الأقليات الدينية في فكر الحركات الاسلامية

 

المسألة الثالثة : في جواز مبادلة جيف الكافرين بأسرى المسلمين أو بجثثهم

وفي هذه المسألة ما جاء عند أحمد والترمذي ( 4 / 214) عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم إياه ) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحكم ، ورواه الحجاج بن أرطاة أيضا عن الحكم ، وقال أحمد بن حنبل بن أبي ليلى لا يحتج بحديثه ، وقال محمد بن إسماعيل بن أبي ليلى صدوق ولكن لا نعرف صحيح حديثه من سقيمه ولا أروي عنه شيئا ، وابن أبي ليلى صدوق فقيه وإنما يهم في الإسناد ، وقال أبو عيسى في موضع آخر بعد أن ذكر بن أبي ليلى وغيره ممن تكلم فيهم  " فإذا انفرد أحد من هؤلاء ولم يتابع ، لم يحتج به ، كما قال أحمد بن حنبل : ابن أبي ليلى لا يحتج به ، إنما عني إذا انفرد بالشيء ، وأشد ما يكون إذا لم يحفظ الإسناد ، فزاد في الإسناد أو نقص ، أو غير إسناداً ، أو جاء بما يغير فيه المعنى " وقد قال أبو عيسى عنه أيضاً في موضع آخر " ويروي عن ابن أبي ليلى نحو هذا غير شيء ، كان يروي مرة هكذا ومرة هكذا يعني الإسناد وإنما جاء هذا من قبل حفظه ، وأكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون ، ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع "

          قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (5 / 307 308 ) " باب ما جاء لا تفادى جيفة الأسير الجيفة جثة الميت إذا أنتن ، قاله في النهاية والمراد أنه لا تباع ولا تبادل جثة الأسير بشيء من المال ، قوله حدثنا سفيان هو الثوري عن ابن أبي ليلى اسمه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم هو ابن عتيبة ، قوله ( فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم ) فيه دليل على أنه لا يجوز بيع جيفة المشرك ، وإنما لا يجوز بيعها وأخذ الثمن فيها لأنها ميتة لا يجوز تملكها ، ولا أخذ عوض عنها وقد حرم الشارع ثمنها وثمن الأصنام في حديث جابر ، وقد عقد البخاري في صحيحه بابا بلفظ طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن ، وذكر فيه حديث ابن مسعود في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل بن هشام وغيره من قريش ، وفيه فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر، قال الحافظ قوله ولا يؤخذ لهم ثمن أشار به إلى حديث ابن عباس ( أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم ) أخرجه الترمذي وغيره ، وذكر ابن إسحاق في المغازي أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده ) فقال ابن هشام بلغنا عن الزهري أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف ، وأخذه من حديث الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله فهذا شاهد لحديث ابن عباس ، وإن كان إسناده غير قوي انتهى ، قوله ابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه الخ ، قال الحافظ في التقريب محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدا من السابعة انتهى ، قال الحافظ في تهذيب التهذيب : قال عبدالله بن أحمد عن أبيه كان سيء الحفظ مضطرب الحديث كان فقه ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه ، وقال أبو حاتم عن أحمد بن يونس ذكره زائدة فقال كان أفقه أهل الدنيا ، وعبد الله بن شبرمة بضم المعجمة وسكون الموحدة وضم الراء ابن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه من الخامسة ، قاله الحافظ في التقريب وقال في تهذيب التهذيب كان الثوري إذا قيل له من مفتيكم يقول ابن أبي ليلى وابن شبرمة " .

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم(1/419)" ومما نهى عن بيعه جيف الكفار إذا قتلوا خرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال ( قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين فأعطوا بجيفته مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ادفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية ) فلم يقبل منهم شيئا وخرجه الترمذي  ، وخرجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلا ثم قال وكيع الجيفة لا تباع ،  وقال حارثة قلت لإسحاق ماتقول في بيع جيف المشركين من المشركين قال لا ، وروى أبو عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي وقد تنصر فاستتابه فأبي أن يتوب فقتله فطلبت النصاري جيفته بثلاثين ألفا فأبي علي فأحرقه"  .

وسنتناول هذه المسألة من وجوه : -

الوجه الأول : هو أن حديث المسألة ليس له إسناد يحتج به ، وقد روي من طرق ومدارها على محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى وعلى الحجاج بن أرطأة ، أما عبد الرحمن بن أبي ليلى فقد تقدم قول الترمذي والبخاري وأحمد في تضعيفه وقال عنه ابن الجوزي في الضعفاء ( 3/76) " قال عنه شعبه : ما رأيت أسوأ حفظاً منه ، وقال أحمد : ضعيف ، وقال مرة : سيء الحفظ مضطرب في الحديث " وقال أبو حاتم في علل الحديث ( 251-278) " كان ابن أبي ليلى سيئ الحفظ " ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال " قال كان يحيى يضعف ابن أبي ليلى ومطرا عن عطاء ، عن ابن عباس ( إن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل  أصيب يوم الخندق ..الحديث ) حسنه الترمذي وقال عبدالحق في أحكامه وابن القطان إسناده ضعيف ، ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها وضعفاه من جهة ابن أبي ليلى وقول الترمذي أولى " .

