الفصل الرابع عشر: اليوم الآخِر

الإيمان باليوم الآخِر أحد ستة معتقدات أساسية ينبغي على المسلم الإيمان بها، هي: الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر...

جاء في الحديث الصحيح الذي أورده "ابن حجر العسقلاني" في كتابه "جامع العلوم والحكم" في الحوار الذي دار بين جبريل ومحمد عندما جاء جبريل متنكراً في شكل أعرابي يسأل عن فرائض الإسلام والإيمان ليعلّم المسلمين أمور دينهم:

قال: فأخبِرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره .

"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَاأُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلكَِ وَبِالَآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (البقرة 2: 3، 4).

والعقيدة باليوم الآخِر هي الوحيدة التي حازت النصيب الأوفر من الأحاديث والمرويّات غير المعتمدة، أو حسب تعييرهم الأحاديث الموضوعة . فقد أُحيط اليوم الآخر في الإسلام بسياجٍ سميك من الخرافات والأوهام جعله عقيدة نشازاً عن مثيلتها في معتقدات الأديان الأخرى.

فالجنة كما يعتقدون في السماء السابعة، أما النار ففي الأرض السابعة!!

وجاء أيضاً أن جهنم تسكن تحت البحر! وجهنم لا تزال تطالب بالمزيد حتى يضع الله قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط، قط. بعزتك وكرمك! أما القمر والشمس فسوف يُلقون في جهنم لأنهما عُبدا من دون الله!

والنار تشكو إلى الله لأن بعضها يأكل بعضها، فيستجيب الله لشكواها فيجعل لها نَفَسين نفساً في الشتاء وآخر في الصيف!

ويخرج عنقٌ من النار له عينان تبصران ولسان ينطق، يقول: "وكلت بمن جعل مع الله إلهاً آخر!" ويزول وجه الغرابة إن عرفنا أن الأحاديث التي روت هذه الخرافات كانت في مجملها أحاديث موضوعة، أو ضعيفة الإسناد، غير أن هذه الغرابة لا تلبث أن تعود عندما نذكر عدداً من الأحاديث في كتب الصحاح، والتي يعتقد المسلمون أنها أحاديث صحيحة المتن والسند، ولا يقل مضمونها الغريب الشاذ عن الأحاديث التي ذكرناها إن لم تكن أكثر غرابة، منها:

جاء في كتاب "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (للإمام القرطبي) ما نصه ص 789:

"خرَّج ابن ماجة حديث فاطمة بنت قيس: قال: صعد رسول الله المنبر، وكان لا يصعد عليه مثل ذلك اليوم إلا يوم الجمعة. فاشتدَّ ذلك على الناس، فمن بين قائم وجالس، فأشار إليهم بيده أن اقعدوا، فوالله ما قمتُ مقامي إلا لأمرٍ ينفعكم، لا رغبةً ولا رهبة ولكن. تميم الدري أتاني فأخبرني خبراً منعني القيلولة من الفرح وقُرة العين، فأحببت أن أنشر عليكم فرح نبيّكم إلا أن ابن عمٍ لتميم الدري أخبرني أن الريح ألجأتهم إلى جزيرة لا يعرفونها، فقعدوا في قوارب السفينة فخرجوا بها، فإذا هم بشيء أهدب أسود كثير الشعر. قالوا لها: ما أنت؟! قالت: أنا الجسَّاسة.. قالوا: أخبرينا. قالت: ما أنا مخبرتكم شيئاً ولا سائلتكم. وليكن هذا الدير قد رهقتموه فائتوه، فإن فيه رجلاً بالأشواق إلى أن تخبروه ويخبركم. فأتوه فدخلوه عليه. فإذا هم بشيخٍ موثق شديد الوثاق، مُظهر الحزن شديد التشكي، قال لهم: من أين؟ فقالوا: من الشام. فقال: ما فعلت العرب؟ قالوا: نحن قوم من العرب، عمَّ تسأل؟ قال: ما فعل الرجل الذي خرج فيكم؟ قالوا: خيراً، أتى قوماً فأظهره الله عليهم. فأَمْرهم اليوم واحد. إلههم واحد ودينهم واحد ونبيّهم واحد. قال: ما فعلت عين زغر؟ قالوا: خيراً، يسقون منها لزروعهم ويستقون منها لشعبهم. قال: ما فعل نخل بين عمان وبيسان؟ قالوا: يطعم ثمره كل عام. قال ما فعلت بحيرة الطبرية؟ قالوا: تدفق بجنباتها من كثرة الماء. قال: فزفر ثلاث زفرات ثم قال: لو انفلتُّ من وثاقي هذ لم أدع أرضاً إلا وطئتها برجليَّ هاتين إلا طيبة ليس لي عليها سبيل.

