Copyright © 2009 All rights reserved Good Way
حمداً للملك الوهاب منزل الحق بالكتاب رشداً وهدى لخلقه، ونوراً لبيان سامي عزه ومجده. أما بعد فهذه حكاية ألفتها لإجلاء الحقائق على سبيل المحاورة والمناظرة. بيد أني لقصر باعي في صناعة التأليف لم أطمع بإتيانها على ما يرام من التهذيب والتثقيف. غير أنها بعونه تعالى جاءت على أسلوب أظنه على نوع مقبول لدى أهل الإنصاف والعقول. فأرجو من كرم أرباب الفضل إسبال ذيل المعذرة على ما يرون فيها من الوهن والتقصير، متنازلين لإصلاح ما وقع فيها من الزلل. هذا وأتوسل إليه تعالى أن يصونها من طائلة الإعدام، ويحفظها من ذوي الجراءة والإقدام، وينفع بها المطالع والسامع. أنه لأكرم مسؤول وأجل مأمول، و هو حسبي ونعم المعين، له الحمد في كل حال وحين.
كانت صداقة قديمة بين أحد مشايخ الإسلام في دمشق الشام يدعى الشيخ عبد الهادي وبين رجل مسيحي حلبي يدعى يوحنا الغيور، وكان كلاهما على جانب عظيم من التقوى وإخلاص الطوية. وقد جرت بينهما مباحث ومناقشات عديدة في أمر الدين، إلى أن ورد يوماً ما من ذلك المسيحي رسالة مستطيلة إلى الشيخ عبد الهادي عنوانها «في الحق الإلهي» غايتها بيان كون الكتاب المقدس المعروف الآن هو كتاب الله المنزل، وبناء عليه تكون الديانة المسيحية المعلنة فيه هي ديانة الله لا سواها. فبعد أن طالعها الشيخ مراراً أتى بها إلى أحد المشايخ المشهورين بالعلم والتقوى يدعى الشيخ علي عمر، وطلب إليه أن يرى ما فيها ويمده برأيه، هل يجاوب عليها أم لا، وكيف ينبغي أن يكون أسلوب الجواب - فأخذها من يده وبعد أن طالعها وأمعن في كل من قضاياها وعباراتهما أجابه: «إني أرى الرسالة قوية الحجة فلا أرى ذاتي قادراً على أن أمدك برأي صالح من جهتها قبل أن نطلع عليها بعض الإخوان والأصحاب العلماء ونأخذ رأيهم في ذلك، كي لا يفوتنا شيء من البراهين والحجج المقتضى تدوينها في الجواب، فنخسر ثمرة اجتهادنا، وفي الغالب رأي اثنين أفضل من رأي واحد، فكم بالحري رأي الجماعة من الأدباء، فماذا ترى؟». أجابه عبد الهادي: نعم الرأي يا سيدي. فأرسل للوقت الشيخ علي واستدعى بعض العلماء من ذوي الرزانة والتعقل، فحضروا بعد العشاء إلى منزل الشيخ علي، وبعد أن استقر بهم الجلوس في قاعة منفردة خاطبهم قائلاً: ورد إلى الشيخ أحمد عبد الهادي رسالة دينية غايتها إثبات صحة الديانة المسيحية وهي هذه:
أيها الشيخ العالم الفاضل الجزيل الوقار والاحترام
بعد تقديم الاحترامات اللائقة بشخصكم الكريم. أقول لا يخفى أن من شأن العقل السليم تمييز وإدراك وجود واجب الوجود تعالى، وقدرته وحكمته وكمال عزه ومطلق سلطانه من النظر إلى المبدعات الكونية، ولكنه يقصر دون إدراك مقاصده عز وجل من جهة الإنسان وطريقة العبادة المقبولة لديه تعالى، وذلك ظاهر من اختلاف الناس عليها مع إجماعهم إلا ما قل على وجوده وكماله الأزليين. لذلك قد شاء كرماً وإحساناً منه تعالى كشف ذلك للإنسان بالوحي والإعلان، فشرع يكلم آباءنا الأولين بالرؤى والأحلام، ثم أوعز إلى كليمه موسى أن يكتب في كتاب إعلان أزليته وأعمال قدرته وحكمته بخلقه السماوات والأرض وما فيهن، وكذا وصاياه وأحكامه وفرائضه ليكون دستوراً وقانوناً للإيمان والعمل لأوليائه كافة في الحال والاستقبال. ولما كان بنو إسرائيل دأبهم التقلب والحيدان عن سبيله تعالى كما هو دأب الإنسان في كل زمان، أقام سبحانه من وقت إلى آخر رجالاً أفاضل أوحى إليهم بكلامه وأرسلهم لإنذار شعبه وردهم إلى عبادته تعالى حسب الكتاب.
فتنبأ لهم هؤلاء الأنبياء واعظين ومنذرين ومحذرين لهم من سوء العاقبة إذا ارتدوا، ومنبئيهم بأمور مهمة وجليلة عتيدة أن تحدث في مستقبل الأيام. وإثباتاً لدعوة إرساليتهم من الله، وختماً لصحة أقوالهم كانوا بإذن الله يعملون عجائب وآيات متنوعة. وقد كتب هؤلاء الأنبياء المتوالون من موسى إلى ما قبل المسيح بنحو أربع مئة سنة نبواتهم في أسفار وكتب، اعتبرت عند بني إسرائيل أسفار الله الحي، وضموها في مجلد واحد قبل المسيح بنحو ثلاث مئة سنة. وبعنايته تعالى حفظت إلى يومنا هذا سالمة من التحريف والتغيير والتبديل، وما من عاقل يرتاب في ذلك بعد وقوفه على البينات الوطيدة والبراهين السديدة التي لهذا الكتاب الجليل دون بقية الكتب. وحباً بالاختصار أقتصر على ذكر اثنتين منها وهما:
الأولى: سلامته من أثر غايات الناس وأميالهم
لا يخفى أن هذا الكتاب الإلهي، الأقدم من كل ما كتب في العالم، موجود بأيدي اليهود باللغة التي أنزل فيها طبق ما هو بيد المسيحيين بلغات مختلفة إلا ما ندر، مما لا يؤثر البتة في غاية الكتاب وقصده. ومع كونه باعتبار نبواته يضاد اليهود في إنكارهم المسيح وكفرهم به، ويضاد كثيراً من فرائض وطقوس أكثر المذاهب المسيحية، مع ذلك لم يقدم هؤلاء ولا أولئك على تغيير أو تبديل شيء من نصوصه، بحيث يكون على نوع ما موافقاً لأرائهم واصطلاحات عباداتهم، فلا جرم أن ذلك من أقطع الأدلة على كونه محفوظاً بيد من أنزله من التلعب فيه رغماً عن كل مقاوميه ومضاديه.
الثانية: حدوث أمور كثيرة أنبأ عنها قبل حدوثها بقرون عديدة وحوادث مختلفة عتيدة أن تحدث في مستقبل الأيام على توالي الأزمنة إلى نهاية العالم. ولا يخفى أن جزءاً كبيراً من هذه النبوات قد تم على نوع مدهش جداً بحيث لم يستطع الملحدون أنفسهم إلا أن يشهدوا بأن تلك الحوادث قد حدثت تماماً كما سلف القول عنها في كتاب (التوراة). فهذه البينة أيضاً هي دليل قاطع كل ريب على سلامة كتاب الله من شائبة التحريف والتغيير، وباقية على مر الأجيال وتوالي الجهور شاهداً متيناً على صحة وصدق الكتاب المنبأ عنها فيه.
فتأمل سيدي هذين الدليلين الراهنين اللذين لا يحتاج الوقوف على صحتهما إلا لبحث قليل بترو وإخلاص - وعليه إذا أيقنتم بسلامة التوراة مما ذكر، لزمكم لا محالة الإذعان لها والإيقان بما فيها.
ثم ماذا ترون حضرتكم: هل لله سبل مختلفة وآراء متباينة؟ حاشا، إنما لله سبيل واحد. دين واحد. كما وهو واحد، فما قولكم والحالة هذه في الأديان المختلفة والعقائد المتباينة: هل كلها من الله مرضية له؟ لا بد تقولون كلا وحاشا. إذا ما الطريقة لمعرفة الدين الصحيح والحق القويم، وأبناء كل دين ومذهب يفتكرون أن دينهم هو الأحق ومذهبهم هو الأصح من غيره، ويحاجون مدافعين عنه ما أمكن، حال كونه من المحال صحة دعوة كل فريق منهم. لعمري أن هذه المسألة قد توقع أولي الأديان من ذوي العقول السليمة في مشكل عظيم محال تخلصهم منه إلا برجوعهم عقلاً وقلباً إلى الينبوع الأصلي، كتاب الله المقدس، ورفضهم كل رأي دون رأي الله فيه. ولنرجع في كلامنا إلى التوراة فأقول: أن الإيقان بسلامتها بناء على ما تقدم يستلزم لا محالة الإيمان والإقرار بالفادي مسيح الله المشهود له فيها حرّفاً ومعنى شهادات جلية صريحة لا رد عليها. وإن سألتني: ما تلك الشهادات؟ أجبتك: هي مما لا يسعني هنا إيرادها على سبيل التعداد والتفصيل لكثرتها واتساعها، فأجترئ أن أقول: لا يخفى أن التوراة تشهد له أولاً برموز وإشارات وكنايات متنوعة لا يمكن أن تصدق إلا عليه كفاد ومخلّص.
ثانياً بإعلانات ونبوات صريحة جلية بهذا المقدار حتى أنها تعين السبط والعشيرة اللاتين سيأتي منهما، وغرابة ولادته وزمانها ومكانها، وسمو طهارة حياته وأعماله، والمقاومة والاحتقار اللذين يصادفهما من أمة اليهود شعبه. ونوع موته وقيامته وصعوده إلى السماء، مع الظروف المختصة بتلك الأمور التي قد تمت فيه بنوع ما كما ترى ذلك مسطراً في الإنجيل وقد ختم الله على صحة أخبار تلك الحوادث الإنجيلية بالآيات والعجائب التي أجراها على أيدي رسله الكارزين بإنجيله، الذين برهنوا على خلوص نياتهم وحبهم لله بما احتملوا لأجل اسم المسيح من الاضطهادات والشدائد، حتى ختموا أخيراً شهادتهم بدمهم.
ولا صحة لزعم من يزعم أن الاعتقاد «بتجسد ابن الله الأقنوم الثاني وموته بالجسد فدى للبشر» لكونه فائق العقل والتصديق هو باطل. أقول أن صاحب هذا الزعم يحكم أن كل ما لا يدركه العقل ليس بصحيح وهو زعم فاسد كما لا يخفى - نعم أنه أمر يفوق العقل كيان الله الواحد بثلاثة أقانيم وتجسد الأقنوم الثاني لفداء الإنسان، ولكنه لا يضاده. وشأن أمور الله أن تفوق عقولنا - إلا أن «كل ما خطر على بالك فهو هالك، والله بخلاف ذلك» - ولنحذر النظر من التحدق في سمو ماهية الله الخالق الجليل إلى المخلوق، ولنرى هل من الممكن لعقولنا إدراك كيفيته - أي شيء من مخلوقاته تعالى يا ترى لا تفوق عقولنا كيفيته، فإذا أغضى الإنسان طرفه عن النظر إلى الكائنات العديدة البديعة، مقتصراً على التأمل فقط بذاته كيف وجد؟ كيف تكوّن هكذا؟ كيف يحيا ويتحرك وينطق؟ وكيف بعض أعضائه خاضعة لإرادته وبعضها لا بد أن تقوم بأعباء وظيفتها أراد أو لم يرد؟ يرى ذلك كله من الأمور الفائقة العقل.
وكما أن أعمال الوالد مثلاً تفوق جداً عقل ولده الطفل وتذهله، مع ذلك يسلم باقتدار أبيه على عملها، هكذا نحن الخليقة البشرية ذوو العقول الطفلية والدنية جداً بالنسبة إلى حكمة الباري جل شأنه، تقصر دون إدراك كيفية أعمال حكمته وقدرته الإلهيتين. فكيف ندرك إذا ذاته تعالى؟
ومن الأوليات المسلم بها أن عدم إدراك العقل أمراً ليس هو دليلاً على عجمه أو محاليته، فالإنسان يقدر أن يميز بواسطة الحواس والعقل الأشياء الموجودة لديه أو الواقعة تحت نظره، ويعلم خاصاتها ومنافعها أو اضرارها بواسطة الاختبار والامتحان، وإنما لا يمنكه إدراك كيفياتها. فكيف إذا يمكنه إدراك كيفية أمور ذي الجلال؟ إن ذلك من المحال. فما على العاقل الرزين إلا القبول بكل خضوع وخشوع ما أنعم عليه به باريه من الوحي عن ذاته تعالى وأمور قدرته وحكمته، مؤمناً بحقيقته لكونه من الله القدير الفائق الوصف والتصور. ومن المعلوم المقرر أن من شأن العقل الجيد عدم محاولة التخطي إلى ما هو خارج عن دائرة إمكانه.
أما عن الاعتراض المتضمن في نظم بعض الشعراء الذي أرسلتموه لي جنابكم مؤخراً الذي معناه «إن كان الإله قد تألم فما هذا الإله؟ وإن كان ابن الله، فلما صلب، أين كان أبوه؟» فأجيب على كل أن اعتراضاً كهذا منتظر ممن ليس له الروية الوافية في الكتاب، وليس له الحس والشعور الواجب بلزوم القيام بوفاء حق عدل الله والتبرير من الخطية. وحقيقة أن من لم يبحث عن المبادئ الأساسية للدين المسيحي ويتتبعها إلى غايتها، بل يقتصر على رؤية أعالي بنائه من بعد بعيد، يجد عليه ولا بد اعتراضات كثيرة لجهله أصوله العميقة وأسسه الوطيدة الراسخة، فيعجب بنفسه ظاناً أنه قد حاز الغلبة عليه، حال كونه مغلوباً.
جنابكم تعرفون جيداً ماهية المعتقد المسيحي في أمر التجسد، ومع ذلك أرى الضرورة تدعوني لأراجع على أذهانكم في هذا المكتوب بوجيز العبارة خلاصة الإيمان المسيحي بهذا الخصوص:
إننا معشر المسيحيين نؤمن حسب كتابه تعالى أن المسيح كلمة الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، قد اتخذ لذاته الإلهية بقدرته الصمدانية جسداً ونفساً إنسانية، فصار ذا طبيعتين متحدتين متمايزتين غير ممزوجتين، إلهية وإنسانية. فالإلهية فيه غير قابلة كل ذلك. فيقال في الإنجيل «الكلمة صار جسداً» و «ابن الله صار من نسل داود من جهة الجسد» وتألم ومات بالجسد لا من جهة اللاهوت ولا به. فكما أن النار مثلاً تلاشي الثوب دون الذهب المنسوج عليه، وتأكل اللحم من على المذيح دون المذبح، هكذا نار آلام الموت أثرت في الطبيعة الإنسانية، ولم يمكنها البتة إيصال تأثيرها إلى الطبيعة الإلهية. وكيف للمخلوق أن يضر بالخالق؟ ومع أن اتحاد الطبيعة الإلهية بالإنسانية بحيث صارتا شخصاً واحداً يسمو جداً على إدراك العقل الإنساني ليس هو من الأمور المستحيلة، كما لا يخفى ولا يؤثر على كمال الباري سبحانه، فهو بالحري يزيد مجده لدى خلائقه بجوده الفائق على خليقته البشرية بابنه المحبوب، الذي به أعلن سمو قداسته وغاية كماله، إذ حافظ على حق عدله وأبدى عظيم حنوه وغزارة مراحمه وفضله.
وأما عن القول: «لما صلب أين كان أبوه؟» فأقول قد تقدم أنه لم يتألم من حيث اللاهوت أصلاً، بل من حيث الناسوت فقط، إذ من المحال أن يمس اللاهوت ألم، فالصلب واقع على الطبيعة الإنسانية لا الإلهية. ولم يكن ذلك بدون إرادة أبيه حتى يكون لاعتراض المعترض محل، بل كما يستفاد من نبوات الله في التوراة، وخصوصاً الأصحاح الثالث والخمسين من نبوة إشعياء أن قصد الله ومشيئته أن يفتدي البشر الخطاة بدم ابنه، لكي تبدو رحمته الفائقة وجوده غير المتناهي، نحو جبلته الساقطة. وإذ شاء سبحانه أن يتنازل بابنه الوحيد إلى هذه الدرجة حباً بخلقه، فهل من اعتراض عليه تعالى؟ وإذا كان الآب هكذا أرسل ابنه لهذا الأمر الذي عليه دون سواه يتعلق خلاص البشر، فكيف يدفع عنه ذلك؟
هذا وتقول أن الابن ذاته لما رأى أن لا سبيل لخلاص الإنسان من ورطة الهلاك التي قد تدهور فيها، حسب مقتضى العدل الإلهي، إلا بتجسده وموته عنه بالجسد، ارتضى بذاك حباً لنا ليعتقنا بموته من عبودية الخطية والموت، لذلك لما صُلب بالجسد لم ير أبوه الجواد أن يدفع عنه الألم ويعفيه من شرب كأس عليها دون سواها خلاص البشر، بل كما قدم إبراهيم ابنه امتثالاً لأمر الله، هكذا اللاهوت قدم نفسه المتحد به ذبيحة وقرباناً لله عن العالم، لكي يوفي به حق شريعة الله التي تعداها الإنسان وفاء تاماً حسب قصد الله ومقتضى عدله تعالى. نعم أن هذا الخبر بل هذه البشارة الكافلة أن تملأ قلب الإنسان سروراً وشكراً لله صعبة الفهم وعسرة الهضم على كثيرين، غير أن ما يرى فيها من صعوبة الفهم وتعذر الهضم لا ينفي وجوبها وحقيقتها.
ثم أرجو سيدي أن تتأملوا جيداً ببصيرتكم النيرة، وتزنوا بذكائكم الوافر، ما سأبديه لحضرتكم من الكلام عن هذا الموضوع الكلي الجلال والأهمية، لا يخفى أن الخالق الفائق الحكمة والجزيل الرأفة الذي يعرف ضعف الإنسان وقصوره عن إدراك ما لله سبحانه من المقاصد والغايات من جهة الإنسان، وصعوبة فهم ذلك الأمر السامي الذي قد أعده له (أي الفداء بابنه الوحيد) إعدادات متنوعة شغلت مدة قرون عديدة، تعليماً وتدريباً للبشر إلى الفادي الكريم، واستعداداً لقبوله إذ كان عتيد أن يولد منهم بالجسد ويفديهم بدمه، معاملاً إياهم بذلك على نسق تعليم الأولاد في المدارس، فكما أن المعلمين والأساتذة يبدأون بتعليم تلامذتهم من الأحرّف الهجائية، ويتقدمون بهم تدريجياً شيئاً فشيئاً نحو العلوم الرفيعة، وبذلك يتمكنون من إبلاغهم الحقائق السامية، هكذا فعل البارئ عز وجل في تربية وتدريب العقل الإنساني إلى المسيح مدة نحو أربعة آلاف سنة.
هذا ولا يليق بي أن أهمل في خطابي هذا إليكم إلى الاعتراضات الكثيرة المتصدرة من ذوي الكفر ومن غير المسيحيين على صحة الكتاب المقدس، بناء على ما يرون فيه من تناقض ظاهري.
ثم أن ما يستحق جزيل الاعتبار هو أن ليس اليهود والمسيحيون فقط يعتبرون أهمية كتاب الله هذا للإنسان، بل القرآن نفسه أيضاً يعتبره هذا الأعتبار كما لا يخفى على حضرتكم. وتعلمون أنه قد نطق بالقرآن في أواخر القرن السادس للتاريخ المسيحي، الزمان الذي كانت فيه الدولة العظمى في العالم مسيحية، وكان المسيحيون إذ ذاك متمتعين بكمال الحرية والرفاهية التي تمكنهم أكثر فأكثر من إشهار ونشر ديانتهم المحبوبة، الزمان الذي فيه وجد عدة طوائف وفرق مسيحية مختلفة المذاهب والعقائد أضداد بعضهم لبعض، وكان الكتاب المقدس بيد كل فريق منهم في لغته الخاصة. فلاحظوا سيادتكم أنه في ذلك العصر قد شهد القرآن للمسيحيين أنهم أهل الكتاب بقوله «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (سورة المائدة 5: 68) وقوله أيضاً «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» وقط لم يدّع أنهم حرّفوه، ولم يقل يا أهل الكتاب لماذا حرّفتموه بل «حَتَّى تُقِيمُوا». فعليه يتضح إذا من القرآن أن الكتاب (التوراة والإنجيل) كان عصرئذ موجوداً بأيدي المسيحيين تماماً بدون فساد. فإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن في ما بعد إفساده؟ إن انتشار الكتاب في أكثر الأقطار المتمدنة، ووجوده الطبيعي بيد كل فرقة وشيعة نصرانية بلغتها الخصوصية، فضلاً عن وجود التوراة اليهودية أعداء المسيحية عموماً يجعل إفساده وتحريفه فيما بعد محالاً. إذا الكتاب هو اليوم تماماً كما كان في عصر القرآن وقبله، كما أنزل من الله بدون أقل تغيير في الجوهر والغاية، وعدا ذلك أنه مؤكد وجود عدة نسخ بلغات مختلفة منذ ذلك العصر وما قبله بأيدي فرق مسيحية محفوظة بكل اعتناء في مكتباتهم وهي وما ترجم وكتب بعدها بحال الاتفاق العجيب الدال على حفظ هذا الكتاب بيد من هو قادر على كل شيء في كل القرون السالفة من الملاشاة والإفساد بين ألد الأعداء سياسياً وأدبياً الذين أفرغوا سدى كل إمكانهم على ملاشاته فهذه الأهمية والعناية الإلهية التي لم يحرزها كتاب آخر في العالم جديرة أن تربط قلوبنا به رباطاً لا تفكه أيدي المحاولة.
بناء عليه ترون حفظكم الله أن القول بتغيير وتحريف الكتاب هو لا محالة تكذيب لشهادة القرآن له، فلا يمكن لمسلم ما القول بتغيير وتحريف الكتاب إلا بثلم شهادة القرآن. ولا يمكن اعتبار شهادة القرآن هذه إلا بالقول بعدم تحريف الكتاب وعدم إفساده، ولا مناص من ذلك.
فيا أيها الصديق الفاضل، أن كتاب الله هذا الذي قد بانت سلامته لديكم من شوائب التغيير والتحريف أنزل إلينا من ربنا لمعشر البشر كافة، إذ نحن خليقته تعالى، وجميعنا خطاة أمامه محتاجون إلى الخلاص المعلن لنا فيه، فلا يحق إذا لإنسان عاقل من أية أمة كانت أن يستثني نفسه من وجوب اقتنائه ودرسه والتدرب بنصوصه وتعاليمه، فهو كتاب الله العزيز. وإذ كان لا كتاب في العالم له ما لهذا من البينات والدلائل الراهنة على كونه كتاب الله. فما بال حضرتكم تغضون الطرف عنه، وتأبون مطالعته بالرغبة والاعتبار الواجبين له؟ وما أسقم ادعاء البعض بالاستغناء عنه بزعمهم أن هذا الكتاب للأمة الفلانية لا لأمتنا؟ ما البرهان على ذلك؟ هل لله أديان متنوعة يوزعها على كل أمة من خلقه؟ كلا وحاشا، الله واحد وديانته واحدة.
أفليس هو خالق الجميع، يعتني بكل منهم؟ أما يشرق علينا جميعاً شمساً واحدة ويمطر علينا جميعنا ويعطينا أثماراً وخيرات في أوقاتها؟ فلماذا لا تكون إعلانات رحمته للجميع؟ بلى هي للجميع. المسيح شمس البر والحياة هو للجميع، مخلصاً لكل من يؤمن به، ولذلك أمر بحمل إنجيل نعمة خلاصه لجميع الأمم قائلاً: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». فلا غنى إذا عن كتاب الله كما أنه لا غنى عن القوت والماء. هذا وليتأكد سيدي أن يقيني الدائم بفضل حبكم مع اختباري حسن طويتكم ووفرة تقواكم قد بعثاني على تقديم هذه الرسالة إليكم معتبراً إياها أجمل هدية، متوسلاً إليه تعالى أن يجعلها رائقة في أعينكم، مقبولة لديكم، ووسيلة لاتخاذكم الكتاب المقدس دليلاً ومرشداً في تيه ظلمات هذا العالم الباطل إلى السعادة الأبدية. ورجائي عدم المؤاخذة على هذه المجاسرة، مع تشريفي أن حسن بمراسيمكم البهية وبكل خدمة تلزم فإني رهين الإشارة والأمر وطال بقاؤكم.
في غرة أغسطس سنة 1861
الداعي
يوحنا الغيور
ثم جلس الشيخ أحمد عبد الهادي بعد انتهائه من القراءة وكان الجميع ساكتين يتأملون في ما سمعوه، ثم قال الشيخ علي: «قد سمعتم هذه الرسالة وفهمتم قضاياها، فما رأيكم فيها؟».
أجاب السيد إبراهيم مصطفى: «أما من جهتي فإني آراها عظيمة المباني قوية الحجة أن صدق الكاتب في مدعاه، وليس من السهل الرد عليها. فعندي أن نبحث في قضاياها ومدعياتها واحدة فواحدة، ومن ثم نرى ما ينبغي إجراءه».
عند ذلك وقف السيد عبد القادر الفصيح وقال:
«أيها السادة، إن حضرة السيد إبراهيم قد فاه بكلام في هذه الرسالة يوهم أنه الحق وإن لم تكن غايته هكذا. إنني أصغركم سناً ودونكم مقاماً وعلماً، ولكن حذار حذار يا إخوان من الإغواء بملق اللسان، والانجذاب بحكمة الكتاب، فلقد طالما نشأ كتّاب ملحدون ذوو حكمة في صناعة التأليف والتصنيف، أدهشوا العالم بمهارة أقلامهم وسحروا الألباب بحسن أساليب كتاباتهم، فكانت لذي جهل كالعسل العطري حال كونها سما. فعندي من الرأي إعدامها، ومجاوبة مرسلها بما يؤول إلى حسم المحاورة، إذ نحن مسلمون مؤمنون بالله وبما أنزل سبحانه في القرآن، فلا حاجة لنا إلى شيء آخر والسلام».
وبعد أن جلس وقف الشيخ عبد الحليم متوكئاً على عكازه لضعفه وكبر سنه وقال: «يا إخوتي وأحبائي، إن أخي السيد عبد القادر قد فاه بكلام لا يزدرى به، فنعم ما قال بشأن الملحدين وكتاباتهم الكفرية الردية. على أن ليس كل أسود عبداً، ولا كل حمراء جمرة، فكم من جواهر بين الرمال، فربما دسنا باحتقار تراباً كان فيه حجر كريم، فليس من العدل سرعة العزل، دعونا يا إخوان نتخذ المسألة بالحلم والأناة متبصرين جيداً في موضوع هذه المسألة وتفصيلها، لأنه ربما عثرنا على فائدة نحن نجهلها، إننا لم نر فيها ما تأباه المسامع وتنكره العقول، ولا شيء من الطعن بديننا، بل كلاماً لطيفاً محكماً ممزوجاً بإمارات الحب والإخلاص. فهل والحالة هذه يليق بنا كعلماء طرحها بدون اجتلاء معانيها وامتحان دعاويها؟ فمهلاً يا إخوان، ولتتخذ هذه الرسالة محلاً في ساحة تعقلكم حتى يرى فسادها فتنبذ أو صلاحها فتقبل».
ثم وقف عمر أفندي زكي وقال: «عندي من الرأي مراعاة ما قدمه سيدي الشيخ عبد الحليم وهو اتخاذ هذه المسألة بالأناة ليرى الملأ أننا لسنا دون أفضل علماء الأمم، ومن ثم نرى ما ينبغي من جهتها. وبما أنه الآن قد صار وقت مناسب لفض الاجتماع، فإن شئتم فلتكن كلماتي هذه خاتمة الحديث بهذا الاجتماع، ونتخذ لأنفسنا فرصة أسبوع كامل، ليتمكن كل منا من التأمل في ما سمع الآن. ثم أن حسن نجتمع أيضاً ونعيد المذاكرة بشأن هذه الرسالة، علّنا نتخلص منها بطريقة عادلة». فاستحسن الجميع هذا الرأي وعولوا عليه. ثم قدم لهم الشيخ علي شيئاً من الحلويات فأكلوا، وانصرف كل إلى محله.
وفي أثناء الكلام كان الشيخ سليمان فاضل ساكتاً، وحين الانصراف ذهب إلى بيته لا يدري أماش هو أم جالس، حتى لطم رأسه عتبة باب دراه، فانتبه ودخل وأحيا كل ذلك الليل وهو يراجع جمل تلك الرسالة، ويردد قضاياها مندهشاً من قوة أدلتها وسداد حججها، فضاق به الأمر. وكان يجلس تارة ويتمشى أخرى وهو يناجي نفسه قائلاً: نعم نعم، القرآن يشهد للكتاب، التوراة والإنجيل، يشهد بصراحة لا مزيد عليها. أن اليهود والنصارى هم أهل الكتاب، ولم يقل قط أنهم حرّفوه أو بدلوه أو أفسدوه حال كونه قد مضى على التاريخ المسيحي مدة ستة قرون. إذا لا ريب هو الآن صحيح وسالم كما كان في عصر القرآن. وإن كان الأمر كذلك فيكون عيسى المسيح لا محالة إلهاً متجسداً مصلوباً فداء عن الخطاة حسب منطوق الكتاب، فكيف الأمر يا سليمان وأين لك المخرج من هذه الدائرة؟ هل دين الإسلام باطل؟ أليس القرآن من الله؟ بلى وإنما ما أعظم الخلاف بينه وبين الكتاب المشهود له منه. كيف يشهد له هكذا ويخالفه هذه المخالفة الكلية؟ إنني سأكشف أمري هذا للشيخ محمود الرافعي، لعله يرشدني إلى حل.
وهكذا بقي على هذه الحال منزعج البال حتى مطلع الفجر. فأنهكه السهر والتعب مما قاسى من جهاد الأفكار، وانطرح على متكإه ورقد نحو ساعتين من الزمان، ثم نهض وحمد الله وصلى طالباً منه تعالى الإعانة والهداية. ثم أتى منزل الشيخ محمود فدخل عليه وسلم، وبعد أن جلس التفت إليه الشيخ محمود وقال له: «مالي أراك يا أخي متغير اللون؟» أجابه: «إنني لا أستطيع أن أخفي عن سيدي شيئاً، وأرغب أن أخبركم ما جرى لي الليلة. فإن حسن لديكم دعنا ندخل الجنينة ونتمشى قليلاً». فقال: «حباً وكرامة». وبعد أن دخلا وجلسا تحت إحدى الأشجار، قال الشيخ: «هات، أخبرني أمرك أجاب الشيخ سليمان: «أملي وطيد أن تحتمل مني بحلمك ما سأبديه لديك وتعاملني بالحب الذي أعهده لي عندك من خاصة». قال: «تكلم بحرية يا صديقي، فإني أبغي راحتك وخيرك». فأثنى عليه وقال:
«اعلم يا سيدي إني لم أذق الليلة طعم المنام حتى الصباح، بل صرفت ليلي بمراجعة قضايا تلك الرسالة التي وقفنا عليها أمس مذهولاً من قوة أدلتها ومتانة حججها، وقد اجتهدت نفسي عبثاً في إيجاد مخرج شرعي منها. وإذ قلقت نفسي من ذلك كل القلق رمت التخلص من التأمل والتفكر فيها، فلم أفز بذلك، بل خيل لي أن صوتاً غريب القوة يقرع أذني بدون انقطاع يدعوني للاقتناع بتلك القضايا المدونة فيها. وكأني أرى فيها حبالاً متينة جداً رابطة ذهني تجذبه ولم أرقد حتى الفجر. وبعد التفكر طويلاً قلت أقصد سيدي وسندي الشيخ محمود عله يفرج كربتي ويريح فكري».
فتوقف الشيخ محمود عن المجاوبة هنيهة، ثم التفت إلى الشيخ سليمان وقال: «يا أخي، إن المسألة التي جالت في خاطرك هكذا وأزعجتك هي أعظم المسائل وأهمها، وتستوجب التأمل. ولا ريب أن ما جرى لك بسببها من القلق والانحصار هو من عناية الرحمن، فكن براحة واصغ لمقالي. أن تعلم يا أخي انشغافي بكلام الله وانصبابي الزائد على تلاوة القرآن. فحدث إذ كنت أتلو بعض سوره بقلب خاشع متصدع. عثرت على آية في سورة الأنعام جعلتني مدهوشاً ساعة من الزمن، لأني قرأتها مئات من المرات ولم أنتبه إليها حتى الآن، وهي: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ» (سورة الأنعام 6: 156) أي أنزل على طائفتي اليهود والنصارى، فقلت لنفسي: كيف يسوغ لنا إذا التغافل هكذا عن درس كتاب الله؟ ثم نبهتني هذه الآية إلى آيتين أخريين في سورة المائدة وهما: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ. قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (سورة المائدة 5: 66 و68) فخفق فؤادي لدى تأملي بهذه الآيات المهمة، والتهب قلبي شوقاً لذلك الكتاب الجليل والاطلاع عليه. ومن ثم قصدت يهودياً فاشتريت منه نسخة من التوراة، ولم أطلبها من مسيحي لفكري أن المسيحيين حرّفوها وفقاً لمعتقدهم بلاهوت عيسى وصلبه كما هو شائع بين المسلمين. واشتريت إنجيلاً من مخزن الكتب، وأخذت بمطالعتهما بكل رغبة ولذة وبالمقابلة بين التوراة والإنجيل مستعيناً في ذلك بمؤلف جليل يسمى «مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين» استعرته من بعض أصدقائي المسيحيين فوجدتهما بالحقيقة ينطبقان بعضهما على بعض انطباقاً يصيرهما كتاباً واحداً. ففهمت حينئذ سبب تسميتهما في القرآن «الكتاب» لا الكتابين لأن روحهما واحدة. ثم أخذت بمقابلتهما مع القرآن، فرأيت القرآن يوافق الكتاب من وجه ويخالفه من وجه آخر. أما وجه الموافقة فهي من جهة الحبل بالمسيح من دون رجل، وحياته الطاهرة، ومعجزاته البديعة، ونسبته على نوع ما لله أنه روح الله وكلمته لأن الإنجيل ينص هكذا، ولا خلاف بينهما إلا بنسبة لله خلاف جزئي، باعتبار آيات الكتابين، لأن القرآن يقول عنه روح الله والإنجيل ابن الله. وأما وجه الخلاف فهو في لاهوت المسيح وموته وكفارته.. الخ.
عند ذلك اضطربت نفسي وانزعجت روحي من هذا الخلاف العظيم، حتى انتحل جسمي وصرت كمن اعتراه مرض مزمن، إلى أن زارني يوماً استاذي المرحوم الشيخ رشيد الكيلاني، وبناء على ما أعهده من رقة أخلاقه وكرم طباعه رأيت أن أكشف له الأمر، إذا سنحت لي الفرصة. وبعد أن جلس قلت: «أرغب أن أستفيد من سيادتكم عن سؤال: أين التوراة والإنجيل اللذين يشهد لهما القرآن الشريف؟ أجاب: «اعلم يا ولدي أن خلاصة التوراة والإنجيل محوية في القرآن». قلت: «نعم إن القرآن يحوي جملاً برمتها من ذلك الكتاب، ولكن ذلك لا يروي غليلاً، فأحب الوقوف على الأصل». قال: «إن الأصل قد أفسده اليهود والنصارى بتحريفهم إياه، فقد اختلف علماء اليهود في الرأي والمعتقد، فحرّف كل منهم شيئاً من التوراة حسب هواه ومذهبه، والنصارى زعموا أن عيسى ابن مريم إله، وأن اليهود قد أماتوه صلباً، وأنه بموته هكذا قد محى خطايا أمّته، فحرّفوا الإنجيل تحريفاً يوافق زعمهم». قلت: «وهل يحرّف اليهود توراتهم تحريفاً يوافق زعم النصارى وإنجليهم المحرّف»؟ قال: «كلا». قلت: «إذا ما معنى تلك النبوات العديدة في توراتهم المنبئة عن عيسى المسيح إنباءات جلية توافق بالتمام زعم النصارى وإنجيلهم، وعلى الخصوص الأصحاح الثالث والخمسين من إشعياء حيث قيل «لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ ٱلضُّغْطَةِ وَمِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ» إلى أن يقول: «بَمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِّزَاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ». وقس على ذلك كثيراً من النبوات المشخصة عيسى بن مريم كإله وإنسان فادي الخطاة بدمه تشخيصاً يطابق الإنجيل ويوافقه من كل وجه. فإذا كان اليهود غير محرّفين توراتهم تحريفاً يوافق زعم النصارى وإنجيلهم المحرّف، كما قلتم سيادتكم، فكيف إذا يوجد فيها مثل هذه النبوات التي تنطبق هكذا على الإنجيل انطباقاً يصيرهما كتاباً واحداً؟ نعم كتاب واحد كما يشهد القرآن الشريف بقوله: «إن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا الآية». الذي يبين عدم تحريف النصارى إنجيلهم، وإن معتقدهم بالمسيح ابن مريم مبني على أسس راسخة ومتينة، فكيف التخلص يا مولاي من هذا المشكل والخروج من هذه الدائرة؟» فصمت الشيخ برهة، فنظرت إليه فإذا هو عابس مقطب الجبين، يلوح على وجهه لوائح الغيظ الشديد، ثم قال بصوت غاضب: «أراك يا محمود تميل جداً إلى دين النصارى السقيم، بل كأنك صرت نصرانياً. فهل تترك دين الله الإسلام؟ ويحك كن على حذر من ذلك. ولا تخسر نفسك دنيا وآخرة».فلما رأيت منه ذلك بخلاف المعهود من حلمه ورقة أخلاقه أخذتني الحيرة، فقلت بقلب قد خامره الخوف: «حاشا يا مولاي أن أترك الصراط المستقيم، إنما رغبتي في الإفادة من سيادتكم عن مثل هذه الأمور كي أقدر أن أدفع بعدل هجمات النصارى الدينية، وهل يليق بنا أن نكون أضعف من علماء النصارى وأقصر باعاً في ميدان البحث والمحاورة؟» قال: «كلا، بل كأبطال نثبت في ميدان المحاورة والمناظرة هجوماً ودفاعاً، محامين عن شرف ديننا حق المحاماة من وجهين. الوجه الأول هو أن النصارى يشركون بالله، إذ يجعلون له ابناً مساوياً له في الأزلية والقدرة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، الذي لم يلد ولم يولد ولم يلد ولم يكن له كفواً أحداً. والوجه الآخر المناقضات الكثيرة في كتابهم، فإنك ترى آية تناقض آية وقصة تناقض قصة. ألم تطلع على كتاب «إظهار الحق» لرحمة الله الهندي؟ طالعه وتأمله جيداً فترى ما أفسد الديانة النصرانية وما أحق وأبهى الإسلام. فأنت يا محمود بسيط القلب سريع الانخداع، فانتبه واحذر ولا تضل مع الضالين» . أما أنا فلما لحظت شدة انفعاله من حديثي أمسكت عن الكلام. ثم بعد برهة قام وخرج من عندي فشيتعه إلى خارج الباب وقبلت يديه مرتين متوسلاً إليه ألا يؤاخذني بما قد تجاسرت به، فأجابني بالإيجاب. ثم انفردت في مخدع وأخذت بالصلاة لله بدموع غزيرة طالباً منه تعالى أن يرشدني ويريحني، وانعكفت أكثر فأكثر على درس الكتاب، ولكن بقلق وخوف ليسا بقليلين. فكنت بالنظر إلى هذه الحال كفلك صغير تتقاذفه الأمواج لا أعرف ماذا أعمل، حتى جرى ما قد جرى من ورود هذه الرسالة واجتماعنا في منزل الشيخ علي، فلاح على قلبي فجر صباح مبارك. أسأل الله وهو أكرم مسئول أن يعقبه ببزوع شمس ساطعة النور. ثم سكت وكانت عيناه الحادتان مغرورقتين بالدموع، فأثر ذلك وأي تأثير في الشيخ سليمان الذي كان يسمع الحديث بكل إصغاء ووقار. ثم بعد أن لبثا برهة صامتين قال الشيخ سليمان: «الحقيقة أن أمرك هذا يا سيدي لأعظم مما أنا فيه، وإني لأحمد الله الذي قادني إلى كشف أمري إلى رجل قد حصل له فوق ما حصل لي. حقاً أن الملاحظات الجيدة التي لاحظتموها سيادتكم في الآيات القرآنية بخصوص المسيح والكتاب من النادر جداً أن يلاحظها مسلم من دون اشتباكه مع علماء المسيحية في حديث كهذا، أو من دون اطلاعه على بعض تأليفهم بهذا الشأن. فهلم الآن سيدي إن شئت نخوض قليلاً في حديث لا أرى ألذ ولا أهم منه. فقل لي: هل ظهور تلك الشبهات في الكتاب يوجب طرحه؟ قال: «كلا، ولكن يا ترى ما سبب ظهور هذه الشبهات؟ أهو عارض أم جوهري؟» أجاب الشيخ محمود: أرى أن بعضه عارض والآخر أصيل. وأرى أن الأصيلات ليست في الحقيقة مناقضات ولكنها تظهر هكذا لغير المتعمقين في الكتاب، وذلك ناشئ طبعاً من تباين أزمنة كتابة أسفاره، واختلاف عوائد تلك الأزمنة، وتباين عوائد كل من المكتوب إليهم تلك الأسفار من نساخ الكتب في القديم وهو ما لا يعتد به، ولا يؤثر البتة في صحة الكتاب وغايته. وأما القضايا ذات الأهمية فيه فلا يرى فيها شيء من التناقض، بل هي متفقة متحدة معاً كحلقات سلسلة واحدة من معدن واحد. وماذا تفتكر: ألا يوجد في القرآن مناقضات؟ بلى، يوجد شيء من ذلك، بل عدد وافر، بعضها في القضايا ذات الأهمية كما لا يخفى ومع ذلك لا ينبذه العلماء إذ ينسبون ظهور ذلك إلى عدم فهم الإنسان كنه الكتاب، فكم بالحري لا يسوغ نبذ الكتاب المقدس بناء على ظهور بعض الاختلافات في جزئياته، وله من الأدلة والبينات الراهنة ما يكفي للاقتناع بأنه كتاب الله؟
صدقت يا سيدي وشهادة القرآن للكتاب في القرن السادس للتاريخ المسيحي جديرة أن تقود الأمة المحمدية لاعتبار سلامة التوراة من التحريف والتغيير، إذ أن تحريف الكتاب في ما بعد بعيد الإمكان كما يزعم صاحب الرسالة هذا، والعقل لا يسلم أن الله القادر لا يحفظ كتابه العزيز من الخلط والإفساد، بل ما يرتاح إليه العقل هو إن كان الله جل شأنه أنزل كتاباً إلى خلقه لا بد أن يبقيه سالماً صحيحاً إلى نهاية العالم، شاهداً لكمال عظمته تعالى وجوده غير المتناهي. وأما الكتاب المنسوب لرحمة الله الهندي «إظهار الحق» الذي يتسلح به كثيرون ضد الكتاب فالأحرى به أن يوسم «بإخفاء الحق» لا إظهاره، لأنه عدا خلوه من روح الإخلاص والتقوى يرى بأقل تبصر أن غايته الهدم لا البناء: وهو لا يضرب قط على أركان الكتاب وأساسه بل على شرفاته كما يشير صاحب الرسالة، فيرغب في أن يقنعنا بكونه محرّفاً ومفسداً بناء على تباين شرفاته واختلاف ألوانها، ولكنه لا يوجد فيه البتة بينة على ذلك تقوم بإزاء الأدلة الراهنة والبينات القاطعة على صحة سلامته. ولا يخفى أن المبدأ الذي اتخذه هذا المؤلف لبيان فساد الكتاب إذا فرضنا صحته لزمنا الإقرار بتحريف القرآن أيضاً، فهو بذلك أشبه بمن يقصد هدم بيت إنسان لزعمه أنه سقط لا يصلح للسكن ولا يبني له آخر، بل إن سلم له يفعل ويتركه بدون مأوى. فلا أرى غاية هذا الكتاب إلا هدم المعابد ومحو آثار الدين عن وجه الأرض (وقى الله كتابه ودينه من كل آفة) وقد نوهت في ما تقدم أنه لم يتعرض قط لإفساد البراهين الراهنة التي بها يحامي أمة النصارى عن كتابهم التي منها:
قال الشيخ محمود: «نعم يا أخي كتاب الله هو كجبل صخري شامخ راسخ لا تؤثر فيه الأنوار ولا تضر به أمواج الاعتراضات والقدح، بل كلما تراكمت عليه ازداد مجداً وبهاء. ولكن يا للمضادة الجسيمة والخلاف العظيم بينه وبين القرآن في مسألة المسيح، فإذا لا بد من رفض أحد الكتابين بالنظر إلى ذلك، إذ لا يمكن قبول الواحد بدون رفض الآخر، وهذا الأمر يزعجني. إن اتخذت رأي الكتاب بخصوص لاهوت المسيح وموته بالجسد فداء عن الخطاة أكون قاومت القرآن وتركت الإسلام. وأن اتخذت رأي القرآن وعملت به أكون رفضت كتاب الله المبين المشهود له من القرآن، فأقع لا محالة تحت سخطه تعالى، فأيا منهما أختار؟ على أني أشعر في داخلي بميل كلي نحو الكتاب، كأن يداً غير منظورة تدفعني بعنف نحوه. وطالما قاومت هذا الميل حتى عجزت عن المقاومة، فأنا الآن أختار الكتاب دليلاً ومرشداً في الإيمان والعمل، والله حسبي ونعم الوكيل. فماذا ترى يا أخي وما فكرك؟» فأجاب الشيخ سليمان: «بما أنه قد بدت لنا صحة الكتاب الإلهي وسلامته، كما تبدو الشمس في رابعة النهار، فمن الجهالة أن لا نعتمده قانوناً لحياتنا ونوراً لسبيلنا. فرأيي رأيكم من هذا القبيل. وأي شيء أليق للعقل وأسلم للقلب وأريح للضمير من التمسك بسبيل الحق؟» قال الشيخ محمود: «إني لمسرور سروراً لا يقدر بموافقة فكرك فكري ورأيك رأي، وحقاً لا سلام ولا راحة للضمير إلا باعتناق الإنجيل الذي أعلن لنا موافقة عدل الله ورحمته بيسوع المسيح». قال الشيخ سليمان بعد أن أظهر مزيد من سروره بهذه الموافقة والاتحاد: «أرجوك يا سيدي إن تسمح لي أن أقول أيضاً شيئاً في أمر القرآن بالنظر إلى المسيح لأجل تتميم الفائدة واللذة، إني أرى بين القرآن والكتاب مقاربة كلية من جهة المسيح في ثلاث قضايا: القضية الأولى، ولادته من دون زرع رجل. القضية الثانية، إتيانه بمعجزات عظيمة. القضية الثالثة، نسبته لله. فالكتاب يدعوه ابن الله وكلمته، والقرآن يدعوه روح الله وكلمته. فهذا التقارب كلي حتى يكاد يكون القولان واحداً، فلا غرو أن وصف المسيح هكذا في القرآن وصفاً يكاد يكون كوصف الكتاب له يدل على سمو المسيح على الشر قاطبة. وإلا فما الداعي لولادته على نوع خارق لناموس الطبيعة؟ أيفعل الله شيئاً دون داع؟ حاشا وكلا. أما يقود ذلك إلى الفكر بأن الذي وُلد من البشر بدون أب هو ابن الله حسب منطوق الكتاب؟ وإن كان المسيح مثله كمثل آدم إنساناً فقط مرسلاً من الله، لماذا دعي في القرآن «روح الله وكلمته» مستثنى بهذا النسب عن الأنبياء والمرسلين كافة؟ إن هذه الامتيازات العظيمة والنسب الكريم تدل على أن المسيح شخص عجيب فريد في ذاته وكمالاته وسمو شرفه بين البشر. فالقرآن يدل على غرابته وتفرده وسمو شرفه على أنبياء الله ومرسليه كافة بمثل القضايا المذكورة، بدون أن يكشف لنا الغطاء عن سره الباهر المعلن في التوراة والإنجيل اللذين يحتاجهما كل مسلم ليرى سر الشخص العجيب الموصوف في قرآنه» .
