بداية الكتاب

 

اَلنَّصُ اَلْمُؤَسِّسُ وَمُجْتَمَعُه

اَلسِفْرُ اَلأَوَّلُ وَاَلثَانِى

خليل عبد الكريم

 

الطبعة الأولى 2002

منشورات الجمل, كولونيا , ألمانيا

دار مصر المحروسة

13 شارع قولة امتداد محمد محمود ـ عابدين , القاهرة ـ مصر

تليفون 3960599 ـ فاكس  6360922

 

 

السفر الأول

 

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  

الباب الأول

آيات كريمة أشرقت تحقيقًا لِرغبة القائد

وأخرى تلبية لرجاوات تبعه

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

الفصل الثانى

آيات ظهرت تلبية لرجاوات تبعه

 

من ص [ 141 ] إلى [ 200 ]

 

v  الفصل الثانى: آيات كريمة ظهرت تلبية لرجاوات تبعه    .................................     141

 1ـ الظهار

2ـ تحريم الخمر

3ـ إرث النسوان

4ـ الرجل لعبته المرأة

5ـ القِبلة المحيرة

6ـ شعائر الصفا والمروة

7ـ منع الصدقة عن المحتاج

8ـ قصة تحريم الربا

9ـ تحليل الزنا

10ـ النجاشى حبيبى

 

[ 1 ]

 

الظهار

 

اتسمت نظرة أولئك العربان للمَرَة الدونية تمثلت فى أمور عديدة منها حرمانها من الميراث لأنها تشارك فى غزوات النهب والسلب ولا طاقة لها بالدفاع عن حمى القبيلة ( ولو أن المسالة تحتاج إلى دراسة أعمق ا.هـ. ) وكذلك فى سهولة فصم عروة الزوجية التى من المفروض أن لها قدرًا من القدسية.

 

ومن بين صور مفارقة الزوجة عندهم ( الظهار ) وهو أن يقول الواحد منهم لحليلته أنت عَلَىّ كَظهر أمى فَتُعدّ ظالقًا لأنه كما لايحل له أن يعتلى أمه كذلك بتلك الجملة الفلوت غدت زوجته محرمة علبه ولا يحق له أن يمتطيها.

 

أوس بن الصامت وهو أثربى وأخو عبادة بن الصامت من مشاهيرهم بعد أن استمرت الزوجية بينه وبين مبعولته خولة بنت ثعلبة وتفانت فى خدمته وخلفت له أولادًا وبدأت التجاعيد تظهر فى وجهها والشَمَط ( اختلاط البياض بالسواد ا.هـ ) يعلو شعرها والوهن يدب فى مفاصلها قرر أن يتخلص منها كيما ينكح جارية ( صبية ) نضرة يتمتع بها مذاكيره فبمنتهى الاستهتار نادى على خولة التى أسرعت تلبى فقال لها: أنت على كظهر أمى. صُدمت الزوجة البائسة فلم تتوقع أن يجازيها هذا الصامت جزاء سنّمار ويطلقها دون جريرة إلا الإخلاص له والتفانى فى خدمته وولده ... وفكرت فى هذه النازلة التى حطت على يأفوخها دون توقع فلم تجد إلا أن تفزع إلى ( المرحمة ) وقصَّت عليه عبث زوجها واستهانته بأقدس علاقة تقوم بين اثنين ومن عمق أساها وغزارة بثها وشدة حزنها نطقت بكلام بليغ أوضح دفين ألمها وشفّ عن مكنون نفسها ورفع الستر عن جبئ إحساسها: (  يا رسول الله أكل شبابى ونثرت له بطنى حتى إذا كبرت سنى وانقطع له ولدى ظاهر منى ). [ أسباب النزول: للواحدى / ولباب النقول للسيوطى ص 164 / والمقبول: للأزهرى ص 639 / ووصف المصنف بأن إسناده صحيح وذكر أنه ورد فى مسند أحمد وفى المستدرك للحاكم النيسابورى وصححه وأقره الذهبى, والبيهقى فى سننه. وقال الجاحظ ( ابن حجر العسقلانى ) فى الفتح ( فتح البارى بشرح البخارى ) هذا أصح ما ورد فى قصة المجادلة وتسميتها ا. هـ. وهكذا حاز الحديث رتبة منيفة فى الصحة ].

 

ويتحفنا الفخر الرازى برواية أخرى:

فظاهر منها فأتت رسول الله ـ ص ـ وقال إن أوسًا تزوجنى وأنا شابة مرغوب فىّ, لما خلت سنى وكثر ولدى جعلنى كظهر أمه وإن لى صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلىّ جاعوا .... [ مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير: للإمام فخر الدين الرازى ـ الجزء الثلاثون ـ المجلد الخامس عشر ـ ص 419 ].  

 

فى هذا الحديث أوضحت الزوجة المغلوبة على أمرها العلة فى الظهار وهى أنها وقت شبابها والرغبة فيها استبقاها حتى شاب رأسها وكبرت  سنها وغدت ذات أولاد ومن ثم لم تعد لديها الإمكانات التى بها تعطيه المتعة ففارقها بعبارة من أربع كلمات لكى ينكح فتاة تمنحه ما يرغب.

 

*******

 

وهكذا يُثبت هؤلاء العَرَبة أن هاجس المعافسة أو الملامسة هو الذى يملأ أدمغتهم الريّة من العلم, المليطة من الفكر, الخالية من الثقافة.

 

بعض المفسرين القدامى من جوقة المداحين والطبالين الذين يريدون أن يرفعوا الصحب فوق مستوى البشرية وأعلى من مقام الإنسانية وانهم فى درجة أقرب إلى الملائكة وأن الغرائز والعواطف والنوازع... إلخ يستحيل عليها أن تقترب منهم, نقول البعض من أولئك نفى عن هذا الأوس الباعث الحثيث الذى دفعه للظهار من بعلته ووصفه بأن عنده لَمَمًا أى مسًا خفيفًا من الجنون أو عدم اتزان وتقدير للأمور على وجهها الصحيح, بيد أن الإمام فخر الدين الرازى أوضح أن الَمَم الذى هيمن عليه ودفعه لأن يظاهر من زوجته العجوز بأنه ( الإلمام بالنساء وشدة الحرص والتوقان إليهن ). [ المصدر ذاته والصفحة نفسها ].

 

ونأمل أن يتفرّس القارئ فى العبارات التى أوردها الفخر فى وصف ذاك الصامت فى ناحية ولعه بانسون لأنه يُعتبر نموذجًا لأولئك الأعاريب فى هذا المجال, وتكملة القصة أن خولة اشتكت زوجها و ( أنه ـ ص ـ قال لها ما عندى فى أمرك شئ ). [ المصدر ذاته والصفحة نفسها ].

 

لكن ( مأدبة الله ) يستجيب لشكاية خولة على الفور لا على التراخى:

( قالت عائشة: فما برحت " خولة" حتى نزل جبريل ـ س ـ ب ـ الآيات ). [ المقبول : ذات الصفحة السابقة, وأسباب النزول: ذات الصفحة السابقة, ولباب النقول : ذات الصفحة السابقة ].

 

وهكذا جاءت الآيات الكريمة بالحل فبعد عَدّ الظهار لديهم من أشد صور الطلاق ( قبل الإسلام ) لأنه فى التحريم أوكد ما يمكن, أصبح بعد انبلاح هذه الآيات من اليسير رفعه أو دفعه بالكفارات.

 

هذا هو المثل الأول الذى نسوقه فى هذا الفصل:

ففضلاً عن أن الآيات الأربع أقبلت بناء على شكوى خولة وإنقاذًا لها من الورطة التى أوقعها فيه طيش زوجها ونزقه فإنه ( العروة الوثقى ) أثبت أن عينه الساهرة تلحظ المجتمع وتتفاعل معه وترتبط بعلاقة جدلية حميمة. { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ . الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ . وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ سورة المجادلة : 1 ـ 4 ].

 

*******

 

        [ 2 ]

 

تحريم الخمر

 

انصياعًا لإكراهات المجتمع الذى شبّوا فبه وانسياقًا لموجبات البيئة التى تربوا فيها ونزولاً على أنساق الوسط الذى نشأوا فيه تمكن شرب الخمر من نفوس الصحاب وعدد من مقدميهم.

 

( روى أن آية تحريم الخمر نزلت فى ملاحاة جرت بين سعد بن أبى وقاص ورجل من الأنصار وهما على شراب لهما وقد انتشيا فتفاخرت الأنصار وقريش فأخذ الأنصارى لِحيْى جمل فضرب به انف سعد ففرزه يعنى شقّه ... وروى أن ذلك الأنصارى كان عتبان بن مالك ـ روى ذلك الطبرى والترمذى وغيرهما ). [ أحكام القرآن: لأبى بكر محمد عبداله المعروف بابن العربى , تحقيق محمد البجاوى ـ المجلد الثانى ـ الطبعة الأولى 1407هـ / 1987م ـ دار المعرفة ودار الجيل ـ بيروت لبنان ].

 

ومثال آخر:

( روى حميد الطويل عن أنس قال: كنت أسقى أبا عبيدة واُبى بن كعب وسهيل بن بيضاء فى نفر فى بيت طلحة فمر بنا رجل فقال: إن الخمر قد حُرّمت ). [ أحكام القرآن : للكيا الهراسى ـ المجلد الثالث ـ ص 99 ـ مصدر سابق ].

 

ومثال ثالث:

دعا أثربى جماعة من كبار الصحب المنازيح والمقيمين على طعام وشراب فلما حضرت صلاة المغرب فتقدم عبد الرحمن بن عوف ليؤمهم فقرأ { قل يا أيها الكافرون } ولكنه خلط فيها ـ رواه الحاكم فى المستدرك عن طريق الثورى عن عطاء, وقال عن حديث صحيح ولم يخرجاه ( = الشيخان البخارى ومسلم ) [ المقبول للأزهرى ـ هامش ص 211 / أحكام القرآن لابن العربى ـ الثانى ـ ص 657 ].

وفى رواية أخرى ان الذى أمهم وهم نشاوى آخر غير ابن عوف إنما يُعد من متقديمهم.

 

المثال الرابع والاخير:

آية تحريم الخمر: نزلت فى قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا فعبث بعضهم ببعض فلما صَحَوا رأى بعضهم فى وجه بعض آثار ما فعلوا وكانوا إخوة ليس فى قلوبهم ضغائن فجعل الرجل يقول ( لو كان أخى بى رحيمًا ما فعل هذا بى ).

 

فحدثت بينهم الضغائن فأنزل الله تعالى: { إنما يريد الشيظان ... } إلى آخر الآية. [ أحكام القرآن لابن العربى ـ المجلد الثانى ـ ص 657, لباب النقول للسيوطى ص77 ].

 

نكتفى بهذا لندلل على أن الخمر تغلغل حبها فى أعماق قلوبهم وأنهم لم يكفوا عن تعاطيها إلا بعد شروق آية التحريم: ( أمر رسول الله ـ ص ـ مناديه أن ينادى فى سكك المدينة: ألا إن الخمر قد حُرّم فكُسرت الدنان وأريقت الخمر حتى جرت فى سكك المدينة ). [ المقبول للأزهرى ص 306, أحكام القرآن لابن العربى ـ المجلد الثانى ـ ص 657 ].

 

وهذا نص بالغ الثمانة لأنه حمل بين دفتيه معطى عميق الدلالة وهو أن شرب الصريفية ( = الخمر ) منتشر بينهم بكثافة. [ رجعت فى أسماء الخمر إلى كتاب ( نظام الغريب فى اللغة ) تأليف عيسى الربعى الوحاظى الحميرى تحقيق محمد بن على الأكوع ـ ص 94, 95 ـ الطبعة الأولى 1400هـ / 1980م ـ دار المأمون للتراث / دمشق / بيروت ].

 

كما منع السكارى من حضور الصلاة خلف ( المرشد / الهادى ) فى مسجده.

 

*******

 

تفشى معاقرة الخمر ( = القرقف ) من قبل جمهور الصحاب بل وصناديدهم أقلق ( البشير / الحازم ) ومجلس شوراه لأن هؤلاء الصحبة هم أجناده فى نشر الدين وعسكره فى إقامة الدولة ( الحلم ) وقد نسخنا فيما تقدم فى المفتتح كيف تدرّج ( البيان / الصادق ) فى معالجة هذا الأمر بيد أن آية التحريم لم تجئ إلا مُصَلّية وعلى ريث, وفى هذا الإبان أخذ العدوىّ عمر بن الخطاب يتململ ويستعجل الأمر بالكف والنهى عن التعاطى:

( عن أبى ميسرة قال: قال عمر اللهم بيّن لنا فى الخمر فَنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } النساء 4/ 43 فقال اللهم بيّن لنا فى الخمر فنزلت { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } فقال: اللهم بيّن لنا فى الخمر فنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }المائدة 5/90 إلى قوله    { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } المائدة 5/91 فقال عمر: انتهينا إنها تذهب المال وتذهب العقل ). [ أحكام القرآن للجصاص  ـ المجلد الأول ـ ص 323 ].

 

مع ملاحظة أن العبارة التى وردت على لسان العدوىّ عمر تدل على انه من بين من دأبوا على احتساء الكَلفاء ( = الخمر ) ويؤكده ابن العربى بقوله: (  فقال عمر : انتهينا حين علم أن هذا وعيد شديد ) [أحكام القرآن لابن العربى ـ المجلد الثانى ـ ص 657 و أسباب النزول للواحدى ص 139 ].

 

ومما له دلالة بالغة هذا الخبر:

( فدُعى عمر فقرئت عليه آية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } 4/43 فكان منادى رسول الله إذا أقام الصلاة: أن لا يقربن الصلاة سكران, فدُعى عمر فقرئت فقال اللهم بين لنا فى الخمر بيانًا شافيًا فنزلت الآية التى فى المائدة فدُعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } قال عمر: انتهينا ). [ المقبول للزهرى ص 307 ].

 

إن قارئ هذا الخبر لابد أن يتساءل: لماذا العدوى بالذات الذى طُلب وقُرئت عليه الآية؟.

ربما لاهتمامه الشديد بهذا الأمر وهو عضو بارز فى مجلس الشورى وربما لسبب ىخر لا بخفى على فطانة القارئ الذكى وإن ذكرناه آنفًا.

 

وعلى كلٍ فإن الزرجون ( = الخمر ) حتى ذياك الوقت لم تُحرّم أى أنه لا غضاضة على متعاطيها.

 

وعمومًا فهذه نقطة هامشية.

 

أما الجوهرى فى الأمر هو أن القرآن العظبم تفضّل بآية كريمة حرمت الصرخدية ( =الخمر ) على معتنقى الديانة الإسلامية منذ بزوغها حتى الآن وإلى ما شاء الله, ولا شك أن عمر قلق ومطالبته بورود بيان فى شأنها وإلحاحه فى الرجاء جِماعه يُحسب له ويضيف زَبْرة لرصيد مناقبه, فضلاً على أن الذكر الحكيم كما يتضح لنا يلاحق احوال ذلك المجتمع ويتصل به بحبل متين.

 

*******

[ 3 ]

 

إرث النسوان

 

قلنا منذ عشرين عامًا إن الدين ثورة على الأوضاع الفاسدة للمجتمع الذى ينبثق فى حناياه ويتولد بين جنباته وينمو بين أضلعه وإن الذين يبشرون به هم ثوار بمعنى الكلمة هدفهم تقويض قواعده المنهارة وتهديم قوائمه المتهالكة وتحطيم أسسه المتهاوية كيما يبنى المبشِّر بالديانة الجديدة مجتمعًا جديدًا فى كل المناحى.

 

العقيدة ـ العبادة ـ العلاقات الإجتماعية ـ الروابط الأسرية ـ الأسس الاقتصادية ـ التوجهات السياسية .. تجمعها ( أيديولولله ية) ذات خصائص معينة وتنتظمها كما يضم السلك حبات العقد سواء جاءت من جوهر نفيس أو معدن ثمين.

 

ما إن يعلن الثائر المبارك صوته المبرور مُعْلِمًا بثورته حتى يَغُدّ إليه المطحونون ويَجْذِم إليه المظلومون ويُوضِع إليه المُعوِزون ويَخَبّ إليه المحتاجون ويُرقَل إليه المعدمون ويهرول إليه المنكسرة قلوبهم حسبما درج على مناداة تبعه ثائر مبرور وأحد البطاركة المرموقين عيسى ابن الصديقة مريم.

 

وجِماع هؤلاء أطلق عليهم ( العَلَم العليم ) ( الأراذل ) يؤمنون بثورته ويقفون تحت رايته ويصطفون خلف لوائه ويدافعون عن الثورة بكل ما لديهم وإذ إنهم مَلِطيون من كل شئ فإن ما لديهم يعنى أبشارهم وجشومهم وأرواحهم يقدمونها فَداءً لها وشهادة فى سبيلها وثمنًا لفَلحِها.

 

ولكن ما هو التَحضِيْض الذى يُوزّهم إليها؟.

 

الإجابة اليسيرة هم يرون فيها: سفينة النجاة مما هم فيه من ظلم وبرّ الأمان مما يعانونه من حرمان والدواء الشافى لكافة الأمراض التى تضربهم والأسقام التى تركبهم والأدْواء التى تنخر فيهم واليد التى سوف تنتشلهم من الوَهْدة التى يتدون فيها .. إلخ.

 

وفى مقابلهم يقف الأغنياء والمرابون وتجار الرقيق والطواغيت والمرازبة والجحاجح والبغاة والظلمة والمستكبرون وهم ( الملأ ).

 

كما أطلق عليهم القرآن ويفسره الراغب بـ : الذين يملأون العيون رواة ومنظرًا والنفوس بهاءً وجلالاً يناوئون الثائر ويعارضونه بل يحاربونه ويسخرون من تابعيه ويستهزءون من مناصريه ويعبثون بمؤيديه دفاعًا عن أوضاعهم الطبقية وحماية لمصالحهم المادية وتمسكًا بمكاسبهم المالية لأنهم يُنقهون أن دعوته سوف تفقده جمعية ذلك. [ المفردات فى غريب القرآن: للراغب الأصفهانى 502هـ / تحقيق محمد سيد كيلانى ت طبقة 1381هـ / 1981م ـ مكتبة الباب الحلبى ـ بمصر ].

 

*******

 

ومن بين الفئات المغلوبة على أمرها النساء فى الجزيرة العربية عندما دعا ( المصلح ) بالديانة الجديدة. [ يقول العمة عنهم فى مصر: صنف الحريم ].

 

وأوضحنا فيما سلف نتفًا من مظاهر القهر الذى وقع عليهن ومن أبرزها حرمانهن من الميراث وهو الأمر الذى دفع أم سلمة ( سبق نسخنا قطاعًا من حياتها ا.هـ 9. إلى أن ترفع صوتها محتجة باعتبارها من زعيمات النِسون حتى بعد أن زَبَدَهن القرآن الكريم نصف الميراث. [ زَبَدَه يزبده = أعطاه ومنه الحديث المروى: ( إنا لانقبل زبد المشركين ) ـ ( تصحيح الفصيح وشرحه ) لابن درستويه ـ تحقيق د. محمد بدوى المحتوت ـ مراجعة د. رمضان عبد التواب ص 23 ـ الطبعة الأولى 1419هـ / 1998م. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. بمصر ].

