (ان) بدل من (انه) بدل اشتمال (الجلالان) ؛ وفي قراءة ان جملة مستأنفة مؤكدة للاولى اى لا دين مرضى عند الله سوى الاسلام وهو التوحيد (البيضاوى).

[****] ابراهيم حنيف مسلم (آل عمران ) 167 لا بل هو اصل الاسلام وهو سمى الموحدين مسلمين (الحج 78 ).

([††††]) الحواريون: أعوان دينه، او هم اصفياء عيسى واول من آمن به. وكانوا اثنى عشر رجلآ: اى البياض. وقيل كانوا قصارين يحورون الثياب اى يبيضونها. ( الجلالان ) وعندنا ان الكلمة اعجمية مأخوذة عن الأرامية أو الحبشية.

([‡‡‡‡] ) " انا كنا من قبله مسلمين " موحدين. " أولئك يؤتون اجرهم مرتين " لايمانهم بالكتابين ( الجلالان بالتوحيد الذى فيهما – نزلت في مؤمنى اهل الكتاب. والضمير في " من قبله " للقرآن. " انه الحق من ربنا " استئناف لبيان ما أوجب ايمانهم به. " انا كنا من قبله مسلمين " استئناف آخر للدلالة على ان ايمانهم به ليس مما أحد ثوه حينئذ وانما هو أمرتقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الاسلام قبل نزول القرآن او تلاوته عليهم " ( البيضاوى ).

[§§§§] هو: الله من قبل: من قبل القرآن في الكتب المتقدمة، وفي هذا: في القرآن (البيضاوى ).

[*****] لكل جعلنا منكم ايها الامم شريعة وطريقآ واضحآ في الدين تمشون عليه ولو شاء الله لجعلكم على شريعة واحده ولكن فرقكم فرقآ ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة " ( الجلالان ) " لكل جعلنا منكم ايها الناس شريعة ( والشرعة هى الطريق إلى المساء شبه بها الدين لانه طريق إلى ماهو سبب الحياة الابدية ) وطريقآ واضحآ في الدين , ولو شاء الله لجعلكم جماعة متفقة على دين واحد في جميع الاعصار. واستدل به على أنا غير متقيدين بالشرائع المتقدمة " ( البيضاوى ) ولا هم متقيدون بشريعة القرآن. " ولكن اراد ان يبلوكم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة هل تعملون بها مذعنين معتقدين انها مصالح قد اختلفت على حسب الاحوال والاوقات معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها الا ما اقتضته الحكمة أم تبغون الشبه وتفرطون في العمل " ( الزمخشرى ).

[†††††] للمستشرقين ترتيب تزعمه الالمانى نلدكه , وللمسلمين ترتيب قد يختلف عنه , ونقل لنا صاحب الفهرست ترتيبآ مقبولآ وهو يقرب من ترتيب المصحف الاميرى الذى اعتمدناه في دروسنا. وقد فضلناه لمزايا سنعرض لها في حينها وللفائدة العملية.

[‡‡‡‡‡] نشير في هذا الفصل إلى وحدة العقيدة بين المسلمين والكتابيين كما يراها القرآن.

[§§§§§] قضية المصادر التى يأخذ عنها كتاب منزل لا تنفي عنه ضرورة صفة الوحى والتنزيل يدرس العلماء مصادر التوراة والإنجيل والقرآن بمعزل عن مسألة الوحى فيها ودون طعن فيها. وقد اورد انجيل متى نفسه موافقة الإنجيل للتوراة والانبياء.

[******] كتاب الملل والنحل 179.

[††††††] "هذا نذير من النذر الأولى" اى انذار من جنس الانذارات المتقدمة أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين ( البيضاوى ) شبيهآ بهم بالرسالة والتعليم ( الجلالان ).

[‡‡‡‡‡‡] قال ابن هشام: " واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم الإنجيل وحكمه ثم اصابهم ما اصاب اهل دينهم من الحداث... فسار اليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل فخد لهم الاخدود فحرق من حرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبآ من عشرين الفآ. ففي ذى نواس وجنده انزل الله تعالى على رسوله: قتل اصحاب الاخدود... " ج 1ص 37.

[§§§§§§] " بينة " بيان ( الجلالان ) " ما في الصحف الأولى " من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية فإن اشتماله على زبدة ما فيها من العقائد والاحكام الكلية اعجاز بين " ( البيضاوى ).

[*******] لاحظ ان حجة القرآن على صحته وصدقه , من اعجازه , ظهرت في العهد الاخير بمكة , وبعد البقرة لاذكر لها في المدينة ؛ اما حجته بشهادة علماء الكتاب له فتظهر من اول القرآن إلى آخره في مكه والمدينة.

[†††††††] " من قبله " من قبل نزول القرآن وهم مؤمنو اهل الكتاب ( الجلالان ).

[‡‡‡‡‡‡‡] "ان الذين يتلون كتاب الله" القرآن او جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الامم." والذى اوحينا اليك من الكتاب " يعنى القرآن و "من" للتبين او الجنس او التبعيض. " مصدقآ لما تقدمه من الكتب السماوية " , حال مؤكدة , لأن حقيقته تستلزم موافقته اياها في العقائد واصول الاحكام. " ثم اورثنا الكتاب " منك او من الامم السالفة والعطف على " إن الذين يتلون " – " والذى اوحينا اليك " اعتراض ( البيضاوى ) "ثم اورثنا الكتاب " (32 ) آية زيدت فيما بعد لتحد من ثناء الآية 29 على اهل الكتاب فتبين انهم لايستحقون كلهم هذا الثناء اذ منهم ظالم لنفسه بالتقصير ,ومنهم مقتصد في عمل الخير , ومنهم سابق بالخيرات ؛ وهكذا بعطفه الآية 32 على 29 يكون الذين اصطفاهم الله من عباده هم اهل الكتاب الذين يستشهد محمد بهم.

[§§§§§§§] البيضاوى بخلاف الجلالين اللذين يزعمان ان المقصودين هم " المهاجرون والانصار " لاذكر لهم في سياق الحديث بل الحديث كله عن انبياء الكتاب. والآية " اولئك الذين هدى الله " بدل من " اولئك الذين آتيناهم الكتاب ". ويجب ان يهتدى المهاجرون والانصار بهدى النبي لا العكس ! والآية مكية فلا وجود بعد للمهاجرين والانصار.

[********] " انما انزل الكتاب على اليهود والنصارى وإنا كنا عن قراءتهم لغافلين " ( الجلالان ) " أن قولوا: كراهة أن تقولوا علة لانزاله ؛ انزل على اليهود والنصارى , ولعل الاختصاص في "انما " لان الباقى المشهور حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم ؛ ودراستهم اى قراءتهم " (البيضاوى).

[††††††††] فى قراءة: دارست أى ذاكرت اهل الكتاب. وفى قراءة درست من الدرس القراءة والتعلم. وجاز اضمار ( اهل الكتاب ) لشهرتهم بالدراسة – عن البيضاوى.

[‡‡‡‡‡‡‡‡] " الذين اوتوا العلم " مؤمنو اهل الكتاب (الجلالان ).

[§§§§§§§§] " ماكنت بدعآ من الرسل " بديعآ منهم ادعوكم إلى ما لا يدعون اليه أو أقدر على مالم يقدروا عليه. " ما ادرى ما يفعل بى ولا بكم " في الدارين على التفصيل. " وشهد شاهد على مثله " اعتراضية , والشاهد عبد الله بن سلام بقول الجميع وقيل هو موسى وشهادته ما في التوراة , على مثل القرآن , وهو ما في التوراة من المعاًنى المصدقة للقرآن المطابقة لها , "فأمن " بالقرآن لما رآه من جنس الوحى مطابقآ " للحق " ( البيضاوى ) " لينذر الذين ظلموا المشركين " وبشرى للمحسنين "المؤمنين ( الجلالان ) " إفك قديم" افتراء على الله منذ الإنجيل والتوراة مثل قوله "اساطير الأولين"

[*********] " ذكر من معى وذكر من قبلى " من الامم وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله فليس في واحد منها ان مع الله إلها مما قالوا " الجلالان.

[†††††††††] " ان هذه امتكم " وقرىء " امتكم " بالنصب على البدل من هذه " وأمته " بالرفع على الخبر ! قرئتا بالرفع على انهما خبران والمراد ان ملة التوحيد أو الاسلام ملتكم التى يجب ان تكونوا عليها فكونوا عليها امة واحدة غير مختلفة بين الانبياء ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع " (البيضاوي)

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡] لقد فهم الجلالان هذه الآية فهمآ خاطئآ. قال البيضاوى: " الزبور كتاب داود, والذكر التوراة ".

[§§§§§§§§§] أليس في هذا النص إشارة إلى انه كانت تنتاب محمدآ سورات من الشك يتغلب عليها بإرشادات أهل الكتاب؟ وشك محمد من نفسه ومن صدق وحيه وايمانه ( يونس 94 ) يأتى بعد التأكيد من أن القرآن تفصيل , الكتاب من رب العالمين (37).

[**********] قال البيضاوى:" أفمن كان على برهان من الله يدل على الحق والصواب , والهمزة للانكار اغنت عن الخبر- وقيل المراد به النبي او مؤمنو اهل الكتاب. " ويتلوه شاهد منه " اى يتبع ذلك البرهان الذى هو دليل العقل شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن ( قال الجلالان: وهو جبريل ). ومن قبل القرآن كتاب موسى ( بالضم ) اى التوراة , إمامآ اى كتابآ مؤتمآ به في الدين. وقرئ " كتاب موسى " (بالنصب ) عطفآ على الضمير في يتلوه اى يتلو القرآن شاهد مما كان على بينة دالة على حق , كقوله " وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله ". " اولئك يؤمنون به " اشارة إلى من كان على بينة. " من الاحزاب " أهل مكة ومن تحزب معهم. " فلا تك في مرية منه " في شك من المولى او من القرآن ". – نتقول ألا يستفاد من هذا النص انه كان يتلو لمحمد القرآن والكتاب في هذه الفترة اسرائيلى !؟

[††††††††††] " من لقائه " من لقائك الكتاب أو موسى او من لقاء موسى الكتاب. " وجعلناه المنزل على موسى. وجعلنا منهم أئمة يهدون الناس إلى ما فيه من الحكم والامكام " البيضاوى. –هذا مديح رائع على صحة ايمانهم وتعليمهم الكتاب

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] أى يوحى مثل مافى هذه السورة من المعاًنى او ايحاء مثل ايحائها أوحى الله اليك والى المرسل من قبلك. وانما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلاله على استمرار الوحى وإن ايحاء مثله عادته ( الاية2) " وما كان لبشر ان يكلمه الله الاوحيآ " كلاماً خفياً يدرك بسرعة لأنه تمثيل ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة يتوقف على تموجات متعاقبة وهو مايعم الشافه به والمهتف به. ( البيضاوى والجلالان ) " وحيآ " في المنام او بإلهام " من وراء حجاب " بأن يسمعه ولايراه " او يرسل رسولآ " ملكآ كجبريل "فيوحى " الرسول إلى المرسل اليه ان يكلمه ما يشاء الله. " وكذلك اوحينا اليك روحآ من امرنا " يعنى ما اوحى اليه وقيل جبريل ارسلناه اليك بالوحى. " ولكن جعلناه " الروح او الكتاب او الايمان , والافضل الكتاب حسب سياق المعنى. " وانك لتهدى " وفى قراءة اخرى "لتهدى ).

[§§§§§§§§§§] " من كتاب " يعنى جميع الكتب المنزلة قبله ( البيضاوى ).

[***********] كل آلة وزن وكيل.

[†††††††††††] فيليب حتى: تاريخ العرب ج 1 ص 173.

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] برنار لويس: العرب في التاريخ – راجع في تاريخ العرب ج 1 ص 173 موجزآ للمواضع التى أخذ فيها القرآن عن الكتاب مباشرة: " العبارات التى تتوازى في الكتابين المقدسين... والآيات حيث التشابه صريح... والامثال السامية الواحدة. واكثر الامثلة على التوازى بين الكتابين هى بين انجيل متى والسور المكية ".

[§§§§§§§§§§§] نجد في السور المكية بعض آيات مدنية زيدت عليها بقصد او بدون قصد من زمن متأخر لتظهر ان استلال محمد الدينى عن اهل الكتاب كان منذ اول العهد في مكة. ليس الأمر كذلك. فما أوردنا سابقآ يؤكد بأن توحيد القرآن كان في مكه كتابيآ محضآ , لاحنيفيآ. وما تحول التوحيد الكتابى في القرآن حنيفيآ الا في المدينة بعد ان اصطدم محمد مع اليهود فاستقل عنهم بانشاء " ملة وسط " على طريقة الحنفاء , وقد كان هؤلاء عربآ موحدين تأثروا بالتوحيد الكتابى فتركوا الوثنية والشرك واعتنقوه ولكن لم يعملوا بشرع التوراة أو الإنجيل بل ظلوا مواظبين على عادات بلادهم.

وتلك الآيات الزائدة على السور المكية في العهد المدنى هى: 1- " وأمرت ان اكون من المؤمنين ( زادوا عليها ) وأن اقم وجهك للدين حنيفآ ولا تكونن من المشركين " ( يونس 105 ) انها زائدة لمعاًرضها الآية 94 التى تحيل النبي إلى اهل الكتاب ليطمئنوه على صحة وحيه. 2- "قل انى هدانى ربى إلى صراط مستقيم ( زادوا عليها ) دينأ قيمآ ملة ابراهيم حنيفآ وما كان من المشركين " ( انعام 162 ) فالزيادة ظاهرة من تغيير الاعراب ومن معاًرضة الآيات 154 – 157و 115 و 90 حيث يؤمر بالاقتناء بهدى الكتاب واهله. 3 – " ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفآ وما كان من المشركين " ( نحل 132 ): كل النص المجاور من المدينة بروحه ومعناه. 4- " فأقم وجهك للدين حنيفآ فطرت الله التى فطر الناس عليها , ذلك الدين القيم " ( روم 30 ) انها زائدة لانها تقطع سياق الحديث مثل الآيات 38و 39.

[************] من هنا اشتقت لفظة " الاسلام " ويتبين لنا ان معناها الاصلى " التوحيد ". كما جاء أيضاً في الانبياء: " قل إنما يوحى إلى أنما الهكم واحد فهل انتم مسلمون " ( 108 ) يقترن الاسلام بالتوحيد لفظآ ومعنى. ويوضحه في موضع آخر " أخلص دينه لله " ( نساء 145 ).

[††††††††††††] " وتشير الاخبار الاسلامية إلى قوم يسمون بالحنفاء: وهم مكيون وثنيون ( في الاصل ) لم يقنعوا بعبادة الاصنام السائدة بين قومهم وبحثوا عن صورة من الدين اطهر ولكنهم كانوا غير راغبين في اعتناق اليهودية او النصرانية. وقد يكون من الصحيح ان نبحث بينهم عن اصول محمد الروحية " ( العرب في التاريخ ص 50 ).

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] " امة وسط " اى خيارآ او عدولا مزكين بالعلم والعمل. وهو في الاصل اسم المكان الذى يستوى اليه المساحة من الجوانب , ثم استعير للخصال الحميدة لوقوعها بين طرفى افراط وتفريط. ثم اطلق على المتصف بها , مستويا فيه الجمع والواحد والمذكر والمؤنث كسائر الاسماء التى وصف بها " ( البيضاوى ). " وسطآ: خيارآ وهى صفة " بالاسم الذى هو وسط الشئ ". وعندى ان تلك الامه صارت وسطا لتوسط دينها بين الكتابيين والمشركين العرب , فأخذ عن اهل الكتاب عقيدتهم في التوحيد , وعن العرب عوائدهم في الشرائع , كالحنفاء.

[§§§§§§§§§§§§] " ولكل وجهة " قبلة اى لكل امة قبلة. وعادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة ( عن البيضاوى).

[*************] هكذا فهمنا الآية 68 من آل عمران بخلاف التفسير المتبع في الجلالين والبيضاوى وهو يتعارض مع الآية 67.

[†††††††††††††] " قائمآ بالقسط ": وانتصابه على الحال من الله او من هو والعامل فيها معنى الجملة أو للمدح. وقرئ " القائم بالقسط " على البدل من هو أو الخبر المحذوف " ( البيضاوى ) وعندى انه خبر لمحذوف ( من كان منهم قائمآ بالقسط ) وهو بدل من " اولو العلم " اى اهل الكتاب الذين لايقتلون الذين يأمرون بالقسط ( ايه 21 ) , و لا يوصف الله أو الملائكة بالعدل لانه من خصائصهم المفروضة.

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] "إن الدين عند الله الاسلام " بدل من " شهد الله أنه لا اله الا هو " وهكذا يكون الاسلام بشهادة التوحيد لاغير ؛ هذا حسب النص القاطع. الا انهم يتوسعون فيها. قال البيضاوى " إن الدين... جملة مستأنفه مؤكدة للأولى ( شهد ) اى لا دين مرضى عند الله سوى الاسلام وهو التوحيد والتذرع بالشرع المحمدى ". وقرأ الكسائى بالفتح ( أن ) على انه بدل ( أنه ): بدل الكل أن فسر الاسلام بالايمان أو ما يتضمنه , وبدل الاشتمال أن فسر بالشريعة. فائدة هذا التوكيد ان قوله لا اله هو توحيد وقوله قائمآ بالقسط تعديل فإذا اردفه: ان الدين... فقد اذن ان الاسلام هو العدل والتوحيد وهو الدين عند الله " ( الزمخشرى ). " وما اختلف الذين اوتوا الكتاب " على م اختلفوا؟ من سياق الآيات (18 و 19 ) يظهر انهم خالفوا النبي على الاسلام هو التوحيد لاغير: " اختلف الذين اوتوا الكتاب من اليهود والنصارى أو من أرباب الكتب المتقدمة في دين الاسلام فقال قوم انه حق وقال قوم انه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقآ " ( البيضاوى ).

[§§§§§§§§§§§§§] " ومن يبتغ غير الاسلام " يعنى التوحيد واسلام الوجه لله تعالى ( الزمخشرى ).

[**************] " اخذ الاسلام نفسه يتطور. فقد بدأ محمد ينشر دينا جديدا بصفته خاتم النبيين واصبح الدين الجديد عربيا بكل ما في الكلمة من معنى " (العرب في التاريخ ص 58)

[††††††††††††††] " وقد زادت الامة في العادات الاجتماعية التى كانت سائدة في بلاد العرب قبل الاسلام ولم تبطلها: احتفظت بنفس الاحكام السارية قبل الاسلام في مسائل الملكية والزواج والصلات بين افراد القبيلة الواحدة"(العرب في التاريخ ص 56)

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] كما سترى تفصيل ذلك فيما بعد.

[§§§§§§§§§§§§§§] الخطاب في آل عمران 80 لاهل الكتاب كما يتضح من سياق الحديث كله، ومن النص السابق "ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون " 69،بخلاف ما زعم البيضاوى والزمخشرى انه خطاب للمسلمين،ليعطل هذه الشهادة القيمة عن اسلام اهل الكتاب.

[***************] قصص 52،53"نزلت في مؤمنى اهل الكتاب،والضمير في (من قبله) للقرآن.(انه الحق من ربنا) استئناف لبيان ما اوجب ايمانهم به.(إنا كنا من قبله مسلمين ) استئناف آخر للدلاله على ان ايمانهم به ليس مما احدثوه حينئذ وانما هو امر نقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الاسلام قبل نزول القرآن او تلاوته عليهم باعتقادهم صحته بالجمله" (البيضاوى)

[†††††††††††††††] "مسلمين" أى موحدين (الجلالان).