قال النبي (ص) إلى هذا انتهى وحيي هذه طيبة. والذي نفسي بيده ما فيها طريق ضيق ولا واسع ولا سهل ولا جبل إلا وعليه مَلَك شاهرٌ سيفه إلى يوم القيامة".

ثم يعلّق الإمام القرطبي على هذا الحديث بقوله: هذا حديثٌ صحيح، وقد خرَّجه مسلم، والترمذي، وأبو داود وغيرهم رضي الله عنهم !

فبالرغم من صحة هذا الحديث سنداً ومَتْناً، إلا أنه لا يخلو من الغرائب التي قد لا نجد نظائرها إلا في أحاديث العجائز! فالحديث يقر حديث الدابة الجسَّاسة للصحابة بلغةٍ يفهمونها، ثم مقابلة هؤلاء الصحابة للمسيح الدجال الموثق بالسلاسل في أحد الكهوف إلى أن تقوم الساعة!

 

مصادر المفهوم الإسلامي لليوم الآخر

للعقل البشري الميّال إلى الجنوح للأساطير والخيال دور بارز في تشكيل المفهوم الإسلامي لعقيدة اليوم الآخر، إلا أن هناك مصادر أخرى لهذا المفهوم، منها النقل المباشر من الكتاب المقدس:

ففي وصف القرآن لأهوال القيامة يقول: إنه في هذا اليوم يحدث برق ورعد ومخاوف عظيمة، ويُنقر في الناقور ويُنفخ في الصُّور، وتُسمع صيحة في كل مكان تهتز بها الأرض وترتجف فرائض البشر وتخشع لها أبصارهم. فيه تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا" (الحج 22: 2). يَجْعَلُ ا لْوِلْدَانَ شِيباً (المزمل 73: 17) وفيه "يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ" (عبس 80: 34-37). وفيه أيضاً: "لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً" (المعارج 70: 10) "ويَوْماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً" (لقمان 31: 33". "ويَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً" (الدخان 44: 41). أنه يوم لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (البقرة 2: 123).

 

ويصّور الإنجيل هذا اليوم، فيقول المسيح:

"وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ا لْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الْأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ، لِأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضاً: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هؤُلَاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالْأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (متى 25: 31-46).

وفي يوم القيامة - كما يصوِّره القرآن - يحضر الناس أمام الله أشتاتاً ليروا أعمالهم ويكون الفصل بين الأبرار أصحاب اليمين والأشرار أصحاب الشمال وتُكشف الأعمال والخفيات بحسب كتاب الأعمال، لأن لكل إنسان كتاباً خاصاً تُدّوَن فيه أعماله.

 

ويقول الإنجيل في ذلك:

"ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشاً عَظِيماً أَبْيَضَ، وَالْجَالِسَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ الْأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ اللّهِ، وَانْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَانْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ الْحَيَاةِ، وَدِينَ الْأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَسَلَّمَ الْبَحْرُ الْأَمْوَاتَ الَّذِينَ فِيهِ، وَسَلَّمَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ الْأَمْوَاتَ الَّذِينَ فِيهِمَا. وَدِينُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ. وَطُرِحَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ. هذَا هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ" (رؤيا 20: 11-15).

ويضيف د. سنكلير تسدل في كتابه مصادر الإسلام مصدراً آخر من مصادر المفهوم الإسلامي لليوم الآخِر، فيقرر أن ما في القرآن والأحاديث بخصوص الجنة وحور العين والغلمان والجن وملك الموت وذرات الكائنات، هو نقل حرفي من كتب الزردشتية القدماء: فمثلاً ما قاله عن الحور في سورة "الرحمن حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي ا لْخِيَام" (سورة الرحمان 55: 72). وفي سورة الواقعة "وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ ا للُّؤْلُؤِ ا لْمَكْنُونِ" (سورة الواقعة 56: 22، 23). هو لا شك مأخوذ مما قاله الزردشتية القدماء عن بعض أرواح غادات إسمهن ميركان ويسميها الفرس المتأخرون بريان لأن الزردشتية زعموا أن أرواح هذه الغادات سكنت في الهواء، ولها علاقة بالكواكب والنور. وكان جمال أرواح هاته الغادات رائعاً حتى خُلبت قلوب الرجال .