 

( أخرج الترمذى والإمام أحمد والطبلرانى قال: قالت أم سلمة: يارسول الله يغزو الرجال ولا نغزو فأنزل الله تعالى: { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [ سورة النساء 32 ]. ثم نزلت { إنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } الآية. [ المقبول للأزهرى ـ ص191 ـ ووصف إسناده بأنه حسن ].

 

أما الباحثة المغربية أمينةالحسنى فقد أوردت رواية أخرى:

( أخرج الترمذى من حديث ابن عمر عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله, يغزو الرجال ولا تغزو النساء زاد الحاكم: ولاتقاتل فتستشهد وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى وتبارك: {  ولا تتمنوا ما فضل الله به ....... } الآية ) . [ أم سلمة أم المؤمنين ـ مصدر سابق ص 132 ].

 

يبين أن الحديث بلغ درجة عالية من الصحة فقد أخرجه الترمذى وأحمد والطبرانى والحاكم النيسابورى ووصفه بأنه حديث حسن صحيح الإسناد على شرط الشيخين. كما ذكر السيوطى أن الحاكم خَرّجه فى المستدرك. [ لباب النقول ـ ص51 ].

 

ولولا ان إختصاص النساء بنصف الميراث حاك فى صدر أم سلمة لما أسرعت بتلك المقولة الاحتجاجية, كما أنها بنت زاد الركب فى ما نرجح ظلت على موقفها فأشرقت آية اخرى { أنى لا أضيع عما عامل منكم من ذكر أو أنثى } فرضيت أو سلّمت أمرها لله تعالى.

 

*******

 

بعد هذا الاستطراد الذى دفعنا إلى زَبْره ( نسخه ) موقف هند أم سلمة من ميراث المَرَة, نعود إلى سياقة البحث.

 

قبل الإسلام أطبق أولئك العربان على نفى النسوان من الإرث بالكلية وهذا موقف لم يُرض ( نعمة الله ) لأمرين:

الأول: فيه إجحاف بالغ بهن ومعلوم وعمق كراهيته له بعد أن ذاق من الكثير فى طفولته وصباه وشبابه.

الاخر: أنهن من أوائل من تبعه وآمن بدعوته, با إن اول من استشهد فى سبيلها امرأة هى ( سُميّة أم عمار بن ياسر ), واشترك فى بيعة العقبة الأخيرة مَرَتان من بنات قيلة هما أم عمارة بنت كعب وأسماء بنت عمر, وهذه البيعة على الأحمر والأسود وشكلت نقطة الانطلاق بالنسبة للإسلام, كما ان مواقف النسوة البطولية فى المعارك خاصة فى غزاة أحد تقطع بعمق إيمانهن بالديانة التى بشر بها وبإخلاصهن وتفانيهن.

 

فأخذ يتربص النُهزة لعل ( العروة الوثقى / القرآن ) يهديه نصًا يرفع هذا الظلم عن المَرَة ولو جزئيًا, إذ إن إزالة العنت جميعه عنهن أمر عسير بل مستحيل لأن مجتمع العَرَبة ذكورى بطريركى والمساواة بين الرجل والمرأة فى التراث سوف تثير حفيظتهم وتشعل غضبهم.

 

وهنا جاءت الفرصة:

( أخرج الإمام أحمد والترمذى وابن ماجة والحاكم وغيرهم عن جابر قال: جاءت غمرأة سعد بن الربيع فقالت: يارسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك يوم احد شهيدًا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً, فقال: يقضى الله فى ذلك فنزلت آية الميراث, أرسل رسول الله ت ص ـ إلى عمهما فقال: أعط لبنتى سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقى فهو لك ). [ المقبول للزهرى ص 200, 201 ووصف إسناده بأنه صحيح ].

 

وأورد السيوطى الحديث ذاته وأضاف: ولا تنكحان إلا ولهما مال. ثم ذكر عبارة: يقضى الله فى ذلك , فنزلت آية الميراث. [ لباب النقول للسيوطى ص 49 ].

 

وجاء برواية اخرى:

( وقد ورد فى قصة سعد بن الربيع وجه آخر: اخرج القاضى إسماعيل فى احكام القرآن من طريق عبد الملك بن حزم أن عَمْرة بن حزام كانت تحت سعد بن الربيع فقتل عنها فى احد وكان له منها ابنه فأتت النبى ـ ص ت تطلب ميراث ابنتها ففيها نزلت ( يستفتونك فى النساء ) الآية ) .   [ لباب النقول للسيوطى ص 49 ].

بيد أن الرواية الأولى أصح وأشد توثيقًا وأليق بالمناسبة.

 

*******

 

أما الوحدى النيسابورى فيزيدنا برواية شبيهة بواقعة بنتى سعد بن الربيع ( قوله تعال: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } الآية [ النساء : 33], قال المفسرون: إن أوس بن ثابت الأنصارى توفى وترك امرأة يقال لها أم كَجّة وثلاث بنات فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعجرفة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته شيئًا ولا بناته وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء الرجال الكبار وكانوا يقولون لانعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة, فجاءت أم كجة إلى رسول الله ـ ص ـ فقالت يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك بنات وأنا امرأة ليس عندى ما أنفق عليهن, وقد ترك ابوهن مالاً حسنًا وهو عند سويد وعجرفة ولم يعطيانى ولا بناته من المال شيئًا وهن فى حجرى ولا يطعمانى ولا يسقيانى ولا يرفعن لهن رأسًا .

 

فدعاهما رسول الله ـ ص ـ فقالا: يا رسول الله ولها لا يركب فرسًا ولا يحمل كلأ ولا يُنكئ عدوًا, فقال رسول الله ـ ص ـ: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لى فيهن فأنزل الله هذه الأية ) . [ أسباب النزول للواحدى النيسابورى ص 95, 96 ].

 

وقد حمل كتاب ( المقبول ) للأزهرى ذات الواقعة وأضاف أن امرأة ثابت طلبت من ابن العم خالد بدلاً من سويد وبنات أوس اثنتان لا ثلاث.[ وهذ يوثق ما سبق أن رقمناه: أن الفترة المبكرة اكتظت بالاختلاف فى جُلّ المناحى : الأسماء ( أسامى الأشخاص والأماكن ) والأعداد والوقائع والتواريخ ... إلخ ا. هـ ]. ولكنهما رفضا نكاحهما لدملمتهما, وانه نزلت بشانها آيتان:  { وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {111} وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا {127} } [ سورة النساء 111, 127]. [ المقبول للأزهرى ص 196, 197 ووصف الحديث بأنه صحيح ].

 

أما السيوطى فقد رقم انه ( ورد سبب ثالث: اخرج ابن جرير عن السدى قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون الجوارى ( أى البنات أو الفتيات الصبايا) ولا الضعفاء من من الغلمان, لايرث الرجل من ولده إلا من اطق القتال ـ فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها كَجّة ذلك إلى النبى ـ ص ت فأنزل هذه الآية { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا}[ النساء : 11] , ثم قال فى أم كَجّة { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }  [ النساء: 12]. [ لباب النقول للسيوطى ـ ص 49 ].

ورواية السيوطى فى الباب توثق ما قلناه بشأن الاختلاف فى الأخبار سواء فى الوقائع أم الأسامى أم الأعداد وانه لا يقدح فى جوهر النازلة أو الواقعة.

 

وهذه ملاحظة هامشية اقتضاها التحليل والتقييم إنما الثابت من الحديث:

1 ـ أن أولئك العربان وضعوا مقياسًا لمن يستحق التراث وهو الذكر الذى يمتطى ظهر الفرس ويحوز الغنيمة وهو معيار يدل على البداوة ويؤكد أن الغنائم هى هممهم المقيم مشغلهم الشاغل. ولنتساءل هل هذا العيار متوفر الآن , هل يوجد فى العصر الحالى غنائم؟, ألا تخرج المرأة للعمل مثلها مثل الرجل بل وأكثر, متبوأة أعلى المناصب , واترك لقريحتك أيها القارئ أن تضع أمامك عشرات من الأسئلة والأمثلة لعلك تجد لها جوابًا تقنع به نفسك , أو مخرجًا تنأى به عن مخارج التراث وتفاسيره وقوالبه.   

2 ـ أن ابنى عم قيس بن ثابت ( أو غيره ) لا يعنيهما أن تعيش زوجته وابنتاه ( أو بناته ) فى مسبغة أو لا تتزوجان إذ لديهما مال تنكحان من أجله ت وابنا العم يعلمان ذلك بداهة ـ إنما الذى يهمهما هو الحصول على المال وهو أمر يشف عن جلافة فى الطبع وبداوة فى الذوق وانعدام فى الإحساس وخَواء فى الخلاق وصُفور فى الضمير ومَآبه الافتقار إلى الحضارة والبعد عن المدنية والنأى عن الرقى وجِماعه يؤكد النعوت التى رددناها عن ذياك المجتمع.

3 ـ أن العبارة التى وردت على لسان ( العظيم / العفو ): انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لى فيهن . وعدها نزلت الآية, حافلة بالدلالات ثَرّة بالمعانى جَيّاشة بالإيحاءات ولا تحتاج إلى تعليق وهى غنية عن الشرح ولا تفتقر إلى تبيين, يفهمها الذكى وينفقها الفطن ويدركها اللوذعى ويستوعبها اللبيب.

 

*******

 

فى فاتحة هذا الكتاب أخذنا على المفسرين المحدثين استقاءهم الكثير من كتب التفسير التراثية وقد يعترض قارئ: ها أنت ترجع إليهم؟.

 

وردنا ينحصر فى أمرين:

الأول: أننا ـ بعكس المفسرين المحدثين ـ لا نتوكأ أو نتعكز على القدامى وفرق بين الاستشهاد ببضع فقرات لتحليلها وتقييمها وبين النَهْل والعَبّ.

الآخر: ما نأخذه منهم يدور فى نطاق ( أسباب النزول ) لتوثيق ما جاء فى المؤلفات التى خصصها مصنفوها للأسباب فحسب.

 

بعد هذه الملحوظة نرجع إلى السياق:

( روى عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخًا فأخذ الأخ المال كله, فأتت المرأة: يارسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعدًا قتل وإن عمهما أخذ مالهما, فقال ـ ص ـ ارجعى فلعل الله سيقضى فيه ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية [ النساء 11 ], فدعا رسولالله  ـ ص ـ عمهما وقال: أعط ابنتى سعد الثلثين وأمها الثمن وما بقى فهو لك, فهذا أول ميراث فى الإسلام ). [ مفاتيح الغيب ـ التفسير الكبير: للفخر الرازى ـ الجزء التاسع ـ ص 47ـ مصدر سابق ].

 

وما أورده الفخر الرازى ( ثم إنها عادت بعد مدة ) يدل على أن ( مادبة الله / القرآن ) تمهّل حتى أشرقت آية المواريث لأنها تمس عُرفًا راسخًا رسوخ الأجْبَل الرواسى, كما ان الذُكران نازحين وأثاربة سوف يتململون بعد انبثاقها لأنها تنال من وضْعَيهم المادى والمعنوى وقد شبوا وشابوا على إلفه ( = عدم فراقه ) واعتياده وبناء حساباتهم المعاشية على مقتضاه.

 

أما قول فخر الرازى إنه أول ميراث قُسّم فى الإسلام فمعناه أن نظام التوريث السابق على الإسلام بما فيه حرمان النِسون والجوارى وصغار الغلمان ظل معمولاً به حتى بعد غزوة أحد التى وقعت فى السنة الثالثة من النزوح. [ تاريخ الطبرى ـ الجزء الثانى ـ ص 499 ]. أى أنه استمر سارى المفعول ستة عشر عامًا منها ثلاثة عشر فى قرية التقديس وثلاثة فى قرية الحَرّتين أى ما يقرب من ثلثى عمر الدعوة المحمدية المباركة وهذا يقطع باستقرار عرف التوريث البدوى الذكورى وإلا لما احتاج تغييره هذا المدى الطويل.

 

*******

 

ويقول اَلْكيا الهراسى ( وقضى رسول الله ـ ص ـ فى تركة سعد بن الربيع للبنتين الثلثين وللزوجة الثمن والباقى لأخته) [ أحكام القرآن: لعماد الدين محمد الطبرى ج/2 ص 343, وذكر فى الهامش: رواه أحمد والترمذى وأبو داود وابن ماجة ].

 

ولا يفوتنا أن نلحظ عبارة ( والباقى لأخته) لا لأخيه كما جاء فى روايات سوابق, لأن التباين والاختلاف أهم علامة تَسِم مَرْويات فترة التدشين لعدم معرفتهم بالتدوين الذى درج عليه وأتقنه منذ ألوف الأعوام قبل هذه الأحداث المُعجبة المبروكة أجدادنا قداماء المصريين.

 

أما أبو بكر محمد بن عبدالله المعروف بابن العربى فقد أورد خبر مجئ زوجة سعد بن الربيع للرسول وشكواها إليه بذات التفصيلات التى عبقت بها الرواية الأصلية التى سقناها فيما سلف وقوله لها ( يقضى الله فى ذلك ) فنزلت { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } وهكذا عاضدت كتب التفسير, مصنفات أسباب النزول فى توثيق خبر شكوى زوجة سعد بن الربيع لحرمانها وابنتيها من ميراثه لأن عمهما استفاه لنفسه وبعدها هلّت بطلعتها المشرقة آية المواريث على مهل وريث. [ أحكام القرآن: لابن العربى ـ مجلد أول ـ ص 333 ].

 

وهكذا غدا هذا الحديث صحيحًا لا تعتريه أدنى شائبة.

ولا نضيف جديدًا حين نرقم أن الآية حققت مطلب أرملة سعد وكافة النِسون غِبّ أن منحهن ( الإيمان والموعظة ) نصف التراث بعد حرمان امتد مئات الأعوام.

 

ومن رجا آخر أقبلت الآية كمكافأة للنساء على مواقفهن من الدعوة التى بشّر بها ( سيد الخلق ) والتى نسخنا فيما مضى نُتفًا منها خاصة فى عركة أحد بخلاف عدد من كبار الصحابة أدبر وأعطى ظهره للعدو وهو يعلم أن ذلك من أكبر الكبائر ومن غرائب التاريخ أن من بين من فعله من تولى الإمامة العظمى أى الخلافة, يضاف إلى ذلك أن ( أول من يفيق من الصعقة ) بثاقب بصره ونافذ بصيرته ووسيع أفقه أدرك بعد ما حدث فى أحد النسون فيهن أو لديهن نفع كبير فى ميادين القتال. وللديانة التى يذيعها ويفشيها وللدولة التى يضع فى صرحها لبنة بعد أخرى واللتين تعبران مزنقًا ضيقه ملحوظ وحروجته واضحة وعقباته عديدة وعثراته خطرة ومن ثم فهما ( = الديانة والدولة ) فى أمس الحوجة ليد العون من كل رد فى المجتمع.

 

وفى حديث له معروف ( النساء شقائق الرجال ) ولرفع روحهن المعنوية ولتشجيعهن على مزيد من البذل ولحضهن على تقديم ضعف العطاء فلا أقل من زبدهن شطر الإرث, وهكذا يثبت القرآن الحميد أنه يواكب جماعة المسلمين وأن عينه عليها وأنه يتفضل بإجابة طلب أفرادها ويتكرم بتحقيق رغبة أعضائها ويتعطف برفع سبب شكاية من يئن ويتوجع من ذُكرانها ونسونها وأن إطلال آياته كالشموس المضيئة بين الحين والآخر بلغ غاية الحكمة التى خفيت عن العقول القاصرة لليهود.

 

*******

 

[ 4 ]

 

الرجل لعبته المرأة

 

 

 هذه مقولة تنطبق على مجتمع أولئك العُربان, وقد صرح بها أحد كبارهم عندما ناقشته بمنتهى الأدب والخضوع زوجته فى أمر يهمها أو يخصها فصاح فى وجهها: مالك وذاك ما أنت إلا لعبة ألعب بها وقت حاجتى إليها ثم أركنها أسفل الجدار. ومن الجائز أن تغدو الأحاديث والأقوال موضع تهزيل ( من الهزال ) ومجال توهين ومحل تشكيك وهناك شعار شهير لأحد المبرزين فى علم الحديث: أىّ حديث ضعيف قويناه وأى حديث صحيح أو حسن ضعفناه.

 

وهى دعوى تنضوى على أدنى قدر من المبالغة, لأن دفع الحديث قد يأتى من صوب المَتْن بزعم أنه لا يتفق وما جاء فى القرآن الكريم ( بداهة من وجهة نظر الطاعن ) أو ياتى من ناحية السند, فإن لم يلحق به تاريخية الرواية شائبة أى أن فلانًا روى عن فلان فى حين أنه لم يحدث بينهما لقاء أو يغمز أحد رواته بأنه صاحب بدعة أى ممن تكلموا فى الذات أو فى الصفات ( صفات الله ) أو فى القضاء والقدر أو غيرها أو عرف بالتشيع وهكذا.

 

فإذا صح المتن وسلم رواته من المطاعن قالوا عنه ( = الحديث ) إنه منسوخ إما بآية وإما بحديث آخر .. إلخ. مع وضع ملاحظة هامة فى الحُسبان وهى أن الحديث الذى يطعن فيه لا يوافق مذهبه أو رأيه أو حتى هواه.

 

إذن التعكز على مقولة لأحدهم ولو من مرازبتهم لإثبات نظرة أولئك العربان المتدنية للمََرَة لا ينتصب دليلاً قاطعًا.

 

إنما الأفعال هى التى تقطع المناوئ وتُخرس المشاغب وتُسكت المخاصم:

( كان الرجل يطلق امرأته ما شاء الله أن يطلقها وإن طلقها مائة مرة أو اكثر إذا ارتحعها قبل أن تنقضى عدتها, حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبينى منى ولا آويك إلى, فقالت وكيف ذاك؟ قال: أطلقك وكلما قاربت عدتك أن تنقضى ارتجعتك ثم أكلقك وأفعل ذلك.

فشكت المرأة ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك عائشة لرسول الله ـ ص ت فسكت فلم يقل شيئًا حتى نزل القرآن ( الطلاق مرتان .. ) [ المقبول: للأزهرى ص 132, 133. وقال المصنف: رواه الحاكم والترمذى والطبرى عن عائشة ـ رض ـ ووصف إسناده بأنه صحيح وأن الحاكم صحححه فى المستدرك. ورواه عبد بن حميد فى تفسيره ورواه ابن مردويه فى السنن ومالك فى الموطأ ].

 

وذكره السيوطى فى اللباب بذلك السند ولو أنه اكتفى بالترمذى من أصحاب الصحاح والحاكم النيسابورى ولكنه رَقَم أن المَرَة تشكّت إلى          (  صاحب المغنم ) مباشرة دون توسط التيمية بنت عتيق بن أبى قحافة.