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] هو سماكم المسلمين من قبل: من قبل القرآن في الكتب المتقدمة (وفى هذا) وفى القرآن والضمير لله _ وقرئ: الله سماكم – او لابراهيم. وتسميتهم مسلمين في القرآن، وان لم يكن منه،كان بسبب قوله "امة مسلمة لكل" – البيضاوى.

[§§§§§§§§§§§§§§§] "ونحن له مسلمون ": موحدون، مخلصون انفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتها. " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه" (آل عمران 19 ثم 85 ) يعنى "التوحيد واسلام الوجه لله تعالى " الزمخشرى.

[****************] قال الزمخشرى " اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتداه: المراد بهداهم طريقتهم في الايمان بالله وتوحيده واصول الدين دون الشرائع فانها مختلفه، وهى هدى ما لم تنسخ فاذا نسخت لم تبق هدى. بخلاف اصول الدين فانها هدى ابدا"(انعام90)

[††††††††††††††††] الدين بمعنى التوحيد (الجلالان) قد سبق الاستشهاد بها. والدين بمعنى الشرع هنا "أى شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من ارباب الشرع، وهو الاصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله(أن اقيموا الدين ) وهو الايمان بما يجب تصديقه والطاعة في احكام الله.(ولا تتفرقوا فيه ) ولا تختلفوا في الاصل. اما فروع الشرع فتختلف كما قال: "لكل جعلنا شرعه ومنهاجا " (البيضاوى): يعلم وحدة الاصل في الشريعة بين جميع الكتب واختلاف الفروع.

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] نساء 25 طرائق الانبياء في التحليل والتحريم (الجلالان ).

[§§§§§§§§§§§§§§§§] إقامة التوراة والإنجيل هى العمل بما فيهما (مائدة 69،72) كما فسره الجلالان.

[*****************] راجع تفسيرهم للآية 13 من سورة الشورى كما سبق , والآية 90 من الانعام , او الآية 51 من المائدة.

[†††††††††††††††††] الجلالان: ولكل من الامم قبله هو موليها وجهه في صلاته , فبادروا إلى الطاعات وقبولها " والبيضاوى: " والمعنى: وكل وجهة الله موليها اهلها ".

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] راجع الجلالين. قال البيضاوى: " لكل اهل دين جعلنا منسكآ متعبدآ او قربانآ ".

[§§§§§§§§§§§§§§§§§] وهناك قوم من المسلمين يقولون: " شرع من قبلنا شرع لنا " استنادآ إلى الآية 47 من المائدة – راجع البيضاوى فيها. قال الزمخشرى: " وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس: أى لقوم موسى وعيسى ومن قال: نحن متعبدون بشرائع من قبلنا , فسره على العموم ".

[******************] وعن الزمخشرى: " قيل كان رسول الله ص. مخيرآ اذا تحاكم اليه أهل الكتاب بين ان يحكم بينهم وبين ان لايحكم. وعن عطاء والنخعى والشعى أنهم اذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين فإن شاؤوا حكموا وان شاؤوا اعرضوا ؛ وقيل هو منسوخ بقوله: " واحكم بينهم بما أنزل الله "؛ وعند ابى حنيفة: إن احتكموا الينا حملوا على حكم الاسلام " مائدة 46.

[††††††††††††††††††] للآية 106 قراءات مختلفة: اثبتنا التى اثبتها المصحف الاميرى.

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] " الايمان بالقرآن يتضمن الايمان بجميع الكتب والرسل " التفسير الكبير للرازى ج2 ص 383.

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§] راجع مقالة في الاسلام في الذيل المشهور. والمسيحية في الاسلام ص 16. والرازى مع غيره من المفسرين سجل تهمة التحريف " ان كتب سائر الانبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة احوالها الا بما انزله الله على محمد ص. فكان ما انزل على محمد كالاصل لما انزل على سائر النبياء " ( آل عمران 83 ).

[*******************] اتخذنا هذه الآيات شاهدآ على استحالة النسخ , وهنا نستشهد بها استحالة التحريف ليس فقط من قبل الله الذى يحفظ كلامه ( الحجر 9 ) بل من قبل المؤمنين القائمين على حفظ كتاب الله , فالتحريف كفر محض , ولا يجتمع الايمان والكفر على صعيد واحد.

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] البيضاوى " صدقآ وعدلا: نصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له ".

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] الجلالان والبيضاوى.

[********************] البيضاوى: " واتل اليك من القرآن ولا تسمع لقولهم: ائت بقرآن غير هذا او بدله: لا مبدل لكلماته لا احد يقدر على تبديلها او تغييرها ".

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] يتخذ هذا البرهان دليلآ على عدم التحريف كما اخذ ناه أيضاً دليلآ على عدم النسخ.

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] رسول: محمد. كتاب الله: التوراة , والخطاب عن اليهود. ( البيضاوى والجلالان ). " كتاب الله " في توبة 37: الكتاب او اللوح المحفوظ.

[*********************] الجلالان: " الكتاب: التوراة ؛ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون عن قبول حكمه: نزل في اليهود ؛ زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي ص. فحكم عليهم بالرجم فأبوا فجئ بالتوراة فوجد فيها فرجما فغضبوا ". والبيضاوى: " نصيبآ من الكتاب: التوراة او جنس الكتب السماوية. يدعون: الداعى محمد , وكتاب الله: القرآن أو التوراة لما روى انه عليه الصلاة والسلام دخل مدارسهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على اى دين انت؟ فقال على دين ابراهيم. فقالا له: ان ابراهيم كان يهوديآ. فقال: هلموا إلى التوراة انها بيننا وبينكم. فأبيا فنزلت. وقيل نزلت في الرجم. " ذلك بأنهم قالوا ": اشارة إلى التوراة التولى والاعراض. – وهذه الاشارة مع النص الكامل تجزم بان " كتاب الله " هنا هو التوراة لا القرآن كما يدعى البيضاوى وكما يخالفه الجلالان.

[†††††††††††††††††††††] " فريق منهم: طائفة من اسلاف اليهود ؛ يسمعون كلام الله يعنى التوراة ثم يحرمون بتأويله فيفسرونه بما يشتهون... "

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] قال الجلالان: " يتلونه حق تلاوته أى يقرؤونه كما أنزل , والجملة حال , وحق نصب على الحال. ومن يكفر به أى بالكتاب المؤتى , بأن يحرفه ". وقال البيضاوى: " الذين آتيناهم الكتاب: يريد به مؤمنى اهل الكتاب ( يتلونه حق تلاوته ) بمراعاة اللفظ عن التحريف , والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه , وهو حال مقدرة , والخبر ما بعده , أو خبر ( الذين ) على ان المرادبالموصول مؤمنو اهل الكتاب. ( اولئك يؤمنون به ) بكتابهم دون المحرفين ( ومن يكفر به ) بالتحريف أو بالكفر بما يصدقه ( فأولئك هم الخاسرون ) حيث اشتروا الكفر بالايمان ".

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] قال البيضاوى: " نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله وأتاهم أخبار اليهود فتناظروا وتقاولوا بذلك – ( وهم يتلون الكتاب ) الواو للحال والكتاب للجنس اىقالوا ذلك وهم من اهل العلم والكتاب ! ونجهم على المكابرة والتشبه بالجهال ". وقال الجلالان: " وهم اى الفريقان يتلون الكتاب المنزل عليهم , وفى كتاب اليهود تصديق عيسى وفى كتاب النصارى تصديق موسى ".

[**********************] قال الجلالان ,: " وانتم تتلون الكتاب اى التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل ". وقال البيضاوى: " اتأمرون الناس بالبر " تقرير مع توبيخ وتعجيب ؛ والبر التوسيع في الخير من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير. وعن ابن عباس أنها نزلت في اخبار المدينة كانوا يأمرون سرآ من نصحوه باتباع محمد ص. ولا يتبعونه وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون – وعندى انه يقصد المعنيين حسب الآية 41و 43 – ( وانتم تتلون الكتاب ) تبكيت لهم اى تتلون التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل ".

[††††††††††††††††††††††] من تراها تكون هذه الأمة التقية المواظبة طيلة الليل على الصلاة وتلاوة آيات الله؟ - جاء في أسباب النزول عن ابن عباس اتها تقصد عبد الله بن سلام اليهودى الذى أسلم واصحابه , وعن ابن مسعود انها تعنى المسلمين في صلاة العشاء. قال البيضاوى: " ليسوا سواء: في المساوئ , والضمير لاهل الكتاب ؛ ( من اهل الكتاب امة ) استئناف لبيان نفى التساوى , وهم الذين اسلموا منهم ". – وعندى ان سياق الحديث يعنى امة عيسى , وخاصة رهبانهم: ليس الخطاب للمسلمين فقد انتهى منه ( 100- 110 ) ودعا امة منهم إلى مثل هذه الآية 113 , وختم انهم خير امة اخرجت للناس ( 110 ) ؛ وليس الخطاب لليهود الذين يذكرهم من 110 – 113 والذين منهم المؤمنون واكثرهم الفاسقون ( 110 ) , وقد ضربت عليهم الذلة (112 ) , وكانوا يقتلون انبياء الله (112 ) من هؤلاء يستثنى الأمة التقية ؛ وهذه ليست عصبة عبد الله بن سلام فقد دخلت فيمن أسلم من اهل الكتاب ( 110 ) " منهم المؤمنون ". لم يبقى اذن سوى امة عيسى التى لم تقاوم النبي. والنص صريح: ليس " اهل الكتاب " سواء في المساوئ: اشدهم عداوة اليهود واكثرهم مودة النصارى وذلك بأن منهم قسيسين ورهبانآ ( مائدة 85 ) وهى تفسير لآل عمران 113.

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] الجلالان: " آمنوا بما أنزلت من القرآن مصدقآ لما معكم من التوراة بموافقته له في التوحيد والنبوة".

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] الجلالان: " رسول من عند الله: محمد ؛ نبذ فريق كتاب الله: التوراة ؛ وراء ظهورهم: اى لم يعملوا بما فيها من الايمان بالرسول وغيره كأنهم لايعملون ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله! "

[***********************] الجلالان: ( اقاموا ) بالعمل بما فيها ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم ) بأن يوسع عليهم الرزق ويفيض من كل جهة – الايعنى الشجر والزرع؟

[†††††††††††††††††††††††] البيضاوى: " والآية تدل على ان الإنجيل مشتمل على كل الاحكام ".

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] الجلالان: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى من الضلالة وبيان للاحكام يحكم بها النبيون من بنى اسرائيل للذين هادوا , والربانيون اى العلماء منهم , والاحبارأى الفقهاء , بسبب الذى استودعوه أى استحغظهم الله اياه من كتاب ان يبدلوه وكانوا عليه شهداء أنه حق ". وقال البيضاوى: " يحكم بها النبيون الذين اسلموا " يعنى انبياء بنى اسرائيل , أو موسى ومن بعده إن قلنا " شرع من قبلنا شرع لنا " مالم ينسخ , وبهذه الآية تمسك القائل به ".

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] يتعجب من تحكيم اليهود محمدآ والحال ان الحكم منصوص عليه في الكتاب الذى هو عندهم. (البيضاوى ).

[************************] " الحق من ربك " اى الحق الذى يكتمونه , وهو إما مبتدأ خبره " من ربك " , وإما خبر مبتدإ محذوف اى هو الحق ومن ربك حال , أو خبر بعد خبر. وقرئ بالنصب على انه بدل من " الحق " الأول او مفعول يعلمون. فلا تكن من الشاكين في انه من ربك أوفى كتمانهم الحق عالمين به (البيضاوى).

[††††††††††††††††††††††††] " أهل الذكر: العلماء بالتوراة والإنجيل ؛ ان كنتم لا تعلمون ذلك فإنهم يعلمونه وانتم إلى تصديقهم أقرب " ( الجلالان ).

[‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡‡] " كانت قريظة قد حالفوا الآوس و النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه و يخرب ديارهم ويخرجهم واذا اسروا فدوهم. و كانوا اذا سئلوا لم تقاتلونهم وتفنونهم قالوا امرنا بالفداء. فيقال لم تنادونهم؟ فيقولون حياء ان تستذل حلفاؤنا , فنزلت " ( الجلالان ).

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] راجع الجلالين. وما تقدم صفحة 32 حيث استشهدنا بهذه الآية على اتصال محمد بالكتاب وعلمائه وأخذه عنهم. هنا نتخذ الآية دليلآ على اعتقاد القرآن بصحة الكتاب وبصحة فهم أهله اياه في زمان محمد.

[*************************] راجع البيضاوى.

[§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§§] من كتاب ( الاسلام في نظر الغرب ) بيروت 1953 حاشية ص 18.

[**************************] رأينا في الفصل السابق شهود النفلى على تهمة التحريف , وندرس الآن شهادات الاثبات , حسب التعبير القضائى.

* * بقرة 41 " وآمنوا بما أنزلت من القرآن ( مصدق لما معكم ) من التوراة بموافقته له في التوحيد و النبوة. (ولا تشتروا ) تستبدلوا ( بآياتى ) التى في كتابكم من نعت محمد (ثمنا قليلا ) عوضاً يسيراً من الدنيا. اى لاتكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سلفتكم.

بقرة 42 "ولا تلبسوا تخلطوا (الحق) الذى انزلت عليكم (بالباطل) الذى تفترونه ( ولا تكتموا الحق ) نعت محمد في التوراة ( وانتم تعلمون ) انه الحق ".

بقرة 44 (اتأمرون الناس بالبر ) الايمان بمحمد ( وتنسون انفسكم ) تتركونها فلا تأمرونها به، (وانتم تتلون الكتاب ) التوراة وفيها الوعيد على مخالفة قول العمل. – لاحظ ان الآيه 44 تفسر معنى الباسهم الحق بالباطل في الايه 42: يتعجب من الباسهم الحق بالباطل ونسيانهم انفسهم عن البر الذى يأمرون الناس به وهم يتلون الكتاب: هذا اشعار بأن الكتاب لم يزل كما نزل وهم يتلونه كما نزل ولوألبسوا حقه بباطلهم. والباء هنا للاستعانه كما قال الزمحشرى.

بقرة 75 – 79 جاء في الجلالين: ( أفتطمعون ) ايها ألمؤمنون ( أن يؤمنوا لكم ) اى اليهود ( وقد كان فريق منهم ) طائفة من احبارهم ( يسمعون كلام الله ) التوراة ( ثم يحرفونه ) يغيرونه ( من بعدما عقلوه ) فهموه ( وهم يعلمون ) انهم مغترون. والهمزة للانكار , اى لا تطمعوا فلهم سابقة بالكفر. ( واذا لقوا ) اى منافقو اليهود ( الذين آمنوا قالوا: آمنا ) بأن محمدآ ص. نبي وهو البشر به في كتابنا. ( واذا خلا بعضهم إلى بعض ) اى رجع رؤساؤهم الذين لم ينافقوا لمن نافق ( أتحدثونهم ) اى المؤمنين ( بما فتح الله عليكم ) اى عرفكم في التوراة من نعت محمد ( ليحاجوكم به عند ربكم ) ليخاصموكم في الآخرة ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه ( أفلا تعقلون ) فتنبهوا.

فأبوا ان يأخذوا به. فجعل بينه وبينهم حكماُ ابن صوريا من فدك. فشهد بالرجم وشهد للنبى: انك رسول الله النبى الامى العربى الذى بشر به المرسلون)! وعلية المحدثون،والمفسرون بالاجماع فى تفسيرهم (مائدة 14 و 44)، وعليه اسباب النزول كلها (السيوطى فى الجلالين).

2 ثم صفة ونعت (النبى) الذى يذكره موسى فى توراته: كان اهل مكة والمدينه يسمعون هذا الوصف قبل مبعث محمد.فلما بعث ظنوا ان الوصف يعنيه. وقام بينهم وبين اليهود جدل كبير حول ذلك.وكان محمد يوكد انه هو هو (النبى الآتى) ويطالب اليهود باظهار نصَ التوراة فى وصف النبى المذكور فيحاولون كتمانه واخفاءه، واذا اضطرَوا لووا السنتهم فى التلاوة ليميلوا الالفاظ إلى غير معنى.

ولا تجد فى القرآن والأحاديث والتفاسير غير هاتين الآيتين يقصدهما القرآن عندما يتكلم على تحريف أو كتمان يجريه بعض اليهود على بعض ما فى التوراة.

النصوص الصريحة:.

لقد حددنا الفاعل والمفعول فى تهمة التحريف التى يذكرها القرآن عند اهل الكتاب.l

والان فما معنى تلك التهمة؟ لنراجع النصوص الواردة فالصريح منها اربعة:.

النص الاول من سورة البقرة: (أفتطمعون ان يؤمنوا لكم. وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) (بقرة 75) يذكر المفسرون، ومنهم الزمخشرى والبيضاوى، ان السامعين كلام الله والمحرفين " طائفة من اسلافهم (اسلاف اليهود)، وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور ثم قالوا سمعنا الله يقول فى آخره: إن استطعتم ان تفعلوا هذه الاشياء فافعلوا وان شئتم فلا تفعلوا. والمعنىان احبار هؤلاء ومقدَميهم كانوا على هذه الحالة فما باللك بسفلتهم وجهالهم اليوم"!

فالنص يعنى بعض معاصرى موسى. ويعنى انهم يتأولون كلام الله على هواهم لا التغيير فى النص النازل على موسى والذى سجله فى التوراة. وماكان لهم ان يفعلوا ذلك بحضوره، وما كان لهم اليه سبيل مع وجوده.

والقرآن صريح: ان هؤلاء القوم “ يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه" اى فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة. وهذا لا يعنى تغييراً فى النص بل التأويل المفرض، ولا يقصد به اليهود والتوراة فى زمان محمد بل التوراة وايهود فى ايام موسى.

وهب انه يقصد به توراة زمانه فالآية التالية (75, 76) تفسر التحريف بالكتمان : " واذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ " يحاول فريق منهم ان يكتم على المسلمين "نعت النبى" فى التوراة، فيحدثهم به الفريق الثانى لموالى للمسلمين، فيختصم الفريقان اليهوديان حول البوح بير الكتاب إلى قوم محمد. وهذا دليل قاطع على ان لفظة "يحرفونه" لا تدل على تغيير النص بل على "تفسيره بما يشتهون" كما ارتأى البيضاوى. ومما يزيد الدليل وضوحاً وقوة الخصام الناشب بين الطرفين. ولا يمكن مع الخصام التواطؤ على تغيير النص لانه لو اعتزم على التغيير فريق لتصدى الفريق الآخر الموالى للمسلمين واطلع هؤلاء على النص الحقيقى ومعناه الراهن. فالنص اذن لم يمسَ.

والنصوص الأخرى من سورة البقرة تبين ان التحريف المذكور هو الكتمان، أى كتمان نصَ التوراة او كتمان معناه. إنهم يكتمون الحق (42) أى نعت النبى فى التوراة، ويؤمنون ببعض ويكفرون ببعض (85) أى لا يعملون به، ويؤمنون بما انزل عليهم ويكفرون بما وراءه (90) أى بالقرآن ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لما عرفوا انه يشهد لمحد (101). فكل محاولاتهم اذن تعنى كتمان حقيقة الكتاب على المسلمين: " وان فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" (146)، "يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً" (175). ومع ذلك فإن هناك فريقاً آخر، هم الراسخون فى العلم منهم "يتلون الكتاب حقَ تلاوته" (121) ويظهرونه للمسلمين ويؤمنون بالقرآن.