ويشير د. سنكلير إلى أن المسلمين يعتقدون أنه بعد دينونة يوم الدين يُؤمر جميع الناس بالمرور على الصراط، وهو شيء ممدود على متن جهنم بينها وبين الجنة، يمشي عليه المؤمنون فيصلونه إلى النعيم، ويتعثّر عليه الكافرون فيسقطون في الجحيم، ويعقب د. سنكلير قائلاً: فمن أراد معرفة منشأ هذا القول وجب عليه أولاً أن ينظر في اشتقاق كلمة صراط لأن أصلها ليس من اللغة العربية، فهي معرَّبة وأصلها فارسي.

أهل الكتاب كما صوَّرهم القرآن في اليوم الآخر

عند النظر في آي القرآن ينبغي أن نفرق بين مرحلتين من مراحل نزول القرآن هما: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية. فالفارق البيّن الواضح بينهما في استراتيجيات الدعوة يجعلنا نقول إن الدعوة الإسلامية قد انتقلت نقلة كبيرة بعد الهجرة إلى المدينة، وتحوَّلت الفكرة الإسلامية تحولاً خطيراً. حتى جاز لنا القول إن إسلام مكة ليس هو إسلام المدينة، وإن كفَّار مكة ليسوا هم كفَّار المدينة، وإن أولياء مكة ليسوا أولياء المدينة. فمن يواليه المسلم في مكة أصبح يعاديه في المدينة، ومن عاداه في مكة أصبح أشدَّ عداوةً له في المدينة.

وكذا الحال في مفهوم اليوم الآخِر في القرآن: فالهالكون في جهنم حسب نص القرآن المكي ليسوا هم هالكي جنهم في القرآن المدني! فالكفّار المشركون عَبَدة الأصنام والأوثان هم هالكو جهنم في مكة، وهم محط اللعنات القرآنية طوال أكثر من ثلاثة عشر عاماً في مكة، بينما أهل الكتاب هم المسلمون الذين أُمر محمد أن يكون معهم من المسلمين، وهم الذين قال فيهم القرآن: "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" (الأنعام 6: 90).

أما أهل الكتاب في المدينة فهم الذين حرفوا الكتاب ليّاً بألسنتهم، وهم الذين أخفوا نعت محمد واسمه من كتابهم، وهم عباد الثالوث الذين ألَّهوا المسيح وأمه واتخذوهما إلهين من دون الله، فاستحقوا جهنم خالدين فيها أبداً!

إن من يقرأ القرآن يدرك أنه لم ترد آية واحدة طوال أكثر فترات العهد المكي تنذر أهل الكتاب بالعذاب الأليم في جهنم، بل إن آيات التبشير بالعذاب كانت موجَّهة في جملتها إلى المشركين من قريش وما حولها، الذين صدّوا عن سبيل الله، والذين استكبروا ورفضوا دعوة المساواة التي أطلقها الإسلام بين الطبقات. لكن الأمر يختلف اختلافاً كبيراً عندما نقرأ ما نزل من القرآن في المدينة، فهي لا تفرق بين مسيحيين ومسلمين لله، لا يشركون به إلهاً آخر، مسيحيين يقرّون له بالوحدانية وبين آخرين ضالين اتّخذوا من المسيح وأمه إلهين، أو الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله!!

وإذا أردنا التدليل على ما سبق ذكره من تناقض الموقف القرآني تجاه أهل الكتاب نقول:

لقد سألت خديجة - وهي زوجة محمد طوال العهد المكي - محمداً عن مصير أولاد المشركين، بما فيهم أهل الكتاب، فقال: "وَلَا تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى"(الأنعام 6: 164) هم على القنطرة وفي رواية أخرى هم في الجنة .

وقد روى أبان عن أنس قال: سُئل رسول الله )ص( عن أولاد المشركين فقال: "لم يكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة". ولم يكن لهم سيئات فيُعاقبون عليها فيكونوا من أهل النار فهم خدمٌ لأهل الجنة.

هذا الموقف الصريح من أولاد المشركين وأهل الكتاب، نراه يختفي ويتغير إلى موقف آخر يتبناه القرآن تجاه الكفَّار بما فيهم أهل الكتاب وأولادهم، فقد سألت عائشة زوج محمد في العهد المدني محمداً عن ذراري غير المسلمين فقال: هم مع آبائهم قالت: بلا عمل؟! قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئتِ أسمعتكِ تضاغيهم في النار .

ففي مكة أولاد أهل الكتاب في الجنة خدام لنزلائها، ولكن بعد أن اتخذ الإسلام موقفاً مستقلاً من مصدره الأول، بل موقفاً معادياً من هذا المصدر الذي ظل يمدّه بالعقائد والتشريعات طوال أكثر من ثلاثة عشر عاماً، كانت النتيجة إلقاء هؤلاء الأطفال في الجحيم، بلا ذنب سوى أنهم جاءوا من صلب كتابيين!