قال الشيخ محمود: «نعم إن المسيح في الكتابين فرد عجيب، والمستغرب كثيراً عدم ملاحظة علماء المسلمين ذلك في القرآن وهم يتلون سوره. فإني قرأته أكثر من خمسمائة مرة حتى استظهرت أكثره ولم أنتبه في أثناء ذلك إلى هذا الأمر الخطير، وقط لم أكن مغرماً بعيسى قدر عشر غرامي بمحمد، مع أنه هو الموضوع الجوهري في الكتابين، والمحور الوحيد الذي عليه تدور كل أقوال الله، بل هو كالمركز الشمسي تدور حوله الكواكب مستمدة النور منه. فلنتشجع يا صديقي ولنتكلم بحرية بشأنه في الجلسة القادمة، ولكن ليس على سبيل الخبر أولاً، بل على سبيل السؤال والمخابرة. وليبارك الله اجتماعنا وليشرق نور حقه على أذهان أصحابنا كافة وأرى الأنسب لنا أن ندعو السيد عمر الحارس ونطلعه على أفكارنا هذه، ونأخذ رأيه في ذلك، فإني أثق به جداً لأنه إنسان مستقيم عاقل حسن الطوية، وهو صديقي منذ حداثته وقد أطلعته قبلاً على بعض أفكاري بخصوص الكتاب، فسر بذلك كثيراً. وهو يتكلم باعتدال وإخلاص، ولا يتكلم بخلاف ما في قلبه، لعله يكون عضداً لنا في هذه الجلسة والخيط المثلوث لا ينفصم». قال الشيخ سليمان: «أحسنت». فأرسل للحال للسيد عمر فدعاه، وبعد السلام وترداد التحيات قصّا عليه ما كان بينهما من الحديث، وما عزما عليه. فبقي ربع ساعة لم يفه بكلمة وعلى وجهه لوائح الذهول والتحفظ، فقال له الشيخ محمود: «قد دعوناك لنبدي لك أمرنا لعلمنا بما عندك من الإخلاص والاستقامة، وإنك تحامي عما يبدو لك من الحق بكل أمانة ونشاط، فما تراه صواباً في قصتنا فاحكم به، وما تراه خطأ فأرنا إياه. وإن شئت كن معنا في الحق وعلينا في الباطل كما هو دأبك». أجاب: «حاشا لك يا سيدي من ارتكاب البطل، غير أن سكوتي ناشئ عن سببين: (الأول) هو تأملي في القضايا التي سمعتها قبل الحكم عليها (والثاني) تبصري في سوء المعاملة التي ينتظر أن تصادف من تمسك منا بهذا الأمر الذي قد تقرر في ذهنكما. وأما ما ذكرتماه فأرى أنه قرين الصواب من وجهين (الوجه الأول) هو الأدلة الراهنة على صحة الكتاب التي لا تترك البتة مخرجاً شرعياً لمنكري صحته (الوجه الثاني) المقاربة الكلية أو بالحري المطابقة المعنية غير المقصودة بين القرآن والكتاب من جهة لاهوت المسيح. أما أنا فإني رجل ضعيف على احتمال المقاومة فاسأل الله المساعدة». وبعد المحادثة ملياً بهذه الأمور وتشجيع بعضهم بعضاً انصرف كل إلى مكانه. وكانوا في كل يوم يخرجون نحو الساعة العاشرة إلى تل خارج المدينة متحدثين في تلك الأمور المهمة إلى أن انتهى الأسبوع.
ولما كان الوقت المعين للاجتماع اجتمع كل العلماء المتقدم ذكرهم في منزل الشيخ علي، وبعد أن استقر بهم الجلوس وحيا بعضهم بعضاً وقف الشيخ علي وافتتح الجلسة بما يأتي: «سادتي الأحباء، إني مسرور جداً باجتماعنا معاً بالمحبة مرة أخرى في محلكم هذا لغاية دينية صالحة، فأرى من الواجب نبذ روح الشقاق الأدبي، وتربية حاسات المحبة الأخوية في القلب لكل من بني آدم، وترك التعصب الديني والبحث بإخلاص وأمانة ونشاط عن الحق الإلهي، وطلب إرشاد المولى الكريم. فلنبحث في المسألة التي لأجلها اجتمعنا الآن، ولنبدي بكل حرية أفكارنا ونبث فيها أراءنا، وليبارك الله اجتماعنا ويلهمنا الخير والصواب لمجد اسمه الكريم آمين».
ثم جلس، فطلب بعضهم أن تُتلى عليهم تلك الرسالة، فوقف الشيخ أحمد عبد الهادي وقرأها مرة أخرى بكل تأني ووضوح، وكان حينئذ كل من الحاضرين يستعمل قلمه بكتابة خلاصة قضاياها. وبعد الانتهاء من قراءتها كان الجميع سكوتاً يتأملون ويزنون تلك القضايا. ثم أخذوا في الحديث أخذاً ورداً سلباً وإيجاباً، إلى أن وقع الاتفاق على التأمل في قضايا الرسالة واحدة فواحدة إن أمكن، والمداولة فيها بالتي هي أحسن، وأول تلك القضايا صحة التوراة. واختاروا لذلك عمر أفندي زاكي والسيد إبراهيم مصطفى.
فوقف الأول وقال: «قد أوقع صاحب الرسالة نفسه في حفرة التناقض بادعائه أولاً سلامة التوراة من التحريف والتغيير، ثم باعترافه بذلك على نوع ما بقوله «لا ينكر وجود اختلاف في بعض كلمات الكتاب، لأن تباين الأزمنة وتنوع الأحوال واختلاف العوائد يجعل طبعاً ظهور تناقض في بعض الجمل» فما ذلك إلا لأنه لم يستطع إنكار الاختلاف والتناقض الموجودين في التوراة اللذين أتى بهما أهل الغايات وأرباب المفاسد» .
فقال حينئذ السيد إبراهيم: «لا أرى في هذه الجملة نقضاً لكلام صاحب الرسالة لأن القول بظهور تناقض ليس هو إقراراً بالتناقض، والاعتراف بوجود اختلاف في بعض كلمات الكتاب ليس هو اعترافاً بتحريفه وتغييره، ما دام الكاتب يعلق صيرورة ذلك على تباين الأزمنة التي كتبت فيها أسفار الكتاب وأحوال كاتبيها. واختلاف العوائد حيئنذ مع الدواعي المختلفة لكتابتها».
- عمر: «سيان عندي اعترف بذلك أو لم يعترف، لأن عدم اعترافه بتحريف الكتاب ليس ببرهان على عدم تحريفه، وما دام الاختلاف في الكتاب بادياً لذي عينين فلا حاجة لنا إلى بينة».
- إبراهيم: «إن حضرة عمر أفندي اعتبر بعض ما في كلمات الكتاب من الاختلاف دليلاً على تحريفه، فلزمني إن أمكن إفساد هذا الدليل لا يخفي أن كلمة تحريف أو تغيير تتضمن وجود غاية في نفس الفاعل ألجأته إلى الفعل، أليس الأمر كذا يا سادتي؟».
أجاب الحاضرون: «بلى ولا بد». فقال: «وإذا كان كذلك، فهل من غاية في ما يوجد من الاختلاف في بعض كلمات الكتاب؟» فتوقف عند ذلك عمر أفندي برهة عن الجواب لما رأى من قوة دفع مناظره، ثم قال: «لا أنكر أحكام دفع السيد إبراهيم، بيد أني أقول ربما في ذلك من غاية نحن نجهلها، وما أتى به كاتب الرسالة المشار إليه من بيان على اختلافات كهذه لا يروى غليلاً».
- إبراهيم: «هل من محل لكلمة «ربما» ما دامت الاختلافات تظهر عارية عن غاية ما؟ وإذا كان ما تقدم من ذلك الكاتب بهذا الخصوص لا يروى غليلاً لمناظري الكريم فنيابة عنه أزيده أن الله بما من شأنه أن يذهب بكل ريب عنده، فعلى الفرض أن في تلك الاختلافات غاية مجهولة عندنا فهل يا ترى يقدم إنسان ما على تحريف كتابه بدون غاية إما لخيره وإما لشر غيره؟» .
- عمر: «كلا ما لم يكن أبله أو معتوهاً».
- إبراهيم: «حسناً، وأية غاية من كلا النوعين تظهر للإسرائيليين في وجود هذه الاختلافات في توراتهم؟ وإلا يرى المخلص أنه لو شاء أولئك إيقاع تحريفهم في توراتهم لكانوا بالأولى أزالوا منها مثل هذه الاختلافات بحيث لا يبقى لأجنبي سبيل للتنكيت عليها بوجه ما، وذلك سهل لديهم كل السهولة».
- عمر: «نعم، لا يرى البتة لبني إسرائيل غاية في ذلك. على أني لا أقدر أن أحيد عن الفكر بكون تلك الاختلافات دليلاً على وقوع تحريف فيه إلا بإقامة دليل أقطع مما تقدم».
- إبراهيم: «إن ما تقدم هو كاف لإقناع أهل الذكاء نظير حضرتكم بعدم مس كتاب الله بأصابع التحريف والتغيير، فلا أرتاب بكون سيادتكم تبغون في طلبكم هذا غاية الإيضاح والجلاء. وعليه فالدليل الفاصل القاطع على سلامة التوراة من شائبة التحريف هو عدم موافقتها في أمور خطيرة لمن بيدهم، كما أشار إلى ذلك كاتب الرسالة المذكورة، فمعروف أن اليهود سقطوا مراراً في عبادة الأصنام المنهي عنها في توراتهم بأقوى تشديد وأعظم تهديد ووعيد، وأنكروا إرسالية عيسى المسيح من الله المنبأ عنه أوضح الأنباء وأعظمها، ومع ذلك لم يمدوا يداً إلى تغيير تلك الوصايا والنواهي عن اتخاذ الصور والتماثيل، ولا إلى شيء من تلك النبوات الشاهدة أبداً على سوء غلطهم وشر كفرهم برفضهم مسيحهم ابن مريم. فمن لا يرى أنهم لو رأوا تحريف توراتهم أو لو سمح الله لهم بمد يدهم لتحريفها لكانوا حرّفوها تحريفاً يوافق أهواءهم ويسند ضلالهم، ومع أن تعاليم أكثر المسيحية مغاير للتوراة لا سيما صورهم وتماثيلهم المالئة معابدهم ضد وصايا الله على خط مستقيم لم يقدموا على حذف أو تغيير أو تبديل وصية من وصاياه. هذا من أقطع الأدلة على حفظ الكتاب العزيز من شائبة التحريف والتغيير، مضبوطاً بيد الضابط الكل. ويبان أن الرسول (صلعم) قد أدرك الامر تماماً، ولذلك شهد بوحي الله شهادة مطلقة مستوفية بأن اليهود والنصارى هم أهل الكتاب، وأن التوراة نور وقط لم يقل كقول المسلمين في أيامنا أنهم حرّفوه أو غيّروه، وإلا لبكّتهم على ذلك. إنما عوضاً عن الدعوى منه بتحريفه وتقريعهم عليه حضهم على القيام بما فيه. ولعمري أن ذلك أمر يلزم المسلمين بالاعتقاد بعدم تحريف الكتاب ولا مناص من ذلك». ثم التفت إلى الحاضرين وقال: «ألا أن الأمر كذا هو يا سادتي، ماذا ترون؟». فأجاب أكثرهم: «لا نرى خطأ في ما قلتم، وإذا كان عند عمر أفندي دفع لذلك نرغب في أن نسمعه».
- عمر: «إن ادعاء كاتب الرسالة بمطابقة التوراة العبرانية لجميع النسخ الموجودة بأيدي طوائف المسيحيين بلغات متعددة ساقط لوجود فروقات عديدة واختلافات جمة بين العبرانية وباقي الترجمات، وكذا بين ترجمة وأخرى، حتى أن التراجم العربية لا تنطبق الواحدة على الأخرى. ومن لا يصدق ذلك فعليه بالمقابلة، فيرى من أول وهلة خطأه المذكور في مدعاه».
فصفق عبد القادر وقال: «طيب الله أنفاس عمر أفندي. الحمد لله قد بدا الحق واعتلى، وسقطت دعوى النصراني في ما زعم». فقال له الشيخ محمود: «مهلاً يا سيد عبد القادر، عل كل لقد أجاد في ما قال عمر أفندي، فدعنا نرى هل عند السيد إبراهيم من دفع لذلك».
- إبراهيم: «كان الأجدر بمناظري الكريم ألا يتعدى إلى مسألة أخرى قبل أن يسلم بالمسألة التي نحن بصددها أو يدحضها إن أمكن حسب حق المناظرة، وعليه أرجو من مكارم أخلاقه إمّا التسليم بسلامة التوراة مما ذكر أو نقض أدلتي المتقدمة بهذا الشأن، ثم أدفع إن شاء الله ما أمكن مقالته هذه».
- عمر: «بل أرجو إن أمكنك دفع مقالتي هذه، وفيما بعد ألتزم إمّا الاعتراف بسلامة التوراة من التحريف أو نقض أدلتكم إن أمكن بما هو أعظم منها».
قال الشيخ أحمد عبد الهادي همساً: «هيهات ذلك لعمري من المحال».
- إبراهيم: «أمركم سيدي. ادفع ذلك بدليلين (الدليل الأول) هو وجود أجل الترجمات المعول عليها قبل ظهور الرسول (صلعم) بزمان طويل كما لا يخفى، ومن المعلوم أن الترجمة السبعينية كانت أكثر شيوعاً في مصر والمغرب، والسريانية بين أهل سوريا، واللاتينية في أوروبا. فلو كان ما بهم من الاختلاف في بعض القراءات يعد تحريفاً أو تغييراً لما أغضى عنه الرسول (صلعم)، بل لا شك كان ذكره في القرآن وأقله ما كان جاء فيه تلك الشهادات المعتبرة القاطعة كل ريب بسلامتها.
(الدليل الثاني) عدم الاختلاف بينهن من جهة القضايا تاريخية كانت أو شرعية أو نبوية. أرني أية قضية من القضايا المشار إليها مختلف عليها اخلافاً جوهرياً في هذه الترجمات. أن التاريخ في قصة أبينا آدم إلى آخر تاريخ بني إسرائيل هو شيء واحد وكذا الناموس والأنبياء. أما الاختلافات الجزئية والعرضية فيهن، التي لم يخلها النبي تحريفاً كما تزعمون. فهي مما لا بد منه في الترجمة من لغة إلى أخرى، بناء على تفاوت المترجمين في معرفة كلتا لغتي المترجم منها والمترجم إليها، ولا جدال في ذلك».
- عمر: «أخالك ارتكبت الشطط نوعاً يا سيد إبراهيم في ما ذكرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنه لو رأى بين هذه التراجم من الخلاف في بعض الكلام تحريفاً لما أغضى عنه إلى آخر مقالك، كأنك نسيت أنه بين يهود العرب لم توجد التوراة سوى بلغتهم الأصلية، فليس إذا لتلك التراجم حظ بشيء من شهادة القرآن للتوراة. ولو وجدت تلك التراجم لديه لما أغضى عن الإشارة إلى تحريفهن».
- إبراهيم: «لقد أصبحت وأهل التوراة بأشد الامتنان لمناظري الكريم لاعترافه بمصادقة النبي للصحة الكائنة حينئذ بلغتها الأصلية، وهذا جل ما يرومه اليهود والنصارى من المسلمين، لأن المرجع في هذه المسألة إلى الأصل العبراني. ولله الحمد إن هذا الأصل لم يزل موجوداً عند قبائل اليهود في كل الأقطار، وهو كما يروي المطالعون المدققون واليهود أنها لا تختلف بقضية مما سبقت الإشارة إليه عن الترجمات الفرعية. فهل تسلمون حضرتكم وسائر المسلمين بصحة سلامة التوراة العبرانية؟ وألا ترى سيادتكم إن ما ذكرته هو طعنة قوية بنبوة النبي (صلعم) لأنه إذا كان نبياً فكيف لا يعلم ما انطوت عليه تلك التراجم قريبة منه أو بعيدة عنه؟».
- عمر: «أقر لك يا سيد إبراهيم بطول الباع في هذه المسائل، فأرجوك خفض الأمر بالنظر إلى هذه المسألة من باب البساطة والاتيان إليها بأقرب الطرق. على كل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ويرجح أنه لم يكن حينئذ بين اليهود المدنيين أو غيرهم توراة عربية يمكن للنبي الوقوف عليها بواسطة بعض الصحابة القارئين حتى يمكنه معرفة ما طرأ عليها من التحريف والخلل. وما بلغ ذهنه عنه يرجح أنه بلغه بواسطة بعض اليهود وأحبارهم، فكتب كما علم والله أعلم».
حينئذ صاح السيد عبد القادر: «واأسفاه يا عمر أفندي، لقد أخطأت النبي والقرآن. أيحتاج نبي الله إلى من يخبره عن التوراة، أو يكتب في القرآن شيئاً استناداً على قول من قال وهو منزل من الله سبحانه؟».
أجابه عمر أفندي، وقد غطى الخجل وجهه: «نعم يا أخي بيان ذلك غلط مني، ولكن أرجوك أين المهرب من الالتزام بالتسليم بسلامة التوراة من التحريف، ونبينا قد شهد بأنها كتاب الله؟ إذا علينا ولا مناص الاعتراف بسلامة الله من شائبة التحريف والتغيير، لأن القول بعدم تحريف التوراة حتى عصر النبي يقضي لا محالة بعدم تحريفها في ما بعد، كما أشار إليه كاتب تلك الرسالة، وكما يرى كل عاقل مخلص».
فوقف حينئذ حسن أفندي قباواتي وقال: «اصحوا يا مسلمين واحذروا من التسليم بما ينافي القرآن العزيز ويثلب سيد المرسلين. أتجهلون نتيجة التوغل بحديث أنتم في غنى عنه؟ كفاكم. أما يكفيكم ما أنزل لكم الله من الآيات الرواسخ النواسخ في قرآن لو اجتمع الأنس والجن لما أتوا بسورة من مثله؟».
أجابه الشيخ محمود: «عجباً لقولك هذا وأنت تتلو بوقار شهادة القرآن للتوراة والإنجيل. أمحرم عليك أن ترى في كتاب ينسبه القرآن لله ويدلك أين هو؟ إننا لم نزل في مركز اعتبار القرآن، فأرجو من لطفك إمعان البصيرة في ما قيل ويقال في خلال هذا الاجتماع، ثم احكم لنفسك بما تريد». ثم قال للحاضرين: «بما أن الوقت قد مضى نرجو إن حسن لديكم النظر قليلاً في البينة الأخرى على عدم تحريف التوراة. فمن تختارون للمناظرة في ذلك؟ فأجاب الأكثرون: «نرغب في أن يكون حسن أفندي راداً والشيخ سليمان مدافعاً». فأبي حسن أفندي وامتنع فألحوا عليه حتى قبل، ومن ثم وقف وقال على مَ أتكلم والبينة الأولى قد حلت بعدم تحريف التوراة، فلا حاجة بعد والحالة هذه إلى النظر في أمر البينة الأخرى، يكفي» .
الجميع: «بل نرجوك قبول التماسنا».
«لا حول ولا - أمركم».
- حسن: «إن صاحبنا يزعم أن إتمام الحوادث المنبأ عنها في التوراة قبل حدوثها حسب زعمه هي دليل ثان على عدم تحريف التوراة إلى آخر ما قاله بهذا الشأن، فما أدراه أن اليهود حرّفوا توراتهم بعد وقوع تلك الحوادث ثم تسلمها النصارى منهم محرّفة، وأنهم أتوا ذلك ليبينوا للعالم أكثر عظمة كتابهم المنزل؟».
- الشيخ سليمان: «بعد ما اتضح عدم تحريف التوراة مطلقاً بالنظر إلى البينة الأولى لا أرى محلاً بعد لمقال حسن أفندي. وبغض النظر عما تقدم يدفع هذا الزعم الواهن بما يأتي: (أولاً) إن جزءاً كبيراً من تلك النبوات هو عن سوء مصير حالة اليهود بناء على ارتدادهم عن عبادة الله ونبذ وصاياه، ومنه ما هو مضاد أفكارهم وأعمالهم بالنظر إلى الحوادث المنبأ عنها فيه، كالنبوات عن عيسى المسيح الذي رفضوه وأنكروه، فبعيد عن العقل أنه يخطر لهم ببال تحريف النبوات إلى مثل هذه الأمور المضادة لهم، والآيلة إلى كرههم وبغضهم من الأمم وإلى إخجالهم وتأنيبهم. (ثانياً) إن تلك الحوادث التي حدثت إتماماً لنبوات توراتهم حدث بعضها في ابتداء التاريخ المسيحي، وبعد ترجمة التوراة إلى اليونانية بنحو قرنين، وهو ما اختص بالمسيح، ومنها بعد ذلك بسنين عديدة وبعضها بأجيال متعددة كخراب مدينتهم والهيكل وشتاتهم شتاتاً ذريعاً في كل الأقطار، و خراب نينوى وبابل وصور ومصر وغير ذلك مما لا يسعنا ذكره. وكانت التوراة قبل ذلك بزمان طويل قد ترجمت إلى لغات مختلفة وتوزعت بين المسيحيين واشتهرت بين الأمم، فعليه ألا يكون ما زعمه حسن أفندي كما تقدم من أعظم ضروب المحال؟».
- حسن: «منذ شرعت بالكلام في هذه المسألة رأيت نفسي كما ينبه الأسد من نومه، أو ينفخ في نار يود إخمادها. فيكفي يا شيخ».
قال بعضهم: «نعم يكفي. إن لم يوجد سوى هاتين البينتين للتوراة فهما كافيتان لبيان كونها كتاب الله، وإنها كما أنزلت ولم تزل تماماً على ما كانت. إلا أننا نرجو من حضرة الشيخ سليمان أن يشرح لنا ما أمكن وبالإيجاز بعض الحوادث الأكثر أهمية التي حدثت إتماماً لنبوات الله في التوراة، فإن ذلك لا ريب لاذ ومفيد. فوقف وقال: «إن ما طلبتم مني الآن ليس في وسعي إيراده على طريقة لاذة ومفيدة كما ينبغي لحداثتي في معرفة الكتاب والتاريخ، فإذا شئتم ذلك فعليكم بكتابي «دليل الصواب إلى صدق الكتاب» و «البينة الجلية في صحة الديانة المسيحية» ترون فيهما ما يبهر النواظر ويجلي الخواطر من سمو كتاب الله ونبواته. بيد أني أقول بإيجاز أن نبوة موسى كليم الله عن سبي اليهود وشتاتهم السحيق في كل أقاليم العالم وذلهم والبلايا التي ستحيق بهم والنكبات التي ستدهمهم إذا حادوا عن الله وشريعته حتى يضحوا مثلاً وسخرية وعاراً ولعنة بين أمم الأرض قد تحققت كلها. فمن يا ترى يقرأ نبوات الكليم ويقابلها مع هذه الأمور التاريخية والعيانية ولايختم بكل قلبه على صحة التوراة وسلامتها؟ ونبوات إشعياء وإرميا عن خراب بابل ووصف هيئة خرابها وإتمام هذه النبوات بخراب تلك المدينة العظيمة التي كانت أم المدن وزينتها ومركز سياسة العالم التي الآن لا يكاد يعرف موضعها مما يحير العقول. وكذا النبوات عن مصر وصور وأدوم وبني عمون وما إلى ذلك من النبوات الكثيرة بهذا الشأن مما يطول شرحه، ويثبت تلك النبوات الإلهية التي أنبأت بذلك منذ أجيال عديدة، فمن لا يصدق عليه بالسياحة أو المطالعة».
ثم جلس، وأخذ الحاضرون بالتأمل والمداولة في مسألة سلامة التوراة من التحرّف، إلى أن اقتنع الجميع بذلك ما خلا السيد عبد القادر، الذي وقف حينئذ وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما هذا أيها السادة؟ ما هذا يا علماء المسلمين وأئمة الدين؟ أراكم عرجتم عن الصراط المستقيم. ألا تعلمون أن الاعتقاد بسلامة الكتب من التحريف والإفساد، حطة بالقرآن وضرب على أركان الإسلام؟ أيمكن اعتبار القرآن ككتاب الله مع اعتبار سلامة التوراة الحالية من التغيير والتحريف والحذف والإبدال؟ كلا، فانظروا إلى أين صرتم، وداركوا الحال قبل الزوال للنجاة من شر الوبال».
فوقف من ثم الشيخ محمود الرافعي وقال: «ما هذا الكلام يا سيد عبد القادر؟ أيخفى عليك أن القرآن يشهد للتوراة والإنجيل؟ فأي خطر يا ترى في البحث عن حقيقتهما وسلامتهما؟ لم يقل القرآن بتحريف الكتاب، أنقول نحن بذلك؟ فماذا ترى نعطي الله جواباً في يوم الدين إذا لم نصدق كتابه ونؤمن بما قد أنزل فيه، نحن الذين نبهنا إليه في القرآن ثم جئنا إليه فوجدناه على ما هو أحسن؟».
ثم جلس. وكان الوقت قد أمسى، فقال الشيخ علي: إن طلب الشيخ محمود عادل، غير أني أرى أن يكون أكثر مناسبة تأجيل بت الحكم في هذه المسألة إلى جلسة أخرى تكون إن حسن لديكم نهار السبت بعد غد، ليتمكن الجميع من فرصة وافية للتأمل فيها (قال ذلك خوفاً من السيد عبد القادر لئلا يعجل بإذاعة الأمر، فلا يتمكنون من فرصة أخرى مناسبة للنظر في أمر الإنجيل، وبما أن الوقت مضى فأرى مناسبة فض الاجتماع. ثم قدم لهم مائدة حافلة فأكلوا وانصرفوا بسرور، ما خلا السيد عبد القادر، فإنه ذهب مغموماً مما جرى.
ذهب السيد عبد القادر تلك الليلة إلى أستاذ له قديم اسمه الشيخ ناصر الدين عمر، وكان هذا الأستاذ على جانب عظيم من التعصب والادعاء. وبقلب مفعم من الغيظ بث له كل ما جرى من رفاقه العلماء، وقال إن لا سمح الله لو اشتهروا بفسادهم هذا، كانوا بلا ريب عثرة هائلة في البلد، وسبباً لإفساد عقول كثيرين. فلما سمع الشيخ ناصر الدين هذا الكلام صفق بيديه وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أمحقاً ما أخبرتني إياه يا ولدي؟ إنه لأمر خطير يدعو للأسف، ولكن طب نفساً فإني لأفحمنهم إن شاء الله بما قد فات أبصارهم من الحقائق البهية والأدلة السنية على بطلان النصرانية وصحة الإسلامية. وإن لم يرعووا لأذيقنهم بعونه تعالى ما يتعذر عليهم حمله ويردهم قسراً عن وخيم ضلالهم. ولكن يا ابني كيف لم تطلع شيخك منذ البداءة على هذه الدسيسة الخبيثة؟ ولو فعلت لكنت بادرت حالاً بإبطالها وقتلها في مهدها. أما هم فلا أؤاخذهم على عدم دعوتهم إياي للمخابرة في مثل ذلك، إذ ليس من علاقة ود بيني وبينهم، وقد اشتهرت عداوتهم لي منذ حداثتنا، إذ كنا معاً في مكتب المرحوم الشيخ محمد صالح، حسداً من نجاحي وتقدمي عليهم، وميل الأستاذ إليّ أكثر مما إليهم. فمنذ ذلك الحين لم تألف أخلاقي أخلاقهم الفظة، ومع ذلك كنت أحبهم ولا أزال أحبهم وأتمنى لهم الخير». فأجاب السيد عبد القادر، وقد علا وجهه الخجل: «لا يواخذني سيدي إني لم أفعل ذلك تهاوناً بسيادتكم. حاشا لي أن أنسى أفضالكم عليّ، وإنما إذ دعوني وأخذوا عليّ عهد الكتمان، قلت أتجسس أولاً أفكارهم فإن وجدتها حسنة كان خيراً، وإلا فإني أطلع عليها شيخي وأستاذي. وهكذا فعلت. فإن كان ذلك الخطأ مني فأرجوكم السماح لأن من دأب الإنسان الشطط وارتكاب الغلظ». أجابه: «حماك الله يا ولدي، وإني أقبل عذرك وأحمد فكرك. والآن أرى أن ندعو ابن أخي الحاج قدور ونطلعه على ذلك لمساعدتنا في هذه المسألة، فإنه ولو كان حاد المزاج وعنده نوع من التسرع مما يدعوه البعض طيشاً فإنه ذو جسارة وإقدام، وأحياناً تكون آراؤه أفلح من آراء أهل السكينة والرقة، وهو لا يخالف لي أمراً».
فاستدعاه واطلعه على ما كان، فهاج وماج وأقسم بالله والرسول أنه ليهيج عليهم البلد من الشيخ إلى الولد، ويذيقهم شر الوبال ومر الأهوال. ثم قال: «بإذنك يا عمي إني لا أستطيع بعد صبراً حتى أعلم بذلك أصحابي وخلاني». وهمّ بالخروج فأمسكه بيده وقال: «اقعد، هذا لا يناسب في الحال يا ولدي. فبعد إفراغ الجد والجهد في نصحهم وإنذارهم إذا لم يمتثلوا ويرعووا نستعمل لذلك طرقاً أخرى». فوافق وجلس. وبعد المداولة طويلاً أجمعوا على إرسال رسالة نصح وإنذار لهم بما أمكن من الملاطفة والرقة بيد محي الدين بن الشيخ ناصر الدين، تكون أول خطاب لهم وآخره في هذا الشأن، حتى إذا لم ينتصحوا بها يشكوهم إلى من بيده أن يقتص منهم. فأمر الشيخ ولده المذكور أن يأخذ دواة وقرطاساً ويكتب ما يمليه عليه. فكتب ودفع الشيخ الكتابة إلى السيد عبد القادر لينقدها ويجلي ما غمض منها ففعل. وهذا هو نصها:
«بسم الله الرحمن الرحيم، أيها السادة العلماء الأعلام والإخوان الأدباء الكرام، الشيخ علي وصحبه المجتمعون لأجل انتقاد رسالة النصراني الواردة على أحدكم الشيخ أحمد عبد الهادي، السلام عليكم ورحمته وبركاته. أما بعد فإننا قد أطلعنا بواسطة من يوثق بهم على ملخّص مفاوضاتكم ومباحثكم بشأن تلك الرسالة، فاستبان منها أنكم انحرّفتم عن المنهج القويم إلى ضلال النصرانية الوخيم، فكيف تقبل الاعتقاد بأن الإله قد صار إنساناً (وأي إنسان؟) مهاناً محتقراً مقتولاً بأيدي اليهود، وأن هذا القتيل أضحى مخلّص العالم ومحيي النفوس بموته. فهل من ذي عقل وعلم يقبل مثل ذلك؟ فيا مسلمو وتربية العلماء الفاضلين إياكم والغرور بكل ما هو مكتوب ومسطور، فلكم من أتقياء ضلوا عن منهج الصواب ببيان حكمة الكتاب. نعم إن التوراة والإنجيل هما الكتاب المنزل من الله عز وجل على أمتي اليهود والنصارى، ولكن تحريفهما في ما يختص بالمسيح وصلبه المزعوم هو ظاهر لعيني كل بصير (أولاً) لعدم لياقة ذلك بالله سبحانه وتعالى. (ثانياً) لأنه تعالى يقول في كتابه العزيز (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) ليس إلهاً بل رسولاً من الله لقومه. كأحد أنبيائه ورسله المقربين. هذا وألا تعلمون يا إخوان أنه لا يمكنكم التدين بالنصرانية بدون أن تنكروا القرآن المنزل على قلب سيدنا نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهل حقاً وصلتم إلى هذا الحد من الضلال الجالب عليكم لا ريب خسارة الدارين؟ وقاكم الله من ذلك. ثم وإن أكن في أعينكم غير مستحق أن تطلعوني على تلك الرسيلة وتدعوني للاشتراك معكم كأخ بالمفاوضة والبحث بشأنها، أرى من واجباتي كمسلم مؤمن بالله وبالرسول. وكأخ محب لكم أن أقدم لحضراتكم رسالة النصح هذه. وليكن مؤكداً لديكم والله شاهد إن ما قد بلغني عنكم من هذا القبيل قد أضرم في فؤادي نار أسف وكدر لا يعبّر عنهما - كيف لا وجماعة من المسلمين نخبة علماء الدين وقدوة المؤمنين في الفضل والتقى قد كادوا يضلون عن سواء السبيل إلى قفر الأضاليل، بكليمات طفيفة وجمل سخيفة من بعض المشركين، وهل من مسلم غيور يتقاعد عن مد يد ساعد الجد لإنهاض إخوانه من وهدة الضلال والإغواء؟ أيقنوا يا إخوان أن إخلاصي لكم وغيرتي على دين الإسلام السليم بعثاني الآن على إرسال هذه الكلمات إليكم، فهل لكم حفظكم الله أن تقبلوا نصح أخيكم هذا وتنبذوا الأوهام الباطلة والوساوس الشيطانية من جراء تلك الرسيلة الشنعاء، مكتفين بما أنزل الرحمن عز وجل في قرآنه الشريف أو تبقون «وقاكم الله» متهورين في وهدة هذا الغي المهلك، مصممين على هجر ربوع الدين الإسلامي والذهاب إلى بلقع الدين النصراني، فعليكم بالتأمل بما سيحل بكم لا ريب من البلايا، وما ستكابدونه من المشاق والمتاعب التي يعز عليّ أن أراكم تكابدونها. وربما أخوكم ومحبكم هذا انقلب من ثم كعدو لكم امتثالاً لشرع الله ورسوله. فهل لكم هداكم الله على احتمال ما ذكرت؟.. أتوسل إليكم بحق المحبة الأخوية، وبحق أولياء الله ورسله، ألا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة. وإن حسن لديكم فأكرموا بالجواب حالاً عسى أنه يكون ما يريح فكري ويسر قلبي هذا ما اقتضى لحبكم والله يحفظكم» .
في 10 محرم الحرام سنة 1275
الداعي أخوكم
ناصر الدين عمر
ثم طوى المكتوب ودفعه إلى ولده المذكور آمراً إياه أن يوصله بيده صباحاً إلى الشيخ علي عمر. فقام باكراً وذهب إلى بيت المذكور فلما دخل عليه وأخرج الكتاب من جيبه استعاذ الشيخ بالله، وقال: «الله يعطينا خير هذا المغلف». وما ذلك إلا لأنه عرف طباع الشيخ ناصر الدين وما انطوى عليه من روح العجب والادعاء. وبعد أن تناوله منه وفضه، نظر إليه قليلاً ثم التفت إلى حامله وقال: «شكراً لأخي والدك على ما قد تفضل به علينا في هذه الرسالة البهية من نصائح الحب الأخوي، فأبلغه ذلك عني، وقل له إني بعد اجتماعي بالأصحاب الموجهة إليه أيضاً هذه الرسالة والتأمل فيها، نقدم إن شاء الله لحضرته الجواب». فانصرف محي الدين راجعاً إلى أبيه، وأخبره بما كان من الشيخ علي.
أما الشيخ فبعد أن انصرف محيي الدين انفرد في مخدعه يتبصر في كتاب الشيخ ناصر الدين. فكان تارة يضحك وأخرى يعبس، ثم قال: عجباً كيف لاق له تدوين ذلك بقلمه: ما أسقم قوله «فلكم من أتقياء ضلوا عن منهج الصواب». إن الله سبحانه يهدي بالاولى متقيه وخائفيه. ألعله يعني بذلك الذين اهتدوا من قبل إلى الحق المسيحي إذ كانوا من أولي العلم والتقى، ينذرنا بما سنكابده في هذه الطريق من المشاق والبلايا، وإنه هو ربما يشترك في إذلالنا، أهذه هي المحبة التي يدعيها نحونا؟ إني موقن بالله أنه يهب عباده كثرة النعمة مع البلية حتى يستطيعوا احتمالها. ما أشقى العالم وما اقسى قلب الإنسان. نجنا يا رب من بغي الناس، وزدنا اللهم نوراً ونعمة لنمسك بحقك حتى النهاية». ثم عاد فقال: «مسكين ناصر ما أغباه. كيف يقول عن تلك الرسالة الغراء ذات الأدلة الراهنة والحجج الدامغة أنها كليمات طفيفة سخيفة يا لروح التعصب والادعاء المشئوم. أبدون أن يطلع عليها يحكم عليها هكذا؟»
هذا وأما ما كان من السيد إبراهيم مصطفى فإنه بعد انفضاض الجلسة الثانية جاء إلى بيته وقلبه طافح من السرور مما جرى في تلك الجلسة، ثم أخذ التوراة والإنجيل والقرآن ونظر في الآيات المشاكلة فيها واستخلص منها جدولاً ظريفاً في ما يختص بالمسيح بن مريم وهو كما ترى:
Table 1.
التوراة | الإنجيل | القرآن |
«وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»(إشعياء 7: 14). «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6) | «هُوَذَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً، وَيَدْعُونَ ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا)» (متى 1: 23) «فَقَالَ لَهَا ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَ ٱلْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُّوَةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ (لوقا 1: 30 و31 و34 و35) | «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ» (سورة آل عمران 3: 45 و46) «قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (سورة مريم 19: 20 و21) |
«قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ» (مزمور 110: 1) «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا 5: 2) | «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا»(يوحنا 1: 1 و14) «هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ» (كو 1: 17) «وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ ٱلْحَقَّ »(1 يو 5: 20) «وَلَهُمُ ٱلآبَاءُ، وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (رو 9: 5) | «إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» (سورة النساء 4: 171) «ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» (سورة الحديد 57: 27) |
«وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ»(تك 26: 4 و28: 14) «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرٍّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقّاً وَعَدْلاً فِي ٱلأَرْضِ. فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ يَهُوذَا وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيلُ آمِناً، وَهٰذَا هُوَ ٱسْمُهُ ٱلَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ: ٱلرَّبُّ بِرُّنَا»(إر 23: 5 و6) «وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى ٱلْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ إِيَّاهُ تَطْلُبُ ٱلأُمَمُ، وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْداً» (إش 11: 10) | «أَنْتُمْ أَبْنَاءُ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي عَاهَدَ بِهِ ٱللّٰهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ. إِلَيْكُمْ أَّوَلاً، إِذْ أَقَامَ ٱللّٰهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ» (أع 3: 25 و26) «وَأَيْضاً يَقُولُ إِشَعْيَاءُ: سَيَكُونُ أَصْلُ يَسَّى وَٱلْقَائِمُ لِيَسُودَ عَلَى ٱلأُمَمِ. عَلَيْهِ سَيَكُونُ رَجَاءُ ٱلأُمَمِ» (رو 15: 12) | «ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً»(سورة الانعام 6: 154) «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ» (سورة الأنعام 6: 156 و157) «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (سورة المائدة 5: 47) |
«وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إش 53: 12) «قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ»(مز 22: 16 و17) | «فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. وَضَفَرَ ٱلْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ»(يو 19: 1 و2) «وَكَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَتَمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (مر 15: 25 و27 و28) | «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ» (سورة آل عمران 3: 55) |
«لِذٰلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَٱبْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضاً يَسْكُنُ مُطْمَئِنّاً. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً» (مز 16: 9 و10) «تَحْيَا أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ ٱلْجُثَثُ. ٱسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ ٱلتُّرَابِ (إش 26: 19) اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ ٱلأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ ٱلأَرْضِ مُلْكاً لَكَ» (مز 2: 8) | «فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ. وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (يو 19: 30) «وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ» (يو 19: 33) «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ ٱلْحَيَّ بَيْنَ ٱلأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا لٰكِنَّهُ قَامَ!» (لو 24: 5 و6) | «وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» (سورة مريم 19: 33 و34) «بَل رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْه» (سورة النساء 4: 158) |
وبعد أن أنهى هذا الجدول وتأمله تنهد وقال: «يا للعجب والدهشة ما هذه المطابقة المدهشة بين التوراة والإنجيل، والمقارنة المعتبرة بينهما وبين القرآن من جهة كون المسيح ابن مريم آتياً من الله مماتاً في الجسد مبعوثاً من الموت؟ كيف أن علماءنا يتلون القرآن كثيراً ولا يبصرون هذه الأمور الجلية. وعلى الأقل لا يلحظون الدلائل الصريحة في مثل هذه الآيات على سمو المسيح على الأنبياء والمرسلين كافة، ولماذا أكثر اللوم على الآخرين، وأنا قد درست القرآن مرات لا تُحصى ولم أنتبه إلى هذه الجواهر الكريمة، أشكرك اللهم يا هادي الضالين ومنير الكفيفين أنك هديتني وأنرتني فزدني ربي نوراً وهدى واهد جميع خلقك صراطك القويم. آمين. ثم قام وجاء إلى الشيخ سليمان وأراه ذلك الجدول قائلاً له: «انظر يا سيدي قد رأيت هنا أموراً مدهشة عجيبة» فأخذه منه وبدأ يتأمله ولوائح السرور تطفح على وجهه البشوش، لأنه كان قد عرف هذه الأمور قبلاً. فلم يبق عنده أقل ريب بسلامة الكتاب وبكون المسيح بن مريم هو أيضاً ابن لله فادي الخطاة، ولكنه فرح وسر كثيراً مما رآه أمس من السيد إبراهيم في مناظرته مع عمر أفندي، ومن اطلاعه على هذا الجدول الدال لا محالة على حسن تعقل المذكور وسرعة إدراكه الحقائق ونباهته الغير الاعتيادية. ولأن ذلك قوّى أمله بأن الجميع متى رأوا هذه الحقائق يتمسكون بها. ولما انتهى من التأمل فيه التفت إلى السيد إبراهيم وقال له: ما كنت أظن جنابك، بوقت وجيز كهذا تصل إلى هذا الحد من اختبار الكتاب المقدس وإدراك كنه هذه المسألة الخطيرة على هذه الصورة، فالحمد لله المرشد الهادي. حقاً إنّ قلبي مفعم سروراً وابتهاجاً لإدراكك هكذا سريعاً هذه الأمور، وشكراً على هذا الجدول اللطيف المفيد فأرجو أن الجميع يرون كما رأيت. نعم يا أخي إنّ هذه المطابقة والمقارنة هي كلية الاعتبار، وما الآيات بشأن المسيح في الكتاب والقرآن إلا جواهر كريمة ضمن غلاف من القرطاس والجلد. وكم من الجهلاء بالجواهر وقيمتها إذ عثروا على واحدة منها ازدروا بها وأهملوها، وإذا هم على فرض رأوها جميلة والتقطوها باعوها بأبخس الأثمان حمقاً وغباوة. فهكذا كثيرون يتلون الكتاب تكراراً ولا ينتبهون إلى ما يتضمن من الجواهر الكريمة والعقاقير الشافية من أمراض الخطية رغم شدة حاجتهم إليها. وربما لذذوا أنفسهم بترنيم كلامه بأصوات رخيمة مهيجة للإحساسات الروحية بدون التفاتهم إلى غايته ومعانيه الأكثر فائدة ونفعاً. إنما بذلك لأشبه بمن يشم رائحة الورد والأزهار العطرية ثم يلقيها إلى جانب غير ملتفت إلى ما فيها من الخواص النافعة والفوائد الثمينة. فحقاً يا أخي أن هذه المطابقة بين التوراة والإنجيل وما كاد يكون كالمطابقة بينهما وبين القرآن من جهة المسيح من حيثية لاهوته وناسوته وإتيانه بمعجزات خارقة العادة وموته بالجسد وقيامته العجيبة، تدل لا محالة المطالع النبيه على غرابة هذا الشخص الكريم. وما القرآن من جهة هذه الأمور إلا كشهادة لما قيل وأنزل في الكتاب عن سمو شخصية المسيح على كل البشر، وكيانه روحياً قبل تجسده وعن موته وقيامته. فانظر أنه شهد للإنجيل مما بيد اليهود والمسلمين شهادتين من كتابين بيد أمتين عظيمتين مضاديتن للنصارى، الواحدة سابقة والأخرى لاحقة. الأولى تشهد لما سوف يأتي والأخرى تشهد لما قد أتى. على أن الكتاب غير مفتقر البتة إلى شهادة القرآن، إذ له من البينات الراهنة على كونه كتاب الله لا ريب فيه ما يكفي للبصير المخلص» .