وهكذا لا يوجد أى أثر فى سورة البقرة للقول بتغيير وتبديل فى نص التوراة، بل هناك شهادة صريحة بأن الراسخين فى العلم منهم "يتلون الكتاب حقَ تلاوته" أى "يقرؤونه كما أنزل" (الجلالان).

النص الثانى من سورة النساء : "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا. واسمع غير مسمع! وراعينا! ليا بألسنتهمم وطعناً فى الدين!" (45).

ان اوَل ما يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: ما المحرَف فى هذه الآية أكلام التوراة ام كلام القرآن ومحمد؟

وانا لنجزم فى يقين ان التحريف يقع على كلام القرآن او النبى لا على كلام التوراة بدليل قوله قبل الآية "يريدون ان تضلوا السبيل" (43 و 44)، وفيها : "لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلاً منهم" (45)، فلا يعقل ان يكفر اليهود بتوراتهم، بل قد يجوز انهم فسروها على هواهم، ولا سيما وانه قد وصف حال تحريفهم الكلم عن مواضعه بقوله: "ويقولون: سمعنا وعصينا! واسمع غير مسمع! وراعنا ! لياً بألسنتهم وطعناًفى الدين!" (45) وهى صفات أربع تشفَ عن تهكم لاذع وطعن فى الدين: ولا يعقل ان تكون من اليهود بحق كتابهم ودينهم ! بل انها فى كتاب لا يدينون به، وفى نبى لا يؤمنون برسالته، لهذا السبب يلعنهم لكفرهم وقلة ايمانهم (45). وقد يكون المقصود كلام محمد لا كلام القرآن نفسه.

وهب ان "التحريف" المقصود يسند إلى التوراة، فهو لا يعنى ضرورة تغيير النص بل يفيد ايضاً تفسير المعنى بوحى الهوى: انه يقول "يحرفون الكلم عن مواضعه" التى وضعه الله فيها، اى عن معانيه، لا عن الفاظه. وقد جمع البيضاوى بحمل التفاسير لهذه اللآيه بقوله : "اى من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم اى يميلونه عن مواضعه التى وضعه الله فيها بإزالته عنها واثبات غيره فيها، او يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما انزل الله فيه" فالتحريف على رأيهم يتناول التغيير فى اللفظ او التغيير فى المعنى، اذن ليس هناك ما يقول حتماً بتغيير اللفظ. ونستغرب منهم موقفهم الغرض اذ يقولون بتغيير اللفظ مع ان الآية صريحة فى وصفها التحريف بأربع صفات لا يمكن ارجاعها إلى اللفظ بل إلى المعنى "ويقولون: سمعنا وعصينا! واسمع غير مسمع! وراعنا! لياً بألسنتهم وطعناً فى الدين". وهب ايضاً ان قوماً من الذين هادوا قد فسقوا وكفروا حتى "يلوون السنتهم" فى توراتهم "ويطعنون فى دينهم" ذاته، فكيف يسكت عنهم الراسخون فى العلم منهم الذين "يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك"؟! (162).

فالاية اذن لا يقص بها التوراة، ولا يقصد بها تغيير لفظى فى النص المذكور.

النص الثالث من سورة المائدة: " ولقد أخذنا ميثاق بنى اسرائيل....فما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية : يحرفون الكلم عن مواضعه. ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم الا قليلاً" (14).

هذا النص يقع فى مقطع واحد لا يتجزَأ (23 - 21) ، وهو حملة على اليهود بنى اسرائيل (13) لنقضهم الميثاق الذى عاهدهم الله فيه على الايمان برسله وتعزيزهم (17)، ولا يذكر النصارى فيه الا عرضاً (15) ليذكرهم بميثاقهم، ولا ينسب اليهم فيه تحريفاً ولا مؤامرة على النبى.

واما اسباب نزول هذه الآية (14) والتى بعدها (44) فهى تعديل اليهود حد الزنى من الرجم إلى التحميم والجلد، كما ذكر السيوطى والزمخشرى. فتحريف الكلم عن مواضعه يعنى اذن هذا التأويل لا غير.

واذا معنا النظر فى دقائق النص نرى ان الله لعن اليهود بسبب تقضهم ميثاقهم الذى عهد الله فيه اليهم بالايمان بالرسل ومناصرتهم (13) ومنهم محمد، فقست قلوبهم وباتت لا تلين لقبول الايمان، بل مضت تحاول تأويل الميثاق والميل به عن معناه بحسب اهوائهم، وقد نسوا حظاً مما ذَكروا به على لسان الأنبياء بوجوب الايمان الآتى، فجاء محمد على فترة من الرسل يبين لهم ما نسوه (21) ويبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب (16). فتحريف الكلم من ثم مقصور على نقض الميثاق وتناسى ذكر الانبياء، وإخفاء اشياء من الكتاب علىالناس.

فالتعبير"يحرفون الكلم عن مواضعه" يفسره ما قبله وما بعده من هذا المقطع كله (13 - 21): لقد أخذ الله على اليهود العهد بأن يؤمنوا برسله (13)، فنقضوا العهد ولم يؤمنو بيحى ولا بعيسى ولا بمحمد: ووجدوا فى انبيائهم نعت "النبى الآتى" فلما ظهر محمد كتموه وفسروه بمعنى آخر فغيروا الكلم عن مواضعه اى عن معانيه.فهم لم يغيروا النص الأصلى بل "نقضوا ميثاقهم" واهملوا العمل بما جاء فى "ذكرهم" من نعت "النبى" وضرورة قبول نبوته، ودسائسهم على النبى العربى لا تنتهى "فلا تزال تطلع على خائنه منهم". بيد ان جميع محاولاتهم هذه قد باءت بالفشل لأن الرسول "يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب" (16). وهذه الآية 16 الناطقة بالاخفاء والكتمان تفسر الآية 14 عن التحريف. فالتحريف المذكور اذن لا يقصد به سوى كتمان النص أو كتمان معناه على الناس، لا غير.

النص الرابع من سورة المائدة ايضاً:. " يا ايها الرسول لايحزينك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا آمنا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم. ومن الذين هادوا سماعونا للكذب، سماعونا لقوم آخرين لم يأتوك: يحرفون الكلم من بعد مواضعه: يقولون ان اوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فحذروا. ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شئا. اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الآخرة عذاب عظيم" (45).

يعزى الله الرسول عن كفر المنافقين من المشركين الذين امنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهؤلاء المنافقون من اليهود، ونفاق اليهود يقوم على " تحريف الكلم من بعد مواضعه" فى حادثة معينه يذكر من ظروفها: سماع قوم منهم لكذب قوم آخرين، وتحريضهم لهم: " ان اوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فحذروا". واجمع المحدثون والمفسرون ان الحادثة المذكورة ترجع إلى تفسير اليهود لآيه الرجم فى التوراه بالجلد. فالتحريف المنصوص عنه هاهنا فى القرآن يقصد به آيه واحدة بعينها. وهذا التحريف يفسرة النص ذاته بتغير المعنى لا بتغير اللفظ حيث يقول " يحرفون الكلم من بعد مواضعه: يقولون ان اوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فأحذروا" فالتحذيراذن انحراف فى المعنى لا تبديل فى اللفظ.

ومما يدعم قولنا ان " تحريف الكلم من بعد مواضعه" يراد به تقويل آيه الرجم بالجلد لا تغيير لفظها، وهو ما نعت به اليهود فى قوله: "سمعونا للكذب، سماعون لقوم آخرين" فالكذب على الكتاب هو تبديل معنى لا تغيير لفظ وتحريف مبنى.

واذا اقتصرنا على التعبير فى حد ذاته " يحرفون الكلم من بعد مواضعه" فصيغة التعبير نفسها "من بعد مواضعه" تعنى تحريف المعنى لا تغيير الالفاظ. وقد لخص البيضاوى مجمل التفاسير السابقة بقولة "يحرفون الكلم من بعد مواضعه، اى يميلونه عن مواضعه التى وضعها الله فيها اما لفظاً بإهمال او تغيير وضعه، واما معنا بحملة على غير المراد واجرائه فى غير مورده". وكلاهما لا يعنى تبديل الالفاظ بالنص بالفاظ غيرها، فيقع التحريفبالمعنى الحصرى.

والمقطع كله "سماعون للكذب ... يحرفون الكلم من بعد مواضعة ... يقولون: إن اويتم هذا فخذوه وان لم تُؤتوه فاحذروا " قبل ذكره التحريف ومعه وبعده لا يُقصد به سوى حمل الكلم، المقصود بسؤالهم، على غير المراد منه واجرائه فى غير مورده فليس هناك دليل على تبديل ألفاظ بألفاظ غيرها.

وقد لا حظت، ولا شك، ان محاولة التحريف المعنوى المذكور قام بها قوم "من الذين هادوا"، ("من " التبعيضية) ، لا جميع اليهود معاً. والتحريف من جانب افراد لمعنى آيه يستحيل ات يتواطأ عليه الجميع ولا سيما اذا كانوا على اختلاف كما هم عليه هنا اذ نراهم يختصمون إلى النبى ويختصمون إلى النبى ويستفتونه فينتصر للتفسير الحق. فليس من هذا القبيل ايضاً خوف على تحريف وتغيير فى لفظ التوراة.

ويختم هذا المقطع بذكر عداوة اليهود ومودة النصارى للمسلمين (85)، وفيه حصر آخر لفاعل التحريف ومعناه ومرماه. فيكون مما تقدم ان تهمة التحريف تنحصر فى تغيير نفر من اليهود لمعنى آية واحدة لا غير.

فقل ، بربك ، ألا ترى تلك التهمة الخطيرة المدوية انها مجرد قرقعة! وهل يستحق تغيير نفر من اليهود لمعنى آيه الرجم بالجلد كلَ هذه الضجة الصاخبة ، واتهامهم اليهود كلهم تعسفاً وافتراءً بتحريف الكتاب اجمالاً؟! "وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون"!(41).

تهم غير صريحة:.

وهناك تُهم غير صريحة تفسير بمجموعها معنى التحريف المذكور فى القرآن. انه يتهم اليهود بالكفر بالوحى الجديد مع انه مصدق لما معهم (بقرة 41 و 89 آل عمران 69).

ويتهمهم انهم يُلبسون حقيقة معنى الكتاب بباطل تفسيرهم: “ولا تلبسوا الحق بالباطل" (بقرة 41 آل عمران 61).

ويتهمهم اكثر الاوقات بكتمان معنى الكتاب عن الناس “لا تلبسوا الحق بالباطل، وتكتموا الحق وانتم تعلمون" (بقرة 41)، او كتمان نص بعض الآيات : “يكتمون ما انزل الله من الكتاب” اذا “تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً" (انعام 91) بيد انه "يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب” (مائدة 16).

يتهمهم بلىَ ألسنتهم فى تلاوة الكتاب "لتحسبوه من الكتاب" (آل عمران 78) وفى قراءة القرآن "ليَاً بألسنتهم وطعناً فى الدين" (نساء 45).

يتهمهم بالاعراض عن التوراة عند تحكيمها : فإذا استشهد محمد بالتوراة "نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون" (بقرة 101)و "يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون" (آل عمران 23).

يتهمهم باخفاء الكتاب عن الناس لمآربهم وقد امرهم الله ات يبيَنوه لهم "لَتبينُنَه للناس! ولا تكتمونه! فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً " (آل عمران 187).

يتهمهم بنقض الميثاق الذى عقده الله معهم باتباع رسله والايمان بالرسول الاعظم الذى يختمهم فنقضوا العهد (المائدة 13).

يتهمهم بالتظاهر بالايمان مع اضمار الكفر وهذا هو النفاق: "واذا لقوكم قالوا آمنا. واذا خلوا عضَوا عليكم الأنامل من الغيظ" (آل عمران 119)، وينافقون دائماً: "آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون" (آل عمران 72).

فكل هذه التهم ترجع فى جوهرها إلى موقف واحد: كتمان بعض اليهود لبعض آيات التوراة، كتمان نص الآية او كتمان معناها الحقيقى كى لا يستشهد بها محمد وقومه: "اتحدَثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم افلا تعقلون؟" (بقرة 76)، كانوا يخفون معنى بعض الآيات بشتى محاولات التأويل الباطل والتفسير العاطل، وهذا كله ليس من التحريف الحقيقى فى شئ لأن التحريف بمعناه الحصري هو تغيير النص بنص غيره.

وهذا التحريف اللفظى كان مستحيلاً بشهادة القرآن نفسه اذا عنى تلميحاً وتصريحاً، كما رأينا ، التحريف المعنوى لا اللفظى لبعض الآيات. وقد أظهر النبى "كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب" (مائدة 16) خاصة آية الرجم (مائدة 44)، وآية نعت محمد (مائدة 14).فلا مجال بعده للخوف من خطر التحريف، فضلاً عن ان القرآن قد جاء مصدقاً للكتاب ومهيمناً عليه فلا يمكن ان يشهد للتحريف، ويشهد ايضاً ان المحاولة بإفساد بعض معاني الكتاب كانت من فريق من اليهود لم يُقرَهم عليها الفريق الآخر، وانها كانت محاولة فاشلة فضحها الموالون للنبى والمسلمين: "وان من اهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً" (آل عمران 169)، ولا سيماَوان من هذا الفريق الكتابى رجالاً راسخين فى العالم : "والراسخون فى العالم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وماأنزل من قبلك" (نساء 162)، وكانوا يتلون الكتاب حق تلاوته: "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، اولئك يؤمنون به"بالكتاب والقرآن (بقرة 121). فكيف يمكن ان يسمح ذلك النفر الصالح من الراسخين فى العالم، يؤيدهم محمد بقوته وقوة المسلمين، ان يمسَ خصومهم نص التوراة عابثين محرفينظ! ان محاولة الخصوم كانت فاشلة من كل الوجوه!

لقد ثبت من مراجعة القرآن كله، على نحو ما تقدم، ان تهمة التحريف متأخرة فهى من المدينة وليست من مكة. وهذه التهمة ملصقة باليهود وتوراتهم ولا يُقصد إطلاقاًالنصارى وانجيلهم.

وهى تُنسب إلى نفر من اليهود فقط لا إلى جميعهم، وهى مقصورة على آية أو آيتين من التوراة لا غير: آية الرجم فى حد الزنى، وآية نعت النبى الآتى، واعتزم هؤلاء النفر على تحريف تينك الآيتين كانت محاولة فاشلة، فضحها النبى كما فضحها الراسخون فى العلم من أهل الكتاب. ومع ذلك فماكانت تعنى تحريفاً لفظياً بل انحرافاً معنوياًينحصر فى كتمان معنى الآيتين المذكورتين.

لقد عنى القرآن التحريف المعنوى-المحدود الفاعل والمفعول- لا التحريف اللفظى. واذا فسَره بعض المسلمين بتغيير نص الكتاب فقد جاروا هواهم لا علمهم، ولا نصوص القرآن الكريم. فالرازى الرصين بعد ان يعرض تفسيرهم ذاك يعقب عليه بقوله:"إن المراد بالتحريف إلقاء الشَبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله اهل البدع فى زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم. وهذا هو الاصح". وفى موضع آخر: "التحريف يحتمل التأويل الباطل ويحتمل تغيير اللفظ وقد بيَنا فيما تقدَم أن الأول أولى لان الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتَىفيه تغيير اللفظ". وهذا هو القول الفاصل يدعمه البحث النزيه والعلم البعيد عن الهوى.

وهكذا فقد شهد القرآن بصحة الكتاب المقدس لى التوراة والانجيل وسائر الأسفار وسلامتها من التحريف.

وفصل الخطاب فى هذا الأمر هو شهادته الصريحة: "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقَ تلاوته"(بقرة 121) أى "يقرؤونه كما أنزل" على حدَ تفسير الجلالين.

تدليل على استخالة تحريف الكتاب

لقد ثبتت لنل استحالة التحريف كتابياً، موضوعياً من شهادة القرآن نفسه. واذا ارتقينا إلى جوَ أوسع واعم اتضحت لنا استحالة التحريف من كل الوجوه.

يستحيل التحريف تاريخياً:.

ان تهمة التحريف لا تسُند ابداً عندهم إلى فاعل او مفعول بعينه، إلى زمان ومكان معَين. فاذا سألت: من المحرَف: اليهود ام النصارى أم الاثنان معاً؟ الاقدمون منهم ام المحدثون؟ العرب منهم ام الاجانب؟ ما احاروا جواباً‍‍ ‍!.. واذا استوضحت عما هو محرَف: الكتاب كله، ام جلَه، ام بعضه؟ ما نبسوا قط ببنت شفة!... يظنون ان التحريف واقع فى الآيات التى تنبَأت عن محمد، ولكن ما هى؟ ومن يعرفها؟ وهل كان ذلك قبل المسيح ام كان بعده؟ قبل محمد ام زمانه؟ لا تعلم!... ومهما يكن من امر فان اثبات تهمة التحريف تاريخياً تقتضى اظهار النص الأصلى والنص المحرّف، ثم مقابلتهما الواحد بالآخر: فأين الاول واين الآخر؟.

يستحيل التحريف فلسفياً:.

من المسلّمات البديهية انه لا يجتمع الايمان بشئوالكفر به على صعيد واحد وفى آن واحد، فلا يمكن من ثم ان يؤمن اليهود بكتابهم ويحرّفونه! لا يمكن ان يؤمن النصارى بانجيلهم ويغّيرونه! لا يمكن ان يؤمن المسلمون بقرآنهم ويبدّلونه! وهب ان نفراً فاسقـاً قصد ذلك فلا يعقل ان يكفر جميع المؤمنين معاً حتى يفعلوا بكتابهم ما يفعلون. واذا ما قلة فاسدة حاولت التحريف تصدّت لها الكثرة الصالحة وابطلت محاولتها.

يستحيل التحريف اجتماعياً:.

من اليقين الثابت ان الانجيل والتوراة كانا قد انتشرا قبل مجئ محمد فى كل زمان ومكان انتشاراً عظيماً جداً حتى أسمياً "الكتاب" وسمّي اليهود والنصارى "اهل الكتاب" فهو عَلَمُ مُعلم على جميع الكتب المثوثة فى العالم، واصحابه معروفون به، كما يظهر ذلك من القرآن نفسه الامر الذى يجعل محاولة التحريف شيئاً مستحيلاً اذا لا يمكن ان يتواطأ جميع الناس من كل الامم وكل الالسنة والاجناس على جمع كل النسخ، وكل النشرات وكل الترجمات ويحرّفوا كلام الله وما يكون من بقية باقية تنتصر للوحى الكريم وتبعث صرخة الاعتراض مدوّية. واذا ضيّقنا رقعة الزمان والمكان لنصل إلى زمن نزول التوراة او الانجيل نرى انهما نزلا على مسمع ومشهد من أمة بكاملها، ونُقلا بالسماع قبل ان ينقلا بالكتابة. وقد لخص الرازى الرأى العام الصحيح بقوله: "ان الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ".

يستحيل التحريف منطقياً:

لقد اختلف اليهود شيعاً متضاربة واختلف النصارى فرقاً متحاربة، واختلفالمسلمون بدعاً متباغضة. وقد قال فى ذلك حديث شريف: "افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت امّتي على ثلاث وسبعين فرقة"! ومع ذلك فالكتاب واحد بنصه عند الجميع كل يقرّهذا النصّ بلفظه، وكلّ يؤيد رأيه بما يشتقّ من هذا النص ومن آيه! فهل يمكن التحريف والكل عين على خصمه؟!

