الفصل الثاني عشر: الجهل والأُميَّة

 

تعتمد مجادلات الإسلاميين وكتاباتهم في إثبات الوحي القرآني على أمّية محمد وجهله بقواعد القراءة والكتابة. فهل كان محمد أمياً بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب؟ وما الأسباب التي دفعت المسلمين إلى الاعتقاد بأمية قائدهم؟

لا تجزم الشواهد التاريخية بالنفي أو الإيجاب في هذه القضية. فرغم أن مؤرخي السيرة المحمدية يؤكدون أمية محمد، وأنه لم يذهب لمعلم قط، ولم يتلقَّ تعليماً من بشر، إلا أن هناك شواهد ذكرها هؤلاء المؤرخون أنفسهم، تؤكد علم محمد بقواعد القراءة والكتابة.

هذا التناقض البيِّن في منقولات التاريخ دفع المعاصرين أن يعتقدوا أن محمداً لم يكن أمياً، أي جاهلاً بقواعد الكتابة طوال حياته، بل أنه تلقَّى العلم من الله عن طريق جبريل.

يقول الحافظ بن حجر: "كان النبي أمياً وذلك بسبب الإعجاز. ولما اشتهر الإسلام وأَمِنَ الارتياب عرف حينئذ الكتابة"!.

يقول ابن شيبه: "ما مات رسول الله (ص) حتى كتب وقرأ".

وقال الطبرسي: "فأما بعد النبوة فلا تعلق به الشك والتهمة، فيجوز أن يكون قد تعلم الكتابة".

إذاً هناك شواهد قاطعة بعلم محمد، لا بأميته، دفعت العلماء الإسلاميين أن يعتقدوا أنه تعلم بعد النبوة، ولكنهم لا يقفون على أرض صلبة، إذ لا يؤيدهم دليل قرآني ولا إقرار نبوي من فم محمد نفسه، وإنما هو اجتهادٌ منهم لتبرير ما رواه التاريخ من حوادث تنفي صفة الأمية عن محمد!

جاء في كتاب الرسم العثماني للدكتور محمد بن عبد الله عثمان "كان الرسول (ص) يضع الدستور لكتابة الوحي في رسم القرآن وكتابته، ومن ذلك قول لمعاوية: "إلق الدواة وحرف القلم، وانصب الباء وفرق السين ولا تعوّر الميم وحسِّن الله ومدّ الرحمن وجوِّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك"!.

فهذا اقتباس يوضح ضلاعته في فن الكتابة، يستشهد به العلماء بموافقة محمد لهجاء المصحف بما عليه من أخطاء إملائية. وهذا يؤكد أن ورود الأخطاء الإملائية في المصحف هو نتيجة مباشرة لقصر باع العرب القريشيين في فن الكتابة بمن فيهم محمد نفسه. فهل يقبل المسلمون أن نقول إن جبريل قد قصَّر في حقّ محمد عندما لم يُحسن تعليمه؟!

ومما ترويه كتب السيرة أن محمداً هو الذي كان يكتب كتاب صلح الحديبية بيده الشريفة. وجاء في سيرة ابن هشام: "وفينا رسول الله (ص) يكتب الكتاب هو وسهيل".

وجاء في البخاري: "وأخذ رسول الله (ص) الكتاب ليكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد... . كما جاء في الطبري (ج3 -ص80) لما اشتد وجعه (في أيامه الأخيرة) قال: "ائتوني بالدواة والكتب، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا معه بعدي أبداً".

وفي حديث أبي بكر أن رسول الله "دعا في مرضه بدواة ومزبر (أي قلم) فكتب اسم الخليفة بعده . أما الهمذاني في كتاب "الإكليل" فقد قال إن العرب كانت تسمي كل من قرأ الكتب أو كتب، صابئاً وكانت قريش تسمي النبي (ص) أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئاً .

وقد يكون ما سبق من روايات مناقضاً لرواية تاريخية شهيرة، وهي كما يقول المؤرخون أول لقاء بين محمد وجبريل عندما سأله جبريل: إقرأ فأجاب ما أنا بقارئ .

فهذه الرواية تخالف ما قطعت به الروايات السابقة. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن الطبري يروي الحادثة بما يتفق مع ما ذهبنا إليه، فيروي أن ابن الزبير يقول: "قال رسول الله (ص): فجاءني وأنا نائم نبي من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ فغطَّني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق.. الخ .

ولنا أن نتساءل: وهل كان جبريل وربُّه - حسب الرواية الأولى - لا يعلمان بأمية محمد حتى يقول له جبريل: اقرأ، فينتظر إجابة محمد بنفي علمه بالقراءة؟! إن الأقرب إلى المنطق أن جبريل وهو رسول الله إلى محمد كان ينبغي عليه أن يهوّن من شدّة الأمر وهول الموقف، فيثبت له رسوليته عن طريق إخباره بأنه أمي (لو كان الأمر كذلك) وأنه يعلم عدم قدرته على القراءة والكتابة، ولذلك فسوف يعلّمه إياها.. هذا ما يقرّه العقل ويأبى غيره المنطق. أما ما عدا ذلك فهو استخفافٌ بالعقل وتحريفٌ للنقل أيضاً!!

