شخصية المسيح

 

انه روح منه تعالى

 

يبلغ التشابه ذروته في القران ، في تعبير (الروح) . نرى أولا الواقع القرآني في تعابير الروح ؛ ثم ندرس تفاسيرهم لقوله (روح منه) .

1) تعابير (الروح ) في القران متعددة متنوعة

قد ياتي تعبير (روح) على أسلوب ما بين  المجاز والحقيقة في موضعين : ( أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) المجادلة 22 أي (بنور ) الجلالان .

وقال يعقوب لبنيه : ( يا بني اذهبوا فتجسسا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من روح الله ، انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون ) يوسف 87 ؛ هنا روح الله يعني (رحمته) الجلالان .

وقد يكون التعبير كناية عن الملائكة الحفظة الذي وكلهم الله بحراسة البشر .

وقد يأتي التعبير كناية عن روح الإنسان ، كما في قوله : (وأذ قال ربك للملائكة : اني خالق بشر من صلصال من حمإ مسنون : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين ) الحجر 38 و39 ؛ ص 7؛ وقوله : ( ونفخ فيه من روحه ) السجدة 9.

 

وقد يأتي كناية عن ملاك الوحي الذي أوحى إلى النبي العربي في غار حراء : ( قل : نزله روح القدس) النحل 102 ؛ (نزل به الروح الامين) الشعراء 193 ؛ (أوحينا إليك روحا من امرنا ) الشورى 52 . فالروح الامين ، روح القدس ، هو روح من أمر الله أي مخلوق ، هو جبريل نفسه بحسب تصريحه : ( قل : من كان عدوا لجبريل ، فإنه نزله على قلبك بإذن الله ، مصدقا لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين ) البقرة 97.  وقد سمي جبريل (روح القدس )  على الإضافة إلى (القدس) أي الله ، للتشريف ؛ وهو غير قوله في عيسى : ( وأيدناه بروح القدس) البقرة 87 و253 كما سنرى .  قيل ان ( روحا من امرنا ) الشورى 52  قد تعني القران بسبب القرينة (أوحينا إليك روحا من امرنا ) ، وهذا يتعارض مع الآية السابقة (الشورى 51) التي تفصل طرق الوحي الثلاث : الوحي المباشر مع عيسى ، والوحي من وراء حجاب مع موسى ، والوحي بالواسطة ، وساطة ملاك الوحي ، فهو (روح من امرنا) .

 

والروح هو أيضا الملاك الذي بشر مريم بالمسيح : ( فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) مريم 16 .

وهذا الملاك نفخ في مريم فحملت بالمسيح : ( ونفخنا فيها من روحنا ) الأنبياء 91 ؛ فنفخنا فيه (فرجها) من روحنا) التحريم 12. فقوله : (من روحنا) يعني على الفاعل الملاك النافخ في مريم ؛ وعلى المفعول الروح المنفوخ في مريم،

كما سنرى .

ويأتي الروح على العلمية في صلة مع اللائكة  ؛ أولا في الوحي والتنزيل : ( ينزل الملائكة بالروح على من يشاء  من عباده  ان انذروا انه لا إله إلا أنا  فاتقون ) النحل 2 في هذا التعبير قد يكون  (الروح) منزلا الملائكة  ، على الفاعل ؛ أو منزلا بالملائكة ، على المفعول : فعلى المفعول يعني (الوحي) الجلالان ، وعلى الفاعل يكون (الروح) سيد الملائكة ، وهو الأصح .

ثانيا في ليلة القدر ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أتمر ) القدر 4 هنا يظهر (الروح) متميزا عن الملائكة في قضاء أقدار الله من كل أمر : فمن هو ؟  ثالثا في يوم القيامة ( تعرج الملائكة والروح إليه  ( الله ذي المعارج) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) المعارج  ؛ هنا أيضا يتميز الروح عن الملائكة : فمن هو؟  

رابعا في يوم الدين ، يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من إذن له الرحمن وقال صوابا ) النبأ 38.

هنا أيضا يتميز الروح عن الملائكة ويتقدمهم كأنه سيدهم  ؛ ومثول (الروح) أمام الخالق الديان الرحمان لا يتكلم بإذنه، قرينه ظاهرة على ان (الروح) مخلوق ، مثل الملائكة لكن من هو ؟؟؟.