وإذا كان القرآن ينكر ألوهية المسيح فما باله يقول: «كلمة الله وروح منه» ماذا يعني بذلك؟ أي نبي قيل عنه هكذا؟ ولماذا أفرد عيسى بهذا النسب الإلهي دون جميع الأنبياء والمرسلين؟ ألا أن ذلك على الأقل هو كوسيلة لفتح العين واقتياد البصير إلى اعتبار نص التوراة والإنجيل بخصوصه؟ أيكشف لنا القرآن عن بعض أطراف المسيح وينهانا عن كشف الستار عنه كي لا يرى كماله الإلهي، أو يرينا إياه من وراء حجاب يستره كما يرى كمال قرص القمر محتجباً في بدء هلاله، ويمنع من إزاحة ذلك الحجاب كي لا يرى كما بهاء ذلك البدر المنير؟ ومن يرضى بذلك، لأنه مع كونه يوجد فرق حرّفياً بين القول ابن الله والقول كلمة الله وروح منه أو روح الله يوجد بينهما تقارب كلي في المعنى والجوهر، بل لأقولن هما شيء واحد. ثم إن كان الله سبحانه سر هكذا أن يرسل كلمته لتتجسد، ويبذل قدوسه للموت بالجسد فداء عن البشر وفاء لحق عدله تعالى، وأعلن ذلك في كتاب مبين، فمن نحن حتى نكذب الله وكتابه بداعي أن ذلك لا يوافق العقل ولا يليق بجلاله تعالى؟ أيحق لنا نحن البشر الفاسدون الجهلاء أن نقيس حكمة الباري بمقياس العقل الإنساني؟ أيعرف بذات الله سواه؟ أليس أن ما يرتاح إليه العقل أن يقبل المخلوق بخضوع وتواضع ما أعلن له من لدن خالقه متى تأكد له ذلك بالدليل والبرهان وما هي عقولنا حتى يمكنها إدراك ماهية أعمال الحكمة الإلهية والقدرة الأزلية؟ أيرفض العليل العلاج حتى يفهم أعمال الحكمة الإلهية والقدرة الأزلية؟ أيرفض العليل العلاج حتى يفهم ويعرف كيف صنعه الطبيب ومن أي الأنواع ركبه؟ بل جل احتياجه أن يعرف مهارة وأمانة ذلك الطبيب ويقبل الدواء من يده ويستعمله حسب إشارته. هكذا علينا كعبيد الله أن نؤمن مصدقين بما أنزله وأعلنه لنا سبحانه في كتابه العزيز بدون أن نقول كيف وكيف، حال كونه تعالى على كل شيء قدير فالحق أوضح من أن يبين أن المسيح ابن مريم هو ابن الله إله وإنسان مات بالجسد وقام وهو حي إلى الأبد، وهو جالس عن يمين الآب يشفع في المؤمنين ، وهو الشخص الفريد العجيب الذي أرسله الرحمن رحمة للعالمين وحياة للهالكين. ثبت الله قلوبنا آمين».
أما ما كان من السيد إبراهيم فإنه كان في أثناء هذا الكلام غاية في الإصغاء والابتهاج. ولما انتهى الشيخ سليمان من كلامه قال له: «شكراً لك يا مولاي على هذه الجمل اللذيذة المفيدة».
وفي الصباح أتى الشيخ علي ثم الشيخ محمود ثم الشيخ عبد الحليم والشيخ أحمد عبد الهادي والسيد عمر كل على حدته، فعرضا عليهم الجدول المذكور، وتخابرا معهم ملياً، فوجداهم على ما يرام كأنهم بقلب واحد. ثم اتفقوا معاً أن يخطب بهذا الشأن في الجلسة القادمة السيد إبراهيم لظنهم أنها تكون آخر اجتماعاتهم بشأن سلامة الكتاب وصحته.
ولما كان الأجل المعين للاجتماع اجتمع العلماء المذكورون نحو الساعة السابعة في منزل الشيخ على عمر. وبعد أن استقر بهم الجلوس وقف الشيخ علي حسب العادة وافتتح الجلسة بما يأتي:
«يا سادتي لا يخفى أنه قد أفشي أمرنا، إذ بلغ ذلك جناب الشيخ ناصر الدين عمر، ولا ارتاب من أن حضرته أبلغ ذلك أيضاً إلى بعض أصحابه وذويه خاصة ابن أخيه الحاج قدور الطيش، لاعتماده عليه في أكثر أموره لزيادة قحته وكثرة هذره التي يعتبرها منه شجاعة وإقداماً، لأنه جاءني منه في هذا الصباح كتاب بيد ولده محيي الدين خطاباً لنا كافة، يتضمن نصحاً وتهديداً. ولا ريب أن من قد بلغه أمرنا وعجل في كشف سرنا هو السيد عبد القادر الفصيح، الذي لم يسر بما قد رآه منا في الجلستين الماضيتين، بل قاوم ذلك بكل تعصب. وليس من المستبعد أن يكون قد طعن فينا طعناً حاداً. واعتذاره عن الحضور هذه المرة يؤكد ذلك وأظن أن ذلك هو المانع الذي أشار إليه بقوله يوجد الآن مانع قوي عن حضوري معكم».
ثم نهض السيد عمر الحارس وقال: «لقد صدق الشيخ ناصر الدين وأجاد بقوله، كما أنه جدير بمن يشرع بمشروع ما أن يقدر العواقب يحسب للخسارة حساباً. كذلك إن كنتم حقاً (لا سمح الله) مصممين على هجر ربوع الدين الإسلامي إلى آخر أقول أنه على الإنسان مراعاة ثلاثة أمور والقيام بها مهما كلفه ذلك من الخسران والتعب (الأول) عدم اكتفائه بما قد ربي ونشأ عليه من الدين والمذهب، وبذل جهده في البحث والتنقيب برغبة وإخلاص فيما يفتحه الله عليه من المسائل الدينية، بالاستناد التام على المولى سبحانه وطلب الهداية والإرشاد من لدنه جل وعلا. (الثاني) ابتغاء مرضاة الله وتفضيل طاعة الخالق على طاعة المخلوق. (الثالث) تجنب الهوى والغرض والتزام حدود الحق والإنصاف. فأخوكم هذا العاجز الحقير قد صممت مذ عرفت العالم أن لا أتبع الهوى ولا أجاري الغرض مهما جرى. أسألك اللهم أن تثبت قلوبنا بمحبة حقك لنتمسك أبداً بعروتك الوثقى عاملين بسرور مرضاتك وإرادتك».
ثم وقف السيد مصطفى الحقاني وقال: «إن ما قد فاه به أخونا السيد عمر هو لقرين الصواب، فإن كنا رجالاً فنعرف الأفضل ونتمسك به، ودع التقادير تجري في أعنتها. على أني موقن بالله أنه لا يهمل المتوكلين عليه. وما يسمح به أحياناً من حلول البلايا على عبيده فهو إما تأديب لهم أو امتحان لإيمانهم، ويؤول ذلك لخيرهم ونيل بركة منه تعالى. فلنتقوّ يا إخوتي بالرب ولنتشجع وهو يفعل ما يشاء. فإن حسن لديكم دعونا نرجع الآن إلى الحديث الذي تركناه في الجلسة السابقة، وبعده ترون في أمر مجاوبة كتاب الشيخ ناصر الدين».
فقال الشيخ فكري: «يا سيد مصطفى، إننا نستغني عن مراجعة الماضي من الحديث أو النظر فيه على نسق ما سلف لأن ذلك يستغرق وقتاً على ما لا اضطرار إليه أيضاً. ولست أظن أن مآله برح من ذهن أحد منا. إنما الواجب الآن النظر في الحكم من جهة تلك الأمور التي وقع عليها البحث، ثم النظر في الحكم من حيثية الدعوى بتحريفه فماذا ترون؟».
عند ذلك وقف السيد إبراهيم وقال: «إن للحق دلائل لا تخفى على النبيه، فبناء على ما تقدم من الأدلة الراهنة والبينات السديدة على سلامة وصحة التوراة من شوائب التحريف والتغيير أقول قد تقرر ورسخ في ذهني كما لا ريب في أذهانكم النقية أن التوراة الموجود الآن هي كتاب الله لا ريب فيه المنزل على أنبياء الله ورسله رشداً وهدى لبني إسرائيل، لم يشبها تغيير ولا تحريف. وبناء عليه كل ما قيل فيها وذكر من الأنباء عن سيدنا المسيح هو حق لا سبيل إلى إنكاره بوجه ما، وما يخال فيها من صعوبة الفهم لا يستلزم رفضها، بل يستلزم البحث عنه في الكتاب بجد وإخلاص، بالاستناد على عون البارئ وإرشاده. فلا يخفى عليكم أن المعادن الثمينة والجواهر الكريمة لا تستخرج من معادنها إلا بإفراغ الجد والجهد، وألا يكون أحمقاً وجاهلاً من يحكم أن لا ذهب في تلك المناجم بناء على صعوبة حفرها. فالأفضل أن نشمر عن ساعد الهمة مجردين الفكرة للبحث في القضايا الدينية والحفر بآلة العقل وأداة البصيرة في هذا المنجم الذهبي، لنستخرج منه بعون الله ما يغنينا ويزين أنفسنا إلى الأبد». ثم طرح الجدول الذي عمله أمام الجماعة وقال: «انظروا سادتي إلى هذا الجدول، استخرجته من التوراة والإنجيل والقرآن، تأملوه جيداً واعجبوا من المطابقة الكلية بين التوراة والإنجيل بخصوص لاهوت سيدنا المسيح وناسوته وصلبه وموته بالجسد فداء عن البشر وقيامته، وكذا بين الكتاب والقرآن بخصوص كيان عيسى المسيح روحياً قبل ولادته من البشر وولادته من عذراء، وسمو طبيعته واقتداره على الأنبياء والمرسلين كافة. والحق أن الكتاب لا يحتاج البتة إلى شهادة كتاب آخر لأن له من الشهادات والبينات ما يكفي لبيان كونه كتاب الله لا ريب فيه، وإنما شهادة القرآن هذه هي مفيدة لمثلنا، ولذلك قد آتيتكم بهذا الجدول لكي تروا فيه على وجه أقرب المطابقة الكائة بين الكتاب والقرآن في أمر ولادة المسيح وموته، وكونه كلمة الله، والمقارنة المعتبرة بينهما مم حيثية نسبة المسيح لله إذ الكتاب يقول عنه انه كلمة الله وابنه وأنه أزلي، والقرآن يقول أنه كلمة الله وروح منه، فترون حضراتكم أنه ليس من اختلاف بينهما إلا من حيثية الصراحة بلاهوته ونوع موته وغايته والفائدة الحاصلة من ذلك. فالكتاب المقدس بنبئ بذلك على طرق شتى وأنواع عديدة، تارة بالتصريح والإفصاح كما قد رأينا في ما مر، وأخرى بالإشارات والكتابات والرموز التي لا تصدق إلا عليه، وقلما يوجد سفر في التوراة إلا ويحوي نبوة إو إشارة إلى المسيح كفادي البشر، وبعض أسفاره مشحونة من هذه الأمور. والإنجيل ما هو إلا خبر أو إشارة عن مجيء هذا الكريم وعمله كما أنبأ أنبياء الله الصالحون. والقرآن مع كونه يرفع المسيح فوق البشر والأنبياء قاطبة بولادته من عذراء ونسبته الغريبة لله وكمال صلاحه وإتيانه بمعجزات، ينكر صريحاً لاهوته وموته بالجسد. فيا سادتي إن التسليم بسلامة الكتاب من التحريف والتغيير يستلزم لا محالة الإيمان بما أنزل الله فيه بدون التفات إلى ما قيل في غيره، وما إنكاره لاهوت المسيح وصلبه عن العالم وموته وقيامته إلا إنكار الكتاب الذي غايته المسيح فادي البشر، وما هي يا ترى غاية القرآن بقوله عن عيسى أنه كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم؟ لماذا تفرد عيسى بهذا النسب الإلهي والأوصاف الغريبة، إلا أن ذلك من الأدلة الراهنة على سمو هذا الشخص؟ وإذا كان القارئ قد حصل على انتباه عظيم هكذا من مثل هذه الآيات القرآنية الدالة على سمو طبيعة عيسى وغرابته، وضاق ذرعاً عن المعرفة الشافية به إذ لم يرو له غليل لعدم وقوفه على الأسباب والدواعي لذلك، فعليه بالتوراة والإنجيل المدلول عليهما من القرآن والمشهود لهما فيه، فيكشفان له الغطاء عن هذا السر الباهر. هناك يجد المبادئ الأولية التي تأتي بعقل العاقل إلى معرفة المسيح شيئاً فشيئاً، كما يرى من نسق التوراة في أسفارها التاريخية والنبوية والشعرية - هناك يرى الأساسات الراسخة البينة التي وضعها الرحمن لبناء عمل الفداء بشخص ابنه الوحيد - هناك يرى بوضوح وجلاء ما هو من ذاك الذي وُلد من عذراء ودعي كلمة الله ويتحقق أنه ابن الله وإله قدير أزلي أبدي. هناك يرى المقول عنه أنه روح الله جوهر إلهي جوهر الله ذاته. هناك يرى المقول عنه «يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين ابتعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة» إنه هو المسيح ابن الله المبذول من أبيه لأجل خلاص العالم، ومقام من الأموات ومرفوع إلى السماء مطهراً من ضعفه بالجسد. وجاعل الذين اتبعوه أي الذين آمنوا به واتبعوه كمخلّصهم وراعيهم وقائدهم إلى السماء فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة بل إلى الأبد. فها قد وضح لديكم أيها الإخوان ويا ذوي الألباب من مفاوضتنا ومباحثتنا الوافية، ومن هذا الجدول المختص المطروح لديكم سلامة التوراة والإنجيل من شوائب التغيير والتحريف. هما كتاب الله قبلاً والآن وبعد. وعليه فالمسيح ابن مريم هو ابن الله مخلّص البشر كما هو معلن فيه. فلنقبل يا إخوان إلى مسيح الكتاب ولنتمسك به بكل القلب والعزم. والرحمن الذي قد بذل وحيده لأجلنا هو يساعدنا ولا يهملنا» .
وبعد أن جلس أثنى عليه الجميع لأجل هذا الخطاب الوافي الكافي، وقال بعضهم لبعض، بناء على البحث والمفاوضة في الجلستين السالفتين، وعلى ما قد فاه به الآن السيد إبراهيم والجدول الذي نرى أن لا حاجة بعد إلى البحث بشأن صحة الإنجيل، إذ قد اتضح لنا جلياً أنه هو والتوراة كتاب الله الحي، لم يشبه تغيير ولا تحريف. وبعد مفاوضة نحو نصف ساعة اعترف الجميع بإيمانهم بالمسيح فادي البشر.
ثم وقت الشيخ علي وقال: «يا سادتي الأحباء، بما أنه لا يسعنا الوقت للتمتع لذة المفاوضة في هذا الاجتماع، فيلزمنا حسب ما تقرر أن نرسل اليوم جواباً إلى الشيخ ناصر الدين. ولخوفي من عدم تمكننا بعد من اجتماع آخر هذا رأيت أن أخاطبكم لربما الخطاب الاخير في اجتماع مبارك كهذا - إني أحمد المولى سبحانه الذي مكننا من ثلاثة اجتماعات أعدها من أفضل وألذ أوقات حياتي السالفة، بها قد تفاوضنا وتباحثنا ملياً بإخلاص واتفاق تام فيما يختص بالله لخير النفس الثمينة. فيا أحبائي إننا بعد المفاوضة والمناظرات الوافية في اثناء هذه الاجتماعات رأينا ولله الحمد سلامة كتابه العزيز من شوائب التغيير والتحريف، سوى ما وقع سهواً في بعض النسخ والترجمات، من قبيل الضعف الإنساني وتباين المترجمين، وهو كما لا يخفى مما لا يمس قط القضايا الجوهرية فلا يعتد به إذ لا يجعل أدنى نقص أو خلل في غاية الكتاب وقصده. وما يستحق كل اعتبار هو المطابقة المدهشة بين التوراة والإنجيل. مطابقة تجعلهما كتاباً واحداً. وشهادة القرآن لهما وموافقته للإنجيل فيما يختص بالمسيح على نوع لا يبعد كثيراً عن مفاد نص الإنجيل الصريح، فما القرآن بالنظر إلى ذلك إلا كمن يسقي العطشان قطرة من ماء عذب جداً فلا يرويه، بل يهيج فيه العطش أكثر فأكثر، ويعظم اشتياقه إلى ورود الينبوع الذي منه استقى هذا الماء، وله الفضل لدلالة هذا الظامئ على ذلك الينبوع، كتاب الله بقوله: «إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا.. ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على التي هي أحسن.. وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل». فترون حضراتكم أن الإنجيل بينهما المشهود له من كليهما يعلن لنا جلياً مجيء هذا الشخص العجيب والفادي الكريم، طبقاً لما أنبأ عنه أنبياء الله الصالحون. فبهذه الطريقة يجد الإنسان سلاماً حقيقياً مع الله، ويرى اتفاق صفتي العدل والرحمة في الله جل جلاله كما يصرح أحد الإنجيليين بقوله «أن الناموس بموسى أعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا». فإن كنتم يا إخوان قد اعتنقتم حقاً كتاب الله وآمنتم بمسيح الله مخلّص نفوسكم، فتعالوا بكل قلوبكم ونفوسكم واضعين عليه كل رجائكم وهمومكم، وحسبكم بر من الله ربكم أنه أنارنا بنور حقه، وعرفنا بمخلصنا وحياة نفوسنا، ولنتمسك يا أحباء بالحق الذي أعلنته لنا العناية الإلهية لخيرنا وحياتنا، واحمدوه تعالى كل الحمد الذي حرك غيرة محبة ذلك المسيحي التقي حتى أتحفنا بتلك الرسالة المباركة التي أضحت بنعمة الله على إنارتنا ووسيلة اهتدائنا. ليجازه الرب عنا خير الجزاء. وأختم كلامي لكم بهذه الكلمة: جاهدوا يا إخوتي كأبطال أمناء جهاد الإيمان الحسن في سبيل حق الله ضد كل تعليم باطل وغرور دنيوي. سيروا باسم الله في هذه الطريق الصالحة التي فتحتها لكم يمين الله العلي غير مبالين بشيء وإن سمح الله وفرق الناس بيننا وأعدمونا لذة الحرية والاجتماع معاً في الحياة الدنيا، فلا يقدرون أن يفرقوا بيننا في عالم السماء، ومن يزرع بالدموع يحصد بالفرح، وربنا الكريم الذي دعانا إلى ملكوت ابنه وأرشدنا إلى سبيله هو يحفظنا ويثبتنا وهو حسبنا ونعم الوكيل» .
وفي أثناء هذا الخطاب كثيراً ما كانت دموع الشيخ علي تصحب أكثر كلماته، فأثّر ذلك وأي تأثير في قلوب الحاضرين، حتى بكى أكثرهم. وبعد أن فرغ من الكلام وجلس، أثنى عليه الجميع وعاهدوه على التمسك بالإنجيل والمحافظة على حق المسيح حتى الموت، ثم أخذوا يتداولون في أمر مجاوبة الشيخ ناصر الدين. وأخيراً التمسوا من الشيخ علي أن يجاوبه بلسان جميعهم بما يستحسنه، فكتب الجواب وقرأه عليهم وهو:
أيها الأخ المكرم الشيخ ناصر الدين عمر، جزيل الوقار والاحترام.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نبدي لحضرتكم لقد تشرفنا برسالتكم رقم 10 محرم فكل ما أشرتم به صار قرين الأفهام. فأولاً نشكر من كل قلوبنا حبكم لنا وغيرتكم على إخوانكم هؤلاء. وثانياً نقول أن قول حضرتكم أنه قد بان لكم مما فهمتموه وعلمتموه.. أننا انحرّفنا عن المنهج القويم إلى ضلال النصارى الوخيم، وتعجبكم من أننا كيف نقبل الاعتقاد بأن الإله صار إنساناً إلى آخر القول بهذا الشأن، ثم نصحكم لنا أن ننبذ عنا هذه الأوهام، وتنبيهكم إيانا إلى ما سيحل بنا من البلايا وما سنكابده من المتاعب والمشاق إذا تدينا بالنصرانية.. فنجيب على ذلك: حاشا لنا أيها المحترم أن ننحرّف عن المنهج القويم، إنما آثرنا الجد بالبحث فيما يختص بالتوراة والإنجيل، لنرى هل حقاً تغيرا أو تحرّفا أم لا. فبعد فراغ الجهد في ذلك بكل تبصر وتأمل رأينا أيها الأخ أن هذا الكتاب المشهود له من القرآن لم يشبه شيء من ذلك كما كنا نتوهم، بل لم يزل كما كان منذ إنزاله بروحه وغايته وقضاياه. فبناء عليه قد عزمنا بنعمة الله أن نتخذه لنا دستوراً وقانوناً في الإيمان والعمل مؤمنين بما أنزل الله فيه، ولسنا بذلك مبتدعين أو متبعين بدعة ما، إنما نحن متبعون ما أنزل البديع سبحانه في كتابه نوراً وهدى لنا من ربنا. أما كون الكتاب ما تحرّف قط فلذلك أدلة وبراهين لا ترد. إن شئتم تشريفنا فنبسطها لديكم، وبما أنكم تعلمون حفظكم الله أنه يبتغي إطاعة الله أكثر من الناس ومحبته فوق كل شيء، لذلك لا نستطيع أبداً مقاومة الضمير بترك جانبه تعالى وإهمال كلامه حباً بالدنيا والأصحاب. أما على تنبيهكم إيانا إلى ما يرجح أنه سيصيبنا من الاضطهاد والخسران الزمني بسبب تمسكنا بتعليم الكتاب فنقول أن هذا منتظر، وله عندنا حسبان كبير. نعم إننا بشر وليست أجسادنا حجراً لا تحس ولا تتأثر، ولكننا نؤثر رضى الله على رضى الناس وشرف التمسك بحقه تعالى وراحة الضمير بعبادته حسب الكتاب على شرف الدنيا ونعيمها. ويهون علينا الموت بحب الرحمن أكثر من الحياة بغيظه. وبكل أسف قرأنا قولكم أنه ربما حضرتكم أيضاً تنقلبون عدواً لنا، فلماذ يا صاح؟ أما نحن بشر خليقة الله، فهب أننا ضللنا هل ينبغي أن تعادينا وتسعى في أذيتنا، أم تسعى ما أمكن في هدايتنا بالتي هي أحسن؟ إننا من كل القلب نرغب أن ترينا ضلالنا بطريقة الدليل والبرهان، فنضحي بغية الامتنان إذ ليس من الهين مبارحة الأصحاب والأحباب واحتمال ما يعسر على الطبيعة احتماله، فليتكم تتنازلون إلى ذلك، وإلا فإنا لله وإنا إليه راجعون، عليه توكلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
في 12 محرم سنة 1275
الداعين إخوانكم
علي عمر وأصحابه
فاستحسن الجميع هذا الجواب وغلقوه وأرسلوه بيد خادم الشيخ علي، ثم صلوا إلى الله طالبين عونه على احتمال ما لربما يصيبهم من الإهانات والضيقات بسبب إنجيله. وأن يزيدهم نعمة وفهماً ليستطيعوا أن يشهدوا لحقه على ما ينبغي بدون خوف ولا استحياء، ثم انصرفوا إلى بيوتهم.
وأما ما كان من أمر الشيخ ناصر الدين والسيد عبد القادر فإنهما كانا قد اطلعا على هذا الأمر كثيرين من أصحابهما المشايخ فاجتمعوا تلك الليلة في بيت الشيخ المذكور منتظرين بفروغ الصبر جواب الشيخ علي ورفاقه، وإذا قبيل العشاء قد دخل عليهم حامل الجواب، فدفعه إلى الشيخ ناصر الدين ورجع إلى حال سبيله، وأخبر سيده بذلك المجتمع، فقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم جعل الله النهاية خيراً». أما الشيخ فلما قرأ الجواب على مسامع الحاضرين، وتيقنوا من تنصر أولئك العلماء، هاجوا وماجوا وأرعدوا وأزبدوا، ثم قال بعضهم لبعض: «يا للعجب كيف تهور هؤلاء العلماء في وهدة الضلال واصطيدوا هكذا سريعاً بشرك النصارى، منكرين نبوة وإرسالية السيد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الشريف المنزل من الله سبحانه؟» ثم كبروا وأقاموا الصلاة. وبعد أن صلّوا وجلسوا أخذوا في المداولة بأمر أولئك العلماء.
أخيراً نهض أحدهم واسمه عبد الكريم الصائب وقال: «يا سادتي استميح الاذن من حضراتكم بما أرغب في إبدائه لديكم بخصوص هذه المسألة. نعلم جميعنا أن الشيخ علي وأصحابه المعلومين الذين يبان أنهم صمموا على اعتناق الديانة النصرانية هم ذوو فضل وعلم وحذاقة ونباهة لا يُزدرى بها. وبعضهم من الطبقة الأولى في العلم والفضل، فما نعلمه من الأدلة والبينات على صحة دين الإسلام وعلى تحريف الكتاب هم يعلمونه، وربما أكثر، ولا ريب بكونهم مستعدين لسد هذه الأبواب ودفع كل اعتراض يعترض به عليهم، ويساعدهم على ذلك فصاحة بعضهم النادرة المثال، وما بيدهم من أكثر أنواع الكتب دينية وتاريخية، فلسنا بمنازلتهم مجادلين نصارى بل علماء مسلمين متنصرين، أشد مراساً وأقوى عزيمة، ومن يعلم ماذا تكون تأثيرات هذا الجدال؟ وما أدرانا أن ينتج ضلال مئات من المسلمين، فنكون بعلمنا هذا الخالي من الحكمة أضرمنا ناراً كنا نود إخمادها، وأثرنا شراً كنا نتعوذ منه، فتضحي الضلالة الأخيرة شراً من الأولى، فنندم حيث لا ينفع الندم. لكنني أرى الأصوب إن حسن لديكم أن نختار منا الآن رجلين، أوفر أناة وصبراً، ونرسلهما إليهم الساعة كي يقدما لهم باسم هذه الجماعة النصيحة النهائية، فإذا لا سمح الله ذهب مسعانا هذا معهم سدى، وقابلوا وفدنا ونصحنا بالمكابرة والعناد، نضطر أن نشكوهم إلى الحكومة». فاستحسن الجميع هذا الرأي وعولوا عليه، ثم أخذوا يتداولون بأمر من ينبغي إرسالهما، فأجمع رأيهم أخيراً على إرسال الشيخ عبد الكريم المذكور والشيخ عبد اللطيف جمال الدين، وقالوا لهما: «اذهبا باسم الله، وها نحن لا نبرح من هنا حتى ترجعا إلينا». فذهبا.
هذا ولنرجع في كلامنا إلى أولئك العلماء فإنه بعد إفضاض الجلسة الأخيرة وانصرافهم، فكّر الشيخ سليمان فاضل في أنه لا بد أن جوابهم الذي أرسلوه إلى الشيخ ناصر الدين يولّد حادثاً لا يستخف فرجع وعرض هذا الفكر على الشيخ علي، والتمس منه أن يستدعي حالاً الإخوان للسهرة عنده الليلة لأجل المداولة والمخابرة بشأن ذلك، فاستحسن الشيخ علي هذا الفكر والرأي غير أنه قال: «أرى الأنسب أن يكون الاجتماع هذه المرة في بيت الشيخ محمود، وقبيل العشاء أكون هناك إن شاء الله». فذهب الشيخ سليمان وأخبر الشيخ محمود فدعى المذكور أحد غلمانه وأمره أن يذهب حالاً ويدعو العلماء المذكورين، ولم تكن الساعة الأولى من الليل إلا وكانوا حاضرين، ما خلا عمر أفندي زاكي وحسن أفندي قباواتي، فإنهما امتنعا من الحضور بداعي موانع. وبعد أن تنحوا في غرفة منفردة أخذوا في المداولة بعضهم مع بعض، والتفكر في ماذا يا ترى ينتج من جوابهم إلى الشيخ ناصر الدين. فقال بعضهم: لا بد أن يكون الشيخ المذكور والسيد عبد القادر أعلما كثيرين بأمرنا وأهاجا قلوب ذوات البلد علينا، وقال آخرون: ربما قد قدما شكوانا إلى الحكومة فترسل الليلة للقبض علينا. فقال السيد إبراهيم: لا يبعد أن يكون قد درى كثيرون بأمرنا كما قال الشيخ عبد الحليم، وهم آخذون في التآمر ضدنا، فلا بد على كل حال من وقوع الضيق علينا، إذ ليس للحرية مقام في هذه الديار، ولا للحق محل في القلوب.
فقال الشيخ أحمد عبد الهادي: «لنفرض أن الحكومة قبضت علينا الليلة أو في الغد وفي الحال تعرينا من الأصحاب والخلان وافترى علينا بما بوجب إعدامنا وإبعادنا وسلب أموالنا، فهل نحن مستعدون لمثل ذلك، أم في قلوبنا نية الارتداد والاستتار متى مسنا شيء من ذلك؟ اعلموا أيها الاخوان أن ديانة المسيح لم تقم وتشاد بمداخلة القوى العالمية بل بقوة الله، ومعظم مجدها وبهائها كان تحت ثقل حمل الاضطهاد والإذلال، وحيثما علاها غبار المقاومات وخوف الإهانات كانت تزداد بهاء وعزاء وامتداداً. ألم يقل المسيح له المجد «من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ أستحي به أنا أيضاً قدام ملائكة أبي الذي في السموات ومن لا يحمل صليبه كل يوم ويتبعني فلا يستحقني». وما هو حمل الصليب وراء المسيح إلا احتمال العار والاضطهاد حتى الموت لأجله ولاجل إنجيله، كما حمل معظم ذلك لأجلنا؟ فإن كان بعضنا يا إخوان لا يحب اتباع الرب إلا حال الراحة فذلك خطأ منه، لأن هذه النية مرذولة من الله. ولكن إذا كانت نياتنا مخلصة مع الله بأن نعيش له لا لأنفسنا، مسلمين الإرادة له معتصمين به متكلين عليه، فبدون شك هو يعضدنا ويقوينا بنعمة لنستطيع الاحتمال والثبات في الحق بإزاء أنواع التجارب والمحن. ماذا ترون؟» .
أجاب الجميع: «إننا لا نستطيع إنكار الحق الذي أعلن لنا والرجوع عن طريق الحياة التي وضعنا باسم الله فيها أقدامنا. على أننا ضعفاء فلينعم علينا ربنا بالقوة والنعمة».
فقال الشيخ محمود: «إني حقاً أعجز عن إيضاح مقدار السرور والابتهاج الذي خامر قلبي من جراء ما سمعته الآن من أفواهكم، الدال على انسكاب محبة الله في قلوبكم ومن يستحق يا أحبائي أن تبذل له المهج في سبيل حقه كيسوع الذي أحبنا حتى الموت ليهبنا خلاصاً وحياة ومجداً، ليس في وسع العقل الإنسان تصور سموها وعظمتها؟ أهو أمر عظيم والحالة هذه أن نحتمل العار والضيق لأجله؟ على أن احتمالنا مثل ذلك في سبيل الله يؤول إلى زيادة مجد من ربنا، كما يقول أحد رسله بهذا الشأن «إن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي» فلنتوكل يا أحبائي على الله وهو يكون لنا ولم يكمل كلامه إلا وشخص يقرع الباب، فبادر إليه خادم الشيخ ولما عرفه رجع وقال: «سيدي، إن رجلاً يزعم أنه الشيخ عبد الكريم الصائب يريد مواجهة الشيخ علي عمر وحضرتك». قال الجميع: «لقد أصاب فكر السيد إبراهيم». فدخل هو ورفيقه الشيخ عبد اللطيف جمال الدين، وسلّما كالعادة، فوقف لهما الجميع مرحبين بهما، ثم أجلسوهما أحسن مجلس. وبعد مبادلة التحيات وشرب القهوة قال الشيخ عبد الكريم:
«يا سادتي وإخواني، قد جئناكم الآن مرسلين من قبل إخوانكم رفاقنا الشيخ ناصر الدين عمر والشيخ عبد الرحيم الأموي والشيخ حسين النابلسي والسيد عبد القادر الفصيح - لا يخفى أننا لدى وقوفنا على جوابكم إلى الشيخ ناصر الدين تكدرنا وتأسفنا جداً، كيف أن كراما نظيركم من أفاضل العلماء عمد الدين في البلاد قدوة الخاص والعام يغترون بواسطة كليمات ملتوية من نصراني مشرك بالله، منحرّفين ذهناً وقلباً عن صراط الدين الصحيح والقرآن الإلهي الفصيح إلى دين النصارى الوخيم وضلالهم الجسيم؟ فبعد المداولة طويلاً في هذا الأمر أجمع الرأي على إرسالنا وفداً إليكم حاملين شعائر حبهم لحضراتكم، ومقدمين باسمهم النصيحة الأخوية النهائية بوجيز العبارة، لأن ما قل من الكلام خير من كثرته. إننا لا نقصد الدخول معكم بالمحاورة والمناظرة كون ذلك ليس من تملقات إرساليتنا إليكم، وأكدوا حضراتكم أننا نحبكم كأنفسنا، ولذلك لا نحتمل أن نراكم متخلفين عنا في الدين، ونحرم حلاوة معاشرتكم الشهية. فبكل توسل نطلب إليكم إكراماً لله أن تضمدوا بوفرة حكمتكم هذا الجرح الأليم الذي وضعتموه في قلوب إخوانكم هؤلاء، بل في جسم الأمة الإسلامية كلها. وبحذاقة عقولكم الثاقبة اطردوا من ألبابكم الأوهام والوساوس التي ألقاها إبليس عدونا في صدوركم، ودعونا نرجع معاً إلى ما كنا عليه فنقضي أيامنا بسرور وانشراح في رضى الله ورسوله، وندخل أخيراً جنات تجري من تحتها الانهار، ونحظى معاً بذلك النعم وتلك النفائس التي لا يشوبها فناء ولا زوال».
ثم قال الشيخ عبد اللطيف جمال الدين: «لو كنتم يا سادتي من رعاع الناس لكان أمركم هذا محتملاً نوعاً، ولكنكم من نخبة أشراف الأمة وأرباب العلم والفضل ومثال التقى والصلاح. وهجركم الدين الإسلامي واعتناقكم النصرانية لا يحتمل ولا يهضم، إذ بذلك تصبحون لا ريب عثرة كبيرة وداهية عظيمة، وكما كنتم ملحاً لإصلاح الناس تصيرون واحسرتاه وسيلة لإفسادهم، ومن يقدر على احتمال هذا الأمر؟ وأي مسلم في قلبه ذرة من الإيمان لا ينظر إلى ذلك بعين الكره والسخط؟ فحذار يا إخوان من شؤم هذا الضلال المجلب عليكم خسارة الدارين. ولا تهدموا بأيديكم ما بنيتموه بأتعاب أيام كثيرة. فباسم الجماعة التي أنا رسولها إليكم أناشدكم الله أن ترعوا وترجعوا بسلام عن هذه الطريق الخطرة التي وضعتم أرجلكم فيها من جديد، وكرجال حكماء انهضوا من حفرة الهلاك التي تهورتم فيها إلى بحبوحة الحياة وروضة السلام، يعف الله عنكم أنه العفو الرحيم، فنرجو أن تتكرموا بالجواب الشافي لنرد على مرسلينا الذين هم بانتظارنا».
أجاب الشيخ علي: «قد فهمنا مقالكما أيها الحبيبان، فنقبل بجزيل الشكر غيرة حبكما وحب إخواننا المشايخ مرسليكم، وكنا بأكثر امتنان لو تصرفتم معنا على خلاف هذه الطريقة، وهي أن تدخلوا معنا بالحديث وترونا بالدليل والبرهان ضلالنا الذي تزعمونه. ولو دخلتم لكنتم فعلتم ما هو حري بأهل العلم وأئمة الدين: فهل في شرعكم يحكم على المدعي عليه قبل أن يسمع دفاعه؟ وهل يلام المدعي بدون أن يبرهن له شرعاً بطلان دعواه؟ هل هو حق أن تقولوا على الفور لمدع: باطلة وفاسدة دعواك، قبل أن تبرهنوا له ذلك بوجه شرعي؟ بأي مسوغ شرعي أو أدبي تطلبون منا الرجوع إلى عقيدتنا الأولى تحت التهديد بالشكاية إلى الحكومة إذا لم نجب طلبكم، بدون أن تدخلوا معنا في الحديث وتبرهنوا لنا بطلان دعوانا؟ وهبا يا أخوينا أننا بداعي الخوف من مقاومة الأمة والحكومة التي توهمون بها علينا ارتددنا إلى اعتقادنا الأول منكرين غاية التوراة والإنجيل، فهل تظنون أن رجوعنا بدون أن يتأكد عندنا بطلان ما قد تقرر في أذهاننا يكون رجوعاً قلبياً؟ كلا. بل خارجياً فقط كبعض الكفرة الذين حباً بالنجاح العالمي يتظاهرون بالدين الرائج في البلاد التي يقيمون فيها وبذلك نكون عائشين بالرياء ملومين من الضمير وخازنين لأنفسنا نيران غضب الله يوم لا ينفع فيه والد ولا مولود ولا صاحب ودود» فقال الجميع: «إنّ إيمان الشيخ علي إيماننا وإقراره إقرارنا. على الله توكلنا وهو لنا نعم الوكيل».
ثم قال الشيخ محمود: «نلتمس منكما يا أخوينا الحبيبين أن تتأملا بإمعان فيما قاله الشيخ علي، ولا تعملا على إهلاكنا وخراب بيوتنا إذ لسنا مذنبين إليكم ولا إلى الحكومة والأمة، ودعونا نقضي وجيز العمر بالحرية التي خولها الله للإنسان. وإن تنازلتم لمحاجتنا واقناعنا بالدليل والبرهان نضحي بغاية الامتنان والشكر لأفضالكم، وإلا فليس في إمكاننا مقاومة صوت الضمير بالانقياد عفواً على طلبكم. ارثوا لنا يرثي لكم الله». وهكذا تكلم معهما الجميع، متوسلين إليهما أن يقنعا المشايخ بالعدول عما عزموا عليه من الشكوى للحكومة إلى البحث والمناظرة لساناً أو قلماً. فأجاب الشيخ عبد الكريم: «سنعرض طلبكم هذا إلى أصحابنا، ولكنني لا أراه مقبولاً إنا جئناكم ناصحين فصرتم لنا واعظين ترغبون أن تهورونا حيث تهورتم وتضلونا حيث ضللتم، فهذا لا تطمعوا فيه وعليكم إذا أن تستعدوا لملاقاة الأهوال وشر الوبال قالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يصيبنا شيء إلا بإذن الله تعالى، فإن سمح الله بوقوع البلاء علينا بسبب تمسكنا بكلمة حقه، فلنا وطيد الرجاء أنه يمدنا بعونه لنحتمل ذلك بشكر وصبر».
ثم انصرف الشيخان المذكوران ولوائح الغضب تلوح على وجهيهما العابسين، وبعد انصرافهما كان سكوت من الجميع نحو ربع ساعة، ثم تكلموا قليلاً. فقال بعضهم. «كفانا، ينبغي أن نصلي كثيراً وبأكثر حرارة ليقينا الله من خطر الارتداد وليقوينا على الاحتمال». وحيئنذ أخذ الشيخ أحمد الإنجيل، وقرأ بكل وقار وخشوع من الأصحاح الثالث عشر إلى نهاية الأصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا، فتأثر جميعهم من كلام الرب هذا حتى سالت مدامعهم، ثم جثوا على ركبهم وقدم الشيخ محمود هذه الصلاة:
«اللهم يا بارئ الكائنات وصانع المعجزات والآيات، العالم بما كل وما هو كائن، سبحانك يا محي الأنام من ميتة الخطية بموت ابنك الوحيد بالطبيعة الإنسانية، العلي الذي لا تفحص أفكاره ولا يدرك كنه أسراره، من حارت لديه البصائر وشهدت لعظمته الضمائر، الله بارينا وراعينا، نحمدك ما استطعنا ونشكرك ما أمكننا لإخراجك إيانا من الظلمة إلى نورك العجيب، وإحيائك إيانا بابنك الحبيب، فباسمه الكريم نحن متقدمون على عرش جلالك ومقام رحمتك وكمالك، متضرعون إليك يا أبا الرحمة وإله النعمة أن تجزل لعبيدك نعمتك كي تثبت قلوبنا بإيمان إنجيلك، وتزداد في معرفتك وتمتلئ من حبك ومخافتك، فنشهد بجراءة لحقك. ساعد اللهم عبيدك الضعفاء على حمل ما تسمح أن نلقي في سبيل حقك من المقاومات والآلام. قدسنا ربنا كي نسير حسب كلامك لتمجيد اسمك المبارك بإظهار ثمار ديانتك الطاهرة في سلوكنا ومهابتك، وبارك أصحابنا الذين بجهل أرسلوا ينذورنا أن نرجع عن طريقك ونرتد عن سبيلك. أنر اللهم قلوبهم وأذهانهم كما أنرتنا، واهدهم كما هديتنا، ومتعهم بطيب سلام الإيمان القويم والبر الثمين. وبارك اللهم سلطاننا ومولانا المعظم الذي أوليته عبادك مع وزرائه وولاته وقضاته كافة. ألق خشيتك في قلوبهم يا رب العباد، لكي يسوسوا خلقك بالأمانة والاستقامة وهب عبادك هؤلاء الذي دعوتنا بإنجيلك إلى ملكوت ابن محبتك أن نكون آلات مفيدة بيدك القديرة، إذا شئت أن نعيش بإرشاد واقتياد مئات وألوف إلى حظيرة الخلاص والحياة. لتكن اللهم أذناك الكريمتان مصغيتين لاستماع تضرعات وتوسلات عبيدك هذه، ولتحرز صلاتنا هذه قبولاً لديك باسم وسيط خلاصنا الوحيد وشفيعنا الفريد، ولك اللهم إلهنا القدير العزيز، الآب والابن والروح القدس الواحد السرمد، نقدم السجود والعبادة والمجد والحمد الآن وعلى الدوام آمين».
رجع الشيخان عبد الكريم وعبد اللطيف إلى أصحابهما وأخبراهم بما جرى بينهما وبين العلماء المذكورين، ثم قالا: «إنا لا نرى فائدة البتة من السعي بإرجاعهم بالتي هي أحسن». فذهل الجماعة من ذلك، وقال بعضهم: آه لقد سقطوا سقوطاً ليس منه نهوض. واأسفاه، وقال آخرون: تبا لهم كيف استخفوا بنصحنا وإنذارنا؟ ألم يصدقوا ما أنذرناهم به؟ وقال غيرهم: متى مستهم البلايا وحاقت بهم الأهوال ينكصون على أعقابهم راجعين. فقال الشيخ عبد الكريم: «لا غرو أن يرجع بعضهم متى ذاقوا مرارة الاضطهاد، إلا أن أكثرهم كما أرى لا ينثنون عن أوهامهم ولو قطعوا إرباً إرباً» وبينما هم في الحديث وإذا بالحاج قدور المار ذكره داخل عليهم، وكان غائباً منذ يومين عن البلد لشغل ما، فبعد أن علم وفهم ما قد جرى، هاج وماج وقال: «واعجباه من تقاعدكم أيها السادة. كيف اصطبرتم عليهم للآن ولم تسعوا بقصاصهم ببعض ما يستحقون؟ أيفسدون بالدين ويكفرون بالنبي والقرآن الكريم، ويزرعون الفساد في أذهان العباد وأنتم عنهم متماهلون؟ تتملقونهم بالكلام وتكسبونهم الزمان ريثما يتمكنون من نشر أضاليلهم وتمويهاتهم؟ ألا تعلمون أن هذا الضلال متى حل ساحة الألباب لا يتيسر إخراجه إلا بالسيف الأحدب؟» فقال الشيخ درويش العمري، وقد أزاح عمامته عن جبهته وقبض على لحيته: «لا، بالله كلام الحاج قدور عين الصواب. والله لقد قصرنا بحق هؤلاء الحمقى. دعوني سادتي أذهب الآن وأهيج البلد وأقبض عليهم على حين غفلة وآتي بهم إلى الحكومة صباحاً لئلا يهربوا الليلة أو يختبئوا فيفلتوا من يدنا». فأجابه الشيخ عبد الرحيم: «مهلاً يا حاج. نعم أن غيرتك تستحق الثناء، لكن ما فهت به أخيراً غير مناسب، والجري عليه من باب الطياشة، لأنه ليس في مقدرتنا القبض على أعيان أجلاء نظير هؤلاء، ولا يسوغ لنا ذلك. وهب أن ذلك في حيز الإمكان لا يناسب الآن، لأنه ما أدراك أن يضحي ذلك على انقسام البلد، وداعياً لفتنة دموية تصبح مسئوليتها على عاتقنا أنهم من أشراف البلد وأوفر حرمة واعتباراً وذوي عصبات قوية لا يستخف فمن أعسر الأمور وأخطرها محاولة القبض عليهم. فعندي أن نعرض صباحاً هذا الأمر على قاضي أفندي ومفتي أفندي، وقبل الظهر نعرض الواقع على الحكومة وهي أولى بأمر كهذا. وأحرى بنا وأنسب من أن نبدي تشويشاً واضطراباً لا نعلم ما تكون عواقبه». فاستصوب الجميع هذا الرأي وفوضوا بإبلاغ القاضي والمفتي ذلك الشيخ ناصر الدين والسيد عبد القادر. وأنهم نحو الساعة الرابعة من النهار يحضرون جميعاً إلى دار الولاية ويعرضون الحال لدولة الوالي، ثم انصرفوا إلى منازلهم. وفي الصباح نهض الشيخ ناصر الدين والسيد عبد القادر وأتيا منزل القاضي وطلبا مواجهته وبعد وقت قليل دعيا إلى محل الاستقبال فسألهما القاضي: ما شأنكما يا أخوان؟ فقصا عليه ما كان من الشيخ علي ورفاقه وما جري بينهم وبين المذكورين واجتهدا كثيراً في تهييج خاطر القاضي عليهم بكل ما يمكن من الطعن والافتراء وحضرته صامت عابس إلى أن انتهيا من الكلام. ثم قال بكل رزانية وهدوء إن كان الأمر كما تذكران فهو لخطب عظيم يدعو إلى غاية الأسف والكدر فلا تؤخذاني إذا قلت أنه بناء على وفرة علم أولئك الرجال وتقواهم يصعب عليّ تصديق كل ما قصصتما عنهم ولا يخلو الأمر من المبالغة. أجابا: «لا وحياة رأس المصطفى أننا لم نعرض عليكم إلا الواقع وسوف يتحقق ذلك فضيلتكم». فتنهد حينئذ وقال: «آه واأسفاه واخيرتاه لا حول ولا قوة إلا بالله». ثم قال لهما: «وما فكركما تفعلان؟» قال: «فكرنا أن نعلم بذلك مفتي أفندي ثم نعرض الواقع لدولة الوالي». قال: «أما مفتي أفندي فلا لزم لذهابكما إليه أنا أبلغه ذلك وأما عرض ذلك إلى دولة أفندينا فهو إليكما متى شئتما». ثم استأذنا وانصرفا وكان القاضي من أعقل الناس، فبعد انصرافهما اجتمع بالمفتي ونص عليه الخبر. ثم قال: «لا يخفى أن هذا الفساد هو لداء معد سيما بواسطة علماء مشهورين كهؤلاء إنما لكون بعضهم من أنسبائنا وخلاننا أتحير جداً كيف نتصرف معهم إذا أصروا على رأيهم. حضرتك تعلم أن للمذكورين مناظرين وحساداً كثيرين لؤماء فمتى رأوهم تحت مسئولية خطيرة كهذه لا يتأخروا عن الافتراء عليهم واتهامهم زوراً بما يعجل إعدامهم. فعلى كلا الوجهين الأمر عسر النظر فيه» . فنظر إليه المفتي وإذا عيناه مغرورقتان بالدموع فاستغرب ذلك وقال: «إني شاعر بصعوبة الأمر وإنما لله الأمر أما نحن فمن كوننا مسلمين ووظائفنا ذات أهمية كبرى ديناً وسياسة فلا يمكننا العدول عن منهج الشريعة لا سيما في مثل هذه المسألة». قال القاضي: «نعم، ولكنني أفضل الاستعفاء على الحكم بالإعدام على الشيخ علي أو الشيخ محمود إنما رجائي بالله بواسطة نصائحك ووسائل حبك أنهم ينزعون عن أوهامهم ويرجعون عن ضلالهم. ولكن لنفرض أن كل الوسائل لإرجاعهم ذهبت سدى فما يكون ليت شعري». أجاب المفتي: «إذا بقوا مصرين على التمسك بأوهام ضلالهم وجب إبعادهم إلى بلد خال من المسلمين». قال القاضي: «ذلك أنسب ولكن هل نتمكن من الاقتصار عليه».