يستحيل التحريف اثرياً:

قبل محمد بمآت السنين كان كتّاب اليهود وبخاصة كتّاب النصارى قد فسروا فى كتاباتهم آيات الكتاب باجمعها حتى لو ضاع لجمعوه من تلك النصوص المبثوثة. ونقدر اليوم ان نتحقق كل ذلك ونقارن بين الأصل والاقتباسات. أفمن المعقول ان تُلاشى من الوجود كل هذه الكتب والمنشورات والنّسَخ فى جميع الامموالبلدان حتى يمكن التحريف؟ ان القول بمثل ذلك لا يأخذ به عاقل.

واخيراً توجد اليوم فى كبريات المكتبات ودور الكتب نسخ عن الانجيل والتوراة مع ترجمات متعددة، من كل العصور، قبل المسيح وبعده، خاصة من القرن الاول الميلادى إلى القرن السادس اى إلى ظهور محمد: وهناك نسخة ملكية من القرن الرابع، من عهد قسطنطين الملك النصرانى الاول، بل بالحرى اربع نسخ متجانسة ترتقي إلى ما قبل محمد بمئتى سنة ونيف، وتعرف باسم مصدرها او مقرّها الأثرى بالفاتيكانية والسينائية والاسكندرية والافرامية فى مكتبات ورمة ولندن وباريس يمكن مقابلتها بالنص المتداول اليوم وكل يوم: فلا تحريف ولا تباين يذكر! وعن هذه النسخ العريقة ينقل علماء المؤمنين وغير المؤمنين النص الكريم ولا احد يقدر ان يقول بتحرف.

ان الكتاب يحمل كلمة الخلاص إلى كل زمان وكل مكان، فلئن ضاعت هذه الكلمة او فسدت او حرّفت ضاع على الله سبحانه قصدُه الخلاص! فهو مسؤول عن حفظ كتابه: " إنا نحن انزلنا الذكر وانّا له لحافظون"، ونعم المسؤول ونعم الوكيل ونعم الحفيظ!

قيمة الكتاب فى القرآن

" لهم الجنة وعدا عليه حقا في التوراة و الإنجيل والقرآن"(توبه111)

للقرآن نظرية طريفة في قيمة الكتاب عامة والقرآن.

إنه يعتبر للكتاب كله وللقرآن قيمة واحدة ودرجة واحدة و منزلة واحدة، و آى الذكر الحكيم في مكة والمدينة تشهد بذلك. أو لم يختم القرآن كله بهذه الآية من سورة التوبة : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة و الإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهدة من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم!" (توبة111)

أية ملأا بالمعاني: للكتب الثلاثة درجة واحدة في التعبير وسياق الكلام، ومنزلة واحدة في المَرْمى والغرض: اله واحد يعد في الثلاثة ويشترى، ومؤمنون متماثلون يقبلون عهدا الله في الثلاثة، وجهاد واحد مفروض على الجميع، وغاية واحدة في الثلاثة للجميع: لهم الجنةّ وهذا الوعد وهذا البيع وهذا الفوز العظيم واحد في التوراة و الإنجيل والقرآن، فللثلاثة اذن، على حسب شهادة القرآن الأخيرة ، منزلة واحدة و درجة واحدة وقيمة واحدة!

ويعدد القرآن نواحي هذه الوحدة في المنزلة والقيمة.

الموحي في الثلاثة واحد، هو الله

هو أوحى الثلاثة على السواء: "الله لا إله الا هو، الحيّ‘ القيوم نزل عليك الكتاب بالحق، مصدقا لما بين يديه. وأنزل التوراة و الإنجيل من قبل هدى للناس. وأنزل الفرقان" (آلعمران 2و3)

وهو أوحى للجميع على السواء : "إنا اوحينا اليك، كما اوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، و أوحينا إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب و الاسباط وعيسى و ايوب ويونس وهارون و سليمان. و آتينا داود زبوراً ... وكلّم الله‘ موسى تكليماً : رسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" (نساء163).

أله واحد، ووَحى واحد ، وغاية واحدة : فللكتاب والقرآن قيمة واحدة.

الكتاب السماوى، اصل الكتب المنزلة، هو واحد

يعلّم القرآن ان للكتب المنزلة جميعا أصلا واحدا في السماء عند الله.

يسميه "اللوح المحفوظ" (بروج22) "وام الكتاب" :" و إنه في ام الكتاب لدينا" (زخرف4) "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب" (رعد41)؛ أو "الكتاب" : "ولدينا كتاب ينطق بالحق" (مؤمنون63)؛أو "الكتاب المبين" الذى به يستهّل أقسام السور(زخرف1) أو "الإمام المبين" : "وكل شئ أحصيناه في إمام مبين" (يس12).

فبما أن للكتب المنزلة أصل سماوى واحد فهى واحدة في قيمتها من جميع الوجوه.

والكتاب المنزل على جميع الانبياء واحد

أنزل الله كتابه على كل واحد من الانبياء المرسلين: "كان الناس امه واحدة؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" (بقرة213)

وعلى أساس هذا الكتاب المنزل الواحد يحاسب الله جميع الناس: "الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون اذا الأغلال في اعناقهم والسلاسل، يسحبون في الحميم ثم في النار يسْجَرون" (غافر70)

ولو تعددت النسخ مع موسى وداود وعيسى ومحمد، فلا يزال الكتاب المنزل واحداً: "وقفينا على أثرهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى و نور. وانزلنا اليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه(قبله) من الكتاب ومهيمنا عليه" (مائدة 46- 51)

فيما ان الكتاب المنزل واحد في التوراة والزبور والانجيل والقرآن فللجميع اذن منزلة واحدة.

رسالة الانبياء في الكتاب والقرآن واحدة.

واحدة عند الله: "كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق" (بقرة213)

واحدة بين الناس: "آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله: لا نفرّق بين أحد من رسله" (بقرة285).

أن وحدة الرسالة لعقيدة راسخة في القرآن(بقرة136 ، نساء136و163 آل عمران84)فبما ان الرسالة واحدة في الكتاب والقرآن فلهما درجة واحدة.

التعليم واحد في الكتابين بشهادة القرآن:

الايمان "بالله واليوم الآخر" هو خلاصة تعليم جميع الأنبياء في جميع الكتب المنزلة، بهذا التعليم يُفتح القرآن، ويُطوى، ويُختم: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين[1]: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون" (بقرة62)؛ وكذلك ايضا الحج17،67 والمائدة69.

وكثيرة هي السور التى تروي قصة بعثتهم في سلسلة متماسكة الحلقات، ياتي فيها كل نبى يقول كلمته ويمشي: "اله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم".

ويتعاون الكتاب والقرآن في الدعوة إلى الهدى، ويعضد بعضهما بعضاً: "قل فأتوا بكتاب من عند الله اهدى منهما اتّبعْهُ إن كنتم صادقين" (قصص49).

والقرآن يتخذ الكتاب إَماَمه في الهدى:"و من قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وها كتاب مصدّق لسانا عربياً لينذر الذين ظلموا، وبشرى للمحسنين" (احقاف12)؛ وبناء على هذه الشهادة فالقرآن لا يختلف عن الكتاب الا باللسان العربي.

لذلك فالقرآن و الكتاب لهما اعتبار واحد.

والدين في الكتاب والقرآن واحد: وهو إسلام التوحيد.

جميع الأنبياء في الكتابين كرزوا بالتوحيد أى بالاسلام الذى هو دين الله: "أفغير اله يبتغون وله أسلم من السماوات و الأرض طوعا وكرها واليه يرجعون. قل آمنا بالله وما نزل علينا وما انزِل علينا وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما اوتي موسى وعيسى من ربهم: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغِ غير الاسلام دينا فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران 43 45).

ويشهد القرآن في غير موضع ان اليهود والنصارى والمحمّدين مسلمون: "ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً : أَيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون"! (آل عمران80)؛ الخطاب لأهل الكتاب على ما يتّضح منس ياق الحديث؛ وفيه موعظة للمسلمين.

ويشهد بخاصة على لسان أهل الكتاب أنهم مسلمون قبل نزول القرآن: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله(القرآن) هم به يؤمنون. واذا يُتلى عليهم قالوا:آمنا به، انه الحق من ربنا: إنّا كنّا من قبله مسلمين" (قصص53)؛ ذلك "يدل على ان ايمانهم به ليس ممّا أحدثوه حينئذ وإنما هو امر تقادم عهده لما رأوا وذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الاسلام قبل نزول القرآن أو تلاوته عليهم" (البيضاوى).

وخلاصة القرآن و الكتاب تنحصر في تعليم توحيد الاسلام أو اسلام التوحيد:"هذا ذكر من معش وذكر من قبلي: وما أرسلنا من قبلك من رسول الا توحى اليه أنه لا إله الاَ أنا فاعبدون"(انبياء24 و25) 1

فدين الكتاب والقرآن هو "الإسلام". واسم الموحّدين في القرآن والكتاب هو "المسلمون". هكذا ورد اسمهم في الكتب المتقدمة وفي الكتاب الأخير: "وجاهدوا في الله حق جهادة: هو اجتباكم، ملّه ابراهيم ابيكم؛هو سماكم المسلمين من قبلُ وفي هذا2. ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس" (الحج78).

فبما أن الدين واحد في الكتابيين فلهما ُحرمة واحدة

و الايمان بالكتابين واحد

يأمر محمد قومه بان يؤمنوا ايماناً واحداً بالوحى الجديد والقديم: " يا أيها الذين أمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزّل على رسوله، والكتاب الذى انزل من قبل" (نساء136)

و يجعل هذا الإيمان من أركان الإسلام: "ليس البرُّ ان تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البِرَّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين". (بقرة177).

ويشجب التفرقة في الايمان بالكتب المنزلة والرسل والدعوات: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلُّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله: لا نفرق بين أحد من رسله" (بقرة285).

ويشدد في توحيد الأيمان بما في الكتاب والقرآن: "ان الذين يكفرون بالله ورسله،ويريدون ان يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون؛ واعتدنا للكافرين عذابا مهينا. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم اولئك سوف يؤتيهم اجورهم" (نساء151).

لذلك يجب ان يكون للناس ثقة واحدة بالكتاب و القرآن.

القرآن نسخة عربية عن الكتاب

جاء محمد ليعلم قومه الكتاب الذى كانوا يجهلونه: "كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (بقرة151).

غفلوا عن دراسة الكتاب الذي نزل على طائفتين من قبلهم فجاء القرآن يملأ هذا الفراغ: "وهذا كتاب انزلناه مبارك ... ان تقولوا إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وان كنّا عن دراستهم لغافلين" (انعام156)؛ فسبب نزول القرآن اذن هو عدم قراءة العرب للكتاب الذي نزل على اليهود و النصاري، لجهلهم لغته: فهو ينقله لهم بلسان عربى مبين ليقرأوه.

فالكتاب هو القرآن معرّباً: "و إنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وانه لفي زُبر الأولين" (شعراء193).

والقرآن هو الكتاب بلسان عربى مبين: "والكتاب المبين، إِنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون" (زخرف2و3).

ويذكر مرتين بصراحة جاهرة أن إمامه الكتاب: "ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً" (احقاف12). كذلك (هود17).

ومن ثم، فاذا ما كان القرآن نسخة عربية عن الكتاب، فيجب لهما احترام واحدة، وبهما ايمان واحد.

القرآن تصديق الكتاب

يصرح بذلك مراراً: " يابني اسرائيل آمنوا بما أنزلتُ مصدّقاً لما معكم" (بقرة41،89، 91، 101). والرسول ذاته لا ينسب إلى نفسه رسالة سوى تصديق الكتاب : "ولما جاءَهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب، كتاب الله، وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون" (بقرة101)

يستغرب النبي العربى عدم ايمان اليهود به وبكتابه"وهوالحق مصدّق لما معهم".

وهذا التصديق يمعن حتى يبلغ درجة الهيمنة: "وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه" (مائدة51) أى شاهداً للكتاب(الجلالان) ، ورقيبا على سائر الكتب يشهد لها بالصحة والثبات (البيضاوى).

فاذا كانت غاية القرآن والنبى العربى تصديق الكتاب فيجب للكتاب والقرآن كليهما محبة واحدة من الجميع.

وأخيرا، لا آخرا ، القرآن تفصيل الكتاب

يردّد هذه الحقيقة مراراً : "ما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين" (يونس37) ؛ إنه مطابق لما تقدمه من الكتب الالهية، المشهود بصدقها، وهو شاهد على صحتها (البيضاوى).

وأهل الكتاب شهود على ذاك التفصيل الوارد في القرآن: "أَفغير الله ابتغى حَكَماً. وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصّلاً؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزّل من ربك بالحق فلا تكوننَّ من الممتزين" (انعام114). اتلاحظ من تعريف الكتاب في الموضعين انه يعتبر المنزل على محمد والمنزل من قبل واحداً، وان الثاني تفصيل الاول.

فالقرآن من الكتاب : "اتلُ ما اوحى اليك من الكتاب ... وكذلك انزلنا إليك الكتاب. فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به" (عنكبوت45 50).

فبما أن القرآن من الكتاب وتفصيل له، فقيمتُه من قيمة الكتاب.

كل هذه الاعتبارات وغيرها يجعل، بشهادة القرآن نفسه،للكتاب والقرآن رتبة واحدة وقيمة واحدة ودرجة واحدة و منزلة واحدة؛ وقد جمعها على صعيد واحدة في آخر ما نزل منه : "فقد اشترى الله من المؤمنين انفسهم وأموالهم بان لهم الجنة ... وعداً عليه حقّاً في التوراة والانجيل والقرآن" (توبه111).

قيمة الإنجيل في القرآن

"واتيناه الانجيل فيه هدى و نور" (مائدة46)

للانجيل والقرآن بنوع خاص قيمة واحدة في نظر النبى العربى، بسبب النعوت والصفات الواحدة التى يطلقها سواءً بسواء على القرآن و الأنجيل.

أنفرد المسيح بين الانبياء و المرسلين جميعهم بتأييد الروح القدس : "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل. وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" (87). وكان هذا التأييد نعمة خاصة من الله يذكّر الله بها المسيح: "اذا قال الله: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك اذ ايدتك بروح القدس" (مائدة 113). بفضل هذا التأييد خرج عن نواميس الطبيعة بحياتة الفريدة، واختصه الله بين الانبياء بالانجيل (مائة113) ؛ وبفضل هذا التأييد صار المسيح مفضلاً على المرسلين: "تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض. منهم مَن كلم الله. ورفع بعضهم درجات. وآتينا عيسى ابن مريم البينات وايدناه بروح القدس" (بقرة253).

الانجيل وحيّ مباشر: اختص الله المسيح بوحى الانجيل : " ثم قفينا على آثارهم برسلنا. وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل" (حديد27). وأوحاه اليه مباشرة بدون واسطة كما فعل مع سائر الانبياء: "ويعلّمه (اللهُ المسيحَ) الكتاب و الحكمة والتوراة والانجيل" ، (آل عمران48)؛ وتعلّم المسيح كذلك مباشرة من الله الكتب المنزلة كلها: "واذا علمتُك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل" (مائدة 113، آل عمران 48)

والانجيل هو الكتاب نزل على المسيح: "قال (المسيح في مهده) إن] عبدالله آتاني الكتاب وجعلنى نبيّاً" (مريم30). و الانجيل،بالاضافة إلى الوحى الجديد النازل فيه، يحوى الوحى القديم كله: " واتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة" (مائدة46).

الأنجيل علّم التوحيد قبل القرآن: "وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأَطيعون: إِن الله ربي وربكم فاعبدوه: هذا صراط مستقيم" (آل عمران 50 51)، ومنع الشرك بالله حتي في المسيح نفسه: "لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم: وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إِنه من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنه ومأواه النار" (مائدة 75)

الانجيل كالقرآن : كلاهما تنزيل الحي القيوم : " الله، لا إله الا هو، الحيّ القيوم، نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس". (آل عمران3). كذلك (غافر 2).

وكلاهما يحتويان وحْيَ الله: "إنا أوحينا اليك كما اوحينا إلى ... عيسى" (نساء163).

وكلاهماُ يدعيان الكتاب على السواء. أنزل الله الكتاب مع جميع الانبياء: "بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق"(بقرة213): فالقرآن هو الكتاب "تلك آيات الكتاب المبين(قصص2)، تلك آيات الكتاب وقرآن مبين" في مطلع عدة سور (شعراء كهف السجدة). والانجيل هو الكتاب ايضاً : "قال إني عند الله آتاني الكتاب وجعلنى نبياً" (مريم30).

وكلاهما الذكرالحكيم: " وما ارسلنا قبلك الا رجالاً نوحي اليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون"(انبياء7) ، "وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل اليهم" (نحل44). وقد أطلق لفظة الذكر على الاثنين فى آية واحدة: "وما ارسلنا من قبلك الارجالاً نوحى اليهم فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون بالبينات والزُّبر. وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم" (نحل 43و 44). كذلك في قوله: "هذا ذكر من معي وذكرَ من قبلي" (انبياء23). فالذكر مرادف للكتاب، وكلاهما يطلقان على الكتابين وكلاهما فرقان، قال : " تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده" (فرقان1). وقال عن الانجيل والتوراة : "نزّل عليك الكتاب ... وأنزل التورية والانجيل ... وأنزل الفرقان" (أل عمران3و4)

ترد الالقاب "كتاب، ذكر ، فرقان" مترادفة في الإنجيل والقرآن.

وكلاهما يحتويان الحق على السواء: "واذا قيل لهم أمنوا بما انزل الله ‍‍‌‌‍؟ فقالوا نؤمن بما أنزِل الينا ويكفرون بما وراءَ ه وهو الحق مصدقا لما معهم" (بقرة 91) كذلك "إن الله نزّل الكتاب بالحق" (بقرة176 ، يونس 94).

وكلاهما نور و هدى : اذا كان القرآن هدى "فإنه نزّله على قلبك بإذن الله هدي وبشرى للمؤمنين" (بقرة97) فالإنجيل هدى ونور: "وقفينا على اثرهم بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل فيه هدى و نور" (مائدة64).

وكلاهما رحمة للعالمين بل الانجيل قبل القرآن: "جاء القرآن هدى ورحمة: "وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبّين لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" (نحل64) كما جاء الانجيل والمسيح آيه ورحمة: "قال ربك: هو عليّ هّين: ولنجعله آيه للناس ورحمة منّا‍! وكان أمراً مقضياً" (مريم21)

وفيهما كليهما على السواء وعد الله العظيم لمختاريه بالجنة"وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن" (توبة111) ، "ياايها الناس ان وعد الله حق فلا تغّرّنكم الحياة الدنيا" (فاطر5)

والإنجيل يحوي احكام الله مثل القرآن: "وكيف يحكمونك وعنهم التوراة فيها حكم الله" (مائدة43) كذلك "وليَحْكم اهل الانجيل بما انزل الله فيه: ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" (مائدة 47 50).

بل القرآن يهدي إلى سنن ما قبله : "يريد الله ليبّين لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم" (نساء25) كما يقتدى بهدى الكتاب واهلة : "اولئك الذين هدي الله فبهداهم اقتدِ" (أنبياء90).

وحكم الانجيل باق إلى زمن القرآن ومعه وبعده. ذلك ان الإنجيل يحوى شرعة نهائية ملزمة لأهلها مل القرآن : "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة" (مائدة48).