المسيح في اليوم الآخِر

لم يتفرَّد المسيح -كما صّوَره القرآن - في حمله وولادته وطفولته ومعجزاته وموته ورفعه على سائر الأنبياء والمرسلين فحسب، بل إن القرآن خصَّه بأُخرَيات لم تُنسَب لنبيٍّ قط، حتى قال فيه وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ (الزخرف 43: 61). أي إن نزوله إلى الحياة الدنيؤؤا مرة أخرى نذير بقيام الساعة.

ونقرأ في كتب الصحاح المعتمدة (أمثال البخاري ومسلم) أبواباً ذكرت عشرات الأحاديث الموصولة السند عن نزول المسيح ابن مريم، وأعطته مكانة لم تُعط لنبي من الأنبياء.

- فقد رُوي عن محمد يكون عيسى عليه السلام في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً.. .

- وروي أيضاً عنه ليدركن المسيح ابن مريم رجالاً من أمتي مثلكم أو خيراً منكم .

- وفي الحديث أيضاً: ينزل عيسى ابن مريم فيتزوج ويولد له ولد، ويمكث خمساً وأربعين سنة ويُدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى من قبرٍ واحدٍ بين أبي بكر وعمر .

ويُقال: إنه يتزوج امرأة من العرب بعد ما يقتل الدجال، وتلد له بنتاً فتموت، ثم يموت هو بعد ما يعيش سنتين وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة عن محمد: يمكث عيسى في الأرض بعد ما ينزل أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. وروي أيضاً في الحديث الصحيح الأنبياء إخوة أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أَوْلى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، كأن رأسه تقطر ولم يصبه بلل.

وقال كعب الأحبار: "إن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض أربعين سنة ويكثر الخير على يديه حتى أن الحي ليعبر بالميت فيقول: قم فانظر ما أنزله الله من البركة. وأن عيسى عليه السلام يتزوج بامرأة من آل فلان ويُرزق منها ولدين فيسمي أحدهما محمد والآخر موسى، ويكون الناس معه على خير وفي خير زمان وذلك أربعين سنة، ثم يقبض الله روح عيسى ويذوق الموت ويُدفن إلى جانب النبي" (من كتاب يقظة أولي الاعتبار للعلاّمة الأصولي صديق حسن خان).

ولكن ما الحكمة التي يراها المسلمون في نزول المسيح في ذلك الوقت دون غيره من الأنبياء؟

أجاب على هذا السؤال الإمام القرطبي في كتابه التذكرة يقول في ص 764: يحتمل أن المسيح قد وجد في الإنجيل فضل أمة محمد (ص) فدعا الله عز وجل أن يجعله من أمة محمد (ص) فاستجاب الله تعالى دعاءه ورفعه إلى السماء إلى أن يُنزله آخر الزمان مجدداً لما درس من دين الإسلام، فوافق خروج الدجّال فقتله.

ويحتمل أن يكون إنزاله مدة لدنّو أجله لا لقتال الدجّال، لأنه لا ينبغي لمخلوقٍ من التراب أن يموت في السماء، لكن أمره يجري على ما قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (طه 20: 55). فينزله الله تعالى ليقبره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه ويسمع به من نأى عنه، ثم يقبضه فيتولى المؤمنون أمره ويصلّون عليه ويُدفن حيث دُفن الأنبياء.

ويُحتمَل أن يكون ذلك لأن اليهود همَّت بقتله وصلبه، وجرى أمرهم معه على ما بيَّنه الله تعالى في كتابه، وهم أبداً يدَّعون أنهم قتلوه، وينسبونه في السحر وغيره إلى ما كان الله يراه ونّزَهه منه. ولا يزالون في ضلالهم هذا حتى تقرب الساعة، فيظهر الدجَّال وهو أسحر السحرة، ويبايعه اليهود فيكونون يومئذ جنده مقدرين أنهم ينتقمون به من المسلمين. فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزله الله الذي عندهم أنهم قد قتلوه، وأبرزه لهم ولغيرهم من المنافقين حياً، ونصره على الدجّال ومَن معه مِن اليهود، فلا يجدون يؤمئذ مهرباً. وإن توارى أحدٌ منهم بشجر أو حجر أو جدارٍ ناداه: يا روح الله، ها هنا يهودي حتى يقف عليه فإما يسلم أو يُقتل .

وهذه كلها احتمالات قدَّمها الإمام القرطبي، وإن شئت قلت إنها رصيد جديد من الأقوال الظنِّية والاجتهادات الفرديّة التي لا سند لها سوى النصوص المبهَمة من القرآن والسنّة التي تناولت حياة السيد المسيح في حمله وولادته وصلبه وقيامته ونزوله آخر الزمان.

الصفحة الرئيسية