ثم افترقا ونحو الساعة الثالثة من النهار التقيا في دار الحكومة وبعد أن جلس الوالي على كرسي الولاية هنيهة إذا جماعة من العلماء والمدرسين والشيخ ناصر الدين عمر وأصحابه المذكورين داخلون فأنكر الوالي وأرباب المجلس ذلك، ولم يعرفوا سبب دخولهم ثم سلموا فأمرهم الوالي بالجلوس، فقالوا لا نجلس حتى نعرض لأفندينا أمراً خطيراً فخفق قلب الوالي وقال: «ما هو؟». فقال القاضي: «إن حسن لدى أفندينا فليأمر بإخلاء الديوان من النصارى وإفراغه من كل مدع ومشتك ولا يسمح بدخول أحد إلى الديوان ما عدا أرباب المأموريات والوظائف حتى نهاية المسألة التي سيعرضها حضرات المشايخ، فأمر الوالي وأفرغ الديوان وقال: «وما الأمر الخطير الذي أتيتم بشأنه؟» فقال السيد عبد القادر الفصيح: «إذ كان دولة أفندينا أيده الله هو أفضل الولاة وأشدهم غيرة على تأييد وتشييد شرف الإسلام، رأينا أن نعرض لديه ما وجب علينا عرضه. فبعظم الأسف نقول أن جملة من المشايخ (وذكر أسماءهم) تنصروا وأنكروا النبي والقرآن، وعلة ذلك هو وجود صداقة قديمة بين الشيخ أحمد عبد الهادي ورجل حلبي نصراني يدعى يوحنا الغيور، متوطن في مرسيليا. فمن مدة ما جاء من المذكور رسالة إلى الشيخ عنوانها «في الحق الإلهي» غايتها إثبات النصرانية وإبطال كل دين خلافها، فاطلع عليها العلماء المذكورون ومن جملتهم عبدكم هذا، فمال إلى مآلها وغايتها من حضر سوى عبدكم، فإني تكلمت ضدها محامياً بكل قوتي عن حق النبي والقرآن الشريف، ناصحاً لهم أن يلقوا تلك الرسالة في خبر كان، مبيناً لهم ما تبطنه من سموم الهلاك كباقي تآليف الملحدين والمشركين، فلم يكن لرأي هذا محل في عقولهم. ثم لمّا جرت المفاوضة والمحاورة بشأن مضمون تلك الرسالة رأيتهم قد دانوا إلى غايتها واذعنوا إلى مقالها، فعارضتهم سدى في ذلك، ومن ثم نفرت منهم وأتيت لأستاذي الشيخ ناصر الدين عمر واطلعته على أمرهم، فاستحسن أن يرسل إليهم كتاباً يتضمن نصحاً أخوياً بالرجوع عن هذه الآراء والعدول عن سبل التمسك بهذه الأوهام، ففعل بما أمكن من الرقة والملاطفة، وجاوبوه بخشونة وإباءة مصرحين بتنصرهم. وهذا هو جوابهم بقلم الشيخ علي، إن حسن لدى أفندينا النظر إليه» . ثم دفع المكتوب إلى الترجمان، فقدمه إلى الوالي، وإذ كان دولة الوالي أوشك أن يأمر بقراءته قال: «التمس من حلم أفندينا إن حسن لديه أن يسمح لعبده بإنهاء التقرير. قال الوالي: «حسناً تكلم». قال:«إن الشيخ ناصر الدين لما رأى منهم ذلك لم ير العجلة بعرض أمرهم لدولة أفندينا، بل استدعى عبيدكم هؤلاء الأئمة وأعلمهم الواقع، وشاورهم فيما ينبغي استعماله لرد هؤلاء عن ضلالهم. وبعد أعمال الفكرة ملياً أجمع رأيهم على إرسال وفد منهم إلى المذكورين، فأرسلوا الشيخ عبد الكريم والشيخ عبد اللطيف جمال الدين المتمثلين الآن لديكم ليقدما لهما النصيحة النهائية، ويبلغاهم شدة تأثرنا لتخلفهم عنا باعتنقاهم النصرانية، فذهبا وبذلا إمكانهما بالنصح والإنذار بكل رقة وحب، فجاوبوهما ببيان وصراحة أنهم مسيحيون بعيسى المسيح. وبذلوا جهدهم بمحاولة إقناعهم ليسلكا معهم سبيل ضلالهم هذا، فلما رجعا وأخبرانا ما كان آيسنا من إرجاعهم، ورأينا من واجباتنا عرض الحال لدولة أفندينا ليرى بسمو حكمته وسداد رأيه في حسم هذا الداء الخبيث».
فلما انهى كلامه سأل الوالي المشايخ رفاقه: «هل هذا الأمر أكيد؟» أجابوا: «نعم». فأخذ الوالي جواب الشيخ علي ودفعه إلى الترجمان فقرأه على مسامع الحاضرين، وكان يلوح على وجه الوالي لوائح وبعد هنيهة التفت إلى أرباب المجلس وقال: «هل هذا خط الشيخ علي؟». فأجاب البعض: «نعم» وقال آخرون: «أنه يشبهه». فاستدعى الوالي حينئذ الطابور أغاسي وقال له: «خذ قائمة هذه الأسماء واحضرهم حالاً. فذهب وأحضرهم جميعاً. ولما مثلوا أمام الوالي والمجلس نظر إليهم الجميع نظرة التعجب، ونظر إليهم الوالي بعبوسة. وأمرهم بالجلوس فاستعفوا، ثم أمرهم ثانياً وثالثاً فجلسوا. ثم أخذ الوالي جوابهم الذي سلفت قراءته، وأمر الترجمان بقراءته مرة أخرى، فقرأه بصوت مسموع. ولما انتهى من قراءته قال الوالي: «من كتب هذا الكتاب؟» أجاب الشيخ علي: «عبدكم». قال: «إذا صرت نصرانيا» قال: «نعم. فزجره الوالي قائلاً: «بعدت عنك النعمة والرحمة». ثم قال لأصحابه: «وأنتم يا مشايخ، هل ضللتم أيضاً بضلاله؟» قالوا: «حاشا عبيدك من الضلال وإنما اتبعنا الحق الذي أنزله الله في كتابه العزيز التوراة والإنجيل المشهود له من القرآن نفسه». قال: «ألا تكتفون بالقرآن الشريف؟»أجابوا: «وكيف يدلنا على التوراة والإنجيل أنهما كتاب الله؟». قال: «ويحكم أن الإنجيل قد تحرّف تحريفاً شنيعاً إذ يسمى عيسى ابن مريم إلهاً وإنساناً، وأن هذا الإله المزعوم صلب من يد اليهود وقبر، وقام في اليوم الثالث، وأنه بهذه الميتة يظهر تابعيه من خطاياهم. أتوجد خرافة أحسم من هذه؟ عار عليكم. أنكم بكليمات سخيفة تضلون بها هكذا سريعاً. فالآن آمركم أن ترجعوا عن هذا الغي القبيح إلى الدين الصحيح والحق الصريح، واعترفوا بذنبكم أمام هذا المجلس، واصلحوا خطأكم أصلحكم الله». أجاب الشيخ علي: «نلتمس من حلم أفندينا أن يسمح لنا أيضاً بالتكلم قليلاً». قال: «تكلم». قال: «لا يخفى على أفندينا أننا بعد البحث بدقة وإمعان في أمر الكتاب لم نر فيه تغييراً أو تحريفاً ما، ومن بحث عرف هذا. وأنا في كل شيء خلا الدين تحت أمركم، لأن الدين أمر بين الله والإنسان، وعلى كل ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس». فلما سمع الوالي هذا الكلام ازداد حنقاً وغضباً وقال بصوت الحدة والزجر: «اسكت يا خبيث». وللحال أمر مأمور الضابطة أن يأخذهم إلى السجن ويضع الحديد بأرجلهم، فأخرجهم وذهب بهم، وإذ كان نازلاً بهم توسل القاضي إلى الوالي بإرجاعهم إلى المجلس ليتكلم معهم إن شاء دولته، فأجابه إلى ذلك وأرجعوا. ولما دخلوا أومأ الوالي إلى القاضي أن يكلمهم «بأمر أفندينا أقول لكم تفضلوا واجلسوا حسب مقامكم وعادتكم، البلد بلدكم والحكومة حكومتكم وهي لخيركم وخير وطنكم، وهذا المجلس يقبلكم الآن بترخيص دولته بكل عزة وترحاب، فاجلسوا حسناً واشكروا دولته على صالح غيرته نحوكم». فجلسوا، ثم نظر إليهم الوالي مبتسماً، وأمر لهم بالقهوة فشربوا، ثم التفت إليهم وقال: «يا آبائي العلماء وإخواني في الدين وأولادي في السياسة، كيف يمكن أن أراكم تهجرون ربوع دين الإسلام، وتذهبون إلى قفر الإشراك ولا يكمد قلبي وينسحق كبدي؟ فلو كنتم من الرعاع لكان أمركم أيسر احتمالاً وأقل مبالاة، فأناشدكم الله أن ترجعوا إلى دينكم ودين آبائكم. وحولوا كمد قلبي إلى سرور وابتهاج». أما هم فلبثوا مطرقين من فرط لطف خطاب الوالي. فلما لاحظ ذلك عليهم استبشر الحاضرون بقرب رضوخهم لأمر الوالي، ثم قال القاضي: «استرخص من دولة أفندينا إن حسن لديه أن يسمح لعبده بالتكلم مع الإخوان قليلاً». قال: «تكلم ومن شاء غيرك من الحاضرين فليتكلم، لأننا إخوان في الإيمان» فأثنى الجميع على دولته ودعوا له بطول البقاء، ثم التفت القاضي إلى المذكورين وقال: «يا إخواني الأحباء، إن صدري وصدوركم أيضاً تختلج كثيراً بحاسات الشكر الجزيل لحضرة دولة أفندينا الأفخم لما أبداه نحوكم من الملاطفة والمؤانسة، فاذكروا يا إخوان اجتماعنا معاً في محال العبادة والدرس، ومفاوضاتنا الروحية الطيبة ومخابراتنا ومباحثاتنا فيما يتعلق بخير الأمة والوطن. فهل تقبلون أن تقوضوا مثل هذه الأساسات الجيدة التي وضعتموها بفرط الجد والعناء؟ لا لا يا أحبائي لا تأتوا هذا الأمر المنكر. أناشدكم الله أن ترجعوا من حيث شردتم ولا تخالفوا نصح أفندينا الذي تنازل به إليكم، ولا تخذلوا أخاكم هذا مستخفين بتوسلاته إليكم رضي الله عنا وعنكم». ثم قال المفتي: «يا إخواني وأحبائي أن لساني يقصر دون القيام بحق التعبير والبيان في هذا المقام عن مقدار الغم والكمد الذي أحاق بقلب أخيكم هذا من جراء الأمر المستغرب: والحق أقول أن أول كلمة طرقت أذني من هذا الخبر المشئوم شعرت بها كصاعقة انقضت على رأسي وكسهام نارية خرقت صميم فوءادي. عهدي بكم أن قلوبكم لينة فهل تحولت إلى حجر؟ كلا وحاشا. فيا أحبائي الأعزاء أتوسل إليكم بحق المحبة والصحبة وإكراماً لله أن تنزعوا عن هذه الأوهام، وارجعوا بسلام إلى دين آبائكم الشريف. وإذا رغبتم في المحادثة والمحاورة الدينية نستعملها فميا بعد على خلاء. وأما الآن أمام هذا المحفل السلطاني فننتظر ونتأمل من حبكم ووفرة حكمتكم الإجابة والإذعان لأمر أفندينا والتماس إخوانكم هؤلاء».
فبعد انتهاء الخطاب وجلوس الخطيب لوحظ على أولئك الرجال انكسار القلب وضيق الصدر، فأشار الوالي أن يعطوا فرصة للتأمل ثم بعد ذلك فرقوهم بعضهم عن بعض واضعين كل واحد منهم بين اثنين، وأخذوا في التكلم معهم همساً كل على حدته، ثم تفرقوا إلى غرف أخرى باذلين المجهود بإرجاعهم بفنون الأساليب وصنوف المواعيد، فانصاع لهم ثلاثة وهم حسن أفندي قباواتي والسيد حسين أبي النصر والسيد مصطفى الحقاني. ولما رجعوا أمام الوالي وانعقد المجلس ووقف المذكورون في الوسط واقروا معترفين بأنهم أخطأوا إلى الله ورسوله بما قد عولوا عليه من ترك الإسلام والتدين بالنصرانية، ثم أدوا الشهادة لله وللرسول. فقبل ذلك منهم بكل فرح، واثنوا عليهم، وبالغ الوالي بإكرامهم مستبشرين برجوع البقية. ثم تقوى القاضي وقال لهم: «إن دولة أفندينا مسرور جداً برجوع بعضكم إلى الدين الحق والصراط القويم، وهذا قد قوى أملنا برجوع جميعكم لإتمام سرورنا، فنكرر رجاءنا إليكم أن تتمموا سرور إخوانكم وترجعوا الراحة والسكينة والفرح إلى بيوتكم ولبلدكم. قفوا باسم الله يا أحباب كما وقف أصحابكم وأدوا الشهادة لله ولرسوله إعلاناً لإذعانكم ورجوعكم إلى الإيمان القويم». فلما انتهى القاضي من مقاله، وقف الشيخ محمود الرافعي وقال:
«إني استرخص من مكارم دولة أفندينا لأتكلم عما في قلبي عن نفسي وعن رفاقي هؤلاء، قال له الوالي تكلم فقال: «يا دولة أفندينا الأفخم، ويا أعضاء المجلس الكرام، حقاً لقد كسرتم قلوبنا وآذيتوها بالمؤانسة التي تنازلتم بها علينا بدون استحقاق، فقلوبنا تختلج بالامتنان والشكر لحضرة دولته ولكم، فيا ليت في وسعنا الرضوخ القلبي لأمره، فلا يخفى على أفندينا أن المعتقد واليقين محلهما القلب ولا يخرجان منه إلا بالدليل والبرهان. أما توسلات الإخوان والأحباب والمواعيد والوعيد والقصاص فحد فعلها في البعض إرضاخهم وإرجاعهم عما تقرر في اذهانهم رجوعاً وقتياً خارجياً فقط لا قلبياً. وبما أنه ليس في مقدرتنا ولا في مقدرة غيرنا إخراج ما قد تقرر ورسخ في أذهاننا وقلوبنا من الإيقان بسلامة وصحة نص الإنجيل الموجود الآن إلا بالدليل القاطع، لذلك لا نستطيع مقاومة الضمير بالرضوخ عفواً لأمر دولته. ولكن إذا حسن لدى دولتكم ولديكم أن تتنازلوا لمحاروتنا والعمل لإقناعنا بالبينات الراهنة والأدلة الكافية تفعلون حسناً. ومتى تبين لنا غلطنا المزعوم لا نتردد عن الرجوع الحقيقي إلى ديانة أبائنا. وها نحن بين يدي أفندينا فليفعل بنا ما هو حق. والأمر لمن له الأمر».
فلما انتهى المذكور من كلامه حصل سكوت في المجلس بضع دقائق، ثم أمر دولته بإخراجهم، وبعد خروجهم أخذ في المشورة بشأنهم فقال: «ما رأيكم في هؤلاء الجماعة، وأي قصاص يستوجبونه بعد إفراغنا الجهد التي هي أحسن؟» فقال بعضهم بوجوب إعدام اثنين أو ثلاثة منهم رهبة بالآخرين، وقال غيرهم بوجوب سجنهم مدة مدية وتغريمهم مالاً جزيلاً إلى غير ذلك من الآراء. وكان القاضي إذ ذاك ساكتاً لم يفه ببنت شفة. فقال له الوالي: «يا قاضي أفندي أعط رأيك» فقال: «يا دولة أفندينا، ليس هين تقديم الرأي في مسألة كهذه خطيرة وما سكوتي إلا لزيادة تبصري وتأملي فيما ينبغي اتخاذه من جهة هؤلاء الرجال، فالحكم عليهم بقصاص بناء على ترك ديانة آبائهم واعتناقهم ديانة أخرى ينافي نظام الدولة وشرائعها، وإطلاق سراحهم لا يناسب في الحال. على أن حكمة أفندينا كفاية لكل أمر». فلما سمع الوالي هذا الكلام انتبه بتعجب إلى ما كان قد غفل عنه، فقال إن ما قلته جنابك هو الصحيح، وأنت يا مفتي أفندي ماذا ترى؟» فقال: «أرى أن يحجز المشكو عليهم موقتاً في الديوان، وإن حسن لدى أفندينا يقدم تقرير من جهتهم فيتخلص أفندينا ونحن من أعباء المسئولية بشأنهم». فوقع هذا الرأي موقعاً حسناً عند الوالي والمجلس، وحينئذ أمر بحبسهم في غرفة مناسبة في الديوان ريثما يرد الأمر بشأنهم، وسمح للقاضي والمفتي وغيرهما أن يبذلوا الجهد بإقناعهم للعدول عن أوهامهم والرجوع إلى الإسلام. ثم أرسل إشارة برقية إلى الباب العالي تتضمن خلاصة أمرهم مع التماس الإفادة عما يجب إجراوءه من نحوهم.
أمّا ما كان من المذكورين فإنهم دخلوا سجنهم فرحين، ولمّا شاع في البلد خبر سجنهم اضطرب الناس لذلك سيما الذين لم يعرفوا السبب. فما كنت تسمع إلا الغوغاء والضوضاء في الأسواق والشوارع، فانقسم الناس بعضهم على بعض، وكثر بينهم القيل والقال. وكان الشاعرون بما لأولئك الأدباء من الفضل وجميل الأثر يقولون: لم سجنت الحكومة يا ترى هؤلاء وما ذنبهم وما جريمتهم؟ وصاروا يتذمرون على الوالي والمجلس ناسبين ذلك إلى غايات نفسانية. لكن بواسطة أهل التعقل والحكمة هدأ الحال شيئاً فشيئاً.
أما ما كان من الشيخ ناصر الدين وذويه المذكورين مع بعض الحسّاد فإنهم بعد أن أشاعوا في كل أنحاء البلدان السبب الموجب لحبسهم هو انقلابهم لدين النصارى، عمدوا إلى تدبير دسيسة فعّالة ضد أولئك المساكين لإرواء غليل قلبهم الظامئ إلى الانتقام منهم. فاجتمع جماعة في بيت الشيخ أحمد الكيلاني للمؤامرة، وبعد الأخذ والرد قال الشيخ عبد الكريم الصائب: الأصوب أن نتخذ الوسيلة الفعالة لإعدام أحدهم بوجه شرعي، وإن تم لنا ذلك لا يلبث أن يرجع أكثرهم، وربما آل ذلك إلى إرجاع جميعهم، لأنه كما لا يخفى ليس من الممكن في هذا العصر إقناع الحكومة بإعدامهم أو إعدام أكثرهم بالنظر إلى كمال الحرية الدينية في أكثر الممالك وأعظمها، فعليه لا يناسب قط الشروع في تدبير دسيسة على جميعهم أو أكثرهم، لأننا لا نفلح في ذلك بل على واحد منهم لا غير. فوقع عندهم هذا الرأي موقع الاستحسان، ثم أخذوا يتشاورون في من منهم يكون أنسب لجعله غرضاً لسهام مكيدتهم، فقال هذا فلان وقال ذاك فلان، إلى أن قال الشيخ العطار: «أرى أن يكون أكثر مناسبة لذلك عمر الحارس، فإن هذا الرجل لا عصبة له تذكر، وهو مكروه من الأكثرين لخشونة طبعه. وعلى ظني أنه هو بالأكثر الذي عظم هذا الفساد، فإذا قوصص بالإعدام لا يلبث الآخرون أن يرتدوا إلى دينهم». فأذعن جميعهم إلى هذا الرأي وعولوا عليه، ما خلا الشيخ إبراهيم تقي الدين، فإنه قال: «عجباً يا شيخ علي من إنزالك الصفات الشريفة منزلة الأمور الذميمة، فلا تؤاخذني إذا قلت أنكم غير محقين بتوجيه سهام الهلاك ضد شخص كهذا، وما يضرنا أن يكون الإنسان حراً فيما يفتكر ويعتقد؟» أجابه الشيخ أحمد الكيلاني: «لا تؤاخذنا يا شيخي، إنا دعوناك للاشتراك معنا في أمر هو لمصلحة الدين والأمة، والظاهر أن ذلك لا يهمك، فإذا شئت حضرتك الأنصراف فلا بأس. على إنا نرجوك الكتمان على ما سمعت». أجاب: «نعم». وقام للحال وذهب لسبيله وهو يدعو ويقول: «لا نجح الله مسعاكم، ولا وفقكم إلى إيذاء هذا الرجل الكريم». وبعد انصرافه قال الشيخ عمر الكيلاني: «لا تستغربوا ما قال شيخنا الغابر، فإن بيت تقي الدين موصوف بالمعارضة إن قلت لأحدهم «الخل حامض قال بل حلو» فقال الشيخ ناصر الدين: «قلما تخلو الجماعة من الحمقى والمجانين، فما لنا وله؟ دعونا نرجع إلى ما كنا عليه من الحديث فقال الشيخ أحمد: «الأصوب أن نسترخص الدخول عليهم مظهرين لهم كل حب وإخلاص، حتى نجلبهم نحونا، ومن ثم نأخذ معهم بالحديث بما أمكن من الرقة والدعة، ونجتهد لنجعل حديثنا بالأخص مع المذكور. ومتى تمكنا من ذلك نسأله هذين السؤالين هل القرآن من الله أم لا؟ وبما أن المذكور من طبعه البليد لا يعرف أن يتكلم إلا ما في قلبه بكل سذاجة، لا بد أن يجاوب حالاً على ذلك، فإن أجاب بالإيجاب يكون قد رجع مسلماً، وإن بالسلب نكون قد تمكنا من بلوغ المرام، فنسكب جوابه في قالب يوجب إعدامه شرعاً». فاستحسن الجماعة هذا الرأي، غير أن بعضهم قال: لا يخفى عليكم أن من طبع ابن الحارس قلة الكلام، وغالباً إذا جرى الحديث على ألسن جماعة كان بينهما يكون آخر من يتكلم، لا سيما إذا كان في الحضرة من هو أرفع مقاماً وأغزر علماً، فلست أرى من السهل جذبه إلى الحديث. قال الشيخ أحمد: «نعم ولكنني أرجو أننا بإطالة الحديث معهم بالحكمة والملاطفة نقتاد المذكور للاشتراك في الحديث، ومن ثم نبذل الجهد بحصر الحديث معه والله الموفق». فقر قرارهم على ذلك، ثم قال بعضهم: أرى أنه لا يوافق دخولنا جميعاً إليهم لئلا ينتبهوا إلى المكيدة فنخسر ثمرة اجتهادنا، فعندي إن حسن لديكم أن يدخل عليهم ثلاثة منا لا غير ممن هم أوفر إناءة وادهاء.ومن ثم اختاروا لذلك الشيخ أحمد الكيلاني والشيخ علي العطار والحاج ياسين قباقبي هذا وأن الوالي وذويه مع بعض أعضاء المجلس كانوا يتوقعون علة موجبة لإعدام بعض أولئك المتنصرين، رهبة للبقية وغيرة للناس، فلم يجدوا لأن القاضي والمفتي كانا يقاومان بكل جهدهما هذا الميل، متخذين ما أمكن من الاحتياط لدفع هذا البلاء، إلى أن كان اليوم الرابع من حبسهم وإذ جاء الديوان المشايخ الثلاثة المذكورون فاسترخصوا من دولته الدخول إلى المذكورين بعلة قصد إنذارهم ونصحهم، فرخص لهم بذلك. ولما دخلوا إليهم سلموا عليهم سلام الحب والوداد بغاية الاعتبار والوقار، مظهرين ما أمكن إظهاره من إحساسات الحنو والشفقة، ثم جلسوا بكل احتشام ممسكين عن الكلام مقدار نصف ساعة عابسين متكئبين. ثم فتح الشيخ أحمد الكيلاني فاه وقال بنغمة التودد والتحبب:
«يا سادتي وإخواني الأحباء، إني من فؤاد مضطرم بنار الحزن والأسف أقول: إنّ أمركم هذا وما قد جرى لكم قد شوش البلد وأي تشويش، وصارت مسألتكم هذه حديثاً عموماً للصغار والكبار، فمن الناس من استخف عملكم هذا ناسبينه إلى فساد في المخيلة طرأ على عقولكم السليمة، ومنهم من تحير منه وظنه صالحاً استناداً على غزارة عملكم وكرم طباعكم وقد نشأ عن ذلك كما لا يخفى انقسامات كثيرة، وتحزبات ومجادلات عنيفة في الأسواق والمخازن والمنازل. فلما بلغنا هذا الأمر المهم عندنا اعترتنا الحيرة والدهشة من جراء ذلك. فبعد التفكر بذلك ملياً قلنا لا بد لنا من زيارتهم إن شاء الله، والتحدث معهم بهذا الأمر، علنا نحصل من ذلك على فوائد نحن نجهلها، فنناشدكم الله يا إخوان أن لا تكتموا عنا أمراً مفيداً ولا تخفوا عنا ما نسألكم عنه (فانتبه حينئذ عمر أفندي زاكي إلى ما طوى من رداءة الغاية وسوء القصد تحت رداء طلاوة هذا الكلام، وهمس في أذني الشيخ علي أني لا أرى هؤلاء إلا أفاعي آتين بدسيسة ومكيدة مدبرة كما يظهر لك من ملق كلامهم وسرعة تغيير هيئات وجوههم، وزيادة تحديدهم علينا في الكلام فلنكن على حذر). وقبل أن نسأل حضراتكم شيئاً نقول نعم أننا نتوق أن نراكم يا أحباب عدلتم عما عولتم عليه من هجر الدين الإسلامي، ولكن إذا كان ما أنتم متمسكون به حقاً وصلاحاً فلا نرضى لكم بالرجوع لأنه على كل حال ينبغي أن يفضل صالح النفس على صالح الجسد والآخرة على الدنيا، ولذا أتيناكم بكل إخلاص طوية لنتحدث معكم عن هذه الأمور، فأملنا بحبكم إجابتنا عما نسألكم عنه بجلاء وبيان».
أجاب الشيخ أحمد عبد الهادي: «تفضلوا سلوا ما بدا لكم».
قال الكيلاني: «قد علمنا مما شاع منكم أنكم بعد الفحص الواقي رأيتم أن الكتاب التوراة والإنجيل لم يشبه تغيير ما، بل هو باق كما أنزل من الله، فأخذتنا الدهشة والحيرة لأن الكتاب الموجود الآن بأيدي اليهود والنصارى ينافي القرآن الشريف كل المنافاة، من حيثية عيسى ابن مريم عليه السلام لما فيه من التصريح بلاهوته وصلبه وموته فداء عن العالم الأمور المنكرة في القرآن. أكاذب القرآن في إنكاره ذلك؟ أليس هو منزل من الله؟ نرجوكم الإجابة».
فتوقف المذكورون عن الجواب لما لاحظوا ما تحت هذا السؤال من ردئ الغاية. وبعد برهة قال عمر أفندي زاكي: لا يلزمنا يا أصحاب أن نجيبكم على هذا السؤال الذي لا نرى له محلاً، ويكفي ان نقول لكم أن الكتاب ما تحرّف قط ولا تغير في غايته وقضاياه، ولذلك أدلة وبراهين قاطعة محال نقضها بوجه من الوجوه: ولا تؤاخذوني إذا قلت لكم إني لا أراكم مخلصين النية من جهتنا، بل أخالكم كجواسيس جئتم تتجسسون حريتنا لتصطادوا من أفواهنا شيئاً تشتكون به علينا. فقالوا بلسان الشيخ العطار: «معاذ الله أن نكون هكذا. لا تظنوا فينا السوء يا إخوان. قسماً بالله العلي العظيم إننا نحبكم كأنفسنا، وما جئناكم إلا بكل إخلاص قصد الاستفادة، لأنه إذا كان حقيقة التوراة والإنجيل لم يتحرّفا ولا تغيرا من خصوص المسألة فيكون القرآن ليس من الله. وإن كان منزلاً من الله فبلا شك يكون اعترى الكتاب تغيير عظيم. فهذه الأفكار أزعجتنا وأقلقتنا جداً حتى لم نعد نجد راحة لأنفسنا وطار عنا نومنا، فقلنا من ثم الأوفق لنا إذاً أن نزور أولئك الإخوان في سجنهم ونتحدث معهم. وعليه جئناكم بعلة أننا قاصدون نصحكم وإنذاركم، ولكن في باطن الأمر لنستفيد ونتنور من جهة هذا الأمر وأنتم تكسرون خواطرنا باتهامكم إيانا بسوء الغاية. سامحك الله يا عمر أفندي، فها نحن ننصرف عنكم». وتظاهروا كأنهم يريدون الانصراف، فقال الشيخ علي: «كلا يا إخوان لا تذهبوا، بل قد آنستمونا. أهلاً وسهلاً بكم فنرجو أن لا تؤاخذوا أخاكم عمر أفندي على ما قال وتحديدكم في السؤال هل القرآن إذا كاذب، مما يدعونا كما لا يخفى عليكم إلى هذا الظن على أن بعد الظن إثم. فإن كان عندكم يا إخوان شك في صحة التوراة والإنجيل فعليكم بدرس التوراة التي بيد اليهود، ومقابلتها على الإنجيل الكائن بيد النصارى، عسى أنكم بنعمة الله ترون فيهما كما قد رأينا من المطابقة المدهشة. ثم قابلوا الإنجيل على القرآن». فقاطعه الشيخ أحمد الكيلاني قائلاً: «قد فهمنا يا سيدي مقالك، إلا أن الاعتقاد بعدم تحريف الكتاب هو نفس إنكار القرآن». فأجفل الشيخ علي من تكرار هذا السؤال وامتنع من الجواب ريبة بإخلاص هؤلاء الرجال، فكان المتنصرون في هذه المفاوضة أو بالحري المحاتلة والمصارعة على غاية ما يكون من الاحتراز لئلا يفوهوا بكلمة تكون علة لازدياد الوبال عليهم. فقال الحاج ياسين قباقبي: «إني لأعجب من تجفلكم منا يا إخوان. أذئاب نحن؟ (قال عمر أفندي سراً لا شك في ذلك) أما نحن إخوانكم هل رأيتم أو سمعتم عنا شيئاً ردياً يجفلكم فلماذا تحاولون عدم إفادتنا؟ أجابه السيد عمر الحارس: «إن إلحاحكم علينا بهذا السؤال الذي لا لزوم له يرينا بخلوص نياتكم من جهتنا ويدعونا للتوقي والحذر. ألا تعلمون أن خروجنا من الإسلام هو الجواب لسؤالكم، فأي محل إذا للإلحاح به علينا؟». قال الكيلاني، وقد تعدل في الجلوس ومسح شاربيه ولحيته: «أحسنت فيما قلت يا سيد عمر، ولكن أليس هو منزل بالوحي على محمد» (لم يقل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كعادة المسلمين عند ذكره لتتميم المكيدة) قال عمر بصوت منخفض: «لو كنت أعتقد ذلك ما صرت نصرانياً» فلما سمع المذكورون منه ذلك طرحوا عنهم حينئذ أثواب المداهنة والمخاتلة، ورفعوا عن وجوههم برقع التنكر مظهرين حقيقة حالهم، وذلك أن الكيلاني غيّر نغمة اللطف من كلامه قائلاً بصوت غاضب: «إذا بموجب كلامك هذا القرآن ليس من الله، وإن محمد المصطفى نبي كاذب ورسول غاش غش الناس بأكاذيبه، حاشاه حاشاه من ذلك قد جدفت يا عمر على القرآن والرسول تجديفاً لا يحتمل ولا يطاق. الله أكبر. إلى هذا الحد. أبهذا المقدار يكون الافتراء والتجديف على الله ورسوله؟ أهكذا تهينون القرآن والنبي والإسلام؟ وإذ كان هذا الكلام بغاية الحدة والارتفاع وكان إذ ذاك السيد عبد القادر الفصيح والشيخ عبد الكريم الصائب والحاج قدور الطيش ومحيي الدين ابن الشيخ ناصر الدين مع آخرين من ذوي الجهالة والطيش يجولون حول السجن مراقبين الحال ومنتظرين مثل هذا الكلام كعلامة دعوة لهم للهجوم وإثارة الهيجان على المذكورين حسبما كان الاتفاق بينهم، فلما سمعوا ذلك صاحوا بفم واحد: «يا لدين محمد، الله أكبر على الكفّار» وهجموا على باب السجن قائلين بأعلى الصوت: «أأنت يا ابن الحارس تجدف على القرآن العزيز، وعلى نبي الله ورسوله الأعظم؟ أتقول أن القرآن ملفق من الناس ومحمداً كاذب بادعائه النبوة والرسالة؟». فتأثرت الناس وهجموا ليدخلوا يختطفوه فمانعتهم الضابطة وصدوهم عن ذلك، فأوقعوا الضرب بهم فقويت الضجة وعلت الصيحة فتهافت الناس من كل جانب إلى ذلك المكان. ولو لم يتدارك ذلك الأميرالاي بالعسكر الشاهاني والطابور أغاسي بالضابطة والجندرمة الذين بادروا سريعاً لإخماد الفتنة لكان تعاظم الخطب واتسع الخرق على الراقع. ولما هدأ الشعب جلس الوالي على كرسي الولاية وأمر بإحضارهم ولما مثلوا بين يديه نظر إليهم بعبوسة وقال لهم: «لماذا أثرتم هذا الشعب القبيح في دار الحكومة؟ هل تظنون أنكم بعملكم هذا الخالي من الحكمة والأدب تنتصرون للنبي والقرآن؟» أجابوا إننا نتوسل إلى حضرة أفندينا أن يسمعنا بحلمه، وبعد ذلك يفعل بنا ما يحسن في عينيه فقال: «تكلموا» لا يخفى على دولة أفندينا أنه إذ كان عبيدكم في الديوان بسبب أشغال خاصة مررنا على المحل المسجون فيه أولئك الرجال المتنصرين، فرأينا عندهم الشيخ أحمد الكيلاني والشيخ علي العطار والحاج ياسين قباقبي، وسمعناهم يتحدثون وينذرونهم فذهبنا كل إلى شغله وقلنا دعوا هؤلاء العلماء يخلون بهم عسى أن يقنعوهم بالرجوع إلى الإسلام. ثم بعد نحو ساعة من ذلك اتفق أن بعضنا مروا في رجوعهم على ذلك المكان، فسمعوا عمر ابن حسن الحارس يقول بحدة وصوت مرتفع أن القرآن ليس من الله، وأن محمداً القريش كاذب بادعائه النبوة والرسالة. رجل غاش محتال احتال على العرب وغشهم فهرولنا إلى ذلك المكان لنعلم ما الحادث، فلما طرق آذان عبيدكم هذا الكلام التجديفي من مرتد لئيم لم نسمعه من نصراني ولا يهودي، صار الضيا في أعيننا كالظلام، وثارت في قلوبنا الحمية الدينية والنخوة الإسلامية حتى لم نتمالك عنه، فحصل ما حصل من الشغب والاضطراب فنسترحم إن حسن في عيني أفندينا الإغضاء عما قادتنا إليه الطبيعة لدى سماعنا ما لا يطاق ولا يحتمل والأمر لولي الأمر افندم. فلما سمع الوالي هذا الكلام راق خاطره وأمرهم بالجلوس فجلسوا. ثم أمر بإحضار الكيلاني ورفيقه ولما مثلوا أمامه أمرهم بتقديم دعواهم رسمياً على عمر الحارس المذكور ففعلوا وهاك صورة العرض.
دولتلو أفندم حضرتلرى: يعرض هؤلاء العبيد أننا لفطر تأثرنا من ضلال هؤلاء الرجال بارتدادهم عن الإسلام رغبنا أن يكون لنا شركة في إنذارهم ونصحهم ما أمكن، فدخلنا إليهم بالرخصة من دولتكم، وبذلنا الجهد في مكالمتهم بما أمكن من الملاطفة والمودة، فلم يكن منهم إلا الصد والعناد. وإذ قلنا لهم أخيراً أن القرآن ينكر كون عيسى بن مريم إلهاً وأنه صُلب ومات. أجاب أحدهم وهو عمر الحارس: القرآن ليس منزلاً من الله. قلنا له أن نبي الله ورسوله محمد قد نطق به. قال هه هه ضاحكاً ضحكة الاستخفاف والازدراء: ومن أين لمحمد النبوة؟ رجل قريشي كذاب غاش محتال، قد غش العرب بأكاذيبه وتخيلاته. فلما سمعنا ذلك من المذكور نفرنا منه بشديد الكره والغضب، ووبخناه بعنف على تجاديفه هذه، فسمع ذلك من كان خارجاً وجرى ما قد جرى من التشويش والاضطراب، إلا أننا نشهد الله أن رفاقه اغتاظوا جداً مما فاه به وانتهروه على ذلك فهذا ما اقتضى عرضه لدولتكم ملتمسين أن حسن لديكم إجراء ما يحسن قصاصاً لهذا المفتري المجدف على الله ورسوله حسما لمثل هذه الافتراءات المؤثرة والمهيجة وبكل الأحوال الأمر لمن له الأمر أفندم.
Table 2.
بنده | بنده | بنده |
ياسين قباقبي | علي العطار | محمد كيلاني |
ثم قال الرئيس: «إن معنى كلامك هذا هو كما شكي عليك، فضلاً عن كونك كما تقرر فهمت بالتجديف على القرآن والنبي الأعظم أمام شهود كثيرين». أجاب: «أما قول حضرتكم أن معنى كلامي هو هكذا فأقول أن كل الأمم غير المسلمة لا يعتقدون بإنزال القرآن ولا بنبوة محمد، وإذا سئلوا كما سئلت لا بد يجاوبون كما أجبت، فهل ذلك يستوجبون القصاص؟ وأما إني فهت بما قد شكي عليّ فهو كما يعلم الله محض افتراء من المشتكين، ومعاذ الله أن أفوه بسفاهة كهذه، وما الشهود إلا خصوم يرغبون في إهلاكي. ولا يخفى على أذهان حضراتكم أن كثيرين يستجيزون الكذب وشهادة الزور إذا كان ذلك لغاية صالحة، فإذا كان يحكم عليّ بناء على شهادة شهود فقصاصي صار محتوماً، إذ قد شهد جم غفير حين الشغب والهجوم على سجننا أني افتريت وجدفت كذا وكذا، وأن ذلك كان على هيجانهم وهجومهم. وهل للشرع أن يقبل شهادة مسلم على متنصر حديثاً من الأمة الإسلامية في الوقت الذي هو فيه واقع تحت سخط الامة والحكومة ومسجون بسبب ذلك؟ فأنا ألتمس محاكمتي على محور الشريعة والنظام». فقال الوالي: «اسكت، لا نحاكمك إلا بالحق». ثم أمر بإرجاعه إلى السجن إلى اليوم التالي.
وفي الغد بعد أن التأم المجلس بحضرة الوالي وأخذ في المشورة حكم الأكثرون بوجوب إعدامه. أما القاضي والمفتي فقاوما ذلك وقال القاضي: «لا شرعاً ولا نظاماً يستوجب الموت في ظروف كهذه». فقاومه الرئيس قائلاً: «يلوح عليك الغرض مع هؤلاء المفسدين». فضحك القاضي وقال: «حاشا لي من ذلك، ولكن إذا شئنا أن نحكم في مجلس السلطان ينبغي أن لا نحكم إلا بما يوافق شريعة المملكة فعضده المفتي في ذلك قائلا: «من الواجب حين النظر في الدعاوى في محاكم الحكومة أن نلقي جانباً كل غرض وهوى ومراعاة الميل الديني والجنسي. وبما أن مملكتنا مؤلفة من أمم وأجناس مختلفي الدين والمذهب، لذلك لا يكون الحكم في الدعاوى بمعزل الشرع والقانون السلطاني، فعندي إن وجد من باب الشرع والنظام مسوغ لإعدام هذا المدعى عليه كان به وإلا فلا».
فبعد ملء التأمل في هذه المسألة قال الوالي: «لنرى أولاً الشهود ونسمع شهاداتهم». ثم أمر دولته المشتكين أن يقدموا شهودهم، ثم أومأ إلى القاضي أن يدنو منه، ولما دنا إليه قال له همساً: «حسناً قلت، ولكن دعنا نرى الشهود هل هم من الرعاع أم من ذوي التعقل وحسن الذمة؟»فقدم المذكورون شهوداً كثيرين لم ير الوالي والمجلس شهادتهم أساساً كافياً لبناء الحكم على المشهود عليه. أخيراً قدموا ثلاثة شهود مسنين مشهوداً لهم بحسن السيرة والسريرة وهم السيد حسن إبراهيم والحاج محمد أفندي نور الدين والحاج يحيى الحلاق. فأوقفوا جانباً وأمر بإحضار المشكو عليه. وبعد حضوره قال القاضي للمشتكين: «أين شهودكم يا إخوان على هذا الرجل». فوقف السيد حسين وقال بعد أن أقسم القسم الشرعي على أن لا يقول إلا الحق كما رأى وسمع: «أشهد الله. أني إذ كنت نهار أمس في هذا المجلس نحو الساعة السابعة، مررت بالمحل المسجون فيه المتنصرون، فرأيت عندهم هؤلاء الإخوان الثلاثة، وهم آخذون معهم في الحديث، فوقفت قليلاً لأفهم موضوع حديثهم فسمعت هذا الرجل عمر يقول التوراة والإنجيل ما تغيرا قط ولا تحرّفا، وما فيهما من الكلام عن ألوهية عيسى المسيح وصلبه فداء عن العالم هو حق لا مراء فيه، قال له الشيخ أحمد الكيلاني أن ذلك ينافي القرآن، فهل تحسب القرآن كاذباً؟ قال عمر نعم أن القرآن ليس من الله. قال الشيخ ألا تعلم يا سيد عمر أنك بقولك هذا تنسب النبي محمداً إلى الكذب والبهتان؟ قال لا ريب بكونه كذاباً محتالاً ادعى النبوة والرسالة من الله كذباً وبهتاناً. فهذا ما سمعت وشهدت به». وشهد الثاني قائلا: «إذ كنت نهار أمس بعد الظهر بنحو ساعة آتياً إلى مأمور قلم الأملاك، فلدى وصولي إلى محل سجن هذا الرجل ورفاقه سمعته يقول بعجب وحدة: إن القرآن غير منزل من الله، وأن محمداً المدعو نبي الله ورسوله ليس هو نبي الله ولا رسول منه. هذا ما سمعته منه، به أشهد أمام رب العالمين». وشهد الثالث قائلاً: «أشهد والشهادة لله بينما كنت نهار أمس مدعواً من قبل جناب الدفتردار للحلاقة قبل الظهر، ففي رجوعي بعد الظهر وأنا مار على غير انتباه أمام حبس هذا الرجل ورفاقه، سمعت قائلا يقول بصوت الحدة والغيظ: نعم ليس القرآن من الله. فوقفت في مكاني، وتطلعت في ذلك المكان فرأيت السيد حسين إبراهيم واقفاً على الشباك وهؤلاء الإخوان داخلاً، فقال له الشيخ أحمد الكيلاني: مهلاً يا سيد عمر، إنك بهذا القول تنسب النبي محمد إلى الكذب. أجاب نعم نعم على كل محمد كاذب بادعائه النبوة والرسالة. فهذا ما سمعته وشهدت به». فلما سمع الوالي والمجلس هذه الشهادة المتينة الصريحة من شيوخ أتقياء كهؤلاء، امتلأوا حنقاً وغضباً. ثم قال رئيس المجلس: «ما تقول يا رجل بهذه الشهادة من هؤلاء المعتبرين؟» أجاب: «بارك الله فيهم وزادهم اعتباراً، احكموا على عبدكم بما تريدون». قال: «بل إن كان عندك فادفع واحتج على نفسك». قال: «أتجاسر أن أقول حقاً إني لمتعجب ومنذهل كيف يمكن الرجال كهؤلاء، عقلاء في سن الشيخوخة يشهدون هكذا زوراً وبهتاناً. أأنتم يا سادتي سمعتم مني هذا المقال؟ سامحكم الله. كيف تعطون جواباً لله عن ذلك في يوم الحشر والموقف العظيم؟ لا بأس، الموت خير من البقاء في عالم شرير كهذا». قال له الوالي: «اخرس أيها الخبيث المجدف، ولا تطعن هكذا بمن هم خير منك وأصدق». فقال بعض الحاضرين في سره «بل هو الأفضل والأصدق». ثم أمر به فرد إلى سجنه.