ويهدد القرىن أهل الإنجيل والتوراة إن لم يعملوا بما فيهما: "قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل اليكم من ربكم" (مائدة68)

وهكذا ترى أن النبى العربى يجعل للقرآن و الإنجيل قيمة واحدة، من الألقاب التى يضفيها على الكتابين، ومن الصفات والنعوت التى تترادف بين الاثنين، ومن المواضيع الواحدة الواردة في الذِكْرين. وقد جمعها في قوله:

"لهم الجنة ...وْعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن" (توبة111)

حقا لقد كان الإنجيل وما يزال "هدى ونوراً).

موقف القرآن من أهل الكتاب

"إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة ...وعدّا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن" (توبة112).

يسود المسلمين والنصارى آراء غريبة في علاقتهم بعضهم ببعض. فكثيرون من أَهل الإنجيل يفتكرون بإخوانهم ما لا يليق مع أن المسيح أَوصاهم بمحبة جميع الناس، حتي اعداءهم انفسهم. وكثيرون من أَهل القرآن يعتقدون بأهل الكتاب غيرَ الذي جاء به محمد ونزل به القرآن، فيعتبرون النصارى واليهود مشركين أو كافرين! مع انه لا وجود لآيه واحدة تصرّح بمثل ذلك.

وبكلمة واحدة جريئة يعتبر بعض المسلمين أَهل الكتاب أعداءَ دين!

فما هو موقف القرآن من أهل الكتاب؟

لقد رأينا، فيما سبق، الموقف الدينى 1: كان الإسلام في مكة كتابيّاً محضاً فأمسى في المدينة توحيداً قوميّاً عربيّاً على طريقة الحنفاء. وهذا التوحيد الكتابي ظل في المدينة كتابيّاً في العقيدة كما كان في مكة، ولم يتطوّر فيه الا التشريع، وفي فروعه لا في أصوله. ففيما كان في مكة ينحو منحى الشريعة الكتابية، أخذ في المدينة يُهمل أَحكام الإنجيل والتوراة ويتقرَّب من شرائع قومه مع صبغها ودمجها بالتوحيد كما كان يفعل الحنفاء قبله (نساء25 27).

لقد ظلَّ الانفاق في العقيدة التوحيدية قائماً في مكة والمدينة حتى النهاية.

والاختلاف في التشريع أَو بالحرى في فروع الشريعة، أى الأحكام الثانوية، لا يضير وحدة الدين والإيمان في شئ.

والآن ندرس الموقف السياسى:

فالقرآن لا يعتبر اهل الكتاب أعداء دين: وكل ما رأيناه حتى الأن يعارض هذه التهمة، بل يعتبرها إذا هم لم يخضعوا للدولة الاسلامية خطرأً اجتماعيا عليها وخصوما سياسيين لها.

كان الإسلام ديناً في مكة فأمسى دولة في المدينة؛ وحدّ الدينُ في مكة بين أهل الكتاب وأهل القرآن، ففرّقتهم السياسة في المدينة.

الموقف العام

بهذا المبدا العام الجامع المانع، الآتى في أول سورة من القرآن بحسب ترتيبه الحالي و أول سورة نزلت في المدينة نريد سورة البقرة التى هى أعظم سور القرآن على الإطلاق، بدأ محمد كرازته: "ان الذين آمنوا و الذين هادوا والنصارى والصابئين: مَن أمن بالله واليوم الآخر و عمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (بقرة62) ؛ وبهذا المبدأ ذاته ختم محمد حياته وكرازته، على ما جاء في سورة المائدة التى هي من أواخر حياة النبى العربى ولم يعقبها الا التوبه لا غير: "ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون، والنصارى : مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (مائدة69) : لقد ختم كما بدأ.[2]

يسرنا أن نقول إن هذا المبدأ هو روح كرازة جميع الانبياء في كل زمان ومكان. قال بولس الرسول : "بغير ايمان لا يستطيع احد أن يرضى الله لأن الذى يدنو إلى اللهيجب عليه أن يؤمن بأنه كائن وأنه يثب الذين يبتغونه" (عبر11 :6). هذا هو جوهر الدين كله : الإيمان بالله واليوم الاخر. ولا يكفى الإيمان وحده بل يجب "عمل الصلاح" بحسب هذا الإيمان ، كما قال يعقوب الرسول، أحد الحواريين ايضا: " الإيمان بغير اعمال ميت" (2 : 21). وهذا ما يقره العقل السليم.

يقرن القرآن ذاك المبدأ العام بعادة عامة توضح موقفه: أنه يسمَى النصارى واليهود "أهل الكتاب" و"أولى العلم" اى العلم بكتاب الله ودينه. قال الرازى : "يسميهم اهل الكتاب وهذا الاسم من احسن الأسماء واكمل الألقاب حيث جعلهم اهلاً لكتاب الله (آل عمران64) ويسميهم ، أولى العلم أو الذين يعلمون بخلاف مشركى العرب اذلين لا يعلمون ما أنزل الله فقرن ذكرهم بذكر الله والملائكة في قوله : شهد الله ان إله الا هو ، و الملائكة وأولو العلم" (آل عمران 18).

فموقف القرآن العام موقف سَمْحُ من حيث المبدأ. فلنبحث الآن التفاصيل.

كانت الدعوة الإسلامية في مكة كتابية من كل الوجوه : في مصدرها وفي موضعها وفي طريقتها وفي قصصها وفي جدلها، كما رأينا.

بشّر محمد في مكة " بالحكمة والموعظة الحسنة" مدة اثنتي عشر سنة (610 622). وكان موضوع كرازته الوحيدة : الإيمان بالله واليوم الآخر. فهو لا يعرف غير هذا التعليم، وهو يردده بكل لحن. ونراه دائماً في جدال وخصام، وحرب باردة احياناً ومحتدمة أخرى، مع المشركين من آل قريش والعرب. ولا أثر لخلاف دينى او قومى أو سياسى ، من أى نوع كان، مع أهل الكتاب، في السور الست والثمانين المكية كلها.

بل نجد فيها ثلاث شهادات قرآنية على وحدة الإيمان والحياة بين أهل القرآن وأهل الكتاب. إِنه يصرّح بأن مصدر القرآن وإِمامهَ هو الكتاب (الأعلى18 و 19، النجم 56، القمر52، طه 135 ، شعراء196، أحقاف12، أنبياء24 25 ، هود17 ، السجدة 23، شورى15) "و قل آمنتُ بما أنزل الله من كتاب" (شورى15) ؛ وجاء القرآن تصديق الكتاب وتفصيله لا ريب فيه رب العالمين(يونس37)؛ وكانت حجة محمد الكبرى ، طيلة حياته في مكة، شهادة أهل الكتاب له: فهو يستشهد بهم على صحة تعليمة وصحة رسالته: "فاسالوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون بالبينات والزُّبر" (نحل43).

كذلك انبياء7 ، وشعراء 105 109 ، وأنعام 89 90 ، 156، وسبا 6 " قل كفى بالله شهيداً بينى وبينكم ومنَ عنده علم الكتاب" (رعد 45) [3].

أخيراً يامر القرآن محمداً ، اذا ارتاب من نفسه ومن صحة ايمانه، أن يُطَمْئِنَ نفسه عند أهل الكتاب: "فإن كنت في شك مما اوحينا اليك ، فَسْئَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك" (يونس94).

فهل أدَلُّ من ذلك على وحدة العقيدة والشريعة والسياسة؟ وفي هذه المدة طيلة اثنتى عشرة سنة لا نقف على خلاف بين محمد وأهل الكتاب بل نراه كأنه واحد منهم.

في آخر العهد بمكة ظهر أثر خلاف بين قوم محمد والكتابيين فشجبه النبى بشدة، مصرّحاً تصريحاً قاطعاً بوحدة الاله الموحي ، ووحدة الوحي ، ووحدة الايمان و الدين : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقالوا : آمنا بما أُنزل الينا وانزل اليكم و الهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون" (عنكبوت46). يقول : لا تجادلوهم أَبدا لأن كتابهم نزل إليكم، وأنتم متفقون معهم على ايمان واحد. والمجادلة بالتي هى اَحسن هي الاقرار معهم بالايمان الواحد (البيضاوى).

فلا قتال! ولا جدال! هذا هو الداعية الدينى السامي.

ثم كانت الهجرة من مكة إلى المدينة 622 بعد المعاهدة العسكرية في العقبة الثانية، ذاك الانقلاب الهائل في الدعوة والداعى[4]: "احارب مَن حاربتم واسالم مَن سالمتم[5]".

كان محمد في مكة يدعو إلى توحيد الآلهة :" أجعل الآلهة إلهاً واحداً، إِن هذا لشئ عجاباً"! فصار في المدينة يدعو إلى توحيد الأديان، حتى المنزلة منها، "قل يا أَهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله (آل عمران64).

كانت الدعوة موجهة إلى المشركين في مكة، فصارت في المدينة تلاحق المشركين والكتابيين: "و لو آمن اهل الكتاب لكان خيراً لهم : منهم المؤمنون واكثرهم الفاسقون" (آل عمران109) " قد جاءكم من الله رسول و كتاب مبين". ويخاطب اليهود " ولا تكونوا اول كافر به"!

كان محمد يدعو في مكة إلى سبيل الله " بالحكمة والموعظة الحسنة" فصار في المدينة يدعو "بالحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس" (حديد25).

يقوم محمد في المدينة بإنشاء "امة وسط" : "وكذلك جعلناكم امّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" (بقرة143). أمة وسط بين العرب المشركين وبين الكتابيين :تأخذ عن هؤلاء عقيدتهم ، وترضى لاولئك بعوائدهم أو بعض من عوائدهم ؛ امة وسط أيضاً بين اليهود والنصارى، ولكنها ليست اليهودية، وليست النصرانية، بل هي منهما ، وهي "وسط" بينهما : تقبل بعيسى ورسالة عيسى وتجعلها امتداداً لنبوَّة موسى وبعثة النبيين من بعده ، ولا تقول بألوهية عيسى كما يقول المسيحيين "المغالون" وينكر اليهود المنكرون ، ولا تبطل نبوة عيسى كما يدعى اليهود والمدّعون ؛ وراى في هه الطريقة توحيد الأديان على توحيد الله.

كان الاسلام في مكة ديناً ، فأصبح في المدينة دولة ومن مقوّمات الامة الدين والدولة. والامة الوسط التي أُخرجت للناس في المدينة هي الدولة الإسلامية الناشئة. والآن ندرس مراحل هذا التطور.

1" انشاء ملة جديدة"

في أول العهد بالمدينة ، في سورة البقرة[6] ، بدأ يتميز عن أهل الكتاب بتأسيس "ملة وسط".

كان اليهود كثرة في المدينة والنصارى قلة؛ والطائفتان اكثر في المدينة منهما بمكة. فكان لابد للنبى الجديد ان يحدّد موقف منهم بدء عهده ، كما نصت عليه معاهدة العقبة[7]. وقد حفظت لنا سورة البقرة العلاقات الاولى بين محمد ويهود المدينة. فلاحظ ان الجدل يقوم دائماً بين محمد واليهود من اهل الكتاب، ولا علاقة له بالنصارى الاَ عرَضاً وفيما ندر وحيث يصرّح بذلك.

يظهر ان يهود المدينة وقفوا منذ البدء من محمد موقف الحذر. فحاول ان يدعوهم إلى قبول دعوته كما قبلها يهود مكة : "يا بني اسرائيل اذكروا نعمتى التى انعمتُ عليكم ... وىمنوا بما انزلت مصدّقاً لما معكم ... ولا تكونوا أوّل كافرٍ به" (41).

وهو اذا يحسُّ منهم ذال الحذر يحذّر قومه من محاولاتهم : "افتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" (75). بما ان الدين واحد والكتاب واحد كما كان شائعاً فكرّ بعض المهاجرين والانصار أن يستميلوا حلفاءَهم من اليهود لتقوى بهم حركتهم. فاعتصم اليهود في عزلتهم واخذوا ينتقدون التعليم الجديد.

فابتدأ الاحتكاك، وبرزت الآراء المختلفة سافرة ؛ فأخذ النبى يجادلهم في آرائهم : "وقالوا : لن تمسنا النار اياماً معدودات! قل اتخذتم عند الله عهداً؟ فلت يخلف الله عهده. ام تقولون على الله ما لا تعلمون" (80) ؛ النار ليست من نصيب اهل الكتاب، والجنة ميراث لهم : "قل ان كانت الدار الآخرة خالصة لكم من دون الناس ، فتمنّوا الموتَ ان كنتم صادقين" (94) ، ويمعنون في تأكيدهم : "لن يدخل الجنة لا من كانوا هوداً أو نصارى"! فيجيب : "تلك امانيهم! قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين! بلى ، مناسلم وجهة الله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (111و 112). انك لتشعر تحسّسَهم بتفوقهم على غيرهم واجتهاد النبي بمساواة قومه بهم على اساس اسمى من الملّة : الايمان بالله وعمل الصلاح بموجبه هو سبب الخلاص وبلوع الجنة ، وهذا ليس وقفاً على ملة؛ تلك عقيدة راسخة مكرّرة في القرآن.

ويستغرب مناظرة اليهود مع النصارى وهم الكتاب الواحد : "وقالت اليهود: ليست النصارى على شئ! وقالت النصارى : ليست اليهود على شئ! وهم يتلون الكتاب" (113) فكيف يكفر بعضهم بعضاً!

ولكنه رغم هذا الاحتكاك يعترف القرآن دائماً بوحدة الدين بين المسلمين والكتابيين : "ولما جاءَهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم ... كفروا به"! (89) فكيف يكفرون به وهو يصدّق كتابهم :"واذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ، قالوا نؤمن بما انزِل الينا ويكفرون بما وراءَ ه وهو الحق مصدّق لما معهم" (91) انهم يفعلون ذلك عن عناد عُرفوا به منذ القديم : "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ، نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم" (101) نبذوا توراتهم لنها تذكر "النبى الآتى".

وقد يجرّب اليهود ان يستميلوا المهاجرين والانصار اليهم لما انسوا عندهم من الايمان المشترك: "ودّ كثير من اَهل الكتاب لو يردّونكم من بعد ايمانكم حسداً من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" (109). لقد فهموا وحدة الدين بينهم فأحبوا ان يكسبوهم إلى ملّتهم كي لا يتقوى حزب محمد وملته.

وتوددون إلى محمد نفسه كي يستميلوه إلى ملتهم : "ولن ترضي عنك اليهود- ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (119) ؛ اذن الخلاف الناشب هو على الملّة ، أى في القومية ، أو كما نقول اليوم في الطائفية ، وليس في الدين الواحد والايمان المشترك. فجاء الجواب الحاسم : " وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا! بل ملة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" (135).

إن محمداَ يفضّل أن يُنشِئ ملة مستقلة عن اليهود والنصارى ، ملة عربية تتصل مباشرة بإبراهيم، جدّ المؤمنين جميعاً من الملل الثلاث الكتابية. وهذه الأمة الجديدة التي يسعى لتأليفها ستكون "وسطاً " [8] بعقائدهم بين اليهودية والنصرانية، وبعوائدهم بين القومية العربية المشركة والكتابية: "وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" (143).

فيعيبون عليه عمله ويحاجونه في الله الذى لا يرضى عن ذلك: "قل، اتحاجونا في الله؟ وهو ربنا وربكم. ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم. ونحن له مخلصون" (139). فتأسيس هذه الملة الجديدة لا يُقصد منه إلى تفريق في الدين عن أَهل الكتاب لأن الرب واحد، وإِن تعددن طريقة عبادته. ويعلن محمد انه مخلص لله في عمله ذاك : فلا تحاجونا، فالاختلاف في الملة ليس اختلافاً في الدين.

ويميزُ ملته الجديده بِقبله جديده في الصلاة. كان المسلمون يولّون وجوههم مثل اليهود شطر بيت المقدس، ويعلن القرآن لمن يعيبهم من العرب: " لله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمَّ وجه الله ان الله واسع عليم" (115) :كيفما اتجه الانسان يقدر ان يصلّي لله الموجود في كل مكان. لكن لابد من قبلة جديدة لهذه الملة الجديدة تكون علامة فارقة لها: "قد نرى تقلّب وجهك في السماء. فلنولينّك قبلة ترضتها. فولّ وجهك شطر المسجد الحرامّ وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره"(144). إنها لَضربة معلّم ماهر : لقد تميّز بذلك عن اهل الكتاب، وان وافقهم في موضوع الدين، وأراضى المهاجرين والانصار الذين يقدّسون شعائر قوميتهم، واستمال العرب قاطبة في اتباع قبلتهم وإن خالفهم في شركهم. وقد يسمع الاعتراضات تترى على عمله فيجيب: "سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها؟ قل لله المشرق والمغرب يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم" (142) ففى تغيير قبلة الصلاة مغزى كبير: "وما جعلنا القبلة التى كنت عليها الا لنعلم مَن يتبع الرسول مِمّن ينقلب على عقبيه" (143). وسوف يستحكم الخلاف على القبلة في الصلاة بين الملل الثلاث لأن القبلة مظهر استقلالها :"ولئن أتيتَ الذين اوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما انت بتابع قبلتهم. وما بعضهم بتابع قبلة بعض"(145).

لكن هذا الخلاف على القبلة ثانوي؛ فالملة الجديدة تدين بدين من سبقها من أهل الكتاب الأول، وأركان الدين عن الجميع واحدة: " ليس البِرّ ان تولّوا وجوهكم قبَل المشرق و المغرب؛ ولكنَّ البرّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب و النبيين. وآتى المال على حبة ذوي القربي واليتامي و المساكين و ابن السبيل و السائلين وفي الرقاب، وأَقام الصلوة وآتى الزكوة، والموفون بعهدهم اذا عاهدوا و الصابرين في البأساء والضرّاء" (177).

ويطلق القرآن على هذا الدين وهذا الايمان المتسلسل من ابراهيم إلى محمد اسما جديداً ، أَو بالحري اسما عربياً: "الإسلام" من قوله "أسلم وجهة لله" أي عرفه واعترف به وسوف نرى انه يرجع بهذا الاسم لفظاً ومعنى إلى ابراهيم (الحج 78).

ويجعل إبراهيم و إسماعيل ابنه مشيّدين للبيت العتيق، كعبة بكة : "وان اول بيت وضع للناس لَلّذى ببكة" (آل عمران96). ويضع عللا لسان ابراهيم صلاة إلى الله يطلب فيها رسولاً إلى العرب منهم: "واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبّل منا إِنك السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلِمَين لكَ، ومن ذرّيتنا أمة مسلمةً لك، وأرنا مناسكنا وتّبْ علينا إِنك انت التوّاب الرحيم ؛ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب و الحكمة ، ويزكيهم. انك النت العزيز الحكيم" (127 129). بل أَمر قومه به :"واتخذوا من مقام ابراهيم مصلّى" (125) ويختم بقوله : "ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا مَن سفه نفسه!؟" (130)

ويحاجونه في ابراهيم ، جدّ الدين الحنيف. ويحتج عليه اليهود و النصارى ديناً وعنصراً : انه ابوهم وحدهم في الايمان والدم ولا علاقة له بمحمد ودينه، ولا بالكعبة و الحجّ اليها : " أم تقولون ان ابراهيم واسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هوداً أو نصارى! قل أأنتم أَعلم أم الله؟ ومن أظلم مِمّن كتم شهادة عنده من الله! وما الله بغافل عمّا تعملون" (140). راجعوا كتابكم فإبراهيم قبل عيسى وقبل موسى، وقبل الانجيل والتوراة ، وقبل النصارى وقبل اليهود!