 

ويأتي (الروح) أيضا على العلمية في صلة مع الوحي : ( رفيع الدرجات ذو العرش  يُلقي الروح من امره على من يشاء من عباده ، لينذر يوم التلاق) غافر المؤمنين 15 أي يوم القيامة والحشر في (النحل 2)  ( ينزل الملائكة بالروح على من يشاء من عباده ) ، أما في ( غافر 15) فالروح وحده يُلقى على الأنبياء ، فكأنه يتميز عن الملائكة : فمن  هو ؟؟ .

 

أخيرا يأتي (الروح)كذات المسيح ، في ثلاثة تعابير : التعبير الأول  الصريح القاطع هو في التعريف المشهور بالمسيح : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه   لن يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله ، ولا الملائكة المقربون) النساء 170-171.

نلاحظ اولا ان قوله (روح منه ) هو مرادف على البدلية من (كلمة الله) ، وهذا الترادف يقطع بان (كلمته) ذات قائمة بنفسها ، لا مجرد كلام الله أو أمر الله ؛ وثانيا ان التعبير (روح منه) وحيد فريد في القران لا يأتي فيه إلا بحق المسيح، وسنرى تفاسيرهم لهذا التعبير ، وجوهرها ان كلمة الله بمنزلة(روح منه) تعالى ، أي بمنزلة ملاك ؛ لذلك فهو  يجعله مع الملائكة المقربين (عبدا) لله ، لا ربا معبودا ؛ مع ان التعبير (روح منه) يدل على اكثر من ذلك ، على صدور خاص من الله  ؛ وثالثا ان وصف المسيح بأنه (روح منه) يكشف معنى كامنا في التعبيرين الآخرين .

 

 التعبير الثاني : ( وأيدناه بروح القدس) البقرة 87 و253 ؛ (وأذ أيدتك بروح القدس) المائدة 110 له معنيان : الظاهر وهو ان (روح القدس) هو غير روح المسيح ، وهو الذي يؤيد المسيح في فعله المعجز ؛ ومعنى باطن وهو ان ( روح القدس) في هذا التعبير يعني ذات روح المسيح . وفسروه : (بروح القدس) أي (بالروح المقدسة ، أراد به جبريل ، إن روح عيسى ووصفها به لطهارته من الشيطان ، أو لكرامته  على الله تعالى ولذلك أضافها إلى نفسه تعالى  ، أو لأنه لم تضمه الأصلاب ولا الأرحام الطوامث أو الإنجيل  ؛ او اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ) البيضاوي (بروح القدس أي بالروح المقدسة ؛ ووصفها (بالقدس) كما قال (وروح منه) فوصفه بالاختصاص

والتقريب للكرامة  ؛ وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب ولا الأرحام الطوامث ؛ وقيل : بالإنجيل ، كما قال في القران (روحا من امرنا) ؛ وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره (الزمخشري) ( في تفسيره أقوال : الأول قال الحسن : القدس هو الله تعالى ، وروحه جبريل عليه السلام ؛ والذي يدل على ان (روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى : (قل : نزله روح القدس ؛ والقول الثاني وهو المنقول عن ابن عباس : ان روح القدس هو الاسم الاعظم الذي يحيي به عيسى الموتى ؛ والقول الثالث وهو ول أبي مسلم : ( ان روح القدس الذي أيده به يجوز ان يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه ،  وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى) وهذه الأقوال الثلاثة متواترة منذ الطبري . أما قولهم بان (الروح القدس ) الذي تأيد به المسيح  هو (جبريل) ، فقد جاء على المشاكلة مع (روح القدس)  الذي جاء محمدا بالوحي .

وأما قولهم بأنه الإنجيل ، فهذا بعيد الاحتمال ، لان الإنجيل ليس (روحا منه) تعالى .

وأما قولهم بأنه (الاسم الأعظم ) فهو يدل على قدرة إلهية في المسيح تقدر على الأحياء  والخلق ،

أخيرا يبقى ان (روح القدس) في المسيح هو ذات المسيح ، ويدل عليه قوله (روح منه) ، حيث ذات المسيح روح القدس أي روح الله الحال فيه  ، فهو روح القدس فوق البشر من عالم الأرواح الملائكة ، مثال قوله (من المقربين) 

ال عمران 45 أي من (الملائكة المقربين) النساء 171 ؛ فيكون ذات عيسى ملاكا في إنسان .

 

وهذا ما يعنيه التعبير الثالث (نفخنا فيها من روحنا) ، (نفخنا فيه من روحنا) . فعلى الفاعل يكون ( روحنا ) ملاك البشارة النافخ ؛ وعلى المفعول يكون (روحنا) هو المنفوخ في المسيح . والنتيجة من التعابير الثلاثة ان المسيح (روح منه) تعالى أي ملاك (من المقربين)  ألقاه إلى مريم فكان المسيح عيسى ابن مريم . فكلها تقود إلى ثنائية في شخصية المسيح : انه ملاك ألقى إلى مريم . لكن تعبير (روح منه) يدل على اكثر من ذلك ، على صلة مصدرية خاصة من الله تعالى ، كما سنرى .

فتلك التعابير السبعة المتنوعة في (الروح ) جعلت الناس يسألون النبي العربي عن ماهية الروح الذي يذكره : (ويسألونك عن الروح ؟ - قل : الروح من أمر ربي ، وما وأتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء 85.  فالتعريف (الروح من أمر ربي ) أي  (علمه لا تعلمونه) الجلالان  ؛ ( قل : الروح من أمر ربي .

 

من الإبداعيات الكائنة بكن ، من غير مادة ، وتولد من اصل كأعضاء جسده ؛

او وُجد بأمره وحدث بتكوينه ، على ان السؤال عن قدمه وحدوثه؛

وقيل : ممل استأثر الله بعلمه وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة؛

وقيل: الروح جبريل ؛ وقيل خلق اعظم من الملائكة ؛

وقيل : القران . و (من أمر ربي) معناه من وحيه . البيضاوي .

أما كون (الروح) جبريل او القران  فهذا غريب  لأنه يتعارض مع النص ( من أمر ربي) الذي استأثر  بعلمه .

وقول البيضاوي انه (من الإبداعيات ) أو ( وجد بأمره وحدث بتكوينه ) فيتعارض مع الإبهام الذي ( من أمر ربي ، معناه من وحيه ) كما يقول . بقي ان (الروح ) : ( خلق اعظم من الملاك) او انه (مما استأثر الله بعلمه ) ، والقولان متكاملان . ونلاحظ انه يستخدم العلمية في تسميته (الروح) : فهو كائن فوق الملاك اقرب إلى الخالق منه المخلوق .

والنتيجة الحاسمة  ان القران يجهل أمر (الروح )المطلق  ، ويعلن ذلك بصراحة ( وما وأتيتم من العلم إلا قليلا) .

وبما ان القران يصرح بجهله  في أمر (الروح) المطلق  ، فما علينا إلا العمل بالأمر الذي فيه : فان كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ) يونس 94.

فان الروح على العلمية والمطلق سر من ذات الله  نفسه ، سبحانه وتعالى .

قال الأستاذ دروزة  : (في الآية (85) حكاية لسؤال أورد على النبي عن الروح ، وأمر له بالإجابة بان الروح من أمر الله  تعالى واختصاصه وعلمه ؛ وليس من شأن البشر إدراكه ؛ وان ما أوتيه الناس  من العلم هو قليل بالنسبة إلى علم الله وآياته  في كونه ) .  التفسير الحديث ج 3 / 262. نقول : ليس فقط علم الناس قليلا في سر (الروح) المطلق ، وليس في الآية مقابلة مع علم الله وآياته في كونه ؛ إنما العلم المنزل في القران بشأن الروح هو القليل .  وقال أحدهم : مضى محمد ، ولما يدري ما الروح!!.

 

2) (روح منه ) هو سر المسيح (كلمة الله) تفاسيرهم له .

ان (الروح ) على العلمية والمطلق ذات غير ذات المسيح ، (كلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه) .

قال الجلالان : ( روح منه : (روح) أي ذي روح  ؛ (منه) أضيف إليه تعالى تشريفا له ) لكن التعبير (منه) لا يعني الإضافة ، بل الصدور .

قال الزمخشري : ( قيل له (روح الله ) أو (روح منه) تعالى لأنه ذو روح وجسد ، من غير جزء من ذي روح  . وانما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته الخالصة لكن التعبير لا يدل فقط على وجوده المعجز بقدرة الله ، إنما على ذاته ؛ وليس معنى المقابلة (كلمته وروح منه) انه ( ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح ) . والزمخشري يكون عادة اقرب من غيره لفهم بيان القران ؛ فكيف به هنا يقصر عن مدلوله ؟!!.

قال البيضاوي : ( روح منه : ذو روح صدر منه تعالى ، لا  بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له . وقيل : سني (روحا) لأنه كان يحيي الأموات والقلوب). وهذا هو التفسير الصحيح لحرف القران الوحيد فيه: (ذو روح صدر منه تعالى) . والمشكل الكلامي الذي اختلف عليه  النصارى والمسيحيون ، وانتقل إلى الإسلام  والمسيحية ، هو في كيفية هذا الصدور عنه تعالى . وقولهم (سمي روحا لأنه  كان يحيي الأموات والقلوب ) فيه إشارة إلى كيفية ذلك الصدور ، عن طريق الانبثاق من ذاته تعالى ، لا عن طريق الخلق والإبداع ؛ فمن يحيي الأموات والقلوب فيه قدرة من قدرة الله  تدل عليه .

قال الرازي  مستجمعا تفاسيرهم : ( أما قوله (روح منه) ففيه وجوه :

- انه جرت عادة الناس انهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا : انه روح ؛ فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب ، وانما تكون من نفخة جبريل  عليه السلام وصف بأنه روح ) لكن التعريف يفسر (كلمته ألقاها إلى مريم ) بأنه (روح منه ) تعالى ، على الترادف ، فهو وصف ذاته ، لا وصف تكوينه  ؛ فانه كلمة الله قبل إلقائه إلى مريم ، لذلك فهو (روح منه) تعالى .

 

انه كان سببا لحياة الخلق ، في أديانهم ؛ ومن كان كذلك وصف بأنه روح ) فالاسم الكريم يستوعب في ذاته معنى (السبب لحياة الخلق ) ، وفي ذلك إشارة إلى ان (روحا منه) اقرب إلى الخلق منه إلى المخلوق في صدوره (منه) تعالى .

والقول يشير إلى فاتحة الإنجيل بحسب حرف البشير يوحنا في تعريفه بكلمة الله : فيه كانت الحياة ، والحياة كانت نور الناس) 1 : 4.

(روح منه أي رحمة منه : فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من انه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم انه سمي روحا منه ) هذا القول يستند إلى قوله : ولنجعله آية للناس ورحمة منا) مريم 20 .

هذا مفعول كونه (روحا منه) تعالى ، لا برهان ذاته بحسب الترادف (كلمته وروحا منه) .

 

( قوله (روح ) ادخل التنكير  ليفيد التعظيم . فكان المعنى : روحا من الأرواح الشريفة العالية القدسية .

وقوله (منه) إضافة ذلك الروح إلى نفسه  تعالى من اجل التشريف والتعظيم ) نقول : ان تعريف المسيح بأنه(روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية ) يتفق مع وصفه (من المقربين) ال عمران 45 أي (الملائكة المقربين ) النساء 171 .

وهذه هي صفة المسيح في القران : انه ( ملاك كلمة الله ) القي إلى مريم ، بحسب عقيدة النصارى - لا المسيحيين ولكن يبقى سر صدوره (منه) تعالى موضع حيرة وتساؤل .

فليس قوله : ( روح منه) فقط إضافة تشريف وتعظيم ، بل ( ذو روح صدره منه تعالى ) كما يقول البيضاوي .

وليس نسبة مصدرية كسائر المخلوقين ، عن طريق  الخلق والإبداع ، فإنه ( منه)  تعالى . فقوله الفريد في القران بان المسيح (روح منه) تعالى يعني نسبة مصدرية ذاتية . لذلك يظل التشابه قائما في معرفة سر المسيح ، ( كلمته وروحا منه ) .

Home عودة للصفحة الرئيسية