وبعد إخراج المشتكين والشهود أعيدت المشورة أيضاً بخصوص المذكور، فانجلت عن قرارهم كافة بإعدامه. وكتبوا بذلك مضبطة أمهرها الجميع. وبعد أن قدموها لدولة الوالي قدم إشارة برقية إلى الباب العالي تتضمن سورة المسألة، ومن ثم فض المجلس.
وبينما كان القاضي والمفتي ذاهبين في طريقهما التفت القاضي إلى المفتي وقال: «كيف رأيت يا أخي هذه الشهادة من هؤلاء الشيوخ؟ قال: «ما أراها إلا زوراً. والعجب كيف أن صائمين مصلين متورعين مثل هؤلاء يشهدون هكذا زوراً لا سيما في مسألة خطيرة كهذه، ويقسمون بالله العلي أن لا يقولوا إلا الصحيح ويستشهدونه تعالى على افترائهم هذا». قال القاضي: «إننا رغماً عن قلوبنا قد ختمنا على وجوب إعدام هذا البريء، ومن يعلم إذا كانت الأحوال لا تدعونا أيضاً للحكم بمثل ذلك على غيره من رفاقه؟ وما دام المشهود لهم بالورع والتقوى كالمذكورين يشهدون زوراً لإهلاك البريء لسبب تخلفه عنهم في الدين صار إعدامهم بوجه شرعي سهلاً جداً. لذلك أرى الاستعفاء من وظيفتي والرحيل من هذا البلد». قال المفتي: «لا تخش ذلك يا مولاي، واحملك على الطمأنينة بحول الله تعالى. لا تسقط شعرة من رؤوس الباقين، لأنه كما لا يخفى عليك أنه قد بلغني من عدة رجال ممن يوثق بمقالهم أنه استحسن إعدام أحد العلماء المتنصرين رهبة للآخرين وعبرة للناس. وأنه قصد بذلك عمر الحارس كونه من عائلة ليست ذات أصالة، ولا عصبة له يخشى معارضتها أو بأسها». فقال له القاضي: «أشكر الله وفضلك قد أرحت بالي». ثم افترقا كل إلى مكانه.
أما ما كان من أولئك الأسرى المساكين فإنهم خافوا واضطربوا جداً من جراء ذلك، ما خلا الشيخ علي، فكان حينئذ هادئاً ساكناً ينظر برزانة واستخفاف إلى أولئك الأوباش وهم يضجون ويهيجون ويزمجرون. ولما تحققوا تصميم دولة الوالي والمجلس إلى إعدام المومأ إليه انكسرت قلوبهم وأي انكسار، وبكوا بكاء مراً، لأنه كان فتى في عنفوان الشباب، ذا ولدين بسن الطفولية، حسن الطلعة جميل المنظر عذب اللفظ معتدل الرأي، وبالإجمال كان رجلاً عزيز المثال بين أترابه. ولما دخل المذكور إليهم هذه المرة بعد ما تعرف بالشهود كما مر وعلم بالمضبطة التي خرجت عليه، جلس بينهم على ركبتيه مقدار نصف ساعة ساكتاً مطرقاً، فلم يستطع أحد منهم أن يكلمه بشيء، ثم رفع نظره إليهم وعيناه محمرتان بالدموع وقال: «قد قرب الوقت الذي فيه أفارقكم يا سادتي وإخواني الأحباء، الموت لا بد منه. فما أحلاه إذا كان في سبيل الله. إني ضعيف حزين، ومعظم حزني هو من جراء احتسابي من أن إخواني حينما يرون أخاهم هذا أتضرج بدمي لأجل تمسكي بإنجيل الله يخورون ويفشلون. أسأل الله أن تكون النتيجة عكس ما أحتسبه وأخشاه لله تارك زوجتي المسكينة وطفليّ العزيزين، سمعت أنها الآن معهما في بيت أبيها. أرجو أن أراهم قبل موتي، كما ورجائي بحبكم أيها الكرام أن لا تغضوا النظر عن يتيمي أخيكم هذا، وبحسب الحق الوالدي أقيم عليهما من الآن وصيين كريمين سيدي الشيخ علي والشيخ محمود ليعتنيا بهم ويدبراهم في الرب، إذا شاء الله إخلاء سبيلكم والقرار في بلدكم، الأرجح عندي يا إخواني أني سأقتل في الغد، فلا يسؤكم ذلك جداً ولا تجزعوا لأني أموت لا لأجل جريمة ارتكبتها أو جناية جنيتها، بل لأجل الحق بسبب من قد مات لأجلي. كفاكم تبكون وتسحقون قلبي فإني وإن كنت أموت هكذا بنوع مؤلم مؤثر، لا ينبغي أن تحزنوا كثيراً لأن مدة الألم تكون بضع دقائق ومن ثم أسبقكم إلى الراحة الأبدية».
فأخذ أولئك الإخوان يعزونه بكلامهم، ودموعهم الواحد بعد الآخر، إلى أن قال الشيخ علي: «ماذا أقول وبماذا أعزيك يا عزيزي الحبيب؟ ليت السهم الذي رشق عليك كان عليّ، وليت الله يسمح أن أموت دونك. ليت الله يحول عنك هذه الكأس المرة، قال هي مرة ولكن عاقبتها حلاوة أبدية، بل لأقول هي حلوة في سبيل حب من تجرع أعظم منها لأجلنا، نعم نعم يا حبيبي، وأحمد الله الذي عظم إيمانك هكذا، وشدد قلبك حتى عن طيب خاطر. نقبل الموت هكذا حباً به».
ثم قال الشيخ محمود: «إن عقلي يضيق ذرعاً دون الكلام بتعزيتك يا صديقي. واأسفي، أيقتل الشاب اللطيف وتبقى الشيوخ نظيرناً؟ لا اعتراض يا إلهي على إرادتك». وهكذا كان يعزيه بدموع متواصلة وتنهدات متتابعة، فقضوا أكثر ذلك الليل بالحديث والصلاة لله.
أما ما كان من الوالي فإنه نحو الساعة الثالثة من الليل أتاه الجواب تلغرافياً من الباب العالي عن الإشارتين المتقدمتين وهذا نصه:
«وصلت لنا إفادتكم بإشارتين برقيتين تاريخ 1 و3 صفر عن الرجال الثمانية من علماء المسلمين في حاضرة ولايتكم. مفاد الأولى أنهم قد ارتدوا عن الإسلام واعتنقوا النصرانية، ولم يعبأوا بالنصائح والإنذارات التي أفرغتم جهدكم بها معهم، وتستعلمون منا كيفية وجوب معاملتهم بالنظر إلى ذلك. والثانية عما جرى من أحدهم المسمى عمر الحارس من كلام التجديف على القرآن الشريف والنبي المصطفى مما يمجه السمع ويكرهه الذوق، وأنه قد ثبت ذلك عليه مجلسياً بموجب شهود من أولي الذمة والاستقامة. فإن كان حقاً قد جرى ذلك منه بحق كتاب الله ورسوله نأمر بإعدامه بالسيف في غد وصول أمرنا هذا إليكم، وذلك بحضور هيئة الحكومة والعسكرية. وبإزاء رفاقه المتنصرين رهبة لهم وإنذاراً. وأما البقية فإنه كما لا يخفى على دولتكم إنا لا نقاض إنساناً على مجرد تغيير دينه وعقيدته، لذلك لا مسوغ بإجراء شيء من القصاص عليهم ما داموا سالكين بالحشمة والأدب، غير أنه إذا وجد أنهم يتعرضون للقدح والتنكيت على الدين، وبذلك يسببون شغباً واضطراباً في البلدة والولاية، فمراعاة للصالح العام وتوطيداً للسلام ينبغي إبعادهم إلى المحل الذي تنتسبونه خارج الولاية لإقامتهم فيه مؤقتاً. وينبغي إجراء ما ذكر بالحكمة والدراية كما هو شأن دولتكم. هذا ما اقتضى إفادتكم مع الرجاء بإفادتنا عن كل ما يحدث عندكم أفندم».
فبعد أن اطلع الوالي على هذا التلغراف، دعا في الحال أرباب المجلس مع مشير العسكر والأميرالاي وبعض أعيان البلد، وبعد أن حضروا تليت على مسامعهم الإشارة البرقية السامية فصرخوا جميعهم: «ليعش إلى الأبد سلطاننا ومولانا العظيم». فقال الوالي: «أما إعدام الشقي عمر الحارس بالسيف فيكون إن شاء الله نهار غد حسب منطوق الأمر السامي، ولكن في أي وقت من النهار ترونه أكثر مناسبة للإجراء؟». فأجاب بعضهم نحو الساعة الثالثة من النهار. وآخرون بل الساعة الخامسة. فقال القاضي: «أرى أن حسن لدى أفندينا فليتأجل الإجراء إلى الساعة الثامنة ليتمكن المحكوم عليه من وقت كاف لمراجعة نفسه، وليكون وقت لمن يزوره وينصحه من أهله وغيرهم، عله يرجع إلى دينه». ثم اختلى مع دولته القاضي والمفتي نحو نصف ساعة فأقنعاه بتأجيل الإجراء إلى الوقت المذكور، وبتأجيل إبعاد البقية إلى رابع عشر الجاري. وبعد انتظام هيئة المجلس أيضاً وقف الترجمان وقال: «إن حضرة دولة أفندينا الأفخم قد حسن لديه تأجيل الإجراء بإعدام عمر الحارس حسب الأمر السامي إلى نحو الساعة الثامنة من نهار غد، وبعد الإجراء يرى دولته في إبعاد بقية رفاقه إلى المكان الذي يراه أكثر موافقة ومناسبة». فأثنى الجميع على حلم دولته وانصرف كل إلى مكانه.
وفي الصباح أبلغ المذكور بالحكم عليه وبأجل إجرائه. وإذ شاع في البلد ورود الأمر السامي بإعدامه، وبلغ ذلك أهله وأقاربه، ناحوا نوحاً شديداً، ثم أخذت زوجته ولديها بيديها وكان سن الأكبر سبع سنين والأصغر خمساً وذهبت ووالدتها وأخاها وشقيقة زوجها المذكور إلى المجلس، وهي ممزقة الثياب محلولة الشعر تنهال الدموع من عينيها كالسواقي، ولما دخلت إليه سقطت مغشياً عليها على قدميه، فرق لها كل من رآها على تلك الحالة وبكى لبكائها الجميع. وبعد أن نبهها الحاضرون وسكن الحال نظرت إليه نظرة الملهوف وقالت له: «آه يا سيدي العزيز، أنت تعرف محبتي لك. كما وأني أعرف فرط حبك لي، فهل حقاً ترضى أن تتركني وطفليك هذين؟ وأويلاه، أترضى بعذاب قلب جاريتك هذه التعيسة بنيران حسرة وكمد لا يخمدها كرور الدهر؟ لا يا سيدي لا، لا يقس قلبك الحنون هكذا على حياتك وعلينا. آه، أتضرع إليك بحق من تحبه نفسك وبحق المحبة ارجع عن رأيك أو اكتمه في قلبك ريثما يفتح الله بابا للفرج». ثم سقطت على قدميه وبللتهما بدموعها، وصرخت صرخة تفتت لها الأكباد، فمد يديه وأنهضها بلطف ورقة وقال لها: «سكني روعك يا أعز الناس عندي اجلسي بهدوء واصغي لمقالي». فجلست ثم أخذ ولديه بيديه ومسح دموعهما وضمهما إلى صدره وقبلهما، فخفق قلبه ورجفت شفتاه وهمّ بالبكاء ولكنه تجلد وقال: «آه يا صديقتي، إنه لمن المحال دوام البقاء مع الأهل والأحباب في عالم الدنيا. ومن لم يمت اليوم سيموت غداً، ومن لم يمت بهذا النوع سيموت بنوع آخر. فيا أليفة صباي وزهرة عمري إن حبي لك ولولديّ هذين مهجة فؤادي وثمرة حياتي فوق ما أستطيع وصفه (ثم حول وجهه ومسح دموعه ثم عاد فقال) «فحياتي في سبيلكم رخيصة عندي، أبذلها دونكم بسرور إذا دعت الحاجة. اعلمي أني قد خلصت بنعمة الله على معرفة الحق الثمين بالمسيح ربي ومخلصي، وذقت لذة الخلاص المشترى لي بدمه، فإذا استحيت به وبإنجيله، وملت عن سبيله ولو ظاهراً فقط، مراعاة لحياة الجسد أو حباً بإطالة السكنة مع امرأتي وأولادي، أو إرضاء لخاطر أهلي وأصحابي، أكون لا ريب مكروهاً عند سيدي وغير مستحق أن أكون معه. فماذا ترين؟ أأختار الحياة الوقتية في مقاومة ضميري وعصيان ربي، ثم أذهب إلى جهنم الأبدية؟ أو حياة الأبد والسعادة الفائقة الوصف على التمتع بلذة الحياة الفانية؟ اعلمي أني لست خائفاً من الموت، لأنه ليس سوى معبر وجيز للعبور إلى ديار الراحة والسعادة، فإن كنت حقاً تحبينني فكفي إلحاحك ودعيني أمضي إلى حضرة ربي، واجتهدي لتقتفي أثري في طريق الحياة هذه عسى أن نلتقي هناك. لا يسمح لي الوقت بإطالة الكلام معك بهذا الشأن فقط وأنا على أزمة الرحيل من عالم الزوال. هذا ما أقوله لك ولأعزائي الحاضرين هنا معك: أن عيسى ابن مريم هو ابن الله الوحيد، الذي مات لأجلنا نحن البشر الخطاة ليفي ديننا ويمحو خطايانا ويصالحنا مع الله أبيه، وهذا منطوق الإنجيل، وغاية كل الكتاب الذي يصرح أن كل من يؤمن بالابن تكون له حياة أبدية. وهكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحي لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. أما ولداي هذان فأستودعهما الله، فهو لهما خير أب. وقد أقمت عليهما وصيين كريمين، سيدي الشيخ علياً والشيخ محموداً». ثم جمع قوته وتجلد ورفع يديه إلى السماء وقال: «الله، ينبوع الرحمة وإله الجود والإحسان، الذي اعتنى بي حتى اليوم، هو يبارككما في سبيله القويم. وإن فرق الناس بيننا اليوم، فلا يقدرون أن يفرقوا بيننا حينما نكون معاً إن شاء الله في بيته السماوي».
وأما أخته فوقعت تقبله بلهفة حتى غشي عليها، ثم استفاقت ويداها ملتفتان على عنق أخيها وكتفه وصرخت صرخة مرة جداً: «واروحي ونور عيني أخي العزيز الوحيد، بما أن لا أخوة لك ولا عصبة تضحي فريسة لمرام أهل البغي والعدوان. إني أكره يا أخي أن أزيد على مرارة قلبك الحنون، ولكن ماذا أعمل وأين أذهب؟ وما الحياة بعدك يا نور عيني؟ ليتني منذ الأول بلا أخ. ليت أمي ما كانت ولدتني حتى أرى أخي الحبيب قتيلاً، وأجرع كأساً ليس أمر منها. ويلاه، يا أخي. يا أخي ليتني أموت قبلك. آه، كيف أشاهدك يا روحي وعيني تتضرج بدمك؟ ليت نور عيني ينطفئ كي لا أرى هذا المنظر». ثم انكبت أيضاً على تقبيل يديه وعنقه وقدميه بعويل ونحيب لا مزيد عليهما، فقبلها هو ايضاً مراراً وبكى ثم قال: «كفى كفي يا أختى الحنونة، قد أذبت قلبي وسحقت فؤادي. ليس من فائدة بعد يا شقيقتي ليعزك الرب على فراقي».
وبينما هما على هذه الحال التي يلين لها قلب الجلمود، إذا بالقاضي والمفتي داخلان. وبعد جلوسهما أخذا بالكلام معه ليرجعاه عن معتقده فأبى، ثم أخذه القاضي إلى مخدع آخر وأفرغ جهده بالتكلم معه على خلاء أن يرجع ولو بالتظاهر فقط، ريثما يستحضر له فرمان العفو، وأنه متى أطلق من سجنه يرحل إلى الديار الأوروبية أو إلى لبنان، وهناك يشهر تنصره، ثم وعده بلسان الوالي مواعيد عظيمة أن يرجع إلى الإسلامية فلم يؤثر فيه كل ذلك أدنى تأثير، بل أجابه: «إني أشكر فضلكم يا مولاي، وإنما حاشا لي أن أترك إنجيل ربي وقتاً ما ولو ظاهراً، وتعلمون فضيلتكم أن أكره شيء عندي هو الرياء والتكلم باللسان خلاف ما في القلب، وإني مؤكد أن ما دعاكم إلى ذلك إلا حبكم ورقة قلبك، فليجازكم الرب عني كل خير». ثم تناول يد القاضي وقبلها بدموع الشكر، متوسلاً إليه أن لا يؤاخذه على عدم إذعانه إليه، ثم افترقا. وذهب القاضي والمفتي آسفين على هذا الشاب. أما هو فقام ودخل على إخوانه وكان كثيرون من أنسبائه ومعارفه يتواردون عليه ويتوسلون إليه عبثاً، حتى دنت الساعة، فوقع على عنقه إخوانه وأقاربه يودعونه الوداع الأخير ببكاء شديد، ولا سيما زوجته وشقيقته اللتين من حين دخوله هذه المرة ما برحتا معانقتين إياه تقبلانه بوجد لا يحيط به الوصف، إلى أن دخل الطابور أغاسي وعلق على صدره الأمر الصادر بإعدامه. ثم أخرجه مع أصحابه. ثم حضر الأميرالاي بفرقة العسكر الشاهاني فمشى الطابور أغاسي مع الضابطة في الأمام والأميرالاي بالعسكر في الوراء. مع أرباب المجلس والمأمورين كافة والمحكوم عليه ورفاقه في الوسط. وسار معهم جماعة من الأعيان وغيرهم من رجال ونساء جمهوراً غفيراً. وكان الأكثرون مسرورين بهذا الانتقام. وأما البعض من ذوي التعقل والإنصاف فكانوا بحالة الاكتئاب والكدر من جراء ذلك. وهكذا ظلوا سائرين إلى أن انتهوا إلى المكان المعد لقتله. ومن ثم اصطف العكسر بأسلحته اللامعة من جهة، والضابطة من جهة أخرى والجمهور من وراء على مكان مشرف وحينئذ تقدم المفتي وفصل بين المحكوم عليه وأخته وزوجته اللتين ما زالتا ماسكتين بيديه من هنا ومن هنا، وأخذهما وأوقفهما في أحسن مكان، ومن ثم التمس المحكوم عليه الرخصة ليتكلم شيئاً فرخص له فقال:
«إني أموت الآن مسروراً لأني أقتل لا بسبب جناية أو جريمة ارتكبتها ضد الحكومة أو الوطن أو شخص ما، بل لأجل تمسكي بحق الله تعالى. المعلن جلياً في كتابه. فها أنا على شفير الموت أقول: ورب السموات والأرض يعلم ما قد شهد به عليّ أولئك الشهود المبني حكم إعدامي على شهادتهم هو محض زور وافتراء ليسامحهم الله، أيا سادتي عمدة الحكومة الكرام والعلماء الأفضال الكليو الاحترام، ويا بني وطني وبلدتي المحبوبة، لم أسئ إليكم بشيء يوجب إماتتي هكذا، ولكن إذا كان قدر الله علي أن أموت لأجل تمسكي بإنجيل المسيح. فإني أقبل بجزيل الحمد والشكر، ومن كل قلبي أسامح كل من له يد بإعدامي. ها أني في آخر ساعة من حياتي أرغب أن أودعكم يا معشر بني وطني الأعزاء بهذه الكلمات الوجيزة: لا يخفى أننا معشر البشر جميعاً واقعون تحت سيف العدل الإلهي بسب خطايانا كما أنا واقع الساعة تحت سيف الحكومة. فالرحمن سبحانه من لطفه ورحمته شاء أن يخلصنا من مسئولية العدل الإلهي هبة منه ونعمة. وهذه الحقيقة الراهنة معلنة من لدنه في التوراة والإنجيل بجلاء ووضوح لا مزيد عليهما، وهي أن الله أقام عيسى بن مريم كلمة الله العجيب في الولادة الكامل في القداسة القدير في المعجزات، وسيط الصلح والسلام بينه وبين الإنسان. فكل من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية. هذا مفاد الكتاب وغايته حرّفاً ومعنى، كما أنزل من الله عز وجل. فانظروا إليّ يا بني جنسي وصحبي أني حقاً مسرور الآن بإيماني مع رؤيتي إعداد السيف لحتفي، وأحمد الله ربي الذي أهلني لأخاطب بهذا الحق الثمين جمعاً غفيراً كهذا قرب دقيقة موتي. أستودعكم الله يا سادتي وإخواني وأصحابي الأحباء، وإن كنت أسأت إلى بعضكم بشيء فأرجوكم السماح، وسيأتي يوم فيه نحشر أمام كرسي الديان الرهيب الذي سيجازي كل واحد كعمله». ثم جثى على ركبتيه وصلى لله طالباً البركة على وطنه وأهله، وعلى السلطان والولاة والحكام، والذين تآمروا على إهلاكه كافة، وختم الصلاة بقوله: «يا رب يسوع المسيح، في يديك أستودع روحي» ولما سكت وهو جاث مطرقاً بكل هدوء وسكينة انذهل الجميع من هذا المنظر ومن ذلك الوجه اللامع الرائق، وتأثروا من ذلك تأثراً عميقا. ثم نفخ في البوق إشارة للإجراء. وحينئذ ضرب عنقه فتدحرج رأسه من جثته وأخذ يتمرغ بدمه. فبادر إليه ذووه وأصحابه مولولين نائحين، وركضت أخته وأخذت رأسه بحضنها وضمته إلى جثته وهي تضطرب من ألم النزع، ثم وقعت عليه امرأته وأقاربه يبكونه ويندبونه ندباً شديداً، ثم وضع في تابوت مغطى بالمخمل الأحمر، وبأمر الحكومة حمل إلى مقبرة النصارى فدفن هناك بكل إكرام واعتبار.
إنه لما كان كثيرون قد تأثروا من خطاب عمر وصلاته وإقدامه الغريب على تجرع كأس الموت، رجعوا بقلوب ملتهبة وهم يقولون: «ما أجمل هذا الخطاب الذي فاه به بدون أدنى اضطراب أو انزعاج، حال كونه يرى السيف مسلولاً لبتر عنقه؟ ما أغرب الصلاة التي قدمها لله وهو جاث للذبح. كيف صلى هكذا لأجل أعدائه والدولة؟ ما هذا الروح؟ عجباً. كيف كان وجهه لامعاً طلقاً تلوح عليه لوائح السلام والاطمئنان كوجه ملاك؟. ثم أخذوا يلومون الذين دبروا تلك المكيدة والذين شهدوا عليه زوراً. وكان أوفرهم تأثيراً رجل يدعى أحمد أفندي القوتلي، فهذا رغب جداً أن يقف على كنه الديانة المسيحية. وفي الحال ذهب واشترى الكتاب المقدس مع بعض الكتب الأخرى الدينية، مخصصاً القسم الأكبر من وقته لدرسها، ولم يزل على هذا المنوال حتى أضاء الحق قلبه. فآمن بمسيح الله وكتابه المشهود له من نفس القرآن أنه كتاب الله. قائلاً: «أي عذر للمسلم لدى الله على عدم اكتراثه بكتابه الجليل؟ وما الدعوة أنه محرّف إلا دعوة فارغة لا يعتد بها، لأن القرآن لم يقل هكذا: وإن كان الكتاب سالماً صحيحاً حينما نطق بالقرآن فليس بممكن فيما بعد تحريفه».
ولنرجع في الحديث إلى أولئك الرجال الثلاثة المرتدين كما سلف الكلام عنهم، فإنهم لما شهدوا منظر الشهيد عمر المؤثر هاجت ضمائرهم وبكتتهم بعنف على ارتدادهم عن طريق الحياة، فبكوا لذلك بمرارة وحرقة فؤاد، وزاد في ذلك السيد مصطفى الحقاني إلى أن قال: «الويل ثم الويل لنا. كيف ارتددنا عن سبيل إلهنا واخترنا الدنيا دون الآخرة وراحة الجسد على راحة الضمير؟ يا ليت رأسي ماء وعينيّ ينبوع دموع لأبكي ليلاً ونهاراً إثمي وشر ارتدادي من وراء ربي ومخلصي». وغص في البكاء حتى انعقد لسانه عن التكلم، فكان ثم سكوت بضع دقائق. ثم قال حسن أفندي قباواتي: «نعم ويل لشقاوتنا، فما حالنا الآن إلا كحال مرائين منافقين، نتراءى بدين لا محل له في قلوبنا، وننكر ديننا نعتبره دين الله الحق. إن رجعنا وتمسكنا علانية بالإنجيل يتعاظم حنق الأمة والحكومة علينا، فلا يلبث الحال أن تدبر علينا مكيدة لإهلاكنا كما دبر على المرحوم عمر، فأرجو الله أن يغير الحال، ونأخذ الحرية محلاً رحباً في هذه البلاد، فيكون وقت أنسب للمجاهرة بالمسيحية». فصدق على ذلك السيد حسن أبو النصر. أما السيد مصطفى فأجابهما: «أواه يا أخوي، ألا نعترف بالمسيح الفادي ونتبعه إلا في زمن الراحة والحرية، ونتركه وإنجيله في وقت الضيق والشدة؟ أهذه محبة أن تمدح المحسن إليك وتشكره ما دمت على مائدته، وتنكر جميله حينما لا يكون ذلك؟ أهي محبة أن نعترف بحق ابن الله فادينا ونتبعه حين الرخاء والحرية وننكره زمن التعب والبلية؟ ما نحن بذلك إلا عبيد خائنون. فلننف الخوف والجبانة من قلوبنا، ولا نرهبن الموت لأجل اسم من قد مات عنا، ولنتقدم باسم الله إلى المسيح في الطريق التي ملنا عنها وقتاً قليلاً، والذي غفر للجاحد بطرس يغفر لنا. فإن عشنا من ثم نعيش له، وإن قضي علينا كما قضي على أخينا فيكون قد عجل بنا إلى نيل إكليل المجد والحياة، وحسبنا بذلك مماثلة سيدنا وربنا الكريم. فهلم يا سيديّ ولا تتباطاءا في إجراء هذا الواجب. وإن كنتما لا تريان ذلك الآن. فها أنا ذاهب إلى الحكومة وأعترف لديها بإيماني المسيحي، فإن قضت عليّ فيا حبذا، وإن سمح ببقائي وانضمامي إلى إخواني المأسورين يكون ذلك سروراً لقلبي وابتهاجاً لضميري. فما فكركما يا سيديّ وما تريان؟» أجاباه: «حقاً أنك يا سيدي مصطفى لمسيحي شجاع، وأما نحن فلا. صلّ لأجلنا». ثم افترقوا بعضهم عن بعض، أما هو فذهب كئيباً حزيناً على حالة صاحبيه المذكورين. وفي الغد ذهب نحو الساعة الرابعة إلى الحكومة، ودخل بجرأة إلى أمام حضرة الوالي والمجلس. ولما نظروا إليه سأله المفتي: «مالك يا سيد مصطفى؟» قال: «ألتمس من حضرة أفندينا أن يسمعني بحلمه» قال الوالي تكلم قال: «أنا عبدكم أحد الرجال الثلاثة الذين ارتدوا ظاهراً عن الدين المسيحي أمام دولتكم في هذا المجلس منذ نحو عشرة أيام، فمن ذلك الوقت للآن لم يسترح ضميري قط، ولا اطمأن قلبي، بل أنا كمن هو في أليم العذاب من تأنيب الضمير، لأن ارتدادي لم يكن عن اقتناع ببطل الدين المسيحي، بل عن خوف. فالموت عندي أفضل من حياة شقية كهذه. فعبدكم رجل مسيحي مؤمن بالمسيح ابن الله سيد البشر وفادي الخطاة حسبما جاء في كتابه تعالى. وإني لنادم على إنكاري سالفاً هذا الحق المبين أمام دولتكم والمجلس، ومقابلة لذلك الجحود حضرت الآن لأعترف بخطأي وأقر بإيماني، فافعلوا بي ما يحسن في عينيكم».
فلما سمع الوالي والمجلس هذا الكلام المدهش من الحقاني، ورأوا شجاعته وإقدامه الغريبين، دهشوا. ثم نظر إليه الوالي بغضب وزجره قائلاً: «يا خنزير يا منافق، أتكذب إذا على حكومة السلطان؟ فأي قصاص تستوجب يا خبيث؟» فاجابه برزانة وشجاعة: «نعم لقد نافقت وكذبت ليس على أفندينا والمجلس فقط، بل أيضاً على المولى سبحانه وتعالى. ولكنني تبت له وهو الغفور الرحيم. فإن كنت لذلك أستحق الموت فلا أستعفي من الموت، بل أقبل إليه بسرور وراحة». فازداد الحاضرون تعجباً وذهولاً. أما الحقاني فكان لدى الوالي والمجلس كصخرة ثابتة راسخة في وسط البحر، ولم يكن لغضب الوالي وتهديداته أدنى تأثر في لون وجهه أو حدوث اضطراب في كلامه أو جسمه. فأخرج خارج المجلس، وبعد المداولة في أمره قر الرأي على ضمه إلى رفاقه المسجونين، فأدخل أيضاً. وبعد مثوله لدى الوالي وتكرارا النصائح له عبثاً بالعدول عن هذا السبيل، قال له الوالي: «إذا نضعك الآن مع صحبك الأشقياء وننظر في أمرك فيما بعد». فأمر بإنزاله وأخذه إليهم. أما أولئك المساكين فإذ كانوا قد تكدروا جداً من قتل أخيهم عمر وذلك المنظر المؤثر، رجعوا إلى مكانهم بحزن وانكسار قلب لا مزيد عليه، وكانوا لا يفترون عن ذكره واللهج بخطابه الوداعي الأخير وصلاته الروحية الحارة وهم يثنون على صبره وثباته حتى الموت. لكن لما علموا أن السيد مصطفى مثل أمام الوالي والمجلس ليعترف بإيمانه المسيحي نادماً على إنكاره ذلك، فرحوا وتعزوا نوعاً. وعندما دخل إليهم نهضوا إليه بوجوه متهللة مرحبين به ومسلمين عليه بقبلات المحبة والشوق. ثم حدثهم المذكور بكل ما جرى له ولصاحبيه، فتعجبوا وأثنوا عليه وحمدوا الله على إرجاعه إلى طريق الحياة.
أمّا ما كان من الوالي والمجلس فبعد إيداع الحقاني السجن أخذوا يتحدثون في أمره. فقال الوالي: «عجباً أن إعدام ابن الحارس أنتج رجوع هذا الشقي أيضاً إلى النصرانية رافضاً الدين الإسلامي في وسط هذا المجلس بجرأة غريبة، عكس أملنا وانتظارنا هكذا». قال القاضي: «إني منذ البداءة لم أستحسن إعدام بعضهم، ظناً مني أن ذلك لا يأتي بالمطلوب، ولكن قط ما داخل فكري أن إعدام أحدهم ينتج ما قد أنتج الآن من رجوع هذا الإنسان إلى النصرانية واستخفافه بالموت. حقاً إني لمتعجب جداً من وقوفه هكذا لدى دولتكم بثبات وهدوء مدهشين». فقال بعض الجالسين: «إن هذا إلا من إبليس الرجيم فإنه أخزاه الله يدخل قلوب ذوي الكبر والعجب فيملأ صدورهم من الأوهام الوساوس، حتى يتخيلوا الحق باطلاً والبطل حقاً» فقال آخر: «نعم ولكن هؤلاء المتنصرين لم يكونوا من أهل الكبر والعجب، بل من أجلّ أهل بلدنا وأوفرهم دعة وتواضعاً وحكمة، فكيف داخلهم هذا الوسواس واعتراهم هذا الوهم؟».
قال المفتي: «لا يظن أفندينا أن تأثير إعدام عمر بن الحارس قد أرجع فقط هذا الرجل إلى ما كان قد رفضه سابقاً، بل أؤكد لأفندينا أن ذلك قد أثر في قلوب كثيرين من المسلمين تأثيراً جعلهم يحسنون الظن نوعاً في الديانة النصرانية، وقد قال كثيرون على مسمع مني من شيوخ وشبان ابن الحارس قتل ظلماً، وأن الشهود قد شهودا عليه زوراً، وأنه كان واجب محاولة إقناعه بالدليل والبرهان لا بالسيف إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يسعني ذكره». فقال الوالي: «ما تقول يا مفتي أفندي؟ أصحيح هذا الكلام؟». أجاب: «نعم وحياة رأس أفندينا. هذا هو الواقع». فاغتاظ الوالي وتكدر جداً، ولبث برهة لا يتكلم ولوائح الغيظ والحيرة تلوح على وجهه، ثم قال: «ماذا علينا ولم تجر الحكومة شيئاً خارجاً عن الشريعة والنظام؟ فدعونا من هذا الحديث المكدر». فسكتوا وداروا إلى أعمالهم السياسية.
أمّا ما كان من الشيخ ناصر الدين وصحبه كالشيخ عبد الكريم والسيد عبد القادر وما شاكلهم من ذوي التعصب والخشونة ، فإنهم لما رأوا أن قتل عمر الحارس لم يرو لهم غليلاً، وان ابن الحقاني قد رجع إلى ما كان قد جحده، اضطرمت قلوبهم بنيران الحقد والغيظ يجولون في الأسواق والشوارع مخبرين كل من صادفوه أن سبب سجن المتنصرين وإعدام أحدهم هو تفوههم كثيراً بكلام ثلب وتجديف لا تحتمله الآذان على القرآن والنبي والصحابة الكرام، وما شاكل ذلك من الافتراء والطعن.
أصبح أهل الأسرى وأنسباؤهم بحزن وخوف لا مزيد عليهما مما جرى على عمر المذكور، ومما كانوا يرون ويسمعون بحقهم من الافتراءات والأراجيف المستمرة كما ذكر، فكانوا لا يفترون قط عن اتخاذ الوسائل الممكنة لوقايتهم من سهم الأعداء ولإطلاق سبيلهم إن أمكن. متوسلين إلى القاضي والمفتي وحريمهما وإلى كل من في قلبه رحمة بشأن المومأ إليهم حتى رق لهم كل ذي قلب شفوق ورثى لهم كل ذي رأفة.
هذا ومنذ يوم دخلوا السجن للآن لم يفتر القاضي الكريم والمفتي مع كثيرين من علماء البلد وأعيانها ذوي الرقة والحنو عن التردد عليهم وتقديم النصائح لهم، وخصوصاً بعد إعدام عمر الحارس. وناهيك عن حريمهم وأولادهم وإخوانهم وأخواتهم الذين يومياً كانوا يأتونهم نائحين باكين متوسلين إليهم أن يرجعوا إلى دينهم ولو ظاهراً فقط، بحيث يبقون في بيوتهم وبلدهم مستأمنين على حياتهم، فكان ذلك أعظم داع لألم قلوبهم وضيق صدورهم، وكانوا كثيراً ما يتمنون الإبعاد والإلحاق بأخيهم عمر تخلصاً من مثل هذا العذاب الذي لا يطاق.
فقال السيد إبراهيم: «شتان ما بين دموع المرء ودموع أهله، فإن دموعه تطفئ نيران قلبه ودموع أهله تصليها».
وقال الشيخ سليمان: «دموع الوالدة والأهل المصاحبة لتوسلاتهم هي أقوى الجبال لجذب القلوب وإدنائها، ولكن النعمة في القلب هي كسلسلة ذهبية تربطه بالله، فلا تستطيع أن تفعل بها شيئاً تلك الحبال».
وقال الشيخ محمود: «إن دموع الوالدين والأنسباء المصاحبة لتوسلاتهم لرد المرء عن سبيل الله هي أعظم الأسلحة وأمضاها فمن لم يغلب بهذه لا يقدر السيف أن يغلبه».
وقال الشيخ علي: «لا أظن أن شيئاً أثر في قلب فادينا الكريم وهو معلق على الصليب كرؤيته أمه تسيل الدمع المدرار ألماً عليه، ولكن جسامة رغبته في خلاص نفوسنا هونت عليه شرب تلك الكأس العلقمية. كذا تلاميذه وهم سائرون وراءه تلهيهم دموع الوالدين والأهل، غير أن حبهم إياه مكنهم من الجلد على احتمالها».
قال الشيخ عبد الحليم: «قد تقرحت أجفاني من فرط البكاء والنحيب على فقد وحيدي. فكما أن دموع الوالدين لا ترد إلى الحياة من مات من أولادهم، كذا دموع الأهل والإخوان لا تقدر أبداً أن ترد للعالم من قد مات بالمسيح عن العالم».
وهكذا عزى بعضهم بعضاً بمثل هذا الكلام.
اجتمع القاضي والمفتي بالشيخ إسماعيل صالح رئيس البلدية وحسن أفندي العطار أحد نواب المدينة وعبد الرحيم أفندي رئيس الجزاء والشيخ عبد الحميد إمام الجامع الكبير، وبعد أن تداولوا طويلاً بأمر العلماء المذكورين، أجمع رأيهم على أن يضربوا الضربة الأخيرة علها تأتي ببعض المقصود. ثم أتوا إليهم، وبعد دخولهم وإداء السلام ومبادلة التحيات رفع القاضي نظره وقال:
«طالما استغنمنا الفرص يا إخواننا لمشاهدتكم ومحادثتكم بما نراه خيراً لكم، فنرجوكم احتمالنا بحلمكم. لا بد أنكم قد علمتم بخروج المضبطة بإبعادكم عن بلدكم وأهلكم، الأمر الذي ساءنا كثيراً حيث نرى أفضل إخواننا وأعز خلاننا ينفردون عنا في الدين والجسد. وإننا قد جئناكم بكل إخلاص مكررين توسلاتنا إليكم أن ترجعوا إلى دين آبائكم فتبقوا متمتعين برؤية أهلكم وأولادكم» فبكى حينئذ الأكثرون، وزاد في ذلك الشيخ محمود، فإنه كان غاية في رقة القلب ولطف الخاطر. ثم أخذ بقية أولئك الزائرين يتكلمون على هذا المنهج الواحد بعد الآخر وأولئك صامتون عابسون. وبعد أن أفرغ القاضي وصحبه جعبة توسلاتهم وإنذارهم، أجاب الشيخ علي: «يا سادتي الكرام، لا يلزمني محاولة التعبير عما يقصر دونه لساني من إظهار حاسيات الامتنان والشكر لأفضالكم ومكارم أخلاقكم، ولكنكم تستغربون أن قلنا لكم أنه ليس في استطاعتنا إجابة طلبكم لسبب. فنتوسل إليكم أن تسمعونا بطول الأناة، وبعد ذلك احكموا. تعلمون بإكرام أن محل الاقتناع واليقين هو القلب كما قلنا غير مرة. والواسطة لإدخال ذلك إليه هي الدليل والبرهان، فلا يخفى على حضراتكم أنه لدى وقوفنا على تلك الرسالة التي بلغكم أمرها ورأينا أنها ذات أدلة وبراهين لا يجدر بذي العقل الإغضاء عنها، آثرنا البحث فيها بإخلاص وجد، والقضايا التي اتخذناها مواضيع بحثنا: أولاً هل التوراة والإنجيل الموجودان الآن بيد اليهود والنصارى هما نفس اللذين كانا في عصر الحواريين وعصر محمد؟ ثانياً: هل التوراة العبرانية الكائنة بيد اليهود هي ذات التي بيد النصارى بلغاتهم المتنوعة؟ ثالثاً: هل تطابق التوارة والإنجيل؟ وهل مفاد الإنجيل هو غاية التوراة؟ رابعاً: هل توجد مطابقة جوهرية بين نسخ الكتاب العديدة وتراجمه المتنوعة التي هي بيد طوائف النصارى وفرقهم؟ خامساً: هل في القرآن ما يسند من بعض الأوجه مفاد الإنجيل بخصوص لاهوت المسيح وموته بالجسد؟ وبعد إفراغ الجد والجهد في البحث بهذه القضايا اتضح لنا ولله الحمد صحتها، كما يقول صاحب تلك الرسالة. وتعلمون حضراتكم أن اليقين المتأصل في القلب بواسطة الدليل والبرهان محال استئصاله منه بدون أدلة وبراهين أقطع فلا شيء في العالم يستطيع نزع ما قد تأصل في قلوبنا ومحو ما قد نقش عليها إلا على فرض تبيان بطلانه ذلك بالطريقة المذكورة، وهذا نراه محالاً. فإن كان ذلك يا سادتي في إمكانكم فلا تبخلوا به وإلا فاعذرونا. نعم ليس من الهين مبارحة الوطن والأهل والخلان واحتمال العار والموت، ولكنه أهون علينا وأسهل من رفض الحق ومقاومة صوت الضمير وإذا أجبنا طلبكم ورجعنا إلى الإسلام لا يكون منا ذلك إلا رياء وكذباً، والموت أحب إلينا من عيشة كهذه. إننا مستعدون لاحتمال كل مكروه بسبب هذا الطريق - والأمر والإرادة للعزيز الرحمن وهو حسبنا ونعم النصير».
فقال المفتي: «إننا نتأسف كل الأسف على ضياع اجتهادنا بما هو لخيركم، وليس لنا قصد أن ننازلكم يا أحباء في ميدان المحاورة والمناظرة، لأنكم تعلمون ما نعلمه من الاعتراضات على النصرانية، بل نظن أنكم محنكون في هذه الأمور أكثر منا، فلا مطمع لنا في أن ذلك يؤثر فيكم شيئاً: وعليه فإننا نذهب راجين ممن هو على كل شيء قدير أن يردكم من سبيل الضلال إلى صراط الحق والهدى».
ثم قاموا وانصرفوا، وكان القاضي وهو آخذ في طريقه يناجي نفسه هكذا: «ما أشجع هؤلاء الرجال وأشد عزيمتهم. إني لا أرى عندنا من الأدلة والبراهين على صحة الإسلامية كالتي نوه عنها على صحة النصرانية وأنّى السبيل لدحضها؟».
أما أولئك المساكين فقد تمنوا إبعادهم حالاً إلى مكان ريثما يستريحون قليلاً من هذه الحال المكربة. ثم قال بعضهم لبعض: «هل يا ترى تيقن أولئك الأصحاب عدم وجود ما يدحض البينات المسيحية، فأبوا لذلك منازلتنا، ونبهوا على العامة أن لا يفاتحونا بشيء من ذلك خوف الفضيحة والاقتناع؟ فإن كان ذلك فهو من العجب العجاب أن علماء أفاضل كهؤلاء لا يسعون وراء ما يخال لهم أنه حق».
قال آخرون: «ترى أن تمنعهم من الدخول معنا في البحث والمناظرة دليل على أنهم ما رأوا أن لهم من الأسلحة المناسبة لهذه المنازلة، فرأوا من الحكمة عدم إصلاء نارها كما يشف كلام مفتي أفندي». فكانت ملاحظات كهذه تزيدهم تمكناً في الديانة المسيحية، ونمواً في فهم حقائقها الإلهية.
اجتمع القاضي وأصحابه المذكورون في غد اليوم، وتداولوا ملياً فيما كان بينهم وبين العلماء المتنصرين. وأخيراً قال حسن أفندي العطار: «لا أرى يا إخوان طلب أولئك الرجال إلا طلباً عادلاً، فمن الظلم أن يلاموا بدون أن يبين لهم بطلان ما قد تقرر في عقولهم. وهل يليق بنا رفض طلب عادل كهذا؟ ألا يعد بعد ذلك دليل العجز والضعف؟ لا لا يا إخوان علينا أن نكون على استعداد دائم لدحض كل تعليم ومعتقد يقاوم ديننا بسلاح الدليل والبرهان، وإلا فأي محل للمفاخرة بما لا نقدر أن نبين حقيقته فعندي من الواجب منازلة هؤلاء الرجال في ميدان المناظرة بكل جد وثبات وإخلاص ووداعة، علنا نستطيع أن نبين لهم غلطهم، وبذلك نكون قد أرحنا الضمير وأبرأنا الذمة». فاستصوب الجميع هذا الرأي وعينوا للذهاب إليهم ليلة الأربعاء ثامن صفر. فأبلغوا ذلك المتنصرين فتوكلوا على الله واستعدوا إلى ذلك اليوم بالصوم والصلاة. ولما كانت تلك الليلة اجتمع العلماء المذكورون في غرفة أعدت لهم في المجلس، ودعوا إليهم المتنصرين فحضروا، وبعد أن جلسوا وحيا بعضهم بعضاً قال القاضي: «لما رأينا أيها الأحباب إيجاب طلبكم واجباً، حضرنا الآن بذات الإخلاص الذي تعهدونه فينا، فأصرح الآن بحرية هذا الاجتماع، أي أنه لكل من الفريقين المتناضرين الحرية التامة لإبداء رأيه والمحاماة عنه، وله أن يعترض أو يسأل مع مراعاة حرمة الأدب والحشمة ومن الواجب أيضاً في هذا الاجتماع غض الطرف عن كل هفوة تحدث أثناء المناظرة مما ينتظر وقوعه من قبيل الضعف الإنساني. فتفضلوا إن شئتم يا إخوان قولوا ما بدا لكم».