أما الحجاج بن أرطأة فقد قال عنه أحمد " لا يحتج به " وقال أبو حاتم " يدلس عن الضعفاء " وقد اتفق الحفاظ على تدليسه ، وهذا أمره ظاهر ، وقد عنعن في هذا الحديث كما جاء عند أحمد .

وله علة أخرى وهي أن مِقسم قيل عنه مدلس وقيل لم يسمع من ابن عباس وقد عنعن وقد ضعفه محمد بن سعيد وقال عنه أبو حاتم " صالح الحديث لا بأس به " وعندما سئل أحمد عن أصحاب ابن عباس " قال ستة ثم عدهم ولم يعد مقسم ، قيل له ومقسم ؟ قال مقسم دون هؤلاء " .

وله علة أخرى وهي أن الحكم بن عتيبة الذي روى بكل الأسانيد عن مقسم ، لم يثبت له سماع لهذا الحديث وقد قدمنا قول " عبدالحق في أحكامه وابن القطان إسناده ضعيف أي حديث الباب - ، ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها" وقال عنه النسائي الحكم " مدلس " وقد عنعن في هذا الحديث ولم يصرح بالتحديث ، وقال عبدالله سمعت أبي يقول : الذي يصحح الحكم ، عن مقسم أربعة أحاديث : حديث الوتر وحديث عزيمة الطلاق والفيء والقنوت ، ثم قال الله عندما سئل هل روى غير هذا قال يقولون هي كتاب ، أرى حجاجا روى عنه ، عن مقسم عن ابن عباس نحواً من خمسين حديثاً ، وابن أبي ليلى يغلط في أحاديث من أحاديث الحكم " وقال عبدالله وسمعت أبي مرة يقول : قال شعبة " هذه الأربعة التي يصححها الحكم ، سماع من مقسم " .

فإذا كان هذا الحديث لا تقوم بإسناده حجة فلا دليل فيه على حرمة بيع جيف الكافرين على أهليهم إذا احتيج إلى ذلك في الحرب .

الوجه الثاني : قد يقول البعض إن هذا الحديث مع أن إسناده لا تقوم به حجة ، ولكن له شواهد تعضده منها ما جاء في الصحيحين من إلقاء جيف قتلى بدر في البئر والإعراض عن بيعها كما فهم البخاري ، ومنها ما ثبت من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الميتة .