 

وفى أحكام القرآن لابن العربى أن الزواج من الأثاربة بنى قيلة وان شكوى ميعولته أفضت بها بنفسها إلى القرآن الكريم. [ أحكام القرآن: لابن العربى ـ المجلد الأول ـ ص 189 ].

 

*******

 

أكد الباحث عبدالله شحاته ـ بعد تمحيص منه ـ مسألة لعب أولئك العُربان بالطلاق ونحن من جانبنا نرجعها إلى استهانتهم بأقدس علاقة ولنظرتهم للمرأة التى تتسم بالتعالى من جهتهم والدونية إلى ناحيتها وجِماعة منبعه التبدىّ.

 

يوثق شحاته ذلك فيزبر ( أى يكتب ) ( ثبت لأن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة. [ تفسير القرآن الكريم: لعبدالله شحاته ـ الجزء الثانى ـ ص 370 ].

 

ثم ساق الحديث كما طلع علينا أبو عمر نادى الأزهرى.

 

*******

 

إذن نحن بصدد شكاية صحابية من بنات قيلة بثتها بالذات أو بالوساطة للبهاء ضد زوجها الذى عزم على تعليقها نزولاً على العرف المستقر فى المجتمع البدوى الذكورى بأن طلقها حتى إذا قاربت عدتها على النهاية راجعها وهكذا حتى أقرب الأجلين: أجلها أو أجله.

 

و ( الخالص ) يعلم هذا التقليد المستقر الراسخ فى المجتمع وأنه سلاح فى يد الذُكران يشكمون به النسوة, يهددون به الناشز ويخيفون بموجبه العاصية ويردعون بمقتضاه النفور ولو انتزعه من أيديهم لعصلبن ( = عصلجت ). عليهم ولما استطاعوا التحكم فيهن ( هذا ما يتوهمونه ).

 

*******

 

هذا من رجال ( ناحية ), ومن آخر فإن النسون يعانين بشدة الظلم الذى يقع عليهن من جراء استمرار هذا العرف الوبئ والعادة الدنيئة والتقليد الطِفس, ولقد أثبتن منذ فجر الدعوة المباركة أنهن من أشد الأعوان إخلاصًا كما أن الأيام المستقلة تعمق الحَوجة إليهن إن فى جناح الديانة أو قطاع الدولة الوليد.

 

تلك هى دَوَال العبارة التى وردت فى الحديث الشريف ( فسكت ولم يقل شئ ) بيد أن ( القرآن ) لم يسكت وانىّ له أن يفعل وقد تقدمت بطابتها صحابية أثربية لتصحبح وضع جائر يُضيرها هى بنات جنسها حتى يرث الله الأرض ومن عليها فبعثت آية كريمة ( الطلاق مرتان ) .. استجابت للشكاية وقضت على التقليد الظالم وأنصفت شقائق الرجال وكأنى به ( الكتاب / النور ) يقول لهم ولهن إنى معكم لا أغادركم طرفة عبن وادخل معكم فى علاقات جدلية حميمة ومن هنا لم أنبث دفعة واحدة كتوراة موسى وإنما تهل نجومى على مراحل تنير لكم الجَادة ( الطريق ) أمام مشكلاتهم وتبدد الظلام الدامس الذى عشش حول الكثير من تقاليدكم المتفسخة وتفتح المغاليق التى سكرتها عاداتكم البالية.

 

*******

 

[ 5 ]

 

 القِبْلَة المحيرة

 

رقمنا فيما سلف أن ( رضوان الله ) عندما شرّف قرية الحرتين وخبر أحوال  ( إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت ) كما أطلق عليهم يوم قريظة:

أخرج بن جرير عن مجاهد قال: قام النبى ـ ص ـ يوم قريظة تحت حصونهم فقال: يا إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. [ ( لباب النقول فى أسباب النزول ) للجلال السيوطى, على هامش ( تنوير المقياس من تفسير ابن عباس ) للفيروزى آيادى صاحب القاموس , المتوفى 817هـ ـ الطبعة الثانية 1370هـ / 1951م. مكتبة مصطفى البابى الحلبى ـ مصر ].

 

وأدرك كثافتهم وفَرشَحة ذراعهم الاقتصادية وقوة تأثيرهم الدينى والاجتماعى باعتبار أنهم ( = القردة لا اليثاربة العربان ) من ذوى العلم الدينى وبأيديهم إسطير مقدس مَنَحَنَ من بيره سائر الإسطيرات التالية:

فصلى تجاه بيت المقدس أو قرية السلام ـ أورشليم ـ وتابعه صحبه. وشكلت البادرة خطوة فى درب الموادعة أو الموادّة التى قرر أن يمشى فيها يقرب من عام ونصف عام, بيد أنهم أثبتوا بحق أنهم قردة وخنازير, فانبثقت آية عظيمة من القرآن ـ وكل آياته عظيمة ـ أذنت له ولتبعه الاتجاه فى الصلاة نحو قرية القداسة العربية أو الكعبة أو إرث إبراهيم!!. [ هناك خناقة ( وهى كلمة فصيحة ) لرب السماء بين المسلمين واليهود على أمرين:

الأول: أيتهما أقدم وأكثر قداسة بَكّة أم إيليا ( أورشليم ).

الآخر: كبير البطاركة وأبوهم وأصل أصولهم إبراهيم أو أبرهام.

( فى مصر يدلعون من يسمى إبراهيم ببرهوم مرة وهيمة أخرى ا.هـ. ).

هل هو يهودى أو حنيف.

ورغم بلوغ عمر العركة المبرورة بدايات القرن الخامس عشر فإن الطائفتين لم تصلا حتى كتابة هذه السطور إلى حل وسط مع أن كليهما تكتظ بطوابير مرصوصة من العلماء والمشايخ والأحبار والربيين ا.هـ ].

 

*******

 

تحويل القبلة أقلق عددًا من الصحابة لا بسبب التردد: مكة ( الكعبة ) ثم إيليا ثم مكة مرة اخرى إنما لعلة أخرى مغايرة ولكنها تقترن أو تتصل بها بحبل ربما لا يتسم بالمتانة والشدة إنما فى نهاية الشوط من اليسير العثور على وشيجة لبَكَتْهما ( = خلطهما ).

 

ما هو موقف أو مصير الصلوات التى صلوها هم ومن سبقهم إلى الدار الآخرة خلال الأشهر الثمانية عشرة صوب القرية التى يقدسها أولاد الأفاعى كما وسمهم عيسى ابن الصديقة مريم. [ علماء المسيحية يؤكدون أن اسم أمة ألله ام عيسى المسيح هو مارى أما مريم فهو اسم أخت هارون أخى موسى , بيد أن القرآن المجيد سماها مريم وتوج سورة كاملة بهذا الاسم وهو شرف منيف لم تنله سيدة نساء الدنيا أم هند الطاهرة خديجة بنت خويلد.  وبداهة نحن لاشأن لنا بما يدعيه الدين المسيحى ونتتبع ما جاء بالقرآن وإن اختلف نتيجة تشابه الأسماء, ومن ثم رقمنا اسمها الذى ورد فيه وهو مريم ا.هـ ].

 

( كان رجال من أصحاب رسول الله ـ ص ـ قد ماتوا على القبلة الأولى منهم أسعد بن زرارة وأبو أمامة أحد بنى النجار والبَرَاء بن معرور أحد بنى سَلَمة وأناس آخرون جاءت عشائرهم فقالوا: يا رسول الله توفى إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا؟. قأنزل الله تعالى { مَا كَان الله لِيُضَيِّعَ إِبْمَانَكُم } الآية. [ ( أسباب النزول ) للواحدى ص 36, ( لباب النقول ) للسيوطى ص 19 طبعة دار الشعب , وقد أورده أبو عمر نادى الأزهرى فى ( المقبول ) وذكر أن إسناده صحيح وأضاف أن ابن كثير أورد فى تفسيره وقال عنه الشيخ شاكر فى ( العمدة ) إسناده صحيح وأخرج بعضه الترمذى فى تفسير سورة البقرة وقال عنه: حسن صحيح, وأبو داود ( من أصحاب الصحاح الستة كالترمذى ) وكذا ابن ماجة فى سننه وهو منهم وأخرجه أحمد بن حنبل فى المسند كما جاء فى صحيح ابن حيان وعزاء السيوطى فى الـ ( لباب ) للطبرى والأخير أورده فى تفسيره ( المقبول ) ص 81 . وهذا وصل هذا الحديث إلى محطة الصحة وهو مطمئن البال].

 

*******

 

كالمنهج الذى اتبعناه نيمم صوب كتب التفسير العوالى لنتعرف سبب انبثاق الآية توثيقًا وشدًا لأزر مصنفات ( أسباب النزول ) { مَا كَان الله لِيُضَيِّعَ إِبْمَانَكُم } أى ثباتكم على الإيمان وقيل إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها لما رُوى أنه ـ ص ـ لما وُجّه للكعبة قالو: كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل لإخواتنا فنزلت: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة 143 ]. [ أنوار التنزيل أو تفسير البيضاوى: لقاضى القضاة البيضاوى ص 30 ].

 

ويؤيد أبو محمد بن عطية سبب إشراقة الآية السالفة الإلماع فيقول: ( فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل من صلاتهم السالفة فأنزل: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }. [ ( المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز ) لأبى محمد عبد الحق بن عطية 481/541هـ تحقيق الملاح ـ ج1 ـ ص 441ـ لجنة القرآن والسنة ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ بمصر ].

 

وفى تفسير الجلالين: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أى صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثبتكم عليه لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل. [ ( تفسير الجلالين ) وهما جلال الدين محمد بن أحمد المحلى وجلال الدين السيوطى ـ ص20 ـ دون تاريخ ـ مكتبة الجمهورية العربية المتحدة ].

 

أما المقصود بكلمة إيمانكم التى وردت فى الآية هو صلاتكم كما ذكر الجلالان ويقول الراغب فى مفرداته { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أى صلاتكم }. [ المفردات فى غريب القرآن: للراغب الأصفهانى ـ ص 26 ].

 

ويعلل ابن عطية تسمية الصلاة بالإيمان ( فسميت إيمانًا إذ هى من شُعب الإيمان ). [ المحرر الوجيز ص 441 ].

 

*******

 

إن تحويل القبلة من إيليا إلى الكعبة بقدر ما غاظ بنى إسرائيل نفحهم مجالاً وسيعًا للدسّ والوقيعة والإدعاءات الخبيثة والمزاعم التى تقطر سمًا. ينفثونها فى آذان تبع ( المكتفى بالله ) خصوصًا اليثاربة وهم عُربان ضيقو الأفق, ومحدودو النظرة, منعدمو الثقافة, مليطون من الفكر, فما إن سمع اليهود بآية التحويل حتى ارثقلوا إليهم يبلبلون إيمانهم ويشوشون عليهم إسلامهم ويخلخلون عقيدتهم ويزلزلون ديانتهم الهشة خاصة أنهم حديثى عهد بها إذ لم يمض على إعتناقهم إياها أقل من عام ونصف عام فطفقوا يسألونهم:

أى دين هذا الذى يغير قبلة صلاته, ففى بدىّ الشأن التوجه إلى الكعبة ثم بعدها التحول صوب أورشليم مدينة السلام  وعقب أقل من عامين العودة إلى الكعبة مرة اخرى؟.

 

إن ما علمناه من كتبنا أن القبلة إذا شُرِّعت لا تبدل وكيف تُغيّر والصلاة عماد الدين وأول ركن فيه بعد الشهادتين؟.

 

إن الأمر لايخرج عن فرضين:

إما التوجه فى الصلاة إلى أورشليم حق وصدق من عند الله فلا يصح تبديله ويتعين الاستمرار عليه إلى يوم القيامة!.

وإما أنه باطل وليس فيه حق ولم يأمر به الرب فكيف إذن يممتم صوب بيت المقدس طوال تلك المدة؟.

أما أن يصبح حقًا ثم يمسى باطلاً فما يقول به عاقل!.

وما السبب فى انقلابه من باطل إلى حق؟.

 

ألا يدل التحول على أن " أبا القاسم " قد جرفه الحنين إلى مسقط رأسه وإلى دين أبيه واجداده

وأن التحويل بداية فى جادة العودة إليه؟.

 

وفيم إذن هذا العناء وكل التضحيات؟.

 

والأهم من جماعه:

ماهو مصير الصلوات التى صليتموها طوال الأشهر الثمانية عشر؟.

وإذا أتيحت لكم الفرصة للتصحيح فكبف بآبائكم وإخواتكم وأبنائكم الذين قُبِروا قبل التحويل وبالتالى انعدمت لديهم أى نُهزة للتصويب؟.

 

هذه التساؤلات الماكرة التى طرحوها على المسلمين أثّرت فى عدد كبير منهم وفى المقدمة الأثاربة وفعلت فى قلوبهم فعل السحر وأقلقتهم, ونستدل عليه بما جاء فى الخبر: ( جاءت عشائرهم ) أى لم يأت أفراد منهم بل عشائر بالجمع. ومن بين معانى العشيرة : القبيلة. [ تقول عشيرة الرجل = قبيلته ], أى أن قبائل من ماتوا جاءت .. والمقصود هنا: أرهاطهم وأفخاذهم وبطونهم لأن بنى قيلة يشكلون قبيلة واحدة من فرعين هما الأوس والخزرج.

 

المهم أن الاضطراب هيمن على أهاليهم ولم يقتصر على نفر محدود, مما يشى بنجاح أولاد يعقوب فى دسائسهم وفلجهم فى مكائدهم وظفرهم فى ألاعيبهم, بل إن الغاية بلغت مداها فقد أثرت دعاوى يهود الفاسدة المفسدة إذ ارتد عدد من المسلمين عن دينهم ( وقد ارتد لذلك جماعة ). [ تفسير الجلالين ـ ص 20 ].

 

وإذ إن الشئ بالشئ يُذكر فلم يرد فى كتب السيرة المحمدية المعطار أو فى مصنفات أحاديثه الشريفة أنه قتل أو امر بقتل هؤلاء المرتدين مما يؤيد مقولة إن الردة ليست حدًا شرعيًا إذ حاشاه أن يسكت ولا يطبق . ا.هـ.

 

*******

 

عند ذلك بلغ المَرج أقصاه والهَرَج منتهاه والفتنة ذروتها وصار حتمًا مقضيًا إجابة العشائر على شؤالها عن مصائر الذين يمموا شطر أورشليم ثم ماتوا قبل التحويل إلى كعبة قرية التقديس. [ فى ذياك الزمن المدهش انضوت جزيرة أولئك العُربان على أكثر من عشرين كعبة ولكن لم يكن إحداها بشهرة كعبة بنى سخينة فى بكة. ا. هـ. ].

 

ولوقف نزيف الردة التى هى طعنة نجلاء فى جسد الدولة الجديدة ولطمة مزلزلة للدين الناشئ إذ إنها فى أمس الحوجة إلى الأجناد والعسكر والغزاة والأعوان لا العكس.

 

وكمنهاج القرآن الذى استنه الرسول الكريم , سارع لتقديم الحل والإجابة المرضية للنبى ـ ص ـ خاصة أن السؤال لم يطرحه فرد أو نفر محدود بل عِزون ( جماعات واحدتها عِزة ) [ نظام الغريب فى اللغة ص 147 ]. أكثروا الوعوعة وأداموا اللغط وأجلبوا بالضخب وهنا طلعت كالبدر المنير آية { ...وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ...} [ البقرة 143 ], أى صلاتكم ( والأيمان ها هنا الصلاة ) . [ المختصر فى تفسير القرآن: لابن صمادح التجيبى ـ ص 17 ].

فتلاها ( ذو الخلق الكريم ) على تلك الفِئام فهدأت قلوبهم إذ تيققنوا أن ذويهم الموتى قبل التغيير لم يُبخسوا حقهم واستوفوا جزاءهم ونالوا مثوبتهم.

 

وانفرجت أسارير ( صاحب المقام المحمود ) حين رضوا إذ هم سواعده القوية يقهر بها مشركى الجزيرة على أن ينطقوا بالشهادتين وأعضاء الصلبة فى تأسيس دولة قريش وبنى هاشم التى طالما تمناها الأجداد المباركون.

 

وفى كل نازلة يؤكد الذكر الحكيم العلاقة الجدلية التى يلتحم بها مع المجتمع وأفراده وأنه لا يتخلى عنهم ولو برهة يسيرة ويلبى طلباتهم ومتطلباتهم دون إبطاء.

 

*******

 

[ 6 ]

 

شعائر الصفا والمروة

 

انتقش الإسلام كثيرًا من الفترة السابقة عليه. [ تسمى الجاهلية تنقيرًا منها وتبغيضًا فيها وهى تسمية أيديولوجية ]. فى كافة القطاعات, ففى قطاع العقيدة نادى الحنفاء أو المتحنفين بالتوحيد ونبذ الشرك.

 

وفى شِقْ العبادة نقل شعيرة الحج ( وتبعًا له الاعتمار أو العمرة ) بحذافيرها حذوك القُذّة بالقُذّة ما عدا التلبية فقد نقّاها ( = الإسلام ) من الإشراك مثلما سبقه المتحنفون الداعون إلى التوحيد كما أسلفنا ـ وانتقاش [ فى المعجم الوجيز: انتقش الشئ = اختاره ـ والعامة فى مصر تقول ( نقش ) فلان من فلان الفكرة أو نحوها: نسخها أو استعارها منه أ.هـ. ] الحج له دافعان حثيثان أولهما أنه أكبر موسم تجارى لانتصاب الأسواق التجارية الكبرى مثل عُكاظ ومَجَنّة وذى الحجاز على هامشه, فإلغاؤه سيصيب المكاكوة بخسارة تُكرههم فى الإسلام والعكس صحيح أى استبقاؤه يحببهم فيه ويدفعهم إلى اعتناقه.

 

والباعث الآخر أن الأعاريب الذين تابعوه على ديانته وشابوا على اداء مناسك الحج وعلى تعظيم الكعبة وتُشْبع هذه الطقوس وجدانهم وتريح نفوسهم وتُثلج صدورهم وتدخل السرور على قلوبهم, فمن الرجا الاجتماعى يعتبر متنفسًا لهم إذ حياتهم تَصْفُر من مثل هذا المنتدى المُفرشَح.

 

إذن تنتج فوائد جمة يحققها منسك الحج = تجارية / اجتماعية / نفسية / عاطفية / تاريخية ... إلخ. فلو أُلغى بالكلية لقوبل حظره بثورة عارمة أو بالأقل لَغَط  وَوَعْوَعَة  وصخب, فى حين أن استبقاء سيضرب عدة عصافير بحجر واحد. [ من أراد المزيد فى موضوع ما نقله الإسلام من الفترة السابقة عليه فى شتى القطاعات فننحيله إلى كتابنا ( الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية ) وقد طُبع مرتين وطالبنا البعض بثالثة ا.هـ. ].