فأجاب الشيخ علي بعد أن شكر حضرات العلماء على إجابة ملتمسهم، وحضرة قاضي أفندي على ما فاه به من درر الألطاف وما خوله من الحرية لهذا الاجتماع: «بما أننا نحن المعتزلون الدين الإسلامي، وحضراتكم الساعون وراءنا لردنا إليه، فيكون لحضراتكم أن تسألوا عن علة ذلك وسببه».
فقال القاضي: «حسناً فلتختر كل من الفئتين شخصاً ليتناظرا فيما يريدان من المسائل، بشرط أن يكون البقية في سكوت ما دام في ميدان المناظرة». فاختارت الفئة الأولى قاضي أفندي والأخرى الشيخ علي.
فقال القاضي: «أما علة هجركم الإسلامية وذهابكم إلى النصرانية فهذا قد سمعناه منكم غير مرة، فلا حاجة بعد للسؤال عنه، غير أني أسألك يا شيخ علي: «ألا يستطيع الرحمن خلاص البشر إلا بإرساله ابنه هذا، على فرض أن لله ابناً كما تزعمون، ليتخذ جسدنا ويعيش عيشتنا ويقتل بأيدي الأشرار الأثمة؟». أجاب الشيخ علي: «كل شيء يستطاع لديه تعالى إلا مناقضة صفاته وخرق كماله». فقال «نعم، ولكن ما تعني بذلك؟». فقال الشيخ علي: «أعني من كونه سبحانه وتعالى عادلاً كما هو قدير، فقدرته لا تخرق عدله، فإذا رحم يرحم بالحق والعدل».
القاضي: «وهل يسأل الله عما يفعل؟ إذا أجرى أمراً فمن يقول له هذا عدل أو غير عدل أو هذا ينافي صفاته؟».
علي: «نعم لا يسأل سبحانه عما يفعل. ولكن أعماله لا تنكد على كمال صفاته، فلا يمكن أن يجري مرحمة ما إلا بموجب الحق والعدل. أليس الأمر كذلك يا مولاي؟».
القاضي: «من كل بد وعلى كل حال».
علي: «إذ قد سلمتم حضرتكم بأن الله لا يسأل عما يفعل، لا يسبغ مراحمه إلا بالحق والعدل، فعليه أقول: لا يبرر الله الأثيم ولا يخلص الإنسان المجرم لديه تعالى إلا بطريقة الحق والعدل. وما لسبيل إلى معرفة هذه الطريقة وما الوسيلة إليها؟».
القاضي: «وما حاجتنا إلى معرفة هذه الطريقة؟ فسواء عرفناها أم لا، يجري الله أعماله بموجب كماله ومطلق سلطانه».
علي: «إنّ احتياج الإنسان إلى معرفة طريق خلاصه أبين من أن يبين: أولاً - ليعرف جود الله الفائق وحبه له ليستطيع أن يحبه ويشكره كما ينبغي. ثانياً - ليتقدم إليه تعالى بذات الطريقة التي أعدها له، ويدخل الباب الذي فتحه له، وإلا فما الداعي لإنزاله تعالى كتابه العزيز تماماً على التي هي أحسن وهدى ونوراً؟ ألا أن نفس الكتاب هو إعلان طريقة رحمة الله وعفوه؟ فالقول: ما حاجتنا إلى معرفة طريق الخلاص هو كالقول ما حاجتنا إلى كتاب منزل من لدنه تعالى؟».
القاضي: «حسناً أن الله سبحانه وتعالى من حيثية العدل يقاص الخاطئ في هذه الدنيا بالتجارب والبلايا، وإن لم يف ذلك حق العدل يقاصه زمناً محدوداً في جهنم وفاء لحق العدل، ثم يسبغ عليه رحمته فينقذه ويدخله جنات الخلد والنعيم».
علي: «إن ما أتيتم به حضرتكم لا ينطبق على عدله تعالى ولا يوافق حالة الإنسان كما سترون وهنا أسأل حضرتكم ماذا يستوجب الإنسان المعتدي دائماً على شريعة الله الغير المحدود واللامتناهي في العظمة والقداسة؟».
القاضي: «يستوجب النيران الجهنمية حتى يوفي حق العدل ويحصل من ثم على العفو والرحمة».
علي: «قد قلت فيما تقدم أن ذلك لا ينطبق على عدله تعالى ووعدت بالبينات. وهنا أسأل حضرتكم: ألا يستوجب المجرم إلى الحضرة الغير المتناهية قصاصاً غير متناه؟».
القاضي: «أتعني حضرتكم خلود الخاطئ في جهنم، مؤمناً كان أم كافراً؟».
علي: «أعني من حيثية استحقاق المجرم لا من حيثية كونه مؤمناً أو كافراً؟ ألا يستوجب قصاصاً غير متناه وهو مجرم بحق الله غير المتناهي؟».
القاضي: «لا أفتكر أن المجرم إلى الله غير المتناهي سبحانه وتعالى يستوجب قصاصاً بلا نهاية بل قصاصاً شديداً مديداً مقدار جرائمه وآثامه وإلاّ فأين الرحمة؟».
علي: «أرجو سيدي إمعان البصيرة في هذه المسألة الدقيقة، الرحمة في عرف أهل اللغة ما هي إلا الصفح عن الذنب والعفو من القصاص، فإذا عفت الحكومة عن مجرم نقول ذلك رحمة منها، ولكن إذا قاصته بالحبس لأجل ما ثم أخرجته لا نقول أنه أخرج من سجنه رحمة أو عفواً، كلا. وعليه لا محل للقول برحمة الله على من قام بقصاص خطاياه وفاء لعدله تعالى. فنحن إذا لم نزل في حاجة إلى معرفة ينبوع الرحمة الإلهية القائمة بالعفو لا بالقصاص. ولنرجع إلى النظر لقول حضرتكم أن الخاطئ بحق الله غير المتناهي لا يستوجب قصاصاً غير متناه، فأقول حضرتكم قاض تقضي على المجرمين، فهل في شرعكم يا مولاي أن جزاء مجرم من نوع واحد ضد أشخاص متفاوتي القدر والمقام ينبغي أن يكون متساوياً بالنسبة والمقدار؟ هل جزاء من يشتم الوالي كجزاء من يشتم السلطان وجزاء من يشتم السلطان كجزاء من يشتم نبي الإسلام؟».
القاضي: «كلا، من يشتم النبي يقتل، ومن يشتم السلطان يجاز جزاء شديداً دون ذلك، ومن يشتم الوالي جزاؤه أقل وهلم جراً».
علي: «لقد لزمتكم الحجة يا مولاي وسقطت دعواكم سقوطاً لا نهوض لها منه (قال المفتي همساً: نعم وأي سقوط) وبيانه إذا كان قصاص المجرم الواحد بحق المخلوقات متفاوناً بنسبة تفاوتهم في القدر والمقام، فعليه يكون قصاص المجرم بحق الذات الإلهية غير المحدودة واللامتناهية في الشرف والعظمة بلا حد ولا نهاية. ثم إذا كان القصاص واجباً عدلاً عند ولاء العالم المقامين منه تعالى، فكم بالحري لدى ملك الملوك وحاكم الحكام. نعم هو رحيم وعادل. فكما أنه أرحم الراحمين هكذا هو أعدل العادلين، وإذ ذاك أين الطريقة يا مولاي لانفجار ينبوع الرحمة مع بقاء العدل غير مثلوم؟».
القاضي: «لا يعلم تلك الطريقة إلا ربك الذي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء».
علي: «لا يؤاخذني سيدي إن قلت أن قولكم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء مباين جداً لقولكم السالف أن الخاطئ بعد ما يقوم بقصاص ذنوبه في جهنم وفاء للعدل يرحمه الله وينقذه إلى آخر القول لأن المغفرة ما هي إلا المسامحة بالذنب والعفو عما يستوجبه المذنب من القصاص. أما تلك الطريقة، أي طريقة اتفاق العدل والرحمة في الله سبحانه، فمن المعلوم أنه ليس في وسع العقل الإنساني استكشافها ولذلك سبحانه من فرط لطفه أعلنها لخلقه المذنبين في كتاب مبين».
القاضي: «هات بيان ذلك إن استطعت».
علي: «لا يخفى على سيدي أن التوراة تنبئ جلياً وتشير إلى هذه الطريقة العجيبة، والإنجيل يخبر بكل جلاء ووضح عن صيرورتها. ولأنه ليس في وسعي الآن سرد ما جاء في التوراة بهذا الخصوص، أجتزئ بأن أقول أنها تنبئ كثيراً عن هذه الطريقة التي هي المسيح الفادي للبر لكل من يؤمن بجلاء وصراحة مدهشتين، لا سيما ما جاء في نبوة إشعياء في الأصحاح التاسع والثالث والخمسين. ففي الأول تصفه وصفاً عجيباً ولداً وابناً ورئيساً مشيراً عجيباً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام وفي الآخر أنه ضُرب لأجل ذنب شعبه وأنه مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا، والرب وضع عليه إثم جميعنا. إلى أن يقول جعل نفسه ذبيحة إثم بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها وتعين زمان مجيئه وطريقة ولادته ومكانها ونسبه وأعماله والمقاومة التي سيصادفها من شعبه ونوع موته وغايته ونتيجته كما تقدم. وتشير إليه بأنواع الرموز والكنايات، الأمور التي لو نزعت من التوارة لكانت حرّفاً بلا معنى كبيدر قش خال من الحنطة».
القاضي: «لا جرم أنك متيقن سلامة التوارة من التحريف والتغيير ولذا نترك البحث بهذا الشأن وأقول ما الرموز في التوراة إلى عيسى المسيح كفادي الخطاة؟».
علي: «هي كثيرة ومتسعة، أجتزء منها بذكر أجلّها، وهو رسم الذبائح الدموية ضحايا لله ككفّارة عن الخطية وكون هذه العادة جارية من عند أبينا آدم، وقد تداولها كل الآباء الصالحين حتى موسى، كما لا يخفى الذي أنزل عليه التوارة رسوم تلك الضحايا المتنوعة والتعليم يكون وضعها إنما هو كفّارة عن الخطية، وكلها (ولا سيما ذبيحة يوم الكفّارة عاشر تشرين أول) وخروف الفصح يشير إلى حمل الله رافع خطية العالم، الذي كان عتيداً أن يأتي ويسفك دمه قرباناً لله وفداء للإنسان، كما أنبأ أنبياء الله القديسون. وهل يسر الله بسفك دم الحيوانات وإحراقها ويرتضي بها كفدية عن نفس الإنسان؟ وهل من العدل أن يقاص الحيوان عن الإنسان والبهيم عن العاقل والزائل عن الخالد؟ هذا ولدى اختبار عوائد الأمم في كل الأقطار ترى أن أجل وأهم أنواع العبادة عندهم تقديم الضحايا الدموية لآلهتهم الباطلة، حتى من فرط اعتبارهم ذلك آل الأمر بهم إلى تقديم الضحايا البشرية لتلك المعبودات الباطلة. وبما أن ذلك خارج كما لا يخفى عن دائرة الاستنباط البشري، يستدل به عن اتصال هذه العادة إليهم بالتداول من السلف إلى الخلف وكونه في الأصل وضعاً إلهياً. ثم كيف يعلل عن تعميم هذه العادة عند أمم العالم مع اختلاف لغاتهم وعوائدهم، وعن غاية المولى سبحانه في إعطاء هذه الرسوم، إلا أنها تشير إلى ما هو أهم وأسمى بما لا يقاس، ولدى مقابلتها مع نبوة الله وإعلانه في التوراة والإنجيل تتجلى لنا غايتها، وهي الإشارة إلى فادي الخطاة، وإلى دم كريم كان عتيداً أن يسفك فداء العالم».
فأومأ من ثم القاضي إلى الشيخ عبد الحميد ان يأخذ عنه قليلاً في المناظرة، فقال ذلك: «من ينكر قدمية هذه العادة وكونها في الأصل وضعاً إلهيا؟ ولكنني أرى من الجسارة البحث عن علة إعطاء الله هذا الرسم للإنسان وسببه».
علي: «لما كان سبحانه لا يأتي أمراً ولا يشرع شرعاً بدون سبب وغاية، وكان للعقل الموهوب من لدنه تعالى للإنسان حق البحث عن سبب كل ما يعرض له من المحسوسات، ساغ له محاولة الاستطلاع عن سبب إعطاء هذا الرسم للإنسان وغايته».
عبد الحميد: «حسناً، وكيف يمكننا أن نفسر تلك الرسوم على نحو ما ذكرت، لأنه ربما كان السبب والغاية فيها لديه تعالى خلاف ما يفتكر زيد ويفسر عمرو؟».
علي: «نعم ليس في إمكان العقل البشري أن يدرك بذاته العلة بإعطاء المولى جل شأنه رسم الضحايا الدموية ولا المراد بها كما نوهت قبلاً، وإنما ذلك لا يقيد العقل عن التفكر به والجزم بأنه لا بد له من غاية كبرى عند الله واضعه. وإذ لا بد من أن يدركه العجز عن بلوغ المنى يلتمس الإرشاد من علة العلل، الذي لما كان قصده بتلك الرسوم تدريب العقل وإعداده إلى المسيح، لم يتركها بدون سبب لتبيان المراد بها، بل أعلن كما تقدم ذكره في كتاب مبين العلة الموجبة لإعطائها والغاية المحوية فيها. فبأي مسوغ شرعي يحق الإغضاء عنها والاكتفاء بالقشر دون اللب؟».
قال القاضي: «دعونا الآن من هذا الحديث، واسمحوا لي أن أسأل الشيخ علي هذا السؤال: يا شيخ إن الله واحد أحد فرد صمد، فمالكم تقولون آب وابن؟ أيلد الله؟ حاشا، وإنى يمكن التوفيق بين التعدد والوحدة؟ ذلك لعمري من المحال».
علي: «أيعلم بذات الله سبحانه سواه؟».
القاضي: «كلا لا يعلم بذاته سبحانه إلا هو، منزه عن الكيفية والكمية. والسبب أسمى من أن يتصور في الأذهان وأبعد من أن تدركه الأفهام».
علي: «حسناً إذا كان لا يعلم بذاته سبحانه سوى ذاته، ولا يعرف ما هو إلا هو، فأنى يحق لنا إنكار ما قد أعلنه لنا عن ذاته بداعي عدم صلاحية تلك النسبة لجلاله تعالى؟ وما أدراك أن من عقله الإنسان عن ذاته تعالى هو ناقص لا محالة، ويحتاج إلى تكميل بإعلان خاص من لدنه جل وعلا».
القاضي: «أين أعلن الله أنه واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد؟ وهل الحكيم الرحمن يعلن للإنسان ما يضاد قوى عقله؟».
علي: «ليس يا مولاي في تعليم التوحيد والتثليث في الله عز وجل ما يضاد العقل، وليس من المحال أن الله العجيب الفائق إدراكنا والبعيد عن تصوراتنا يكون جوهراً واحداً في ثلاثة أقانيم. فعدم إمكان العقل إدراك كيفية واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد لا يجعل كيانه محالاً فيمن قد تعالى وسما عن خلقه سمواً بلا كيف ولا حد ولا قياس. هذا وأنا نرى في بعض مخلوقاته ما يقرب إلى عقولنا فهم هذه الحقيقة الإلهية. من ذلك الشمس، فالشمس واحد في ثلاثة، أي جرم وشعاع وحرارة، وليس هي ثلاث شموس بل شمس واحدة. والإنسان ذو نفس وجسد وهو واحد لا اثنان. ومع كون الأمر فينا وواقعاً تحت حواسنا لا نستطيع إدراك كيفيته، فكيف نستطيع أن ندرك كيفية ما قد تفرد عن براياه؟ سبحانه ما أعلى شأنه. وقولك أين أعلن الله أنه واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد؟ فأجيب: لم يعلن ذلك حرّفياً على هذا النسق، غير أن إعلان التثليث والتوحيد في التوراة والإنجيل على طرق وأنواع شتى أبين من أن يبين. وأظن أكثرها لا تخفى على فضيلتكم لا سيما قول المسيح لتلاميذه: «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس».
فلما انتهى من ذلك كان سكوت بضع دقائق والقاضي قابض على لحيته وقد علا وجهه حمرة الانحصار.
قال المفتي: «ألتمس من حضرة قاضي أفندي الرخصة للتكلم قليلاً مع الشيخ علي». ثم قال: «لا يخفى على حضرتكم قوله تعالى في القرآن الشريف «قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد». ومعشر النصارى تعتقد أن الآب والد والابن مولود، ولذلك قالوا آب وابن، وهذا يقضي بالحداثة كما لايخفى، لأن القول بالولادة يستلزم حدوثها في وقت ما، وعليه لا يكون عيسى المسيح سوى مخلوق حادث وليس إلهاً أزلياً كما يزعمون. والقول أنه إله من إله وجوهر منه تعالى هو من غريب الخبط والخلط مناف لقوله تعالى ولذوق العقل. بناء عليه لا أصدق أن هذا التعليم جاء في كتابه تعالى بل هو لا جرم مدخل عليه من ذوي الأوهام والوساوس» .
علي: «أما الزعم أن تعليم التثليث في الله مناف للعقل فهذا قد دحضته في جوابي السالف، فلا حاجة إلى مراجعته. وقولكم أنه مدخل على الكتاب فهل في مقدرة إنسان ما إثبات هذه الدعوى، ومطالع الكتاب بوقار وإخلاص يرى أن هذا التعليم حقيقة راهنة فيه وراسخة بهذا المقدار حتى لا يمكن دحضها إلا بدحضه إن أمكن وهو محال. ولا يخفى أن هذه الحقيقة ترى من أول وهلة في الكتاب وفي أول فصل فيه بقوله تعالى: «نعمل الإنسان كشبهنا» وإن قلتم من قبيل التعظيم دحض قولكم بقوله تعالى «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر». ففي ذلك كما لا يخفى دليل على وجود أقانيم في ذاته تعالى، وأسفار الأنبياء تصف المسيح على أنواع شتى، كرب وملاك العهد وملك الملوك، وعلى الخصوص النبي إشعياء، فإنه يصفه وصفاً غريباً قاطعاً كل ريب بلاهوته ومطلق سلطانه بقوله: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ. لِنُمُّوِ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ» (إشعياء 9: 6 و7). فلو كانت التوراة توراة النصارى، ربما كان لزعمكم رواج ما، ولكنها لحسن الحظ توراة أمة تنكر ليس فقط لاهوت المسيح بل إرساليته من الله. وأي أرب لليهود بإدخال تعليم غريب كهذا على توراتهم؟ فقد اتضح أن هذا التعليم هو إعلان الله لا ريب فيه، وما الإنجيل الأخير إتمام الله أقوال أنبيائه القديسين بخصوص ابنه الوحيد الذي جاء وكمل كل شيء بصلبه للموت نفسه فداء نفوس المؤمنين. والتسمية آب وابن وإن دلت على الولادة هي على خلاف عادة المخلوقات وخلاف ما يخطر في بال الإنسان غير قابلة التكييف والتنويع. والقول أنه كان مولوداً قبل كل الدهور لا يدل على حدوث ذلك في زمن ما، بل يُراد به كما لا يخفى أزلية الابن كالآب، ولا محل للقول كيف وكيف هو مثل قولنا الحرارة مولودة أو متولدة من الشمس، والكتاب والعلم يفيداننا أنه حين وجدت الشمس وجدت حرارتها معها في آن واحد ولا يبعد أن الله سبحانه سمى لنا أقانيمه هكذا لنفهم على وجه قياسي الحب والإلفة والوحدة الكائنة في ذاته تعالى. نعم إن هذا التعليم الإلهي عسر قبوله وهضمه لمن قد ربي ونشأ على تعليم آخر ولمن لم يتدرب جدياً بكتابه تعالى، غير أنه لحسن الحظ أيضاً يوجد اتحاد بين الكتاب والقرآن في مسألة التثليث والتوحيد.
المفتي: «عجباً لقولك هذا، أفي القرآن مثل هذا التعليم؟».
علي: «نعم موجود».
المفتي: «هات أرنا ذلك ولك الفضل».
علي: «انظر ما جاء في سورة آل عمران 3 : 45 «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» فلا يخفى على حضرتكم أن القول يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح يبين لا محالة شخصية الكلمة وذاتيتها وكلمة منه دليل راهن ان المولود من مريم ذات من الله عز وجل وهذه التسمية والنسبة هي نفس ما جاء في الإنجيل أن المسيح كلمة الله كما ترى في إنجيل يوحنا 1: 1 و14 وفي سفر الرؤيا 19: 13 حيث يقال: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ. وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا»، «وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ». والمراد من ذلك أن الكلمة المتجسد من مريم هو أزلي، جوهر من جوهره تعالى، والقول «كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» يدل في الأول كونه أقنوماً في الله، وفي الثاني أنه جوهر من جوهره وذاته تعالى. وما يستحق الاعتبار هو مع أن لفظة كلمة بصيغة التأنيث تذكر في كل الإنجيل والقرآن لدى الكلام عن التجسد بصيغة المذكر، دلالة على الشخصية الجوهرية لا العرضية، فما الفرق إذا روحياً بين القولين؟» .
حينئذ عدل الشيخ عبد الحميد جلوسه وقال: «التمس من حضرة مفتي أفندي أن يسمح لي أن أقول شيئاً لجناب الشيخ علي، ألا تعلم حضرتكم أنه لا يستطيع تأويل القرآن إلا الله والراسخون في العلم، وإذ ذاك فلا يسوغ لنا اقتحام هذا الأمر الخطير، بل الأجدر بنا الاعتماد على تفاسير أشهر الأئمة كالإمام البيضاوي والإمام الرازي رضي الله عنهما. والأحرى بنا الاقتصار على ما أنزل فيه بخصوص عيسى عليه السلام: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» أي هو إنساناً وليس إلهاً كما يزعم النصارى وأيضاً كما ترى في سورة المائدة «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» (سورة المائدة 5: 116).
علي: «لا يخفى على سيدي أن الإنسان ما خلق عاقلاً إلا ليعقل ما لديه، ويفرق بين الحق والباطل والجيد والرديء. وحاشا لله أن ينزل وحياً لا يفهم إلا من أفراد ممن أنزل إليهم. إذا كان الإنسان لا يرسل لإنسان آخر كتاباً ما إلا ويستطيع ذاك فهمه قصد العمل بموجبه، فكم بالحري الرحمن عز شأنه لا يوحي إلى خلقه إلا بما أمكنهم فهمه، وإلا فكيف يمتثلون ويطيعون ما لا يفقهون المراد به. وتفسير بعض العلماء لكتاب موحى به من الله لا يكون وحياً، وإذ ذاك فلا يعتمد عليه، لأنه ربما أخطأوا بتفسيره في أمور كثيرة، فالمرجع إذا إلى الكتاب الموحى به والمعتقد بإنزاله، وعليه لا تغنينا تلك التفاسير مهما كانت جيدة عن استعمال عقولنا السليمة في فهم وإدراك المراد بذاك الكتاب. ولا نقدر أن نحمل المفسر مسئوليتنا لله تعالى في كف العقل وحجزه عن فهم كلامه، إذ الغاية الكبرى في منحنا إياه هي إدراك وجود واجب الوجود ومعرفة مشيئته وقصده تعالى فيما أوحاه إليها. نعم يلزم الإنسان معرفة قواعد اللغة المكتوب فيها ذلك الكتاب ليفهم كلامه من حيثية الإعراب والفصاحة التي لا ينكر أنها تساعد على إدراك معنى الكلام. غير أن معظم الحاجة إليها فيما هو أوفر إشكالاً وأكثر إبهاماً وهو نادر، ويمكن الاستغناء عنه. إنما أكثر سور القرآن وآياته مفهومة لدى العاقل الفطن، وأي كلام أحلى وأبين من الآيات التي نحن بصددها فيما يختص بالمسيح ابن مريم، وهي تحاكي مثلاً قولي لابني الصغير: اللبن من الشاة والثمر من الشجر. فهل يحتاج الأمر لفهم كلامي إلى علماء راسخين يفسرون له كلامي حسب قواعد اللغة؟ لا، وهكذا القول أن عيسى المسيح بدون أب بشري وأنه كلمة من الله وروح منه يستطيع فهم المراد منه كل مسلم سالم العقل حر الفكر. وهل يجدر بالعقل الاكتفاء بالهمهمة والدمدمة في تلاوة القرآن بدون مراعاة قوى عقله في فهم غايته ومعناه، منزلاً نفسه منزلة الببغاء التي تتكلم ولا تفهم ما تقول؟ وكيف إذا يؤمن المسلمون في هذه البلاد الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، وهم لا يفهمون القرآن، كون أكثرهم ليس فقط غير راسخين في العلم بل أميون لا علم لهم. هذا وأقول من قبيل الجسارة أننا أيها الفاضل ذوو علم ودراية وافية في كنه اللغة وآدابها، وعندنا تفاسير الإمامين اللذين ذكرتهما، ولكن بغض النظر عن تفاسير ذينك العالمين ونقول: لماذا لا يجوز لي ولك مثلاً استعمال عقولنا في فهم القرآن وتفسيره كأولئك الغابرين؟ ثم إن نسخ لاهوت عيسى المسيح في بعض آيات القرآن لا يسلبنا حقنا التمسك أو بالأقل محاولة الوقوف على مفاد هذه الآيات الثمينة المنطقية على مفاد التوارة والإنجيل دون تلك».
حينئذ قال المفتي الشيخ عبد الحميد: «أترجاكم سيدي اسمحوا لي بالرجوع إلى المناظرة مع الشيخ علي: أرى يا شيخ أنك قد تجاوزت الحد في تأويل قوله تعالى حتى طبقته على مفاد إنجيل النصارى من خصوص قوله بلاهوت عيسى، والحال يبان أن مراده تعالى بالآية خلاف ذلك، لأنه وإن يكن الضمير (في منه) راجعاً إلى الله لا يفيد كون ذلك على سبيل الحصر أن الكلمة عيسى المسيح ذات من ذاته بل موجد منه لا جوهر من جوهره ولا ذات من ذاته. كيف يا ترى؟».
علي: «لو كان المراد بالآية كما قلتم ما اقتضى لكيانها على هذا النسق، بل كانت على نسق ما بشر الله إبراهيم بابنه اسحق، وما بشر به الملاك زكريا، إذ قال ضيف إبراهيم: «قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (سورة الحجر 15: 53) ولزكريا «فَنَادَتْهُ ٱلمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ ٱلصَّالِحِينَ» (سورة آل عمران 3: 39) وإنما إذ كان المبشر به لمريم ذات من ذات الله سبحانه وجوهر من جوهره، قيل في القرآن: يا مريم أن الله يبشرك بكلمة منه، لا بغلام عليم، ولا بنبي من الصالحين كما بشر زكريا وإبراهيم. فما أسمى الفرق بين هذه البشرى وتلك. ومما يؤيد ذلك أيضاً ما جاء في سورة النساء «إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه». أي رسول يا ترى نسب هذا النسب؟ ولم تكتف الآية بنعته بالرسالة، بل أبانت لنا أنه كلمة الله. ولكي لا نوهم خلاف المقصود بلفظة «كلمة الله» اتبعتها بما يزيل كل إشكال وهو «روح منه» لكي نفهم أن عيسى المسيح ليس هو كرسول اعتيادي بل كابن مرسل من لدن أبيه إلى عالم الدنيا. هذا هو مفهوم هذه الآيات القرآنية طبقاً لمفاد الإنجيل، قصد بها ذلك أو لم يقصد. فما الفرق بين القول «جوهر من جوهر الله» أو روح منه أو روح الله كما ورد في الحديث في كتاب الإمام الغزالي (جزء 3 وجه 166). إلا أن ذلك شيء واحد. ومما يزيد ذلك تأييداً ولادته على خلاف مجرى الطبيعة، دون كل البشر. فمن كان هكذا بلا آب بشري وله هذه النسبة السامية إلى الله دون كل الأنبياء والمرسلين، ألا يحق أن يقال له ابن الله كما جاء في الإنجيل؟ واسمحوا لي أن أبدي لديكم ما قاله لي مرة أحد علماء المسيحيين منذ نحو أربع سنوات في أثناء محاورة جرت بيننا. بينما أنا أتكلم في فضل محمد على سائر الأنبياء والمرسلين، وأنه سيد ولد آدم كما جاء في كتاب الإمام الغزالي جزء أول وجه 335 وجزء ثالث وجه 162، ضحك. فقلت: ما أضحكك؟ قال: لا شيء. قلت: لا بالله تخبرني السبب. قال: أضحكني الغرض الأعمى الذي لا يدع صاحبه يبصر إلا ما كان لجهته». قلت:«أتنسب لي الغرض يا ذمي. فما تغرضني؟» قال: «تفضيلك محمد على سائر أنبياء الله وجعله سيد البشر، خلافاً لمفاد قرآنكم وحديثكم اللذين يرفعان عيسى المسيح فوق درجات سائر الأنبياء والمرسلين». قلت: «هات بينا ذلك إن كنت من الصادقين». قال: «إن لذلك ست بينات. أربع من القرآن واثنتان في الحديث». «جيد أورد لنا ذلك». قال: «أما القرآنية فهي:
وأما الحديثية فيه: (الأولى) ما جاء في كتاب الحديث للإمام مسلم في الجزء الخامس وجه 126 عن محمد أنه قال يوماً لعائشة «ما من مولود يولد لابن آدم إلا نخسه الشيطان عند ولادته فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه» فعليه يكون الشيطان نخس جميع الأنبياء عند ولادتهم، ومن الجملة محمداً، إلا المسيح وأمه. فعلى كل يكون عدم تجاسر إبليس الرجيم على مسه دليل سموه الفائق على الملا كافة أخياراً وأشراراً.
(الثانية) ما روى في كتاب الإمام الغزالي جزء ثالث وجه 38 أنه لما ولد عيسى ابن مريم عليه السلام أتت الشياطين إبليس فقالت: «قد أصبحت الأصنام منكسة الرؤوس، فقال هذا حادث قد حدث. مكانكم. فطار حتى أتى خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد، وإذا الملائكة حافين به، فرجع إليهم فقال أن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا حاضرها إلا هذا. فآيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة والخفة. فهذه القضايا الست في صحفكم الدينية، جدير بها أن ترفع منزلة المسيح في قلوبكم درجات فوق محمد، بل أيضاً أن توجه أفكار كل مسلم عاقل نظير حضرتكم إلى التأمل بهذه الامتيازات الغريبة العجيبة التي امتاز بها المسيح عيسى عن كل بني آدم، وتجذبه من ثم للسؤال العادل: لماذا يا ترى خص ابن مريم بهذه الامتيازات الغريبة، وما السر في تسميته كلمة الله وروحه، وما هذه النسبة الإلهية، وما علة ولادته من دون أب بشري وإحفافه بجيش من ملائكة الله كي لا يدنو منه الرجيم، وما سبب عصمته من الخطأ والإثم دون جميع البشر؟ هل يسلم العقل أن هذه الأمور بلا طائل؟ نعم يا سيدي لا تجدون في القرآن بياناً لعلة هذه الامتيازات العجيبة، غير أنه يدلكم عليها الكتاب التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله نوراً وهدى على طائفتي اليهود والنصارى. الكتاب هو ولا سواه يتكفل بإعطاء الجواب الشافي لهذا السؤال. فنحن ممتنون لمحمد على هذه الشهادة الثمينة، والحق أقول لك يا سيدي الشيخ، لو كنت مسلماً نظيرك ما كنت أقدر أن أجد بداً عن هذا السؤال لدى اطلاعي على هذه القضايا المهمة، ولا كنت أجد راحة لفكري إلا بعد حصولي على جواب له يروي الغليل. والعجب كيف أن كثيرين من علمائكم يتغاضون عن مثل هذه القضايا الكلية الأهمية ملقينها وراء ظهورهم، كأن الإغضاء عنها هو الجواب الفاصل لها. قلت يكفي يا ذمي. وأعدك أني سأنظر في ذلك إن شاء الله. ثم افترقنا وقلبي ملتهب من جراء متانة تلك الحجج، التي حقاً قد أثرت فيّ تأثيراً كلياً، وشغلت عقلي زماناً وكأني بصوت مستمر يناديني ما ترى يا علي؟ ما فكرك في هذه القضايا؟ ما سرها وعلتها؟».
قال حسن أفندي العطار: «استرخص من حضرة مفتي أفندي ان شاء أن أتكلم شيئاً. أجابه تفضل. قد استوعبنا مقالتك يا سيدي الشيخ، فأقول نعم أن القضايا المشار إليها لا تخلو من علة وسر مجهولين لا يعلمهما إلا الله، بما أنه لم يعلن ذلك في القرآن فالأسلم ترك الأمر لله. وأما أن نعتمد في ذلك على الكتاب بناء على شهادة الرسول له، فهذا لا يسوغ بعد ما لعبت به أيادي المحرّفين والمفسدين».
قال الشيخ أحمد عبد الهادي: «لا ريب أن الشيخ علي قد تعب، فليسمح لي أن أجاوب عنه جناب حسن أفندي». قال ذلك إليك. قال: قد برهن الشيخ علي في مناظرته مع حضرة مفتي أفندي بوجيز العبارة على عدم تحريف التوراة. وعدم تحريفها يقضي بعدم تحريف الإنجيل، لاتفاقهما معاً في القصد والغاية، كما لا يخفى على المدقق النبيه. ومع ذلك لا بأس من الجولان أيضاً قليلاً في هذا الباب، لأن بالإعادة إفادة، وبتكرار جر الحبل زيادة التأثير، فقل إن شئت ما دليل تحريف الكتاب؟ قال أن لتحريفه عدة أدلة منها:
عبد الهادي: أرجوكم أن تذكروا ما شئتم من هذه المناقضات، وفيما بعد أقدم إن شاء الله لجنابكم الجواب عن هذه الأدلة الثلاثة:
حسن: أقتصر على ذكر بعض مناقضات في الإنجيل، منها:
إن متّى يذكر أعميين عند أريحا سألا يسوع البصر. ومرقس ولوقا يذكران أعمى فقط. ومتّى يقول أن المسيح لما قرب من بيت فاجي أرسل تلميذين ليأتياه بأتان وجحش معها، وأنهما فعلا ذلك وركب عليهما يسوع. وفي مرقس ولوقا يذكر جحشاً فقط. وفي سفر الأعمال في فصل 9: 7 يقال عن بولس رسول المسيح في تجلي الرؤيا عليه على طريق دمشق «وَأَمَّا ٱلرِّجَالُ ٱلْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ ٱلصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً». وفي فصل 22: 9 يقول عن فم بولس: «وَٱلَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا ٱلنُّورَ وَٱرْتَعَبُوا، وَلٰكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ ٱلَّذِي كَلَّمَنِي». و يقال في رسائل بولس أن التبرير بالإيمان فقط لا بالأعمال وأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه، وأن إبراهيم وراحاب تبررا بالإيمان. وفي رسالة يعقوب قال: «تَرَوْنَ إِذاً أَنَّهُ بِٱلأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ ٱلإِنْسَانُ، لاَ بِٱلإِيمَانِ وَحْدَهُ. (وأن إبراهيم أبانا تبرر بالأعمال) كَذٰلِكَ رَاحَابُ». وهذا يكفي للبصير ليرى ما قد اعترى الكتاب المقدس من التحريف والتغيير، حتى أضحى هكذا يناقض بعضه بعضاً. فكيف سأل المسيح أعميان أو أعمى واحد؟ وكيف ركب حيوانين بل حيواناً واحداً؟ وكيف سمع أولئك الرجال الصوت ولم يسمعوه ونظروا ولم ينظروا؟ وأن البر بالإيمان فقط لا بالأعمال وبالأعمال والإيمان؟ لعمري أن هذا الخلط الغريب من أعظم الأدلة على تحريف الكتاب.
عبد الهادي: «أما قول الإنجيل بلاهوت عيسى فهذا قد استوفى الكلام بشأنه في ما قد جرى من الحديث بين حضرة المفتي والشيخ علي، واستبان أن التوراة والقرآن يشهدان له بهذه النسبة الإلهية شهادتين مستوفيتين الواحدة سابقة والأخرى لاحقة من كتابي أمتين لا تتقدان بشيء من لاهوته. فلا حاجة لمراجعة ما قد بدا ووضح. فقط عليّ أن أجيب جنابكم على مسألة كونه كإنسان كان تحت آلام نظيرنا جاع وعطش وتعب إلى آخر القول، فلا يخفى على سيدي ضرورة ظهور هذه الأعراض فيه برهاناً لتمام إنسانيته، كما أن معجزاته الخارقة وكماله وسمو طهارته وصلاحه وعلمه الماضي والحاضر والمستقبل هو برهان لاهوته. وهذا كما لا يخفى ممكن لدى من كل شيء ممكن لديه. وهل من اعتراض على الله عز وجل إذا شاء أن يتخذ بابنه الوحيد صورة عبد لإجراء أمر خطير لم تر حكمته الإلهية إجراءه بدون ذلك؟ أما نكران اليهود لاهوت المسيح الذي اعتبرتموه حضرتكم دليلاً على تحريف الكتاب فهو كما لا يخفى من الأدلة الراهنة على عدم تحريفه، كما قد ألمع إلى ذلك الشيخ علي فيما سلف، لأنه لو سمح للبشر بتحريف الكتاب حسب أهوائهم، لكان اليهود لا ريب حرّفوا وغيّروا الآيات النبوية التي تنبئ عن المسيح كإله وإنسان، واصفة إياه وناسبة له ذات الصفات والنسبة المعلنة في الإنجيل، لا سيما ما كان بخصوص رفضهم إياه وبيعه بثلاثين من الفضة وإماتته. وبالأقل كانوا اعتمدوا ذلك التحريف بعد أن تمموا كل شيء من جهة رفضه وصلبه. ولكن لحسن الحظ لم يمدوا يدهم قط لمحو وتحريف أصغر نبوة بخصوصه، بل لم تزل في توراتهم كما أنزلت، شاهدة على شر كفرهم به، وبرهاناً للأمم أنها محفوظة بقدرة من أنزلها رغماً عن أهواء الإنسان وفساده. فمن بعد كل هذا من يقول بتحريف التوراة ولا يأثم إلى منزلها تعالى؟
أما القضايا التي اعتبرتموها حضرتكم مناقضات ومن ثم اتخذتموها لتحريف الإنجيل فأقول:
(أولاً) أن هذه المذكرات ليست في الأمور الأولية التي عليها مدار الإيمان المسيحي.
(ثانياً) لدى التدقيق فيها لا ترى البتة مناقضات كما سترى بالأعميان في متّى لا ينفيهما أعمى مرقس ولوقا ولا أحدهما. وإنما ذكر البشير الأول اثنين والبشيرين الآخرين واحداً، فكما يتحصل من العقل أن أحدهما كان أكثر شهرة، أو ربما هو المتكلم فقط، فاكتفى كل من مرقس ولوقا بذكر الأشهر، وهذا لا ينفي أنه كان معه آخر. ومثل ذلك الأتان والجحش، فإن المقصود الجحش إنما يرجح لكونه رخصاً غير مروض لزم إحضار أمه معه، وأن المسيح تارة كان يركب الأتان وطوراً ابنها ولما أشرف على أورشليم كان راكباً الجحش فاكتفى البشيران مرقس ولوقا بذكر ما هو أكثر أهمية وقصداً، وهو الجحش، بخلاف متّى فإنه رأى التدقيق في هذه القضية ولا مناقضة بينهم. ومسألة رؤيا بولس فهي خلاف ما يتوهمها الإنسان لأول وهلة لأن في القضية الأولى يقول «يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً» وفي الأخرى«نظروا النور ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني». فيظهر لدى التمعن في هاتين القضيتين أنهم في الأولى سمعوا صوتاً مبهماً كالصوت الذي جاء من السماء جواباً للمسيح في أورشليم، فسمعه الحاضرون ولم يفهموه، وبعضهم لم يميزوه عن الرعد (لاحظ يوحنا 12: 28 و29) ولم يسمعوا صوت الذي كلمني في الثانية، أي لم يسمعوا الكلام ولم يفهموا كلمة ما من الصوت. فكأنه بالنظر إلى ذلك هو عدم سماع «ولم ينظروا أحداً» ونظروا النور فلا يرى في ذلك شبه التناقض كون النور مادة لا شخصاً «والأحد» هنا يدل على الشخصية لا على المادية. هذا وهب أن بياني هذا غير مرو، أسأل حضرتكم هل ترون في شبه المناقضات هذا ما يدل على تحريفه من أصله، أو على قصد لهم في جعل الآيات المتنوعة على هذه الكيفية؟
حسن: «كلا لأنه لو قصد ذلك منهم لكانوا بالأولى أزالوا مثل هذا الإشكال».
عبد الهادي: «دمت سالماً سيدي، وإذا كان أهل الكتاب ما قصدوا تحريفه هكذا على نوع يجلب لهم هذا التعب، فيكون ما يوجد فيه من شبه التناقض دليل بقائه على ما أوحي به وما كتبه الرسل الملهمون. وعن مسألة الخلاف الظاهر بين بولس ويعقوب أقول: لا يخفى أن هذا الخلاف هو ظاهري فقط لا معنوي، وهو ناشئ عن اختلاف أفكار المكتوب إليهم، فكما يرى من فحوى رسائل بولس إلى رومية وغلاطية أن أفكار المؤمنين في هاتين البلدتين أن الإنسان يتبرر لدى الله بأعماله، ولا سيما الأعمال الناموسية حسب التوراة أو بالإيمان والأعمال معاً. فكتب لهم بولس ما كتب ليريهم أن الإنسان فاسد بالطبع ومجرم إلى الله، وإذ ذاك كان محكوماً عليه من الناموس وكيف يبرره الناموس من ذنوبه وجرائمه مكتوبة في دفتر علمه تعالى؟ وأن الخلاص من الخطية ونتائجها هو فقط بعفو الله ورحمته لا باستحقاق الإنسان الأثيم. وأن التبرير من دين العدل إنما هو بالوفاء وهذا الوفاء قد حصل بالفداء الشرعي بدم حمل الله الذي قدم لله بلا عيب لأجلنا لكي يبرر كل من يؤمن به. فقال لهم أن الإنسان يتبرر بالإيمان لا بالاعمال، بخلاف الذين كتب إليهم يعقوب إذ كان قد شاع بينهم أن الإنسان يخلص ويتبرر من جرائمه بمجرد الإيمان بدون لزوم إلى التقوى والطهارة، وأنه لا حرج على المؤمن مهما فعل وارتكب من أعمال الفظاعة والقساوة، ناسين أن إيماناً كهذا ميت في ذاته، وليس هو بالحقيقة إيماناً. فكتب إليهم الرسول مبيناً شر غلطهم هذا، وموضحاً لهم أن التقوى بحفظ وصايا الله هي دليل الإيمان بالله بقوله: «أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ (أي ذلك غير ممكن) وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي» (يعقوب 2: 18) أي أن الأعمال شاهد الإيمان ودليله، فالإيمان بالله واليوم الآخر والثواب والعقاب ما هو إلا التصديق القلبي والتأكيد اليقيني بهذه الحقائق. والأعمال الصالحة هي ما قاد إليه هذا الإيمان، فالإيمان ينشئ حب الله ومخافته، وهذه تجعل من كانت فيه تقياً لا محالة. وعليه كتب ما ترون: أن الإنسان يتبرر بالأعمال لا بالإيمان وحده، أي بالإيمان الحي العامل بالمحبة كما يقول بولس، فيكون الإيمان هو الأصل والأعمال هي الأثمار، وما من ثمر بدون أصل. فالله يبرر من كان مؤمناً إيماناً حياً منشئاً في قلب ذلك المؤمن حب الله. فمؤمن كهذا إن مات دقيقة إيمانه بدون عمل صالح في سالف حياته يخلص بإيمانه، وإن عاش في الدنيا يسير مع الله بإيمانه. فترون أن لا خلاف حقيقي بين القولين، بل الخلاف الظاهري ناشئ كما من خلاف رأي كل من المكتوب إليهم، وهذه الحقيقة تزداد وضوحاً وبهاء لعيني قارئ كتاب الله بالاحترام والوقار الواجبين له» .
قال القاضي: «إن ما قد أتيت به جنابك يا شيخ أحمد لا يرى أنه حل مستوف لهذه الاعتراضات، ما خلا إنكار اليهود لاهوت المسيح وإرساليته من الله، وأرى أننا لم نصب في اتخاذ ذلك دليلاً على تحريف الكتاب. فإن كان عندك بعد أوفى مما ذكرت فأت به، وإلا لزمك الإذعان بتحريف بعضه على الأقل».
فتبسم الشيخ أحمد وقال: «لقد سلم مناظري الكريم تواً فيما تقدم أن أهل الكتاب لو قصدوا تحريف كتابهم لكانوا بالأولى أزالوا مثل هذا الإشكال. وكل عاقل يرى أن بقاء شبه تناقض في بعض آياته هكذا لهو دليل بقائه كما كتب من الملهمين بكتابته. ولا أرتاب بكون حضرتكم رأيتم سداد هذه الحجة، غير أنه يلوح لي أنكم ترغبون في إفراغ قوة الدفاع عن ثلم سلامة كتابه العزيز فلا بأس. وعليه أطرح لديكم هذا السؤال: إذا كان الكتاب على زعم المسلمين تحرّف فهل تحرّف قبل محمداً أو بعده؟».
فتوقف القاضي برهة عن الجواب ثم قال: «ألا تعدل الآن يا شيخ عن هذا السؤال؟». أجاب. «كلا يا سيدي، لا يمكنني العدول عنه. لكن إذا شئتم قفل باب المناظرة الآن فالأمر لكم».