فنقول إن كبار الحفاظ كأحمد وابن المديني وغيرهما ، لا يقبلون الشواهد للحديث إلا إذا توفرت في الحديث المراد تقويته بالشواهد شروط ، ومن هذه الشروط أن لا يكون أصلاً في الباب ، وهذا الحديث نعتبره أصل في باب النهي عن بيع جيف الكافرين لذويهم في حال الحرب ، رغم أننا نقول بحرمة بيع الميتة ولكن في السلم و ليس في الحرب ، أما ما نريد تحريمه في حال الحرب فيحتاج إلى دليل منفرد يفيد تحريمه في حال الحرب ، وإذا لم يصح حديث ابن عباس ، فيبقى الأمر في الحرب على أنه مسكوت عنه ، ولا تعمل فيه الأدلة الأخرى التي تفيد تحريم بيع الميتة في السلم ،  لأن ما حرم في السلم ليس بالضرورة أن يكون محرماً في حال الحرب ، لا سيما إذا كان مما فيه مصلحة ظاهرة للجند أو لبلاد المسلمين ، والشواهد على جواز فعل المحرمات في الحرب كثيرة من السنة ومن فعل الصحابة أيضاً  ، كتحريق الرسول صلى الله عليه وسلم لنخل اليهود وهو قد نهى عن تحريق الشجر في أحاديث أخرى ، وإباحته الكذب في الحرب ، وعقر دواب العدو كما فعل علي في غزوة حنين ، ولبس الحرير ، والاختيال ، وكما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف الصحابة على رأسه حرساً في صلح الحديبيه وهذا ما كان ينكره في غير هذا الموضع لما فيه من تعظيم له ، وقد كتب جند الشام لعمر رضي الله عنه إنا إذا لقينا العدو ورأيناهم قد كفّروا أي غطوا أسلحتهم بالحرير وجدنا ذلك رعباً في قلوبنا ، فكتب إليهم عمر : وأنتم كفّروا أسلحتكم ، كما يكفّرون أسلحتهم ، وقد قال شيخ الإسلام عندما سئل عن لبس الحرير لإرهاب العدو قال فيه قولان للعلماء ، وأظهرهما الجواز ، ويذهب رحمه الله إلى أبعد من ذلك في تقرير مثل هذه الأحكام في الحرب خاصة لوجود مصلحة في ذلك ، رغم ورود النصوص المحرمة لمثله من الأحكام في غير حال الحرب ، ففي كتاب الاستقامة 2(/165) قال " وأما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين ، أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، بل يصده عن الكفر والفسق ، وأما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيرا للمؤمنين ، وليس هذا إباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما ، ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم ، وأقول إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة بل عن الكفر والفساد في الأرض ، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، وذلك مصلحة للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم فلا خير في إعانتهم على الصحو ، بل قد يستحب أو يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره " ، وقد وصلنا عندما كنا في أفغانستان فتوى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله مفادها ، عندما سئل عن التمثيل بجثث العدو ، فقال إذا كانوا يمثلون بقتلاكم فمثلوا بقتلاهم لا سيما إذا كان ذلك يوقع الرعب في قلوبهم ويردعهم والله تعالى يقول (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ، إذن هذه الأدلة والفتاوى تبين أن للحرب أحوالا خاصة لا يصلح أن نعمم عليها الحكم بأدلة  الحضر ، فما نريد أن نحكم به في الحرب يحتاج إلى دليل ظاهر الدلالة صحيح السند يفيد الحكم ، وحتى ولو كان منهياً عنه في حال الحرب ، فإن النهي لا يكون مطلقاً على كل حال ، لا سيما إذا تعارض مع مصلحة أكبر أو جر ضرراً على المسلمين أعظم ، ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التحريق وقطع الأشجار ونهى عن قتل النساء والصبيان وعندما حاصر بني النضير حرق نخلهم كما في البخاري ، وعندما سئل كما في الصحيحين عن تبييت المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم أجاز ذلك وقال ( هم منهم ) ، بل إن الأمر أعظم من ذلك فلو تترس الكفار بأسرى المسلمين ، ودعت الضرورة إلى قصف الكفار بحيث لو كف عنهم المسلمون ظفروا بهم أو أكثروا فيهم القتل ، جاز رميهم رغم ما يصاب من أسرى المسلمين ، وهذا مذهب الشافعي كما في مغني المحتاج ( 4/224) وأحمد كما في كشاف القناع ( 3/51) وأبي حنيفة كما في شرح فتح القدير ( 5/447-448)  ، كل ذلك من الأدلة والفتاوى تقوي القول بأن حديث الباب يعتبر أصلاً يحتاج لأن يصح بنفسه لا أن يشد بغيره ليفيد تحريم المسألة ، وإذا تعذر ذلك ، فلنا أن نقول في المسألة من الصعب أن نحرمها تورعاً بغير دليل ظاهر الدلالة ، خاصة وأن ذلك ربما يضيع  مصلحة علينا والله تعالى أعلم بالصواب .

الوجه الثالث : إن ما نحن بصدده من إعلاننا أننا نريد مبادلة جيف الأسرى ، ببعض الأسرى من المسلمين ، إن هذا الإعلان إنما هو إعلان مبادلة ، وليس إعلان بيع ، فلو حسن حديث الباب بشواهده فلا يدل على حرمة المبادلة فهذه مبادلة وليست بيع فيها ثمن ومثمن ، قال الشوكاني في السيل الجرار ( 4 / 568) "  وأما قوله ويجوز رد الجسد مجانا فلا وجه للتقييد بقوله مجانا ؛ لأن أموال الكفار يجوز التسلف لها بكل ممكن وليس هذا من باب المبايعة حتى تدخل في بيع الميتة وبيع النجس " . قال السرخسي في المبسوط ( 10 / 137-138 )" قال وسألته أي أبو حنيفة عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين ، وقال أبو يوسف أموال أهل الحرب تحل للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى ، معناه أن في غير عسكر المسلمين ، لا آمان لهم في المال الذي جاءوا به فإن للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولا يكون هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم ، بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على طريق الغنيمة ". وقال محمد الشيباني في السير( 1 / 249) " قال أبو يوسف وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من المشركين قال أبو حنيفة لا بأس بذلك في دار الحرب في غير عسكر المسلمين ألا ترى أن أموال أهل الحرب تحل للمسلمين أن يأخذوها فإذا طابت بها أنفسهم فهو جائز " ، هذا ما رأيناه من جواز المبادلة ، لأنه لا يوجد دليل على منع البيع فكيف بالمبادلة ؟ ، لذا قلنا بالجواز وعملنا به ، وقد سبق أن بادلنا 14عشر رأساً من رؤوس الروس ، بثلاث جثث من جثث إخواننا ، فمصلحة هذه المعاملة ظاهرة بالنسبة لنا ومنعها بلا دليل قوي مضر لمصلحتنا .

الصفحة الرئيسية