كما ان اختلاف القبلة في الصلاة لا يضير وحدة الدين، كذلك الانتساب مباشرة إلى إبراهيم من فوق الإنجيل و التوراة لا يقسّم وحدة التوحيد في الايمان: "وقالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا! بل ملة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قولوا آمنّا بالله وما انزل الينا إلى ابراهيم واسماعيل و اسحاق و يعقوب والاسباط، وما اوتي موسى وعيسى ، وما اوتي النبيون من ربهم: ى نفرق بين احد ونح له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا، وان تولّوا فإنما هم في شقاق" (135 137) لاحظ دقته في التعبير عن وجه الخلاف الذي يستحكم بينهم : انه شقاق في الدين الواحد؛ لا كفر!

2" مؤتمر الاديان الثلاثة الكتابية" (في آل عمران)

لقد توطدت الجماعة الاسلامية في المدينة وتعززت بنصر بدر في اواخر السنة الثانية للهجرة، وظهر الاسلام ملة توحيدية متمّيزة عن سابقتيها. فجاء نصارى نجران إلى النبى يفاوضونه ، و انضم اليهم اليهود، فكان من ذلك ما يسميه حسين هيكل "مؤتمر الاديان الثلاثة" ويصف القسم الأول من آل عمران ما جرى في هذا المؤتمر وحوله من مباحثات وجدال. ولكن المفاوضات ادت إلى الفشل : اكتفى النصارى من محمد بقبوله نبوّة عيسى وان خالفهم في بُنُوَّته ووقفوا حتى النهاية من محمد ومن حركته موقف المسالمة و (المودّة)، وخالف اليهود محمداً في دعوته الدينية أي في انتشار الدولة الاسلامية التي كانوا يشعرون أنّ امتدادها سيقضى عليهم، ووقفوا من النبى العربى موقف الخصام والمقاومة المستترة حيناً والسافرة أحيانا إلى درجة "العداوة".

تقف سورة آل عمران على مفترق الطرق بين الطرائق الثلاث.

فترتيب السورة الحالي يقحم ذكر آل عمران يحيى ومريم وعيسى (23 64) في غمرة الجدل القائم بين محمد واليهود(18 120) : يذكر يحيي الذى سبق مصدّقاً بكلمة الله(39) ومريم التي تحبل بمعجزة إلهية وتلد كلمة الله:"اذ قالت الملائكة يامريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم: وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقرّبين، ويكلم الناس في المهد وكهلا، ومن الصالحين" (45 47) - اربعة القاب فريدة تسمّيه، واربع صفات وحيدة تعنيه- ثم يأتي على ذكر خوارق حياة المسيح ورسالته ويختم بقوله "ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم"(58). ويليه مقطع تفسيري متأخر في شخصية المسيح(59 64) جواباً لمن حاجّة في بنوّة عيسى من مريم ومن الله (61) : "إِن هذا لهو القصص الحق وما من إله الا الله"(62).

كان الجدال عنيفا مستمرّاً بين محمد والبهود : يذكر القرآن في آل عمران تسعة مواضيع من ذلك الخلاف القائم.

الجدل الاول حول اسم التوحيد الجديد الذى اطلقه القرآن على لسان محمد: أي الاسلام " شهد الله انه لا إله الا هو، والملائكة واولوا العلم قائماً بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم:إن الدين عند الله الاسلام! وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم" (18 19 ). خالفوه في الاسم وليس في موضوع التوحيد. ويقرّر هو أن الاسلام هو التوحيد الحق المطلوب: "فإن حاجوك فقل اسلمت وجهى لله ومَن اتبعنى. وقل للذين اوتوا الكتاب و الاميين ءَ أسلمتم؟ فإن اسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ" (20)، يود ان يرغمهم على الاعتراف بان ايمانهم وايمانه هو السلام لفظاً ومعنى.

الجدل الثانى في مدة العذاب : "قالوا : لن تمسّنا النار الااياماً معدودات!". وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون. ويحتكم غلا الكتاب على فساد قولوهم فيعرضون" "ألم تر إلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"(23).

الجدل الثالث في ابراهيم وانتساب الامم الثلاثة اليه وأيهم احق بهذا الانتساب وأولى: قد يُفهم احتجاجهم في أمر موسى وعيسى، ولكن لا يقبل قولهم في نسبتهم إلى ابراهيم: "يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده افلا تعقلون؟ ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم. فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم. والله يعلم(في الكتاب) وانتم لا تعلمون ... لِمَ تكفرون بآيات الله وانت تشهدون" (66و 71)، ومن ثمَّ"فان اولى الناس ابراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبى والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين"[9]

الجدل الرابع في زعمهم وخطتهم :"ولا تؤمنوا الا لمن اتبع دينكم"! "قل ان الهدى هدى الله ... يختص برحمته من يشاء" (73 74).

الجدل الخامس في اكلهم حقوق الناس وقولهم: " ليس علينا في الاميين سبيل! يقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين الذين يوفون الناس حقهم ولا يشترون بعهد الله وايمانهم ثمناً قليلاً" (75- 77).

الجدل السادس في اتخاذهم الملائكة والنبيين اربابا من دون الله: ليس هذا من الانبياء في شئ: "ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم و النبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" (79) وليس ذاك من الله في شئ: "أَيأمركم بالكفر بعد إِذا انتم مسلمون" (80) وهذه شهادة عارضة ثمينة على ان اهل الكتاب مسلمون، وإِن غالوا في اكرام الملائكة و النبيين :إِنهم مسلمون!

الجدل السابع على نقضهم ميثاق النبيين بالايمان بالنبى الاعظم: " إن جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنّهُ" ! هذا هو النبى الذى يدعو إلى دين الله الذى كرز به الانبياء جميعاً ، وهو الاسلام الذي تدين به السماوات والارض: "أَفغير دين الله يبغون وله اسلم من السماوات والارض طوعاً وكرهاً" (81- 85).

الجدل الثامن على الطعام الحلال والحرام. قال لهم: "كل الطعام حلًّا لبنى اسرائيل الا ما حرًّم اسرائيل على نفسه من قبل ان تنزّل التوراة قل فائتوا ‌‌بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين ... فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفاً" (93-95 ).

الجدل التاسع على اول بيت عبادة وضع الناس أَهو الذي بالقدس أم بمكة. فكان يقول : " ان اول بيت وضع للناس لَلذي ببكه مباركاً وهدًى للعالمين. فيه آيات بيّنات: مقام ابراهيم ، ومن دخله كان آمناً" (96 و97).

يتخلل هذا الجدل طائفة من الآيات التي تفضح مؤامرات اليهواد وتحذر المسلمين منها:

إِختلفوا عن اتباع الاسلام، من بعد ما جاءهم العلم بصحته، بغياً بينهم (19) والله يؤتى الملك مَن يشاء وينزع الملك ممن يشاء (26) إِن الهدى هدى الله فلِمَ لا يؤتى أحدّ مثل ما أُتيتم؟ (73).

ويسعون في اضلال المسلمين: "وردت طائفة من أَهل الكتاب لو يضلّونكم" (69) بكفرهم بآيات التوراة والقرآن المشتملة على نعت محمد (70) أَو يلبسون حقّها بباطل تفسيرهم، ويكتمون الحق وهم يعلمون (71) فمن اساليبهم التزوير على كلام الله، والمخادعة : "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون" (72) اذ يقولون ما رجع هؤلاء عنه بعد دخولهم فيه وهم اولو علم الا لعلمهم ببطلانه! ثم التعصب الذميم "ولا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم"(73) فيحذّر قومه من محاولاتهم: "يا أيها الذين آمنوا إِن تطيعوا فريقاً من الذين اوتوا الكتاب يردّوكم بعد ايمانكم كافرين (100) ويحرّض قومه على التمسّك بملتهم الجديدة :"وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم آيات الله، وفيكم رسوله"! (101).

و يتوصل تطاولهم على آيات الله إلى حدّ الكذب على الله: "وان لفريقاً منهم يلوون السنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب! ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون" (78).

ويصدون عن الاسلام يبغونه عِوَجاً مثل ملتهم التى انحرفوا بها عن قصد منهم: " قل يا اهل الكتاب لِمَ تصدون عن سبيل الله من آمن، تبغونها عِوَجاً! وانتم شهداء ، وما الله بغافل عما تعلمون" (100).

ويشعر باستعدادهم لقتال المسلمين فيقوّى قومه عليهم : "لن يضروكم الا أذى وإِن يقاتلوكم يُوَلّوكم الادبار ثم لا يُنْصَون" (111).

ويحذرهم من اتخاذ اليهود اولياء (143) أو بطانة لأنه قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم أكبر (118) ثم "ها انتم اولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله" ولا يؤمنون بما أنزل عليكم من الكتاب "واذا لقوكم قالوا آمنا. واذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ" (119). أخيراً "إِن تمسَسْكم حسنة تسؤْهم وإِن تصبْكم سيئة يفرحوا بها، وان تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً" (120).

في غمرة هذا الجدال المتواصل، والتحذيرات المتتابعة من اليهود، يستثنى منهم امّةً تقية لاشك انها امّة عيسى او بالحرى رهبان عيسى : "ليسوا سواءً. من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر. ويأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين. ما يفعلوا من خير فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين" (113 115)[10]. كفاهم بهذه الشهادة فخراً على مدى الاجيال: انه يشهد بصحة دينهم وايمانهم، وبصحة كتابهم الذي بين ايديهم في زمانه، وبنزاهة سيرتهم وتقواهم، وبنزاهة علمهم وتعليمهم، ويشهد اخيراً بأن لهم الجنة. هذه اجمل شهادة قيلت في رهبان عيسى ، ولا يُنقصها شيئاً شذوذ بعضهم عن هذا المثال الرائع كما ذكر في سورة التوبة "وان كثيراً من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله" (74).

ترى ان الجدال قائم دائما بين محمد واليهود ولا دخل للنصارى فيه على الاطلاق بل هو يجلّهم ويدافع عنهم. وفي آخر سورة آل عمران ننتقل من الجدال إلى الخصام : بعد هزيمة "أحُد" ووصف وطأتها: "لقد سمع الله قول الذين قالوا: ان الله فقير ونحن اغنياء! سنكتب ما قالوا وقَتْلهم الأنبياء بغير حق ونقول : ذوقوا عذاب الحريق" (182).

وفى آخر الأمر يكشف اليهود للنبى العربي عن ةحقيقة موقفهم منه: "إِن الله عهد الينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار!" فيجيب: "قل قد جاءَكم رسل من قبلى بالبينات وبالذي قلتم فلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين؟" (183) ليس موقفكم انتصار للحق بل هو عناد وخصام فقد فعلتم بأنبيائكم اكثر مني : "فإن كذبوك فقد كُذّب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والكتاب المنير" (184) لقد انقسم الفريقان ولابد ان تقع الواقعة بينهما : "لتبلوُنَّ في اموالكم وانفسكم وَلَتَسْمَعُنَّ من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن المشركين أذى كثيراً" (186).,

إنه انقسام قومي، طائفى، سياسى، وليس دينيّاً؛ وتلك حالة فريق منهم وليست بحالة الجميع؛ فهو يختم سورة آل عمران بهذا التصريح: "وإن من اهل الكتاب لَمن يؤمن بالله وما انزِل اليكم وما أنزل اليهم خاشعين لله. اولئك لهم اجرهم عند ربهم، أنه سريع الحساب" (199).

3َاشتداد النزاع بين محمد واليهود (في سورة النساء)

يطلب النبي إلى اخصامه من اليهود أن يكفوا عن مقاومته، محذراً المؤمنين من محاولتهم : "ألم ترَإلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون ان تضلوا السبيل والله أعلم باعدائكم" (43). "فهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل(36) ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" (36)، يحرّفون كَلِم القرآن عن موضعه، ويسخرون بأقوال النبيّ، يموّهون ويغالطون ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين(45) لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا منهم (45). وها ان النبى يأخذ في تهديدهم: "يا ايها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا مصدّقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على ادبارهم ونلعنهم كما لعنا اصحاب السبت[11] وكان امر الله مفعولاً" (47).

يهددهم ثم يهاجمهم: "يزكون انفسهم" بقولهم نحن ابناء الله و احباؤُه! (48) انظر كيف يفترون على الله الكذب! وكفى به اثماً مبيناً!(49). وانهم يؤمنون بالجِبْت والطاغوت ، صنمين لقريش، بم يقولون للذين كفروا : هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا! (50) لقد توصوا إلى ان يفضلوا مشركي العرب على المسلمين المؤمنين! فيا ويلهم، لعنهم الله! (51). لهم نصيب من المُلْك فلا يريدون ان يشاركهم فيه احد(52). "أم يحسدون الناس (اى النبى) على ما آتاهم الله من فضله" من نبوّة وملك مملوء بكثرة النساء، تعييراً للنبى! فيجيب "فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكاً عظيماً" (53) فلا تطعن كثرة نسائه في نبوّته!

وهنا يلمح القرآن إلى حادثة ذات مغزى بعيد : تفاخر المسلمون واهل الكتاب فيمن له الجنة منهم، وفيمن ملته افضل فكان جواب القرىن على الأول : "ليس بأمانيّكم ولا أَمانيّ اهل الكتابَ : من يعمل سوءاً يجْزَ به، ولا يجدْ له من دون الله وليّاً ولا نصيراً" (122) ، ليس الخلاص بالملة بل بالعمل الصالح! فليس للخلاص سوى شرطين : الايمان بالله وعمل الخير بموجبه " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى وهو مؤمن[12] فاولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً" (124)، تعليم مكررّ (بقرة 62و 177): "مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً". وكان جوابه على الثانى، اذا كان لابد من المفاضلة، فالحنيفية دين ابراهيم افضل "ومن احسن ديناً ممن اسلم وجهة الله وهو محسن، واتبع ملّة ابراهيم حنيفاً، واتخذ الله ابراهيم خليلا" (124). قد تكون هذه الآية مدسوسة هنا من زمن آخر تقويماً لسابقتها[13].

فينتج من هذا الموقف وهذا التعليم ان الايمان وشروط الحلاص واحدة بين المسلمين واهل الكتاب، والعبرة بهما لا بالملة المختلفة. واذا كان لابد من مفاضلة فالحنيفية أفضل اديان الكتاب لأنها دين جدّ الانبياء وخاتمتهم. ويظهر من هذا النص ان محمداً انهى استقلاله عن اهل الكتاب، واستقر على ملة جديدة هي الحنيفية دين ابراهيم.

وتؤكد سورة النساء ان هذا الاستقلال في الملة ليس استقلالا في الدين: فقد وصّى الله الجميع بالتقوى " ولله ما في السموات والارض ولقد وصّينا الذين اوتوا الكتاب من قبلكم واياكم ان اتّقوا الله" (130)؛ ويامر القرىن قومه ان يؤمنوا بالكتاب الأول ايمانهم بالقرآن: "يا ياها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نُزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبلُ ، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً" (135)؛ ويؤيده تكفيره للذين يفرّقون بين الرسل، أو بين الله ورسله "والذين آمنوا بالله ورسله، ولم يفرّقوا بين أحد منهم اولئك سوف يؤتيهم اجورهم" (149- 152) ، ويؤيده ايضاً اعلانه لوحدة الوحى عند جميع الانبياء "إَنا اوحينا اليك كما اوحينا إلى نوح والنبيين من بعده" (162 164)

ويختم بحملة على اليهود عنيفة لأنهم سألوه ان ينزّل عليهم كتاباً من السماء: "فقد سألوا موسي اكبر من ذلك فقالوا: أرنا الله جهرة! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، ثم اتخوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً. روفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ... فبما نقضهم ميثاقهم وكفْرهم بآيات الله، وقتْلهم الانبياء بغير حق ... وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيماً. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم ... فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أُحلت لهم، وبصّهم عن سبيل الله كثيراً، وأخذهم الرّبا وقد نُهوا عنه، وأكْلهم اموال الناس بالباطل، واعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً" (152 160) انه يعدد مظالمهم التي تعودوها مع جميع الأنبياء من موسى إلى النبيين الذين قتلوهم بغير حق إلى مريم إلى عيسى الذى ادعوا القضاء عليه لما قتلوه ولكن لم يقضوا عليه بل رفعه الله اليه، إلى محمد الذى يطلبون منه ان ينزّل عليهم كتاباً من السماء عَلَناً. لاحظ ان القرآن يدافع عن شرف المسيح وامه ضد اتهامات اليهود ويكفّرهم على عدم ايمانهم بهما، ويستثنى الفئة الواعية منهم الراسخين في العلم منهم(161).

وكما يهاجم القرآن اليهود على تفريطهم بحق عيسى وامه، يهاجم النصارى على افراطهم وغلوهم في اكرام المسيح وامّه: "يا اهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق: انما المسيح عيسى ابن مريم ، رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، فآمنوا بالله ورسوله، ولا تقولوا " ثلاثة"! انتهوا ، خيرا لكم! انما الله اله واحد، سبحانه ان يكون له ولدّ له ما في السماوات وما في الأرض،و كفى الله وكيلاً" (171)؛ ولا تنسبوا غلوّكم إلى المسيح: "لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله- ولا الملائكة المقرّبون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسيحشرهم اليه جميعاً" (171).

لاحظ ان الوفاق تام بين محمد والنصارى رغم ازدياد النزاع بينه وبين اليهود. والقرىن ينتصر لهم ويدافع عن عقائدهم ضدّ كفر اليهود بها. ولكن هذا التفاهم والوفاق لا يمنعه ان يحذرهم من غلوّهم في تأليه المسيح، والاعتقاد بالتثليث :انه لا يكفّر النصار بسبب هذا الاعتقاد بل يحسبه غلوّاً منهم وينصحهم ان ينتهوا عنه. فالحديث معهم نصح وعتاب، لا جدال او خصام او هجوم كما هو المر مع اليهود

4َ تهديد صريح لليهود (في سورة الحديد)

السور المدنية كلها، وهذه خاصة، تشرح لنا معنى النزاع القائم بين محمد واليهود: انه نزاع قومى، طائفى ، سياسى، لانزاع دينى.

لقد حرّض النبى كثيراً على الجهاد حتى الآن. فبعد الهجرة اذن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش: أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا، و ان الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا ان يقولوا: رُبنا الله" (اول آية نزلت في مشروعية القتال، تجدها في سورة الحج). يُساقون إلى القتال في "بدر" كأنُما يساقون إلى الموت: "يجادلونك في الحق (القتال) بعدَ ما تبين كأنما يساقون إلى الموت، وهم ينظرون" (انفال6)؛ "ياايها النبي حرض المؤمنين على القتال (65) وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" (29)؛ هذا هو السبب الذى اباح قتال المشركين "ذلك بانهم شاقوا الله ورسوله(13). ثم نزلت شريعة القتال "كُتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون" (بقرة 216). فقالوا : "ربنا لَمِ كتبت علينا القتال؟ لولا اجّلْتنا إلى اجل قريب!" (نساء76) فكان الجواب النهائى من الله في انتصارات محمد المتتابعة تصديقاً لقوله في سورة الحديد: "لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليَعلم الله من ينصُره ورسله بالغيب ان الله قويّ عزيز" (25) في هذه السورة يجعل القرآن من القوّة الدعامة الكبرى و الحجة العظمى لنشر الوحى : لقد قرن بين الحديد و الدين. فالقوة والحديد و السيف منزلة من الله مع الكتاب لنصرة الله ورسوله.

هذا مع الكفار المشركين اما مع اليهود من اهل الكتاب فقد بدأ بالتحذير منهم في سورتى البقرة وآل عمران، ثم انتقل إلى الهديد في أنفال ونساء و الحديد: " وإما تخافنّ من قوم خيانةً فانبذْ اليهم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين" (انفال59)، "يا ايها الذين اوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدقا لما معكم من قبل ان نطمس وجوهاً فنردّها على ادبارها ونلعنهم كما لعنا اصحاب السبت، وكان امر الله مفعولاً" (نساء47). وهنا يدعو النصارى إلى التحالف مع المسلمين لابطال مؤامرات اليهود وتحزّبهم مع المشركين على رسول الله : "يا ايها الذين آمنوا (بعيسى :الجلالان) اتقوا الله وآمنوا برسوله (محمد) يؤِتكمِ كفْلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم اهل الكتاب (اليهود) ألا يقدرون على شئ من فضل الله وان الفضل (النبوّة) بيد الله يؤتيه من يشاء" (28و 29) للمسلم نصيب من رحمة الله وللنصرانى المؤمن بالقرآن نصيبان "بِكفلين من رحمته"!

بل ينذر أنفسهم بقوة الحديد الذى نزل مع الكتاب الجديد : "أَلم يَأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لكر الله وما انزل من الحق؟ ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم المد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" !(16) انه يوبخ المسلمين على التشبه بفسق البعض من اهل الكتاب؛ هؤلاء لهم من طول الأمد وبعد زمن الوحي عذر على قساوة قلوبهم وفسق اخلاقهم، اما انتم فالنبى لم يزل بينكم. فهو لا يطعن في دين اهل الكتاب بل في سلوك بعضهم، ومثلهم السيئ الذى يضر بالمسلمين. "ولقد أرسلنا نوحاً و إبراهيم و جعلنا في ذريتهم النبوة والكتاب : فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون" (26). تصل الأخبار إلى محمد كل يوم بان بعض القبائل من يهود المدينة وغيرهما ينضمون إلى الاحزاب المعاضة، بل يتآمرون على الرسول مع قريش والمشركين، فيندّد بفسقهم ولكن لا يطعن في دينهم.

ويلاحظ ان هذا الفسق قد لحق ببعض النصارى، وربما ببعض الرهبان فيحذرهم ويستميلهم :"وقفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل. وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاءَ رضوان الله، فما رعوها حقَّ رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون" (27). ألا ترى كيف يجمع المدح إلى القدح، والدم إلى التقدير، والتحذير إلى الاسترضاء. لقد لحق الفسق بعضهم، والتهاون بعض رهبانهم، ولكن لم تقسُ قلوبهم كاليهود ولا كبعض قومه انفسهم (16 و 26) لذلك يمدّ يده لهم ليحالفهم على اليهود ، واعداً اياهم بأفضل ما للمسلمين "بكفلين من رحمته" تعالى.

5َ تحزب اليهود مع المشركين على محمد (في سورة البينة)[14]

سورة البيّنة تظهر لنا تحزّب اليهود مع المشركين في عداوة النبى، ومودة النصارى له ولقومه. انهم لا ينفكون عن مقاومته حتى تأتيهم منه البيّنة " لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب (اليهود) والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البينة" (1)، والبيّنة التى يطلبها رسولُ يتبع توراتهم "رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة فيها كتبُ قيّمة" (2و 3).

ياويحهم! "ما تفرّق الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة" (4). أليس دين القَيّمة في الاخلاص لعباده الله؟ " وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة، وذلك دين القيّمة"! (5و5)

ثم يصف كل فريق من أَهل الكتاب بصفتهم : اليهود الذين والوا المشركين هم شر البرية"ان الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين في نار جهنم خالدين فيها: اولئك هم شر البريّة" (6) والنصارى الذين يودّون المسلمين هم خير البريّة: "إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات[15] اولئك هم خير البرية" (7)

6َ وقوع الواقعة بين محمد واليهود فيأمر بجلائهم عن بلاده (في سورتى الحشر والاحزاب)

كان اليهود في المدينة خطراً على وحدتها الدينية والقومية؛ وكانت دسائسهم ومؤآمراتهم لا تنتهى. وكان بنو قينقاع منهم و بنو النضير حلفاء للأوس، وبنو قريظة حلفاء للخزرج. فخشى محمد من هذا التحالف المريب، ومن تلك الدسائس المقلقة، فذكّرهم بعهد الموادعة الذي بينه وبينهم فأجابوه "لا يغرّنك يا محمد أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة: إِنا والله لئن حاربناك لتعلمنَّ أَنا نحن الناس" متكلين على حليفهم عبد الله بن أُبي زعيم المدينة. فحاصر المسلمون بني قينقاع قي دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم بطعام اَحد حتى لم يبق لهم الا النزول على حكم محمد. فلما سلّموا قررّ محمد بعد مشاورة كبار المسلمين قتلهم جميعاً. فشفع فيهم حليفهم عبدالله بن أُبي بن سلول، فنزلوا على حكم الجلاء[16].

لم يتعظ بنو النضير، وعلى رأسهم حُيي بن أخطب، بما جرى لاخوتهم. فبعث محمد اليهم محمد بن مَسْلمة يقول : "ان رسول الله أَرسلنى اليكم أَن اخرجوا من بلادي. لقد نقضتم العهد الذي جعلتُ لكم بما هممتم به من الغدر بي". فلم يسمعوا ولم يخرجوا. فسار اليهم المسلمون وقاتلوهم عشرين ليلة كانوا أَثناءها اذا ظهروا على الدرب أَو الدار تأخر اليهود إلى الدار التى من بعدها، بعد تخريبهم اياها. ثم أَمر محمد اصحابه أَن يقطعوا نخل اليهود كي ييأسوا من معيشتهم فيستسلموا. وجزع اليهود ونادوا: "يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبهُ على مَن صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها"! فأجاب "بإذن الله". فلما مل اليأس قلوبهم رعباً سألوا محمداً ان يؤمنهم على أَموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة. فصالحهم محمد على ان يخرجوا منها[17]. وفي منازلة بني النضير وجلائهم نزلت سورة الحشر:

" سبح لله ما في السماوات وما في الارض وهو العزيز الحكيم ... هو الذي أخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم. لأول الحشر ما ظننتم ان يخرجوا وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار... ما قطعتم من لينة (نخلة) أَو تركتموها قائمة على اصولها فبإذن الله، وليخزى الفاسقين...و لولا ان كتب عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله. ومَن يُشاقّ الله فالله شديد العقاب". الشقاق هو سبب المحاصرة والقتال والجلاء. ففى غمرة الحرب وفي نشوة الظفر لا يطعن في دينهم بل يصرح بفسقهم " ليخزى الفاسقين". فليسوا اذن أَعداءَ دين بل أعداء دولة: شاقوا الله ورسوله!

وبقي في المدينة بنو قريظة خلفاء الخزرج، وساح حيي بن أَخطب مع زعماء النصير و اليهود يؤلّب الأحزاب من قريش و غطفان وقبائلهم على محمد. فساروا إلى المدينة في نحو عشرة آلاف رجل أَو نحوها. ففزع المسلمون اشد الفزع"هنالك ابتُلى المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً. اذ جاؤوكم من فوقكم ومن اسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنون" فأشار سلمان الفارسي على محمد بحفر خندق حول المدينة يقيها شر الهجوم. ونقض بنو قريظة عهدهم مع المسلمين متآمرين مع الأحزاب. فلما كان الليل أرسل الله جنده من الطبيعة:الريح والمطر والرعد والبرق واشتدت العاصفة واقتلعت خيام الاحزاب وكفأت قدورهم وادخلت الرعب إلى نفوسهم وخشوا مكر قريظة بهم، فارتحلوا "ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويّاً عزيزاً" (احزاب 25). فلما ارتحلت الاحزاب حاصر المسلمون على افلور بنى قريظة وأسروهم "وانزل الذين ظاهروهم من اهل الكتاب من صَياصيهم (حصونهم) وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً" (26). ثم خرج محمد إلى سوق المدينة فأمر فحفرت بها خنادق ثم جئ باليهود أرسالا فضُربت أعناقهم، وفي هذه الخنادق دفنوا[18] "وأَورثكم أرضهم و ديارهم وأموالهم وارضاً لم تطئوها وكان الله على كل شئ قديراً" (27). وهكذا تطهرت المدينة من اليهود وسَلِمت للمسلمين يأمنون فيها على دينهم ودولتهم.

هذا الاضطهاد كانوا هم سببه بتحالفهم مع مشركى العرب، وتدخّلهم في الحرب الأهلية بين محمد وقومه. ولكن هذا كله لم يكن للدين القديم والجديد دخل فيه.

7َ الموقف النهائي من أهل الكتاب دينياً وقومياً (في سورة المائدة)

تقع سورة المائدة في السنة الثامنة للهجرة(630) بعد أَن فتح محمد مدن اليهود الشمالية، وبين غزوة مؤته الفاشلة ضد نصارى العرب في مشارف الشام وبين فتح مكة الاعظم. فهى من اواخر حياة النبى العربى وليس بعدها سوى سورة التوبة. لذلك لها قيمة كبرى في شرح العلاقات الأخيرة بين المسلمين وأهل الكتاب.

لقد أَكمل للمسلمين دينهم ويئس الذين كفروا من دينهم :"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم: فلا تخشوهم واخشون! اليوم أَكملتُ لكم دينكم واتممتُ عليكم نعمتى ورضيتُ لكم الاسلام دينا"(4). فإذا قد تم فتح عاصمة الشرك وكملت شريعة الاسلام كان في هذا الكمال الموقف النهائي من اهل الكتاب دينيّاً وقوميّاً.

يميز القرآن في العلاقات الاجتماعية بين أهل الكتاب والمشركين من العرب وغيرهم. فطعام أًهل الكتاب حِلَّ للمسلمين، والطعام في اخلاق العرب عربون الصداقة وشركة الحياة الأولى: "اليومَ أحِلَّ لكم الطيّبات. وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم" (6). وزواج المسلمين بالكتابيات حلّ ايضاً سواءً بالمسلماات، مع أنه منذ أول العهد بالمدينة حرّم الزواج من المشركات " ولا تنكحوا المشركات حتي يؤمٍنّ" (بقرة221) أَما مع أَهل الكتاب الواحد فيجب ان تدوم العلاقات الاجتماعية الحسنة: "و المحصنات من المؤمنات ، والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم اذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى اخدان"(6). ترى كيف يفرق القرآن في المعاملة بين المشركين وبين أهل الكتاب. فلو لم يكن على دين واحد مع النصارى واليهود لما سمح بالطعام المشترك والزواج المشترك.

مع ذلك نجد اليهود كما عهدناهم على عداوتهم للنبى والمسلمين : لقد نقضوا عهد الله بالايمان برسله ونصرتهم " ولقد اخذ الله ميثاق بنى اسرائيل ... فبما نَقضِهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية. يحرّفون الكَلمِ عن مواضعه. ونسوا حظاً مِماّ ذكروا به. و لا تزال تطلّع على خائنة منهم الا قليلاً منهم، فاعفُ عنهم و اصفحْ" (14). يدعوهم لآخر مرة إلى قبول رسالته : "يا اهل الكتاب قد جاءَكم رسولنا يبين لكم كثيراً مِما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءَكم من الله نور و كتاب مبين" (16 و 17). فلا تعتبوا بعد اليوم على الله قائلين لم يأتنا من نبي أو رسول : "يا اهل الكتاب قد جاءَكم رسولنا يبيّين لكم على فترة من الرسل ان تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نير! فقد جاءَكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير" (21). ولا تسرفوا في الارض كما اسرف آباؤكم: " ولقد جاءًتهم رسلنا بالبينات. ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون" (35). ثم يجيء الانذار النهائى : "انما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الارض فساداً ان يُقتلوا او يُصلبوا او تُقطّع ايديهم وأرجلُهم من خلاف او يّنفوا من الأرض : ذلك لهم في الدنيا خِزْيّ ولهم في الآخرة عذاب عظيم"[19] (36).

ويطرأ حادث يستفتون به النبى، فتأتى الفتوى وما يتبعها من احكام فَصْلَ الخطاب في موقف القرآن من اهل الكتاب. فإنه في صفحة خالدة من سورة المائدة يقرّ نهائياً الشرائع الثلاث، ويلزم بها اهلها دون سواهم: يقرَّ اليهود على توراتهم ويقرّ النصارى على انجيلهم ويقرّ المسلمون على قرآنهم.

زنى شريف بشريفة من اهل فدك، وهما محصنان، فكرهوا رجمهما على حدّ التوراة واوّلوا الرجم بالجلد. ثم ارسلوا إلى اليهود في المدينة ان استفتوا النبى في ذلك فإن افتاكم بالجلد فخذوه وان افتاكم بالرجم فاحذروا. فاستحلف النبى عالمهم ابن صوريا عن حد الزنى في التوراة فقال الرجم فأقامة النبى عليهما فثارت ثائرتهم. فوصف القرآن الحادث بقوله : "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرّفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون : ان اوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا. ومن يرد الله فتنتَه فلن تملك له من الله شيئاً اولئك الذين لم يرد الله ان يطهّر قلوبهم لهم في الدنيا خزيّ ولهم في الآخرة عذاب عظيم" (44).

ويعلق القرآن على الحادث وعلى استفتاء النبى فيه:

التوراة كتاب الله الذي انزله وفيها احكامه فليحكم اهل التوراة بما انزل الله فيها: "وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله... انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا، والربانيون والاحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ... ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون" (46 47).

والانجيل هو ايضاً كتاب الله الذي انزله و فيه كذلك احكام الله فليحكم اهل الانجيل بما أنزل الله فيه: "وقفينا على اثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتينا الانجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين: و ليحكم اهل الانجيل بما انزل الله فيه. ومَن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الفاسقون"[20] (49 50 )

والقرآن هو الكتاب حقاً فليحكم النبى بما انزل الله فيه: "وانزلنا اليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع اهواءَهم عمّا جاءَك من الحق" (51). لقد خيّر القرآن النبى في الحكم بين المتقاضين اليه من اهل الكتاب "فإن جاؤوك فاحكم بينهم او اعرضْ عنهم. فان حكمت فاحكم بينهم بالقسط" (45) وهذا القسط هو ما انزل الله في كتابهم "فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءَهم" في تفسير الكتاب على هواهم(51) وهذا القسط ما انزل الله أيضاً في القرآن "وأًن احكم بينهم بنا انزل الله ولا تتبع اهواءَهم واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزلَ الله اليك" (52)

ويختم القرآن بهذا الحكم النهائي : "لكلّ جعلنا منكم ومنهاجاَ. ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون"(51). في هذا النص الحكم الجامع المانع، والقول الفاصل القاطع على اتحاد اليهود و النصارى والمسلمين في اصل الدين واستقلال كل منهم بشريعة كتابهم التي تلزم تابعيها دون سواهم. قال الرازى: "الخطاب للامم الثلاث امة موسى وامة عيسى وامة محمد عليهم السلام بدليل ان ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قولة :انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور" (47) ثم قال " وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم" (49) ثم قال " وانزلنا اليك الكتاب" (51) ثم قال " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" : يعنى شرائع مختلفة: للتوراة شريعة، وللانجيل شريعة، وللقرآن شريعة ... وقوله يدل على انه يجب ان يكون رسولا مستقلا بشريعة خاصة، وذلك بنفي كون امة احد الرسل مكلّفة بشريعة الرسولالآخر" وعليه اجماع المفسرين. فاللههو الذى اراد تمييز هذه الامم الثلاث الموحدة للتنافس في الخيرات لا للتسابق في الخصومات والحروب: "ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة: فاستبقوا الخيرات".

فهل أَجلى بياناً من هذا الموقف وهذا التعليم؟ انه لموقف الحق و المسالمة. إنهلموقف الصراحة وزالموافقة. وكم هو بعيد عن موقف كثيرين من المسلمين تجاه أهل الكتاب. وكم يشجع على التفاهم والتقارب، ويقرّب بين امم الكتاب بعد طول الامد

كما وجدنا اليهود على عداوتهم القومية للمسلمين نجد النصارى على مودتهم لهم فقد كانوا عرباّ تنصّروا، ولم يكونوا دخلاء استوطنوا واستعربوا.

يذكرهم بما تناسوه من كتابهم : " ومن الذين قالوا إِنا نصارى، أَخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاَ مما ذكروا به. فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"[21] (14).

ويشدّد القرآن في تحذيرهم من الغو في اكرام المسيح: "لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم! قل فمن يملك من الله شيئاً إِن أَراد أَن يُهلك المسيح ابن مريم وامه ومَن في الارض جميعاً" (17)، بل يعود فيهدّد النصارى ليتركوا هذا الغلو في الدين: "لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح يابنى اسرائيل اعبدو الله ربى وربكم"(75) "لقد كفر الذين قالوا إِن الله ثالث ثلاثة، وما من إله الا واحد! وإِن لم ينتهوا عمّا قالوا ليمَسّنَّ الذين كفروا منهم عذاب أَليم" (76). ليس المسيح و أمة بإلهين فقد كانا يأكلان الطعام، وهذا دليل على الاغراق في البشرية وحاجاتها: "ما المسيح ابن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صدّيقة " كانا يأكلان الطعام"(78) فيا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل"(80). حكى القرآن في هذه الآيات مقالة بدعتين من نصارى العرب البعيدين عن مراكز النصرانية الحنيفة: مقالة المثلّثين، ومقالة المريميين. ونص على انهما مقالة فئة من النصارى لا مقالة الجميع بقوله "ليمسّن الذين كفروا منهم عذاب أليم" (76) وعلى كل حال لا يسمي هذا الشطط آلا غلواً في الدين (80).

وبعد أن اقرّهم على دينهم وكتابهم وشريعتهم يحرضهم على العمل بموجبها: "قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة و الإنجيل وما انزل اليكم من ربكم" (71)، ويأسف لتقاعسهم عنها: "ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما انزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم. منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساءَ ما يعملون" (69)

وبعود إلى فضح مؤامرات اليهود والتحذير منهم. إنه يدعو أخيراً إلى نقض الاحلاف بين المسلمين و أهل الكتاب لأنهم خطر على الدين الجديد والدولة الجديدة: "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزءاً و لعباً من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم و الكفار، اولياء : واتقوا الله ان كنتم مؤمنين"(60) يهزؤون خصوصاً بصلاتكم "واذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزءاً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" (61) ويخادعونكم في دنكم " واذا جاؤوكم قالوا آمنا. وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. والله اعلم بما كانوا يكتمون" (64)؛ ويسارعون في الاثم والعدوان "وترى كثيراً منهم يسارعون في الاثم والعدوان، واكلهم السحت (الحرام) لبِئْس ما كانوا يعملون" (65) ؛ ويتطاولون على الله بقولهم" يدُ الله مغلولة! غُلتْ ايديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" (67)؛ ويسعون في الأرض فساداً ويوقدون نار الحرب على رسول الله: "وليزيدَن كثيراً منهم ما أُنزل اليك من ربك طغياناً وكفراً؛ والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة؛ كلما اوقدوا ناراً للحرب أطفاْها اللهّ! ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين" (67)؛ ويختم بلعنة اليهود، او بالحري منافقى اليهود الذين يفضلون مخالفة المشركين على المسلمين: "لُعِن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا: لبئس ما قدَّمت لهم انفسهم، ان سخط اله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولم كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل اليه ما اتخذوهم اولياء. ولكن كثيراً منهم فاسقون" (81- 84)؛ ويعلل القرآن عداوة اليهود بقوله: " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا؟ الا ان آمنا بالله وما انزل الينا وما انزل من قبلُ. وان اكثركم فاسقون" (62)

وتلخّص سورة المائدة الموقف الدينى بقوله: "إِن الذين آمنوا و الذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (72) ويعلن القرىن وحدة الايمان بالوحى الواحد الجديد والقديم "آمنا بالله وما أنزِل الينا وما انزل من قبلُ" (62).