 

من المؤكد أن نلفى من سوف يمارى فى هذه الحقيقة التاريخية رغم تقديمها للأدلة الموضوعية, إذ إن القراء ( أو قطاعًا وسيعًا منهم ا.هـ. ) درج على سماع آراء مباينة فى هذه النقطة بعبارات إنشائية وجمل خطابية ومقولات بلاغية سنين عددًا, فمن العسير عليه أن يهضم الأفكار التى نطرحها لأنها تضاد الهالات التى تحيط بمثل هذه المواضيع والتى رُبِىّ عليها منذ نعومة أظفاره والتى حقنته بأمصال زَبَدته بحصانة تحسبه عن تقبل العقلانية.

 

ومن هذا المنطلق يقب هذا المثال السادس لكيما يموضع هدفين:

أ ـ إقناع القارئ بأن تشريع الحج انبثق لإرواء ظمأ التبع والأصحاب نفسيًا واجتماعيًا وعاطفيًا بإتاحة الفرصة لهم لأداء منسك طالما ألفوه.

ب ـ تلبية رغبة بنى قيلة أعاريب قرية الحرتين خاصة بتضمين الحج شعيرة الطواف سبعة أشواط ( لاحظ الرقم سبعة ) بين الصفا والمروة لأنها أثيرة لديهم إذ دأبوا على القيام بها تعظيمًا لمعبودتهم مَنَاة.

 

( أخرج البخارى والترمذى وأحمد عن عائشة فى قوله عز وجل: إن الصفا والمروة من شعائر الله ـ قالت: كان رجال من الأنصار من يَهِل لمناة. ومناة صنم بين مكة والمدينة, قالوا: يابنى الله إنا كنا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بها فأنزل الله عز وجل .... الآية ). [ ( المقبول ) للأزهرى ص 85, 86 . ووصفه المصنف بأن إسناد صحيح. خرّج هذا الحديث البخارى فى صحيحه والترمذى فى سننه وقال عنه إنه حسن صحيح وكذا أحمد فى مسنده ].

 

وجاء فى الـ ( لباب ): ( أخرج البخارى عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما, فأنزل الآية ). [ لباب النقول: للسيوطى ـ ص 20 / الةاحدى فى ( أسباب النزول ) ص 28 ].

 

هذه رواية أخرى للبخارى, وأنس الذى ورد اسمه فى الحديث هو أنس بن مالك أحد مشاهير الصحابة وهو خادم ( ذى الحهاد ) وفضلاً عن ذلك فهو أثربى ممن كانوا يهلون لمناة.

 

*******

 

هذا ما ثبت فى كتب ( أسباب النزول ) ثم نثنى بمؤلفات ( أحكام القرآن والتفسير ).

 

أورد ابن كثير فى تفسيره الحديث الذى خرّجه البخارى فى صحيحه والذى فيه سأل عاصم بن سلمان أنس بن مالك عن الصفا والمروة الذى نسخناه آنفًا. [ ( التيسير خلاصة ابن كثير ) ص 42 ]. وأورد القرطبى ( ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة فى القرآن قالوا: يا رسول الله: كنا نطوف بالصفا والمروة والله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا فهل علينا حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل .. الآية ). [ ( الجامع لأحكام القرآن / تفسير القرطبى ) للقرطبى ـ المجلد الأول ـ ص 559, 600 ].

 

هذا خبر بالغ الثمانة, غالى القيمة لأنه صريح النص والدلالة معًا على أن الطواف بالصفا والمروة لم يُذكر فى القرآن فى بدىّ الأمر إنما ورد بعد أن سأل اليثاربة بنو قيلة الذين أدمنوا الإهلال لمناة ثم الطواف بهما ( الموقر ) هل ثمة حرج عليهم أن يفعلوا ؟ فأشرقت آية كريمة به.

 

إن ما يدل على أن الطواف بين الصفا والمروة فى أول الأمر لم يُشكل ضفيرة فى نسيج الحج أن الآيات التى تناولته فى القرآن العظيم, وهى      { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {196} الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ {197} لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199} فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ {200} } [ البقرة: 196 ـ 200 ]. لم تشمله مع أنها ذكرت أمورًا أخرى أخفض منه رتبة وأدنى منه درجة وأنحف منه منزلة مثل ما يفعله المريض أو من به أذى فى رأسه وكذا الرَفَث والجدال فبه ( = الحج ) وابتغاء التجارة إبانه ثم ذكر الله كالآباء أو أشد.

 

أما ما ورد فى الآية 97 من سورة آل عمران: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قهو فرض الحج على الناس ( = المسلمين ) المستطيعين وفى سورة الحج: 27ـ 29 { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ {28} ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق {29} } وهى أيضًا مدينة حديث عن الآذان بالحج فى الناس وكيف أنهم سيأتون من كل فج عميق ورجالاً وراكبين ليشهدوا منافع لهم وليقضوا تَفَثَهم ( ما يصيبهم بسبب ترك الأدهان والغسل والحَلق ) وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالكعبة.

 

وليس فى إحدى السورتين الكريمتين أى ذكر للطواف ( بين الصفا والمروة ) مع أنه نُصّ بكلتيهما

على أمور ( طبعًا بخلاف الطواف حول البيت العتيق ) هى بكل تأكيد أقل أهمية منه مثل شهود المنافع وقضاء التَفَث والوفاء بالنذور. إلخ. فلو أن الطواف المذكور من الشعائر منذ البداية لما أغفلته آيتا سورتى آل عمران والحج فى حين تكلمتا عما ذكرنا.

 

والسورة الثانية والعشرون تحمل اسم ( سورة الحج ) [ المستشرق الفرنسى ريجيه بلاشير يذهب إلى أنها التاسعة بعد المائة من رجا ترتيب النزول ـ ا.هـ. ]. بيد أنها صَفُرت ـ أى خلت ـ من ذكر الطواف بين الصفا والمروة ونحن نقدم جِماعه على أنه قرينة على خَوَاء الحج فى المبتدأ من شعيرة ذلك الطواف وقلنا قرينة فحسب لا دليلاً أو حجة لأن آيتى سورتى آل عمران والحج أغفلتا أيضًا ركنًا ركينًا فى الحج هو الوقوف بعرفة.

 

ويكفى أن مالكًا والشافعى وأحمد بن حنبل ذهبوا إلى أنه ( = الطواف بين الصفا والمروة ) ركن من أركان الحج وساووه بالوقوف بعرفات, وهناك حديث محمدى شريف ( الحج عرفة ) أما الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان فقد ذهب هو وتلاميذه إلى أنه واجب يُجْبَر بالدم.

 

 ولم يقل أحد من الأئمة أو الفقهاء لا من السلف أو الخلف إن ابتغاء الفضل ( = التجارة ) واجتناب الجدال فيه ركن أو حتى واجب.

 

فكيف تأتى الآيات الكريمات بهذه التفصيلات أو التفريعات أو الهامشيات

ولا تنص على ركن ( فى مذاهب الثلاثة ) وواجب عند الأحناف؟.

 

*******

 

هذه واحدة أما الأخرى فهى أن الآية العظيمة الخاصة بالطواف بين الصفا والمروة جاءت بمعزل عن الآيات التى تناولت الحج وجزئياته, فقد حملت رقم {158} من سورة البقرة { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } سبقتها آيتان عن الصبر { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} } ولحقتها آية عن اللعنة التى تصيب من يكتم ما أنزل غليه من البينات والهدى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159}}.

 

إذن يترسخ اليقين أن مناسك الحج فى فاتحة الشأن ليس من بينها هذا الطواف والمنطقى أن له علة حزبية وبالتنقير والتنقيب عنها ألفيناها:

( أخرج الفاكهى وإسماعيل القاضى فى الأحكام عن الشعبى قال:

كان صنم بالصفا يدعى ( أساف ) ووثن بالمروة يدعى ( ناثلة ) فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما فلما جاء الإسلام رُمِى بهما. وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية فأمسكوا عن السعى بينهما . [ ( نهاية السول فيما استدرك عى الواحدى والسيوطى من أسباب النزول ) للشيخ أبى عمر نادى الأزهرى ص 83 ـ الطبعة الأولى ـ 1415هـ / 1995م ـ دار الصحابة ـ طنطا ].

 

إذن الإعراض عن السعى بين الصفا والمروة فى بداية الإسلام عِلّته أن بنى سخينة فى الفترة السابقة على ظهوره دأبوا على الطواف بينهما لوجود صنم على كل منهما, أى أنه شعيرة ( جاهلية! ) فتحرّج المسلمون من القيام به فى البداية وهذا ثابت من عبارات الخبر: لما جاء الإسلام رُمى بهما .. فأمسكوا عن السعى بينهما.

 

بيد أن هذا الخبر فى حاجة إلى توثيق أكثر كيما يغدو السبب الذى نطرحه أكيدًا لا مجرد حَدْس.

( قال عمرو بن الحسين: سألت ابن عمر عن هذه الآية فقال: انطلق إلى ابن عباس فسأله .. فسألته فقال: كان على الصفا صنم فى صورة رجل يقال له أساف وعلى المروة صنم على صورة إمرأة  تدعى نائلة, زعم أهل الكتاب أنهما زنيا فى الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين ووضعهما على الصفا والمروة ليُعتبر بهما, فلما طال المدى عُبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكُسرت الأصنام كره المسلمون الطواف لأجل الصنمين ) [ ( أسباب النزول ) للواحدى ص 28 ].

 

إذن بعد ظهور الإسلام كره الحجاج المسلمون خاصة من بنى سخينة الطواف بينهما

ومن ثم صَفُرت الآيات التى شرَّعت الحج صُفُورًا تامًا منه.

 

أما السيوطى فى الـ ( لباب ) فقد ذكر أن الحاكم ( أخرج عن ابن عباس قال: كانت الشياطين فى الجاهلية تطوف الليل أجمع بين الصفا والمروة وكان بينهما أصنام فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله لانطوف بين الصفا والمروة فإنه شئ كنا نصنعه فى الجاهلية ). [ لباب النقول للسيوطى ص 20 ].

 

صاحب المستدرك الحاكم النيسابورى يمدنا بسبب آخر لعدول من أسلم الطواف بينهما, هو أن الشياطين ملأت الطريق بين الجبلين ( الصفا والمروة ) بأصنامها ودأبت على الطواف طول الليل فلما أسلم المكاكوة وبنو سخينة ـ وهم الذين يعلمون ذلك ـ أنفوا من الطواف ومن ثم غُرّب عن منظومة الحج فى أول الأمر.

 

ولم أستطع أن أعرف كيف رأى مشركو مدينة التقديس العربية الشياطين, وعلموا بتطوافها وهى كائنات لا مرئية وغير منظورة. وهل أصنامها هى ذات أصنام بنى آدم؟, وهل هى مستترة مثلهم؟.

 

ولو أنها كذلك فكيف تَسَنّى لهم مشاهدتها؟.

 

وهل الشياطين من عبدة الأصنام أم أن دورهم اقتصر على إغواء الأناس على التعبد لها؟.

 

فنحن نعلم أن عبادة الشيطان عتيقة وما زالت مستمرة, وأورد صاحب المقبول إضافة طريفة هى أن الشياطين تعزف طوال الليل بين الصفا والمروة ( أخرج الحاكم وابن أبى داود عن ابن عباس قال: كانت الشياطين فى الجاهلية تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة وكانت فيهما آلهة لهم أصنام فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شئ كنا نصنعه فى الجاهلية ). [ المقبول للأزهرى ص 88 , ووصف بأنه صحيح الإسناد وأن الذهبى صححه وأقره إذ رواه الحاكم وأن ابن أبى داود السجسستانى أخرجه فى المصاحف. وأن الطبرى رواه فى التفسير والواحدى فى الأسباب. وبذا غدا عريًا من المطاعن. ].

 

إنما الذى لم يوضحه الخبر كيفية استماع المكاكوة للموسيقى التى طفق الفنانون الشياطين عزفها بالليل ولم يصف لنا أجميلة هى أم قبيحة, وزَبَدنا ( = الخبر ) بمعلومة هى أن الأصنام هى آلهة الشياطين بيد أنه لم يشرح لنا طريقة تعرف الأناسى عليها هل بالرؤية أم باللمس؟.

 

 *******

 

بعدها نصل إلى محطة كتب التفسير ليزداد الحديث رسوخًا:

 

(أ‌)   ( .. كان على الصفا إساف وعلى والمروة نائلة وهما صنمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا فَمُسِخا حجرين وُضِعا ليُعتبر بهما فلما طالت المدة عُبِدا من دون الله, فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما, فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية ) [ الكشاف للزمخشرى ـ المجلد الأول ـ ص 325 ].

(ب‌) ( .. لأن بعض الصحابة امتنعوا عن السعى بينهما لأنه كان فى الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف وعلى المروة صنم يقال له نائلة فخافوا أن يكون السعى بينهما تعظيمًا للصنمين ). [ التسهيل لابن جزئ الكلبى ـ الجزء الأول ـ ص 65 ].

(ت‌) ( أجاب الشافعى بمل يروى أنه كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة وهما صنمان كانا رجلاً وامرأة زنيا فى الكعبة فمُسخا حجرين فوُضعا عليهما ليُعتبر بهما فلما طالت المدة عُبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام و كُسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية أن يكون عليهم جناح غى ذلك ). [ غرائب القرآن ورغائب الفرقان ) تأليف نظام الدين الحسين بن محمد القمىّ النيسابورى ـ المتوفى سنة 728هـ ـ تحقيق وتعليق حمزة النشرتى وآخرين ـ المجلد الثانى ـ ص 172 ـ الطبعة الأولى د.ت.ن. ودون ناشر ـ القاهرة ].

(ث‌) ومن التفاسير المعاصرة اخترنا ( تفسير القرآن الكريم ) لعبدالله شحاته: ( فى رواية النسائى عن زيد بن حارثة قال: كان علىا الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما أساف ونائلة وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما ). [ ( تفسير القرآن الكريم ) لمحمد عبد الله شحاته ـ الجزء الثانى ـ ص 228. ثم أردفه برواية للترمذى: أنهما كانا من شعائر الجاهلية ].

 

وهكذا تضافرت كتب ( الأسباب 9) قديمة وحديثة ومصنفات ( التفسير ) من السلف والخلف على البرهنة على صحة الحديث الذى أتحفنا بعلة تخلف الصحابة المكيين وعلى الأخص من بنى سخينة عن السعى بين جبلى الصفا والمروة, ومن ثم فإن ( الشفاء / الموعظة ) عندما تفضل وله المنة والشكر فشرّع فرض الحج حجب تلك الشعيرة وانبثقت آياته الكريمة خالية منها لآنه ـ أى الذكر الحكيم ـ على صلة جميمة بما يموج فى المجتمع من نوازع ورغبات, وهذه المرة هى طِلبة الصحاب المكاكوة أول من آمن بدعوة ( الملاحمى / الملاذ ) وضحّى بالغالى والنفيس فى جَبر خاطر بصدور شِرعة الحج وهى صِفُر من الطوف بين الجبلين ولا ندرى كم هى المدة التى استمر تبع ( صاحب الزوجات الطاهرات ) يؤدون الحج دون السعى أو الطواف بين الصفا والمروة.

 

ولكن الذى ندريه على وجه التحقيق أن عدم وجود ترتيب تاريخى لبزوغ السور والآيات هو السبب فى عدم العلم بالمدة.

 

*******

 

ولكن طائفة أخرى لم يُرضها حذف السعى أو الطواف المذكور لأنها أدمنت هذا الطقس أو المنسك وآذها أن تخلو آيات ( البلاغ / المبين ) منه ففزعت إلى ( أول من تنشق عن الأرض ) وسألته: هل من حرج إذا طافت بينهما مثل ما أنها دأبت عليه قبل الإسلام؟ وفد اوردنا الحديث فيما سلف ولا موجب لتكراره. أما هذه الطائفة فهم الأعاريب الأثاربة بنو قيلة الذين آووا ونصروا وبسيوفهم الحداد تنتشر الديانة وتتأسس الدولة السخينية أو القرشية ولهم مكان مُفَرشح ومقام محمود ودرجة رفيعة. وليس من بعد النظر ولا من الحنكة أو الحصافة تجاهل مرادهم ونبذ مرغوبهم وتغريب مطلوبهم.

 

ومن هذا المنطلق هلّت الآية الكريمة تبشّر اليثاربة العَرَبة بالإستجابة لمطلبهم وانبأهم أنه لا حرج عليهم فى التطواف بين جبلى الصفا والمروة كما دأبوا على فعله قبل أن يعتنقوا الديانة الإسلامية. فانفرجت أساريرهم وأرفل الحبور إلى حنايا صدورهم ـ أما ( الحبيب المصطفى ) فلا مشاحة أنه رضى بذلك فهم ( = أبناء الحرتين ) فلهم عنده منزلة أثيرة, إذ تخبرنا كتب سيرته ـ التى هى كما المسك الفواح ـ أنه ود فى غحدى المناسبات أكد أنه ود لأن يصير واحدًا منهم ثم نفحهم دعوات طيبة وقد أثر هذا الموقف الشعورى البالغ النبالة فى نفوسهم أعمق تأثير ـ وهم بطبعهم عاطفيون ـ فانخرطوا فى البكاء حتى أخْضلّت لحاهم.

 

ومن جانب آخر وهو لايقل أهمية إذ يثبت الذكر الحكيم دائمًا أن باصرته لا تغفل عن ذياك المجتمع وأنه على الدوام تَلْبِكُه به عروة وثقى.

 

*******

 

[ 7 ]

 

منع الصدقة عن المحتاج

 

الآصرة بين العربة الأثاربة واليهود الأثاربة اتسمت بالمتانة ةتحلت بالعمق وامتازت بالقوة واتصفت بالشدة وهى واحدة من اهم المعضلات التى جبهت ( المنصور بالرعب مسيرة شهر ) وحاول فكها بشتى الحلول وقد تناولناها فيما سبق.

 

من بين الطرق التى سلكها هو أنه نهى بنى قيلة عن رفد ذوى الحوج أو أصحاب المسغبة أو رضخ إخوان الفاقة من اليهود الذين تربطهم بهم وشيجة من أى نوع.

( أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أن النبى ـ ص ـ كان يأمر ألا يُتصدق إلا على أهل الإسلام ). [  لباب النقول للسيوطى ص 35].

وأورده الأزهرى بنصه ثم وصفه بصحة الإسناد وأضاف إلى ذلك إلى ابن أبى حاتم أبا شيبة وأنه رواه فى المصنف وفى تفسير ابن كثير وقال الشيخ شاكر عنه فى العمدة: إسناده صحيح. [ ص248 ].

 

*******

 

ومن كتب التفسير:

أورده الألوسى عن ابن حاتم وابن شيبة. [ ( روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى ) لأبا الفضل شهاب الألوسى ـ الجزء الثانى ـ ص 72, 73 ].

وذكره أبو محمد عبد الحق بن عطية رواية عن سعيد بن جبير ( لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم ). [ المحرر الوجيز: ج2 ص 259 ].

ومن المحدثين انتقشه بحروفه عبدالله شحاته. [ تفسير القرآن الكريم ج3 ص 477 ].

 

*******

 

وهنا يثور سؤال مهم: لماذا فعل ( الذى أُرسل رحمة بالعالمين ومتمم مكارم الأخلاق ) ذلك؟.