وقد زُعِم أن هذه الشواهد كافية لدفع شبهة الأمية عن محمد، فلماذا يتمسك المسلمون بأمية محمد؟

كان قصد المسلمين في إثبات أمية محمد إقامة البرهان على معجزة القرآن ومصدره الإلهي، وبسبب هذه المعجزة حُكم على مكة أنها سقطت في الجهل والغباوة، وعمَّ الجهل والكفر عصر ما قبل الإسلام. وبسببها قلب الله نظام الكون فوضع الفصاحة على لسان أُمّي، ووضع العلم حيث الجهل والإيمان حيث الكفر!!

ولنا حق السؤال: هل يعلّي من شأن الدين أن يُبنى على بدائية البشر، ويفتخر بتعاليمه على بداوتهم؟ وهل لم يكن في مقدور الله أن يثبت فصاحة القرآن في قومٍ متحضّرين، ويجريه على لسان متعلم لا أمي دون أن يقدح ذلك في صُلب المعجزة وجوهرها؟

لم يكن الإسلاميون ليعتقدوا هذا لولا بعض آيات القرآن التي دلَّ ظاهرها على أمية محمد، وإن كان باطنها ينفي ذلك!

قوم موسى والنبي الأمي

يقول القرآن في سورة الأعراف 7: 156-158 في قصة موسى مع قومه: "وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الّزَكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعّزَرُوهُوَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِإِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ ا لْأُمِّيِّ ا لَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" .

إن حديث القرآن عن النبي الأمي لا وجود له على الإطلاق إلا في هذا النص الوحيد، رغم أن الأسلوب القرآني فيه تكرار بأساليب مختلفة للترسيخ في أذهان السامعين، كما يقولون.

إن حديث النبي الأمي يناقض حديث موسى وخطابه لله في آية القرآن السابقة، فموسى وقومه في ميقاتهم أخذتهم الرَّجفة فأخذوا يصلون ويقولون: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة. إنَّا هُدْنا إليك" . كان اليهود يشتقّون اسمهم من الهدى، والهدى كناية موسى "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى" (غافر 40: 53). ويشتقون الهدى من اسمهم فالتورية هُدْنَا بارعة، فموسى وقومه يطلبون من الله تسجيل يهوديتهم حسنةً لهم، فيجيبهم الله بقوله أولاً: بأن الحسنة لأهل التُّقى والزكاة والإيمان، هذه الحسنة ستُكتب للذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل! فما على موسى وقومه إلا أن ينتظروا نحو ألفي سنة حتى تقوم لهم حسنة بالإيمان بمحمد! فهل من المعقول أن يجيب الله دعاء موسى وقومه لربهم بأن الهداية ليست في الموسوية بل في اتِّباع محمد النبي الأمي الذي لم يجئ بعد؟!

وهل يقول الله في ردّه على صلاة موسى إن محمداً مكتوب في التوراة والإنجيل! وأين كان الإنجيل في زمن موسى حتى يحدِّث الله عنه موسى وقومه؟

 

معنى الأمية في القرآن

إن كلمة الأمي الواردة في النص لا تعني، بحسب القرآن نفسه، عدم الإلمام بالقراءة والكتابة، إنما تعني من ليس له كتابٌ منزَل، فاليهود وأتباع إسحاق بن إبراهيم هم كتابيون في حين أن العرب وأتباع إسماعيل بن إبراهيم هم أميون. ودل القرآن على هذا التمييز دلالة واضحة وصريحة: فهو يدعو الكتابيين والأميين إلى اتِّباع الإسلام.

"وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمّيِينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟" (آل عمران 3: 20). وهو يشير إلى تمنّي الأميين لمعرفة الكتاب وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ (البقرة 2: 78). ويفخر بأن بعث الله رسولاً من غير الكتابيين، فيقول: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ" (الجمعة 62: 2). وقد عرف أهل الكتاب أن التمييز بينهم وبين الأميين شيء محتوم.

قالوا: "لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ا لْأُمِيِّينَ سَبِيلٌ" (آل عمران 3: 75).

بهذا المعنى القرآني الصحيح يجب أن نفهم قول القرآن عن أمية محمد، فالأميون هم العرب أبناء إسماعيل، والكتابيون هم اليهود أبناء إسحاق، وبالتالي فإن أمية محمد لا تعني جهله بالقراءة والكتابة بقدر ما تعني انتماءه إلى العرب الأميين أبناء إسماعيل، الذين ليس لهم من الله كتاب منزل. يقول الشهرستاني: "كان أهل الكتاب ينصرون دين الأسباط، ويذهبون مذهب بني إسرائيل. وكان الأميون ينصرون دين القبائل، ويذهبون مذهب بني إسماعيل".

الصفحة الرئيسية