ونلخّص الموقف القومى السياسى من اهل الكتاب: " لتجدَنّ اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا. ولتجدنَّ اقربهم مودة للذين ىمنوا الذين قالوا إِنا نصارى: ذلك بان منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون. واذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع لما عرفوا من الحق. يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" (85و86) وهكذا تراهم على اتحاد في الدين وخلاف على السياسة وعلى الدولة.

فلا نزال إلى اليوم من اواخر حياة النبى نراه يندّد بعداوة اليهود للمسلمين عداوة تفوق عداوة المشركين. ويشيد بمودة النصارى لهم. ويعزو دوام هذه المودة إلى رؤساء دينهم القسيسين والرهبان. وهكذا يستمر الدليل على المودة القائمة بين النصارى والمسلمين طيلة عهد حياة النبى في الحياة الاجتماعية والسياسية فضلاً عن وحدة الحياة الدينية. هذه هي شهادة القرآن الدائمة.

8َ وصية محمد الاخيرة لامته (في سورة التوبة او براءة).

روى البخارى عن البراء أنها آخر سورة نزلت (الجلالان). بعد غزوة مؤتة الفاشلة، وفتح مكة الاعظم، واحتلال الجنوب، خضعت الجزيرة كلها ديناً ودولة للنبى العربى. فقصد المدينة ليستريح فيها ويجهز حملة خارج حدود الجزيرة إلى بلاد الشام. فكان "جيش العسرة" وغزوة تبوك أَدّى فيها الجزية للمسلمين بعض امراء العرب النصارى. ولكن تهيّبوا دخول بلاد الشام فأشار عمر بن الخطاب على محمد بالرجوع فرجعوا عامهم هذا. وفي أحداث هذه الغزوة الفاشلة الثانية ضد بنى الاصفر (الروم) نزلت سورة التوبة.

وفي حجة الوداع، يوم حج ابو بكر بالناس الحج الاكبر، نزلت وصية محمد الاخير فأوفد الرسول عليّاً يتلوها على الناس. ووضعوها فيما بعد في صدر سورة التوبة. فيها يقسم غير المسلمين إلى صفين متباينين : المشركين وأَهل الكتاب. وبكل فئة يشرع خطة نهائية:

1- موقف الاسلام النهائى من المشركين : قتالهم بلا هوادة حتى يدينوا بالإسلام.

المسلمون براء من كل عهد مع مشركى العرب: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين ... وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوُله... الا الذين عاهدتم من المشركين ولم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أًحداً: فأتموا لهم عهدهم إلى مدته" (1- 4 )؛ فلا عهد للمشركين عند الله ورسوله (7 12).

بعد انقضاء مدة العهد، وانسلاخ الاشهر الحرُم، يفرض على المسلمين قتال المشركين الدائم حتى يدينوا بالاسلام" فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم" (6) : فلا مناص للمشرك العربى : فإما الاسلام وإَما الموت!

المشركون المقصودون بهذه الفريضة هم اولا العرب، وآل قريش خصيصاً: "أَلا تقاتلوا قوماً نكثوا أًيمانهم وهموا بإخراج الرسول. وهم بدؤوكم اول مرة. أَتخشَونهم فالله أًحق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين" (13).

فالاسلام حد قاطع بين المؤمنين و المشركين: "ما كان للمشركين أَن يعمروا مساجد الله شاهدين على انفسهم بالكفر... إَنما يعمُرُ مساجد الله مَن آمن بالله واليوم الآخر، وأَقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخشَ الا الله".(17 و18).

الاسلام يفرّق بين المسلمين والمشركين حتى من اخوانهم وآبائهم: "يا أَيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءَكم واخوانكم أولياء ان استحبوا الكفر على الايمان" (23).

ويختم برفض المشركين وبمقاطعتهم على الاطلاق لأنهم نجس: "يا أيها الذين آمنوا انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وان خفتم عَيْلةً فسوف يغنيكم الله من فضله" (29).

فوصية محمد الاخيرة وفريضة القرآن النهائية بحق المشركين هي اقصاؤهم عن الكعبة لانهم نجس، وقتالهم الدائم حتى يدينوا بالاسلام.

2- موقف الاسلام النهائى من اهل الكتاب: اخضاعهم للدولة الاسلامية لا للدين الاسلامي.

"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتواالكتاب حتى يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون" (30).

منَ هم أهل الكتاب المقصود قتالهم في هذه الآية واخضاعهم للجزية؟ قد يكونون اليهود وحدهم، وليس من اشكال حينئذ في الآية، ولها كثير من امثالها في كل السور المدنية. وقد يكونون اليهود والنصارى بدليل ما تبعها من الآيات التفسيرية التى تبرّر قتال اهل الكتاب عموماً (31 35). وإقحام النصارى مع اليهود في جهادهم تطورّ مفاجئ لا ينسجم مع ما سبق من آي القرآن كله[22]. فهذه هي المرة الوحيدة في القرآن من أوله إلى آخرة يدعو فيها إلى قتال النصارى كما دعا إلى قتال اليهود. فقد ظل طيلة حياته يشيد بحسن ايمانهم وجميل مودتهم ويدافع عن دينهم ضد افتراائت اليهود. ولكن قد نجد مبرّراً لهذ التطور الاخير: إن ظروف الدول الدينية الجديدة تقضى بان يخضع جميع الرعايا لهذه الدولة حرصاً على الوحدة الدينية، والوحدة القومية والوحدة الاجتماعية والوحدة السياسية. يفرض قتال أهل الكتاب عموماً اذا اقتضت الضرورة السياسية، لا من باب الضرورة الدينية.

ويشعر بان فريضته بقتال اهل الكتاب خطيرة، صعبة الاستساغة، فيبرّرها بهذه الاسباب الاربعة: قولهم بأفواههم "عزيز ابن الله! المسيح ابن الله!" يضاهى قول الذين كفروا من قبلُ أًى المشركين، قاتلهم الله أنّى يؤفكون! (31) "اتخذوا احبارهم ورهبانهم أًربابا من دون الله[23] - والمسيح ابن مريم وما امروا الا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله الا هو! سبحانه عما يشركون" (32). لقد افسدوا في دينهم. وافسدوا في عملهم مع الله" يريدون ان يطفئوا نور الله بافواههم ويأبى الله الا ان يتمَّ ولو كره الكافرون" (33) ومع الناس "ياايها الذين آمنوا ان كثيراً من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله". (35) فضرورة الدين والدولة تقتضى قتالهم واخضاعهم للجزية أي للدولة الاسلامية لا للدين الاسلامى.

و الفرق عظيم و البون شاسع بين موقف القرآن من اهل الكتاب وموقفه من المشركين.

يُعلن ان المشركين نجس ويصدهم عن المسجد الحرام. ولا يعلن او يلمح إلى شئ من ذلك بحق اهل الكتاب: فليسوا بنجس، ولا يصدّهم عن الكعبة.

يذكر غلوهم في الدين بتأليه المسيح، وترتيب الملائكة والنبيين، والاولياء من الاحبار والرهبان، ويذكر فسق بعضهم، ولكن لا يطعن أبداً في اصل دينهم. وان قال قائل من المسيحين او المسلمين او غيرهم بأن القرآن في آخر أمره جمع بين الوثنية واهل الكتاب على صعيد واحد من الشرك والكفر وامر بقتالهم على اسواء، نجيبه بان هذا التأويل مناقض لنص الاية الصريح ولتعليم القرآن كله. فالحرب مع الوثنية والشرك حرب دينية بلا شرط ولا هوادة حتى يذعنوا للاسلام. اما الحرب مع اهل الكتاب فهى قومية مشروطة بالقسم الضال منهم" الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر" ومشروطة بإخضاعهم للدولة " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" لا بإرغامهم على اعتناق الاسلام. ومتى ارتفع المشروط بطل المفروض.

وهكذا يشرط لقتال الكتابين زيفهم عن دين الحق "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من الذين اوتوا الكتاب" (30) وهو لا يفرض قتال اهل الكتاب كافة، بل الكفار منهم، كما يفرض قتال المشركين كافة " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" (36).

ويشرط لقتالهم ايضاً غاية هي اخضاعهم للدولة الاسلامية: فبينما يشرع قتال المشركين حتى يدينوا بالاسلام، يفرض بعامل المصلحة الدينية والمدنية قتال اهل الكتاب " حتى يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون: أي يخضعوا للدولة الاسلامية لا للدين الاسلامى : فالموقفان على طرفي نقيض.

وهكذا فالحرب مع المشركين حرب دينية حتى يُسلموا فيَسْلموا. أما الحرب مع اهل الكتاب فهى قومية حتى يدفعوا الجزية ويخضعوا للدولة الاسلامية فيَسلموا.

أخيراً تشريع سورة التوبة محدود في الزمان والمكان: يحصر قتالهم في الجزيرة و في عصر النبى لتبقي للجزيرة وحدتها الدينية والمدنية؛ لذلك كان يقول على فراش الموت: لا يبقَ في جزيرة العرب دينان!

النتيجة :

ما هى نتيجة هذا البحث الطويل؟ اّنا نوجزها بكلمتين:

الأولى : أن القرآن الكريم يعلن ان الله واحد، والوحي من آدم إلى نوح إلى ابراهيم إلى موسي إلى عيسى إلى محمد واحد، والكتاب الذى أنزله مع النبيين واحد وان تنوعت وتعددت النسخ، والرسالة واحدة، والايمان المشترك بين الجميع واحد، والدين ، أي الاسلام وهو الايمان بالله واليوم الآخر، واحد. ويجعل مساواة تامة بين قيمة القرآن و الكتاب اذ يعتبر الكتب كلها نسخاً متساوية للكتاب الازلي الواحد. فهو يبشر بوحدة الدين المنزل وغن اختلفت الشرائع وطرق العبادة من كتاب إلى كتاب "لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة" على شريعة واحدة. ولكن فرقناكم أمماً، ليس للتفرقة الدينية، بل للتنافس في الخير والفضيلة والصلاح.

الثانية: أن القرآن الكريم خلافاً لما يظنه بعض الجهلة من المسيحين والمسلمين لا يعتبر اهل الكتاب أعداء دين على الاطلاق وما أمر قط بقتالهم كأعداء دين. بل توسم محمد في الفاسقين منهم خطراً سياسيّا أو اجتماعيّا على الدولة الاسلامية فطلب من امته و فرض عليها في وصيته الاخيرة اخضاع اهل الكتاب للدولة الاسلامية لا للدين الاسلامى كالمشركين، حرصاً على وحدة الدولة الناشئة. فلا يعتبر القرآن أهل الكتاب مشركين أو كافرين او أعداء دين بل مسلمين موحدين كما أَجاب وفد نجران النبى "إِنّا كنا من قبله مسلمين". (قصص54). وكما صرّح القرآن نفسه "هو سمّاكم المسلمين من قبلُ (في الكتب) وفي هذا" أَي في القرآن (الحج78)

وهكذا فالمبدأ العام الشامل الكامل الجامع المانع الذي به ابتدأ محمد رسالته وبه ختمها: " إِن الذين آمنوا والذين هادوا و النصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (بقرة 62 مائدة 28).

و يُختتم القرآن كله بآخر آية من آخر سورة بهذا الاعلان النهائى: "ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم و اموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون ويقتَلون وعداً عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن. ومن اوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم!" (توبة112).


[1] الصابثون : يهود متنصرون على هامش اليهودية والنصرانية، وربما من تلاميذ يوحنا المعمدان. وليسوا بالمجوس كما زعموا.

1 "ذكر من معى: أى امتى وهو القرآن؛ وذِكر من قبلى: أي من الامم وهو التوراة والانجيل وغيرهما من كتب الله. ليس في واحد منها انّ مع الله ممّا قالوا" (الجلالان).

2 منقبل: في الكتاب. وفي هذا: في القرآن(الزمخشرى والبيضاوى والجلالان)

1 راجع فصل "التوحيد القرآنى كتابي" وفصل "هل نسخ القرآن الإنجيل".

[2] ادعى بعضهم ان الآيه 62من البقرة نسخت بالأيه 19و 85 من آل عمران: "ان الدين عند الله الإسلام ... ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". لقد رأينا أن العقيدة المنزلة حقيقة خالدة لا تنسخ ولا اثر اهذا الزعم في القرآن كله. وفاتهم ايضا ان الأيه 19و 85من أل عمران اذا نسخت ما قبلها من سورة البقرة لا تنسخ ما بعدها من سورة الحج (78) والمائدة(69)؛ وكيف تنسخها ومعنى الآيتين (بقرة62و أل عمران19)واحد، فالإسلام هو الايمان بالله واليوم الآخر لا غير. ونسوا اخيرا أن الآيه85 من آل عمران هى ختام ونتيجة الآية84 السابقة حيث يظهر الإسلام دين الله الذى إنزل على جميع الانبياء على السواء: "لا نفرق بين أحد ونحن له مسلمون". كفانا الله شر هذا النسخ الذى هو المسخ بعينه!.

[3] استشهد محمد على صحة قرآنه بإعجازه في أربع موضع(أسرى88،يونس38، هود13 ، البقرة 23 24 ومن اسمائها نشعر انها من فترة محدودة في حياته أى من أواخر العهد بمكة وفي سورة البقرة ثم ترك الاستشهاد بالاعجاز تحت ضغط اهل الكتاب. أما الاستشهاد بمن "عنده علم الكتاب" من اليهوط والنصارى ظل يرافقه طيله حياته في مكة وفي المدينة من أول سورة إلى آخر سورة. وهكذا ترى ان الاستشهاد بالكتاب و أهله هى حجة القرىن الكبرى على صحة تعليم النبى العربى.

[4] "وهذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه إليه نبى او رسول ... فأما محمد فقد أراد الله ان يتم نشر الاسلام وانتصار كلمة الحق على يديه، وان يكون الرسول و السياسى والمجاهد والفاتح" . (حياة محمد لحسين هيكل ص190)

[5] السيرة لابن هشام (ج2 ص85)

[6] نتبع في دروسنا الترتيب التاريخى المنصوص عنه في المصحف الميرى ، لا ترتيب السور الحالي. وقد وجدناه أفضل من غيره مِمَّا وضعه المسلمون او المستشرقون.

[7] السيرة لابن هشام ج2ص85 "فقال ابو الهيثم بن تيهان : يارسول الله ان بيننا وبين الرجال حبالا ، وإنا قاطعوها يعنى اليهود فهل عسيت ان فعلنا ذلك ثم اظهرك الله ان ترجع إلى قومك وتدعنا؟"

[8] الوسط هو في الاصل اسم المكان الذى يستوى اليه المساحة من الجوانب. ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي افراط وتفريط (البيضاوى) واستعيرت في الأية لما اوردناه في النص.

[9] قرابة الدم مع ابراهيم ليست شئ تجاه قرابة الروح والدين والايمان. فمحمد الموحّد له الحق ان ينتمىمثل اهل الكتاب إلى ابراهيم مباشرة دون ان يمر بالانجيل او التوراة بمثل هذا حاجج الرسول بولس اليهود: ان اولى الناس بإبراهيم ليست سلالته الجسديه بل سلالته الروحية انه جُعل ابا لامم كثيرة (انظر رومية الفصل4).

[10] سترى شرحها في تعليقنا على آل عمران. ان المقصودين بالآية هم النصارى او رهبانهم.

[11] اصحاب السبت قوم من اليهود لم يحافظوا على شريعة السبت فمسخهم الله قردة او خنازير حسب الروايات

[12] هذان الشرطان الوحيدان اللذان يقرهما القرآن للخلاص(هنا 124وفي البقرة62) "مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً" كذلك فى 177 وفي غير موضع، هما الشرطان الوحيدان اللذان اقرّهما الانجيل من قبله:"بدون ايمان يستحيل ارضاءُ الله اذ لابد لمن يدنو إلى الله أن يؤمن بأنه كائن وانه يثيب الذين يبتغونه"(عب1) فلابد للخلاص من الايمان بان الله موجود وبانه عناية تجزى الخير وتعاقب الشر. وفي أول اتصال للرسل الحواريين مع الأميين فتح بطرس فاه وقال:"في الحقيقة قد علمت ان الله لا يُحابى الوجوه بل ان من اتقاه في كل امة وعمل البر يكون مقبولا عنده"
(اعمال10 :34).

[13] فالجواب الثاني (124) قد يتعارض مع الجواب الأول(123) انهم يتفاضلون فينفى التفاضل ثم يفاضل. وقد تكون لتتمه الجواب.

[14] سورة البينة قيل مكية. وقيل مدينة (الجلالان) وقيل مختلف فيها (البيضاوى) . ونحن على رأى المصحف الأميرى بانها مدنية ومن الزمن الذى نحن بصدده

[15] إِن الذين آمنوا (من اهل الكتاب)، وسياق الحديث والنسق والمنطق يطلب هذا المعنى.

[16] حياة محمد لحسين هيكل ص246

[17] حياة محمد لحسين هيكل ص277

[18] حياة محمد لحسين هيكل 308

[19]- سياق الحديث يقتضى نزول هذه الايات في اليهود الذين يواصل الحملة عليهم. وقيل انها آية مستقلة نزلت في العرنيين الذين انعم عليهم الرسول فقتلوا راعيه وسبوا ابله.

[20] عيسى يصدق ما قبله من انبياء الكتاب، والانجيل يصدّق ما قبله من احكام الكتاب. لاحظ الفرق الذى يجعله القرآن بين المخالفين من اليهود "اولئك هم الكافرون" (47) والمخالفين من النصارى" اولئك هم الفاسقون" (50)

[21] بينهم أى بين فرق النصارى، والافضل بين النصارى واليهود المذكورين آنفاً (13).

[22] قال حسين هيكل: "يذهب بعض المستشرقين إلى القول بان هذه الآيات تضع اهل الكتاب والمشركين بما يشبه المساواة. وان محمداً وقد ظفر بالوثنية في شبه الجزيرة بعد ان استعان عليها باليهودية والمسيحية معلنا خلال اعوام رسالته الاولى انه انما جاء مبشرا بدين عيسى وموسى و ابراهيم و الرسل الذين خلوا من قبل؛ قد جعل وجهته إلى اليهود الذين بدؤوه العداوة فظل بهم حتى اجلاهم عن شبه الجزيرة. واثناء ذلك كان يتودد إلى النصارى وتنزل عليه الآيات تشيد بحسن ايمانهم وجميل مودتهم... وها هوذا الآن يجعل وجهته إلى النصرانية يريد بها ما أراد باليهودية من قبل فيجعل شأن النصارى كشان الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وهو يصل إلى ذلك بعد أن أجار النصارى من اتبعه من المسلمين حين ذهبوا إلى الحبشة يستظلون بعدل نجاشيها وبعد ان كتب محمد لاهل نجران وغيرهم من النصارى يقرّهم على دينهم وعلى القيام بطقوس عبادتهم. ويذهب اولئك المستشرقون إلى ان هذا التناقض في خطة محمد هو الذى ادّى إلى استحكام العداوة بين المسلمين والنصارى من بعد، وانه هو الذى جعل التقريب بين اتباع عيسى واتباع محمد غير ميسور ان لم يكن في حكم المستحيل" (حياة محمد ص454).

[23] قال البيضاوى : اتخذوهم ارباباً بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرّم الله. أو بالسجود لهم".

عودة