 

ونحدّس أن الإجابة لاتحتاج إلى فطانة, فمن ناحية قد يدفع مساكين بنى اليهود ليدخلوا الإسلام كيما يعنيهم الذين سبقوهم بالإيمان بما يسد خلّتهم, ومن رجا آخر قد يحدث هؤلاء المحاويج بين اليهود زلزلة ويسببون ربكًا يشغلهم عن مناواة الحبيب ولو إلى حين, وفى ها الإبّان تترسخ أقدام ديانته ويشتد عود دولته التى يعمل ليلاً ونهارًا على تقوية بنيانها, ومن جانب ثالث يدقّ منع الأعاريب الأثاربة من الصدقة على معوزى إخوة القردة والخنازير إسفينَا مكينًا وشدخًا غائرًا وصدعًا عميقًا فى العروة الوثقى التى تَلبِك اليثاربة العربة واليهود وهو شان يوليه ( من جُعِلت له الأرض طهورًا ) عناية فائقة واهتمامًا بالغًا ورعاية مكثفة لأن دوامها بهذه الهيأة ليس فيه خطورة على الدين والدولة فحسب بل هو ضياع محقق لكل الجهود التى بذلها والتضحيات الجسيمة التى قدمها تبعه.

 

 *******

 

والذى لا مشاحة فيه أن ذياك الحظر أوجد داخل صفوف العرب من أهل يثرب بلبلة وسرّب بينهم قلقًا ودفع إلى عيونهم أرقًا مرده الروابط الحميمة التى شبكتهم ببنى يعقوب منها الحلف والولاء بل المصاهرة والقربى وبعض منهم دأب على ترك أولاده لديهم يتربون وينشأون عندهم وسبق أن رقمنا ذلك تفصيلاً.

 

فعندما يَحجِنُون عن محتاجيهم العطاء ويصنون عليهم بالصدقة ويقطعون عنهم الإحسان فسوف تشحن صدورهم بالبغضاء وبطريق الحتم واللزوم يؤثر على معاملاتهم خاصة تنشئة عيالهم لأن المرضعات عادة من المعدمين أو المقلين.

 

كما أن اليهود المياسر سيعتبرونه ضربًا من المُلاحاة أو الشحناء فيعير أفئدتهم على بنى قيلة الذين أقاموا معهم وشائج سميكة أظهرها الأنشطة التجارية المتنوعة.

 

إزاء ذلك اضطروا لأن يتوجهوا بالسؤال إلى ( المعصوم من الناس ) أن يرخّص لهم فى العودة إلى التصدق على فقراء اليهود.

( اخرج ابن جرير من طريق سفيان الثورى عن الأعمش عن جعفر بن غياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان أناس من الأنصار لهم أنساب وقرابة فى قريظة والنضير وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا ). [ المقبول للأزهرى ص 148, 149 وقال عنه: إسناده صحيح وإنه ورد أيضًا فى تفسير ابن كثير, وقال شاكر فى العمدة: إسناده صحيح ].

 

وما جاء فى الحديث أنهم اتقوا الصدقة عليهم لاشك أنه من أثر الحديث المحمدى الشريف الذى نسخناه آنفًا كذلك ( يريدهم أن يسلموا ) هو مجازاة لإرادة ( المدثر ) وقصده من الحظر.

 

أما كتب التفسير فقد أوردت الخبر ذاته.

 

ففى المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزير لابن عطية ج2, ص 260: ( روى ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات فى بنى قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم ان يسلموا ).

 

أما القمى النيسابورى فقد رواه عن الكلبى: قال الكلبى: ... إن إناسًا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع فى اليهود, وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا, فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وأرادوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله ـ ص ت فنزلت الآية 272 فى سورة البقرة { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } , فأعطوهم بعد نزولها .  [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المحلد الثانى ـ ص 613 ].

 

هذا الخبر وضّح الصلات الحميمة التى ربطت بنى قيلة وبنى يعقوب وفى مقدمتها الأصهار والقرابة والرضاع ودأب اليثاربة الأعاريب على رفدهم او بالأحرى الفقراء منهم: وأنهم لما أسلموا انصاعوا للحظر ( عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله ـ ص ـ : لا تصدقوا إلا على اهل دينكم ). [ ذات المصدر والصفحة ].

 

وقصدوا من ورائه إجبارهم على دخول الإسلام, وسبق أن ذكرنا أن هذا واحد من الأهداف التى تغياها ( سباق العرب ).

 

بيد أن اليهود اهل عناد إذ هم يعتبرون انفسهم اسبق من غيرهم فى الإيمان بالتوحيد وإسطيرهم أصل الكتب المقدسة, فلم يؤثر منع الأعطيات فيهم. عندئذ تيقن أعاريب قرية الحرتين لأه هذا الموقف سيأتى بآثار وخيمة فى شتى النواحى فأسرعوا إلى ( المزمل ) يستأمرونه ويستأذنونه فى ان يعودوا إلى الإحسان إلى فقراء إخوان القردة والخنازير, فقدّر ما هم فيه من حُروجة وضيق, ومن جانب آخر فإن نهيهم عنه سلاح فعّال سوف يطرح ثمرته فى مدى قريب.

 

إنما العربة اليثاربة كما كررنا لهم الأيادى المخضبة بدماء نصرة الدين وتدعيم الدولة وبقاؤهم فى هذه الزنقة ليس من الكياسة فى شئ, وهنا يجئ دور ( التذكرة / العجب ) فتطلع كالبدر فى منتصف الشهر إحدى الآيات الكريمة : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء }.

 

وهكذا انحلت المشكلة وعاد بنو قيلة يَرْضخون ( = يمدون ) لفقراء إسرائيل من صدقاتهم وغحسانهم كسابق عهدهم رعاية لقرابتهم وأصهارهم ... ولمنافع أخرى مُشاكلة وانقلب غمهم سرورًا, ولا شك أن ( محمودًا ) رضى لرضاهم لأنهم أجناده المناصرون الأوفياء,

 

كما أن الذكر الحكيم يزيدنا بالبرهان تلو الآخر على أنه فى كل مقطع من حياتهم المبرورة لا يتخلى عنهم وأن علاقته بهم وآصرته معهم قوية ومداخلته إياهم وثيقة.

 

*******

 

[ 8 ]

 

قصة تحريم الربا

 

استقر التعامل بالربا فى مجتمع الجزيرة باعتباره من الريعية التى تضُخ دون بذل أى مجهود مثل عرق العُبدان وما تدره أفخاذ الإماء اللاتى دأبوا على تشغيلهن فى العهورة. ومن بين أكبر المرابين: العباس بن عبد المطلب, الجد الأعلى للعباسيين وخالد بن الوليد بن المغيرة:

( قال السدى: نزلت فى العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين فى الجاهلية. [ أسباب النزول للواحدى ].

فقال النبى ـ ص ـ ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب. [ المصدر ذاته ].

وفى الفترة التى سبقت ظهور الإسلام مثَّل الوليد بن المغيرة دور كبير المرابين وهو شخصية بارزة بين ملأ قريش تمتع بثراء عريض وشهد القرآن الكريم بغناه الطاغى {  ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا {12} وَبَنِينَ شُهُودًا {13} وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15} } [ المدثر: 11 ـ 15 ].

 

{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } عنى به الوليد بن المغيرة , { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا } كثرة عدده أو مساحته. [ المختصر فى تفسير القرآن: لابن صمادح التجيبى ـ ص 460 ].

 

{ وَبَنِينَ شُهُودًا } وهو الوليد بن المغيرة, كان له عشر بنين لا يغيبون عنه فى تجارة ولا عمل. [ تفسير غريب القرآن: لأبى محمد عبدالله مسلم بن قتيبة ـ 213/276هـ ـ تحقيق السيد أحمد صقر ـ ص 496 ـ 1398هـ /1978م دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ].

وعقب محقق الكتاب عليه بالآتى:

" هذا قول مجاهد وقتادة وقيل سبعة أو اثنا عشر أو ثلاثة عشر"  انظر القرطبى 70, والطبرى 97, والفخر 267. [ المصدر ذاته ].

وإذ إنه من المرازبة الجحاجح ومن صناديد بنى سخينة فهو واحد من القلائل الذين يسنون السنن التى يقتدى بها القبيل مثل عبد المطلب بن هاشم ـ مع الفارق الشاسع بين الرجلين.

وإذ إنه لحّام أى جزار فقد استن قطع يد السارق حتى يردع اللصوص من الإقتراب من نشبه ( ماله ) المُفَرطح. [ فيما بعد انتفش الإسلام قطع يد السارق ].

 

*******

 

ولابن المغيرة نزاح أخرى منها أنه من النخبة المثقفة بين سادة قرية التقديس فهو الذى أفتى القرشيين بأن يقولوا عن ( المتربص ) إنه ساحر يفرّق بين المرء وبين أبيه وأخيه وزوجته وعشيرته. [ سيرة ابن إسحق المسماة كتاب السير والمغازى: تأليف محمد بن إسحق بن يسار ـ 85 /151هـ ـ تحقيق الدكتور سهيل زكار ص 151 ـ الطبعة الأولى 1398هـ /1978م ـ دار الفكر بيروت ].

 

بعد أن وصف الذكر الحكيم وصفًا رائعًا ما زال خطباء المساجد يرددونه حتى الآن ( والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغَدق وإن فرعه لجنًا ).       [ المصدر ذاته ].

 

ولقد كشف عن عمق ثقافته عندما وصف الكهان وزمرتهم وسجعهم والجنون وتخانقه وتخالجه ووسوسته والشعر ورَجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه والسحرة ونفثهم وعقدهم. [المصدر ذاته ].

 

وقد أدان القرآن المجيد هذا الموقف الذى اختاره والذى دلّ على الطغيان بالأموا الطائلة والاستكبار بالأولاد العشرة والخُنْزَوَانة [ فيه خنزوانة وهى الكِبَر ونزّت فى أنفه خنزوانة ( أساس البلاغة ) للزمخشرى ]. بالثقافة والصلافة بنبل المحتد والتيهان بشرف الجرثومة ( الأصل ).

 

كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبى ت ص ـ قدر ما اتى به القرآن: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا قدرت ما أتى به الشعر ولم يكن إياه وكان يقصد فى التقدير تكذيب الرسول بضرب من الاحتيال يمكن تجويزه على العقلاء فلذلك كل تقدير مستحقًا لعقوبة من الله تعالى هى كالقتل إهلاكًا له فهذا معنى { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ  } [ المدثر 19] أى هلك هلاك المقتول كيف قدر. [ درة التنزيل وغرة التأويل فى بيان الآيات المتشابهات فى كتاب الله العزيز: للخطيب الإسكافى ـ برواية ابن أبى الفرج الأردستانى ـ ص 506 ـ الطبعة الثانية 1977م ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ].

 

*******

 

هذه الشخصية المركبة بالإضافة إلى ثقافتها زاولت عدة أنشطة تجارية من بينها الجزارة كما ذكرنا. والتسليف بالربا فلما هلك غير مأسوف عليه خلّف أموالاً جزيلة تتمثل فى ديون طائلة لدى العديد من المدنيين ومن بين ورثته خالد بن الوليد, فطفق يستثمرها على ذات الشاكلة بيد أنه رغم عبقريته العسكرية وفذوذته الحربية وحِنكته القتالية لم يبلغ أبيه فى المسائل المالية وأهم من ذلك فإن الغزوات والسرايا التى شنها المسلمون على قوافل مشركى مكة شكّلت ما يمكن أن نسميه حصارًا اقتصاديًا فلم تعد التجارة فيها مزدهرة كسابق عهدها ومن ثم فإن الفروع التى تمولت منها مثل بنى مخزوم وبنى المغيرة ( وهما من أرومة واحدة ) بدأت تعرف الضيق وتعانى العَسارة وتكابد الشدة.

 

خاصة بعد أن تقاعس أبو سفيان القائد المحنك للقوافل والخبير الخِرّيت بفِجاج الصحراء ودروبها عن الخروج من مكة خوفًا على حياته بعد أن اكتشف الخطة التى دبرها ( الموقر ) لتصفيته جسديًا ( فى سنة خمس بعث ـ ص ـ عمرو بن أمية الضمرى وسلمه بن أسلم ليفتكا بأبى سفيان بن حرب فنذر بها فهربا ). [ المحبر: لابن حبيب ص 139 ].

وفى الهامش: أرسلهما إلى مكة ليقتلا أبا سفيان غِرة لفعله ذلك مع النبى ـ ص ت قبل وفطن لعمرو فهرب وقتل فى طريقه ثلاثة رجال.             [ المصدر السابق هامش نفس الصفحة ].

 

ويرجع رعب أبى سفيان وقُبُعه فى قرية القداسة وعدم ظَعْنه منها إلى سماعه بمصير كل من: كعب بن الأشرف وسلام بن أبى الحقيق وأسير بن زوام وهم يهود, ونبيح وقيل سفيان الهُذلّى ( بوادى عرنة ). [ أعطى متمم مكارم الأخلاق قاتله عبدالله بن انيس الجَهْنى عصا ( وقال تحضر بهذه فى الجنة فلما مات أدرج العصا فى كتفه ) مكافأة له على اغتيال إياه ووضع رأسه ( = القتيل ) بين يديه الشؤيفتين.ا.هـ ].

وكذلك أم قلرفة الفزارية ( وفى سنة خمس وجه المنصور بالرعب مسيرة شهر ـ ص ـ زيد بن حارثة إلى أم قرفة الفزارية وسَبَ هندًا بنتها ) [ المحبر: لابن حبيب ص 140 ].

 

( وقال ابن الجوزى فى التلقيح ( ص 64 ) ثم سرية زيد بن حارثة إلى وادى القرى فأخذوا أم قَرْفَة واسمها فاطمة بنت ربيعة وقال محققه: إلى أم قَرْفَة فاطمة بنت ربيعة بوادى القُرى على سبع ليال من المدينة من شهر رمضان من سنة ست من الهحرة وربطها بين بعيرين حتى ماتت, فى مسلم: كان أمير السرية أبو بكر ). [ المصدر السابق هامش نفس الصفحة ].

 

 وعند المقريزى ( وأم قرفة قتلها قيس بن المجسر اليعمرى قتلاً عنيفًا:

وربط بين رجليها حبلاً ثم ربط بين بعيرين ثم زجرهما فقطعاها وهى عجوز كبيرة فأمر رسول الله برأسها فدير بها ليعلم قتلها ويصدق قول رسول الله ـ ص ـ لقريش: ارأيتم إن قتلت أم قرفة؟ فيقولون أيكون ذلك؟. [ إمتاع الأسماع للمقريزى ـ الأول ـ ص 210 ].

 

وحرص ( الرحمة المهداة ) على الطواف برأس أم قرفة فى دروب وأزقة وسكك أثرب الغرض منه هو إعلام الكافة أن قوة دولة بنى سخينة بلغت شأوًا بعيدًا لأن هذه القتيلة طفق العرب على ضرب المثل بعزتها فيقال: أعز من أم قرفة  ( قال الأصمعى: من أمثالهم إذا أرادوا العز والمنعة قالوا: إنه لأمنع من ام قرفة وهى بنت مالك بن حذيفة ( وفى رواية أنها بعلته ) وكان يحرس بيتها خمسون سيفًا بخمسين فارسًا كلهم لها مَحْرم ( = أى لاتحل لواحد منهم, كأن يكون أخاها أو عمها من لا تحل له ). [ ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب: لأبى منصور عبد الملك الثعالبى 350 ـ 429هـ ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ ص 310 ـ بند 469 ـ سلسلة ذخائر العرب رقم/57 ـ طبعة 1985م ـ دار المعارف بمصر ].

 

ويؤكد شيخ المؤرخين الطبرى الخبر:

( .. فأمر زيد بن حارثة أن يقتل أم قرفة فقتلها قتلاً عنيفًا ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقَّاها.

وكانت ابنتها لِسَلَمة بن عمرو بن الأكوع كان هو الذى أصابها فسألها رسول الله ـ ص ت سلمة فوهبها له فأهداها لخاله حَزَن بن أبى قحافة ). [ تاريخ الطبرى ـ الثانى ـ ص 643 ].

 

*******

 

إن الختام المفجع لأم قرفة يقطع بأن الحروب الدينية هى أفظع بما لا يقاس من غيرها لأن المقاتلين فيها يتعاركون بأقسى أو أقصى مالديهم من شراسة على امتلاك الحقيقة المطلقة والقول الفصل والكلمة النهائية وأحدهم على حق لا شائبة فيه ولا مهادنة بشأنه, والآخر على باطل ليس فيه ذرة من حق, ولا طريق للتفاهم معه سوى نفيه وتغريبه وتصفيته بأعنف الوسائل.

 

من هنا تؤكد الإحصائيات أن ضحايا الحروب الدينية من فجر التاريخ حتى الآن ( سواء بين أبناء ديانتين أو أتباع مذهبين فى ديانة واحدة ) أضعاف ضحايا الحروب الأخريات.

 

ثم نعود إلى سياق البحث:

لاشك أن خَنَس أبى سفيان بن حرب عن تولى رئاسة القوافل التى دأب بنوسخينة على إنفاذها صيفًا وشتاءً ( وهما رحلتا الشتاء والصيف ) أضعف الحركة التجارية فى بكة وأصاب تجارها وفى مقدمتهم بنو المغيرة بقاصمة الظهر.

 

ومن ثم انقلب الوضع فأصبح بنو المغيرة مدينين للثقفيين طواغيت قرية الطائف ( منهم مسعود وحبيب وربيعة وعبد ياليل وبنو عمير ) [ لباب النقول للسيوطى ص 36 ].

 

ولبنى المغيرة هؤلاء يد لا تنكر فى معاضدة ( أبى القاسم ) سواء فى نشر الديانة التى يبشر بها أو الدولة التى يرسخ قوائمها, ومنهم شخصيات لها مقام محمود ودرجة رفيعة نذكر منها على سبيل المثال فحسب:

1 ـ أم سلمة: هند بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبدالله بن مخزوم وقد سبق أن رقمنا طرفًا من أخبارها ولا نرى موجبًا للتكرار.

2 ـ عبدالله بن الأسد بن هلال المخزومى وهو ليس من بنى المغيرة مباشرة ( زوج أم سلمة الأول ) وجدها كما ذكرنا المغيرة وجده هو هلال وهما ( ابنا عبدالله بن عمر بن مخزوم ) أخوان وحفيد هلال هو عبدالله بن عبد الأسد وحفيدة المغيرة هى أم سلمة بنت أبى أمية وعليه فزوجها أبو سلمة ابن عم أبيها. [ انظر نسب قريش 337 وجمهرة ابن حزم 141, 142, 143,  أم سلمة أم المؤمنين ج1 ـ هامش ص 50 لأمبنة الحسنى ].

 

إذن هو يمت بقرابة حميمة لبنى المغيرة.

 

وحمل صدره أوسمة مُنيفة ( قال ابن إسحق: أسلم بعد عشرة أنفس فكان الحادى عشر من المسلمين هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة. قال المصعب الزبيرى أو من هاجر إلى أرض الحبشة أبو سلمة بن عبد الأسد ثم شهد بدرًا, وكان أخا رسول الله ـ ص ـ وأخا حمزة من الرضاعة أرضعتهم ثوبية مولاة أبى لهب واستخلفه رسول الله على المدينة حين خرج إلى غزوة العشيرة وكانت فى السنة الثانية من الهجرة وتوفى أبو سلمة فى جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة. [ الإستيعاب لابن عبد البر ـ المجلد الرابع ـ ص 306 ].

 

وأضاف ابن حجر ( وكان ابن عمة النبى ت ص ت أمه برّة بنت المطلب وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه ومات بالمدينة بعد أن رجعوا من بدر, كذا وقال ابن غسحق بعد أحد وهو الصحيح وروى ابن أبى عاصم فى الأوائل من حديث ابن عباس: أول من يُعطى كتابه بيمينه أبو سلمة وقال أبو نعيم: كان اول من هاجر إلى المدينة وزاد ابن مُنْدِه وإلى الحبشة ). [ الإصابة لابن حجر العسقلانى ص 206 المجلد الرابع ].

 

*******

 

3 ـ خالد بن الوليد الذى نفحه ( الرحيم / الراضى ) لقبًا باذخًا هو سيف الله المسلول الذى بدُربته الفائقة فى القتال أنقذ جيش المسلمين فى غزوة مُؤتة من هلاك محقق على يد الروم ( بلغ أجناد هرقل مائة ألف بخلاف أوشاب الأعاريب من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى ).

 

إذ عندما استشهد زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة ( القواد ) غدا المعسكر فى أمر مريج فاصطلحوا على تأمير خالد بن الوليد ( فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشَى ( والمخاشاة هى المحاجزة ) ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس ) [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 185 تحقيق طه عبد الرؤوف سعد وآخر ـ القطاع الثقافى بأخبار اليوم ].

 

وكيما تدرك مدى فضل براعة خالد بن الوليد نكتب أن جيش المسلمين بلغت عدته ثلاثة آلاف أنقذهم من قتل محقق تحت سنابك وبسيوف أجناد الروم المائة ألف بخلاف من انضم إليهم من إفناء القنابل التى ذكرناها وهم أيضًا مائة ألف. [ المصدر السابق ص 180 ].

 

ولك أن تتصور حجم الكارثة التى من الجائز أن تحيق بالدولة القرشية الناشئة فى يثرب وبالديانة الإسلامية, إذ إن من بينهم العديد من خيرة الصحاب ومن القراء ( حفظة القرآن ) لولا عبقرية ابن الوليد العسكرية الفاذة, هذا بخلاف صفحات مشرقة عديدة لخالد بن الوليد ( شهد من رسول ـ ص ـ فتح مكة فأبلى فيها وجرى له مع بنى جُذيمة ماجرى ثم شهد حنينًا والطائف فى هدم العُزىّ وأرسله إلى أُكَيْدر دومة الجندل فأسره وقال فى حقه هذا سيف من سيوف الله وهذا الحديث رجاله ثقات ). [ الإصابة فى تمييز الصحابة: للحافظ ابن حجر شيخ الإسلام وقاضى القضاة ـ 773/852هـ تحقيق طه عبد لالرؤوف سعد ـ المجلد الثانى ـ ص 376 د. ت دار الغد العربى / مصر ].

 

4 ـ سلمة بن هشام ين المغيرة ... أخو أبى جهل والحارث يُكنى أبا هاشم كان من السابقين وثبت ذكره فى الصحيح ودعا له الرسول ـ ص ـ وآخرون لما علم بفرارهم من المشركين أن ينجيهم منهم واشترك فى غزوة مُؤتة ولما عيّره وزملاؤه المسلمون بالفرار قال النبى ـ ص ـ بل هو الكرّار ولما مات النبى ـ ص ـ خرج إلى الشام فاستشهد بمَرج الصُفر وقال موسى ابن عقبة با أجنادين ) [ الإصابة لابن حجر العسقلانى ـ المجلد الثالث ـ ص 263, 264 ].

 

وأضاف صاحب الاستيعاب أن ( كان من مهاجرة الحبشة ومن خيار الصحابة وفضلائهم وكان قديم الإسلام واحتبس بمكة وعُذب فى الله عز وجل وكان رسول الله ـ ص ـ يدعو له فى صلاته.

 

ولحق برسول الله ـ ص ـ بالمدينة بعد الخندق وخرج مع جيوش أبى بكر لقتال الروم ثم ذكر استشهاد فى أول خلافة عمر ـ رض ـ إما فى مَرْج الصُفر وإما بأجنادين ). [ الإستعاب لابن عبد البر ص 182ـ 184 ].

 

 *******

 

5 ـ خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومى قُتل أبوه يوم بدر. قال ابن سعد وابن حبان أسلم بمكة يوم الفتح وأقام بمكة. [ المصدر السايق ـ ص 359 ].

 

وأضاف ابن عبد البر النمرى أن ( عمر بن الخطاب ولاة مكة إذ عزل منها نافع الخزاعى وولاه أيضًا عثمان بن عفان ). [ الإستيعاب فى معرفةة الصحاب: للحافظ أبى عمر .. ابن عبد البر 368/463هـ ـ ص 275 ـ المجلد الثانى تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ على هامش الإصابة. ].

 

ويقال إن له زواية فى الحديث المحمدى بيد أن البعض ينكره.

وأهم ما فى الخبر أنه بعد فتح مكة أقام بها أى أنه أحد الذين طالبهم بنو ثقيف برؤوس أموالهم, لأن ولاية عَتّاب بن أسيد على قرية التقديس جاءت رديْفال (= بعد ) الفتح الأعظم ).

 

هذا جهد المُقل فى رصد بعض الصحب من بنى المغيرة ممن عاضدوا النبى فى إفشاء الديانة التى دعا إليها وفى تدعيم أسس دولة بنى سخينة  فى أثرب ويشهد ثبت المصادر الرفيعة التى رقمناها أنه كنّ لهم كل ود تقدير بالإضافة إلى من هم بمكة مثل خالد بن العاص, ولنضع فى الوعى اليقظ أنهم من رهط سامق من قريش لايقل عن بنى هاشم الذين بلغت مكانتهم عنان السماء بين العرب والعجم بـ ( الألمعى / الأمة ).

 

هنا انتصبت مشكلة حادة, طرفاها:

الأولون: هم أصحاب حق فى استرداد أموالهم وهم بنو ثقيف.

فطفقوا يطالبون بنى المغيرة ـ بعد تحريم الربا ـ برؤوس أموالهم متنازلين عن الربا:

( قالت بنو عمرو بن عمير لبنى المغيرة هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم فقالت بنو المغيرة نحن اليوم أهل عُسرة فأخّرونا إلى أن ندرك الثمرة ). [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 59 ].

ومن كتب التفسير العوالى اخترنا تفسير القرطبى:

( ... وذلك أن ثقيفًا لما طلبوا أموالهم التى لهم على بنى المغيرة شكوا العُسرة ـ يعنى بنى المغيرة ـ وقالوا ليس لنا شئ وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم ). [ تفسير القرطبى ـ المجلد الثانى ص 1179 ].

وفى قرية القداسة بَكَّة احتدم الشقاق بين الدائنين والمدينين وأوشك الخلاف أن يتحول إلى عراك, كيف لا والمال عند العُبان شقيق الروح.

فكتب عتّاب فى ذلك إلى رسول الله ـ ص ـ. [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 59 ].

وهذا العتاب هو والى مكة من قبل ( المعلم / المرشد للخير ؟؟ ).

 

والآخرون: مدينون لكنهم يتمتعون بمكانة أثيرة ولهم ولهم سابقة ( = فى الإسلام ) معروفة وخدمات جليلة للديانة والدولة مع عزة وشرف ونسب وحسب.

 

الأولون يلحّون فى استقضاء ديونهم والآخرون يستمهلونهم.

واحتد النزاع بين الفريقين وطلبوا رفع الأمر إلى ( المصون / المُضَخّم  ) فبادروا إليه بقرية التقديس لإبلاغه به.

ولا شك أنه امر محير بيد أنه كالمعتاد بعث ( مأدبة الله / القرآن ) آية كريمة تهادت حسب الطلب تضم الحل.

{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة 280].

 

*******

 

هذه الآية العظيمة ندبت الثقفيين الدائنين إلى أمرين:

الأول: إمهال بنى المغيرة حتى يخرجوا من الضيق الذى هم فيه.

الآخر: وهو أميز, إعفاء بنى المغيرة من ديونهم.

( قوله تعالى {وَأَن تَصَدَّقُواْ} ابتداء وخبره{خَيْرٌ} ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المُعْسر وجعل ذلك خيرًا من إنظاره ) [ تفسير القرطبى ـ المجلد الثانى ـ ص 1182 ].

 

واستقبلها الفريقان ببشاشة فقد استجاب لبذكرالحكيم لسُؤْلهما وأحلّ الوئام بينهما بدل الخصام,والوفاق مكان الشقاق, والمُمالحة( المواكلة ) موضع المُلاحاة ( اللوم العنيف ).

 

فالثقفيون الديّانة سوف يُنْظشرون حتى يأتى الفرج أو يتصدقون على مدينيهم بمالهم. وبنو المغيرة هدأت نفوسهم لتأخير الوفاء إلى أن تتيسر أحوالهم أو ربما يخبرهم غرماؤهم أنهم عفوا عنهم وهو الخيار الأفضل بنص الآية.

 

وسعد ( المحرّم للظلم ؟ ) برضا الطرفين وقبولهما لما ندب إليه القرآن المجيد, الذى ينفح البرهان وراء الآخر بأنه دائمًا معهم وأن وشيجته بهم صلبة وينقه كل ذى لب الحكمة السامية التى خفيت على اليهود , فى انبثاقه نجومًا.

 

 

*******

[ 9 ]

 

تحليل الزنا

 

من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن أحوال مجتمع ما تتغير فى بضع سنين, فالعادات والتقاليد والأعراف وانساق القيم المتجذرة فى أعماق أراده من العسير زعزعتها أو زحزحتها فى وقت قصير مهما بلغت عبقرية المصلح الاجتماعى وسمو المبادئ التى يدعو إليها, إذ إن الأمر يستلزم تطويرًا فى الظروف المادية.

 

من بين الأدواء التى وجدها ( الناسك / العابد ) فى المجتمع الأثربى رمى المحصنات وهو قذف أو اتهام الزوجات الحرائر ( لا الإماء أو الجوارى أو السرايا ) بالزنا أى خيانة الزوج خاصة فى مجتمع النخبة لأن البعلة فى الطبقة العالية تنظر إلى المخادنة نظرة سهلة لا عسر فيها وهو شأن متعارف عليه عند مثل هذه الطبقة لدى كل الأجناس وفى كافة البلدان وعلى توالى الأزمنة.

 

فى قرية الحرتين وفى مجتمع النخبة الميسورة أو المترفة أو الغنية كثيرًا ما يلاحظ الزوج أمارات الخيانة الزوجية فى هيأتها وحديثها وعلاقتها بالرجال الآخرين حتى من ذزى قرباه خاصة إذا تقدم فى العمر وضرب الشمط شعر رأسه أو أصابه مرض أو هزال أقعده عن المعشرة وهى مازالت ناضجة نصف أنوثتها متفجرة  وشهوتها متأججة بل ربما يدخل أحدهم داره فيرى بعينيه رجلاً يركبها ويسمع بأذنيه أنينها وتأوهاتها.

( عن ابن عباس فى رواية الكلبى أن عاصمًا ( ابن عدى الأنصارى ) رجع إلى أهله فوجد شريكًا على بطن إمرأته فأتى رسول الله ـ ص ـ      [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المجلد الثانى ص 249 ] . فلا يجد الرجل أو الزوج مناصًا من أن يقذف المَرَة أو الزوجة بتهمة الزنا والغالب أن الرجل لا يقصد رمى زوجه إلا عن حقيقة فنفس الرمى دليل على صدقه ). [ المصدر ذاته ص 250 ].

 

ورمى المحصنة مرض اجتماعى مركب فهو فى ذات الوقت يشكّل سببًا ونتيجة, أما أنه الأخيرة (= نتيجة ) لأنه حاصل انفلات الزوجات خاصة فى الشريحة العليا والمُخدَّرة عندما تسمع أباها أو عمها أو خالها يتهم زوجته أو حتى امرأة أخرى قريبة أو غريبة, جارة أو بعيدة, يترسب فى أعماق وجدانها أن العلاقة الزوجية ليست بالقداسة أو حتى الطهارة التى تظنها, وعندما تكبر وتتزوج تحذو حذو امها أو عمتها أو خالتها أو أختها الكبيرة أو جارتها وهكذا تتحول الرفاقة طقسًا اجتماعيصا مستترًا ودالته تفسخ المجتمع وتحلله, ومن ثم قابله ( الخاشع ) بالامتعاض والنفور وطفق يُشّن حربًا ضروسًا على أُس الظاهرة ليقضى عليها قضاء مبرمًا. ومن ثم انبثقت آية كريمة بعقاب أليم لكل من يتهم متزوجة محصنة { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ النور : 4 ].

 

وعلاوة على جزاء القاذف الرادع فإن الزوجات لابد أنهن يحْذرن من مواصلة العلاقة الأثيمة لأنها بعد بزوغ هذه الآية سوف تؤدى إلى ضخب مدو وإلى خلخلة الرابطة الأسرية فالرجل أو الزوج المحدود (= طُبق عليه حد القذف ) سوف يثأر لنفسه من التى تسببت فى جلده ثمانين سوطًا, وهكذا فإن النص المحكم شكّل علاجًا وسطًا للمعضلة فالذُكران سيمتنعون عن الإتهام والنسون ـ زوجات أو غبر زوجات للقاذفين لأن الآية لن تقتصر على قذف الزوجات سيرتدعن ويخنسن عن الرَفَق.

 

*******

 

بيد أن هذه الآية أوجدت فى نفوس العرب اليثاربة ضربًا من الحرج.

( عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ـ ص ـ: ألا تسمعون يا معشر الأنصار إلى ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله إنه رجل غيور والله ما تزوج امراة قط إلا بكرًا وما طلق امرأة فإجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته, فقال سعد: والله يا رسول الله إنى لأعلم أنها حق وأنها من عند الله ولكن قد تعجبت لو وجدت لَكاع قد تفخذها رجل لم يكن لى أن أهيجه ولا أحركه حتى آتى بأربعة شهداء, فوالله إنى لا آتى بهم حتى يقضى حاجته .. ) [ أسباب النزول للواحدى ص 214 / لباب النقول للسيوطى ص 122 / والمقبول للأزهرى ص 28, 480, 481 ـ ووصف المصنف بصحة الإسناد وأن الهيثمى قال عنه فى الزوائد 7/74: رجاله ثقات. / ويفيد أن السيوطى ذكر أن أحمد بن حنبل أخرجه فى مسنده ].

 

ومن كتب التفسير أورده القمى النيسابورى بنصه. [ غرائب القرآن المجلد الثامن ص 249 ].

 

أما القرطبى فقد ذكر ( لما نزلت الآية المتقدمة فى الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ يا رسول الله إن وجدت مع امرأتى رجلاً أمهله حتى آتى بأربعة! والله لأضرنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول الله ـ ص ت أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير منى. وفى ألفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها ). [ تفسير القرطبى ـ المجلد السابع ـ ص 4575].

 

أى أن القرطبى رواه بالمعنى.

وهكذا توثقت صحة هذه الحديث فى المصادر التراثية المرتفعة الرتبة من كتب التفسير ومصنفات النزول.

 

وهو ثَرّ بالمعطيات منها

1ـ سؤال سيد الأعاريب يَشَف عما اعتمل فى صدورهم غِب أن هلّت الآية { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... }.

2ـ مما يقطع بأن المخادنة لدى الزوجات أمر طبيعى لديهم وشأن وارد وحالة متكررة.

3ـ وتؤيد هذا الفرض الجملة التى فاه بها سيد الخزرج : (  لو وجدت لَكاع قد تفخذها رجل ).

4ـ أطلق سعد على الزوجة لقب لَكَاع وهو العبد أو اللئيم والمرأة لَكُعاء أى حمقاء , مما يؤكد نظرتهم المتعالية للمَرَة وتحقيرهم إياها.

5ـ جاء فى الحديث نسق اجتماعى وهو أن الكبير أو الغِطْريف فيهم إذا تزوج وطلّق لا يجرؤ فرد من القبيل أن ينكحها لغرة السيد الشديدة وهكذا تظل أيّمًا.

 

*******

 

وليس ابن عُبادة هو اوحيد الذى حاك فى صدره شئ من الآية بل إننا نستطيع أن نرفم أنه ممثل لأثرياء قرية الحرتين ولا يظن القارئ أن هذا مجرد حدس وتخمين بل حدث بالفعل.

 

( عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: أنا ليلة الجمعة فى المسجد إذ دخل رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لأسألن رسول الله ـ ص ـ فلما كان من الغد أتى  رسول الله ـ ص ـ فسأله فقال: لو ان رجلاً وجد مع امرات رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ, فقال: اللهم افتح فجعل يدعو ). [ أسباب النزول للواحدى ص 214 ].

 

الأولى أن الآية المذكورة حركت كوامن خبيثة فى نفوسهم وألفوْا فيهما مناسبة للتنفيس عما يضطرب فى قلوبهم ويتلجلج فى حنايا صدورهم ويتقلب فى أعماق نفوسهم.

الأخرى: سبب للأولى وهى أن مخادنة نسونهم لفحول غيرهم عادة منتشرة وإلا فما هو الباعث الحثيث على هذه الأسءلة لو ان المسالة افتراضية؟.

 

ويؤكد وجهة نظرنا هذه ـ التى نعلم أن البعض يستنكرها من قوة أسطر كافة نواحى هذا المجتمع التُحْفة وعَدّه ذهبيًا ومثالاً يتعين اتخاذه قدوة ـ ما جاء فى عُجُز الخبر ( فابتلى به الرجل فجاء هو وامرأته إلى رسول الله ـ ص ـ فتلاعنا ... فقال  رسول الله ـ ص ـ مه فَلعنت, فلما ادبرا قال: لعلها أن تجئ به أسود فجاءت به أسودًا جعدا ـ رواه مسلم ). [ نفس المصدر والصفحة ].

 

إذن هذا الأثربى تكلم عن حالة واقعية عانى ذلها ومرارتها ورأى بفطرته أن الآية وضعته أمام ثلاثة خيارات عسيرة.

إذا نفّس عن قهره وتكلم عُدّ قاذفًا وجلد ظهره ثمانين جلدة وسقطت شهادته,

وإن قتل زوجته الخؤون ورفيقها قُتل,

فليس امامه إذن إلا أن يلتزم الصمت مغلوبًا على أمره وتُخرج له منكوحته وخِدْنها ( = معشوقها ) لسلنيهما هُزءًا واستخفافًا !!!.

 

*******

 

وهذا ثالث من بنى قيلة يبهظه الحد الذى حملته الآية العظيمة لأنه يَنْقَه أن الوسط الذى يعيش فيه تاخذ الزوجات فيه راحتهن فيحاللن من يَروق لهن من الذكران المفعمين بالفحالة, فيرقل إلى ( الغالب متمم مكارم الأخلاق ) يبثه همه.

 

وفى هذه المرّة ننسخ ما ورد فى واحد من كتب التفسير ذات المقام الرفيع كيما يتكامل شِق الإثبات ويرتفع ( يزول ) قطاع التشكيك والتوْهين:

( لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن الأنصارى: إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة قضى الرجل حاجته وخرج وإن قتله قُتل به وإن قال وجدت فلانًا مع تلك المراة ضُرب وإن سكت سكت على غيظ الله افتح ) [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المجلد الثامن ـ ص 248 ].

 

هناك احتمال أن صاحب الخبرين واحد وهو عاصم بن عدى وان رواية الواحدى أغفلت اسمه.

 

إنما الذى يتجاوز رتبة الاحتمال ويرقى إلى درجة اليقين أن الآية الكريمة هزَّت نخبة من بنى قيلة ولم يرى فيها المنازيح ولا الطبقة المتوسطة أو الخفيضة فى أثرب ما يحركها, لأن نسون الآخرين فى شُغل عن المرافقة فهن مهمومات بتدبير المعاش فعلى سبيل المثال أخبرتنا كتب السيرة المحمدية أن أسماء بنت أبو بكر دأبت على أن تمشى ثلاثة اميال ذهابًا ومثلها إيابًا لتحضر نَوى تحمله على رأسها كيما تُعلف به الفرس الوحيد لزوجها الزبير بن العوام. [ أصبح بعد الغزو النهبوى الإستيطانى الذى تم فى عهود التيمىّ أبو بكر والعدوىّ عمر والأموى عثمان يمتلك ثروة أسطورية نتاج عرق الفلاحين الذين اطلقوا عليهم لقب العُلوج فى الدول التى وطئوها بسنابك أحصنتهم المبروكة مثل مصر وفارس والعراق والشام وشمال إفريقيا ا.هـ. ].

 

إن الذى يقطع بانزعاجهم البالغ من الآية الكريمة المذكورة هو توجههم إلى ( ذى البيان ) وطرح ملاحظاتهم عليها بين يديه الشريفتين ولعلهما المرّة الأولى التى فعلوا فيها هذا الصنيع الذى يشى بثورة مكتومة.

 

وهنا انتصبت مشكلة, فصفوة الخزرج والأوس أثارت رَهْجًا ( غبارًا ) حول الآية وزَمْهرت ( احمرت ) عيونهم من حد القذف الذى تضمنته وهم سادة يثرب هذا من رجا. ومن صوب آخر فإن رمى المحصنات داء اجتماعى وبيل له سبب وبئ ويفرز عواقب وخيمة ومن ثم يتعين القضاء عليه قضاءً مبرمًا.

 

كما أنه إذا تمت الاستجابة للأعاريب الأثاربة انفتح الباب أمام جميع التبع للتعليق بالنقد على أى نص ياتى به القرآن. وهذا شان غائر الخطورة بل هو إن تحريت الدقة مدمر. وهنا وعلى هدى السنة والطريقة التى استنها لنفسه ( مأدبة الله / القرآن ) تتفتح أكاميم آية كريمة يترّوح صفوة بنى قيلة شذاها العطر ورائحتها الفوّاحة وطيبها الذكى فتنفثئ غضبتهم وتبوخ هوجتهم وتنطفئ ثائرتهم وتفتر هوْشتهم:

( ... فما لبثوا إلا قليلاً حتى جاء هلال بن أمية من أرضه عشيًا فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينيه وسمع بأذنه فلم يهيجه حتى اصبح, وغدا على رسول الله ـ ص ـ فقال يا رسول الله: جئت أهلى عشيًا, فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعينى وسمعت بأذنى, فكره رسول الله ما جاء به واشتد عليه,  فقال هلال: والله إنى لأرجو أن يجعل الله لى مخرجصا فقال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله هلال بن امية ويبطل شهادته فى المسلمين, فقال هلال يا رسول الله: إنى قد أرى ما قد اشتد عليك مما جئت به, والله علم انى لصادق ـ فوالله إن رسول الله ـ ص ـ يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه القرآن .. فأنزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {5} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ {7} عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ {9} } [ النور 4 ـ 9 ]. وهى الآيات المعروفة بآيات الملاعنة أو اللعان. [ المقبول للأزهرى ص 481, أخرجه الواحدى وأحمد بن حنبل وقال المصنف والشيخ شاكر: إسناده صحيح ].

 

ومن بين النقاط التى تهمنا أن هلالاً هذا من ذوى السعة وأصحاب اليسار يمتلك الحيطا، ( كروم ونخيل ) والبساتين وينشغل فيها من الصباح إلى المساء ولا يعود إلا فى العشى ( حتى جاء هلال من ارضه عشيًا ) فلا تجد البعلة الشابة الناضجة مناصصا من إطفاء شهوتها عند غيره خاصة أن هاته الأعرابيات ليس لديهن أشطة ثقافية أو فنية أو اجتماعية تصرفهن عن سيطرة غريزة الجنس عليهن مع توفير أزواجهن لهن الدعة والبلْهنيّة.

 

ومما له دلالة عميقة أن هذا الهلال المخدوع تقدم فى العمر ولم يعد له أرب فى ملامسة النسون وهو ما صرحت به الزوجة الخائنة إذ إنه أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزاة تبوك ومن ضمن الجزاء الذى وقعه عليهم ( صاحب العلو والدرجات ) مقاطعة المسلمين إياهم فتوجهت إليه الزوجة تستأمره فى ان تظل تخدمه ( تعنى هلالاً ):

( أفتكره أن أخدمه؟ قال:لا, ولكن لا يقربنك, قالت: والله يا رسول الله ما به حركة إلىّ؟ ). [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 286 ـ طبعة القطاع الثقافى ـ بأخبار اليوم ـ مصر ].

 

فالزوجة هنا نفسّت عما يجيش بصدرها من ضيق لحرمانها من الإمتطاء فأقسمت قبل أن تصف حاله وإلا فمن الميسور عليها أن ترد قائلة: سمعًا وطاعة لأمرك ( يا سيد الثقلين ).

 

والبعلة التى على هذه الشاكلة يسهل إغواؤها أو ربما هى التى سعت إلى استغواء شريك خاصة وأنه على مخالطة تامة بهم كيما يقوم بما عجز عنه الزوج الذى أصبح كالشَّن البالى.

 

وثانية تلك النقاط أن ( مقيل العثرات ) كره قالة الزوج المخدوع واشتد عليه لأنه ادرك أن آية رمى المحصنات والحدّ الذى قننته لم يجيئا بالثمرة المرجوة فما زالت زوجات ارستقراطية قرية الحرتين سادرات فى غيهن ومستمرات فى الرفق على بعولتهن مما يدفه هؤلاء إلى رميهن أو قذفهن بتهمة الزنا ثم يفزعون غليه لإيجاد مخرج. [ أسباب النزول للواحدى ص 212, 213 ].

 

وتخبرنا كتب الأسباب أن ذلك (= التوجه ) إلى ( النور ) بالسؤال تكرر وتراكم وتضاعف مما يقطع بأن الخيانة الزوجية غدت ظاهره لها وزنها, وأنها تنم عن تحلل المجتمع مما يسيئه ويحزنه ( اخرج البزار عن جابر قال: ما نزلت آية التلاعن إلا لكثرة السؤال ) [ المقبول للأزهرى: ص 482 , ووصفه بجودة الإسناد وقال الهيثمى فى الزوائد = رجاله ثقات وقال العراقى فى تخريج الإحياء إسناده صحيح / ونهاية السول فيما استدرك على الواحدى والسيوطى من أسباب النزول لأبى عمر نادى الأزهرى ـ ص 165 ـ الطبعة الأولى 1415هـ / 1995م دار الصحابة للتراث ـ طنطا ـ مصر].

 

 ومن نافلة القول أن نرقم أن كثرة الأسئلة التى سبقت آيات التلاعن تنبئ عن أولئك السائلين الكثيرين دافعهم الحثيث وباعثهم القوى وتحضيضهم الحازب مرده تكرار ملاحظتهم الريب والشكوك على منكوحاتهم.

 

أما ثالثة النقاط التى شدت انتباهنا فهى عبارة عن علة أخرى لكراهة ( قائد الغرّ المحجلين ) لما صرح به هلال واشتداده عليه هى ان هلال المخدوع الذى شاهد الخَدِيْن على بطن زوجته وسمع بأذنيه تاوهاتها هو من سادة الأوس وأغنيائهم وله يد بيضاء فـ ( أمه أنيسة بنت الهدم أخت كلثوم بنت الهدم الذى نزل عليه النبى ـ ص ـ لما قدم المدينة ) . [ أسد الغابة فى معرفة الصحابة: لعز الدين بن الأثير الجزرى 555/630هـ تحقيق محمد إبراهيم البنا وآخر ـ المجلد الخامس ـ ص 460 ـ د.ت ـ دار الشعب بمصر ].

ومن الذين آزروا فى إفشاء ديانة الإسلام وتأسيس دولة بنى هاشم فهو شهد بدرًا واحدًا وكان قديم الإسلام وكان يكسر أصنام بنى واقف      ( رهطه فهو واقفى ا.هـ) وكانت معه رايتهم يوم الفتح ( = الأعظم وهو فتح قرية التقديس ا.هـ ). [ ذات المصدر ونفس الصفحة ].

 

أما تخلفه هو وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع عن تبوك فمآبه تفرغه الكامل لتثمير أمواله مما وزّ بعلته للمخادنة.

 

هذا الأعرابى الأثربى السيد فى عشيرته قديم الإسلام والذى يحمل النياشين:

شهود غزاة بدر والاشتراك فى عراك احد, من الصعب أن يفترى على امرأته هذه الفرية الفظيعة. ومن رجا آخر فإن جلده ثمانين على ظهره سوف يهينه ويُذله, وعدم قبول شهادته يودى بكرامته ويمرّغ اعتباره فى الطين.

وجِماعه شيثير رهطه ويُحنق عشيرته ويغضب قبيلته.

 

*******

 

ووبصدد توثيق هذا الحديث الذى شكّل عل بزوغ آيات التلاعن نذكر أن الواحدى فى الأسباب ص 212, 213, والسيوطى فى لباب النقول ص 122 أورداه ومما ذكره الأخير وله دلالة ( واجتمعت الأنصار وقال: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ).

 

أى أن الأمر اقلق بنى قيلة على بكرة ابيهم مما دفعهم للاجتماع والتشاور فى هذا الشان مما يشى باستحالته إلى ظاهرة وليس مجرد حادث فردى. ثم نعرج إلى كتب التفسير كيما يزداد الحديث رسوخًا وتتاكد بينته:

( سبب نزولها هو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن امية قذف امرأته عند النبى ـ ص ـ بشريك بن سمحاء. فقال النبى ـ ص ـ البينة او حد فى ظهرك.

قال: يا رسول الله إذا رأى احدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبى ـ ص ـ يقول البينة وإلا حد ظهرك,

فقال هلال: والذى بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله فى امرى ما يبرئ ظهرى من الحد فنزلت { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ تفسير القرطبى ـ المجلد السابع ـ ص 4575 ـ فى تفسير الآية السادسة من سورة النور ].

 

والعبارة التى وردت فى الحديث ( ولينزلن الله فى امرى ما يبرئ ظهرى من الحد ) كثيفة الإيحاء مليئة بالمعنى ثرة الدلالة.

 

كما أن القرطبى ذكر أن الذى خرج الحديث هو أبو داود وهو احد أصحاب الصحاح الستة, أما الفخر الرازى فقد نسخ مايلى ( فلم يلبثوا إلا يسيرًا ) حتى جاء ابن عم له ( سعد بن عبادة ) يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال: يارسول الله لأنى وجدت رجلاً مع امرأتى رأيت بعينى وسمعت بأذنى, فكره رسول الله ـ ص ـ ما جاء به, فقال هلال: والله يا رسول الله إنى لأرى الكراهية فى وجهك مما أخبرك به والله يعلم إنى لصادق وما قلت إلا حقًا, فقال رسول الله ـ ص ـ إما البينة وإما إقامة الحد عليك.

فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد فبينما هم كذلك إذ نزل عليه الوحى ). [ التفسير الكبير لفخر الرازى ـ المجلد الحادى عشر ـ ص 478 ].

 

وكما لاحظنا فقد حمل الحديث النص على أن الكراهية ظهرت بوضوح على وجه ( المقدس / المطهر ) إذ أن هلالاً تبينها بسهولة, وكذلك اجتماع بنى قيلة للمداولة فى الشان مما يدل على اهتمامهم به, كذا فإن هلالاً هو ابن عم سعد بن عبادة سيدهم أى أن الأول من قُلّة المجتمع فيهم.

 

وأيضًا اورد القمّى النيسابورى ذات الحديث فى التفسير. [ غرائب القرآن ـ المجلد الثامن ص 250 ].

كما زَبَره ابن كثير وقال انفرد به البخارى من هذا الوجه. [ التيسير: خلاصة تفسير ابن كثير ـ ص 780 ].

ومن المحدثين انتفشه محقق ( المعجم الموضوعى ) وأثبت أنه ورد فى سنن ابى داود. [ المعجم الموضوعى للقرآن الكريم: تحقيق حمزة النشرتى وآخرين ـ الجزء السادس ـ ص 68 ـ الطبعة الأولى ـ 1999 م الناشر هو المحقق الأول ].

 

وهكذا تضافرت كوكبة باذخة من الكتب التراثية فى علمى التفسير والأسباب على تقديم البراهين الموثقة على صحة هذا الحديث ونايه عن المطاعن.

 

*******

 

بيد ان القمى النيسابورى يضع أيدينا على سبب آخر لبزوغ الآية العظيمة الآنفة الذكر فيقول: ( أما سبب نزول الآية فقد قال ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدى الأنصارى: إذا دخل منا رجل ووجد رجلاً على بطن امرأته, فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج وأن قتله قُتل به وإن قال وجدت فلانًا مع تلك المرأة ضُرب وإن سكت سكت على غيظ, الله افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خَوْلة بنت قيس فأتى عويمر عاصمصا وقال:

رأيت شريك ابن السحماء على بطن امراتى خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله فى الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما اسرع ما ابتليت بهذا فى اهل بيتى, أخبرنى عويمر أنه رأى شريكصا على بطن امرأته وكان عويمر وخولة زشريك أبناء عم عاصم, فدعاهم رسول الله ـ ص ـ جميعًا وقال لعويمر: اتق الله فى زوجتك بنت عمك ولا تقذفها فقال: يا رسول الله إنى رأيت شريكًا على بطنها وإنى ما قربتها منذ اربعة أشهر وإنها حُبلى من غيرى, فقال لها رسول الله ـ ص ـ اتقى الله ولا تخبرى إلا بما صنعت, فقالت: يا رسول الله إن عويمر رجل غيور وإن شريكًا يُطيل التردد فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه وتعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ص 248 ].

 

ونخرج من هذا الحديث بالآتى:

أن الخيانة الزوجية فاشية بين منكوحات ذؤابة. وان القرابة الحميمة بين الخائن شريك وعويمر من جهة ةبين الخؤون خولة وزوجها المخدوع من صوب آخر فهم جميعًا أبناء عم لم تَحلْ دون ( الرَفَق ) وهذا مؤشر لايخطئ على تفسخ تلك الطبقة وتحللها من كافة القيم والمبادئ.

ـ أن عويمر يعرف أن بَعْلَته خولة من غيره ومع ذلك يظل يعيش معها تحت سقف واحد وهو شأن بالغ الشذوذ.

ـ أنه ( عويمر ) لم يقربها منذ أربعة أشهر والمَرَة فى ذياك المجتمع المعجب لاتصير على ( الدَعْس ) هذه المدة بل إن ما طالعناه عن أحوالهم يؤكد أن ( الحَفْر أو الدَكّ ) لديهم ذكورًا وإناثًا طقس يومى لابد من ممارسته حتى ولو بمخالفة النهى الجازم الذى حملته النصوص. [ لمزيد من التفصيلات يمكنك الرجوع إلى كتابنا ( مجتمع يثرب ـ العلاقة بين الرجل والمراة فى العهدين المحمدى والخليفى ) وقد طبع مرتين ـ دار سينا بمصر ـ ومؤسسة الانتشار العربى بيروت ].

 

ولم ينفرد القمىّ النيسابورى بالحديث المذكور بل نفحنا به الزمخشرى وأضاف معلومة تعطى مزيدًا من الضوء فقال ( وكان شريك نزيلهم ).  [ الكشاف للزمخشرى ـ الجزء الأول ].

 

وإذ هو بهذه المثابة فيسهل عليه خِلاط نِسُونهم اللائى لا يمانعن لأحوالهن التى رقمناها فيما سلف.

 

*******

 

 لعل مما يزيد البحث إضاءة أن نذكر نُتفًا من سيرة كل من عُيمر وشريك.

أما الأول: فهو ( عويمر بن أبيض العجلانى الأنصارى صاحب اللعان, قال الطبرى هو الذى رمى زوجته بشريك بن بن سَمحاء فلا عن رسول الله ـ ص ـ بينهما فى فى شعبان سنة تسع من الهجرة وكان قدم ( مِن ) تبوك فوجدها حُبلى ) [ الاستيعاب فى معرفة الصحاب : لأبى عمر ابن عبد البر النمرى 368/463هـ ـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ المجلد الخامس ـ ص 348 ـ دون تاريخ ـ دار الغد العربى ـ مصر ].

 

أى أن خولة وقت اتهام زوجها لها مُغَيّبة ومشكلة المُغيّبات ـ وهن اللاتى يتركهن أزواجهن عند خروجهم فى غزوة أو سرية أو مهمة اغتيال عدو ـ من المشكلات التى أولاها ( المظفر / متمم مكارم الآخلاق ) عناية مركزة وشدد عل من يدخل عليهن إبان غياب أزواجهن لما يعلمه عن تهافتهن على ( السَلْق ). وكيما يطمئن الذين يستنفرهم للقتال على بيوتهم وإلا فسيتقاعسون عند سماعهم الصيحة.

 

أما الآخر: فـ ( هو شريك بن سحماء وهى أمه واسم أبيه عبدة بن مغيث البلوى حليف النصار ... وعن ابن عباس أن هلال بن امية قذف امرأته بشريك بن سحماء .... ورواه مسلم والنسائى ... ويقال إن شريك بن سحماء بعثه أبو بكر الصديق رسولاً على خالد بن الوليد وهو باليمامة ... ويقال: إنه شهد مع أبيه أحدًا.

وروى ذلك ابن سعيد عن الواقدى بسند له, قال: بعث أبو بكر إلى خالد أن يسير من اليمامة إلى العراق وبعث عهده مع شريك بن عبده العجلانى, وكان شريك احد الأمراء بالشام فى خلافة عمر وبعثه عمر رسولاً إلى عمرو بن العاص حين أذن له أن يتوجه إلى فتح مصر ).

[ الإصابة فى تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلانى ـ المجلد الثالث ـ ص 475 ].

 

*******

 

هنا نجد أن الحافظ وشيخ الإسلام وقاضى القضاة ابن حجر العسقلانى ذكر حديث رمى هلال زوجته بشريك بن سحماء والذى انتهى باللعان رواه مسلم وهو التالى لصحيح البخارى أصح كتاب بعد القرآن عندنا اهل الجماعة والسنة.   [ أما إخواننا أهل الوصية والعصمة ونعنى بهم الشيعة أخلص المحبين لآل البيت الأبرار الأطهار فهم لا يعدون صحيح البخارى كذلك لأنه ومسلم غضا عن الشمائل المُنيفة للإمام على بن عبد المطلب, وأعرضا عن مرويات حفيده بحر العلوم جعفر الصادق قدّس اله سرّه ونأيا بجنبيهما عن مناقب أهل البيت التى اعترف بها الدانى والقاصى والتى سارت بها الركبان على طول الزمان ا.هـ. ]. 

 

وإذ أرسل التيمىّ عتيق شريكصا لخالد بن الوليد فى اليمامة وولاه إمرة أحد الجيوش التى أُرقلت لغزو الشام واستيطانها وكسح خيراتها ليتمتع بها أعاريب الحجاز كما بعث معه العدوىّ ابن الخطاب برسالة يأذن فيها بغزو مصر أم الدنيا لعمرو بن العاص ذلك الذى فعل الأفاعيل هو وعسكره وأوباشه فى أرض المصريين الذين علموا الدنيا الحضارة والمدنية, فإنه ( = شريك ) وقت اتهامه بمخاللة زوجتى هلال وعويمر فى عز رجولته وقمة فحالته وذروة قوته.

 

وهكذا تكاملت الصورتان:

زوجة بعلها شيخ أو غاب عنها ورجل يتمتع بفحولة عارمة يخالطها ويكثر التردد عليها فكيف لا يحدث الالتقاء المحرم.

ولذك وتأكيدًا لكل ما طرحناه ـ بعد الملاعنة ـ جاء المولود ثمرة الامتطاء غير المشروع شبيهًا بشريك وليس فيه سِحنة البعل المخدوع ذرّة.

ففى قصة هلال بن امية بعد ان تلاعنا هو وزوجته  ( فرق رسول الله ـ ص ـ بينهما وقال انظروا فإن جاءت به جعدًا حمش الساقين فهو لشريك ين سحماء وإن جاءت به ابيض سبْطًا أقمر العينين فهو لهلال بن امية , فجاءت به آدم جعْدًا حمْش الساقين. فقال رسول الله ـ ص ـ لولا ما نزل فيهما من كتاب الله تعالى كان لى ولها شأن ). [ المقبول للأزهرى ص 479, غرائب القرآن للقمى ج8 ص 250, التيسير/ خلاصة تفسير ابن كثير ص 780 ].

 

وسبق أن رقمنا ما رواه الواحدى فى أسباب النزول عن صحيح مسلم فجاءت به أسود جعدًا.

 

وهذا دليل على أن المولود هو ابن شريك لأنه أسود أجعد وبرهانًا فيه أنههذا الشريك الخائن يُنسب إلى أمه سحماء والسحماء فى معاجم اللغة هى الأسود ولابد أنه أسود مثلها. ومن ثم حمل ولد الزنا ذات الملامح, الأمر الذى دعا ( الحجة البالغة ) لأن يقول ما حمله عجز الحديث الشريف. ومن نكد الدنيا على البلاد التى غزاها هؤلاء العُربان أن يغدو ولد الزنا واللعان هذا اميرًا على إحدها ( قال عكرمة: لقد رأيته بعد ذلك أمير مِصْرِ من الأمصار لايدرى من ابوه ). [ غرائب القرآن للقمىّ النيسابورى ج8 ص 250 ].

 

*******

 

وهكذا حَلّت المشكلة هذه الآيات الحاسمة ووجد فيها سادة بنى قيلة وغطاريفهم الدواء الناجع فهدأت نفوسهم واستراحت خواطرهم واطمانت قلوبهم, ورضى سيد الناس لرضاهم, كيف لا وهم من اخلص معاونيه وقدموا الكثير الذى يند عن الإحصاء فى سبيل الدولة التى يبنيها.

 

وأثبتت أن القرآن على وشيجة متينة بهم مما يصت دعاوى الانفصام والتباعد والتحليق فى فضاء التجريد.

كما رسخت الحكمة البالغة للتنجيم والتبعيض والتفريق التى غابت عن الأذهان الكليلة للمشركين واليهود.

وأعطت رخصة للمحصنات أن يفعلن ما شئن !!!.

 

*******

 

  [ 10 ]

 

النجاشى حبيبى

 

عطية هذا هو اسمه باللغة العربية, بالأمهرية: أصحَمَة, لقبه " النجاشى" حاكم الحبوش.

وعندما نزح المستضعفون من المسلمين إلى أرضه أكرم مثواهم وأحسن وفادتهم وأبلغ ضيافتهم وقال لهم: أنتم آمنون وتوعد كل من يتعرض لهم. وأسبغ عليهم حمايته ورفدهم بالأمان, وقابل النزحة المستضعفون هذا الصنيع بموفور الامتنان, ولذا عندما هاجم أعداؤه أرض وطنه عرضوا عليه الانخراط فى جيشه بيد أنه أبى وشكرهم.

 

( أخرج الحاكم عن عبدالله بن الزبير عن ابيه قال: نزل بالنجاشى عدو من أرضه فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن تخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جراتنا ونجزيك ما صنعت معنا, فقال: لا, دواء بنصرة الله خير من دواء بنصرة الناس ) ولما أرسل بنو سخينة بعثة إليه للوقيعة بينهم وبينه برئاسة عمرو بن العاص. [ هنا نتذكر الدور المؤسف الذى قام به فى التحكيم بين باب مدينة العلم الإمام على أبى الحسنين والطليق ابن أبى الطلقاء معاوية بن أبى سفيان وتخرج بنتيجة هى انك تجد هذا العمرو دائمًا فى صف الباطل والخذلان ا.ه. ] ومعها هدايا جزيلة له ولبطاركته كيما يطرد ضعفة المسلمين من بلاده, فرفض وصاح فى عمرو بن العاص ومن معه ( لو أعطيتمونى دبرًا(= جبلاً ) من ذلك ما سلمتهم إليكم. [ ذلك الذى فعل الأفاعيل هو وباقى الصحاب وعسكره فى أرض الحضارة التى لم تتكرر حتى الآن. أ.هـ].

 

ثم أمر فردت عليهم هداياهم ورجعوا بشر خيبة. [ إمتاع الأسماع للمقريزى ـ الأول ـ ص 245 ].

 

وأورد الواقدى القصة بتمامها مطولة فى مغازيه. [ المغازى للواقدى ـ المجلد الثانى ص 742, 743 ].

 

ولما أرسل الناصح إليه كتابًا يدعو فيه إلى الإسلام تلقاه بالحفاوة والتجلّة بعكس ما فعله الطاغية كسرى أنو شروان.

 

بيد ان الدور المتميز الذى أداه النجاشى والذى فاق كل ما قدمه هو تزويجه ( المستقيم ) لرملة ( أم حبيبة ) بنت ابى سفيان التى نزحت إلى الحبشة هى وزوجها عُبيد الله جحش وهنا حن لديانته الأولى النصرانية فارتد عن الإسلام إليها. وبقيت الزوجة تعانى آلام الغربة عن الوطن وفراق الزوج بيد ان ( الصفىّ ) من المستحيل أن يدع هذه الفرصة تفلت, فهى حقيقة ناهزت الأربعين ـ وهى  سن متقدمة فى ذياك المجتمع وليس لها سحر صفية ولا ملاحة جُويرية ولا حُسن أم سلمة ولا جمال زينب بنت جحش ولا فتاة التيمية بنت عتيق عائشة ولا وضاءة ابنة مصر القبطية. [ نساء النبى لبنت الشاطئ ص 178 ].

 

واكنها بنت زعيم قريش ونكاحها سيكسر عينه ويخفف من غلوائه ويُطامن شرته ومن ثم بعث إلى ( عطية ) ليخطبها له فشمر عن ساعديه السوداوين واستجاب له. وأصدقها أربعمائة دينار دفعها لوليها فى العقد خالد بن سعيد بن العاص ثم أقام وليمة تليق بالملوك ودعا إليها النزحة ثم عاد بها المبعوث إلى أثرب وقد قيل إنه عمرو بن أمية الضمرى أو شرحبيل بن حسنة. [ السمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين للمحب الطبرى ص 162 ].

 

*******

 

هذا النكاح تم فى العام الهجرى السايع اى قبل فتح مكة بما يقرب من سنتين وشكل خبطة سياسية شفّت عن الحذق ودلت على المهارة وأبانت الحيلة وأن كل شئ يهون فى سبيل تكوين الدولة الهاشمية الجديدة . وفى رأينا أنه الزواج السياسى الفريد بخلاف الأنكحة الأخرى التى يدعى الطبالون أنها سياسية. [ من هؤلاء الطبالين أعاجم وفرنجة منهم مونتجمرى واط عند تناوله واقعة نكاح ( صاحب التاج ) زينب بنت جحش ].

 

ورقمنا فيما سبق أن آية عظيمة من الذكر الحكيم { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة 115] هلّت بطلعتها فاتنة البهاء والتألق تبارك هذه الزيجة التى جاءت فى نتائج باهرة يأتى فى مقدمها تليين جُموح صخر بن حرب ( أبى سفيان ) واستمالة بنى امية وهم ذؤابة بنى سخينة ويجمعون بين المال والدهاء السياسى.

 

*******

 

هذه هى الأيادى البيضاء التى قدمها النجاشى ( عطية ) لـ ( الراضى ) ولصحبه المستضعفين الذين نزحوا إلى بلاده.

 

لذا عندما توفى صلى عليه النبى المهذب وأمر صحبه أن يصلوا عليه.  ( قال جلبر بن عبدالله وأنس بن مالك وابن عباس وقتادة: نزلت فى النجاشى, وذلك لما مات نعاه جبريل لرسول الله ـ ص ـ فى اليوم الذى مات فيه, فقال رسول الله ـ ص ـ لأصحابه أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم, فقالوا من هو؟ فقال: النجاشى, فخرج رسول الله ـ ص ـ إلى البقيع وكُشِف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشى وكبّر عليه أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه: استغروا له ...) [ أسباب النزول للواحدى ص 93 ].

 

هذا الحديث الذى رواه ثلاثة من مشاهير الصحب نستقطر منه معلومات ثمينة منها أنه:

1 ـ أظهر أن السماء شديدة العناية بأمر أصحمة ( عطية النجاشى ) حتى إنها كلفت الملاك جبريل أن يبلغ ( الكافى / الكريم ) خبر وفاته فى ذات اللحظة .

والراجح عندنا أن حياطته من قبل السماء بهذه الرعاية المكثفة عِلّتها: موقفه الرائع من المنازيح المستضعفين عندما حطوا رحالهم فى أرضه ولأدائه دور الخاطب فى تزويج رَمْلة بـ ( الغالب ) وفى القرآن المجيد ( هل جزاء الإحسان إلا بالإحسان ).

2 ـ حَمَل الحديث خبر معجزة للطاهر وهى رؤيته أرض الحبشة وهو فى أثرب ثم أبصر سرير النجاشى. [ هذا هو السر فى أدائه وصحبه صلاة الغائب أو الميت عليه ].

3 ـ أخبر الصحب أن ( عطية 9 هو اخوهم وامرهم بعد الصلاة عليه أن يستغفروا له.

 

*******

 

بيد ان الأمر بالصلاة على النجاشى عطية والاستغفار له ساط فى نفوس الأصحاب فهو:

1ـ عبد

2ـ حبشى.

3ـ نصرانى.

 

( روى النسائي عن انس قال: لما جاء نعى النجاشى قال رسول اللله ـ ص ـ صلوا عليه قالو كيف نصلى على عبد حبشى ) [ لباب النقول للسيوطى ـ على هامش ( تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ) للفيروزى آبادى ـ ص 73 ].

هذا الحديث خرّجه النسائى ( أحد أصحاب الصحاح الستة ) أعلى دواوين السنة مرتبة والذى يمارى فيما ورد فيها يُشكّك فى المصدر الثانى ذاته.

وراويه هو أنس بن مالك خادم ( المتضرع فى الدعاء ) ومن مشااهير الصحابة. وأضاف السيوطى أن ابن جرير الطبرى رواه فى تفسيره     ( أو روى نحوه ) عن جابر . أما الحاكم فى المستدرك فقد عزاه إلى عبد الله بن الزبير وهو ذاته صحابى معروف, أمه التيمية أسما بنت عتيق وخالته التيمية عائشة وأبو الزبير بن العوام الحوارى وأحد العشرة المبشرين بالجنة.

 

ونحن نسأل من يُحاج فيه: ماذا تريد أكثر من هذه الكوكبة الفريدة التى تحلّقت حول هذا الأثر الشريف؟.

 

( أخرج النسائى والبزار والطبرانى عن أنس أن النبى ـ ص ت صلى على النجاشى حين نُعى, فقيل يا رسول الله , أنصلى على عبد حبشى.     [ المقبول للأزهرى ص 192, ونجد هنا أن المصنف زاد على النسائى : البزار والطبرانى, وأضاف فى هامش تالصفحة أن الهيثمى قال فى الزوائد: رواه البزار والطبرانى فى الأوسط ورجال الطبرانى ثقات ].

 

والذى يهمنا فى هذا الأثر الشريف ان أولئك العُربان وصفوا النجاشى وهو ملك وقدّم جميلاً لعدد غير قليل من سابقيهم المستضعفين ولقائدهم ( سيد الكونين ) ووصفوه بالعبد مما يقطع بمدى ما يتسمون به من كبرياء وخُنزوانة, وفى رواية اخرى وصفوه بالعلج وهو وصف زراية وتحقير يطلقه أولئك العَرَبة على غيرهم من الشعوب كما درج الرومان عللى تسمية خلافهم بالبرابرة, بيد ان هؤلاء يُلتمس لهم شطر من العذر لأنهم أصحاب حضارة وعلم وثقافة ومدنية أما هؤلاء الأعاريب فهم مليطون قطاع طرق من جِماعه فعلام هذه العنجهية. ومن مهازل التاريخ أنهم فيما بعد اطلقوا هذا اللقب المهين على مواطنى الدول التى دعسوها بخيولهم المباركة؟؟. مصر , فارس, العراق, الشام, مع أنها أعلى منهم بما لايقاس فى مدارج الحضارة والمدنية والثقافة, ولكن كما قال سيدهم ( صاحب زمزم ):

إنْ لَمْ تَسْتَحِ فَاِصْنَعْ مَا شِئْتَ.

 

*******

 

اتباعًا للمنهج الذى إلتزمناه نثنِّى بما تضمنته كتب التفسير بخصوص هذه الواقعة زيادة فى التوثيق ونكتفى بما أورده القرطبى

( قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عمران 199 ].

 

قال جابر بن عبدالله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي لأصحابه: ( قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي)؛ فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة؛ فأنزل الله تعالى "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم". قال الضحاك: "وما أنزل إليكم" القرآن. "وما أنزل إليهم" التوراة والإنجيل. وفي التنزيل: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" [القصص: 54]. وفي صحيح مسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ...) [ تفسير القرطبى المجلد الثالث ص 1654 ].

 

وهكذا نجد أن الصحب استهولوا الصلاة على النجاشى لأنه عِلْج وهوكما قلنا وصف يؤكد ما ذكرناه عن استكبارهم وشموخهم على خلق الله دونأ أدنى مبرر أو سند لهم يبيحه وعلى النقيض التام للمبادئ السامية المعروفة لدى بلدان الحصضرة والقافة والمدنية.

 

*******

 

وتبلور الموقف كالآتى:

 

إما أن يُنَفذ الأمر ويلى بهم صلاة الميت الغائب على ( عطية ) ويستغفر هو وهم له وهو شأن له قدره من الهمية لأن عدم انصياع التَبَع لما يشير به عليهم بادرة مرفوضة ويتعين فى التو ـ لا بعد حين ت قمعها والقضاء عليها.

 

كما أن الإعراض عن الصلاة على النجاشى فيه بَخْس لِحقه وإنكار لما قدّم من خدمات وتجاهل لصاحب فضل وهذا مُنافٍ لحديثه الكريم: " من صنع فيكم معروفًا فكافئوه ".

 

هذا من صوب. ومن شق آخر فقسر الصحبة على أمر يكرهونه نعنى الصلاة على ( عطية 9 سوف يصيبهم بالضيق المكتوم والنفور المغطى والحنق المستور, وهو حريص على مشاعرهم حَفِىّ بأحاسيسهم مهتم بعواطفهم ولا يسعى لإحراجهم ولا يعمل على مضايقتهم ولا يقدم على مساءتهم.

 

إذن ما الحل ؟.

 

جبريل ينزل بآيات القرآن.

 

لايقف القرآن فى جانب السلب أو حتى فى جهة الحياد قتنحبس من ىية مجيدة كالنهر العذب تَبُل ريقهم بل وتروى عطشهم, وهى الآية من آل عمران 199 . وبعد أن تضلعت عروقهم من الرىّ ينْقهون أن القرآن المجيد قد تكرّم بتقديم إجابة شافية عن التساؤل الذى يوجهونه إلى         ( الآمر الناهى ) وأن عطية ليس عِلْجًا, بل هو على قُلة أهل الكتاب وانه مؤمن بالله تعالى وبالقرآن والإنجيل ومن الخاشعين الذين لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً, وانه من الذين يؤتيهم ربهم أجرهم مرتين.

 

فأدركوا أن من هذا شأوه يستحق التكريم حيًا وميتًا فرضوا بالصلاة عليه وأشرقت اسارير الناسك بِشرًا وحُبورًا باقتناع أصحابه وادئهم الصلاة والدعاء لعطية.

 

*******

تلك أمثلة عشرة عن انبثاق آيات للقرآن للإجابة على تساؤلات الصحاب وللرد على استفساراتهم ولإيضاح استبياناتهم. ونعتقد أن فيها غُنْية ولها الصلاحية الكاملة للقيام بدور البينة على الفرض أو الفروض التى طرحناها ومن ثم نكتفى بها إذ توجد بجانبها العشرات, ونضع فى الاعتبار أننا لسنا بصدد إحصاء أو استقصاء, وكل ما يعنينا أن يفطن القارئ إلى ما نؤمه ميدرك ما نتغياه ويفقه ما نرمى إليه خاصة أن الموضوع بكر لم يسبق تناوله.

 

وليت القارئ العزير يتفحص  ما بين السطور وما يتنزل من آيات القرآن الكريم مسرعة حسب الطلب لتنقذ الصادق الأمين وتحافظ على وحدة أصحابه وعسكره وأتباعه وغزاته وتلبية رغبة نسوانه .

 

*******

  

بداية الكتاب