فاحمر وجه القاضي خجلاً حتى سال العرق من جبينه، والتفت إلى أصحابه كأنه يريد امداده برأيهم، فهمس إليه عبد الرحيم أفندي أن يقول بعد محمد. فأجابه لا أقدر الآن على مجاوبة هذا السؤال بوجه ما. هو سؤال لا كالأسئلة. فإن شئت جنابك أن تجاوب عليه فالأمر إليك. فقال المذكور لا غرو أنه قد تحرّف بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
عبد الهادي: «من المعلوم أن محمداً نبي المسلمين نبغ في القرن السابع للتاريخ المسيحي، حيث كان معظم السلطة السياسية في العالم بيد المسيحيين، وكان إذ ذاك المسيحيون مؤلفين من قبائل شتى مختلفي اللغات والألسنة، والكتاب موجود بأيدي كل قبيلة منهم بلغتهم الخاصة. وقبل ذلك العصر بكثير بعد القرن الأول أخذت الأمة المسيحية تتشعب إلى فرق وطوائف مختلفة بعضها عن بعض مذهباً وطقساً. كالآريوسيين والبولسيين سكان أرمينيا، وما شاكلهم وثارت بينهم شرر العدوان والشحناء، حتى بلغت أعظم مبلغ. وكان الكتاب طبيعياً بيد كل فريق منهم، وكانوا يناظرون بعضهم بعضاً بقضاياه وآياته، ولم يشبه تغيير ولا تحريف ما مدة تلك الأجيال كما أقررتم، وكما يتضمن شهادة القرآن له. فإذا كانوا لم يحرّفوه قبل محمد، حال كونهم كما ذكرت متضادين متباعدين رأيا ومذهباً وطقساً فهل يمكن والحالة هذه إجماعهم فيما بعد على تحريفه؟».
عبد الرحيم: «قد يمكن ذلك».
عبد الهادي: «ما كنت أنتظر من ذكائكم هذا الجواب، ما دليل اتفاقهم على تحريف الكتاب، وهم منذ انشقاقهم لم يزالوا في التضاد والخلاف الديني، بل أن الخرق كان على توالي السنين والأجيال في حال الاتساع والتعاظم. فإجماعهم بالفرض على تحريفه يقضي لا محالة بعدولهم عن الخلاف ورجوعهم إلى طائفة واحدة ذات رأي واحد وطقس واحد بموجب ذلك الكتاب المحرّف منهم. ولكن بقائهم على ما هم عليه من الخلاف والمباينة، مع وجود الكتاب عند جميعهم بلغاتهم المختلفة منذ افتراقهم بدون أدنى فرق، دليل راهن على عدم تحريفه وعلى عدم القصد بذلك، فلا جرم أن الإقرار بعدم تحريف الكتاب قبل محمد يستلزم كما لا يخفى الإقرار بعدم تحريفه فيما بعد، وأسأل حضرتكم: هل يشرع الإنسان في عمل ما بدون غاية ما؟».
عبد الرحيم: «كلا ما من عاقل يباشر أمراً بدون غاية».
عبد الهادي: «فهل إذا يقدم محرّفو الكتاب على تحريفه بدون فائدة لهم؟».
عبد الرحيم: «كلا لا بد لهم من فائدة عظيمة».
عبد الهادي: «حسناً، ما هي تلك الفائدة؟».
عبد الرحيم: «لا أعلمها. هل من الضرورة أن تعرف غاية كل أمر يباشره الناس؟».
عبد الهادي: «كلا وإنما لا يخفى عليكم إذا ادعي على جماعة ما بكونهم محرّفين كتاباً منزّلاً إليهم، بالنظر إلى قضايا كذا وكذا، ثم لدى النظر إلى تلك القضايا وجد عدم موافقتها إياهم، بل بالعكس مضادة آرائهم وأعمالهم، لزم المدعي من ثم بيان غاية لهم فيما يدعي وإلا سقطت دعواه - أليس كذا يا قاضي أفندي؟ - قال: بلى أنا بالنيابة عن عبد الرحيم أفندي أقول: هل عندك بيان عدم وجود غاية في الكتاب لأهله بتحريفه؟».
عبد الهادي: «إذا أتيت بذلك هل تسلمون حضرتكم بسلامة الكتاب من التحريف؟».
القاضي: «لا نقدر على هذا الوعد، ولكن نرى حينئذ فيما يجب».
عبد الهادي: «وأي غاية ترى في الكتاب لتحريفه ممن كثير من تعاليمهم وطقوسهم وضروب عبادتهم مناف للكتاب على خط مستقيم وألا يرى البصير أنه لو خطر على بال أهل الكتاب تحريف كتابهم بعد تشعبهم وافتراقهم، كما يزعم سيد عبد الرحيم، لكان لا غرو أن كل فريق منهم حرّفه على نوع يسند مدعاه ورأيه وشكل عبادته. وبالأقل كانوا نزعوا منه الوصايا والنواهي الشديدة على اتخاذ الصور والتماثيل وعبادة المخلوقات الغائص فيها أكثر وأعظم الفرق النصرانية ولكن الحمد الله لم يمدوا أيديهم إليه قصد إفساد كهذا، بل هو باق في أيدهم ومعابدهم شاهداً على انحرافهم عنه، كما تشهد التوراة بيد اليهود على إنكارهم مسيح الله المبارك. ومن يرى وقوف كل من الفرق النصرانية بالمرصاد لزملائهم منذ افتراقهم، ينجلي له سبب عظيم من الأسباب المانعة لتحريف الكتاب. فقد اتضح إذا عدم تحريف الكتاب وعدم السبيل إلى تحريفه وعدم الغاية بذلك. فهذه الأمور الثلاثة: نكران اليهود إتيان المسيح عيسى من الله حال كون توراتهم تشهد له كما تقدم. وعدم تحريف الكتاب قبل محمد. ووجود ما يدل فيه على عدم مداخلة الحكمة البشرية في أمره هي من أقطع الأدلة على سلامته من شائبة التغيير والتحريف. ولا يبقى للإنسان سبيل أن يطعن فيها بوجه من الوجوه. فما أشبه الكتاب ببوصلة الملاحين كيفما قلبتها ترى طرفيها متجهين نحو القطبين، هكذا كيفما قلبت الكتاب وأدرته لا تراه إلا كعمود للحق، وطرفه الواحد في الأرض والآخر في السماء، لا يستطاع تحويلهما إلى جهة أخرى».
حينئذ قال القاضي. «كفى الآن يا إخوان، قد أطلنا الوقت جداً وقد صارت الساعة سبعاً ونصفاً تقريباً، فلننصرف إذ يبان أن لا فائدة من الحديث مع هؤلاء الأحباب. فما أجمل ما جاء في كتابه تعالى «أنه لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء». ثم قاموا وانصرفوا.
وفيما هم ذاهبون في طريقهم قال الشيخ عبد الحميد: «أفتكر يا إخوان أنه كان غلط منا القول أن تحريف الكتاب كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه مسلم إذا كان ما تحرّف حتى ظهور النبي فلا يمكن أن يحرّف فيما بعد لعلل شتى. كان الأوفق أن نقول أنه تحرّف قبل زمان الرسول».
أجابه حسن أفندي: «هنا البلاء الأدهم. وبأي غطاء تغطي يا مولاي الآيات القرآنية المبينة صحة الكتاب الموجود يومئذ بيد اليهود والنصارى، وأين نخفيها عن عيون علماء مسلمين متنصرين؟ فكيف عنّ لك هذا الفكر يا سيدي؟».
عبد الحميد: «عنّ لي مما جاء في قوله تعالى في سورة المائدة 5: 41 «يَا أَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ»إلى آخر الآية فهؤلاء المحرّفون هم أهل الكتاب» .
المفتي: «إليك يا سيدي عن هذه الآية فإنها بعيدة عن المطلوب وأن الإمام الفخر الرازي بتفسير هذه الآية يبين كون هذا التحريف المشار إليه من النبي صلى الله عليه وسلم هو إنكارهم بعض ما في كتابهم، لا تغييرهم إياه منه بقوله: «يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ» أي من بعد أن وضعه الله واضعه أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرّم حرامه. قال المفسرون: أن رجلاً وامرأة من أشراف خيبر زنيا، وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا الزانيين إذا أحصنا وقالوا أن أمركم بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك نزل جبرائيل بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرائيل عليه السلام أجعل بينك وبينهم ابن صوريا. فقال الرسول: هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض. فرضوا به حكماً. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟» قال ابن صوريا: «نعم». الرازي بمراد الآية إذا هو تحريف اليهود بعض الكلم من الكتاب بأفواههم لا بذات التوراة كما ترى أيضاً في تأويل آية 46 من سورة النساء وهي «مِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ» إلى آخر الآية إذ يقول في كيفية هذا التحريف وجوه (أحدهما) أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريف اسم (ربعة) بوضعهم «طويل» مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله، ونظيره قوله تعالى «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله». فإن قيل كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور؟ قلنا: لعله يقال أن القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلق فقدروا على هذا التحريف. (والثاني) أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ من معنى الحق إلى معنى الباطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح. (والثالث) أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به. فإذا خرجوا من عنده حرّفوا كلامه (كتاب الإمام الفخر الرازي وجه 338 و498). فيتضح من ذلك أن هذا التحريف في الآيتين المذكورتين هو لفظي شفاهي لا كتابي، فلا يسوغ لمسلم بعد القول بتحريف الكتاب قبل محمد والآيات البينة على صحة سلامة الكتاب في عصر القرآن عديدة، لم يتهم القرآن أهل الكتاب بتحريفه، بل يكتم ما كان لجهة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى في سورة البقرة آية 146 «ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَريقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» وما جاء في سورة آل عمران آية 71 «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» فانظروا هاتين الآيتين لبراءة الكتاب من تهمة التغيير والتحريف. هذا ولم يتهم القرآن جميعهم بكتمان ما كان لجهته صلى الله عليه وسلم بل فريقاً منهم. فأي محل إذا للقول أن الكتاب تحرّف قبل محمد؟ وما الهرب من ذلك القول إلى هذا إلا كمن يهرب من العقرب إلى الأفعى» .
فخجل الشيخ المذكور وأقر بخطأ فكره هذا، ثم افترقوا كل إلى حال سبيله.
أما القاضي فإذ كان قد كلّ وتعب من دفاع الشيخ علي وصحبه، دخل وجلس في مخدع منفرد، وأخذ يراجع تلك المناظرة، فكان يذهل ويعجب من قوة الأدلة والبراهين التي حامى بها المذكورون عن الكتاب المقدس، فقال: «يتراءى لي أن هؤلاء الرجال مصيبون، واستبعد أن علماء الإسلام يستطيعون الثبات في ميدان نزال أهل الكتاب. كيف تحارب الجنود بدون أسلحة، أعداء مدججين بها؟ وهل يغلب محارب بدون سلاح من هو شاكي السلاح بمجرد التنكيت على سيفه أنه غير ماض، أو أن رمحه قصير وضعيف السنان؟ فلا أرى للإسلام من الأسلحة لمقارعة أهل الكتاب سوى التنكيت والاعتراض على الكتاب بدعوى أنه محرّف، حال كونه له من الأدلة والبينات على عدم تحريفه ما يرد بالخيبة كل تنكيت واعتراض عليه، حتى كما رأينا أن بعض القضايا التي يحسبها علماؤنا دليل تحريفه هي حقاً بالعكس، من الدلائل على عدم تحريفه، فما العمل وما الرأي؟».
وكان قد طار نومه من جراء استغراقه في الأفكار والتأمل، فبقي على هذه الحال إلى أن لاح الفجر، فاضطجع على فراشه ورقد حتى الساعة الثالثة من النهار. ولما استيقظ من نومه رجع إلى التأمل في ذلك الموضوع، ثم قال: لا بد إن شاء الله من الاجتماع مرة أخرى بالشيخ علي والأخذ معه بالبحث بشأن هذا الأمر الخطير، عسى أن يضحى ذلك وسيلة إقناعه وارتداده. ثم أرسل وأخبر المذكور بذلك، وعين الوقت الساعة الثانية ليلاً في غرفة استقبال مجلس البلدية.
أما ما كان من المتنصرين فإنهم سروا سروراً عظيماً مما جرى في تلك المناظرة، وأملوا منها خير نتيجة. ولما بلغت أيضاً دعوة القاضي للشيخ علي للاجتماع وأياه مرة أخرة في الأجل المذكور، ازداد سروراً، والتمسوا من لدنه تعالى حسن العاقبة. ولما كان الوقت دعي الشيخ علي إلى المحل المذكور، فلقيه القاضي بالبشاشة والأنس. وبعد أن جلس قال القاضي: «الباعث الاجتماعي بحضرتك الليلة هو لنتحدث معاً بشأن أمور خطرت لي هذا الصباح، فأرجوك أن تعرني سمعك. هل تذكر يا صاحبي أدلة وبراهين نبوة وإرسالية محمد صلى الله عليه وسلم؟ انظر كيف نادى بوحدانية الله داعياً إلى ذلك الجاهلية من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق. ماذا يا ترى دعاه إلى ذلك وهو ابن قبيلة وعشيرة وثنية تعبد اللات والعزي؟ وكيف وهو رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب جاء بقرآن عجيب، لو اجتمعت الأنس والجن لما أتت بمثله؟ وحال كونه يتيماً فقيراً فريداً في رأيه نجح بنصر الله وعونه نجاحاً يكاد يكون معجزة على كفّار قريش وخلافهم من العرب جاهلية ويهوداً، وتابعوه وأنصاره يزدادون دون توقف ازدياد غريباً حتى بزمن قصير غدا السواد الأعظم في بلاد العرب والشام من أمّته، رافعين شأن نبوته وإرساليته، ألا تنفي هذه الغرائب الريب بنبوة السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم إرساليته؟».
أجاب الشيخ علي: «حقاً إني يا مولاي أكره أن أجرح حاساتكم بتفوهي لديكم بما ينفي دعوى محمد وإرساليته من لدن المولى عز وجل، غير أن الحال يلزمني أن أقول أني لست بناس ما ذكرتموه حضرتكم، وقد طالما سردت مثل ذلك أمام علماء المسيحيين، ولم أكن دونكم بالتفاخر في مثل هذه الأمور التي كنت أظنها كحضرتكم الآن حصوناً منيعة لهذه الدعوى، حتى كشف لي الغطاء، فرأيت نفسي في خطأ ووهم مبينين».
القاضي: «وكيف ذلك؟ تكلم بالحرية يا صديقي. لا تخف، ولا تخجل؟».
علي: «أشكركم يا مولاي، لا يخفى على اعتقاد محمد بوحدانية الله سبحانه ليس هو دليل النبوة، بل دليل على حذقه وحدة عقله، لأن كل عاقل حاذق يمكنه أن يميز وحدانية الله تعالى. هذا ولم تكن العرب خالية من التعليم بوحدانية الله، لأن اليهود من جهة وهم أكابر العرب، والنصارى من جهة أخرى كنصارى نجران وبني كندة وغيرهم، كانوا ينادون بتعليم الوحدانية الإلهية. وبما أن محمداً كان كثير ما يتجر من الحجاز إلى الشام ويمر في طريقه على بعض أديار النصارى، فلا يبعد أنه استنار بتعليم الوحدانية من بعض اليهود أو الرهبان المسيحيين، كما يلوح لنا ذلك من الحديث والسيرة، بل من نفس القرآن الذي به يثني على بعض قسس ورهبان النصارى شاهداً بتقواهم وحرارة عبادتهم، وأما نجاحه فلا يمكن أن يؤخذ دليلاً على صحة دعواه، وهو منكر ما جاء في كتاب الله، سيما أن أكثر نجاحه كان بعد ما أخذ السيف خلافاً لنجاح المسيح الذي كان قوة الله. هذا وليس بخاف على حضرتكم أن أهم برهان على الإرسالية من الله هو عمل الآيات والمعجزات باسم الله. ومن المعلوم أن محمداً لم يأت بآية ما برهاناً على صحة دعواه، كموسى الذي لما أرسله تعالى إلى بني إسرائيل أعطاه آيتين لتكونا له برهاناً على صحة دعواه أن الله أرسله إلى إخراجهم من مصر».
القاضي: «لقد جئت يا شيخ بأمرين فريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأول قولك أنه منكر ما جاء في كتاب الله. والثاني أنه لم يأت بآية ما برهاناً على صحة دعواه بالإرسالية من قبل الله. فعلى الأول أقول لا يخفى أن الرسول جاء مصدقاً لما مع اليهود والنصارى أي التوراة والإنجيل، كما ترى في سورة البقرة آية 101 «وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَابَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» وفي سورة آل عمران آية 3 و4 «نَّزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ» إلى آخر الآية و «ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه..» فترى حضرتك أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل اللذين مع اليهود والنصارى، فمن أين جاز لك أن تقول بحقه ما قلت؟
وعلى الثاني أقول: «أنسيت أن الرسول أتى بآيات ومعجزات عديدة، من ذلك شقه القمر نصفين على أبي قبيس جبل في مكة والنصف الآخر على قينقاع كما اقترح عليه المشركون. وإحياءه أبويه بعد موتهما بزمان طويل، فآمنا به ثم أرجعا إلى الموت، وآية إخراجه الماء في محل يدعى المجاز، وإحياؤه ابن امرأة من الأنصار، وإشباعه عدداً عديداً من طعام قليل جداً (راجع السيرة النبوية صفحة 37 و55 و40 جزء أول وغير ذلك مما لا يسعني ذكره) فعجباً كيف يسعك إنكار مثل هذه المعجزات التي قد شهد بها جم غفير من الثقاة الصادقين؟».
علي: «حاشا لي يا سيدي من الافتراء على نبي المسلمين أو خلافه، ولكني أنطق بكلمات أستطيع بيان صدقها، نعم وردت عدة آيات في القرآن مفادها أن محمداً جاء مصدقاً لما مع اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل. وإنما لدى النظر في ذلك بتدقيق وإمعان يرى أن ذلك دعوة تحتاج إلى إثبات. إنّ جل تعليم الكتاب المقدس، التوراة والإنجيل، هو تجسد ابن الله الأزلي وصلبه وموته فداء الخطاة. وقد اتضح لديكم مما كان في الجلسة السالفة عدم تحريف الكتاب. وفوق ذلك أقول أنه من المعلوم أنه قبل ظهور محمد بنحو ثلاثة قرون عقد مجمع في مدينة نيقية بأمر أول سلطان مسيحي مؤلف من جم غفير من أساقفة العالم المسيحي لأجل فحص عقيدة آريوس، منكر أزلية الابن ومساواته للآب في الجوهر والكرامة. وبعد مجادلات ومفاوضات مستطيلة حكم المجمع حسب الكتاب على ضلالة وهرطقة آريوس هذه. وحيثما وجدت نسخة في العالم من نسخ الكتاب المقدس قديمة وحديثة وفي أي لغة كانت، يرى من أول وهلة أن غايتها ومفادها المسيح الإله والإنسان معاً مماتاً في الجسد فداء البشر. وإنكار الشمس في رابعة نهارها ليس بأصعب من إنكار هذه الحقيقة التي هي غاية في الشهرة والبيان. وقد استوفينا الكلام على هذا الموضوع فيما سلف من البحث، فلا حاجة لمراجعة الإسهاب فيه. فما وجه تصديق محمد لما مع اليهود والنصارى، وهو ينكر لاهوت المسيح وصلبه بالجسد غاية التوراة ومفاد الإنجيل وخلاصه؟ ماذا تظنون حضرتكم لو سلبنا من الإنجيل كل آية فيه عن المسيح كإله وكمصلوب عن البشر، ماذا يبقى فيه؟».
فحقاً يا مولاي لو صدق محمد ما بيد اليهود والنصارى في كتابهم الإلهي لكان لا محالة مسيحياً. إذا دعواه هذه دعوى بلا برهان، لا تعار جانب الالتفات ممن له إلمام لمعرفة كلام الله في التوراة والإنجيل، وما لهما من البينات الجلية على سلامتهما من كل شائبة منذ بداءتهما حتى اليوم. أما تذكيركم إياي بما نسب لمحمد من الآيات والمعجزات، كما في كتب الحديث والسيرة، لست بناسيها، غير أني أقول الحق لسيادتكم أني وأنا في حال الإسلامية، وبأوج فخري وشغفي بمحمد، كنت أتحاشى ذكر شيء أمام أئمة النصارى، وكنت أخجل كل الخجل عندما أسأل عنها أو عن بعضها، لتيقني عدم صحتها بناء على ما قد جاء في القرآن. والعجب كيف حضرتكم تتخذونها على محمل الصدق، والقرآن في يدكم؟
القاضي: «وأين ذكر في القرآن عدم إتيان الرسول بالمعجزات والآيات؟».
علي: «لا يخفى على مولاي أن الآيات القرآنية التي يتبين منها جلياً عدم إتيان نبي المسلمين بآية ما كثيرة أجتزئ بذكر ثلاث منها:
الأولى: ما جاء في سورة الرعد آيتي 27 و38 «وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ» إلى آخر الآية.
الثانية: في سورة العنكبوت آية 50 «وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ»
الثالثة: سورة الإسراء آية 59 «وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا ٱلأَّوَلُونَ».
إلا أن هذا الكلام يقطع بعدم إتيان محمد بآيات كموسى ويسوع المسيح وغيرهما من أنبياء الله، وأنى يسوغ للمسلمين أن يصدقوا الرواة بأن نبيهم أتى بآيات ومعجزات، حال كون القرآن المعتبر لديهم ككتاب الله يصرح أن محمداً لم يرسل بالآيات، ويقدم جواب اعتذار لدى المنكتين عليه بعدم إتيانه بآية ما: «قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين».
فتوقف القاضي برهة عن الكلام مطرقاً عابساً، ثم قال بصوت منخفض: «يلزمنا الوقوف على تأويل هذه الآيات لا سيما الأخيرة في تفسير البيضاوي».
علي: «حسنا، ولكن الآية غنية عن تفسير المفسرين، معناها واضح كوضوح أحرفها، وليس لنا الآن الوصول حالاً إلى البيضاوي غير أني إن شئت أسرد لك حرّفياً كلامه بشأن هذه، وفيما بعد تنظر ذلك على مهل في محله. قال البيضاوي: «وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا إن كذب بها الأولون، أي ما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها تكذيب أولئك، واستوجبوا الاستئصال على ما قضت به سنتنا. وقد قضينا أن لا نستأصلهم لأن فيهم من يؤمن أو يلد من يؤمن» (بيضاوي مجلد أول صفحة 702) فهل من بيان أجلى من هذا على كون محمد لم يأت بالآيات كأنبياء الله السالفين؟ إلا أن العلة المذكورة هنا تبين قطعياً عدم إتيانه بآية ما؟» .
فلما رأى القاضي ذلك قال: «نعم ذلك حجة الله لعدم إرسال الرسول بالآيات، فعليه يكون النبي ما أتى بالمعجزات والآيات. وما روى عن آيات أتى بها هو محض كذب لا ينبغي الالتفات إليه. وأشكر همتك يا شيخ علي على تنبيهك إياي على حقيقة لا أعذر على عدم انتباهي إليها، وإنما أسألك ألا أن القرآن معجزة عظيمة دائمة لسمو بلاغته وغريب فصاحته، وما حوى من عجائب الآيات السماوية على نوع مدهش لم يسبق له نظير، ولا يمكن الإتيان بمثله؟».
علي: «لا يخفى على مولاي: ما المعجزة إلا حادث يحدث خلاف مجرى الطبيعة وناموسها، فإماتة حي بطريقة ما لا يعد معجزة لحدوثه وفق ناموس الطبيعة. ولكن إحياء الميت بواسطة كتاب ما في نهاية البلاغة والفصاحة لا يعد معجزة بل من نوادر أعمال الإنسان. وإن حسبنا القرآن بناء على سمو بلاغته وفصاحته معجزة، يلزمنا أن نحسب كثيراً من أشعار العرب وخطبهم معجزات، لما هي عليه من البلاغة والفصاحة، كقصيدة امرء القيس المشهورة التي مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
التي كانت ولا تزال يضرب بها المثل لشهرتها، حتى يقال أشهر من «قفانبك» وكقصائد المتنبي والفارض والحريري، وخطب قس الفصاحة ولقمان وغيرهم. فمن هذا القبيل يكون القرآن خارجاً عن كونه معجزة.
بقي علينا النظر فيه من حيثية الحقائق الموجودة فيه فأقول: إن أكثر القضايا الشرعية وأجلها فيه مقتبسة من كتاب التوراة، وجميع القصص فيه ما عدا قصتي صالح وهود هي مأخوة عن التوراة ومسبوكة بقالب الفصاحة العربية بتصرف قليل، ومكررة فيه مراراً عديدة حتى ملأت صفحات كما ترى، فقصة خلق الله آدم وأمره تعالى الملائكة بالسجود له حسب القرآن إلى آخر الحديث مكررة في خمس سور، وحديث نوح والطوفان مكرر عشر مرات في عشر سور، وحديث إبراهيم بإنذاره عبثاً قومه وتبشيره بإسحق مكرر في ثماني سور، وحديث لوط بإنذاره عبثاً قومه وهلاك سدوم مكرر في تسع سور، وقصة يوسف سورة برمتها، وحديث موسى بإرساله من لدنه تعالى إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل من مصر مكرر في اثنتي عشرة سورة، فإذا نسخنا من القرآن كل ما هو مقتبس من التوراة ومأخوذ عنها من الشرائع والسيرة لا يبقى فيه كما لا يخفى على نباهتكم ما يستحق الذكر فبأي نوع إذاً هو معجزة وما دليل ذلك؟».
القاضي: «إذا ربما كان زعمك هذا يا شيخ أن القرآن من غرائب الأعمال ونوادر التآليف، لكنه ليس بمعجزة، قرين الصواب غير أن إتيان رجل أمي به يرى من باب المعجزة كما لا يخفى على فطانتكم».
علي: «على فرض أن محمداً أتى بأجمعه لا يدخل ذلك ضمن دائرة المعجزة، كما لا يخفى، بل لا يزال في دائرة إمكانية القوى العقلية، طالما يرى أنه مجموع ومؤلف من شرائع وأحاديث قديمة مدون أكثرها في كتابه تعالى. هذا وأن الوحي بالتوراة والإنجيل مع كونه فعلاً إلهياً. لا يقال عنه معجزة، بل وحياً اقتضى وقوع المعجزات لإثبات كونه وحي الله. ولكن حضرتكم وأنا وكل من له إلمام في مسألة القرآن يعرف كيف ومن أين جمعت سوره وآياته، والطرق التي اتخذت لإثبات تلك الآيات بوجه شرعي كون محمد نطق بها، وهذا لا غرو يوقع الريب بأن محمداً أتى بكل القرآن».
القاضي: «نعم صحيح ما أشرتم إليه بخصوص الكيفية التي بها جمع القرآن، غير أنه يدل على سمو التقوى وفضل قائله، ألا ترى ذلك؟».
علي: «لا ريب أن محمداً كان من أول طبقة في العقل والذكاء، وهنا أرجو مولاي إن حسن لديكم فلنرجع قليلاً إلى مسألة تصديق محمد لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فما هو يا سيدي وجه تصديقه لكتاب الله هذا؟».
القاضي: «إن وجه تصديقه للتوراة والإنجيل هو تصديقه ما جاء فيهما من قصة خلق الله آدم وحواء وعصيانهما وطردهما من الجنة، وقتل قايين أخاه، وجميع القصص التي ذكرتها جنابك، وحديث مريم وزكريا، واعتبار الختان والوضوء وغير ذلك من الأوامر والنواهي كما لا يخفى».
علي: «نعم أن محمداً صدق الكتاب في جل هذه الأحاديث، وأهمل أو بالحري أنكر ما هو أهم وأولى بالتصديق».
القاضي: «وما هو؟».
علي: «قد تقدم بيان بعض ذلك لجنابكم ولاستيفاء الفائدة أقول أن محمداً صدق التوراة في مسألة إغواء أبوينا الاولين وطردهما من الجنة، متكلماً عنهما بغاية الإيجاز، ويترك بعض أجزائه الجوهرية (أنظر سورة البقرة والأعراف) وأهمل مسألة طريقة العفو عنهما وعن الخطاة من نسلهما وإرجاعهم إلى حال البرارة والقداسة، وإدخالهم بعد ارتحالهم من الدنيا فردوساً أسمى وأمجد خالدين فيه. المسألة المشحون كتاب الله بالتكلم عنها والإيمان إليها بطرق وأنواع شتى لا سيما في الإنجيل كما قد سلف بيانه. وذكر محمد قصة إبراهيم وتبشير الملائكة إياه بغلام حليم وتقديم ابنه لله وافتداء الله إياه بذبح عظيم (أي كبش عظيم) وأهمل منها ما هو أكثر أهمية، وهو وعد الرحمن لإبراهيم أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. ومن المؤكد أنه سبحانه وتعالى أراد بذلك إسحق».
القاضي: «وما دليل ذلك؟».
علي: «أن لذلك ثلاثة أدلة. الدليل الأول أن إعطاء الله هذا الوعد الثمين لإبراهيم كان بعد تقديمه ابنه اسحق إطاعة لأمره تعالى (انظر تكوين 22) ويؤيد ذلك الدليل الثاني وهو قوله تعالى لإبراهيم عندما همت سارة امرأته بطرد هاجر وابنها اسماعيل «فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ ٱسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (تكوين 21: 12) الدليل الثالث هو تكرار هذا الوعد لإسحق ويعقوب ابنه (انظر تكوين 26: 4 و28: 14): إذ يقول الله تعالى لإسحق بعد موت أبيه: «وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ كَنُجُومِ ٱلسَّمَاءِ، وَأُعْطِي نَسْلَكَ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلْبِلاَدِ، وَتَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلأَرْضِ» وليعقوب لما كان هارباً من وجه أخيه عيسو: «وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ ٱلأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْباً وَشَرْقاً وَشِمَالاً وَجَنُوباً. وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ». ألا ترون سيادتكم إذا أن وعد الله لإبراهيم أن بنسله تتبارك جميع أمم الأرض يريد به نسل إسحق ويعقوب؟» .
القاضي: «بلى بناء على تكرار ذلك لإسحق ويعقوب وعلى الآية المذكورة في الدليل الثاني».
علي: «بناء عليه إذا تباركت قبائل العرب إنما تتبارك بنسل إسحق ويعقوب، أي بالمسيح ابن الله وابن مريم، الذي جاء من ذرية يعقوب حسب وعده تعالى، لا بنسل إسماعيل الذي ما له شيء من هذا الوعد المقدس».
القاضي: «قد غاليت في الكلام وتطرفت جداً يا شيخ علي، حتى جردت أبانا إسماعيل من كل بركة، وإذا كان إسماعيل عليه السلام قد طرد وأمه من بيت أبيه كما تقول التوراة، وربي معتزلاً غريباً، كيف نما هذا النمو وخرج من صلبه أعظم قبائل العرب وأمراؤها بدون بركة الله عليه؟».
علي: «لم أقل أن الله سبحانه ما بارك إسماعيل قط. نعم وعد الله إبراهيم وهاجر بأنه تكثيراً يكثر نسل إسماعيل ويجعله أمة عظيمة، لكن البركة العظمى والوعد المقدس كان لإسحق ويعقوب كما ترون. ولندع الآن التوراة جانباً، ولنلتفت إلى ما جاء في القرآن بهذا الصدد فترى في سورة العنكبوت آية 27 قولاً جميلاً بهذا الخصوص وهو «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُّوَةَ وَٱلْكِتَابَ» إلى آخر الآية فأرجوكم سيدي أجيلوا النظر في هذه الآية الجوهرية. لماذا لم يذكر بها إسماعيل مع كونه بكر إبراهيم بل أهمل منها كأنه لم يكن محسوباً؟ وبذكر الابن والحفيد فقط هبة له من الله، ما السر في ذلك؟ على كل أن هذه الآية ترفع قدر إسحق ويعقوب على إسماعيل وتبين لنا جلياً أن ذريتهما لا ذرية إسماعيل هي ذرية إبراهيم التي جعل الله فيها النبوة والكتاب» .
القاضي: «لا صحة لدعوى بدون دليل وقوله تعالى في الآية (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) لا يحصر ذلك في نسل إسحق ويعقوب، بل يمكن أن يعم نسل غيرهما من بني إبراهيم، فحصر ذلك في ذرية بعضهم دون بعض يحتاج إلى دليل، فما دليل ذلك؟».
علي: «ألا تكتفون يا مولاي بالدليل الذي أقمته من التوراة كما قد رأيت؟».
القاضي: «إن دليل التوراة لما في التوراة، وجنابك وضعت التوراة وعمدت إلى القرآن لتبين منه ما يوافق نص التوراة بشأن ما نحن بصدده، وعليه أرى أنه يحق لي أن أطلب منكم الدليل على ما قد ادعيتموه من القرآن».
علي: «انظر يا سيدي ما جاء في سورة الجاثية آية 16 «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُّوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ» إلا أن ذلك دليل راهن على أن القول القرآني عن إبراهيم «وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب» يراد بذلك بني إسرائيل نسل إسحق ويعقوب، وألا ينطبق ذلك الانطباق على قوله تعالى في التوراة لكل من إبراهيم وإسحق ويعقوب «وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض».
عند ذلك توقف القاضي عن الكلام ربع ساعة، ثم رفع رأسه وقال: «ونعم الدليل يا شيخ، والآن قد أطلنا الوقت فيكفي الليلة ما جرى بيننا. دعنا ننصرف ثم إن عشنا نجتمع الليلة التالية لتتمة البحث والمناظرة». أجاب: «الأمر إليكم سيدي، غير أني أرجوكم إن حسن لديكم اسمحوا لي أن أقول شيئاً كآخر كلام لي مع حضرتكم، ثم ننصرف، لأنه ربما ما سمحت الظروف ألا نجتمع أيضاً كهذا الاجتماع الحلو الذي به قد أوليتموني فضلاً جزيلاً، احتملتموني بطول الأناة وإخلاص المحبة».
القاضي: «قل ما بدا لك يا صديقي العزيز».
علي: «أرى حضرتكم اعتبرتم حق الاعتبار الأدلة التي أقمتها لديكم من التوراة والقرآن على أن الله عز شأنه جعل البركة لكل الأمم بنسل إسحق ويعقوب. النسل الذي جعل فيه النبوة والكتاب، وعليه لا يسوغ لنا أن ننتظر البركة إلا بالمسيح النسل المبارك الشخص العجيب الكامل الذي يفوق الأنبياء والمرسلين كافة بما لا يقاس من كل وجه، كما تبرهن ذلك لحضرتكم في جلسة أمس. وما دام القرآن يقول «ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكمة والنبوة» ولدى التدقيق يرى أن الأنبياء والمرسلين كافة الذي قالوا وكتبوا التوراة والإنجيل هم من بني إسرائيل وفقاً لقول القرآن، فمن أين إذا يحق لنا أن نطلب الإرشاد والهدى إلى معرفة حق الله وقصده الصالح من جهتنا معشر البشر إلا من هذا الكتاب الإلهي، الذي يقال عنه في القرآن «أنه نور وهدى وموعظة للمتقين» (سورة المائدة آية 47 و48) أنه «تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً» (سورة الأنعام 6: 154). وأي حاجة لخلافة ما دام كافياً وافياً؟ كيف لا وهو كتاب الله كتاب يعلن سر المسيح العجيب؟ ويحل لنا المشكل العظيم الذي يراه كل مسلم لبيب لدى اطلاعه جيداً على وصفه ونسبه في القرآن، فأتوسل إلى سيدي أن لا تنسوا هذه الحقائق العظمى ولا تلقوها إلى الوراء، فإن بها الخير والحياة وبدونها فلا» .
القاضي: «إني ممتن لك يا صديقي، وأعدك أني سأتروى هذه القضايا، وأرجو أن لا مانع يمنعنا من الاجتماع الليلة التالية إن شاء الله». ثم قاما وانصرفا.
أما القاضي فبعد وصوله إلى منزله انفرد في مخدعه وأخذ بيده القرآن وفتح الآيتين المتقدم ذكرهما وقرأ الأولى «ووهبنا له إسحق ويعقوب الخ» ووضع اصبعه على الآية وبدأ يكررها بحيرة وغيظ ووهبنا له إسحق ويعقوب.. إسحق ويعقوب.. حسناً أين إسماعيل إذا؟ أخرج عن كونه ابناً لإبراهيم. التوراة والقرآن يعلنان أنه ابنه بكره، لماذا إذا اخرجه الله من نوع الهبة لإبراهيم، مخصصاً بذلك إسحق وابنه يعقوب؟ هل ذلك بدون معنى ولا قصد؟ الأمر الطبيعي أن يقال ووهبنا له إسماعيل وإسحق ومديان وشوحاً إلى آخر أولاد إبراهيم أو بالأقل إسماعيل وإسحق. فما على العدول عما هو طبيعي من هذا القبيل إلى ما ليس بطبيعي، إذ يعدل من ذكر الأقرب إلى الأبعد، أي من الابن إلى ابن الابن؟ أليست هذه هي الموافقة والمصادقة لنص التوراة أنه بإسحق يدعى لك نسل لا بإسماعيل؟ فأنى لنا المهرب من هذه الحجة الدامغة المعلنة لنا في كتابنا، الداكة إلى الحضيض افتخارنا وعجبنا في إسماعيل ونسله.
ثم نقل اصبعه إلى الشطر الثاني من الآية «وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب».. النبوة والكتاب.. حسناً في أي ذرية من نسل بنيه؟ أفي الكل أم في البعض؟ ماذا تقول أيها الشريف؟ أقول عن فمه: «ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة». هذا فصل الخطاب. إن الكتاب والنبوة آتاهما الله ذرية ابني الموعد إسحق ويعقوب لا إسماعيل وغيره من أولاد إبراهيم، وهل بهذا الكتاب الكفاية للهدى والرشاد أيها المصحف الشريف؟ نعم هو نور وهدى وموعظة للمتقين تماماً وتفصيلاً لكل شيء. إذا ما حاجتنا إليك إلا لتؤدي لنا هذه الشهادة؟ حسناً. ثم أخذ يناجي نفسه: ماذا يا أحمد؟ انتبه إلى نفسك. إن كان هكذا إسحق ويعقوب ابني الموعد دون إخوتهما، وإن كان الكتاب الكافي الوافي التام أوتي ذريتهما لا ذرية غيرهما، وأن بنسلهما حسب التوراة تتبارك جميع أمم الأرض لا بنسل إسماعيل ولا بنسل مديان ولا بنسل أحد على الأرض دونهما. فكيف يحق لنا أن ندعي بكتاب أجنبي، ونؤمن بنبي ليس من بني إسرائيل؟ ما أقوى حجج المسيحيين وما أوهى حجتنا: أأستعفي من مناظرة الشيخ علي؟ ولكني قد وعدته بالاجتماع الليلة التالية فلا يليق بي النكث بوعدي. ثم سكت برهة طويلة ثم قال: «ألم تقل التوراة على لسان الكليم موسى «أن نبيا مثلي سيقيم لك الرب إلهك من إخوتك له تسمعون» فيظهر من هذه الآية أن هذا النبي ليس هو من بني إسرائيل، لأن الخطاب لعموم الشعب بصيغة المفرد، فلا بد إذا أن هذا النبي المراد بالآية من قبيلة أخرى. وبما أنه لم يظهر نبي من أقارب بني إسرائيل إلا من ذرية إسماعيل أخي جدهم إسحق، فيكون الأرجح بهذه الآية هو محمد. حسناً ولكن كيف يدحض هذا النبي حقائق كلية من كتاب الله، ويصد قومه عن درس هذا الكتاب والتدين بحسبه، وهو يشهد بكفايته للهدى والرشاد كما لا يخفى؟ فالمسألة متناقضة. غير أني سأمسك الشيخ علي بهذه الآية، وأرى إن كان يمكنه التخلص منها. ثم قام واضطجع.
ولما كانت الليلة التالية حضر إلى محل المناظرة، ودعا الشيخ علي فحضر، وبعد أن جلسا قال القاضي: «قد أتممت وعدي لك بأني ترويت جيداً في القضايا التي كان عليها مدار حديثنا ليلة أمس، غير أني في أثناء ذلك خطر على بالي ما قاله الكليم موسى في التوراة لشعب إسرائيل وهو «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ». إلى أن يقول عن فمه تعالى: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِٱسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ»(تنثية 18: 15 و18 و19) فلا غرو أن هذا الإنباء هو عن نبينا صلى الله عليه وسلم» .
علي: «إن الدعوة تفتقر إلى الدليل. فما الدليل على أن إنباء موسى هذا هو عن محمد العربي؟».
القاضي: «الدليل قائم من نفس الأنباء وذلك أولاً: أنه قال نبياً من إخوتك، وهذا لا يصح قط أن يكون عن نبي من بني إسرائيل لكون المخاطب هو الشعب إسرائيل بصيغة المفرد، فيدخل تحت هذه الصيغة عموم بني إسرائيل، وعليه يكون النبي المنبأ عنه في هذه الجملة من إخوة إسرائيل لا منهم. وثانياً: أنه يكون كموسى متولياً أمر أمته مشترعاً ذا بطش ونقمة من الكفار، إذ قال «نبياً مثلي» وهذا محال انطباقه على المسيح الذي كان نبياً وديعاً مهاناً كما يصف الإنجيل، وبما أنه لم يقم نبي من إخوة إسرائيل سوى محمد القرشي الإسماعيلي المتشح بالصفات المذكورة، فيكون طبعاً هو المراد بذلك الأنباء» .
علي: «إن دليل حضرتك هذا هو كنفس الذي ذكره صاحب السيرة النبوية جزء أول صفحة 87 ونعم الدليل لو ثبت - إن الأنباء عن هذا النبي موجود في الأصل العبراني عند الإسرائيلين كما في الترجمة العربية عنه الكائنة هنا معي، فإن حسن ننظر ذلك في محله، ونرى هل مفاد الآية هو كما يزعم أئمة الإسلام؟ حسناً افتح التوراة. ففتحها وقرأ الآية «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون» فانظر مولاي الفرق العظيم فإن الآية تبين كون ذلك النبي من بني إسرائيل لا من غيرهم بكلمة «من وسطك، من إخوتك، أليس الأمر هكذا يا مولاي؟».
القاضي: «إذا كانت كلمة «من وسطك» موجودة في الأصل العبراني كما قلت فيكون هذا النبي المنبأ عنه بدون ريب من بني إسرائيل» .
علي: «لا شك بكونها موجودة تماماً كما في هذه النسخة، وعليك بالسؤال وما يزيد الحقيقة وضوحاً هو ما جاء في الأصحاح الذي قبل هذا تثنية 17: 14 الخ «مَتَى أَتَيْتَ إِلَى ٱلأَرْضِ... فَإِنْ قُلْتَ: أَجْعَلُ عَلَيَّ مَلِكاً... فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً ٱلَّذِي يَخْتَارُهُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ. مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً. لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْكَ رَجُلاً أَجْنَبِيّاً لَيْسَ هُوَ أَخَاكَ... وَعِنْدَمَا يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ، يَكْتُبُ لِنَفْسِهِ نُسْخَةً مِنْ هٰذِهِ ٱلشَّرِيعَةِ... لِكَيْ يُطِيلَ ٱلأَيَّامَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ هُوَ وَبَنُوهُ فِي وَسَطِ إِسْرَائِيلَ».
القاضي: «كلا فإن الأمر واضح من قرائن الكلام أن المراد بها من وسطهم منهم، وأن ملكهم يكون لا بد منهم إسرائيلياً لا أجنبياً. ونعلم أن الله سبحانه لما ابتغى بنو إسرائيل ملكاً اختار لهم ملكاً شاول ثم داود وسليمان».
علي: «ألا ترون مولاي أن جملة من وسط إخوتك تجعل عليك ملكاً بمعزل عن قرائنها وعن واقعة الحال هي من حيثية الفكر الإسلامي بالنبي المراد بأنباء موسى أقرب من جملة من وسطك من إخوتك للزعم أن المراد بذلك الملك هو من إخوة يعقوب لا من ذريته، لأن جملة«من وسطك» لا تدع محلاً للكفر بأن ذلك النبي ليس هو منهم، بخلاف جملة من وسط إخوتك التي بالنظر إليها مجردة بظهر أن الملك لمراد به أجنبي عن إسرائيل كما تقدم. فيتضح لكم مولاي أن هذا النبي هو إسرائيلي لا إسماعيلي ولا مدياني، وبالتالي ليس هو محمد العربي الإسماعيلي. ومعشر المسيحيين يعتقدون أن النبي المراد بذلك الأنباء هو المسيح ابن مريم لا ريب. لا يسعني أن أذكر أوجه الشبه بينه وبين موسى الكليم إلا على غاية الإيجاز.
أولاً: إن موسى كان كليم الله، به وسائر الأنبياء كلم الله الآباء، ممهداً بهم إلى المسيح كلمة الله، الذي به «كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ... ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين 1: 1 و2).
ثانياً: لقد كان موسى وسيط العهد القديم بين الله وبني إسرائيل.. مشيراً ورامزاً إلى المسيح وسيط العهد الجديد عهد النعمة والرحمة والغفران.
ثالثاً: كان موسى قائداً يتلقى شريعة ربه ونبياً ملهماً يعلن إرادة الله لقومه، والمسيح هو ذلك القائد الأعظم والمشترع الأعظم والوسيط الأوحد « لِكَيْ يَكُونَ ٱلْمَدْعُّوُونَ إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ ٱلتَّعَدِّيَاتِ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَهْدِ ٱلأَّوَلِ (عهد موسى) يَنَالُونَ وَعْدَ ٱلْمِيرَاثِ ٱلأَبَدِيِّ (في المسيح)»(عبرانيين 9: 15).
القاضي: «إن وجه الشبه الذي أتيت به جنابك ما خلا القضيتين الأوليتين هو محض روحي، حال كون أمر موسى وصفاته المسطرة في التوراة هي حسية ظاهرة».
علي: «لا يخفى أن مشابهة ذلك النبي لموسى لا تقتضي مماثلته له في كل شيء محسوس، بل من حيثية إقامته كنبي ووسيط ومعلم وقائد وأمين. ولا يخفى عليكم البون العظيم بين موسى ومحمد من حيثية أجل الأمور وأهمها».
القاضي: «وما ذلك؟».
علي: «إن موسى اشتهر جداً بالآيات والمعجزات التي أجراها الله بيده في مصر والبرية، ومحمد لم يفعل آية واحدة كما قد رأيتم، موسى حرر الإسرائيليين من عبودية فرعون لا بسيف ولا برمح بل بمجرد قوة الله. موسى أقات الإسرائيليين بخبز من السماء أربعين سنة. فبما يشبه محمد موسى من هذا القبيل؟ ثم ما دام الله سبحانه حضر الكتاب والنبوة في بني إسرائيل كما يرى جلياً من التوراة والإنجيل، وكما يصرح القرآن، فأنى يحق لنا أن ننتظر نبياً خارجاً عنهم. وإذا كان الله حصر البركة لأمم الأرض فيهم كما قد رأيت، فأنى يحق لنا أن نرجوها من دونهم. ألا يكون ذلك والعياذ بالله مغالطة لكلمة الباري تعالى؟ هذا عدا ما هو واضح كل الوضوح من نفس إنباء موسى عن ذلك النبي بأنه من ذات بني إسرائيل، كما قد رأيتم. وبما أن لا نبي أتى من بعد موسى من بني إسرائيل يماثله (بل يفوقه) في عمل الآيات والمعجزات، وإعلان أسرار العلي، مع باقي الصفات المتقدم ذكرها كالمسيح ابن مريم، الذي أنبأت عنه بعد موسى جميع أنبياء الله بوضوح وبيان لا مزيد عليهما، كما قد رأيتم وترون، فيكون هو ولا سواه النبي المراد بذلك الأنباء. وعليه فلا مندوحة لك عن أحد أمرين: إما أن تسلم بأن محمداً غير مقصود البتة في أنباء موسى هذا، وإما أن تغالط موسى والقرآن».
القاضي: «حسناً ما قد أتيت به، غير أني أسألك أما تنبئ التوراة عن مجيء محمد العربي بعد عيسى المسيح رسولاً من الله إلى الناس كافة؟».
علي: «ما كنت أفكر يا مولاي إن حضرتكم تعتقدون أن التوراة تشهد لمحمد أو تنبئ عن مجيئه كنبي ومرسل من الله لهداية خلقه».
القاضي: «كيف لا وقد روى في كتاب السيرة النبوية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك أنه قد جاء أن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء والأرض، وأن الله تعالى قال في التوراة أنه باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون.. واسمه في التوراة أيضاً «حمياطا» أي يحمي الحرم و «قدومياً» أي الأول السابق.. و «طاب طاب» أي طيب، وفيها أيضاً ومحمد حبيب الرحمن، ومحمد ابن عبد الله مولده بمكة ومهاجرها إلى طابه وملكه بالشام وفي الإنجيل اسمه «ألمنحمنا» ومعناه بالسريانية محمد، وفي الزبور «حاط حاط والفلاح» الذي يمحق الله به الباطل «والفارق» أي يفرق بين الحق والباطل، وأنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب أتدري من أنا؟ أنا اسمي في التوراة «أحيد» وفي الإنجيل «البارقليط» وفي الزبور أني أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي. وفي الزبور أيضاً يا داود سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً، وقد غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (كتاب السيرة النبوية)» .
علي: «كيف ترى مولاي أصادقة هذه الروايات عن محمد والصحابة؟».
القاضي: «إن كانت هذه غير صادقة فأي حديث صادق؟».
علي: «اسأل حضرتكم أن تعفيني إن شئتم من الجواب».
القاضي: «كلا أرجوكم أن تتكلم بكل حرية. أرأيتم مني ما يزعج خاطركم؟».
علي: «إذا لا تؤاخذني حضرتكم فيما أقول أن لا صحة لدعوى وجود هذه الأقوال في التوراة والزبور، وأني لمتعجب كل العجب كيف ادعى محمد هذه الدعوى إن كان ادعاها، أو كيف روى عن كتاب الله روايات لا أصل لها فيه. إن اسم محمد وطاب لا يعرف قط في كتاب الله، فها التوراة عبرانية ويونانية وسريانية ولاتينية وعربية لا تجد فيها شيئاً مما روى بخصوص محمد. أين يقال في الزبور عن فمه تعالى محمد رسولي ولداود سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد إلى آخر القول؟ اين جاء في التوراة أني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد؟».
والإنجيل أيضاً لا شيء فيه مما قيل سوى كلمة «بارقليط» وقط لم يعن المسيح بها شخصاً بشرياً بل الروح القدس الذي وعد به رسله أن يرسله لهم بعد صعوده عنهم ليحل في قلوبهم ويملأهم قوة، وليذكرهم بكل ما سمعوه من سيدهم ويؤيدهم بالآيات والمعجزات برهاناً لصحة الإنجيل الذي يكرزون به، وختماً لصحة دعواه أنهم مرسلون من الله لإرشاد الناس وهداهم، فالادعاء يا مولاي سهل ولكن الإثبات عسر. والقول أن التوراة والإنجيل تحرّفا من أن محمداً قال لعمر قبل الجملة التي ذكرتها وهي: أتدري من أنا يا عمر؟ أنا الذي بعثني الله في التوراة لموسى وفي الإنجيل لعيسى وفي الزبور لدواد، فهذه يا مولاي دعوى. أليس القرآن يقول عن فمه تعالى أنه آتى موسى الكتاب وعيسى الإنجيل وأنه أيد عيسى بالروح القدس، فعليه يكون الروح القدس لقن المسيح الإنجيل لا محمد، وإذا كانت هذه الدعوى لا تقبل عند أهل التعقل والدراية، فأظن أنها ليست من محمد، بل مختلقة رواة أرادوا بها رفع شأن محمد».
القاضي: ألهذا الحد يا شيخ علي؟ أتكذب الرسول والصحابة؟ (قال هذا بصوت رائق واطئ اختشاء أن يسمع ذلك أحد من الخارج).
علي: «كنت طلبت الاستعفاء من المجاوبة محاشاة مس حاساتكم فلم تعفني، وليس غرضي فيما قلت إلا بيان الحق، فهل ذلك يغيظكم سامحوني».
القاضي: «كلا لست مغتاظاً البتة من جنابكم إنكم ما فهتم بشيء إلا في محله، وهذا حق المناظرة. ولو أرى منكم ما يدل على مراعاة الخاطر من الإطراء والتمليق لما كنت أسر بالدخول معكم في هذا الباب وإنما رمت الجولان معكم قليلاً في هذا الميدان، لعلي أفوز بإقناعكم، ولكن ذهب أملي أدراج الرياح».
علي: «أنت تعلم يا مولاي أني كنت من أشد الناس غيرة على الإسلام ومن أوفرهم تعبداً، وأجهدهم على الدرس والمطالعة، لكنني كما أؤكد لحضرتكم، ورب السرائر يعلم، أني ما كنت أستطيع أن أقتنع بصحة مثل هذه الروايات ما لم أتأكدها في التوراة والإنجيل. وكنت أحزن وأغتم كثيراً لما لم أجد فيهما أثراً لها وحينما كنت أرى بعض علمائنا وعامتنا يتحدثون بها وبروايات المعجزات بفخر وعجب، كنت أضحك آسفاً، وكثيراً ما كنت أذهب بسببها إلى الريب بنبوة محمد وإرساليته، فكنت من جراء ذلك في جهاد شديد اضطرني إلى معاشرة علماء عديدين يهود ومسيحيين، وبقيت على هذا الحال إلى أن كشف الله عن بصيرتي وأراني الصراط المستقيم في كتابه الثمين».
أما القاضي فبهت ولم يفه ببنت شفة. وبعد نحو ثلث ساعة وقف وقال: «سبحان الله. قد أطلنا الحديث يا صاح. اكتفينا. أجزل الله ثوابكم وأسحن معادكم. فدعنا الآن ننصرف. وإن سمح الله وفسح في الأجل فسنعود إلى مثل هذه المعاشرات الطيبة». ثم نهض الشيخ علي وصافح بعضهما بعضاً وانصرف كل إلى مكانه.
وكان القاضي في أثناء الطريق يحدث نفسه هكذا «كل كلام الشيخ علي في محله. نعم القرآن ينفي أن الرسول أتى بالآيات كما أول آياته في هذا الباب أشهر أئمة الإسلام، فكيف روى عن ألسنة ثقات أنه أتى بآيات ومعجزات كشق القمر وإحياء الموتى إلى غير ذلك؟ إن ذلك عديم الصحة، كيف تجرأ الرواة أن يرووا ما لا شبه صحة له. هل راموه تقليده بعيسى؟ إن ذا الضلال مبين. وأين الشهادات للرسول والنبي الإسماعيلي المكي في التوراة والإنجيل كما يزعم المحدثون؟ لا حول ولا قوة إلا بالله».
أما الشيخ علي فانصرف طيب القلب مسروراً، وهو يحمد الله ويشكره. ولما دخل على رفاقه وأخبرهم ما كان بينه وبين القاضي فرحوا فرحاً عظيماً وحمدوا الله وسألوه البركة والهدى للمومأ إليه.
وفي الغد ذلك اليوم زار المفتي القاضي وقال له: «بلغني أن حضرتك اجتمعت بالشيخ علي ليلة أمس وما قبلها، فعسى أن تكون النتيجة حسنة». فقص عليه ملخص ما جرى بينه وبين المذكور، فبهت المفتي برهة ثم قال: «إني طالعت التوراة مراراً بكل تدقيق لعلي أجد فيها شيئاً مما ذكر فلم أجد. فقلت ربما النصارى قد حذفوا عمداً مثل هذه الشهادات من ترجمتهم. فقصدت الحاخام رأوبين المشهور بالصدق والأمانة وسألته عن ذلك، فأكد لي بقسم عظيم أن لا شيء من ذلك في توراتهم. ولا يخفى عليكم ما كان عليه المرحوم الشيخ عباس إسماعيل أحمد من فرط الغرام بالحديث والروايات عن أقوال الرسول وأعماله ولفرط غيرته على إشهار الدين وامتداده درس العبرانية جيداً على الحاخام بنيامين شمعون، آملاً أن يرى بنفسه في الأصل العبراني ما روي وذكر. ولما اطلع على التوراة في اللغة التي أنزلت فيها، ولم يجد شيئاً من ذلك، زهد كل الزهد في الإسلامية، حتى لم يبق معه منها إلا الرسم الخارجي. ولما سألته مرة: كيف رأيت يا شيخي الشهادات في التوراة عن النبي؟ ضحك ثم تأوه وقال: تلك الأقاويل اسم بلا مسمى لا وجود لها البتة ولا رسم في توراة الله. فإذا كان محمد قد ادعى هذه الدعوى فيرجح أن ذلك دخل عليه بالغش من بعض منافقي يهود المدينة الذين أسلموا حباً بالأرباح والغنائم فصدقهم النبي. وإذا كان محمد لم يقل هكذا بل رواه عنه بعض الصحابة بغية تشييد الدين وازدياد الغرام بالنبي، فذلك مما يوقع الريب في كل حديث عنه، حتى في نفس القرآن الذي جمع على شهادات الناس وذممهم وهنا الطامة الكبرى».
القاضي: «عجباً يا مفتي أفندي، أيغش النبي هكذا من يهود المدينة؟ أين النبوة إذا؟ وإذا كان ممكناً أن يغش في مثل هذه الأمور فقد يمكن وقوع الغش عليه في أمور أخرى، وعليه يكون من الخطر الاعتماد على القرآن الذي يرى منافياً كل المنافاة للتوراة والإنجيل بخصوص شخصية المسيح وموته».
المفتي: «الله أعلم بحقيقة المصدر، ألا تعلم يا سيدي أن الريب بصحة الدين الإسلامي قد خامر قلوب كثيرين من علمائنا؟».
القاضي: «ما الطريقة إذاً؟ أنشاكلهم بالرياء والنفاق؟ أم نطمع بإيجاد سبيل لتوطيد الإيقان بصحة النبوة والرسالة؟».
المفتي: «دعنا الآن نطوي الحديث إلى أن نحصل على وقت موافق لنشره». ثم استأذن وانصرف تاركاً القاضي يتقلب على بساطة الحيرة واليأس.
ثم في غد ذلك اليوم دعا الوالي القاضي والمفتي مع بعض أرباب المجلس، وتشاوروا معاً بخصوص المكان الذي ينبغي تعيينه دار منفى لأولئك المتنصرين، فقال بعضهم ينبغي نفيهم إلى رودس، وآخرون إلى أرمينيا وغيرهم إلى كريت. وأما القاضي الذي كان من عادته أن لا يتكلم إلا بعد أن يفرغ الحاضرون من الكلام، قال له الوالي: «مالك لم تعط رأياً يا قاضي أفندي؟». أجاب: «أرى إن حسن لدى دولتكم أن يبعدوا إلى إحدى قرى لبنان، وهو حكومة خارجة عن الولاية». قال الوالي: «ولكنه مكان قريب من البلدة، ولا يعتبر ذلك كمنفى لأبناء بر الشام». ثم التفت إلى رئيس الجزاء وقال: «ماذا تفتكر يا حسن أفندي؟». أجاب: «إن محلاً كهذا قلما يفرق عن بقائهم في بيوتهم». ثم سأل المفتي عن رأيه في ذلك فقال: «نعم هو محل قريب، ولكنه يعتبر على كل حال منفى، وتعلمون دولتكم أن منطوق الأمر السامي لا يجيز قصاصهم بل إبعادهم عن المدينة والولاية حسماً للقلاقل والفتن التي يخشى حدوثها إذا بقوا في البلدة. وقرب مكان إبعادهم فيه توفير على الحكومة. وعلى كل فنظر دولتكم أوسع». فقاوم هذا الرأي مدعي العموم قائلاً: «لا أرى إلا أن حضرة قاضي أفندي ومفتي أفندي مغرضان جداً مع المتنصرين. نظر أفندينا في محل أن لبنان لا يعتبر منفى للمجرمين». أجاب رئيس مجلس التمييز: «لا جرم أن حضرة مدعي العموم أهان حضرة قاضي أفندي ومفتي أفندي بنسبته الغرض لهما. نعم إنهما على جانب عظيم من رقة القلب وحب السلام ولكن في العجلة الزلل. ألا يعلم حضرته أن بعض هؤلاء الرجال في سن الشيخوخة والهرم، فيخشى أن يؤثر في أجسامهم النحيفة طول المسافة ومشقة السفر على غير عادة، لا سيما في هذا الفصل الحار، فيموت بعضهم من جراء ذلك فتتهم الحكومة بإماتتهم؟». فحينئذ سكت الجميع، وأخيراً استصوب الوالي رأي القاضي وعول عليه. ثم التفت وقال: «حسناً ما ارتأيت يا قاضي أفندي (فأبدى حينئذ القاضي علامة الشكر والامتنان) ولكن أي مكان في لبنان ترى أن يكون أكثر مناسبة؟ فقال: «إن دير القمر يكون أنسب لذلك لكونه أبعد مكان حاضرة الولاية». وبعد التأمل في هذا الأمر قر الرأي على إبعادهم إلى المكان المذكور، ليلة رابع عشر الشهر بعد نصف الليل، وحرض الوالي الحاضرين على كتمان الأمر إلى أن يشاء دولته.
فلما كان اليوم الثالث عشر من الشهر فهم أولئك الرجال ما جرى من القرار بإبعادهم قريباً، ولكنهم لم يعرفوا في أي يوم وإلى أي مكان، فظهر على بعضهم ضعف العزم وانكسار القلب، غير أن أكثرهم كانت تلوح على وجوههم لوائح الشجاعة وعدم المبالاة، فعزى بعضهم بعضاً وتقووا، لا سيما بعد أن حملهم القاضي على الطمأنينة بقرب محل إبعادهم وبحسن المعاملة في سفرهم. ولما كانت الليلة الرابعة عشرة من صفر بعد نصف الليل بنحو ساعتين أخرجوا على حين غفلة من سجنهم وأركبوا للحال على دواب معدة لهم، وسار معهم خمسون عسكرياً من العسكر النظامي وخمسون فارساً من الجاندرمة. فتأوه حينئذ هؤلاء المساكين وبكوا بمرارة، إذ لم يكن لهم فرصة لتوديع أولادهم وإخوانهم، ولأنهم كانوا قد أطالوا السهر تلك الليلة ولم يرقدوا أكثر من نحو ساعتين. فسار بهم العسكر ليلاً ونهاراً دون توقف، ولم يكن لهم من معز في مسيرهم تلك الليلة سوى التأمل بإنعام الله وألطافه. وإذ كان ثمة القمر بدراً والجو نقياً قال الشيخ علي: «إن هذا البدر المنير والفلك النقي المرصع بالكواكب الدرية اللامعة يمثلان لي الطريق المنيرة التي اقتادنا الرب إليها وسيّرنا فيها، ما أعظم الفرق بين النور والظلام وبين الحق والباطل. ما أجمل هذا البدر المضيء لنا في طريق ارتحالنا هذه وما أحلى الهدوء والسكينة المخيمين على البلاد». وكانوا يتعزون بمثل هذا الحديث إلى أن لاح الفجر. وكان هؤلاء المساكين قد أعيوا وكلوا جداً من طول المسير، لأنهم لم يكونوا معتادين ذلك، فتوسلوا كثيراً إلى القائد أن يهب لهم وقتاً للراحة فأبى، وبعد أن كرروا إليه توسلاتهم ودفعوا له مبلغاً من النقود سمح لهم أن يترجلوا مرتين للراحة على الطريق قبيل الظهر والعصر ومرة عند المغرب، ثم سار بهم إلى أن بلغوا المقصود نحو الساعة السادسة من الليل، فباتوا خارجاً وفي الصباح دخلوا البلدة ودفع القائد رسالة الوالي إلى حاكم البلد فقبلهم بكل ترحاب، وأنزلهم في محل يليق بشأنهم وقابلهم بمزيد الإكرام والاعتبار، وفي الغد انقلب العسكر راجعاً.
أما ما كان من أهل العلماء وأقاربهم المذكورين فإنهم لما قاموا في الصباح وعلموا بإبعادهم ليلاً صاحوا بالبكاء والعويل، وأسرع كثيرون منهم إلى المجلس ضاجين بالصراخ يصيحون: «يا للظلم. يا للجور». فخرج القاضي وتكلم معهم بما هدأ روعهم وأسكن جأشهم. ثم صرفهم فمضوا وباطلاً اجتهدوا في استكشاف محل إبعادهم من رجال الحكومة والمأمورين، إذ كان أمر الوالي بالكتمان مشدداً جداً. ولكن بعد مضي نحو شهرين من الزمان عرفوا أين هم. فسار إليهم الشيخ حسن أخو الشيخ علي وابن أخيه محمد وبعض أولاد الآخرين، ولما وصلوا ودخلوا عليهم انطرحوا عليهم وهم يبكون وينتحبون، فوقع أولئك المنفيون على أعناق بنيهم وإخوتهم يقبلونهم بكل لهفة. وبعد أن سكن روعهم ومسحوا دموعهم وسأل كل منهم عن سلامة أهله وأولاده قدموا لهم ما أحضروه من الأمتعة والنقود، ولبثوا عندهم أسبوعين. وكان هؤلاء الرجال يفرغون جهدهم بتبشيرهم وتعليمهم، ويصلون معهم كثيراً، فتأثر أكثرهم وعلى الخصوص الشيخ حسن ومحمد أفندي عمر، فإنهما كانا يصغيان إلى تعليم الإنجيل بكل شوق ولذة. ففرح العلماء المذكورون جداً ورأوا بذلك جودة المنفى وربحه فحمدوا الله على ذلك. وإذ كان المذكورون قد قبلوا المعمودية منذ مدة في هذه البلدة، عمدوا أيضاً أولادهم وإخوانهم المؤمنين بمزيد الفرح والسرور، ثم صرفوهم قائلين: «ارجعوا الآن يا أولادنا بسلام الله إلى بلدكم وأهلكم، واحملوهم على الطمأنينة من جهة صحتنا، ولا تخافوا الناس ولا ترهبوهم، بل اتقوا الله الذي خلقكم، ومارسوا أموركم بالهدوء والسكينة». فرجعوا وكانوا في طريقهم يتحدثون بكل سرور بما علموه وآمنوا به. ولما وصلوا أخبروا أهلهم وأقاربهم عن محل المبعدين وسلامتهم، فاطمأنوا وتعزوا، وهكذا كانوا يترددون عليهم من وقت إلى آخر.
أما أولئك الرجال فكان قد وقع حبهم في قلوب أهل البلد وما جاورها من رفيع ووضيع، فكانوا يتقاطرون لزيارتهم أفواجاً أفواجاً، وكثيراً ما كانوا يدعونهم إلى بيوتهم بكل إكرام وإجلال، لأن حسن صفاتهم وغزارة علمهم ووفرة تقواهم أخذت بمجامع قلوب الجميع، فكانوا يتلقونهم في الأسواق والمخازن والمنازل بأحسن ملتقى والرؤساء الروحيون من كل المذاهب في لبنان وما جاوره كانوا يزورنهم ويبارحونهم بملء السرور، أما هم فكان غالب حديثهم مع زائريهم وعشائرهم فيما يختص بمحبة الله وجوده الفائق بابنه الوحيد، فكان سامعوهم يبهتون متحيرين من براعتهم وقوة إدراكهم سمو الحقائق المسيحية بوقت وجيز، وسرعة استحضارهم آيات الكتاب، حتى أنهم أصبحوا على صلاح الحال الروحي والأدبي في تلك البلاد، الأمر الذي سبب لهم سروراً لا يُقدر وملأ قلوبهم من روح الشكر والحمد، حتى قال بعضهم لبعض: «لولا الحب الطبيعي للوطن والأقارب لكنا نفضل البقاء في هذا المكان على الرجوع إلى الشام».
وإذ كان قد شاع أمرهم وذاع صيتهم لهجت بهم الجرائد الأوربية فسأل بعض الدول وكلاءهم في سوريا عن أمرهم فأفادوهم الواقع. فأرسلت بعض الدول المسيحية رقيماً للحضرة السلطانة، مآله أن أملها بجلالته صدور الأمر بإرجاع المومأ إليهم من منفاهم طبقاً لمبادئ الحرية. فأجاب حضرة السلطان بما ملخصه:
«إني لم آمر بإبعاد أولئك المتنصرين من قبيل عدم مراعاة الحرية التي أرغب دائماً أن أمتع بها كلا من رعاياي الأمناء - حاشا - غير أنه إذ كان هجرهم الإسلام وذهابهم إلى النصرانية أمراً حديثاً في بلد كدمشق، سكانها قليلو التمدن كثيرو التعصب، فمراعاة للصالح وحسماً لدواعي الفتن قد رأيت وجوب إبعادهم مؤقتاً إلى مكان ما خارج الولاية. وإجابة لالتماس حكومة الولاية صار إبعادهم إلى دير القمر في لبنان، بلد لا تبعد كثيراً عن بلدهم، كل سكانها على الدين المسيحي. وهذا ما يبرهن لديكم رغبتنا في راحة كل رعايانا وشعوبنا وسلامتهم. وسنستعلم من الوالي هناك حتى إذا وجد أنه لا يترجح بعد وقوع تشويش وقلاقل بسببهم إذا أرجعوا، نأمر بإرجاعهم».
ولم يمض شهران من السنة الثانية لإبعادهم حتى صدر الأمر السامي بإرجاعهم إلى بلدهم وأهليهم، وتخويلهم مطلق الحرية في ممارسة شعائر الدين كما يرغبون. فأرسل الوالي سراً ملازماً بنفر من الخيالة لإرجاعهم. ولما بلغ دير القمر ودفع الرسالة إلى حاكم البلد بإرجاع المومأ إليهم، سر الأهالي كافة بذلك، وإن كان عز عليهم فراقهم. وحضر تلك الليلة لوداعهم هيئة الحكومة وأعيان البلد كافة مظهرين لهم سرورهم لإطلاق سبيلهم وتخويلهم الحرية الواجبة.
فأجابهم الشيخ علي: «إن ألسنتنا تقصر عن إيفاء حق الشكران على الأفضال التي نلناها من لدن سعادة القائمقام الكريم وأعيان البلد، بل من أهلها كافة دون استثناء. إننا نرجع إلى بلدتنا وقلوبنا أسيرة قيود حبكم وألطافكم. فليكن مؤكداً لديكم أن صدورنا تختلج دائماً بالشكر والامتنان لحضرتكم».
فأجاب نائب البلد: «إننا نقول والحق أولى أن يقال أننا مقصرون كثيراً عما وجب علينا ذمة لحضرتكم. وبلدنا وضواحيها تعترف بما أوليتموها من خير الفوائد مدة إقامتكم فيها. فالله الذي عرفنا بكم ومتعنا بشهي ألطافكم السامية يريكم ذويكم وأحباءكم كافة بالخير والسلام ويمتعكم وإيانا بروض الحرية والراحة».
فأبدى حينئذ العلماء المذكورون علامة الشكر والامتنان، ثم ودعهم الحاضرون وانصرفوا. وفي الصباح قاموا من الدير وسار برفقتهم أيضاً ملازم آخر مع بعض الخيالة من قبل الحكومة المحلية، فكان مسيرهم على مهل وبحرية حيثما شاءوا وحلوا ومتى شاءوا ساروا. وفي اليوم التالي نحو الساعة الثالثة ليلاً بلغوا الشام، فادخلوا على الوالي، فقابلهم بشيء من الإكرام، وتلا عليهم الأمر السامي بإرجاعهم. ثم صرفهم إلى بيوتهم محرضاً إياهم على ملازمة الهدوء والسكينة وعدم التكلم مع المسلمين بأمر الدين. وبينما كان أولاد المذكورين وإخوتهم باهتمام عظيم في مسألة ترجيعهم من منفاهم، وصاروا في حالة الارتباك والحيرة لا يدرون ما يعملون، وكان إذ ذاك الشيخ حسن عمر مع بعض من أولاد وإخوة المشايخ الآخرين مجتمعين في بيت الشيخ علي، يتحدثون في هذا الموضوع، وإذا بالباب يقرع، فأجفل الشيخ حسن وخفق فؤاده، ثم وقف على قدميه وقال: «إن هذه القرعة أشبه بقرعة أخي» وبادر حالاً إلى الباب ونادى: «من يقرع الباب؟» فأجابه: «افتح يا حسن». فصرخ: «البشارة البشارة يا إخوان». وفتح الباب وإذا بأخيه الشيخ علي داخل، فوقع على عنقه وقبله. وذاك يقبل يديه مبللهما بدموع الفرح.
ولما علم في الغد أمر رجوعهم ابتدأ الناس يتواردون عليهم للسلام، ما خلا ناصر الدين وصحبه المعلومين. ثم أخذوا برد الزيارات للجميع، وكانوا يسيرون باتضاع واحتشام منعكفين على أعمال البر والإحسان، فأثر منظرهم هذا وحسن سلوكهم في الجميع، وزاد اعتبارهم وارتفع شأنهم عند الأكثرين، غير أنه على كل حال كان لهم مناظرون وحساد كثيرون، لا يفترون عن القدح بهم والتهييج ضدهم، ولكن قلما كان يلتفت إلى مقالهم أو يعبأ بافترائهم. وفي أثناء ذلك أشهر أحمد أفندي القوتلي السالف ذكره إيمانه بالمسيح حسب الإنجيل، وكان مواظباً على الشيخ علي والشيخ محمود وسماع حديثهما عما جرى لهما ولأصحابهما منذ اطلاعهم على تلك الرسالة التي أصبحت وسيلة إنارتهم واهتدائهم. وقال لهم مرة: «كم من الثواب والأجر لذلك المسيحي الفاضل الذي اتحفكم بهذه الهدية الكريمة. أما أرسلتم له مكتوب الشكر والمحبة؟». قال الشيخ أحمد عبد الهادي: «كنا عزمنا على ذلك ونحن في دير القمر، ولكن بعد الاستعلام عنه وعن محل إقامته بلغنا من مصدر يركن إليه أنه قد نقل من هذا العالم من نحو ثمانية أشهر، فتأسفنا حيث لم نكتب له من قبل ذلك». فصفق القوتلي بيديه وقال: «آه لو عاش ورأى ثمرة عمله. ولكنه سيراها على نوع أجل في حضرة ربه، يموت الصديقون ولا تموت أغراسهم، وسيحصدون غلات ما زرعوا في يوم لا يضيع فيه أجر مثقال ذرة من الفضل».
ثم بعد مضي نحو خمس سنين من رجوعهم إلى بلدهم مرض الشيخ علي مرض الموت فكان جسمه يزداد نحولاً وانحطاطاً يوماً فيوماً. والشيخ محمد والشيخ أحمد عيد الهادي وأحمد افندي القوتلي مع باقي الأصحاب قلما كانوا يبرحون سريره، وكان لا يود أن يقرأ له إلا في الكتاب المقدس، ولا يريد ذكراً إلا ذكر يسوع المسيح، وكثيراً ما كان يردد في فمه هذه الكلمات لا سيما عندما لا يكون أحد بقربه: «مات لأجلي - وفى ديني - وفى الكل - مات عني لأحيا به - ما أقوى حبه وما أسمى لطفه». ولم يكن يدع أحداً من زائريه يخرج من عنده بدون أن يكلمه شيئاً عن محبة المسيح.
ولما كان يوم وفاته اجتمع حول سريره جماعة من علماء المسلمين وأئمتهم الثقاة، وكان إذ ذاك غاية ما يكون من الانتباه. فبعد أن جلسوا قليلاً قال الشيخ عبد الحميد إمام الجامع الأموي: «يا شيخ علي، يا صديقي القديم وعشيري الكريم، أرغب أن أقول لكم شيئاً على جراء أن تحتمل ما سأبديه بوجيز العبارة لحضرتك». قال: «تكلم يا سيدي الكريم». قال: «أيها الصديق، إني أتذكر تلك الأوقات الثمينة التي كنا نصرفها معاً في المساجد والمكاتب بالمطالعة والمفاوضة الروحية والأدبية. فها قد مضى سبع سنين وأنت موحشنا ومبتعد عنا في الدين والعبادة والألفة، الأمر الذي قد ساءنا ونغص عيشنا كل هذه الأيام. والآن يا صديقي إنك على أهبة الارتحال من عالم الزوال فاذكر القرآن الشريف وما أنزل به إلينا من ربنا، وارجع الآن يا صاحبي عن سبيل الغي والضلال التي همت فيها كل هذه السنين إلى دين الله القويم، وأدّ الشهادة لله ولرسوله، يتجاوز عن سيئاتك ويغفر ذنبك، إنه هو الغفور الرحيم. أتوسل إليك بحق أولياء الله ورسله أن لا ترفض نصح من يحبك كنفسه».
وكان الشيخ علي يبتسم تارة في أثناء هذا الكلام ويعبس أخرى. أما رفاقه فانزعجوا للغاية، وكان بعضهم يود أن يجاوب الإمام المذكور نيابة عن المريض، غير أنهم لم يروا ذلك لائقاً ومناسباً فجلس الشيخ علي وأجابه:
«نعم يا سيدي الكريم أرى نفسي قد بلغت اليوم الذي فيه أرتحل من ديار الدنيا، فأحمد الله الذي أرسلك إليّ هذه الساعة لأودعك الوداع الأخير بكلمات طالما كنت أتوقع فرصة مناسبة لأخاطب بها أحبائي نظير حضرتكم. فرجائي احتمالي بطول الأناة كما هي شيمكم الكريمة، فيا سيدي الشيخ، لا يخفى أن أسفي عليكم ليس دون أسفي عليّ إن لم أقل أكثر، ولا يسعني الآن أن أراجع على مسامعكم تلك الأمور الخطيرة التي قد صيرتني بنعمة الله مسيحياً. إن في القرآن شهادات عظيمة بأن التوراة والإنجيل المنزلين على طائفتي اليهود والنصارى هما كتاب الله قد أنزل نوراً وهدى وموعظة للمتقين. فتأملوا ما أعظم هذه الشهادات. ما القرآن بذلك إلا كالدليل الأمين يدلكم على اليهود والنصارى لتطلبوا منهم كتاب الله. والدعوة أنهم حرّفوه هي يا مولاي دعوى صبيانية باطلة. فإذا طالعتم هذا الكتاب العزيز بروح الاعتبار والوقار ترون ولا بد أن غايته الوحيدة هي المسيح للبر والخلاص لكل من يؤمن. ما أوضح النبوات فيه عن مجيء الفادي الكريم من عذراء من سبط يهوذا من إسرائيل وعن وصف حياته وأعماله وآلامه وموته فداء عن البشر، وعروجه إلى عرش الله أبيه وعن مجيئه الثاني. وما الإنجيل يا مولاي إلا بشارة الله يبشرنا بمجيء هذا المخلص السماوي. فنور المسيح يا صديقي ساطع ببهاء كلي في الكتاب، لا يحتاج لرؤيته سوى رفع عصابة التعصب وإزاحة برقع الغرض. وأتمنى لو تفتشون جيداً كتاب الله بروح الإخلاص والوقار لعلكم ترون فيه كما رأيت مسيح الله الفادي كلمة الله الوحيد. اذكروا أني ما كنت دونكم في الغيرة على الدين الإسلامي، وجهدي بالقيام بفروض العبادة والنوافل تعرفونه، فكنت بذلك أفتكر كما أنتم اليوم تفتكرون أن هذه الأمور تجعلني سعيداً وتخولني رضى الرحمن وبركاته، وتكفر عن سيئاتي وآثامي. ولكن لما قيل لي أن الكتاب ما تحرّف قط ولا تغير، شرعت أفحص وأمتحن ذلك مع بعض الأصحاب، فوجدنا ولله الحمد صحة الدعوى وصدقها، وجدنا طريق السماء طريقاً ليس فيه عوج ولا التواء. وها أني على وشك الانتقال إلى ربي فلست أخشى الموت ولا أرهبه، لأن مخلصي قد أبطل قوته وداس شوكته وهو سيقيم جسمي هذا الترابي عند مجيئه للبعث والنشور، إني مسرور يا أصحاب لأنني وأنا على فراش المرض والألم أرى بعين إيماني بهاء مجد ذلك الفردوس المنير، الذي لا يخيم الظلام على أرضنا قبل أن أحل فيه. نعم زمان التعب والجهاد قد مضى وعبر، وأشرق على فؤادي نور فجر صباح جديد أتوقع أن أتمتع عما قليل ببهاء شمسه العجيبة. أستودعكم يا أخوان. أستودعك الله يا سيدي أني ممتن لغيرة حبكم. فانتهز الفرصة يا صديقي وأقرأ كتاباً أنزله الله دستوراً وقانوناً للإيمان والعمل، القرآن دلك عليه فاستدل - امتثل واطلع تفز برضى الله له المجد».
وكان في أثناء كلامه قد ابتلت لحيته البيضاء بدموعه المتساقطة فوق خديه المصفرين، فتأثر جداً أولئك الرجال من هذا المنظر المؤثر، وودوا لو أنهم يبقون حول سريره حتى نهاية حياته، ولكن لما رأوا توارد بعض أعيان النصارى عليه وقسوسهم، قاموا وانصرفوا.
فاتنا أن نذكر أن العلماء المذكورين حاولوا كثيراً بعد رجوعهم من محل منفاهم أن يضموا إليهم ابني المرحوم الشهيد عمر، وبالأخص الشيخ علي والشيخ محمود الوصيين من قبل أبيهما، فلم يتمكنوا من ذلك، بل وضعا في المكتب الرشيدي تحت عناية أخوالهما. ولما مرض الشيخ علي عادته والدتهما وجلست بجانب سريره وهي على غاية من الحزن والذل. فعزاها كثيراً وذكرها بما أوصاه المرحوم زوجها من جهة ولديه. فبكت وقالت: «كرامة لعينيه لا أحب أن أخالفه، ولكن ليس في طاقتي إتمام وصيته». قال: «نعم ولكني أرجو الله أن لا يتركهما». ثم أخذ يتكلم معها بكل حكمة وملاطفة عن المسيح المخلص والحياة الأبدية والدينونة. ففهمت مقالته، وإذ كانت امرأة عاقلة ذات حذق وفطانة وذاكرة حسنة لم تنس ما أنذرها رجلها وحرضها عليه في آخر حيانه. ثم سألت الشيخ علي بعض السؤالات اللطيفة عن حق الإنجيل وذات المسيح وغاية ولادته من عذراء وموته صلباً، فجاوبها على ذلك بأحسن أجوبة، فلاحت على محياها الجميل لوائح الفرح والابتهاج. ثم أخذت يديه وقبلتهما شاكرة فضله على الفوائد الجيدة التي أفادها إياها، وعاهدته أنها تكون من الآن إن شاء الله مسيحية مقتفية آثار رجلها، وستبذل كل الجهد في إرشاد ولديها إلى هذه الطريق الصالحة. ولما همت بالانصراف وضع في يدها صرة صغيرة من الدنانير، فحاولت عدم قبولها فألزمها بذلك قائلاً: هذه مني لأجل ولديك العزيزين فقبلتهما بالشكر وانصرفت. أما هو فوثق بوعدها كل الثقة لكونها بعد قتل زوجها طلبها كثيرون من شبان البلد ليتزوجوا بها فأبت. حال كون بعضهم كانوا من الأعيان الأغنياء، وهي في شرخ صباها ومن أجمل نساء البلد وأعقلهن. فبعد انصرافها دعا إليه أخاه حسناً وأوصاه أن يجتهد ليتخذها له زوجة إذا ارتضت وتأكد مسيحيتها، ومن ثم يتخذ الوسائل الممكنة لضم ولديها إليه لتربيتهما حسناً كولديه، بكل محبة ورأفة، فقبل وصيته ورضخ لمقاله.
ولنرجع إلى الكلام فيما جرى بعد انصراف أولئك العلماء من عند الشيخ علي. فإنه إذ كان قد تعب كثيراً من التكلم تمدد في فراشه واستراح نحو ساعة، وكانت أنباضه قد أخذت تضعف شيئاً فشيئاً، فترجح عند الطبيب أنه يفارق نحو غروب الشمس. ثم انتبه ودعا إليه بنيه وبناته وأخاه. ولما مثلوا أمامه قال بصوت مرتجف: «يا أخي وأولادي الأعزاء، أذكروا إني مدة حياتي معكم لم أفتر عن إرشادكم وتعليمكم بكل حنو وصبر في الأمور التي كنت أرى أنها لخيركم دنيا وآخرة. ولما ماتت والدتكم لم أرد أن أتخذ لي أخرى بسببكم، فلا تنسوا محبة أبيكم وأتعابه. وأحمد الله أبا ربنا يسوع المسيح الذي دعاني بإنجيله إلى ملكوت ابن محبته، وأعطاني أن أرى قبل وفاتي مهجة فؤادي أخي وأولادي الأعزاء معتنقين الدين المسيحي. فالآن أموت مسروراً على رجاء الاجتماع بكم في عالم الراحة والمجد. ها لكم من نعم الله وبركاته ثروة وافرة، ولكن ليس ذلك شيئاً بالنسبة إلى ذلك الكنز الثمين (وأشار بيده إلى الكتاب المقدس الموضوع على المائدة) ادنوه مني. فأتوا به إليه، هذا الكتاب الذهبي الكلام الدري المعاني الحاوي تعليم النعمة والحياة بيسوع المسيح ربنا، هو أفضل ميراث لكم، وأجل بركة من الله، لأن كل ما في العالم يزول وأما كلمة الله فتبقى إلى الأبد. ها إني اذهب ولا شيء يصحبني من الدنيا، وكذا أنتم ستذهبون فارغين من أباطيل العالم، فضعوا كتاب الله هذا في قلوبكم واتخذوه دستوراً لحياتكم تذهبوا من عالم البطل إلى عالم الحق، ومن غرور الدنيا إلى حقائق المجد الأبدي. عيشوا بعضكم مع بعض بالسلام والمحبة متجنبين كل دواعي الخصام والشر. وإله السلام والمحبة الذي دعاني ونجاني من كل شر حتى هذا اليوم يبارككم وينميكم في كل صلاح وتقوى حسب مشيئته ويجمعني بكم أخيراً في سماء مجده آمين».
فبكوا حيئنذ بحرقة شديدة وسقطوا على يديه يقبلونهما، فقبلهم هو أيضاً وبكى، فوعدوه وعاهدوه على أن يعيشوا حسب الإنجيل ولا ينسوا وصيته الثمينة، فسر بذلك كثيراً وضمهم ثانية إلى صدره وقبلهم، ثم التفت إلى إخوانه وأصحابه العلماء وقال: «يا إخوتي وأصحابي وشركائي في جهاد الإيمان المسيحي، إنني أتذكر ثباتكم في الحق ونضالكم الحسن عنه ضد أهواء العالم والجسد وسط هرج المقاومين حتى صرتم ملح إصلاح للكثيرين. سيما لأولادكم وخلانكم، الأمر الذي ينهض فيّ دائماً كما ينهض فيكم روح الحمد والشكر لله الذي دعانا هكذا وقدسنا وأبقانا حتى تاجرنا بأمواله وربحنا. فله المجد والفضل والعز إلى الأبد. فقد حان يا إخوتي وصحبي المحبوبين وقت افتراقي عنكم لأذهب إلى مخلصي وأرى بالعيان ما كنت أتوقعه بالإيمان. ها أنا ما تروني مسروراً بهذا الرجاء الذي سأناله ببر واستحقاق فادي الكريم. فأرجو أن تعيشوا بعدي زماناً طويلاً بالتوفيق والنجاح لمجد الله. ونلتقي معاً في تلك الربوع المجيدة والمواطن البهية الأبدية. ولي رجاء بحبكم أن تلاحظوا بعين المحبة أولاد أخيكم هؤلاء في كل ما يلزم من الإرشاد والهداية والتنشيط في الرب. والآن أدنوا مني يا إخوتي لأودعكم. فدنوا منه وقبلوه وقبلهم قائلاً: «أستودعكم الله يا أحبائي الأعزاء، واسأله أن يحفظكم وينهي سفركم بسلام وسرور». ثم انفصلوا عنه بكل حاسات الكمد والأسف. ثم قال الشيخ محمود: «يا سيدي العزيز وقدوتنا الصالحة، لقد تعبت وأعييت كثيراً من وفرة التكلم. فها أنا بملء حاسات الحزن والكمد أسأل المولى الكريم إن شاءت مشيئته أن يعيدك إلى الصحة لتحيا بعد لمجد اسمه، وإن لم تشأ إرادته ذلك وسبقتنا إلى الراحة السماوية فطوباك، ورجاؤنا بنعمة فادينا الحبيب أننا سنلتقي معاً في ذلك الوطن المجيد الذي لا يشوبه فراق ولا حزن ولا ألم. وأما أخوك وأولادك الأعزاء فهم محروسون بالله. كن مسروراً طيب القلب من هذا القبيل».
فشكرهم على ذلك وقال: «الرب يدعوني إليه، وأنا مشتاق أن أراه. فلا تسألوا لي الصحة والعودة إلى حياة الدنيا، إنما سبحوا الرب واحمدوه». ثم ضم رجليه في سريره وانعقد لسانه عن التكلم. وبعد قليل تبسم وفتح عينيه وقال: «ها أنا يا رب حاضر». ثم توقف عن الكلام برهة ولفظ بصوت عميق هادئ هذه الكلمات: «أيها الرب يسوع اقبل روحي. الحمد لله».
ثم رقد مسلّماً روحه بيد الرب. فانكب عليه الجميع وبكوا وناحوا عليه. ولما طار نعيه غصت الدار بالمسلمين والنصارى بدون استثناء، وكان يلوح عليهم لوائح الحزن لأن المتوفي كان محبوباً من الجميع. وإذ بلغ خبر وفاته مسامع الحكومة رأت من اللازم حراسة جنازته وخفرها إلى المقبرة، حذراً من حدوث أمر مكدر. فأرسلت من ثم ملازم الضابطة ومعه خسمون عسكرياً ليمشوا أمام تابوته مع المسيحيين التابعي لجنازته. أما أهله وذووه فبعد أن بكوه كثيراً كفنوه ووضعوه في تابوت.
وفي الغد نحو الساعة السادسة من النهار حمل إلى الكنيسة، فمشى أمام تابوته الضابطة ووراءهم القسوس والرؤساء الروحيون من جميع الطوائف المسيحية. ووراء التابوت أهل الميت وذووه وأصحابه مع جم غفير من كل الملل الموجودة. ولما وضع في الكنيسة صعد إلى المنبر أحد القسوس. وبعد قراءة شيء من الإنجيل قدم خطاباً مؤثراً جداً موضوعه: «طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن. نعم يقول الروح: لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم» (رؤيا 14: 13).
فكنت ترى إذ ذاك إصغاء وهدوءاً غريبين من الحاضرين نادري المثال في جمهور كهذا من مذاهب مختلفة وأجناس متباينة. ثم تلا ذلك ترتيل وتسبيح لله، وحمل إلى المقبرة ودفن بكل احتفال وإكرام. وبنى له أخوه وبنوه حجرة جميلة على قبره نقشوا عليها تاريخ حياته وتاريخ اعتناقه الإيمان المسيحي، ومع بعض الآيات الإنجيلية التي كان كثيراً ما يترنم بها. ونقشوا بحرّف غليظ مذهب تلك الجملة الأخيرة التي فاه بها في آخر نسمة من حياته وهي:
وأما رفاقه المذكورون فعاش أكثرهم بعده زماناً طويلاً بكل حرية وراحة، مجتذبين بإنذارهم وحسن سيرتهم كثيرين إلى الإيمان المسيحي من كل الملل والمذاهب. وهكذا رقدوا أخيراً في الرب مخلفين آثاراً حسنة وذكرا طيباً لأهلهم وأصحابهم.
وقد تم أيضاً ما كان يتمناه ويرغب فيه الشيخ علي من زواج أخيه حسن بمريم أرملة المرحوم عمر، وضم ولديه إلى بيته، وعاش أخواه وأولاده براحة وهناء أياماً طويلة، نامين في المعرفة والتقوى كل أيام حياتهم.
عزيزي القارئ،
إن قرأت هذا الكتيّب بانتباه، تستطيع أن تجيب على الأسئلة التالية:
- سلامة الكتاب المقدس من التحريف
- حقيقة موت المسيح وصلبه
- سلامة المسيحية وعقيدتها
فما هو رأيك في تفسير هذه الآيات في هذا الكتاب؟
الرجاء نسخ هذه الأسئلة إلى الصفحة الخاصة بالاتصال بنا في الموقع، ثم ضع اجاباتك هناك تحت كل سؤال.
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland