الفصل الاول بيان مختصر لمشتملات التوراة

الفصل الثاني: صفات الله كما أعلنها الكتاب المقدس.

الفصل الثالث: حالة الأنسان الأصلية وحالته بعد السقوط.

الفصل الرابع: طريق المسيح لخلاص كل الناس.

الفصل الخامس: إله واحد في ثلاثة أقانيم.

الفصل السادس: فساد الطبيعة الانسانية.

الفصل السابع: أسفار العهد القديم والعهد الجديد.

الفصل الثامن: كيف انتصرت المسيحية في القرون الأولى

الفصل الأول

بيان مختصر لمشتملات التوراة

يتألف الكتاب المقدس من قسمين : أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد ,ويُطلق على القسم الأول اسم التوراة ,والأخير اسم الإنجيل, لأن القسم الأول يبتدئ بشريعة موسى ,والثاني يبتدئ بالإنجيل أي البشائر الأربع,

قسم اليهود أسفار العهد القديم إلى ثلاثة أقسام رئيسية : التوراة - الشريعة - ,والأنبياء ,والصحف ,وتُسمى الأخيرة بالمزامير لأنه يبتدئ بها, وكُتبت أسفار العهد القديم جميعها باللغة العبرانية, ما عدا أصحاحات قليلة كُتبت بالآرامية, أما أسفار العهد الجديد فلغتها الأصلية اليونانية, وحفظت اليهود توراتها باللغة الأصلية بكل دقة وعناية إلى الوقت الحاضر ,وأخذتها عنهم النصارى من بدء تاريخ الديانة المسيحية بأمر المسيح نفسه - متى 5 :17 و21 :42 و26 :54 ومرقس 12 :24 ولوقا 24 :27 و45 ويوحنا 5 :39 الخ -ولهذا فأسفار التوراة التي نستعملها اليوم هي ذات الأسفار التي كانت بأيدي اليهود في بلاد فلسطين في عصر المسيح وفي كل مكان وزمان,

يتضمن العهد القديم الوحي الإلهي الذي كتبه الأنبياء والمرسلون إلى زمن المسيح ,وأكثر الأسفار متوَّجة بأسماء الذين كتبوها ما عدا القليل منها ,فإنه يُعرف كاتبوها من التقاليد القديمة, ومع ذلك فإن شهادة المسيح لها وتصديقه عليها كما صرح القرآن لا يدع سبيلاً للارتياب فيها, وقد قسم العهد القديم في العصور السالفة إلى اثنين وعشرين سفراً ,على عدد حروف الهجاء العبرانية ,وتقسم في الوقت الحاضر إلى أربعة وعشرين سفراً بفصل راعوث عن سفر القضاة وفصل مراثي إرميا عن سفر نبوته واعتبارهما سفرين كلّ على حدته, وقد جرت عادة أكثرهم أن يقسموا هذه الأسفار كل سفر إلى سفرين أول وثان ,وهي صموئيل والملوك وأخبار الأيام ,ويقسم سفر الأنبياء الإثني عشر إلى اثني عشر سفراً صغيراً ,فبلغت الأسفار بموجب هذا التقسيم الأخير تسعة وثلاثين سفراً ,وهو التقسيم الذي اعتمد عليه المسيحيون, وأظن أن مسألة التقسيم لا يعلق عليها أحد كبير أهمية مثل ما يكون لها مساس بالمتن الأصلي ,كما قد يتصور الجهّال,

فتوراة موسى أو أسفار شريعة موسى خمسة - التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية -في هذه الأسفار مدون تاريخ خلق العالم والإنسان ,وكيف عصى آدم ربه وسقط في الخطية وجلب الموت على نفسه ,وكيف أن الله الكلي الرحمة والجود وعد أن يرسل مخلّصاً إلى العالم يولد من نسل المرأة - سفر التكوين 3 :15 -ولما توغل العالم في المعاصي والفجور أهلك الله بني آدم أجمعين ما عدا نوح وأهل بيته, إلا أنه من بعد الطوفان عادت ذرية نوح إلى فعل الشر وسقطت في عبادة الأوثان بالتدريج, إلى أن لم يبق بينهم من يعبد الإله الحق إلا إبراهيم ,فاختاره الله واتخذه خليلاً لأنه آمن به ,وعند ذلك وعده بأن المخلّص الآتي يتناسل من ابنه اسحاق, وكان لإسحاق ابنان اصطفى الله منهما يعقوب وسمّاه إسرائيل وجدّد معه عهده ووعد الذي وعد به إبراهيم ,وهو أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض, وفي سبيل إنجاز ذلك الوعد الكريم أرسل الله الأنبياء من ذريته دون الشعوب الأخرى كما يعترف بذلك القرآن وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَا لْحُكْمَ وَا لنُّبُّوَةَ - سورة الجاثية 45 :16 -وذلك حتى تكون نبواتهم فصل الخطاب في تعريف المخلّص الآتي وتقديمه للعالم,

وكانت الحالة تقتضي قبل إنجاز الوعد أن يتدرب بنو إسرائيل على الشؤون الدينية ويتخرجوا فيها حتى يصلحوا أن يكونوا فيما بعد أساتذة المسكونة ,وكذا قضت التدبيرات الإلهية,

وكانت الخطوة الأولى أن نزل الأسباط إلى مصر وهم نفر قليل ,فما مضى عليهم أربعمائة سنة حتى صاروا شعباً عظيماً يعد بمئات الألوف ,فخشي فراعنة مصر عاقبة نموهم السريع ,واتّخذوا الوسائل إلى إبادتهم ,وسخروهم في الأعمال الصعبة المضنية للجسم ,فأخرجهم الله على يد موسى سنة 1320 ق,م أو سنة 1314 بموجب الحساب اليهودي وأظهر لهم الله مجده على جبل سيناء ,وأعطاهم الوصايا العشر وغيرها مما هو مدون في التوراة, ومن ضمن غايات شريعة موسى إنارة أذهان الشعب ليفقهوا موضوعاً جليل الأهمية كان مجهولاً في ذلك العصر ولا يزال مجهولاً إلى وقتنا الحاضر عند الجانب الأعظم من سكان العالم ,ولا يعرفه إلا اليهود والنصارى ,ألا وهو قداسة الله, ومن غايات الشريعة أيضاً فرز اليهود عن الأمم واعتزالهم عنهم في كل شؤون الدين والدنيا, وكانت الحكمة في ذلك حفظ الإعلانات الإلهية من أن يشوبها شيء من رجاسات الأمم وعاداتهم فيختلط الحق بالباطل ,فاقتضت الحكمة الإلهية اعتزال أمة إسرائيل لتبقى شرائعهم على حدتها

إلى أن يأتي المسيح الذي هو روح النبوة والشرع وخلاصة الوعود والعهود ,وحينئذ لا تكون ضرورة لبقاء الحجاب الحاضر بين اليهود والأمم ,بل يجب إزالته لأنه يكون قد جاء المسيح مشتهى كل الأمم ,الذي له تخضع شعوب الأرض,

وبعد أن انقضت أربعون سنة على بني إسرائيل بين حط وترحال في برية سيناء المعروفة بأرض التيه ,أدخلهم الله أرض كنعان أو أرض الميعاد ,وفي القرآن الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم , وفي سفر يشوع ذكر فتح بني إسرائيل لأرض كنعان وإبادة كثير من شعوبها الوثنية جزاء لهم على توغلهم في كل معصية ,من ذلك أنهم كانوا يحرقون أطفالهم ضحايا لأوثانهم ,وينغمسون في الفسق والفجور تكريماً لمعبوداتهم المشهورة بتلك القبائح, أما شعب إسرائيل فقد ملكوا الارض إنجازاً لوعده تعالى إلى خليله إبراهيم,

وفي سفر القضاة وراعوث وسفري صموئيل والملوك وأخبار الأيام نجد تاريخ الوقائع الرئيسية التي وقعت لشعب إسرائيل من ذلك الحين إلى السبي البابلي, وحدث مراراً كثيرة في غضون المدة التي أقاموها في أرض كنعان أن سقطوا في وثنية بقايا الشعوب الأصليين ,فجازى الله شعبه بأن سلط عليهم الوثنيين فقهروهم وكدروا صفو حياتهم ,إلا أنه كلما تابوا إليه ورجعوا إلى عبادته تعالى نصرهم على أعدائهم نصراً باهراً على أيدي أفراد اصطفاهم من بينهم,

وبعد انتهاء حكم ملكهم الأول المدعو شاول - وفي القرآن طالوت - - سورة البقرة 2 :249 - مسح الله داود ملكاً عليهم ,وكان ذلك حوالي سنة 1020 ق,م وخلفه ابنه سليمان وحكم من سنة 980 إلى سنة 938 ق,م وبعد نهاية حكمه ثار عشرة أسباط على خلفه رحبعام وخرجوا من طاعته وشيدوا لهم مملكة هي مملكة إسرائيل ,وملّكوا عليهم يربعام بن نباط, وبقي السبطان على ولائهم لبيت يهوذا وشيدوا مملكة أخرى هي مملكة يهوذا, ولم تلبث مملكة إسرائيل حتى سقطت في العبادة الوثنية ,وبعد قليل اقتفت آثارها يهوذا, فدفعهم الله إلى أيدي أعدائهم وعاقبهم هذه المرة عقاباً أشد صرامة من العقوبات التي ألفوها وبدأ بقصاص مملكة إسرائيل ليعطي يهوذا فرصة للاعتبار والتوبة ,فسلط عليها الأشوريين فغزوها وأسروها في فارس ومديان سنة 730 ق,م وإلى هنا انقرضت مملكة إسرائيل, أما مملكة يهوذا فلم تعتبر بما دهم أختها من شديد العقوبة ,بل سارت على منهاجها إلى أن خضعت لملوك بابل سنة 606 ق,م وظلت تحت نيرهم سبعين سنة أي إلى سنة 536 ق,م وفي سنة 587 هدم بختنصر ملك بابل هيكل سليمان وأسر رؤساءهم إلى بابل,

وفي سفر عزرا تفصيل لرجوع اليهود إلى أرضهم ,وذلك أنه لما انقضت عليهم سبعون سنة العبودية التي تنبأ عنها إرميا النبي أنقذهم الله بأن حول قلب كورش ملك فارس بعدما انضمت بابل وكثير من الأراضي تحت سلطانه إلى العطف عليهم ومؤاساتهم ,فرخَّص لهم أن يرجعوا إلى بلادهم, وتتلو ذلك قصة تجديد الهكيل وترميم أورشليم كما هي مشروحة في سفري عزرا ونحميا,

ولكن لما رفض اليهود المخلّص الذي وعدهم الله به تنبأ عليهم المسيح بعقاب هائل لم يروا مثله في تاريخهم السالف ,وهو قلب مدينتهم المحبوبة وهيكلهم العظيم رأساً على عقب, وإتماماً لهذه النبوة ونبوات موسى خرَّب الرومان مدينتهم وهيكلهم سنة 70 م ومن ذلك الوقت إلى الآن تفرقوا في الأرض طولاً وعرضاً بلا بلاد ولا ملك ,وكابدوا من الضيقات ولا زالوا يكابدون ما ليس له مثيل,

ويمكننا أن نلخص من التوراة أن مقصد الله في معاملته بني إسرائيل هذه المعاملة وتسجيل وقائعهم وتواريخهم الهامة بين أسفار الوحي ثلاثة أشياء :

1 أن يُظهر لهم ولأهل العصور المقبلة أن القلب البشري يميل إلى العصيان والتمرد بالرغم عن نعم الله وبركاته وهدايته المتوالية بواسطة إرسال الرسل والأنبياء جيلاً بعد جيل ,معلّمين ومنذرين ,وكل ذلك لم يمنع الإنسان من المروق عن عبادة الله الحي وليّ نعمته وخالقه إلى عبادة الأصنام البكم,

2 لكي يعلّم بني إسرائيل أن العتق من نير الخطية وسلطان الشهوات الجسدية لا يمكن أن ينتج عفواً عن مجرد معرفة وصايا الله ,ولا عن الاحتفاظ على الرسوم والطقوس الدينية ,بل لا بد من عامل قوي عسى أن تتولد فيهم إحساسات الشوق إلى المخلص الموعودين به في توراة موسى وأسفار الأنبياء بالتدريج ,ويشعرون بشديد الحاجة إليه,

3 حتى يُطلع الأمم جيلاً فجيلاً على معاملة الله لبني إسرائيل وإعلاناته السامية لهم عن قداسته وعدله ورحمته, أما عدله فبواسطة ما أوقعه عليهم من القصاص الصارم على خطاياهم, وأما رحمته فبواسطة ما أحسن إليهم وبارك فيهم وغفر لهم إلى غير ذلك لكي يتخذوا لأنفسهم عبرة من ذلك ويعلموا أن أصنامهم لا شيء ,وأن إله إسرائيل الإله الحق خالق السموات والأرض ويعبدونه ويخدمونه ويستنيرون بنور إنجيل الخلاص بيسوع المسيح مخلص العالم الذي أخبرت عنه التوراة إلى أن حصرت نسبه في ذرية داود وعينت مولده في بيت لحم بأرض يهوذا,

وعدا الأسفار التي ذكرناها في بيان تاريخ إسرائيل حسبما تقدم توجد أسفار أخرى تشتمل على تعليمات في تمييز ما هو مقبول عند الله ,كما تشتمل على صلوات وتسابيح وشكر لله العلي العظيم ,ونبوات عن حوادث المستقبل تم منها إلى اليوم عدد عديد ,ومن هذه الأسفار سفر أيوب والمزامير والأمثال وإشعياء وإرميا وحزقيال ودانيال والاثني عشر سفراً الصغيرة, وكلٌّ هؤلاء الأنبياء ,ولو أنه كتب سفره لأهل عصره من بني إسرائيل محذراً ومعلّماً ,إلا أنه من الجهة الأخرى قصد إعداد العصور المستقبلة لقبول مخلص العالم الذي نبّه الله بمجيئه إبراهيمَ خليله وإسحاق ويعقوب وموسى,

فمن هذه الأسفار كان ممكناً لخائفي الله وأتقيائه من بني إسرائيل أن يعرفوا النقط الرئيسية في وصف المخلّص ,مثل أن يعرفوا وقت مجيئه ,والبلدة التي يولد فيها ,ونسبه وسبطه ,وأخلاقه ,ولاهوته ,وأعمال رحمته وإحسانه ,والآلام التي كانت تنتظره في سبيل خلاص العالم من اتضاع وهوان وآلام وصلب وموت وقبر ,وأنه سيقوم بدون أن يلحق جسده فساد ,وأن يعرفوا طبيعة ذلك الخلاص العظيم الذي جاء ليهبه للعالم,

وتعلم الأسفار المقدسة من أولها إلى آخرها وحدانية الله ,وجوهر إيمان اليهود قائم على هذه الآية الذهبية إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ : الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ - تثنية 6 :4 -وأيد المسيح هذا الإيمان وأنزله المنزلة الأولى - مرقس 12 :29 - إلا أنه لأجل استثمار هذه العقيدة الجوهرية وتشخيصها في أعمالنا وسيرتنا اليومية اقتضت الضرورة أن يعلن الله نفسه للجنس البشري بحالة يمكن معها أن يكون معروفاً ومحبوباً, وإلا فمجرد معرفة وحدانية الله لا تقدم ولا تؤخر في حياة الفضيلة ,ولا تختلف عن عقائد بعضهم بوحدة الوجود, وكما أن إبليس يعرف أن الله واحد - وهو أخبث من بني آدم - ولكن لا يحبه - يعقوب 2 :19 .

وعلى ما تقدم وتحقيقاً لنبوات الكتاب عندما آن الآوان جاء من هو وحده كلمة الله - يوحنا 1 :1 - ليعلن الله لنا ويهب حياة أبدية لكل من يؤمن به إيماناً حقيقياً على وفق نطقه الكريم - يوحنا 17 :3 .

غير أن جمهور اليهود عثروا في المسيح عند مجيئه لأنهم كانوا قوماً عالميين في أذهانهم وميولهم ,فلم تكن تهمهم مسألة الخلاص من الخطية ,بل حصروا اهتمامهم وهوى قلوبهم في مخلّص يخلصهم من نير السلطة الرومانية, ولم يهمهم أن يكونوا أغنياء في الإيمان وسلام الله ,بل أن يكونوا حكاماً وولاة يسودون على البلاد والعباد ويغنمون الغنائم ويملأون الخزائن ذهباً وفضة أسوة بدولة الرومان والفرس, فمن كانت هذه مطامعهم وآمالهم فلا عجب أن تغمض أبصارهم وتعمى قلوبهم عن نبوات الأنبياء الصريحة المشيرة إلى المسيح كمخلّص من الخطية ,يأتي إلى الأرض مجرداً عن زخارف العالم ,خالياً من أبهة الملك وجلال السلطان ,محتقراً مخذولاً من الناس ,ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته ,ولكنه يعصب القلوب المنكسرة ويعتق أسرى إبليس والخطية,

فلم يمنع الناس في الماضي والحاضر عن قبول المسيح عدم الدليل ولا غموض النبوات عن الإشارة إليه ,بل تمنعهم محبة العالم وخلوهم من محبة الله والديانة الروحية, أما ذوو العقول الروحية بين اليهود فقد عرفوا وآمنوا به وتبعوه ,وبعد صعوده إلى السماء تفرقوا في أطراف المسكونة يذيعون بين الأمم أخبار مخلّصهم المحبوب كما أمرهم,

وكتب الإنجيل رسل المسيح - الحورايون - وتلامذتهم بإلهام الروح القدس الذي وعد المسيح أن يرسله بعد صعوده, ويتضمن الإنجيل أخباراً عن تعليم المسيح ومعجزاته تحقيقاً لنبوات العهد القديم بشأن المسيا المنتظر ,ويتضمن شرح طريق الخلاص بما مضمونه أن المسيح مات على الصليب ليقدم نفسه كفارة عن خطايا العالم ,وأنه قام في اليوم الثالث ومكث على الأرض بعد قيامته أربعين يوماً يتردد في غضونها على تلاميذه يعلّمهم ويشرح لهم الكتب ,ويمكّنهم من مشاهدته ولمسه ليؤدوا للعالم عنه شهادة عين, وفي ختام المدة قلدهم مهمة الرسالة التبشيرية إلى كل الخليقة في كل الأرض ,وأمرهم قبل الشروع في الخدمة أن يمكثوا في أورشليم حتى يلبسوا قوة من الأعالي ,بمعنى أن يحل عليهم الروح القدس ليقويهم ويذكرهم ويلهب قلوبهم شوقاً وغيرة ليؤدوا عنه الشهادة إلى أقصاء الأرض, ثم صعد إلى السماء أمام عيونهم تاركاً لهم الوعد برجوعه ثانية, وظلوا يودعونه بأبصارهم حتى حجبه عنهم سحاب السماء ,وعند ذلك ظهر لهم ملاكان من السماء أخبراهم أنه سيأتي هكذا كما رأوه منطلقاً إلى السماء ,على وفق سابق وعده لهم - يوحنا 14 :3 وأعمال 1 :9-11 .

ودوّن التلاميذ كثيراً من أقوال المسيح وأعماله في زمن حياته على الأرض ,ولما صعد إلى السماء أخذوا يبشرون بالإنجيل شفاهياً ثم كتبوه فيما بعد في أربع بشائر معنونة هكذا إنجيل المسيح كما كتبه متى وكما كتبه مرقس ولوقا ويوحنا , وتمت كتابة هذه البشائر قبل ختام القرن الأول للميلاد, ومن بين البشيرين الأربعة رسولان هما متى ويوحنا ,أما مرقس فهو تلميذ بطرس الرسول ,وكتب إنجيل المسيح كما أخذه عن معلمه وعن آخرين ,ونجد في بشارته فصولاً يجب أن تكون قد كُتبت قبل صعود المسيح, وأما لوقا فهو زميل وتلميذ بولس الرسول ,كتب في بشارته الأمور المتيقنة ,لا عند واحد بل عند كثيرين من الذين عاينوا الوقائع والأخبار التي كتبها - لوقا 1 :1-4 .

ولنا في رسالتي بطرس ورسالة يعقوب ويهوذا الحقائق التي دونها عن المسيح خاصة تلاميذه ,وكذا كتب يوحنا أعز صديق وأحب تلميذ للمسيح ثلاث رسائل ,وكتب بولس جملة رسائل منها رسالتي تسالونيكي كتبهما أولاً حوالي السنة الثانية والثالثة والعشرين بعد الصعود يشرح فيهما طريق الخلاص بيسوع المسيح وماذا يترتب على دعوتهم المقدسة من الواجبات المرضية لله, وورد في الرسالة الأولى لأهل كورنثوس 15 :3 و4 ما اقتبسه المسيحيون الأولون في أقدم صيغة من قانون إيمانهم أَنَّ المَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الكُتُبِ ,وَأَنَّهُ دُفِنَ ,وَأَنَّهُ قَامَ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الكُتُبِ ومن هنا يتبين لنا أن أقدم المسيحيين اعتقدوا أن جوهر الكتب أي أسفار العهد القديم والجديد إنما هو الكفارة التي قدمها المسيح عن خطايانا بموته على الصليب ,وقبول تلك الكفارة عند الله بدليل أنه أقامه من الأموات, ومن جملة أسفار العهد الجديد سفر أعمال الرسل ,وفيه خبر حلول الروح القدس وهو - الفارقليط - بعد الصعود بعشرة أيام وكيفية شروع الرسل في تبشير الأمم والرسالة إلى العبرانيين وفيها شرح العلاقة بين شريعة موسى وإنجيل المسيح ,وسفر الرؤيا ويتضمن نبوة الجهاد الذي سيقع بين الكنيسة والعالم وانتصار الكنيسة أخيراً - وفي أصحاح 9 منه مسائل يهم المسلمين الاطلاع عليها -ويشرح هذا السفر لنا كثيراً من الوسائل التي يتخذها الشيطان لتجريب المسيحيين وتعذيبهم بهدف أن يفصلهم عن مخلّصهم ,وأهم هذه الوسائل ظهور المسيح الدجال الذي يبذل عنايته في مقاومة الخلاص الذي بالنعمة, أما المسيحيون الحقيقيون فيخرجون من أتون التجارب كالذهب الممحص ,وآخر الكل يأتي المسيح على سحاب السماء بقوة ومجد عظيم ليؤسس في الأرض الجديدة والسماء الجديدة ملكوته الدائم وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلَا مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً ,إِلَّا المَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ - رؤيا 21 :27 .

وبالإجمال تتفق أسفار العهد الجديد مع أسفار العهد القديم في تعيين طريق الخلاص الذي به تتبارك كل الأمم - تكوين 28 :14 - ألا وهو الإيمان بنسل المرأة الموعود به - تكوين 3 :15 - الذي وُلد من العذراء مريم - لوقا 1 :26-33 وانظر القرآن سورة الأنبياء 21 :91 وسورة التحريم 66 :12 - ليخلّص شعبه من خطاياهم - متى 1 :21 - الذي بذل حياته فدية عن كثيرين - إشعياء 53 :10 و11 ومتى 20 :28 - وقام لأجل تبريرنا - مزامير 16 :9-11 وأعمال 2 :22-36 ورومية 4 :25 - والذي به وحده يقدر الإنسان أن يبلغ إلى معرفة الله الحقيقية - يوحنا 14 :6 - وينال الخلاص الأبدي - أعمال 4 :12 .

فأسفار العهد القديم والجديد معاً إنما هي إعلان واحد من لدن الله, أما العهد القديم فيشرح لنا كيف دخلت الخطية إلى العالم وكيف وعد الله بالمخّلص منها ,وأما العهد الجديد فيشرح كيف أكمل الله ذلك الوعد وكيف قدم المسيح حياته كفارة عن خطايا العالم - 1 يوحنا 2 :2 - ليهب الخلاص لكل من يُقبل إليه إقبالاً حقيقياً - متى 11 :28 ويوحنا 6 :37 .

أما من جهة الأنبياء والرسل فنؤمن أنهم مفوضون من عند الله لتعليم وتبشير العالم ,فليسوا هم ملوكاً ولا ولاة ,بل منذرين ينذرون الناس أن يتوبوا عن خطاياهم ويرجعوا إلى الله الحي ,وأنهم ليسوا بمعصومين من الخطية ,وأنه لم يعش أحد معصوماً من الخطية سوى المسيح, ولنا الأدلة الكافية على عصمته منها شهادات الأنبياء - إشعياء 53 :9 وقارن يوحنا 8 :46 - وشهادات تلاميذه - 1 بطرس 2 :22 و1يوحنا 3 :5 وعبرانيين 4 :15 - ويشهد له نفس الذين صلبوه - لوقا 23 :4 و14 و47 .

والقرآن مع نسبته الخطايا للأنبياء الآخرين لم ينسب واحدة ليسوع ,بل يشهد له بأنه مطهَّر عنها, قال في سورة مريم 19 :19 على لسان الملاك الذي بشَّر أمه به قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قال البيضاوي وغيره أي طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح , وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما هذا الحديث المتفق عليه وهو قوله كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد ,غير عيسى ابن مريم ,ذهب يطعن فطعن في الحجاب أي المشيمة - انظر مشكاة المصابيح باب بدء الخلق .

ومع أن محمداً في قرآنه وحديثه ينسب خطايا كثيرة لغير المسيح من الأنبياء والرسل - انظر سورة طه 20 :121 والبقرة 2 :35 و36 والمعارج 70 :19 والأنعام 6 :76 الخ وإبراهيم 14 :41 والقصص 28 :15 و16 والشعراء 26 :19-21 والأعراف 7 :150 ويوسف 12 :24 وص 38 :24 و25 و34 و35 والصافات37 :139-144 والفتح 48 :2 وهود 11 :44-47 والانشراح 94 :2 و3 والأحزاب33 :1 والزمر 39 :65 والمائدة 5 :17 وعبس 80 :1-6 والأنعام 6 :52 والنساء 4 :106 ومحمد 47 :21 وغيرها من الآيات القرآنية -وفي الحديث كثير من ذلك الحديث الصحيح قوله كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وفي البخاري ومسلم حديث يرويه أبو هريرة أن رسول الله قال لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ,اثنتين منهم في ذات الله الخ , وقد قال محمد أحاديث متعددة تفيد استغفاره وتوبته من ذنوبه منها قوله توبوا إلى ربكم ,فواللهأني لأتوب إلى الله عز وجل مائة مرة في اليوم , وقال قتادة إنه قال عقب نزول قوله لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً - سورة الإسراء 17 :74 - اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين إلى آخر الأحاديث,

وإننا لا نؤمن بعصمة الأنبياء والرسل في أعمالهم العمومية ,لكننا نؤمن أنهم معصومون في تبليغ رسالة الله من أن يزيدوا عليها أو ينقصوا منها أو يلحقوا بها أقل تحريف ,والعاصم لهم هو الروح القدس - متى 10 :20 ومرقس 13 :11 ويوحنا 14 :26 و2 تيموثاوس 3 :16 و2بطرس 1 :21 .

ونحن المسيحيين وإن كنا نؤمن بأن الروح القدس ألهم الأنبياء والرسل أن يكتبوا ما كتبوا في أسفار العهد القديم والجديد ,فإننا لا نؤمن بأن تلك الأسفار كانت مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل خلق العالم ثم أملاها الروح القدس على الرسل والأنبياء حين كتبوها ,فإن الله يتنزه عن أن يستخدم النبي كآلة صماء فاقدة الحس والعقل والإرادة والمعرفة إلى غير ذلك ,بل يستخدم معرفته واختباره وعلمه وعقله وقلبه وروحه وجسمه ,فيتكلم بالوحي وكأنه يتكلم من نفسه, وعليه نجد في الكتاب المقدس العنصر الإنساني كما نجد العنصر الإلهي - مواهب الإنسان مع الوحي .

وفي الكتاب المقدس أسرار تفوق مداركنا البشرية ,استنتج بعضهم منها أنها مخالفة للعقل ,والحقيقة ليست كذلك, بل لما كانت عقولنا هبة من الله فلا يمكن أن يكون وحيه الإلهي مخالفاً لها ,بل بما أن عقولنا محدودة والله غير محدود ,فمن الضروري أن نعجز عن إدراك ذات الله, فإن أتانا رجل بكتاب وادّعى أنه رسول الله يحمل إلينا كتاباً منه تعالى ,ورأينا أن هذا الكتاب يعلن الله بحيث يحيط به العقل لعلمنا أن دعواه باطلة, فلا تبرح هذه الحقيقة من بالنا ,وها إننا نزيدها عندما نبحث في الفصل التالي ما أوحاه الله لنا عن ذاته وصفاته,

 

الفصل الثاني

صفات الله كما أعلنها الكتاب المقدس

 

 

يعلّمنا الكتاب المقدس بقسميه أن الخلق يدل على وجود خالقه ,وأن ضمير الإنسان وعقله يشهدان بوجوده تعالى - مزامير 19 :1-4 وأعمال 17 :24-29 -

وأما كون الله واجب الوجود فدلَّ عليه الكتاب حينما ينسب إلى الذين ينكرونه الجهل الاختياري والسفه التعمدي - مزامير 14 :1 و53 :1 ورو 1 :19-23 -

وفي الكتاب أن الله واحد - تثنية 4 :35 و39 و6 :4 وإشعياء 44 :8 و45 :5 و46 :9 ومرقس 12 :29 ويوحنا 17 :3 و1 كرونثوس 8 :4 وأفسس 4 :6 -

وأنه روح - يوحنا 4 :24 - وغير منظور - يوحنا 1 :18 و1 تيموثاوس 6 :15 و16

وغير محدود أزلي غير متغير - مزامير 90 :2 و102 :24-27 ويعقوب 1 :17 -

ومحيط بكل مكان وبكل علم - سفر المزامير 139 :1-12 وإرميا 23 :23 و24 وأعمال الرسل 17 :27 و28

وكلي القدرة والحكمة - سفر التكوين 17 :1 وأيوب 12 :7-10 و13 ومزامير 104 :24 وإشعياء 4 :12-18 والرسالة الأولى ليوحنا 3 :20 .

وهو موصوف بالقداسة - رؤيا 19 :2 و21 :8 و1 صموئيل 2 :2 ومزامير 22 :3 و45 :17 وإشعياء 6 :3 ورؤيا 4 :8 -

وأنه بار وعادل - عدد23 :19 والتثنية 32 :4 ومزامير 33 :4 و5 وإشعياء 26 :7 و45 :21 ورومية 2 :5-11 و1 يوحنا 1 :9 والرؤيا 15 :3 و16 :5-7

ورؤوف رحيم طويل الأناة - خروج 34 :6 ومزامير 9 :8-10 ومراثي إرميا 3 :22 و23 وحزقيال 33 :11 ومتى 5 :45 ويوحنا 3 :16 و1 يوحنا 4 :16 -

وخالق وضابط كل شيء - تكوين 1 :1 و1صموئيل 2 :6 ومزامير 336 و37 :23-25 و104 ومتى 6 :31 و32 و10 :29-31 ورومية 11 :36 ورؤيا 4 :11 .

هذه بعض الصفات المجيدة التي ينسبها الكتاب إلى الإله الحقيقي,

وأما بقية صفاته فمجموعة في وصفه بالكامل في طبيعته ومعرفته وهدايته وسائر أعماله - تثنية 32 :4 و2 صموئيل 22 :31 وأيوب 36 :4 و37 :16 ومزامير 18 :30 و19 :7 ومتى 5 :48 .

فمن اطلع على هذه الصفات وحكم عقله يسلم أنها جديرة بالله الخالق الرحيم ,ويجزم أن مجرد العلم والعقل لا يبلغان بصاحبهما إلى إنشائها بمعزل عن الإلهام الإلهي ,بدليل أن الفلاسفة القدماء كأرسطو وأفلاطون الذين استنفدوا العقل والعمل في البحث عن الله تعالى لم يهتدوا إلى معرفته حسب الأوصاف المنسوبة إليه في الكتاب المقدس التي مر بيانها ,فما أدركوا حقيقة وحدانيته إدراكاً جلياً ولا ذاتيته ولا قداسته ,وعلى الخصوص الصفة الأخيرة أي القداسة ,فإنها وردت في الكتاب المقدس بحالة لا مثال لها في كتب الأديان جميعها قديمها وجديدها,

إن الأتقياء المخلصين المجدّين في معرفة الله تعالى وعمل مرضاته إذا قرأوا الكتاب المقدس يفهمونه ,وتصل كلمته إلى قلوبهم وتضيء بصائرهم بنور روحي - مزامير 119 :105 و135 - فيقدرون أن يجدوا الله - تثنية 4 :29 وإرميا 29 :13 ويوحنا 7 :17 - ويعرفون إرادته ,وتنسكب في قلوبهم مخافته ومحبته بروحه القدوس - رومية 5 :5 - ويقبلون نعمة الله التي تقدّرهم على طاعته وتجدد قلوبهم ,ويولدون ميلاداً ثانياً روحياً - يوحنا 1 :12 و13 و3 :5 و6 - ويصيرون بواسطة إيمانهم بيسوع المسيح خليقة جديدة - 2كورنثوس 5 :17 - يحبون البر ويبغضون الإثم ويهربون من الشر ويلتصقون بالخير ,لأن الكتاب المقدس يصف الله بالقداسة والعدل ,فهو يعاقب الذين يقسّون قلوبهم كما قسّى فرعون قلبه, وهو إله عادل شديد العقاب ,ولكنه يعامل الذي يتوبون إليه ويرجعون عن خطاياهم ويخدمونه في جِدَّة الحياة كآب رؤوف رحيم كثير الوفاء والإحسان,

* * *

ترى مما تقدم أن طالب الحقيقة إذا راجع الآيات التي أشرنا إليها في هذا الفصل ودرسها مستعيناً بالصلاة ,يتبين له أن شروط الوحي متوفرة في الكتاب المقدس وإن شاء الله سنبين ذلك بأكثر جلاء في الفصول الآتية,

وسيظهر من أسفار العهد الجديد أن معرفة الله الحقيقية يحصل عليها الإنسان بتعليم روح الله القدوس المستعد على الدوام أن يعيننا ويرشدنا ,وأن الله مُعلَن تمام الإعلان في المسيح يسوع وعلى ذلك قوله : اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ - يوحنا 14 :9 - بل مُعلَن فيه دون سواه لأنه كلمة الله .

الفصل الثالث

حالة الإنسان الأصلية وحالته بعد السقوط،

واحتياجه إلى الخلاص من الخطية والموت الأبدي

 

 

من رام الاطلاع على حالته الحقيقية كما هي في اعتبار الله القدوس يطلع عليها جزئياً على صفحة ضميره ,ولكنه يعرفها تمام المعرفة من الكتاب المقدس لأنه كلام من هو بكل شيء عليم لَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ ,بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ - عبرانيين 4 :13 -لا يعلم الله ما عملناه فقط بل وما سنعمله وما يخطر على بالنا كل أيام حياتنا ,وهو الذي يقدر أن يخبرنا عن غايته التي قصدها من خلقه إيانا وحفظه لنا بقيد الحياة وعلى أي شيء تتوقف سعادتنا بالمستقبل, إن الفلاسفة كتبوا في الإلهيات أفكارهم وخواطرهم عن هذه المواضيع ,ولكن العقل السليم يجزم بأنه إن كان الله قد أعلن إرادته لنا بواسطة الرسل والأنبياء يكون إعلانه أجدر بثقتنا من الآراء الفلسفية والمقاييس البشرية المحدودة والغير المعصومة, فمن أراد أن يعرف غاية خَلْقنا ,وكيف سقطنا إلى حالة الخطية والتعاسة ,يجب أن يرجع إلى كلام الله حتى يقف على الحقيقة, ونتوسل بكل لطف واحترام إلى القارئ المسلم العزيز أن يلقي التشيع والتحامل جانباً أثناء اطلاعه على الكتاب المقدس أي التوراة والزبور والإنجيل ,التي يشهد لها القرآن أعظم شهادة تليق بكلام الله, اقرأ في الكتاب بما ي

ليق بمقام صاحبه من التوقير والاحترام بنيّة خالصة ,داعياً الله أن يمنحك فهماً وهدى روحيين حتى يتيسر لك أن تفهم ما تقرأه ,وتنفتح بصيرة قلبك وتشاهد حالة نفسك الداخلية ,تلك الحالة التعيسة الشقية, عند ذلك تنال الخلاص الدائم والحياة الأبدية والبركة والسعادة اللانهائية, في سفر التكوين 1 :26-2 :25 وسفر الجامعة 7 :29 نجد أن الله خلق الإنسان في حالة الاستقامة والقداسة والسعادة ,وهذه تبيّن أن الله خلق الإنسان على صورته وشبهه ,أي أن عقل ذلك الإنسان المخلوق المحدود وخصوصاً روحه كانت قبل سقوطه تشابه الخالق الغير المحدود بنوع ما ,وبها جعل الله نفسه معروفاً لدى الإنسان, وكان الإنسان حينئذ معصوماً من الخطية ولم تكن الأفكار الشريرة تخطر على قلبه وعقله كما من كل الشهوات الجسدية والنفسية والروحية, وكان جسمه غير معرض لمرض ولا موت, وحيث أنه عرف الله وأحبه ورغب في أن يخدمه كان سعيداً وقنوعاً, وكان رئيس كل المخلوقات التي على وجه الأرض, ونعلم من سفر التكوين أن الله أعدّ له مسكناً جميلاً مباركاً هو جنة عدن - تكوين 2 :8 - وكانت واقعة غالباً على السهل الذي بُنيت عليه بابل فيما بين النهرين ومدن أخرى فيما بعد,

فكل امرئ يعلم بشهادة ضميره ووجدانه أنه فقد تلك الحياة السعيدة ,حياة العصمة والهناء ,وأصبح مكبلاً في قيود الخطية والتعاسة, ثم أن تاريخ الأمم البائدة التي أهلكها الله عن وجه الأرض بسبب خطاياهم ,والشقاء الحاضر المخيّم على الأرض من ألم وموت يحصد الكبار والصغار ,لأعظم دليل على أن الإنسان لم يبق على الحالة التي خلقه الله عليها ,وكان يريد أن يبقى الإنسان ونسله عليها إلى الأبد, ويخبرنا الكتاب المقدس بمقدار ما بلغ إليه الإنسان من الشرور والمعاصي وخصوصاً في اعتبار الله القدوس - تكوين 8 :21 ومزامير 143 :2 ورومية 3 :10-20 و23 و1يوحنا 1 :8 .

ومن يتأمل في حالة قلبه أقل تأمل وافتكر برهة في الأميال الفاسدة والأهواء المشوشة التي تنبع على الدوام من قلبه كما ينبع الماء من العين ,لا يبقى عنده مجال للريب في أنه بالحقيقة خاطئ في نظره تعالى كما هو موصوف في الآيات المشار إليها, وتشهد عليه ذمته وضميره أنه ليس هو خاطئاً فقط ,بل إن الخطية والفساد استحوذا على قلبه حتى لم يبق في مقدرته وسيلة للتخلص من نير الخطية ,وشعر أن هذه حالته منذ حداثة سنّه ,بل منذ ولادته, وحينئذ يتبين له أن طبيعته الأخلاقية فاسدة, إلا أن للناس مذاهب في أميالهم نحو الرذيلة ,فبعضهم ميالون لمحبة المال ,وبعضهم للبخل ,وبعضهم لمحبة الشهرة ,وآخرون ملحدون ,وبعضهم زنادقة ,وغيرهم منافقون ,والبعض ميالون لأكثر من هذه, وعلمنا علم اليقين بالاختبار والمشاهدة أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض خال من الخطية ,حتى أن خير الأخيار وأكثر الناس تقوى يعترفون بأنهم طالما عملوا أعمالاً لم يكن يجوز لهم أن يعملوها ,ولم يعملوا أعمالاً كان يجب أن يعملوها, وبالجملة فإن حياة العالم كله في العصور الغابرة والحاضرة دليل محسوس على صدق كلام الله المسطور في الكتاب المقدس ,وأن كثيرين من الوثنيين لما سمعوا شهادة الكتاب عن الإنسان

وقارنوا بينها وبين واقع الحال في أنفسهم وبين ذواتهم شعروا أن هذه رسالة منه تعالى تصف حالتهم الروحية البائسة ,قائلين إن صاحب هذا الكتاب إنما هو الذي خلقنا,

وقد اختبر بعضهم تغييراً في حالة قلوبهم بحيث أصبحوا يبغضون الخطية ويحبون الصلاح, إلا أن هذا التغيير يجب أن يُنسب إلى الميلاد الثاني الذي شرحه المسيح في يوحنا 3 :3 و5 الذي لا يمكن أن يحصل عليه أحد إلا بواسطة الإيمان به,

وقد رأينا أن التوراة تفيد أن آدم عندما خلقه الله لم يكن يميل بطبيعته الأولى إلى الخطية ,وكان خالصاً من حالة الشقاوة التي تستولي اليوم على ذريته, ثم أن البحث العقلي يؤيد ذلك ,لأنه من المعلوم أن الخطية هي مخالفة لمرضاة الله ,وأن الخطية هي التعدي على الشريعة الأخلاقية التي توافق ذاته تعالى, وتصدر عنها فليس من المعقول أن نقول أن إرادته تعالى هي التعدي على ذاته تعالى وحيث أن بني آدم غرقوا في بحار الخطية والشقاوة ,وغدوا سبايا النفس الأمّارة بالسوء ,فيلائم حالتهم أن يبحثوا حتى يعلموا من أين دهمتهم هذه المصيبة الدهماء,

ونجد الجواب على هذا السؤال في أسفار الكتاب المقدس حيث نقرأ أن الخطية ونتائجها المحزنة دخلت إلى العالم بسبب عداوة إبليس وغوايته لجنسنا من الجهة الواحدة ,وبسبب حرية إرادة الإنسان وابتغائه أن يعمل مرضاته دون مرضاة الله من الجهة الأخرى ,حيث خدع إبليس حواء التي خدعت آدم ,فعصى ربه حراً مختاراً, ومن تلك الساعة ارتد آدم عن الله وحاد عن جادة الحق ,وانقطعت الصلة بينه وبين من هو ينبوع الحياة والسعادة الحقيقة - تكوين 3 قارن يوحنا 8 :44 ورومية 5 :12 و19 و1تيموثاوس 2 :13 و14 .

قيل : لماذا لَمْ يمنع الله دخول الخطية إلى العالم؟ ولماذا سمح لإبليس أن يجرب الإنسان وينتصر عليه؟ ولماذا لا يزال يترك له الحبل على الغارب في تجربة البشر إلى الآن؟ فالجواب أن الله لم يكشف لنا غايته من ذلك تماماً ,وليس في طاقة البشر إيجاد جواب شاف من كل وجه لهذا السؤال الصعب ,وليس من الضروري أن نضع أعمال الله تحت بحثنا ,إنما الضروري أن نعترف بسوء حالتنا ونبحث عن كيفية النجاة, وغاية ما في الأمر أن نعرف ما عرفه إبراهيم ,وهو أن ديان الأرض كلها لا بد أن يكون عادلاً في كل أعماله - تكوين 18 :25 .

وأكّد بعض الحكماء لنا أن وجود التجارب في الحياة الدنيا والشقاوة والآلام الناتجة عن الخطية هي درس لتدريب النفس على حياة الفضيلة بواسطة مقاومة التجارب والانتصار عليها بنعمة الله ,وبواسطة اختبارنا نتائج الخطية المحزنة, أنعم الله على الإنسان بحرية الإرادة ليختار لنفسه ما شاء من الحق أو الباطل ,الطاعة أو المعصية ,الحرية أو العبودية لإبليس, وقد أعلن الله إرادته ومحبته لنا وهدانا إلى طريق الحق ,إلا أنه تركنا نختار ما نريد ,ولم يلزمنا بالرغم منا أن نختاره دون سواه ,فقصد الله أن نحبه, لكن لا إكراه في المحبة ,كما لا إكراه في الدين المسيحي الحق بعد أن تبين الرشد من الغي.

وعلَّمنا الله في كتابه أنه لم يكن طبق إرادته أن نخضع لسلطان إبليس ونرزح تحت نير الخطية ,بل إرادته أن نتحرر ونعتق من هذه العبودية الصارمة ,ونتطهر من شوائب الخطايا والعيوب ,ونرجع إلى الحالة التي خلقنا عليها : حالة الطهارة والقداسة التي فقدها آدم لكي نصير ورثة السعادة الأبدية, وأن الكتاب بقسميه ,واختبار الجنس البشري ,يثبتان أن الإنسان لا يقدر أن يحظى بالسعادة الحقيقية ما لم يتب عن أعماله الشريرة ويرجع بإيمان حقيقي إلى الله ويتحرر من سلطان الخطية ويفوز بالغفران ,لأنه بدون نقاوة القلب لا يمكن أن نشاهد الله ببصائرنا القلبية - متى 5 :8 وعبرانيين 12 :34 - إن التقي الحقيقي يجب أن يكون قديساً لأن الله قدوس - لاويين 19 :2 ومتى 5 :48 و2كورنثوس 6 :14-7 :1 و1بطرس 2 :9 و10 و1يوحنا 3 :1-8 .

هذا هو تعليم الكتاب المقدس ,لأن الضمير والعقل يشهدان أن الإنسان خُلق صالحاً على صورة الله وشبهه ,ثم سقط ,وأن لا وسيلة لإرجاعه إلا بواسطة إعادة خلقه على صورة القداسة التي سقط منها ليكون أهلاً لسكنه مع الإله القدوس ورؤية وجهه ذي الجلال والإكرام

فإن كنا نقابل بين تعاليم الكتاب المقدس وكتب الأديان الأخرى من حيث المبادئ المذكورة هنا ,نجد فرقاً عظيماً ,لأن تلك الكتب لا تفيدنا شيئاً بخصوص مقصد الله في خلقه الإنسان ,ولا تشير أقل إشارة إلى وجوب تطهير القلب وتقديس الروح, وكل ما جاء فيها بهذا الصدد محصور ضمن أعمال الوضوء والغسل التي لا تصل إلا إلى الجسد, والمغفرة في تلك الكتب تلتمس من باب الإثابة على الحج والأضحية والصدقات, ونحن لا ننكر أن الوضوء والغسل لازمان لتنظيف الأبدان ,ولكن أين هي الأبدان من القلوب؟ قال المسيح زاجراً ولائماً فرقةً من اليهود تصوروا أن الغسل يقربهم إلى الله وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ المُرَاؤُونَ ,لِأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ ,وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! أَيُّهَا الفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى ,نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الكَأْسِ وَا لصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّاً - متى 23 :25 و26 -وكذلك الأعمال الصالحة وفي جملتها الصدقات يجب أن تكون ناتجة عن محبتنا لله وامتثالاً لمشيئته وإظهارا لممنونيتـنا وتشكراتـنا على سابق مغفرته ورحمته ,وليس لكي نستعطفه ونحمله على أن يغفر لنا ,فإن مثل هذه الإحساسات تقلب العمل الصالح إلى عمل رديء ,لأن الديان العادل لا يقبل الرشوة ليغفر للمذنب ذنبه, فقيمة الأعمال الصالحة تُقاس على البواعث التي تبعث إليها ,والله عليم بتلك البواعث!

ولنعلم مشيئة الله ونستعين على الانقياد إليها علَّمنا كثيراً من أسفار العهد القديم والجديد ما يجب علينا أن نعمله وما يجب أن نجتنبه ,وعدا ذلك فإنه لخص الشريعة الأخلاقية في وصايا مختصرة وردت في أجزاء مختلفة من التوراة ,ففي أسفار موسى نجد الوصايا العشر - خروج 20 :1-17 وتثنية 5 :6-21 - وفي أواخر أسفار العهد القديم نجد خلاصة أخرى للشريعة الأخلاقية.

وردت في سفر ميخا النبي قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ ,وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ ,إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ الحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ ,وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ - ميخا 6 :8 .

ينتقد بعضهم على المسيحيين أن ليس لهم شريعة مؤلفة من أوامر ومحظورات ,وفاتهم أن الشريعة التي أشرنا إليها في أسفار العهد القديم لا تزال نافذة المفعول على المسيحيين, على أن لنا في الإنجيل شريعة عظيمة نطق بها المسيح في موعظته على الجبل - متى 5-7 - وعدا ذلك فإنه جمع واجباتنا في آيتين وجمعهما في واحدة فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ ,فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً ,سَأَلَهُ : أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَّوَلُ الكُلِّ؟ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ : إِنَّ أَّوَلَ كُلِّ الوَصَايَا هِيَ : اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ ,وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ ,وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ ,وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ : تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ - مرقس 12 :28-31 - و * وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ ا فْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هكَذَا - لوقا 6 :31 .

فمما تقدم نرى المسيح وضع مبادئ عمومية جامعة للإرشاد إلى ما ينبغي عمله في كل ظروف الحياة ,مع أن غيره من واضعي الشرائع عينوا إرشاداً مخصوصاً لكل عارض يحدث لهم, ومن يقرأ رومية 12 :1-21 و14 :1-8 و1كورنثوس 13 :1-13 و_فسس 4 :1-21 وكولوسي 3 :4 - يرى سموّ وقداسة المبادئ المحتمة على المسيحين أن يسلكوا فيها, لم نؤمر بغسل أيدينا قبل الصلاة ,بل أمرنا أن نغسل قلوبنا ,ولا أن نحج مرة في العمر بل نكون على الدوام حجاجاً متغربين في الأرض ,لأنه ليس لنا فيها مدينة باقية بل نكون قاصدين المدينة السماوية, وكلما قطعنا مرحلة من طريق الحج الى السماء زدنا تمثلاً واقتداءً بقداسة الله, وعلينا أن لا نصلي خمس مرات أو سبعاً في اليوم بل نصلي في كل حين وبدون انقطاع - 1 تسالونيكي 5 :17 - أي نصرف حياتنا بجمتلها في شركة مستديمة مع الله, ولا أن نقدم ذبائح حيوانية كما كان يقدم اليهود ,بل نقدم ذواتنا ذبائح حية مقدسة مرضية عند الله - رومية 12 :1 و2 و1بطرس 2 :5 .

* * *

مما تقدم نرى أن شريعة العهد الجديد أبلغ وأسمى من شريعة العهد القديم ,وهي توافق تمام الموافقة صفات الله الجلالية والكمالية لأنها توصي بنقاوة القلب وبالتالي تؤدي إلى قداسة الحياة, وبدون هذه الوصايا الروحية يضيع لب الدين ولا يبقى منه سوى قشور الرسوم الخارجية التي لا تبرّر الإنسان, إن وصايا الإنجيل أعلى في روحانيتها وكمالها من وصايا كل الأديان ,لأنها مدبرة بطريقة خصوصية تغير طبيعة القلب الفاسدة إلى طبيعة مقدسة تفيض أعمالاً صالحة مدى العمر, وعليه يجب أن نقبل وصايا الدين المسيحي ,لا كأقوال بشرية مثل بقية الأديان - إلا الدين اليهودي - بل كما هي بالحقيقة وصايا الله نفسه, وإن أردت قولاً جامعاً لوصايا الإنجيل فانظر إلى ما قاله المسيح في هذا المعنى وتأمل فيه بعين مجردة من الغرض ,قال : تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ ,وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ ,وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا : تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَا لْأَنْبِيَاءُ - متى 22 :37-40 -وهذه الأقوال مقتبسة بتوسع من أسفار العهد القديم - تثنية 6 :5 و1 :12 و30 :6 - فترى تعليم أسفار العهد القديم والعهد الجديد واحداً من حيث الواجبات التي يكلفنا بها الله ,والطريق الذي ينبغي لنا أن نسير فيه ,لأنه في العهدين يريد الله منا أن تمتلئ قلوبنا بمحبته لأنه أحبنا أولاً, حتى نصرف سائر قوانا الجسدية والروحية والنفسية والعقلية كل يوم وكل ساعة في خدمة الله ومرضاته, وكما أننا نبتغي الخير لأنفسنا ونسعى لمصالحنا يجب أن نعمل مثل ذلك لجيراننا ,وإن كانوا أعداءنا ,لأن الأعداء في اعتبار الله لم يخرجوا عن كونهم جيراننا وأقرباءنا وإخواننا ,وإياهم قصد المسيح لما أوصى تحب قريبك كنفسك - لوقا 10 :25-37 - بمثل هذه الفضيلة نطيع قانون المسيح الذهبي القائل : فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ ا فْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ ,لِأَنَّ هذا هُوَ النَّامُوسُ وَالْأَنْبِيَاءُ - متى 7 :12 -وعلى قدر ما في هذه الوصايا من توثيق رابطة المحبة بين الإنسان وخالقه ,وبينه وبين بني جنسه ,يتنقّى القلب من الجنس ,وتُعتق النفس من محبة الذات ,وتؤدي بطبيعة الحال إلى سعادة الدارين,

وكذلك توافق هذه الوصايا الناموس الطبيعي الذي نقشته يد الخالق على صحائف القلوب والضمائر, فإن كنت تقارن بين ناموس ضميرك وشريعة قلبك وبين ما نتلوه عليك من وصايا المسيح وموسى ,تعلم وتجزم أن تعليم الكتاب المقدس صادر من الخالق عز وجل ,وتتحقق أنه موحى به منه, فليكن معلوماً لك أن الذين لا يقبلون تعليم الكتاب المقدس يدانون بموجبه في اليوم الأخير ,لأنه منقوش على قلوبهم وضمائرهم, ولهذا السبب كتب الله شريعته الأخلاقية على القلوب حتى لا يكون عذر لمن عصى, حتى أن الوثنيين والملحدين مسؤولون عن حفظ الناموس الأخلاقي حسب طبيعتهم ,لأن الناموس مكتوب على قلوبهم, ويعرفون إلى درجة ما أنهم خالفوا هذا الناموس الطبيعي ,وأنهم واقعون تحت طائلة العقاب ومحتاجون لمخلص,

وربما يقول قائل : إن كان الناموس مكتوباً على القلوب ويكشف لنا احتياجنا إلى مخلّص ,فما الداعي إلى الكتاب المقدس؟ فأجيب : إن الداعي إليه تحصيل شهادة ثانية تؤيد شهادة الضمير ,مع أن في الكتاب المقدس بياناً أوفى ونوراً أعظم وثقة أرسخ لكي نتشجع في جهادنا الروحي طالبين منه تعالى العون في كل أحوال الحياة,

وفي الكتاب شهادة هي أن معرفة الحق لا تبررنا ,بل بالحري تزيد مسؤوليتنا ما لم نكن سالكين بموجب الحق الذي عرفناه - متى 7 :21-27 ولوقا 10 :25-28 ويوحنا 13 :17 ورومية 2 :13 - وفيه أيضاً أن العدالة الإلهية لا ترتضي أن تمس الطاعة الكاملة شائبة من شوائب النقص ,بمعنى أنه لا يرتضي إلا بالكمال في أخلاقنا وأعمالنا - متى 5 :48 - فإن أطاع الإنسان الوصايا جميعها ما عدا وصية واحد يعد مجرماً - يعقوب 2 :10 و11 وغلاطية 3 :10-12 - وكذلك الحال بالنسبة إلى القوانين المدنية ,مثال ذلك أن قانون البلاد يمنع القتل والسرقة ,فإن كنت لم تقتل ولكن سرقت ولو مرة واحدة في العمل وضُبطت ,لا يشفع لك عن القاضي أنك لم تقتل بل يعاقبك على سرقتك, لم يذكر عن آدم إلا خطية واحدة ,ومع ذلك جلبت الويل والموت, فتأمل ما أشنع عواقب الخطية الواحدة, من أجل ذلك لا تؤمل أنك تفوز بغفران الله عن معصية واحدة مقابل طاعات كثيرة ,فمن طلب رضا الله بعمله عليه أن يحفظ وصاياه جميعها بالضبط والدقة ,ومتى تعدى على أقل وصية يُدرج اسمه في قائمة العصاة ويحال إلى الدينونة,

ولكن هل وُجد على سطح كرتنا الأرضية إنسان أطاع الله كل حياته طاعة كاملة؟ ومن ذا الذي أحب الله من كل قلبه وفكره ونفسه وأحب قريبه كنفسه؟ - متى 22 :37 و39 - ومن ذا الذي قضى عمره ولم يرتكب معصية ولا زلة ما ولا فرطت من فمه كلمة سوء ولا جال على خاطره فكر خبيث ولا شهوة ردية؟ - أيوب 4 :18 و19 و25 :4-6 ومز 143 :2 ورو 3 :20 - ولم يوجد إنسان عاش ومات ولم يعمل خطية قط إلا سيدنا يسوع المسيح,

وإذ قد علمت أن كل الجنس البشري - ما عدا يسوع - مذنب بشهادة ضميرك وشهادة كلمة الله المعلنة في الكتاب المقدس ,يجب علينا أن نعترف بخطايانا بقلب منسحق خاشع أمام خالقنا قائلين : يا رب الأرباب البار القدوس ,إن الطهارة التي أنت تريدها ليست فينا ,ولذا نحن يا رب نستحق غضبك والموت الأبدي ,فطهرنا ,

أما أن الله يعاقب الخطاة على خطاياهم فقضية مسلمة,

1 لأن التجارب والاختبارات تؤيد ذلك,

2 لأن شهادة الضمير تؤيده أيضاً,

3 لأن كلمة الله تصرح بهذه الحقيقة - حزقيال 18 :20 وبشارة متى 2 :36 و25 :41 ورومية 1 :18 و2 :8 و9 وكولوسي 3 :25 و2تسالونيكي 1 :9 -يتصور بعضهم أن الله يغفر للمذنبين ذنوبهم بدون أن يعاقبهم استناداً على كونه رحيماً ورحمته غير متناهية ,إلا إن هذا محال إلا بتدبير طريقة لتكريم شريعته ووفاء مطاليبها, أما أن غفر الذنوب بدون أن يقضي حق شريعته فلا يكون عادلاً, حقاً إن رحمته ومحبته غير محدودتين ولكن لا تنس أن عدله وقداسته غير محدودتين كذلك ,فيستحيل عليه أن ينظر بعين الرضى إلى فاعل الشر,

وعدا ذلك فإن الخطية بطبيعة الحال لعنة وقصاص لفاعلها ,ولا يمكن أن يكون سعيداً لا في هذه الدار ولا في الدار الآتية ,لأن الإنسان الشهواني مثلاً لا يعرف للسعادة الحقيقية معنى حتى هنا ,لأن الخطية تنزل طبيعة الإنسان إلى الحضيض ,فيصير قاسياً جباناً محباً للذات دنيئاً نذلاً متباعداً عن حضرة الله القدوس مصدر السعادة وينبوع السلام والسرور, قال المسيح إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ - يوحنا 8 :34 -وأعظم قصاص يقع على الخاطئ بقاؤه في حالة الخطية ,وذلك نصيب الذين أصرّوا علىتفضيل الظلمة على النور والشر على الخير وإبليس على الله - يوحنا 3 :19 ورؤيا 1 :11 .

ولاحظ أيضاً أنه من حرمة الله ومحبته أن لا يترك الإنسان يخطئ بلا عقاب ,لأنه إن علم الإنسان أنه إن أخطأ لا يُعاقب يتهور في الخطية ويغوص في بحر الفساد ,فتسوء حاله وتبلغ تعاسته حداً لا يوصف ,وتكون حياته ويلاً لنفسه وقومه, فأين هذه النتائج المحزنة المدمرة من رحمة الله ومحبته؟

ويتضح إن التعدي على شريعة الله يوجب العقوبة ,وإلا فلماذا أنزل الله الشريعة الأخلاقية ولماذا كتبت في الأسفار الإلهية؟ ولماذا كتبها على قلوب البشر؟ لا يقدر ذو عقل سليم يتصور أن عبيد الله العصاة والطائعين متساوون عند الله ويعاملهم معاملة واحدة,

وحيث أن كل الجنس البشري أخطأ ما عد واحداً ,فوجب علينا جميعاً القصاص, ولا قدرة فينا نحن الخطاة أن نرضي الله أو أن نكفر عن خطايانا وننال غفرانه ونحصل على المصالحة معه, ثم أننا لا نحتاج فقط إلى نجاة من القصاص ,بل بالأكثر نحتاج أيضاً إلى واسطة نخلص بها من قوة الخطية ومحبتها ,فالقصاص حسن ونافع للخاطئ وفي الغالب يقوده إلى التوبة ,فلذلك الخطية موجبة للقصاص دائماً, فنحتاج إلى طريقة بها نخلص من نتائج الخطية الأبدية التي تحول بيننا وبين الله ,وتنفينا من حضرته المقدسة ,وتسقطنا من محبته وعنايته الأبوية ,وتحفظنا من أن نكون على صورة إبليس عقلاً وقلباً, وإذا لم نحصل هذا الخلاص فخيرٌ لنا أن لا نوجد, فكيف إذاً نجد طريقة الخلاص؟ إذا كان الإنسان في حالته الساقطة الحالية لا يمكنه أن يتمم شريعة الله فمن أين له أن يكفّر عما مضى ويصالح الله تعالى؟ حقاً إن أعماله الحسنة لا تستوجب أقل مكافأة ,فضلاً عن كونها غير مقبولة بالمرة, كيف يقبل الله شيئاً من يدٍ مدنَّسة ومن قلب فاسد؟ وليس فقط أعمال الإنسان ولكن حتى كلماته وأفكاره مدنسة بالخطية ,فكيف يمكن لنا مع عدم إتمامنا الواجب لله وللقريب أننا بأعمالنا الحسنة نستحق مغفرة خطايانا؟ وذلك محال,

ولو فرضنا أنه وُجد إنسان لم يخطئ قط ,فلا يكون إلا أنه قام بالواجب ,وليس للقائم بالواجب فضل - لوقا 17 :10 - ولا يمكنه أن يشفع بواجبه لنفسه أو لغيره, ويعلّمنا الكتاب المقدس أن شريعة الله تكلّفنا أن نكرس له حياتنا بجملتها تكريساً تاماً - متى 22 :36-40 - فإن أخطأنا إلى الله يوماً ما ,فليس في وسعنا أن نعوّض ما فاتنا في المستقبل,

ويظن بعضهم بحماقة وجهل أنهم عبدوا الله أكثر مما فرض عليهم ,وهذا منتهى الغباوة, وبالرغم عن دعاويهم الباطلة عندما يخلون إلى أنفسهم لا يقدرون أن يقنعوا ضمائرهم أنهم مبرَّرون في عين الله ,وكثيراً ما تبكتهم قلوبهم بآلام مرة وتخيفهم من هول العقاب بعد الموت حتى يقضوا الجانب الأوفر من حياتهم معذبين في خوف الموت ويموتوا في عذاب شديد, ولنضرب لك مثلاً وهو ما حكاه ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان عن أبي عمر ,أن إبراهيم بن يزيد لما حضرته الوفاة جزع جزعاً شديداً, فقال : وأي خطر أعظم مما أنا فيه؟ أنا أتوقع رسولاً يرد علي من ربي ,إما بالجنة أو بالنار ,والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة وبالطبع كان ذلك من خوفه مما بعد الموت.

وكذلك لا تكفي التوبة لمحو خطايانا, نعم إن توبتنا عن خطايانا ضرورية إلا أنها لا تكفر عن ما مضى من آثامنا, فلذلك ليست التوبة كافية لخلاصنا, ويجب أن نلاحظ أن المتعدي على الشريعة البشرية لا تمحو التوبة عنه ما جناه ,فهل إذا قال قاتل أو لص للقاضي إنه تاب عن فعلته ,فهل يكون القاضي عادلاً إذا أطلقه حراً؟ لا شك أن ذلك مخالف للعدل لدى أفكارنا الطبيعية, وحيث أن هذا الفكر عن العدل هو جزء منه الناموس الأخلاقي الذي نقشه الله على صفحات قلوبنا فلا بد أن يكون صحيحاً, ويوجد كثيرون تقست قلوبهم لدرجة لا يمكنهم معها التوبة إذا أرادوا.

ها قد رأينا أنه لا يمكن خلاص أنفسنا بأعمالنا ولا بعقوبتنا على الخطية ولا من نتائجها الأخرى, وبالأحرى لا يمكننا أن نتخلص من محبة وقوة الخطية ونحصل على المصالحة مع الله بواسطة استحقاق فينا, فإذا لم يوجد مخلّص يكفر عن خطايانا نبقى إلى الأبد منفيين من حضرة الله ,ولا يمكن لنا أبداً أن نحصل على السعادة الأبدية التي يرغبها كل البشر,

وقد بيّنا أنه إذا وُجد مخلّص يمكنه أن يكفّر عن الخطايا ويحرر أسرى الخطية ويجعلهم طاهرين في عين الله العادل القدوس ,فذلك المخلّص لا يكون مجرد إنسان مولوداً مثل البشر وارثاً طبيعة آدم الفاسدة خاطئاً كغيره ,فلا يمكن لخاطئ أن يخلّص خطاة, وحيث أن كل البشر خطاة فليس منهم من يقدر أن يكفّر عن البقية, وجاء في الزبور أن ا لْأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً ,وَلَا يُعْطِيَ اللّ هكَفَّارَةً عَنْهُ - مز 49 :7 - حتى وليس من يقدر أن يخلّص أخاه من موت الجسد ,فكم بالأحرى لا يمكن لشخص أن يفدي الآخر من الموت الأبدي

ومع ذلك إذا وُجد مخلّص فيجب أن يكون إنساناً ,وإلا فلا يصح أن يكون نائباً عنا وواحداً منا ولا رئيساً للبشر ,ولا يمكننا أن نقتنع بإخلاصه ونفهم محبته لنا, ويجب أن يكون أرقى من الذين يخلّصهم في طبيعته وقدره في الوقت نفسه ,يشاركهم في طبيعتهم, ويجب أن يكون خالياً من الخطية ويتمم شريعة الله تماماً, فإن لم يوجد مثل هذا المخلّص فقد هلك كل العالم ولا رجاء لهم ,ولا يمكنهم الوصول إلى السعادة والقداسة التي يشتاق إليها كل مخلوق

ولكن هل يوجد مثل هذا المخلّص؟ إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى أنه موجود, فالعهد القديم يتضمن الوعد بمجيئه ,والجديد يخبرنا كيف جاء, فقد شهد الأنبياء والرسل بأنه المخلّص الوحيد الحقيقي من الخطية ,وقد قدم لله كفارة كاملة وشفاعة تامة عن خطايا كل العالم - 1يوحنا 2 :1 و2 - ولذلك فهو قادر أن يحصل على غفران خطايانا

هذا المخلّص هو الرب يسوع المسيح الذي بواسطة قدرته وقداسته وبطاعته حتى الموت قد حمل خطية العالم وصار شفيع كل الناس ,فقد كفر عنا وصالح الإنسان مع الله القدوس البار،ونال الخلاص الأبدي لكل المؤمنين الحقيقيين به, إذاً فهو يقدم لكل العالم مغفرة الخطايا والفرح الأبدي,

فلهذا نشترك مع الرسول بقلوب ملأى بالشكر في قوله وَمَلِكُ الدُّهُورِ الذِي لَا يَفْنَى وَلَا يُرَى ,ا لْإِلهُ الحَكِيمُ وَحْدَهُ ,لَهُ الكَرَامَةُ وَا لْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ - 1تيموثاوس 1 :17 .

لأن الله المحب المحيي أرحم الراحمين من محبته ورحمته الغير متناهيتين ,قدّم لنا نحن الخطاة فداءً عظيماً وخلاصاً مجيداً بالرب يسوع المسيح, آمين,

 

الفصل الرابع

طريق المسيح لخلاص كل الناس

 

والآن بالاتكال على هداية وبركة القدير نتقدم لشرح كيفية الخلاص الذي صنعه الرب يسوع لبني البشر وذلك بناءً على ما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد ,مع العلم بأن كثيراً من طرق الله العجيبة تخفى عن عقولنا المحدودة ,حيث أننا لا نقدر أن نعلم شيئاً من المقاصد الإلهية إلا ما شاء أن يعلنه لنا, وبما أنه منحنا عقولاً للفحص والتحري فيجب أن نستعملها في ما يعود بالمجد لذاته العلية, وإذ أنعم علينا بإعلان طريق الخلاص فيسره أن نتأمل في إعلانه باحترام إلى أن نفهم ما استطعنا فهمه بحسب عقولنا القاصرة - 1تس 5 :21 - ولا يتوقف خلاصنا على مقدار ذكائنا بل على حقيقة إيماننا بمخلص العالم,

إن الله من فيض محبته وكثرة رحمته تعطف علينا فأعد خلاصاً للخطاة بواسطة ربنا يسوع المسيح ,كما هو واضح في أسفار العهد الجديد ,ومن أمثلة ذلك ما ورد في - لوقا 19 :10 ويو 3 :16 و2كو 5 :19 و21 و1تي 1 :15 و1بط 2 :21-24 و1يو 2 :12 و4 :9 و10 - أما كون الخلاص قد تهيأ بهذه الكيفية فهو حقيقة راهنة ,فيلزمنا الآن أن نجتهد لنفهم طريقة الوصول إلى الخلاص بالمسيح ,وكيف صحَّ أن تُسند إليه تلك الألقاب العالية في هذه الآيات وغيرها ,مما يؤكد لنا سمو طبيعته ,وأنه متوفرة فيه الشروط المذكورة في خاتمة الفصل الثالث,

وتخبرنا الكتب المقدسة أن الله بحسب محبته الغير المحدودة ورحمته الغير المتناهية قصد من الأزمنة الأزلية أن يصنع هذا الخلاص - أفسس 3 :2 و1 بط 1 :18-21 ورؤ 13 :8 - فأنبأ على ألسنة أنبيائه في العهد القديم مبيّناً السبط والبيت الذي يخرج منه المخلّص ,وزمان ظهوره ,والكيفية التي يباشر بها خدمته بين الناس, كما أنه أنبأ برتبته وطبيعته وجميع متعلقات عمله الفدائي العظيم ,حتى أنه منذ العصور الأولى - أي من قبل ظهوره بمئات السنين - عرف بعضهم هذه المواعيد المباركة وآمنوا بها وانتظروا بفرح واشتياق ذلك المخلّص العظيم, ومنهم آدم أبو الجنس البشري فإنه علم من الله بقدوم المخلص وأنه سيكون قديراً بحيث يستطيع أن يسحق رأس الحية ,بمعنى أنه يستطيع أن يظفر بإبليس ويعتق الإنسان من عبوديته ومن الخطية - تك 3 :14 و15 -وقد رأينا في الفصول الماضية أن الله وعد إبراهيم أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض - تك 22 :18 - وتشهد أسفار العهد الجديد أن ذلك النسل إنما هو المسيح - غل 3 :16 -ثم أنبأ على لسان موسى أن ذلك المخلّص يكون نبياً عظيماً يقوم من وسط إسرائيل - تك 17 :19 و21 و28 :14 - وأنه يعلّم الشعب طريق الله وإرادته - تث 18 :15 و18 و19 -وأما كون هذا النبي العظيم هو المسيح فقد صار أمراً معلوماً بشهادة ذلك الصوت الصادر من السماء يأمر الناس بالاستماع إليه - مت 17 :5 ومر 9 :7 - وهذا على وفق قول الله لموسى إن الإنسان الذي لا يسمع لما يتكلم به ذلك النبي فهو تحت طائلة قصاص صارم بالضبط

ثم جاء داود وتنبأ عن هذا المخلّص ,وأنه سيأتي من ذريته ويدوم مُلكه إلى ما لا نهاية - 2 صم 7 :16 ومز 89 :3 و4 و27 و28 و29 و35 و36 و37 وإش 9 :6 و7 و11 :1 وإر 23 :6 و33 :15 و16 و17 و20 و21 و25 و26 قارن بما ورد في يوحنا 12 :24 .

وجاء في تك 49 :10 أن المملكة لا تزول من سبط يهوذا حتى يأتي شيلون وهذا الاسم من ألقاب المسيح.

وُلد يسوع من نسل داود - مت 1 :1 وأع 2 :30 و13 :22 و23 ورو 1 :3 - قبل التاريخ المسيحي المعروف بنحو أربع سنوات ,فيجب الإشارة هنا إلى أن المؤرخين أخطاوا في تعيين الوقت الذي وُلد فيه المسيح بالضبط ,إذ أخذوا ذلك عن راهب يُدعى ديونسيوس الصغير كان معاصراً للملك جوستينيان, وهذ الراهب أخَّر سهواً تاريخ ميلاد المسيح بضع سنوات غير أنه لا بأس من أن نعتمد على هذا التاريخ المتداول ,فنقول إن هيرودس الملك العظيم مات قبل تاريخ المسيح بأربع سنوات ,وكان يسوع حينئذ لا يتجاوز عمره السنتين كما يظهر من مراجعة - متى 2 :13 - وعند ذلك انقسمت مملكة اليهود أربعة أقسام ,ملك على أحدها المعروف باليهودية أرخيلاوس بن هيرودس, وفي السنة السادسة للميلاد خلعته الحكومة الرومانية ونفته من البلاد ,وأصبحت اليهودية ولاية رومانية بعد أن كانت مملكة مستقلة وإن كانت خاضعة للرومان, ومن ذلك الزمن إلى العصر الحاضر لم يكن لليهود ملك خاص ,وكان ذلك إتماماً لنبوة يعقوب بزوال قضيب الملك من يهوذا وأن اليهود أنفسهم أول المعترفين بذلك ,لأنهم كانوا يصرخون عند صليب المسيح قائلين : لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلَّا قَيْصَرُ - يوحنا 19 :15 -وهذا دليل صريح على إتيان المسيح ذلك الزمن,

ثم أن المكان الذي كان ينبغي أن يولد فيه المسيح سبق الإنباء به على لسان النبي ميخا - مي 5 :2 -وتشير هذه النبوة إلى سمو مقام المسيح عن بني البشر ,إذ قيل عنه مَخَارِجُهُ مُنْذُ القَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ وقد ولد المسيح حيث أنبأ هذا النبي - مت 2 :1 و5 و6 -وأما أنه يولد من عذارء فقد دلّ عليه - تك 3 :15 - زاده دلالة - إش 7 :14 - وتم بالفعل كما في مت 1 :18-25 ولو 1 :26-38 وصادق عليه القرآن كما في سورة الأنبياء آية 91 وسورة التحريم 12, ومن جهة تعليمه واتضاعه وآلامه وموته وأيضاً الكفارة التي كان قاصداً أن يقدمها لفداء بني البشر كل ذلك سبق التخبير به قبل زمنه على ألسنة الأنبياء ,ونخص بالذكر منهم إشعياء النبي كما ترى في إش 42 :1-9 و61 :1-3 - قارن ذلك مع لو 4 :17-21 وإش 52 :13-15 و35 ومز 22 - وكذلك الوقت الذي كان مزمعاً أن يموت فيه قد تنبأ عند دانيال النبي وبيَّنه بوضوح كما ترى في دا 9 :24-26 فإنه يحسب من وقت خروج أمر أرتحششتا ملك الفرس بتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً ,وصدر ذلك الأمر في السنة السابعة من حكم أرتحششتا - عز 7 :1-7 - أي سنة 458 ق, م, فإن حسبنا تلك الأسابيع اليوم بسنة ,وأضفنا إليها الأسبوع الأخير الذي قيل إن المسيح يُقطع فيه ,وجدنا إتماماً لنبوة دانيال تلك المدة 490 سنة وهي توافق سنة 32 م,

وقد مات المسيح حوالي ذلك الوقت ,وعلى الأرجح سنة 29 أو 30 م والخراب المنذر به أن يلحق مدينة أورشليم وهيكلها - دا 9 :25 و26 و27 - وقع عليها بعد موت المسيح بنحو أربعين سنة أي سنة 70 م حيثما هدمها تيطس القائد الروماني كما هو مدَّون في تاريخ يوسيفوس وغيره من المؤرخين الذين أصبحت أخبارهم مصدِّقة لما أنبأ به المسيح - مت 24 :21-28 ومر 13 :1-23 ولو 21 :5-24 -والضيقة التي كابدها اليهود في تلك الأيام - مر 13 :24 - لا زالوا يكابدونها اليوم ,فإنهم متفرقون على وجه الأرض يذوقون أصناف العذاب والمسلمون أنفسهم مشاهدون لما يحلّ بهم من النكبات ليس في بلادهم فقط بل وفي غيرها ولم تتم بعد أزمنة الأمم منذ استيلائهم على أورشليم إلى الآن - لو 21 :24 .( تذكر ان هذا الكلام كتب قبل مئة سنه من عام 1998 )

وفي أسفار الأنبياء شيء كثير من النبوات عن هذه الأمور مثل قيامة المسيح ,وصعوده إلى السماء ,وجلوسه عن يمين الله, ومن أمثلة ذلك ما ورد في - مز 16 :10 - بالمقارنة مع ما ورد في أع 2 :22-36 ومز 110 :1 ودا 7 :13 و14, وتنبأ دانيال أيضاً بأن مملكة المسيح ستتأسس في أيام سيادة المملكة الرابعة أي المملكة الرومانية - دا 7 :23 - كما زالت المملكة الرومانية وتمت فيها نبوة دانيال - تنظر دا 2 :34 و35 و44 و45 و7 :7 و9 و13 و14 و23 و27 -أما الممالك الأربع المشار إليها فهي مملكة بابل والفرس واليونان والرومان - دا 2 :37-45 و8 :20 و21 .

ولما بلغ المسيح ثلاثين سنة من عمره - لو 3 :23 - أخذ يكرز بالبشارة كما يوضحه لنا الإنجيل ,ويجول يصنع خيراً ,فعمل معجزات باهرة : شفى مرضى وأخرج شياطين ووهب البصر للعميان والسمع للصم ,طهر البرص وجعل العرج يمشون ,وجاء ذلك موافقاً لما تنبأت به عنه أنبياء العهد القديم - إش 32 :1-5 و35 :3-6 و42 :1-7 و61 :1 و2 بالمقارنة مع متى 11 :4 و5 و12 :17-21 و21 :14 - - انظر سورة آل عمران 3 :43 - ومع أنه كان له هذا السلطان العظيم الذي به فعل المعجزات الباهرة لم يعمل معجزة واحدة لفائدته الشخصية ,ولا انتقم من أعدائه بل عاش فقيراً وضيعاً - متى 8 :20 - ولم يسع في طلب المجد والشرف الزائل قط, ولما أراد الشعب أن يُتوِّجوه ملكاً عليهم - يو 6 :15 - لم يقبل منهم ذلك, وبالجملة كانت أعماله بلا لوم وبدت حياته المقدسة تظهر لكل ذي عينين ,إلى أن قال مرة لمقاوميه : مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ - يو 8 :46 - وكل ما قالته عنه الأنبياء القدماء من حيث مجيئه الأول وحياته قد تمَّ,

واختار المسيح من بين اليهود اثني عشر رسولاً هم الذين دربهم وعلّمهم الحق وأوصاهم أن يعلّموا الأخرين ,والأساس الذي بني عليه تعليمه هو أنه ابن الله, وقال ما معناه إن تلك البنوة هي بمثابة الصخرة التي سيبني عليها كنيسته - مت 16 :13-18 -ولما عرف الرسل أنه ابن الله وأنه المسيح المنتظر أخذ يعلّمهم درساً آخر عظيم الأهمية ,أنه ينبغي له أن يُصلب ويقوم من بين الأموات لخلاص البشر - مت 16 :21 ومر 8 :31 ولو 9 :22 - وكلّما دنت ساعة آلامه زادهم إيضاحاً بإنبائهم عن موته والكيفية التي يموت بها - لو 18 :31-34 -وقال لهم مرة إنه سيحتمل تلك الآلام ليس مرغماً بل بإرادته حباً ببني البشر حتى يمنحهم حياة أبدية - يو 6 :51 و10 :11-18 - إذا قبلوا هبة الله - رو 6 :23 - أي أن المسيح من أجل محبته الفائقة لبني آدم ورغبته في خلاصهم من خطاياهم سمح لليهود أن يقبضوا عليه ويسخروا به ويلكموه ويسلّموه ليد الحاكم الروماني بيلاطس والي اليهودية للجَلْد والصَّلْب - متى 26 :47-27 :56 ومر 14 :43-15 :1-14 ولو 22 :47-23 :49 ويو 18 :1-19 :37 - ويوافق ذلك ما تنبأ به داود في مز 22 وإش 52 :13-53 :12 منذ مئات السنين,

وحكم بيلاطس على المسيح بالموت كمجرم مع أنه شهد له أنه بار - مت 27 :24 - وجرت العادة عند اليهود في ذلك الزمان أن يطرحوا جثث القتلى المجرمين في موضع يُدعى وادي ابن هنوم خارج أسوار أورشليم للحريق أو طعاماً للوحوش ,إلا أنهم لما صلبوا المسيح أخذ جسده تلميذ مُتخفٍّ يُدعى يوسف من الرامة ,رجل غني بموجب إذن من الوالي ,ودفنه في قبره الجديد الذي كان أعدَّه لنفسه - مت 27 :57-61 ومر 15 :42-47 ولو 23 :5-56 ويو 19 :37-42 - وكان ذلك على وفق نبوة إشعياء بالضبط - إش 53 :9 - حيث يصرح بأنه وإن يكن اليهود قصدوا أن يدفنوه مع الأشرار لأنهم أحصوه من جملتهم ,غير أنه عند موته دفنه ذلك الرجل الغني في قبر على حدته ,وعلى ذلك قوله وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ ,وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ - إشعياء 53 :9 .

وكان قد تنبأ المسيح عن نفسه أنه يقوم من الموت في اليوم الثالث - مت 16 :21 و17 :23 و20 :19 ولو 9 :22 و18 :33 و24 :46 - وقد كان كما قال - مت 28 :1-10 ومر 16 :1-8 ولو 24 :1-43 ويو 20 و1 كو 15 :4 - وهذا يوافق نبوة داود في مز 16 :9 و10, وظهر بعد قيامته مراراً كثيرة لتلاميذه مدة أربعين يوماً - أعمال 1 :3 - وعلّمهم أن جميع ما حدث له لم يحدث اتفاقاً بل حسب مقاصد الله الأزلية التي أعلنها لأنبيائه القديسين منذ الدهر ,وعلَّمهم ما الغرض من آلامه وموته وقيامته - لو 24 :27 و44-49 - ثم فوض إليهم أن يتلمذوا له جميع الأمم - مت 28 :18-20 وأع 1 :8 -وبعد هذا صعد إلى السماء بمرأى منهم لو 24 :50 و51 وأع 1 :9 متقلداً الملك إلى ما لا نهاية كما أنبأ دانيال - 7 :13 و14 و27 - وليملأ الأرض من معرفة الرب كما كتب إشعياء - 11 :1-9 - وقد ترك لهم وعداً برجوعه منتصراً - انظر مت 24 :30 و31 و25 :13-16 ومر 13 :26 ولو 21 :27 ويو 14 :1-3 وأع 1 :2 و11 ورؤ 1 :7 و20 :11-21 :8 .

وحيث أنه قد تم في شخص المسيح جميع ما أنبأت به الأنبياء من قديم الزمان من جهة مجيئه الأول وعمله وموته كفارة عن خطايا العالم إلى غير ذلك ,فيكون بالحقيقة مخلص العالم الذي علَّق عليه إبراهيم رجاءه - يو 8 :56 - وشهد له جميع الأنبياء, وإتمام هذه النبوات برهان قاطع على أن أسفار العهد القديم موحى بها من الله ,لأنه من ذا الذي يعلم بالحوادث قبل وقوعها بمئات من السنين إلا علام الغيوب؟ ولا تدع الشك يخالج صدرك وتقول ربما وفَّقت النصارى بين نبوات التوراة وأخبار إتمامها في الإنجيل ,فهذا مستحيل لأن أسفار التوراة محفوظة بأيدي اليهود وبلغتهم إلى اليوم كما هي عند النصارى, واعلم أن اليهود ,ولو أنهم رفضوا المسيح ,لم يتجاسروا أن يمسّوا جملة أو كلمة واحدة من تلك النبوات العديدة المشيرة إليه التي تدينهم في اليوم الأخير على قساوتهم وعدم إيمانهم,

ومما تقدم علمنا أن طبيعة المسيح وعظمته ظاهرة بوضوح حتى في أسفار العهد القديم - انظر مز 2 :7 ومز45 :6 ومز 72 ومز 110 :1 وإش 6 :1-10 مع يو 12 :40 و41 وإش 9 :6 و7 وص 25 :7-9 وص 40 :1 و11 وإر 33 :16 ومي 5 :2 ومل 3 :1 وص 4 :2 الخ - وبناء على ما جاء في سفر ميخا وهو قوله مَخَارِجُهُ مُنْذُ القَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ - ميخا 5 :2 - يكون حقاً ما قاله المسيح عن نفسه قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ - يو 8 :58 -ولاحظ هنا أنه أسند إلى نفسه هذه الصفة كائن وهي من أخص وأشهر أسماء الله - خر 3 :14 - ومن هنا نعلم أنه هو بنفسه الذي دعا إبراهيم من بابل وأنزل التوراة على موسى وبعث الأنبياء والرسل, وعليه فلا تحسب أن الإنجيل يرفع مقام المسيح أكثر مما ترفعه التوراة ,بل كلا العهدين يتفقان على عظمة ذاته وسمو صفاته, راجع هذه الشواهد - مت 3 :16 و17 و16 :15-17 و17 :1-8 و26 :63 و64 و28 :18 ولو 1 :32 و35 ويو 1 :1-3 و9-18 و5 :17-29 و8 :23-29 و42 و56-58 و9 :35-37 و10 :27-38 و14 :9-11 و16 :12-15 و28 و17 :5 و21 وكو 1 :12-23 وفي 2 :5-11 وعب 1 ورؤ 1 :5-18 و21 :6-8 و22 :13 و16 .

فإذا رفض إخواننا المسلمون دعوتنا إياهم أن يقبلوا المسيح مخلّصاً لهم - يو 5 :40 - يكون من الأسباب الداعية لهم إلى الرفض عدم تصديقهم ذات كلامه الذي قاله عن نفسه ,والذي قالته عنه الأنبياء السالفون,

ثم يجب أن لا ننسى أنه من المحال أن يخلّص المسيح العالم من الخطية ومن بغضهم لله لو كان مجرد مخلوق من مخلوقات الله ,ولو كان رئيس الملائكة ,لأن الخلاص يتوقف على الثقة الكاملة فيه, وقد استحق هو هذه الثقة بما أعلنه عن حقيقة شخصه وما شهدت به له أسفار العهد القديم والجديد,

فليس الاعتقاد بلاهوت المسيح إذاً فساد اًلحق النصرانية ,بل هو جوهر الدين الحق, لأنه لو فرضنا أن المسيح بسموه كان مخلوقاً لا يمكن أن يتخذ صلاحه وآلامه من أجلنا دليلاً على محبة الله لنا ,بل بعكس ذلك تخالجنا الشكوك في محبة الله العظيم ونعمته لأنه أسلم أفضل مخلوقاته وأكرمها ليقاسي آلاماً وأحزاناً مثل هذه, ولكن إن قبلنا تعليم الكتاب المقدس واعترفنا أن ا للّه كَانَ فِي المَسِيحِ مُصَالِحاً العَالَمَ لِنَفْسِهِ - 2كو 5 :19 - واقتنعنا أنه هو والله واحد - يو 10 :30 - حينئذ يتيسر لنا أن نفهم إلى حد ما حقيقة تعليم الثالوث ومحبة الله العظيم لنا واعتنائه بنا ,كما سنرى في الفصل الآتي, فحينئذ نرى أن البشارة وجوهر الكتاب المقدس كله متضمن في هذه الآية لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ ,لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ - يو3 :16 - التي تحتج إلى قلوبنا وضمائرنا احتجاجاً لا يُقاوم ,فتجذبنا إلى محبته وتخصيص ذواتنا لخدمته لأنه أحبنا أولاً - 1يو 4 :9 .

غير أن تسمية المسيح في هاتين الآيتين بابن الله كان حجر عثرة في طريق كثير من المسلمين ,فانصرفت قلوبهم عن النظر إلى محبة الله المعلنة فيهما ,لأنهم ظنوا أن هذه التسمية مخالفة على خط مستقيم لما ورد عندهم في القرآن في سورة الإخلاص ,والحقيقة هي أنهم أساءوا فهم ما عناه الإنجيل بهذه التسمية, فإننا نحن المسيحيين ننكر بملء أفواهنا أن الله اتخذ ولداً بالمعنى الذي أنكره القرآن ,فهو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, ومَن من النصارى يتجاسر أن يجدف على الله بهذا المقدار حتى ينسب إليه تعالى التناسل الحيواني كما زعم الوثنيون والجاهلية من العرب الذي جعلوا لله بنات ,تعالى الله عن زعمهم! ومع ذلك قد تسمى المسيح في الإنجيل ابن الله لا ولده ,والفرق بين الابن والولد ظاهر ,لأن كلمة ابن كثيراً ما تُستعار لمعنى مجازي ,وأما كلمة ولد فلم تُستعمل إلا بحسب وضعها,

وقد أنكر الكتبة المسيحيون الذين كانوا قبل الهجرة بمئات سنين كل الإنكار قول الوثنيين المذكور ,وبيَّنوا المعنى الحقيقي المتضمن في كون المسيح ابن الله ,فإن كاتباً من أوائل القرن الرابع - أي قبل الهجرة بأكثر من ثلثمائة سنة - اسمه لاكتنتوس قال : إن سمع أحد تعبير ابن الله فلا يخطر على باله هذا التصوّر المتناهي في الفظاعة ,أي أن الله أنتج ولداً بزواجه واتحاده بأنثى ,فإن فعلاً كهذا لا ينطبق إلا على ذوي الأجساد الحيوانية ,ولكن الله روح غير محدود ,وهو واحد ,فبمن يتحد؟ فهذه البنوة خاصة لا عامة أزلية ,لا حادثة تدل على وحدة الجوهر بين الآب والابن ,

على أن المسيح لم يتسمَّ بابن الله فقط ,بل تسمى بكلمة الله أيضاً كما في يوحنا 1 :1 و14 ورؤ 19 :13 - قارن لقب كلمة الحياة 1يوحنا 1 :1 - والاسمان كلاهما يؤديان ذات المعنى ,إلا أن الاسم الأول استعمل أكثر لسببين :

1 - لإفادة البسطاء ,وهم الأكثر الذين لا يقدرون أن يفهموا الاسم الثاني كلمة الحياة ,

2 - لتنبيه إفهامنا إلى شخصية أو أقنومية ذلك الكائن المسمى بابن الله ,وإلى المحبة العظيمة بين أقانيم اللاهوت - قارن يو 15 :9 و10 مع 17 :23 و26 .

ومع ذلك كله فإنه لا الاسم الأول ولا الثاني كافٍ لإيقافنا على كنه مُسمَّاهما ,بل اللغة كلها عاجزة عن التعبير عن ذات ذلك الكائن العجيب ,إلا أ ننا لسنا مخطئين إذا استعملنا للدلالة عليه ذينك الاسمين اللذين دوَّنهما الكتبة الأطهار بإلهام روح الله القدوس ,لأن العلاقة بين أقنوم وآخر من اللاهوت فوق عقولنا ,كما أن البحر العظيم لا يمكن أن ينحصر في إناء, ولكن قليل من مائه يطلعنا على طبيعته ,ومثل ذلك تسمية المسيح بابن الله وكلمة الله نستدل منها على طبيعته الإلهية ووحدانيته مع الآب - يو 10 :30 .

وعليه فبالإيمان فقط بما قاله المسيح في هذا الصدد نقدر أن نفهم تعليم الكفارة وطريق الخلاص بالمسيح الذي قال لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلَّا بِي - يو 14 :6 بالمقارنة مع أع 4 :12 .

ثم أن العهدين القديم والجديد لا يتفقان كلاهما على وصف المسيح بالأوصاف الإلهية فقط ,بل يتجاوزان ذلك الحد حتى أنهما يدلان على لاهوته بالقول الجلي الصريح فيسميانه الله ومن أمثلة ذلك ما ورد في - مز 45 :6 و7 وإش 9 :6 ويو 20 :28 و29 ورو 9 :5 وعب 1 :8 و1يو 5 :20 .

من يقارن في هذه الآيات وأمثالها باهتمام مشفوع بالصلاة يدرك أن تلك الألقاب الرفيعة العظيمة نسبت إلى المسيح لا عن سبيل المبالغة ولا المجاملة ,بل لإظهار حقيقة جوهرية ينبغي لبني البشر معرفتها, ولا يُخفى على المسلم المطلع أن القرآن أيضاً قد يتفق مع التوراة والإنجيل في تسمية المسيح كلمة الله , وسنستفيض في شرح الثالوث الأقدس في الفصل التالي,

وهنا نرجو القارئ الكريم أن يطرح التعصب الذي يُعمي عن معرفة الحق, لماذا لا يصدق المسلم شهادة التوراة والإنجيل والقرآن ,وكلها تتفق على نقط هامة ,ومن بينها موضوعنا أن المسيح كلمة الله وأن الله واحد,

إن كلمة الله اسم لمسمى أو علم لأقنوم إلهي كان من البدء أي من الأزل عند الله ,وبه خُلق كل شيء - يو 1 :1-3 - وقد صار إنساناً وظهر بين الناس كواحد منهم - يو 1 :14 وفي 2 :5-11 - وكان يأكل ويشرب وينام ويستيقظ ,وشاطر الناس في أحزانهم وأفراحهم واختبر تجاربهم ,لكنه لم يخطئ بل لم يعرف خطية - عب 4 :15 قارن 7 :26 و1بط 2 :21-25 - فهو إنسان تام ذو جسد ونفس وروح ,وذلك بإجماع البشائر الأربع ,وبشهادته هوعن نفسه مراراً كثيرة أنه ابن الإنسان , وهذا اللقب عدا دلالتهعلى ناسوته يذكّرنا بالنبوات عنه في - تك 3 :15 ودا 7 :13 - وفوق ذلك يذكّرنا أنه مخلّص البشر ,والوسيط الوحيد بين الله والناس ,والإنسان الكامل المعصوم من الخطية,

كإنسان صلى إلى الله أبيه وصام إلى غير ذلك ,مما لا يدع مجالاً للريب في ناسوت, لكنه كما هو إنسان تام هو إله تام أيضاً ,وأكد لاهوته إذ دعا الله أباه مخبراً بانقياده له كابن ينقاد لأبيه ,وأنه مرسل منه كابن مرسل من أبيه قال لِأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ ,لَيْسَ لِأَعْمَلَ مَشِيئَتِي ,بَلْ مَشِيئَةَ الذِي أَرْسَلَنِي - يو 6 :38 - وقال ا لْآبَ الذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً : مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ - يو 12 :49 - وقال أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي - يو 14 :28 - ومع ذلك دفع ما عساه يخطر على بال أحد من أن لله شركاء بأقوال قاطعة جازمة تفيد وحدانية الله - مر 12 :29 ويو 17 :3 - ووحدانيته هو مع الله - يو 10 :30 و17 :21 .

هذا المدعو كلمة الله وابن الله وابن الإنسان والرب يسوع المسيح قيل عنه في التوراة لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللّهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا ,مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ ,وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا - إش 53 :4 و5 -وإن كان بالطبيعة كلمة الله غير أنه لم يبال بسمو طبيعته الإلهية ,فتخلّى عن مجده الأسنى الذي كان له عند أبيه قبل كون العالم - يو 17 :5 - آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ ,صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ ,وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذ لِكَ رَفَّعَهُ اللّهُ أَيْضاً ,وَأَعْطَاهُ ا سْماً فَوْقَ كُلِّ ا سْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِا سْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ ,وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللّهِ الآبِ - في 2 :7-11 .

وإن سأل سائل : كيف يمكن أن تتحد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية؟ نقول كيف يمكن أن تتحد في الإنسان الروح بالجسد والباقي بالفاني ,فمهما يريده الله كلي القدرة الخالق العظيم الضابط الكل يكون , ويعلمنا الإنجيل أن العلاقة بين ناسوت المسيح ولاهوته علاقة الاتحاد فقط بحيث لم تتحول الطبيعة الواحدة إلى الأخرى ولا امتزجت أو اختلطت بها, حقاً أن علاقة كهذه تفوق عقولنا المحدودة ,ولا نعرفها إلا من وحي الله في كلامه المقدس, وكان هذا الاتحاد في ناسوت ولاهوت المسيح لإتمام مقاصد الله الأزلية بأن يغمر الإنسان بفيض نعمته منقذاً إياه من الهلاك والخطية وعبودية إبليس ,ويصالحه مع الله ,ويؤهله للتمتع بالسعادة الدائمة في حضرته, وإذ فدانا يسوع بدمه من كل أمة وقبيلة وشعب ولسان - رؤ 5 :9 - صار لنا أثناء حياة تضحيته التي عاشها على الأرض مثال الكمال والطهارة والقداسة كي نقتدي به ونتبع آثار خطواته - يو 13 :15 و1بط 2 :21 .

وقد يعترض بعضهم بقوله : ألم يكن مستطاعاً لله أن يخلّص الإنسان من عذاب جهنم بإجراء سلطانه المطلق ويعلن رحمته لمن يرحمهم بدون طريق الخلاص المعلنة في الإنجيل؟ أليس هو الذي يقول لما يشاؤه : كن فيكون؟ فللإجابة عن ذلك نقول : إن هذا السؤال ناتج من سوء فهم حالة الطبيعة البشرية وأعوازها الروحية ,ومن عدم معرفة قداسة الله,

إن الخطية فضلاً عن كونها مضادة ومكروهة لطبيعة الله ,تتلف طبيعة الإنسان الأصلية الروحية التي كانت على صورة الله - تك 1 :26 و27 - والخطية تمنع بتاتاً إمكانية تمتع الإنسان بالسعادة الأبدية إلا إذا نجا منها, من السهل أن يذهب أهل النار إلى الجنة بأمر الله ,ولكن كيف يطهر القلب والعقل والضمير من ذلك البرص الخبيث الذي يزداد سريانه يوما فيوماً؟ حقاً أن الخطية أشر من البرص ,لأنها برص الروح, الموت ينقذ الإنسان من برص الجسد ,ولكنه لا ينقذه من برص الروح, فمن أين تكون سعادة في الدار الأخرى لمن روحه برصاء؟إن تشوُّه صورته وفساد هيئته يثير فيه عوامل الحزن والحسد حتى يبغض نفسه ويبغضه الآخرون ,وبالأحرى جداً يبغضه الله كلي القداسة الذي يكره ويمقت الخطية,

وكانت شريعة موسى تمنع الأبرص بجسده أن يدخل محلة إسرائيل - لا 13 :45 و46 - أو يعاشر رفقاءه, فكم بالأَولى ممنوع من هو أبرص الروح والقلب أن يدخل فردوس النعيم ويتمتع بلقاء الله القدوس رب الأرباب, قال الكتاب وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلَا مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً ,إِلَّا المَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ - رؤيا 21 :27 - وحتى برص الجسد يعجز المريض به أن يشفي نفسه منه ,وتعجز الأطباء أيضاً عن ذلك, أما المسيح فشفى كثيرين من المرضى به ,وهو قادر أن يطهر برص الروح أيضاً ,إلا أنه ما طهر قط أبرص بالرغم عن إرادته ,وكذلك لا يطهر أبرص الخطية بالقوة أو بغير إرادته, إن الرجل الذي لم يشبع من الانغماس في حمأة الفجور في هذه الحياة قد فسدت روحه وأظلم ذهنه ,حتى لقد يصبح منتهى السعادة في اعتباره أن تكون الأبدية أوقيانوس فجور يسبح فيه إلى ما لا نهاية ,فمثل هذا مضروب بالبرص الروحي ,ويسوع المسيح وحده هو القادر أن يطهر هذا البرص ,لكنه لا يفعله بغير إرادة المريض ,ولا يُشفى منه إلا إذا تاب توبة صادقة وآمن بالمسيح إيماناً صحيحاً ,وصرخ مع داود قَلْباً نَقِيّاً ا خْلُقْ فِيَّ يَا اَللّهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي - مز 51 :10 -فإن تطهير البرص الروحي عبارة عن تجديد القلب والروح من محبة الخطية ويعيدها إلى جمال القداسة التي أتلفتها الخطية, وكيف يكون ذلك؟ يتمم الله دائماً عمله بوسائط, وقد أخبرنا الكتاب المقدس عن الواسطة التي اختارها الله لإتمام عرضه بأن شاء أن يعلن ذاته في شخص يسوع المسيح كلمة الله ويظهر محبته للناس بأن يحمل آلامهم ويشاركهم في أحزانهم بواسطة طبيعة المسيح البشرية التي مات بها على الصليب للتكفير عن خطاياهم ,حتى يجتذب قلوبهم إليه ويسبيهم بمحبته الفائقة كي يكرهوا الخطية ويثيروا عليها حرباً عواناً وحتى يتم لهم النصر الباهر, هذا ما يدعوه الكتاب بالطبيعة الجديدة التي تتولد في كل مؤمن حقيقي بيسوع, هذا هو القلب النقي والروح المستقيم الذي لجَّ داود في طلبه كما ذكرنا, وعلى هذا المنهح يخلق الله الخاطئ من جديد ,وعلى ذلك قوله إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي المَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ - 2كو 5 :17 .

لا نقدر نقول أن لا طريقة عند الله غير هذه لخلاص البشر من الخطية ,إلا أ نه من المؤكد الذي لا شك فيه أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي شاء الله أن يستعملها ,وشاء أن يعلنها في كتابه المقدس - مت 1 :21 ويو 14 :6 - ولا يمكن وجود طريقة تجمع بين عدله ورحمته إلا هذه,

* * *

وبما أن البعض لم يفهموا تعليم الكفارة - رو 5 :11 - فيحسن أن نشرحه بإيضاح,

نعني بالكفارة المصالحة بين الله والإنسان, من المعلوم أنه قد سقط الإنسان من الحالة التي خلقه الله عليها ,وبإجرامه بخطية آدم أولاً ,وبخطيته الفعلية ثانياً فقد الحياة الأبدية ونُفي من جنة عدن - تك 3 :3 -والحياة الأبدية متضمنة في معرفة الله بواسطة المسيح - يو 17 :2 - فلأجل إعادة تلك الحياة للذين فقدوها عليهم أن يقبلوها من الله واهب الحياة بيسوع ,فإن فِيهكَانَتِ الحَيَاةُ ,وَا لْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ - يو 1 :4 و5 :26 وكو 3 :4 و1يو 5 :12 - وتعطى الحياة بالمسيح وحده لا سواه - أع 4 :12 -وكيفية ذلك كما نعلم من الإنجيل أنه يتحد بالمؤمنين وهم يتحدون به بالإيمان كما تتحد أغصان الشجرة بأصلها والأصل بالأغصان - يو 15 :1-6 - وعلى هذا المنوال تجري فيهم طبيعته القدوسة وسجاياه الكاملة, وشبَّه ذلك الاتحاد بالاشتراك في جسده ودمه - يو 6 :40 و47 و48 و51-58 و63 - وكأنه إذ تسربل طبيعة البشر كإنسان صار رأساً جديداً للجنس البشري ,أو بعبارة الكتاب آدم الثاني وروحاً محيياً ونائباً عن البشر - يو 1 :14 و1كو 15 :22 و45 - فالذين يتحدون به بالإيمان - غل 2 :20 - يأخذون سلطاناً أن يصيروا أولاد لله - يو 1 :12 و1يو 1-3 و4 :9 - بفاعلية الميلاد الثاني الصادر من السماء بروح الله القدوس - يو 3 :3 و5 - فنموت مع المسيح عن الخطية ونحيا به من جديد للبر - رو 6 :1-11 .

ولكي يخلص الإنسان من الموت الأبدي الذي تسبَّب عن الخطية كنتيجة طبيعية وعقوبة شرعية - تك 3 :3 وحز 18 :20 ورو 6 :23 - يجب أنه كما عصى وصية الله عن اختيار - تك 3 - يطيعها تماماً باختياره أيضاً, وإذ صار ذلك المسمى كلمة الحياة إنساناً كاملاً فقد تمم الوصية ,لأنه أطاع حتى الموت موت الصليب - في 2 :7 و8 قارن رو 5 :19 -وبموته الثمين عنا وهو لم يعمل خطية قط قدم حياته فدية عن كثيرين - إش 53 :5 و6 مت 20 :28 ورو 3 :15 و4 :15 و5 :8-11 و1بط 2 :24 - فيصحُّ أن يُقال إن المسيح حمل قصاص خطايانا - إش 53 :8 - ولكنه لم يكن مذنباً ,لأننا نعلم أنه ليس فيه خطية البتة - 1يو 3 :5 - بل يصح أن يُقال أيضاً أن كل ما احتمله من الآلام كان بسبب خطايانا ,وبواسطة آلامه كل الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً يخلصون من الخطية ومن نتيجتها النهائية المزعجة التي هي البعد عن حضرة الله أو الموت الأبدي, فإذا كان المسيح مجرد إنسان كانت طاعته حتى الموت غير كافية لتخليص أحد غير نفسه ,وما كان قادراً أن يمنح حياة روحية للغير,

وأما إذا كان إلهاً كما هو إنسان فيقدر أن يخلّص ويمنح حياة أبدية لجميع الذين يؤمنون به - يو 5 :26 -إن الله لا يموت ويستحيل أن يموت ,ولكن كلمة الله إذ صار إنساناً جاز بحسب طبيعته البشرية أن يذوق الموت من أجل كل واحد - عب :9 - وقد مات من أجلنا - رو 4 :25 و6 :10 - وقام ثانياً منتصراً على الموت وكاسراً شوكته - 2تي 1 :10 - بل واهباً الحياة لكل من يتحد به بالإيمان - يو 3 :16 و11 :25 و26 .

وقد قلنا إن الله يكره الخطية حتماً لأنه قدوس بالطبيعة ,لا سبيل لنا أن نغلب الخطية المكروهة منه إلا بإعلان محبته في المسيح الذي نحبه لأنه أحبنا أولاً - يو 3 :1و1يو 4 :19 - وبهذه المحبة الحاضرة نستطيع أن نحبه ونعيش طبقاً لإرادته بمساعدة نعمة روحه القدوس ,وهكذا نكون صالحين إلى حدٍّ ما في هذه الحياة ,وصالحين تماماً بعد الموت - 2كو 5 :14 .

فبموت المسيح على الصليب نحصل على فائدتين : الأولى ,الخلاص من الموت الأبدي ,والثانية ,النعمة التي بها نكره الخطية وننتصر عليها - رو 6 :5-11 وغل 2 :20 ز6 :14 وكو 3 :1-17 و1يو 1 :7 - لأنه قد افتدانا من عبودية الخطية - مت 20 :28 و1كو 1 :30 وأف 1 :7 و1بط 1 :18-21 - وقدم الكفارة الوافية الحقيقية عن الخطية - عب 2 :17 ويو 2 :2 و4 :10 - وتلك الكفارة هي التي كانت ترمز إليها ذبائح وقرابين العهد القديم,

وإن ضميرنا الذي يبكتنا على خطايانا ويهددنا من حين إلى آخر بغضب الله هو دليل قاطع على عظم حاجتنا إلى المصالحة مع الله, وإذ كنا في حد ذواتنا عاجزين عن تقديم الكفارة المرضية الكاملة قد كفانا الله مؤونة ذلك وقدَّمها على حسابنا في شخص يسوع المسيح الذي هو إنسان كامل كما هو إله كامل, ونعلم من موت المسيح مقدار فظاعة الخطية وسوء عاقبتها ,لأنها أدت إلى أعظم جرم تقشعر من هوله الأبدان ,إلى قتل ابن الله الوحيد ,وأن محبة الذات والإرادة كانت المحرك لآدم إلى المعصية التي أنتجت هذا الجرم العظيم, فيلزم تضحية الذات التي هي أصل الخطية ,وهذا ما فعله يسوع بموته على الصليب لأنه ضحى ذاته وضحى مشيئته لحياة العالم, ولا يتمّ استحقاق موته الموجب للتكفير عن خطايانا بآلامه بالجسد ,وإن كان بالغاً الحد ,بل على ذبيحة محبته غير المحدودة, تلك المحبة التي جعلت القدوس يموت بمحض اختياره عن الأثيم الفاجر - يو 10 :17 و18 - فهو نائبنا الذي وفى عنا مطالب العدل الإلهي القاضي علينا بحكم الموت - حز 18 :20 .

فماهية ذبيحة المسيح هي في تسليمه نفسه بإرادته الحرة وتقديمه نفسه في طاعة كاملة حتى الموت أكثر منها في حقيقة الموت ذاته,

وبالجملة تألم المسيح إلى الحد الذي في وسعه أن يحتمله في ناسوته المتحد باللاهوت ,فلم يتألم في جسده فقط بل في ذهنه وروحه ,لأن حزنه على خطايا الناس كسر قلبه المحب - يو 19 :34 -وإذ كان واحداً مع أبيه ,فقداسته ومحبته للناس قادتاه أن يشعر بفظاعة خطايانا ,إذ شاركنا في البشرية وأحسَّ بهول اللعنة التي ينبغي أن تصدر من الله القدوس ضد الخطية ,ولهذا ذاق الموت من أجل كل واحد - عب 2 :9 - بطريقة خاصة لا يمكن يعلمها إلا من كان قدوساً - مز 22 :1 ومت 27 :46 ومر 15 :34 - وبهذه الكيفية أظهر الله محبته وعدله ورحمته مرة واحدة,

الذي مات على الصليب بناسوته كان إلهاً تاماً كما كان إنساناً تاماً ,وبما أنه حمل خطايانا ومات عنا نحن الأثمة فالذين يتحدون معه بالإيمان كاتحاد الأغصان بالكرمة - يو 15 :4 و5 - ينالون غفران خطاياهم ويُعتَقون من خوف الموت - عب 2 :14 و15 - لأن شوكة الموت هي الخطية - 1كو 15 :56 - التي تلقي في قلوب غير المغفور لهم الرعب العظيم من غضب الله المخيف, وأما كون ذبيحة المسيح حازت القبول عند الله فيدل عليه قيامته من الأموات وصعوده للسموات - رو 1 :4 ولو 22 :51 - ليظهر أمامه لأجلنا نيابة عنا - عب 9 :24 - وعودته إلى المجد الذي كان له عند أبيه قبل كون العالم - يو 17 :5 .

* * *

ولنشرح الآن بعض البركات الناتجة عن الكفارة التي قدمها يسوع أولاً : إن الله إكراماً له يغفر خطايا وتعديات المؤمنين به الحقيقيين - رو 5 :5-21 وأف 1 :3-7 وعب 1 :1-15 و1 يو 1 :7 -ولأجل المسيح يمنحهم الله نعمته الخصوصية ونور هدايته السماوي حتى يدركوا حالتهم الداخلية ويعرفوا معرفة عميقة الإله الحق ,ويملأ قلوبهم بمحبة من أحبهم أولاً ,بحيث يقدرون أن يحفظوا وصاياه ويثبتوا في حالة نقاوة القلب ويعرفون الحق - يو 8 :31 ورو 5 :5 و8 :5 و1 كو 1 :4 و5 و2 كو 4 :6 وأف 1 :15-23 وفي 4 :13 وكو 2 :3 وتي 1 :11-14 وعب 9 :11-14 -ومن فوائد الفداء أيضاً العتق من عبودية الشيطان ومن محبة الخطية ,والفوز بميراث السعادة الدائمة - رو 8 :12-17 و2تي 1 :9 و10 وعب 2 :14 و15 و1بط 2 :3-9 .

وحيث أن الخلاص مقدم في المسيح للخطاة فهو أمر ثمين وعظيم يطهر به الناس من نجاسات الخطية ,حينئذ يفتح الله لهم خزائن بركاته وإحساناته فينير أذهانهم ويقدس قلوبهم ,وفي الختام يأخذهم إلى فردوس نعيمه ليتمتعوا بالحياة الأبدية, فقد ظهر الآن كالشمس في رائعة النهار إن تعليم الإنجيل الذي يشبع أشواق القلب ويغني طلبات النفس كما بينا في المقدمة ,وعليه يكون الكتاب المقدس كلام الله أوحي به لسعادة البشر,

فإن سمع أحد بشارة الخلاص ورفضها يكون سبب رفضه عدم رغبته في التوبة عن الخطية ,وعدم معرفته حالة قلبه الأثيمة في اعتبار الله, وإن كان أحد لا يكترث بالخطر الذي يسرع به للهلاك الأبدي فهيهات يسعى في معالجة برصه الروحي بالدواء الذي وضعه طبيبنا العظيم,

أما الإنسان الحريص المحاذر من حالة قلبه الأثيمة ,فيعلم بُغض الله القدوس للخطية ,ويشعر بهول الخطر الذي ينذره بالهلاك الأبدي بسبب خطاياه, وبما أنه غير قادر أن يكفر عنها من عند نفسه ,يبادر أن يسمع بشارة الخلاص الذي اقتناه المسيح بدمه الكريم من أجله ومن أجل كل الذين يؤمنون به, إن خبراً كهذا يلذ سمعه في أذنيه أكثر من أية بشارة أخرى على وجه الأرض ,لأنها بشارة الخلاص المجاني والدواء الذي يشفي القلوب المكسورة من ثقل حمل الخطايا ,والمرهم الذي يعصب جرح النفس المزمنة, إذا أحب المرء الخطية وكان متفانياً في حب الشهوات الجسدية سيبغض النور المعلن في الإنجيل ,كما يبغض الخفاش نور الشمس ,ويهرب من أشعتها الجميلة اللامعة إلى مغائر الظلمة, فمثل هذا جدير به أن يطرح في الظلمة الخارجية التي أحبها أكثر من النور - يو 3 :19-21 .

ويستحيل عليه أن يفهم كثيراً أو قليلاً من الأمور الروحية ,حتى أنه يرى الإنجيل كأنه جهالة وحماقة كما رآه هكذا قدماء اليونان - 1كو 1 :18-25 و2 :14 - في حين أن الراغب في معرفة الحق وعمل إرادة الله ,تقع في نفسه بشارة الخلاص وإعلان محبة الله موقع القبول والاستحسان ,وتفيض كينبوع حي يروي قلبه الظمآن في سفره في صحراء الحياة الدنيا,

ترى في طريق الخلاص قد أعلن الله محبة ورحمة مقترنة بعدل وقداسة بكل وضوح, أما محبته الفائقة فقد ظهرت ببذله ابنه الوحيد ,بهاء مجده ,ورسم جوهره لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية - عب 1 :3 ويو 3 :16 -فهذا التعليم الذي لا يُقدَّر بثمن يكشف لنا الحجاب عن صفات الله الجليلة التي أعظمها المحبة ,حتى إذا حملنا بتيار محبته نتجنب الخطية المكروهة لديه ,لأنه قدوس ,ونحفظ وصاياه سالكين في طريق الإيمان في المسيح المؤدي للحياة الأبدية,

ومن يتأمل في أحوال الخليقة يظهر له ما يشبه طريق الخلاص ,فإن الله خلق كثيراً من خلقه على تضحية الذات على مذبح المحبة الطبيعية ,مما يصح أن يُتَّخذ مثالاً لآلام المسيح لأجلنا, ترى الآب يخاطر بحياته ويعاني الشدائد ويذوق المرارة لأجل قوت عياله وكسوتهم ,وترى الطبيب الأمين يعرض نفسه للخطر والموت لخلاص حياة العليل, حتى الطيور فإنك ترى الدجاجة تحضن فراخها ,وإن سطا عليها عدو تحاربه وتحمل الأذى عنها ,والعصفور يقع في مواضع الخطر ليلتقط الحب لفراخه الصغار ,ويقاسي عناءً لا مزيد عليه في دفع الشر عنها, فلماذا لا يكون معقولاً أن خالق المحبة الطبيعية هو محب أعظم من كل ذلك ,فإنه أعلن محبته على منهج الضحايا فبذل ابنه الوحيد الذي هو واحد معه ليموت على الصليب في سبيل خلاص الإنسان المسكين ولكن مَنْ لَا يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللّهَ ,لِأَنَّ اللّهَ مَحَبَّةٌ - 1يو 4 :8 .

وعليه فالإيمان بالمسيح الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا هو الدواء الوحيد الذي وصفه الله العليم الحكيم لبرص الخطية, فكل من يثق في حكمة الله وعلمه يستعمل هذا الدواء ,وحينئذ يعلم بالاختبار إن كان المسيح مخلّصاً أم لا ,لأن الشفاء من المرض دليل قاطع على حُسن وجودة تأثيره, ومتى برئ الخاطئ من مرضه وعلم بالتحقيق أن المسيح مخلّص ,يشكر فضله ويعلم أن الكتاب المقدس حق.

 

الفصل الخامس

إله واحد في ثلاثة أقانيم

ما قيل في الفصل المتقدم عن طريق الخلاص بالمسيح لا يقبل عند الطالب كل القبول حتى يطلع على عقيدة التثليث التي طالما كانت حجر عثرة في طريق إخواننا المسلمين الراغبين في البحث ,لأنهم لا يفهمون معنى التثليث، فحسبوه مناقضاً للتوحيد ,والحقيقة خلاف ذلك لأن التعليم بوحدانية الله من الأساسات الجوهرية التي ترجع إليها عقيدة التثليث ,فإن جميع المسيحيين لا يؤمنون بثلاثة آلهة بل بإله واحد,

من يطلع على تفسير الجلالين على - سورة المائدة 5 :76 - وتفسير البيضاوي على - سورة النساء 4 :156 - يرى أن أولئك المفسرين تصوروا أن النصارى يعتقدون أن الثالوث هو ثلاثة آلهة : الآب ,والأم ,والابن, وحسبوا مريم العذراء إلهاً ,وأنها أحد الآلهة الثلاثة المذكورين, لا ننكر أن بعضاً من جهلة النصارى في عصر محمد أكرموا مريم إلى حد العبادة ,بل أكرموا كثيراً من القديسين وقدموا لهم العبادة التي لا تجوز إلا لله وحده ,كما أن كثيرين من جهلة المسلمين يفعلون مثل هذا الفعل مع أوليائهم ومشايخهم, وكما أن المطلعين من المسلمين لا يجدون ما يؤيد عبادة الأولياء في القرآن كذلك لا يصح أن نؤاخذ النصارى بما كان يعمله الجهلة في العصور المظلمة مما لا ينطبق على الكتاب المقدس بل يخالفه, فلا تحسبن القرآن يحرم عبادة العذراء والكتاب المقدس يجيزها ,حاشا وكلا! بل هذا الذي ظنه المسلمون تثليثاً في ذات الله ليس هو من التثليث في شيء ,فإن المسيحيين على اختلاف مذاهبهم لم يِقل فريق منهم بثلاثة آلهة ,وعلى ذلك نطلب من القارئ مراجعة دستور الإيمان الرسولي ,والقانون النيقوي ,والقانون الأثناسيوسي ,وقانون الكنيسة المصلحة,

وعلى ما تقدم يظهر أن هؤلاء المفسرين أضلهم التعصب الذميم حتى دونوا في كتبهم عن النصارى ما هم أبرياء ,منه وكان خليقاً بهم - كما بكل عالم فاضل - أنهم إذا أرادوا أن يكتبوا شيئاً في موضوع هام كهذا أن يبحثوا أو ينقبوا حتى يقفوا على الحقيقة بعينها ,لئلا يكونوا عثرة في طريق الباحث الأمين, إننا كما ذكرنا لا نعتقد بثلاثة آلهة ,ولا أن مريم واحدة منهم ,وإننا نشدد إنكار تعدد الآلهة كالمسلمين أنفسهم ,وستعلم ذلك عندما نتقدم في شرح الموضوع,

ذكرنا في ما تقدم أننا نؤمن بإله واحد كما في التوراة ,حيث يقول إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ : الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ - تثنية 6 :4 -وفي العهد الجديد اقتبس المسيح هذه الآية أساساً لتعليمه - مر 12 :29 -وأما عقيدة التثليث فهي شرح للوحدانية ذُكرت لمناسبة التعليم في مواضيع أخرى, مثال ذلك وصية المسيح لتلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل للناس قال عَمِّدُوهُمْ بِا سْمِ الآبِ وَا لِا بْنِ وَا لرُّوحِ القُدُسِ - متى 28 :19 -فيدل هذا القول على حقيقة التوحيد ,كما يدل على تثليث الأقانيم ,لأنه قال باسم بصيغة المفرد لا بأسماء بصيغة الجمع ,مع أنه ذكر الأقانيم الثلاثة كلاً على حدته, ومن هذه العبارة نفهم أنه لا يمكن أن يكون الابن والروح القدس مخلوقَين بدليل أنهما مقرونان باسم الآب كشيء واحد ,بخلاف عدم ملاءمة الاسم نفسه لما يكون مخلوقاً ,فإن كلمة ابن الله والروح القدس لا يصح أن يسمى بهما الشيء المخلوق, هذه حقيقة ظاهرة لمن يتأمل,

وعقيدة التثليث يمكن تلخيصها على هذا المنوال :

1 - الآب والابن والروح القدس جوهر واحد وإله واحد فقط,

2 - كل من هؤلاء الأقانيم الثلاثة له خاصيّة لا يشترك فيها معه أقنوم آخر,

3 - إن انفصل أقنوم عن الأقنومين الآخرين - وذلك مستحيل - لا يمكن أن يكون هو الله,

4 - كل أقنوم متحد مع الأقنومين الآخَرين من الأزل ,وهذه الوحدة غير القابلة للانفصال هو الله,

5 - كل أقنوم مساوٍ للأقنومين الآخرين في الذات والمجد,

6 - العمل الخلاصي لكل أقنوم وُصف أحسن وصف في الكتاب المقدس بهذه الألقاب : الأول الآب والخالق والثاني ابن الله والفادي والثالث المقدس والمعزي ,

7 - كما أن الأقانيم المقدسة واحد في الذات هكذا هم واحد في المشيئة والقصد والسلطان والقِدم وسائر الصفات الإلهية,

أما قول المسيح أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي في يو 14 :28 فهذا بالنسبة إلى ناسوته ,لأنه يعبّر عن وحدته مع الآب في الذات بقوله أَنَا وَا لْآبُ وَاحِدٌ - يو 10 :30 -وقد يعترض بعضهم بأن هذه العقيدة المسيحية متناقضة ,وبما أن اعتراضهم خطأ ظاهر نجيب أن التثليث ليس خطأً بل هو سر عجيب ,ويجب أن ننتظر أسراراً كثيرة في الكتب المقدسة وخصوصاً ما يتعلق بجوهر الله ,إذ لو خلت حقيقة الله من الأسرار لأدركتها العقول البشرية كما تدرك سائر الأشياء المحدودة ,وهذا محال ,لأن السر هو أن لا تعرف كيف ينمو الزرع ,مع أنك تعرف أنه ينمو, والعالم مملوء من الأسرار ,والإنسان سر في نفسه فإنه لا يقدر أن يعرف كيف تسكن روحه في جسده وكيف تدبّره فهل تؤخذ هذه البراهين على بطلان الحقائق؟ لو كان الأمر هكذا لكان كل شيء باطلاً, والكتاب المقدس أحق وأولى بأن يتضمن أسراراً غامضة تحار في معرفة كنهها فطاحل العلماء ,فهل من الصواب والحكمة أن نرفض كتاب الله لاشتماله على مسائل تفوق عقولنا ونستبد بآرائنا الخصوصية؟ فاحكموا أنتم,

كل مطلع خبير بالكتاب المقدس يعلم أن عقيدة الثالوث مأخوذة منه بدلالة آيات كثيرة في غاية الصراحة ,وهي التي منها صاغ المسيحيون نصَّها مع اختلاف قليل في اللفظ فقالوا - لا يوجد إلا إله واحد حي حقيقي أزلي ,ليس له جسد ,ولا يتألم ,غير متناهٍ في القدرة والحكمة والصلاح ,صانع وضابط كل الأشياء ما يُرى وما لا يُرى ,ولذاته القدوسة ثلاثة أقانيم في جوهر واحد : الآب والابن والروح القدس ,

وعدا موافقة هذه الصيغة للأسفار المقدسة فإنها موافقة لمؤلفات المسيحيين الأولين الذين بقيت كتاباتهم إلى عصرنا الحاضر ,مما يدل على أنهم فهموا الكتاب من جهة هذه الحيثية كما فهمناه,

ويعلّمنا العقل أن لا نتجاوز في البحث والاستقصاء ما أعلنه الله عن ذاته ,وقال الحكماء : البحث عن ذات الله كُفر ,

يؤكد بعض إخواننا المسلمين أن التوحيد مخالف للتثليث ,لكن الحقيقة هي حيث أن العقيدتين معلنتان في كلام الله ,لا يمكن أن يكون يبنهما تناقض ,لأن التوحيد لا ينفي كل نوع من أنواع التعدد, مثال ذلك من المعلوم أن الله متعدد الصفات ,يقال رحيم حكيم قدير عادل الخ حتى وصفه علماء المسلمين بأنه مجمع الصفات الحسنة جامع صفات الكمال , لكن تعدد الصفات لا يبطل وحدة الذات ,ومثل ذلك تعدد الأقانيم لا يبطل وحدة الجوهر الإلهي ,وعلى فرض أنه لا يوجد في الخليقة ما يصلح أن يؤخذ مثالاً موافقاً لشرح هذه الحقيقة إلا أنه يوجد بعض الأمثلة التقريبية - ورد في التوراة أن الله خلق الإنسان على صورته - تك 1 :26 .

ويوافق ذلك ما قاله علي بن أبي طالب من عرف نفسه فقد عرف ربه , فلنتخذ هذا مثالاً تقريبياً لموضوعنا ,فنقول إن كل رجل هو واحد ,غير أنه يصح أن يتكلم عن روحه ونفسه وجسده قائلاً عن كل منها - أنا -هنا ثلاثة أشياء يكاد يتميز أحدها عن الآخر ,لأن الروح ليست النفس ,ولا هذه ولا تلك هي الجسد, وعليه فليس من الخطأ أن ندعو كلاً من هذه الثلاثة رجلاً ,إلا أنه لا يوجد في الثلاثة إلا رجل واحد, ومما لا شك فيه لا يكون أحد الثلاثة خلواً من الاثنين الآخَرين ,كل الشخصية, كما لا يمكن التفريق بين الواحد والآخر على الأقل في هذه الحياة,

إن هذا سر من الأسرار الكثيرة المودعة في طبيعتنا ولسنا نفهمها ,فإن كل امرئ على وجه الأرض يشعر بهذا التمييز في طبيعته بين روحه وعقله ونفسه ,في حين أنه لا يرتاب في وحدة ذاته, على أننا لسنا نقيم هذا المثال ولا غيره دليلاً على صحة التثليث ,بل الدليل على صحته كما قلنا مراراً الكتاب المقدس ,وكفى به دليلاً لأنه صادر من الله وهو يعرف نفسه أكثر مما نعرفه, وغاية ما نقصده من سرد الأمثلة أن ندفع الشبهات التي يعترض بها على هذا الموضوع ,ونبرهن أنها صادرة عن سوء فهم ,لإزالة ما عساه يكون عثرة أمام طالب الحقيقة المخلص,

ومما لا يصح إغفاله أن القرآن يتفق مع الكتاب المقدس في إسناد الفعل وضمير المتكلم في صيغة الجمع إلى الله في أن أمثلة ذلك أقل بكثير في التوراة عما هي في القرآن, ومما ورد في التوراة هذه المواضع - تك 1 :26 و3 :22 و11 :7 - وفي القرآن ما ورد في سورة العلق وهي عند المسلمين أول ما نزل من الوحي على محمد ,فقد ورد في عدد 8 لفظ الرب اسماً للجلالة وعدد 14 لفظ الله وكل من اللفظين في صيغة المفرد ,ولكن في عدد 18 ضمير الجلالة بصيغة الجمع حيث يقول سَنَدْعُ الزَبَانِيَةَ - سورة العلق 96 :18 .

وحيث أن الكتاب المقدس والقرآن يتفقان على هذا الأسلوب من التعبير عن ذات الجلالة بضمير الجمع ,فلا يخلو ذلك من قصد, أما اليهود فيعللون عنه بكون الله كان يتكلم مع الملائكة, إلا أن هذا التعليل لا يلائم نصوص التوراة ولا القرآن, ويقول المسلمون إن صيغة الجمع هي للتعظيم وهو تعليل سخيف لا يشفي غليل الباحث النبيه ,وليس لنا أن نخوض في شرح القرآن إنما أوردنا ذلك إشعاراً بأننا لا نخطئ إذا اعتبرنا عقيدة التثليث موافقة لإسناد ضمير الجمع إلى الله في القرآن,

وقلنا إنه لا توجد مشابهة وافية بين الله والمخلوقات ,إلا أنه توجد بعض الأشيا ء عدا ما ذكرنا آنفاً تثبت التعدد في الوحدة ,مثال ذلك خيط واحد من أشعة الشمس يتضمن ثلاثة أنواع من الأشعة : - 1 - النور - 2 - الحرارة - 3 - العمل الكيماوي, وهذه الثلاثة شعاع واحد بحيث لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى لتتكون ثلاثة أشعة بل بالعكس الشعاع الواحد لا يتكون إلا من الثلاثة معاً,

وكذلك النار والنور والحرارة ثلاثة أشياء ,ولكنها واحد فلا نار من غير نور وحرارة مع أن النور والحرارة من طبيعة النار وأصلها, نقول إن النار تعطي نوراً وحرارة ,إذ أن النور والحرارة تنبعثان من النار ,ولكن ذلك لا يجعلهما تنفصلان عن النار أبداً ,فلا تسبقهما في الوجود ,ولا تتأخر عنهما في العدم,

وكذلك العقل والفكر والكلام واحد ,مع اختلاف كل منها عن الآخر, لا نقدر أن نتصور العقل عارياً عن الفكر ولا الفكر عارياً عن الكلام منطوقاً به أو غير منطوق,

ففي هذه الأمثلة جميعها لا يشوش التعدد على الوحدة بل يتفقان تمام الاتفاق, ولنا أن نستنتج من ذلك أن وجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت ليس مضاداً للعقل السليم ,بل له شبه ونظائر في الطبيعة وسند قوي في الكتاب,

وهنا فكر آخر له علاقة بالتثليث إن من أسماء الله الحسنى عند المسلمين كونه ودوداً أي محباً - وهذا يوافق ما جاء في الكتاب في إرميا 31 :3 ويوحنا 3 :16 و1يوحنا 4 :7-11 - وبما أنه غير متغيّر فهو ودود من الأزل ,ويلزم عن ذلك أن يكون له مودود أي محبوب من الأزل قبل خلق العالم, فمن عساه يكون ذلك المحبوب الموجود من الأزل عند الله؟

ففي عقيدة التثليث نجد الجواب الصريح والوحيد لهذا السؤال ,فنقول إن أقنوم الآب هو الودود ,وأقنوم الابن المودود ,وما أحسن ما قال يسوع في هذا المعنى خطاباً لأبيه أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ - يو 17 :24 - وعليه لا يمكن الاعتقاد بوجود صفة المحبة في الله من الأزل ما لم نعتقد بتعدد الأقانيم مع وحدة الجوهر ,وإلا كان الله متغيراً ابتدأ أن يحب من الوقت الذي خلق له محبوباً من الملائكة أو البشر ,وهذا باطل ,لأنه قال أَنَا الرَّبُّ لَا أَتَغَيَّرُ - مل 3 :6 .

وربما يسأل سائل : ما فائدة الإيمان بالثالوث المقدس؟ ألا يكفي أننا نؤمن بأن الله واحد بصرف النظر عما إذا كان ذا ثلاثة أقانيم أو ذا أقنوم واحد؟ فأجيب : فائدة الإيمان بالتثليث ليست أقل من الإيمان بالتوحيد لجملة أسباب جديرة بالنظر ,منها حل المعضلات الكثيرة التي يُعترَض بها على الوحدانية المحضة ,مثل كيف يكون الله هو الكافي والصمد والمتكلم والغني والودود من قبل أن يكون كائن سواه ,لأن كل هذه الصفات وما شاكلها لا يمكن التعليل عنها إلا بتعدد الأقانيم الإلهية مع توحيد الذات كما مر بيانه في كلامنا عن وصف الله بالودود, وهذا التعليم أيضاً يمكّننا من فهم بعض تعاليم الكتاب المقدس ,كما أنه يبين لنا شرح بعض الآيات القرآنية, وأهم مما ذكر أن الإيمان بالتثليث مفيد لأنه يمهد السبيل لتصديق دعوى المسيح أنه كلمة الله المثبوتة في كل من الإنجيل والقرآن, وتسمية المسيح كلمة الله في سورة النساء 4 :171 - وقول الحق - في سورة مريم 19 :34 - أسلوب حسن للتعبير عن طبيعة المسيح ووظيفته بأنه الوسيلة الوحيدة لإعلان الله للناس ,لأن المراد من كلمة أو قول هو ما يعبر به المتكلم عن فكره ,والمتكلم عن فكر الله ومظهره القدوس الذي يظهر به لخليقته المحدودة ,وبه تكلم الأنبياء مسوقين من الروح القدس - لو 10 :22 ويو 1 :1 و2 و18 و14 :6-9 و1بط 1 :10-12 -وحيث أن المسيح هو الواسطة الوحيدة لإعلان الله يجب أن يعرفه هو أولاً ويعرف إرادته ,وقد عرفه كل المعرفة بدليل قوله أما أنا فأعرفه الآب يعرفني وأنا أعرف الآب - يو 8 :55 و10 :15 - ومن هذه الحيثية تمتاز معرفة المسيح لله عن معرفة الإنسان, ُروي عن محمد أنه قال في حديث له خطاباً لله ما عرفناك حق معرفتك , ويعترف علماء الإسلام أن الله عظيم وسام بحيث لا يدرك كنهه عالِم ولا نبي ولا رسول, فلا يعرف الله حق معرفته إلا كلمته أي المسيح, فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يكون المسيح مجرد مخلوق ولو أسمى المخلوقات ,وإلا لقصرت معرفته دون إدراك الله إدراكاً كاملاً ,لأنه لا يعرف الله إلا الله ,وعليه يكون المسيح أقنوماً إلهياً, فعقيدة التثليث إذاً تزيل كل صعوبة تخالج العقل في قبول دعوى المسيح بأنه كلمة الله ,وبالتالي قبول خلاصه,

وعدا ما ذُكر فإنه في الإيمان بالتثليث حسنة كبيرة تغمر الشرقيين والهنود ,الذي ساد عليهم الاعتقاد بالقضاء والقدر حتى أنهم استسلموا للجمود والتهاون فتأخروا عن غيرهم من الأمم في جهاد الحياة ,مع أنهم من حيث الذكاء والإقدام يتساوون مع الجميع إن لم يزيدوا عنهم كما هو مثبوت في التاريخ, فما الذي حدا بهم إلى التقهقر في سلّم المدنية غير استحكام عقيدة القضاء والقدر في أذهانهم؟ فلو آمنوا أن الله لم يقدِّر عليهم سوءاً ولا قضاء بخرابهم بل يحبهم حباً فائقاً بحيث أنه أعلن لهم نفسه في شخص كلمته الأزلي وحمل آلامهم وأحزانهم ومات بالجسد لخلاصهم وقام ثانياً لأجلهم ,لما بقي عندهم محل للشك في حُسن مراد الله من جهتهم ,ولاستنارت أذهانهم وفهموا نصوص الإنجيل الذهبية كقوله هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ا بْنَهُ الوَحِيدَ ,لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ - يو 3 :16 و1يو 4 :7-16 .

إن رفض إخوتنا المسلمين لعقيدة الثالوث هو بالتالي رفض للاهوت المسيح ,فكلما اجتهد المسلمون في البحث عن الله زادوا بعداً في المعرفة عنه ,وعليه نجد في مصر اليوم حديثاً حل محل مثل شائع هو كل ما خطر ببالك فهو هالك ,والله بخلاف ذلك فبذلك ترى الإسلام يؤول إلى عدم معرفة الله, وإن إيماننا نحن المسيحيين بمظهر الله الكامل يمكّننا من معرفة الله ومن محبته ,إذ أحبنا أولاً - 1يو 4 :19 - وإن روح الله القدوس يحل في قلوب المسيحيين الحقيقيين وينيرها بإرشاداته إلى معرفة الله ويقرّبهم إليه - يو 14 :16 و17 و26 و15 :26 و16 :7 و15 وأعمال 1 :5 و2 :1-4 و1كو 3 :16 و17 و6 :19 - فبذلك يتصالح المسيحيون مع الله ويكونون في شركة معه كأبناء مع أبيهم المحب السماوي عوضاً عن أن يكونوا كعبيد خائفين في حضرة سيدهم القهار - كما هي حال غيرهم .

إذاً نتعلم من الكتاب المقدس أن الله العلي العظيم أعلن لنا نفسه :

1 أنه الآب القدوس المحب الذي وإن كان شديد البغض والمقت للخطية ,غير أنه قَصَد من الأزل بحسب محبته وكثرة رحمته أن يدبر طريقة خصوصية تيسّر الخلاص لجميع البشر الذين يقبلون نعمة الله ,فيتصالحون معه بالقلب والعقل والإراداة والسلوك,

2 وأعطى الله هذا الإعلان للناس على يد كلمته ابن الله الوحيد الذي بواسطته فقط يصل المخلوق أياً كان لمعرفة الآب السماوي, وإذ أخذ ابن الله جسداً ولبس طبيعة البشر حمل أحزاننا وهمومنا ,ومات على الصليب من أجل خطاياناً ,وقام من أجل تبريرنا - رو 4 :25 .

3 ولكي يقبل الناس هذا الخلاص المبارك أرسل روحه القدوس ,الأقنوم الثالث من اللاهوت ,ليبكتهم على خطاياهم ويحقق لهم عظيم احتياجهم إلى مخلّص يخلّصهم وينير أذهانهم بمعرفة غِنى الإنجيل ,حتى يطلبوا وينالوا ويتمتعوا بالحياة الأبدية,

ولا يبرح من ذهنكم أن البرهان الذي يُقام على صحة عقيدة الثالوث الأقدس بعينه يُقام على صحة عقيدة الحياة بعد الموت ويوم القيامة ,وغير ذلك من العقائد التي يمتاز بها المؤمن من الكافر وعابد الله من عابد الصنم ,بمعنى أن هذه العقائد جميعها مؤيدة بكلام الله, فإن قبلنا عقيدة منها لأنها مؤيَّدة بكلام الله ,فلماذا لا نقبل العقائد الأخرى في حين أنها مؤيدة بكلام الله أيضاً؟

ولنتقدم الآن لإيضاح حقيقة أخرى لعلها تساعد القارئ للتثبُّت من الموضوع الذي نحن في صدده, نعلم بدليل قلوبنا عن الخلاص الذي يقدمه لنا الرب يسوع ,وكيف نحصل على الحياة الأبدية إن آمنا به - يو 17 :1-3 - كما نحصل على سائر البركات العظمى التي يريد الله أن يمنحها لمخلوقاته,

إنه بناء على إرشاد وتعليم الإنجيل ,أي أسفار العهد الجديد ,نعلم أنه بواسطة الإيمان الحي بالمسيح والاتكال عليه - أع 4 :12 و16 :31 و1يو 3 :23 - نصير ورثة الأفراح الفائقة والبركات العظمى التي لا يعبر عنها مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ ,وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ ,وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ : مَا أَعَدَّهُ اللّهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ - 1 كو 2 :9 - وليس الإيمان بالمسيح مجرد الاعتراف بأن تعليمه حق بل الثقة الكاملة بمخلّص حي حبيب جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة - 1تي 1 :15 - من خطاياهم - مت 1 :21 - وقادر أن يخلّص إلى التمام كل الذين يتقدمون به إلى الله - عب 7 :25 -إيمان حي كهذا يربطنا روحياً بالمسيح ويجعلنا وإياه واحداً - يو 15 :4-10 - كما يجعلنا أولاد الله فيه - يو 1 :12 و13 و1 يو 3 :1-12 - بل يقوينا حتى ننعتق من نير الخطية وإبليس - يو 8 :34-36 - فنخلع أعمال الظلمة - رو 13 :12 وأف 5 :11 وكو 1 :13 و1تس 5 :4 و5 و1بط 2 :19 و1يو 1 :6 - ونسلك كما يحق للدعوة التي دعينا بها ,أو بعبارة أخرى نسلك كأولاد نور - يو 8 :12 و12 :35 و36 .

ولما كان الإنسان من تلقاء نفسه لا يقدر أن يؤمن بالمسيح إيماناً حياً عاملاً ,رأى الله من فرط محبته لنا أن يرسل روحه القدوس ليعمل في أرواحنا ويبثّ فينا حياة روحية نستعين بها على الإيمان بالمسيح الإيمان المطلوب ,ما لم تغش قلوبنا ونرفض نهائياً احتجاج ذلك الروح الصالح المنعِم,

وقد رأينا في ما تقدم أن المسيح كلمة الله هو مظهر الله الحقيقي ,وعليه يتضح جلياً أنه بواسطته فقط يستطيع الإنسان أن يأتي إلى الله - يو14 :6 -وبدون إيمان بالمسيح لا يقبل الله الناس ولا يغفر لهم خطاياهم ,لهذا جاء الروح القدس ليحث الناس على التوبة ويستميلهم إلى الإيمان بحيث يعتنقون ذلك الخلاص المقدَّم لهم مجاناً في المسيح, وأن الروح القدس الذي يكشف لنا الستار عن حالة قلوبنا الرديئة ويبكتنا على خطايانا وينذرنا بالدينونة الآتية - يو 16 :8 - يحرّضنا على السعي والجد في طلب المصالحة مع الله بقبول الكفارة الوحيدة التي قدمها المسيح عن خطايا العالم - عب 10 :10-14 - والذين ينقادون بإرشاد الروح القدس يتبررون بإيمانهم بالمسيح ,ويكون لهم سلام مع الله بربنا يسوع المسيح - رو 5 :1 - يعطيهم السلام الذي لا يقدر أن يعطيه العالم - يو 14 :27 - فالخاطئ النادم متى أتى إلى المسيح يُعتق من الخوف والرعب الشديد الناتج عن خطاياه ,ويزول عن عنقه ذلك الحمل الثقيل ويُطرح في بحر نسيان رحمة الله - مت 21 :21 ومر 11 :23 - وتتبدد غياهب ظلمة قلبه ويحل محلها نور السماء ,وتملك عليه محبة الله ,ويعلم أن الله أبوه السماوي بيسوع المسيح فيهجر خطاياه ويجدّ في حفظ وصايا الله

ويواظب على معاشرته ,فتجري في نفسه أنهار السعادة الحقيقية التي تفوق الوصف ,حتى تصير الأرض في عينيه سماء بالرغم من تجارب الحياة الكثيرة واضطهاد المضطهدين ,ويتحقق صدق الكتاب لا بالبرهان الخارجي فقط بل بالوجدان والاختبار أيضاً,

وهذا التغيير الذي ينتجه عمل الروح القدس في نفس الخاطئ الآتي إلى المسيح لا ينحصر في تحويل القلب عن الخطية إلى البر ومن الظلمة إلى النور ومن عبودية إبليس إلى حرية الله ,بل أعظم من ذلك هو ميلاد جديد حقيقي روحي - يو 3 :3 و5 - الذي به يصير المؤمن خليقة جديدة روحياً - 2كو 5 :17 وغل 6 :15 - وأن الله يريد أن كل إنسان يتوب عن خطاياه وينال الخلاص بالإيمان بالمسيح - حز 33 :11 و1تي 2 :3-6 و2بط 3 :9 -من أجل ذلك فليس أحد على وجه الأرض مقضياً عليه بالحرمان من رجاء الخلاص ,بل كل من يريد بسلامة قلب أن يُفدى بدم المسيح فإنه يُفدى بكل تأكيد - يو 6 :37 -وأما الذين يعتمدون على ما يتخيلونه من أعمالهم الصالحة ويتوهمون أن لهم خزانة بر ذاتي في السماء ويرفضون المسيح ,فهم مقاومون لإرشاد روح الله القدوس ,ويحكمون على أنفسهم بأنفسهم - يو 3 :16-21 و5 :40 -ومع أنه استطاع في هذه الحياة أن يقاوم محبة المسيح ويعاند رحمة الله ,يضطر في النهاية أن يسجد أمام المسيح كما ينبئنا الكتاب - إش 45 :23 ورو 14 :11 وفي 2 :9-11 .

ومما قيل يتبرهن أن التغيير الذي يحدثه الإيمان بالمسيح في القلب لا يدعنا نهمل واجباتنا المسيحية أو نتمادى في ارتكاب الخطية ,لأنه إيمان حي مُحْيي يدفع صاحبه إلى فعل الخير ويمنعه عن فعل الشر, لذلك إن كان أحد مؤمناً بالمسيح إيماناً حقيقياً ينتصر بمعونة روح الله القدوس على الخطية الداخلية ,كما ينتصر على العالم والجسد والشيطان ,ويدوس على هوى نفسه ,ويكرس ذاته لأجل أن يعيش بحسب إرادة الله من حيث قداسة العمل والطبع ,لأنه ذاق بحاسته الروحية محبة الله الفائقة ورحمته العظيمة المعلنة في المسيح ,واختبر الفرح الحقيقي والسعادة الكاملة التي أفاضها الإيمان في نفسه, لهذا أصبح يبتعد عن كل خطية أو فكر شرير ,ويجاهد ليله ونهاره على الاحتراس والاحتفاظ بوصايا الله ,سالكاً في النور كما ينبغي لدعوة الإنجيل.

 

الفصل السادس

فساد الطبيعة الإنسانية

 

لم يدرك محمد المعنى العميق لقداسة الله القدوس، كما لم يدرك أهمية كمال الصفات الإلهية, أضف إلى ذلك أن محمداً غابت عن ذهنه حقيقة فساد الطبيعة الإنسانية,

الإنسان,, كل إنسان فاسد بطبيعته الساقطة الموروثة من أبيه الساقط آدم,, كان هو النبع الذي انحدرت منه السلالات البشرية,, تلوث النبع وبالتالي وصل التلوث إلى النسل البشري كله,

هذه حقيقة أعلنها الله في الكتاب المقدس بصورة بارزة، وأيدتها اكتشافات علم النفس الحديث,

ومحاولة إنكار الخطيئة الموروثة من آدم الأول، وتحكم هذه الطبيعة الساقطة في أفعال، وتصرفات، ودوافع الإنسان، تجعل الإنسان في حيرة إذ لا يدري لماذا يفعل الشر وقصده أن يفعل الصلاح,,

يؤكد داود النبي حقيقة طبيعته الساقطة الموروثة فيقول:

هَئَنَذَا بِالْإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي * مزمور 51: 5 ,

ويقول بولس الرسول مؤكداً حقيقة فساد الطبيعة الإنسانية بالوراثة:

مِنْ أَجْلِ ذ لِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ * رومية 5: 12 ,

إن حقيقة سيادة الموت على كل إنسان,, تؤكد حقيقة وراثة كل إنسان للخطية الأصلية,, خطية آدم الأول,, وإلا فلماذا يموت كل إنسان,, والموت جاء كعقاب للخطية الأصلية؟

ليس بين البشر إنسان ولد بلا خطية,

اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللّهِ؟ كُلُّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا مَعاً، فَسَدُوا، لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً، لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ * مزمور 53: 2 و3 ,

لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللّهِ * رومية 3: 22 و23 ,

بمعنى أن كل إنسان أخطأ لأنه مولود بطبيعة ساقطة، ولوجود هذه الطبيعة الساقطة فيه وسيطرتها على أعماله وتصرفاته عجز عن الوصول إلى كمال المقياس الإلهي الذي يرضي الله، وهو ما عبّر عنه الرسول بولس بالكلمات أعوزهم مجد الله ,

والمسيح وهو العارف بطبيعة الإنسان، لأنه فاحص القلوب,, يتحدث عن الدافع للخطيئة في حياة الإنسان فيقول:

لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الْأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. جَمِيعُ هذهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الْإِنْسَانَ * مرقس 7: 21-23 ,

ويصف بولس الرسول الصراع الدائر داخله بين الطبيعة الساقطة ورغبته في طاعة ناموس الله فيقول:

فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّامُوسَ رُوحِيٌّ، وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ. لِأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.,, فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. ,,,لِأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ * رومية 7: 14-20 ,

ويؤكد تاريخ الإنسان حقيقة وراثته للخطية الأصلية,, فأول إنسان ولد على الأرض هو قايين قتل أخاه هابيل ,, فمن أين جاءه الدافع الشرير لقتل أخيه إن كان قد وُلد بفطرة سليمة؟,, يقيناً أن البيئة التي عاش فيها لم تزرع فيه هذا الميل الشرير!!

إن علم النفس الحديث يثبت ما جاء في كلمة الله عن الطبيعة الساقطة الموروثة,,

قسَّم فرويد عالم النفس المشهور الجهاز النفسي في الإنسان إلى ثلاثة أقسام,, وأوضح أن لكل قسم منها خصائص معينة,,

قال فرويد إن الجهاز النفسي ينقسم إلى:

الأنا Ego ,, والهو Id ,, والأنا الأعلى Super Ego ,

وما يهمنا هنا هو الحديث عن الهو ,, فعلماء النفس يقولون إن الهو Id هو القسم اللاشعوري في الجهاز النفسي، ومن خصائصه أنه لا يتجه وفق المبادئ الخلقية,, ولا يتقيد بقيود منطقية، بل يتجه نحو النزعات الفطرية الموروثة,, إنه يشبه البئر المظلمة البعيدة الغور، العميقة غاية العمق، المخفية عن الشخص غاية الخفاء، ومع ذلك فهي زاخرة بالأفكار والرغبات والدوافع الوراثية التي تسيطر على تصرفات الإنسان ,

كل ابن آدم يولد وارثاً للطبيعة الساقطة,, ومن هنا يظهر عجز الإنسان عن القدرة على عمل الصلاح الذي يرضي الله تبارك وتعالى,, من هنا كان نُورُ الْأَشْرَارِ خَطِيَّةٌ * أمثال 21: 4 ,, ومن هنا ظهرت حتمية أن يقوم الله نفسه بإنقاذ الإنسان من الوهدة التي تردى فيها، وقيام الله جلّ اسمه بعمل لإنقاذ الإنسان من معاصيه ومن الدخول في عذاب جهنم,, هو أمر مرتبط بذاته العلية,, مرتبط بوحدانيته الجامعة,

ومع إنكار علماء المسلمين لحقيقة وراثة الطبيعة الساقطة,, ومع ادعائهم أن الإنسان يولد بفطرة سليمة,, فإن القرآن يقرر في كثير من نصوصه فساد طبيعة الإنسان,

ففي سورة العصر نقرأ النص القرآني:

وَالعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرِ * أي خسران ونقصان وهلكة إِلَّا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتَوَاصُوا بِا لْحَقِّ * أي أوصى بعضهم بعضاً بالحق وَتَوَاصُوا بَا لصَّبْرِ * سورة العصر 103: 1 و2 و3 ,

والنص القرآني يعلن بكلمات صريحة أن الإنسان بطبيعته المولود بها في خسران، ونقصان، وهلكة,,, فهو هالك بطبيعته الساقطة,, ويستثنى فقط الذين آمنوا وتواصوا بالحق وبالصبر,

وفي سورة يوسف نقرأ النص القرآني:

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِا لسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * سورة يوسف 12: 53 ,

والنص يقرر أن النفس بطبيعتها الساقطة أمارة بالسوء ما لم تتداركها رحمة الله وتخلصها,, وإلا فمن أين جاءها الميل إلى السوء؟

وفي سورة النساء يقرر القرآن:

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً * سورة النساء 4: 28 ,

ويفسر محمد فريد وجدي هذا النص القرآني فيقول:

يريد الله أن يخفف عنكم بمنحكم شريعة سمحة لا تعسير فيها مناسبة لضعف طبيعة الإنسان فإنه لا يصبر عن الشهوات، ولا يتحمل مشاق الطاعات * المصحف المفسر صحفة 104 ,

القرآن يقرر بكل وضوح وجلاء أن الإنسان بطبيعته الساقطة في خسران، وأن نفسه أمارة بالسوء,, وأن الإنسان خلق ضعيفاً لا يستطيع أن يتحكم في شهواته ويعجز عن طاعة وصايا الله,,

هذا التعليم الواضح في القرآن ينكره علماء المسلمين,, مع أن ما حدث لمحمد في طفولته ورجولته وذكرته كتب السيرة النبوية يؤكد حقيقة وراثة كل إنسان للطبيعة الساقطة,, طبيعة الميل إلى المعصية والخطية,

وتعال معي لنقرأ ما حدث في حياة محمد وسجله أحمد بهجت في كتابه أنبياء الله ,

شب محمد بن عبد الله في بادية بني سعد,, كان هناك مع مرضعته حليمة السعدية,,

حين بلغ عامه الثاني فطم,, وأرادت أمه أن تأخذه,, ولكن حليمة لم تستطع أن تستسلم لهذا الانفصال القاسي, فألقت بنفسها عند قدمي الأم وأخذت تقبلهما وهي تسألها أن تتركه معها حتى يشب صحيحاً في هواء البادية,, ومكث محمد في بادية بني سعد خمس سنوات,

وقد وقع له في هذه السنوات الخمس ما عُرف فيما بعد بحادث شق الصدر,,

أصدرت المشيئة الإلهية حكمها النافذ للروح الأمين جبريل ,, أن يهبط إلى محمد بن عبد الله، ويشق صدره بالأمر الإلهي، ويغسل قلبه بالرحمة، ويجففه بالنور,, ويستخرج حظ الدنيا منه,,

خرج محمد كعادته ذات صباح مع أخيه في الرضاع يقودان القطيع إلى المراعي، فلما انتصف النهار، أتى أخوه يعدو فزعاً باكياً، يصيح بأن محمداً قد قُتل,, أخذه رجلان عليهما ثياب بيضاء، فأضجعاه وشقا صدره,,

جن جنون حليمة,, انطلقت تعدو بكل ما تملك من قوة، يتبعها زوجها في الاتجاه الذي أرشد عنه الصبي,, فوجدا محمداً جالساً على الأرض، وجهه ممتقع، وعيناه تلمعان,, قبَّلاه في رقة وأخذا يلاطفانه,, ثم سألاه ماذا حدث؟

قال الصبي: بينما كنت ألاحظ الأغنام وهي ترعى، فوجئت بصورتين ناصعتي البياض، ظننت أولاً أنهما طائران كبيران، ثم أدركت خطئي، كانا شخصين لا أعرفهما يلبسان البياض,,

قال أحدهما لصاحبه مشيراً إليَّ: أهذا هو؟

قال: نعم,,

جمدت من الفزع، وأخذاني فأضجعاني وشقا صدري، والتمسا فيه شيئاً، فوجداه وطرحاه بعيداً، ثم التأم ما شقاه، واختفيا كأنهما شبحان,,

روى الحديث أنس,, وأخرجه مسلم وأحمد,,

ويرى بعض المفسرين القدماء كالقرطبي أن هذه الحادثة تشرح معنى الآية:

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * سورة الشرح 94: 1 ,

ويستطرد أحمد بهجت قائلاً: في رأينا أن حادث شق الصدر تكرر مرة أخرى ومحمد يجاوز الخمسين من عمره,

وقد جاء حادث شق الصدر الثاني ليلة أسري به,,

بينما أنا في الحطيم - أو قال في الحجر - مضطجع بين النائم واليقظان,, أتاني آت، فشق ما بين هذه إلى هذه - يعني ثغرة إلى بطنه - قال: فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً، فغسل قلبي، ثم حشى ثم أُعيد * أنبياء الله صفحة 385 و386 ,

وأمام حادث شق الصدر الذي تكرر مرتين في حياة محمد,, مرة وهو طفل لم يبلغ الخامسة من عمره، ومرة وهو في الخمسين يجوز لنا أن نسأل ولنا كل الحق:

لماذا احتاج الطفل محمد إلى عملية شق الصدر الأولى إذا كان قد وُلد بفطرة سليمة، ولم يرث الطبيعة الساقطة التي يؤكد الكتاب المقدس أن كل إنسان يولد بها؟

ما الذي التمسه جبريل والملاك الآخر الذي معه ووجداه في صدر محمد وطرحاه بعيداً بحسب الرواية العربية؟ لا شك أن هذا الذي التمساه لم يكن شيئاً طاهراً وإنما كان قذراً أو شراً لا بد من طرحه بعيداً,,

هل لم تنجح العملية الأولى التي أُجريت لمحمد وهو دون الخامسة من عمره حتى استلزم الأمر عملية ثانية غُسِلَ فيها قلب محمد وهو في الخمسين؟

إن حادث شق صدر محمد في طفولته الباكرة,, وهو الحادث الذي ذكرته كتب السيرة النبوية يؤكد لكل ذي عقل وراثة الإنسان للطبيعة الساقطة,, طبيعة الميل الغريزي إلى المعصية,,

ومع كل ما تقدم فإن محمداً أعلن لجماعة من المستمعين إليه أمراً آخر ذكرته كتب السيرة النبوية,

عن محمد رسول الله: ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة,,

قالوا: وإياك يا رسول الله؟

قال: وإياي,, إلا أن الله أعانني عليه فأسلم,, فلا يأمرني إلا بخير * أنبياء الله صفحة 386 ,

هل يستطيع الإنسان البشري الذي هو بطبيعته في خسران,, والذي نفسه أمارة بالسوء,, والذي خلق ضعيفاً,, والذي من يوم وُلد يُوكَّل به قرينه من الجن فيسير وفق أمره,, وهو بغير شك قرين شرير استلزم جهداً كبيراً من محمد حتى أسلم وكان محمد يتبع أمره قبل إسلامه وبعده,,

هل يستطيع الإنسان وهذا حاله من الضعف والتردي، وسيطرة الجن عليه أن يعمل أعمالاً صالحة ترضي الله القدوس، وتفتح له أبواب الجنة؟

إن هذا الإنسان الضعيف، المولود بالإثم والطبيعة الساقطة عاجز تماماً عن القيام بالأعمال الصالحة مهما أوصيته بعملها,, فهو تحت سيادة شهواته، وقوى الجن تؤثر عليه,, ورغم رغبته في طاعة الله فإن طبيعته الساقطة تهزمه وترغمه على ارتكاب المعاصي, لذا كان من المحتم أن تهزمه وترغمه على ارتكاب المعاصي, لذا كان من المحتم أن يقوم الله ذاته بإنقاذه,, وهذا الإنقاذ الإلهي، الذي يسميه الكتاب المقدس خلاص الله ,, دبره الله بحكمته قبل الأزمنة الأزلية، كما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس في رسالته التي كتبها بالوحي الإلهي:

فَلَا تَخْجَلْ بِشَهَادَةِ رَبِّنَا، وَلَا بِي أَنَا أَسِيرَهُ، بَلِ اشْتَرِكْ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ لِأَجْلِ الْإِنْجِيلِ بِحَسَبِ قُوَّةِ اللّهِ، الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لَا بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ التِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الْأَزْمِنَةِ الْأَزَلِيَّةِ * 2 تيموثاوس 1: 8 و9 ,

فقبل الأزمنة الأزلية,, قبل إنشاء العالم,, قبل خلقه الإنسان,, قبل سقوط الإنسان,, دبّر الله في حكمته خلاص الإنسان,, وتركز تدبيره في تجسد المسيح الذي كان معه منذ الأزل,,

هذا كله يرتبط بالإيمان بوحدانية الله الجامعة,,

والجهل بوراثة الإنسان للطبيعة الساقطة,, يدفعه إلى الثقة الكاذبة في قدرته على إرضاء الله بأعماله الصالحة,, وبالتالي يدفعه إلى إنكار حتمية الفداء الإلهي بدم المسيح الكريم,, وإنكار وحدانية الله الجامعة,

 

الفصل السابع

أسفار العهد القديم والعهد الجديد

تتضمن الوحي الحقيقي

 

 

بيّنا في مقدمة الكتاب المقاييس الصحيحة التي نقيس عليها كل كتاب يزعم أصحابه أنه وحي, ونرجو أن يكون قد تحقَّق القارئ النبيل من الفصول المتقدمة أن الكتاب المقدس مستكمل الشروط, ولكن لزيادة الفائدة نتوسع أكثر في هذا المبحث ,ونأتي بالأدلة القاطعة التي لا تدع مجالاً للشك,

1 - يُظهر الإنجيل يمثل لنا في المسيح أقدس حياة وأكمل مثال ظهر على الأرض ,وعاش بين البشر, صحيح أن كل أمة أطنبت في مدح في بطلها الديني ورفعت درجته إلى ذروة المجد ,وأقامت له التماثيل, إلا أن أكثر الحكايات في هذا الموضوع ترجع إلى خرافات عجائزية ,كما في أساطير الهنود عن أبطالهم مثل رامة وكريشنه , إلا أنه توجد بعض القصص ترجع إلى أصل صحيح ,ولكنهم غالوا فيها وبالغوا ,كما حكوا عن بوذا إله الهنود, ومع ذلك إذا قارنا هؤلاء الأقطاب والأبطال في كل أمة تحت السماء - حتى الذين صوَّرهم الوهم - بالمسيح ,لظهر فرق عظيم بينهم وبينه في جميع صفات الخير والكمال ,فشتان بينهم وبين المسيح في التواضع والصلاح والنقاوة والعدالة واللطف والمحبة والرحمة والقداسة وسائر الفضائل المعترف بها من جميع الناس ,بل قد علا صلاحه وفاق مبالغة الشعراء في مدح أبطالهم, على أن حياة المسيح حقيقية لا ريب فيها كما يقر ويعترف الجميع ,فالكتاب الذي سجل هذه الحياة العديمة المثال هو كتاب الله ,بمعنى أن الذين عرفوا المسيح وعاشروه واتبعوه وكتبوا سيرته وتعليمه كتبوا ما كتبوا بإلهام الروح القدس كما وعدهم يسوع نفسه - يو 16 :12 و13 - وعصمهم الروح من الخطأ وأمدَّهم بالنور وال

معرفة ,فجاءت شهادتهم للمسيح طبق الواقع - أع 1 :8 - سواء كانت شهادتهم قولاً أو كتابة ,فالمسيح دليل نفسه,

2 - إن إعلان الله أو مظهره لا يمكن أن يكون كتاباً ,بل يجب أن يكون شخصاً, وحتى تطَّلع الناس على حياته وأعماله وتعليمه يجب أن تُكتب في كتاب تحت إرشاد وهيمنة من هو معصوم من الخطأ ومنزَّه عن الكذب, ومن يطلع على الكتاب المقدس بروح الإخلاص والصلاة تنجلي له الحقيقة ,ويجد المسيح الموعود به في التوراة والمسطورة حياته في الإنجيل بأنه المخلّص وكلمة الله وهو الشخص الوحيد الكفؤ لإعلان الله للناس ,وقد أعلنه في صفاته وحياته وسيرته وموته وقيامته وتعليمه ووعوده, وبمقتضى هذا الإعلان الوحيد في بابه يحل الإنجيل معضلة الدهور التي لم يستطع كتاب آخر أن يحلها ,ألا وهي : كيف يعلن الإله الغير محدود نفسه لمخلوقاته المحدودة؟ هذه معضلة أجهدت الفلاسفة في حلها وأسفر اجتهادهم عن خيبة ,حتى أن علماء اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح عجزوا أيضاً عن الإجابة على هذا السؤال ,وكذا عجز علماء الإسلام, ومن أقوالهم في هذا الصدد ما ورد في كتاب ميزان الموازين حيث قال المؤلف : كل مُدرَك لا بد له من وسيلة يُدرَك بها ,فيجب أن يكون بين المدرَك والمدرِك صلة توصّله إلى الإدراك, ولما كان الله غيرمحدود وخلائقه محدودة ,انعدمت كل علاقة وانقطعت كل صلة بين الطرفين , عليه لم تكن هناك وسيلة للإنسان أن يدرك الله, ولا يقدر أي مخلوق كائناً ما كان أن يدرك الخالق إلا أن مؤلف ميزان الموازين زعم أنه يوجد مخلوق يُدعى المخلوق الأول هو الحق الأعظم ,خليقة الله الوحيدة ,وجمال الأزل المطلق والنور الكلي ومظهر الله الكامل, فلما قصد الله أن يخلق الخلق ويعلن لهم ذاته خلق هذا المخلوق الأول ,فصار موضوع محبته ومظهر صفاته, وبما أن الله أحبه فقد أحب الله كذلك وهذا المخلوق - على زعم المؤلف - هو الوسيط الأعظم والنبي المطلق ,وكل ما حدث من بدء الخليقة وما يحدث إلى المنتهى حدث بواسطته!

هذا الرأي كيفما كان ليس له أصل في الإسلام ,وإنما تطرق إليه من أصحاب البدع وفلاسفة الوثنيين ,ومنهم آريوس الهرطوقي الذي زعم أنه يوجد مخلوق أول خلق الله به العالم ,وكذا زعم ماني الفارسي, إلا أن ماني قال أن الشيطان بعد ذلك خلق الإنسان على صورة المخلوق الأصلي وصورته هو ,أي جمع فيه النور الأعظم والظلمة كما في العالم الصغير, وتوجد طائفة يقال لها النحشية أو عبدة الأفاعي أو العرفاء ,اعتادوا أن يحترموا الخنثى ويدعونه غير المغلوب ,ويزعمون أن معرفته بداية معرفة الله, ومن أقوالهم إن بداية الكمال هي معرفة الإنسان ,ونهايته هي معرفة الله ,وعندهم أن آدم خُلق على صورة ذلك الإنسان الذي يدعونه الإنسان الأعظم والأكمل, ويزعم قوم من فرق اليهود يدعون بالقبالاه أخذوا عن الوثنين أيضاً ,كما أخذ عنهم المسلمون ,فقالوا إن الله الغير المحدود أراد من الأزل أن يُعرَف ,وللوصول لهذا الغرض انبثق منه كائن ,ومن ذلك الكائن انبثق كائن آخ،ر وهلم جراً إلى العشرة ,ومن هؤلاء العشرة يتألف الإنسان الأصلي ويسمونه بلسانهم اذام قذمون أو الإنسان السماوي ,ورأسه مؤلفة من الانبثاقات الثلاثة الأولى ,وأن آدم - أو الإنسان الترابي - خُلق على صورته بدون وضوح,

غير أن هذه التخمينات مع كونها من مواليد الأوهام لم تمهد السبيل قط إلى حل المعضلة المتقدمة ,لأن المخلوق الأول مهما بلغت عظمته وسمت صفاته لا يزال مخلوقاً ,وبينه وبين الله ما لا يُقاس ,وعليه لا يقدر أ ن يدرك الله لأنه لا صلة بين المحدود والغير المحدود - كما قرر مؤلف ميزان الموازين -فضلاً عن أن بدعة المخلوق الأول تؤدي إلى عبادته دون الله ,وهذا هو الشرك الذي يقول القرآن إنه خطية لا تُغتفر,

أما الإنجيل فيجيبنا على السؤال الغامض أفضل إجابة بينما الفلاسفة والعلماء عجزوا عن تصور وجود كلمة الله الذي هو واحد مع أبيه بالذات - يو 10 :30 - وصار واحداً مع الإنسان بتجسده ,فالكتاب الذي أظهر لنا هذه الحقيقة يجب أن يكون صادراً عن الله, فالفرق إذاً بين تعليم المسيحيين وفلاسفة الإسلام في ما تقدم ذكره هو أن أولئك الفلاسفة استنبطوا من عالم الخيال كائناً لا هو إله ولا إنسان ,وقالوا إنه هو الوسيط بين الله والناس وشفعوا استنباطهم لهذا الكائن بآراء يهودية ووثنية مبنية على الحدس والتخمين, وأما نحن النصارى فنقول إن الوسيط الوحيد بين الله والناس ,هو يسوع المسيح ,الذي هو إنسان تام وإله تام ,واستندنا في قولنا لا على رأي الفلاسفة ولا المبتدعين ,بل على كتاب الله الأمين, ومن المعلوم أن المسيح كائن حقيقي كما هو مثبوت في الإنجيل والقرآن, هذا الذي أعلن الله لنا بمثال حياته الكاملة في القداسة كما بأقواله ,وهو الذي قدم لله كفارة عن خطايانا بذبيحة نفسه على الصليب, فإن قارنت بين آرائهم وآرائنا ظهر لك الحق من الباطل وعرفت أي الفريقين المبتدع وأيهم المتبع لتعليم الله على لسان أنبيائه ورسله الذين أوحى إليهم الكتاب بالروح القدس,

3 - ومن الأدلة على أن الإنجيل من الله أنه يملأ فراغ النفس من حيث شوقها لمعرفة الله ,وتبريرها أمامه من تبعة الإثم ,ومغفرة خطاياها ,وتطهير القلب والحياة,

- 1 - يخبرنا الإنجيل بقصد الله الأزلي من جهة الإنسان ,ويشرح على التوالي السبب الذي من أجله خُلق وكيفية سقوطه في حمأة الخطية وحاجته العظمى إلى القداسة,

- 2 - يخبرنا كيف نحصل على مغفرة خطايانا بالإيمان بالمسيح وبذلك نتبرر أمام الله,

- 3 - يخبرنا كيف تطهر قلوبنا بالإيمان بالمسيح وتصبح هيكلاً لسكناه وتتنقى أفكارنا ورغائبنا من الخبائث ,وكيف تتشدد عزائمنا في الجهاد ضد الخطية وإبليس كلما عظمت محبتنا له,

- 4 - ويرينا كيف أننا بالإيمان بالمسيح نصير أولاد الله المختارين ,وتفيض قلوبنا سلاماً وفرحاً روحياً متوقعين بالتحقيق واليقين وبفروغ صبر ذلك اليوم السعيد الذي يقوم فيه الأموات ,وحينئذ نتمتع بالسعادة الدائمة والقداسة الكاملة في حضرة الله, وبالإجمال ما من رغبة روحية تصبو إليها النفس إلا وهي متوفرة في الإنجيل ,فلذا هو رسالة الله إلى ابن آدم المسكين,

ومن المحقق الذي دل عليه الاختبار أن كتب أهل الأديان الأخرى لا تؤدي بأصحابها إلى شيء مما ذكرنا ,فأي كتاب منها يسكِّن روع الخاطئ من هول الحساب ,وأي منها يستميل القلب لسماء طاهرة لا تدخلها الشهوات ولا تحوم حولها الأدناس يسكن فيها جماعة المخلَّصين الذين نالوا الحرية الكاملة من كل عيب ودنس ونقص إلى غير ذلك مما هو مغاير لطبيعة الله الكلي القداسة, فهذه الكتب لا تدل على طريق الخلاص من الخطية ,ولا إحراز القبول لدى الله ,بل تغادر الإنسان بدون أن تروي له غليلاً, نعم قد تأمره بالحج والصوم ونحر الضحايا مما ليس له أقل مساس بنقاوة القلب ولا بإعلان صفات الله ,فيصبح المتعبد بها هائماً لا يستقر على حال من القلق ,منفياً من بيت الآب السماوي,

- 4 - ومن الأدلة على أن الإنجيل من الله هو تجديد القلب والحياة الذي يحصل عليه الذين يقبلون تعليمه ,ويبتدئ هذا التجديد من الداخل ويمتد إلى الخارج ,وهو من الأهمية بمكان حتى أنه وُصف بالميلاد الثاني الروحي - يو 3 :3 و5 - ويتم بواسطة عمل روح الله القدوس,

- 5 - نجد في الكتاب المقدس صفات الله العظمى التي يتشوق الإنسان إلى معرفتها ,وهو مؤهل لإدراكها إلى حد معلوم وصفات الله الكمالية هي القداسة والمحبة والرحمة والعدل ,وصفاته الجلالية كالقِدَم والقدرة والحكمة والخلق وحفظ الكون, هذه الصفات وتلك مبينة بمزيد الوضوح, وجاء في الكتاب أن الله أعلن نفسه في المسيح الذي جال يصنع خيراً ,ولم يصرف أحداً من أمام وجهه خائباً من الذين أتوه طالبين منه المغفرة والمعونة, ومع أنه كان منزهاً عن الخطية إلا أنه أظهر الانعطاف نحو الخطاة المعترفين بخطاياهم الخائفين من دينونة اليوم الرهيب ,ورحمهم, وقد كلفه ذلك تضحية حياته حتى يتهيأ له إنقاذ الذين يؤمنون به من سلطان الخطية ونتائجها المريعة ,فلم يخبرنا الكتاب بصفات الله بالكلام والأمثال من أساليب التعبير فقط ,بل أظهره لنا بالعيان وجهاً لوجه حتى يراه كل من أراد في حياة يسوع المسيح ,وعلى ذلكقوله اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ - يو 14 :9 - وبهذا الإعلان الوحيد أدركنا أكثر بكثير من غيرنا كم هي مكروهة الخطية في نظر الله القدوس ,وأنه بدون قداسة لا يتمتع أحد برؤية الله - عب 12 :14 -وهاكم فلسفة القدماء والمتأخرين بين أيدي طلبة العلم ,فهل رأيتم كتاباً من كتبهم يصف الله بما يصفه به الكتاب المقدس من صفات الكمال؟ أظن لا, بل أقول حتى الكتب المقتبسة من الكتاب المقدس ضلت ضلالاً بعيداً ,لأنها فيما هي تعلّم عن وحدة الله فاتها أن تقرر الطريقة الوحيدة التي بها أعلن الله نفسه للناس ,وتركت بين الخالق والمخلوق هوَّة لا تُعبر ,مع أن الوصول لله بيت القصيد في الدين كله,

- 6 - إن روحانية الإنجيل أشرف وأنقى وأرفع من أي كتاب آخر ,وكل المساعي التي بُذلت لإنكار هذه الحقيقة أسفرت عن خيبة, فاستعار بعضهم أقوالاً ماثورة عن فلاسفة الصين والهند واليونان وأرادوا أن يضاهوها بما يقابلها في الإنجيل, ومن أمثلة ذلك علّم المسيح تلاميذه قانوناً ذهبياً كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ ا فْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ - مت 7 :12 - وعلّم بعض الفلاسفة في الهند واليونان الصيغة السلبية من هذا القانون الذهبي ,فقالوا : لا تفعلوا بالآخرين ما لا تريدون أن يفعلوه بكم , فمن يتأمل في القولين يجد الفرق كبيراً, وكذلك كونفوشيوس فيلسوف الصين المشهور ذكر ذلك القانون بالصيغة السلبية مراراً ولم يذكره ولا مرة واحدة بالصيغة الإيجابية ,إلا أن حفيده كنغ تشي اقترب إلى الصيغة الإيجابية أكثر منه ,حيث يقول إن أربعة أشياء ترفع قدر الإنسان لم أظفر بواحد منها بعد ,إلى أن قال عن الشيء الرابع وددتُ أن أعامل صديقي كما أريد أن يعاملني ,لكني لم أدرك هذه الغاية, ومع ذلك لا يزال بين قوله وقول المسيح فرق عظيم ,لأن المسيح أوجب المعاملة بمقتضى ذلك القانون لكل الناس ,وأما هذا الفيلسوف فقد حصرها بين الصديق وصديقه ,فضلاً عن كونه أقرَّ بفشله,

وكثيراً ما اجتهد العلماء أن ينقبوا ويبحثوا في جميع ما وصلت إليه أيديهم من كتب الأديان والحكم والأمثال ,وجمعوا من الوصايا والشرائع ما قدروا أن يجمعوه ,فكانت النتيجة أن وصايا الإنجيل أفضل وأسمى مما استطاعوا أن يجمعوه من كتب العالم كافة, على أن الوصايا التي جمعوها كانت أشبه بكومة زهور ذابلة ,أما وصايا الإنجيل فكزهور نضيرة وكجنة فيحاء, أليس هذا وحده دليلاً راهناً أنه موحى به من الله؟ وإلا فكيف استطاع كتبة الإنجيل أن يضمنوه ما أودعته الحكماء والفلاسفة في بطون كتبهم من خالص الوصايا وصميم الشرائع في الهند والصين واليونان ومصر والفرس والرومان في كل زمان ومكان ,إلا أن يقال إن الله المحيط بكل شيء أوحى إلى رسله الأطهار بما ليس في استطاعة العلماء أجمع أن ياتوا به؟

وأهم من ذلك لنا في حياة المسيح على الأرض كما دوّنها رسله الأطهار أعظم ناموس وأصلح مثال ,فإنه عاش حسبما علّم من الوصايا الذهبية عديمة النظير, وعدا هذا كله فإن الكتب الأخرى وإن تضمنت شيئاً من الوصايا الجيدة لم تخْلُ من التعاليم الخبيثة التي طالما أدت إلى البوار ,وليس الخالص من الشوائب كالممزوج بها امتزاج السم بالدسم ,كفخذ الضان الذي قُدِّم لمحمد وأصحابه بعد واقعة خيبر ,فهو طعام شهي لكنه موت زؤام, وأما الإنجيل فلا يحمل بين دفتيه إلا الصلاح المحض,

بقي علينا أن نقول إن الإنجيل لا يأمر بالصلاح ويدع الإنسان وشأنه ,بل يمنحه القوة التي تدفعه إلى العمل, ما هي تلك القوة العجيبة؟ إنها المحبة للمسيح ,وهي قوة لا توجد إلا في الإنجيل, سأل تلميذ مسيحي أحد علماء الهند البوذيين ,قال : إنك قرأت الكتاب المقدس وقرأت كتبكم ,فماذا وجدت؟ قال : وجدت إحساسات شريفة في كل من كتبكم وكتبنا ,إلا أن الفرق عظيم وهو أنكم معاشر النصارى تعرفون الواجب ,ولكم من القوة ما يؤّهلكم للعمل, أما نحن فنعرف الواجب ولكننا غير قادرين على القيام به , فمثل الأديان الأخرى مثل قوم مدوا سكة حديد ولكن ليس لهم القوة المحركة ,وأما الديانة المسيحية ففضلاً عن كونها مدّت سكة أقوم سبيلاً ففيها القوة المحركة التي تحرك الطالب إلى السير ,وتلك القوة هي المسيح, والفرق جوهري وعظيم, ولا يبرح من ذهن القارئ الكريم أن فيلسوف الصين لم يذكر اسم الله في جميع مؤلفاته إلا مرة واحدة ,وتلك المرة ليست من كلامه بل مقتبسة ,فهو ليس من رجال الدين بالمرة,

7 - - ومن الأدلة على أن الكتاب المقدس موحى به إتمام النبوات المتضمنة فيه مما ليس له نظير في كتب الأديان الأخرى ,فإنه عدا النبوات الكثيرة الواردة في أسفار العهد القديم بشأن المسيح وتمت فيه كما هو مقرر في أسفار العهد الجديد ,قد وردت نبوات أخرى ليست أقل من الأولى, سأل ملك من ملوك بروسيا مسيحياً : هل تقدر أن تبرهن على وحي الكتاب بكلمتين؟ أجاب : اليهود يا مولاي إن النبوات التي وردت في الكتاب عما يصيبهم تحققت كما تشاهد أحوالهم اليوم ,ومن أمثلة ذلك ما ورد في - تث 28 :15-28 ومت 24 :3-28 ومر 13 :1-23 ولو 21 :5-24 - وكما تمت النبوات الأخرى المنذرة بخراب نينوى وبابل وكثير من المدن العظيمة ,وعدا ذلك تنبأ دانيال النبي قبل ملك الاسكندر بزمن طويل عن انتصاره على مادي وفارس وانقلابهما - دا 8 :3-27 - وعن انقسام مملكة الإسكندر من بعد موته ,وقد حقق التاريخ ذلك, ثم تنبأ الإنجيل عن امتداد الديانة المسيحية وما يلحقها من الاضطهادات ,كما تنبأ عن قيام الأنبياء الكذبة والارتداد عن الإيمان وسريان الإلحاد والكفر في الأيام الأخيرة, وكل ذلك تحقق كما هو مشاهد بالعيان ,فليس سوى الله علام الغيوب الذي سبق وأنبأ بهذه الأمور على ألسنة كتبة الأسفار المقدسة

-8 - ومن الأدلة على وحي الكتاب المعجزات التي أتى بها المسيح ورسله ,ومن أهمها قيامة المسيح من الموت بعد ثلاثة أيام في القبر ,مما يؤيد دعواه أنه مخلّص وكلمة الله

- 9 - يظهر حق الإنجيل من انتشار المسيحية في العصور الأولى وغلبتها على وسائل التدمير التي أثارها عليها إبليس والأشرار - مت 16 :18 - ولا تزال رافعة أعلام النصر إلى عصرنا الحاضر, والعجب العجاب أنها انتشرت وغلبت بدون وسائط بشرية ,لأن الرجال الذين وكلت إليهم الكرازة بالإنجيل كانوا فقراء مالاً وعلماً ,وكرزوا بما يخالف رغائب الناس وميولهم وعاداتهم وبما هو بعيد عن عقولهم وتصوراتهم ,واشترطوا على الذين يقبلون كرازتهم أن يقبلوا الاضطهاد من الأعداء مهما اشتدت وطأته حتى الموت الأليم بدون أن ينتقموا لأنفسهم ,حتى ولا يطلبوا النقمة من الله على مضطهديهم ,بل الأحرى يباركوهم ويدعوا لهم بالدعوات الصالحات - أع 7 :60 -فمن كان يظن أن ديانة كهذه يروج سوقها في هذا العالم الأثيم ,ولكن بما أنها من عند الله راجت بالرغم عن سهام الأعداء الملتهبة حتى أنه لم يمض عليها بضعة قرون حتى امتدت إلى كل جهات العالم وقلبت كيان الوثنية رأساً على عقب في سوريا ومصر وآسيا الصغرى واليونان والرومان إلى غير ذلك من البلدان المشهورة ,بدون سيف ولا إكراه ,بل بالإيمان واللطف والمحبة والشجاعة والأمانة حتى موت الاستشهاد مع الكرازة ببساطة الإنجيل, ألا يدل ذلك على أن روح الله القدوس أيد المسيحيين الحقيقيين ووهبهم صبراً وشجاعة حتى شهدوا لسيدهم واستمالوا قلوب الأعداء وربحوهم للإيمان بالمسيح إلى أن صاروا له جنوداً وأعواناً, نعم إننا لا ننكر أن بعض الأديان الأخرى انتشرت ,ولكن بالترغيب والتهديد العاجلين والآجلين ,مثل أن يأتي الداعون البلاد يحملون في اليد الواحدة الكتاب الذي يدعون إليه وفي اليد الأخرى السيف, ولست أخالك تجهل أن السيف عند الكثيرين برهان قاطع حتى قالوا إنه أصدق أنباءً من الكتب , وأما الترغيب مثل أن يرغبوا الناس بتعدد الزوجات وتبديلهن من حين إلى حين بما لذ وطاب في هذه الحياة الدنيا ,وتعليق رجائهم في الحياة الأخرى بزوجات أكثر وجمال رائع فتان, فإن انتشرت ديانة بمثل هذه الوسائل لا يكون انتشارها دليلاً على أنها من عند الله ,لأن الله قدوس يبغض الشر ويمقت الفجور والبغي والبهتان ,فشتان بين المسيحية وبين الأديان الأخرى,

فإن قِسْت الكتاب المقدس على الشروط التي نتوقعها بالبداهة في الوحي الحقيقي حسبما ذكرنا في المقدمة نجدها متوفرة فيه بحيث لا نتردد في الجزم بأنه موحى به من الله ,وخصوصاً لأنه يشهد من أوله إلى آخره للمسيح كلمة الله ,أي مظهره الكامل الحقيقي.

 

الفصل الثامن

كيف انتصرت المسيحية في القرون الأولى

 

لما بدأ المسيح المسيح يكرز بالإنجيل اختار من بين أتباعه اثني عشر رجلاً علّمهم الحق ودرّبهم على التبشير ,وكان هو الحق, فبمجرد وجودهم معه ومعاينتهم أعماله ومعجزاته وسماعهم أقواله وتعاليمه عرفوا الحق ,بمعنى أنهم عرفوا الله في شخص المسيح بأنه الآب السماوي القدوس الصالح - يو 14 :6-10 و17 :3 - ودعاهم رسلاً - لو 6 :13 - لأنه قصد أن يرسلهم إلى العالم - قارن سورة الصف 61 :14 - ثم لما أكمل عمله وقام من بين الأموات وكان على وشك الصعود سلّم إليهم مأمورية الكرازة ,ووكل إليهم أن يتلمذوا جميع الأمم - مت 28 :19 - ويشهدوا له إلى أقصاء الأرض - أع 1 :8 -ولما كان الإنسان ضعيفاً ومعرضاً للزلل أمرهم أن يمكثوا في أورشليم حتى يرسل إليهم الروح القدس يقوّيهم ويذكّرهم بالحق ويعصمهم من الخطأ في تبليغ الرسالة ,ويعدّ لهم القلوب ,ووعدهم بأنه يرسله بعد أيام قليلة - أع 1 :5 ويو 14 :16 و17 و26 و15 :26 و16 :7-15 وأع 1 :4 و8 - وامتثالاً لأمره - لو 24 :49 وأع 1 :5 - مكثوا في أورشليم منتظرين إتمام الوعد, ففي ختام خمسين يوماً من قيامته أو عشرة أيام من صعوده كانت الرسل مع جماعة من المؤمنين يبلغ عددهم جميعاً مائة وعشرين يصلّون ويسبحون الله, وإذا بصوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت حيث كانوا جالسين ,وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا - انظر أع 2 :1-13 - ومن ذلك الوقت ملأهم الروح القدس بالمحبة والإيمان والغيرة الصالحة والشجاعة ومعرفة الحق - يو 14 :26 و16 :13 - الذي أراد الله أن يعلنه لهم وأن يبلغوه للعالم, ومما يدل على صدق إرسالهم إلى العالم أنه وهب لهم أن يتكلموا بألسنة أخرى - أع 2 :4 -ومن ذلك الوقت لم نسمع أبداً أنهم بشروا في بلاد أجنبية بعد درس لغاتها ,لأن الله تعالى أعطاهم قوة التكلم بالألسنة كعلامة على أن روح الله يعينهم على الكرازة بأية لغة أينما ذهبوا ,وأن بعضاً من الرسل إن لم نقُل كلهم أيدهم الله بالمعجزات الباهرة في شفاء المرضى وإقامة الموتى كمعجزات سيدهم - أع 2 :43 و3 :1-11 و5 :12-16 و8 :17 و9 :31-43 - إلا أنهم عملوا هذه المعجزات باسم المسيح وليس بقوتهم ولا تقواهم - أع 3 :6 و16 .

وبعد ذلك ببضعة سنوات اهتدى بولس إلى الإيمان بالمسيح بمعجزة عجيبة - أع ص 8 - وبعثه المسيح رسولاً وأيده بالمعجزات كفائقي الرسل - أع 14 :8-10 و19 :6 و11 و12 و20 :9 و10 و28 :8 و9 -ومما يجب ملاحظته أن المعجزات أُعطيت في بداءة الديانة المسيحية إلى زمن معين لأجل تأييدها إلى آخر زمان الرسل ,ولو كانت استمرت المعجزات كل الزمان إلى العصر الحاضر لأصبحت اعتيادية وفقدت ما لها من السلطان في تأييد جماعة الرسل في ما كتبوه من الأسفار المقدسة وما كرزوا به ,ولذا أيد الله بها المؤسسين الأولين لتثبيت الإيمان وتشجيعهم على احتمال عذاب الاضطهاد - عب 2 :4 -ولم نقرأ قط لا عن المسيح ولا عن رسله أنهم عملوا المعجزات لإقناع غير المؤمنين وحملهم إلى الإيمان.

وساعد الروح القدس الرسل في مناداتهم بالإنجيل وكتاباتهم ,وعصمهم من الخطأ ,وأرشدهم إلى الحق الذي أراد الله إعلانه للناس ,فما كرزوا به وما كتبوه ليس كلامهم بل كلام المسيح - مر 13 :11 ويو 14 :26 ورو 15 :18 و19 و1كو 2 :12 و13 و1تس 2 :13 - فمن قَبِلهم قَبِل المسيح ومن رفضهم رفض المسيح ,وعلى ذلك قوله : اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي ,وَالَّذِي يُرْذِلُكُم ْ يُرْذِلُنِي ,وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الذِي أَرْسَلَنِي - لو 10 :16 - وعليه فجماعة الرسل صادقون في دعواهم بالرسالة من الله - 1كو 1 :1 وغل 1 :1 و1بط 1 :1 .

ثم أن قوة الله وفاعلية الحياة المقدسة التي عاشها المسيح على الأرض ظهرت تمام الظهور بكرازة الرسل ,لأنه لم يمض وقت طويل حتى أن ألوفاً كثيرة من اليهود بل من نفس الكهنة اعتنقوا المسيحية - أع 2 :41 و4 :4 و6 :7 و21 :20 -وكذلك آمن من الأمم جماهير كثيرة انتقلوا من الظلمة إلى النور ومن ملكوت الشيطان إلى حرية مجد أولاد الله ,ومن عبادة الأوثان البكم إلى عبادة الله الحي - 1تس 1 :9 .

ولم تُذكر معجزات العهد الجديد التي أتى بها الرسل في أسفارهم وفي مؤلفات المسيحيين الأولين فقط ,بل شهد لها اليهود كما جاء في تلمودهم, إلا أن كتبتهم المتأخرين نسبوا معجزات المسيح إلى السِّحر, وكذلك شهد لسرعة انتشار الديانة المسيحية عدد ليس بقليل من كتبة الوثنيين ,منهم بليني وتاسيتوس وسلسوس والأمبراطور يوليان المرتد ,وقد اتخذ الأعداء كل وسيلة لمحو آثار المسيحية عن وجه الأرض ولكنها بالرغم عن ذلك ثبتت أمام الاضطهادات,

ينكر بعض إخواننا المسلمين على تلاميذ المسيح لقب الرسول , ولكن بإنكارهم ذلك يُظهرون عدم اطلاعهم على نفس كتابهم الذي يدعوهم - في سورة آل عمران 3 :52 والمائدة 5 :114 والصف 16 :14 - الحواريين ,وأجمعت العلماء أن هذه الكلمة حبشية الأصل ومعناها رسول , وفي نسخة العهد الجديد الحبشية وردت كلمة الحواريين موضع كلمة رسل - انظر لو 6 :13 - وهي مشتقة من كلمة تفيد باللغة العربية معنى ارسل ولذلك لا مسلم حريص على كرامة القرآن يتجاسر أن ينكر أن تلاميذ المسيح رسل أو أن المسيح لم يُصِبْ في تسميتهم بهذا الاسم ,وأن بولس تعيّن رسولاً أيضاً بعد تعيين الرسل الأولين بمدة وجيزة حينما ظهر له المسيح من السماء وهو مسافر إلى دمشق ودعاه أولاً إلى الإيمان ثم بعثه رسولاً - أع 9 :1-30 و22 :21 ورو 11 :13 و2كو 12 :12 و1تي 2 :7 -وعدا ذلك فإن نجاح الرسل في نشر بشرى الخلاص دليل على صحة رسالتهم, لأنه ظهر ختم الله على أعمالهم,

ومن المعلوم أن المسيح نهى عن الجهاد بالأسلحة الجسدية لنشر الدين ,واعتبره جرماً جرماً عظيماً ,وعلى ذلك قوله لبطرس حالما جرد سيفه ليدافع عنه رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لِأَنَّ كُلَّ الذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِا لسَّيْفِ يَهْلِكُونَ - مت 26 :52 - وعدا ذلك فإن المسيح يكره الرّياء, والجهاد بالسلاح يضطر البعض إلى اعتناق الدين خوفاً من الموت أو الاضطهاد ,وهذا عين الرياء والنفاق, فإذاً لا يقدر السيف أن يصيّر الإنسان مسيحياً ,كما أنه ليس بالسيف انتشرت الديانة المسيحية في القرون الأولى, وحتى في عصرنا الحاضر الذي رجحت فيه قوة النصارى على العالم أجمع لا تجبر المسيحية رعاياها المسلمين أو الوثنيين على اعتناق ديانتها بالسيف ولا بما هو دونه من وسائل الإجبار ,بل تتركهم وشأنهم يبتغون الدين الذي يصادف استحسانهم ,لأنهم يعلمون أن الإيمان الحقيقي لا يمكن أن يكون بالإلزام والضغط, وعليه فكل دين ينتشر بالإكراه ليس بحق ,وبالتالي ليس من عند الله, وفضلاً عن أن السيف لم يستخدم قط لصالح المسيحيين فإنه استخدم لمقاومتهم واضطهادهم أكثر من أي دين آخر على وجه الأرض ,فإن أكثر رسل المسيح استُشهدوا في ختام حياتهم بعدما عانوا أتعاباً وضيقات تفوق الوصف في خدمة الإنجيل ,وأوصوا أتباعهم بالصبر في احتمال أنواع العذاب حباً بالمسيح, وعمل السيف فيهم وعملت النار بما أدهش مضطهديهم واستمال قلوب أعدائهم فانجذبوا إلى المسيح حتى قال كبريانوس إن دماء الشهداء بذار الكنيسة , وبات قوله مثلاً مضروباً, وليس بالفصاحة والبلاغة جُذب الناس إلى الإيمان ,بل بالعكس كانت كرازتهم بسيطة معنى ولفظاً - 1كو 2 :1-5 و12 و13 .

ولما كتبوا البشائر والرسائل - التي أطلق عليها الإنجيل - بإلهام الروح القدس ,لم يستعملوا لغة عالية لا يفهمها إلا الراسخون في العلم ,بل كتبوا ما كتبوه بأبسط العبارات مما يستطيع أن يفهمه الجمهور بغير عناء ليحصلوا من أقرب طريق على رحمة الله ونعمته ومحبته وصلاحه وحكمته ,فتُستأثر قلوبُهم إلى الخلاص , والحق يُقال إن كلام الله ينبغي أن يكون من النوع البسيط قريب التناول حتى ينتفع به السواد الأعظم من الناس الذين لا يفهمون إلا قليلاً ,وهم عند الله كالعلماء ,لأنه ليس عند الله محاباة - مز 145 :9 - وربما لأجل هذا السبب كتب الفيلسوف العظيم أفلاطون رسائل سقراط بلغة عصره المتداولة حتى يفهمها كل من يطلع عليها.

ثم أن الإنجيل لا يشجع أحداً على إشباع شهواته البهيمية ,ولا يوهمه أنه بمجرد اعترافه بالمسيحية ينجو من عقاب الدنيا والآخرة مع إصراره على خطاياه - مت 2 :21 ويو 8 :34 ورو 6 :1 و2 و11 و15-23 - ووصف طريق الخلاص بأنها ليست واسعة يعبر فيها الإنسان وخطاياه معه ,بل ضيّقة لا تسع إلا الإنسان وحده - مت 7 :13 و14 -وعلَّم المسيح ورسله جماعة المؤمنين أن ارتكاب الخطية عبودية لإبليس ,وأنه مستعد أن يمنح الحرية الحقيقية من نيره الثقيل ومن نير الأهواء الجسدية والشهوات الردية ,ومن ذلك قول الرسول بطرس أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ ,أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلَاءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الجَسَدِيَّةِ التِي تُحَارِبُ النَّفْسَ - 1بط 2 :11 - وأن يكونوا جنوداً أمناء للمسيح مستعدين أن يقدموا حياتهم ,وذلك أولى من أن يرجعوا إلى عبودية إبليس وعبادة الأصنام.

ولم يشتغل الرسل بين المتمدنين فقط ,بل اشتغلوا في كل البلاد المعروفة في عصرهم مثل مصر والشام ومكدونية وإيطاليا وغيرها ,وظهرت نعمة الله للعيان في تحويل الأشرار إلى صالحين.

ومن العصر الرسولي ابتدأت المجامع المسيحية تنعقد في كثير من المدن الشهيرة ,مثل سوريا ومصر وآسيا الصغرى واليونان ومكدونيا وإيطاليا, ولو أن المسيحية ابتدأت أولاً بين اليهود في أرضهم لكنها لم تلبث طويلاً حتى انتشرت بين أمم الأرض كافة, وكان اليهود يسافرون ويتاجرون في جهات الأرض المعروفة حينئذ ,فكان المهتدون منهم يبثون في الحل والترحال بشرى الخلاص, وأما اليهود الذين لم يؤمنوا فكانوا أول المقاومين والمعذبين للذين آمنوا ,ثم نسج علىمنوالهم بعد ذلك الوثنيون ,وأخذوا يضطهدون المسيحيين بقساوة بربرية, ولكن بالرغم من هذا الاضطهاد تقدمت النصرانية إلى أقصى أطرافالمسكونة بوسائل صالحة ,كالكرازة والصبر والمحبة واللطف وفعل الخير, فخشيت أباطرة الرومان من سطوة الإنجيل على الوثنية التي يدينون بها ,فأثاروا على المسيحيين اضطهادات عنيفة وابتدأت هذه النكبات في زمن الملك نيرون ,الذي يُقال إنه هو الذي أعدم الرسولين بطرس وبولس ,وأحرق جماهير من النصارى أحياء وجعل من أبدانهم مصابيح ومشاعل لإنارة بساتين قصره ليلاً, وكان الرومان في ذلك الوقت بلا دين ,غير أنهم كانوا يتعبدون لملوكهم وسعوا جهد استطاعتهم أن يستميلوا مواطنيهم المسيحيين إلى تلك العبادة المحرمة فلم يفلحوا ,فهجموا عليهم وساقوهم إلى قبورهم بميتات شنيعة كسوقهم إلى الوحوش في ملاعب روما ,واستولوا على أملاكهم, وتكررت هذه الكوارث من حين إلى آخر في كل أنحاء المملكة الرومانية مدة ثلاثة قرون, وهذه المملكة كانت تمتد من اسكتلندا غرباً إلى خليج العجم شرقاً ,رافعة أعلامها على شمال أفريقيا ومصر وفلسطين وسوريا وآسيا الصغرى وتركيا في أوروبا وفرنسا وألمانيا والنمسا وأسبانيا والبرتغال وبريطانيا, ومع أنها بلغت إلى هذا الحد من العظمة وضخامة الملك فما استطاعت بكل سلطانها أن تزعزع أساس الكنيسة المسيحية التي ثبتت أمام هجماتها الرهيبة كالجبل الراسي ,لأن ذراع القدير كان يحميها ,وحقَّت عليها نبوة المسيح : عَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي ,وَأَبْوَابُ الجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا - مت 16 :18 - وفضلاً عن كونها لم تتزعزع فإنها امتدت وأزهرت في وسط هذه البلايا ,إلى أن تحولت معابد الأوثان في كثير من الجهات إلى كنائس مسيحية, ومع أن النصارى غلبوا بصبرهم ولطفهم حتى عظمت طائفتهم ,إلا أنهم لم يقاوموا مضطهديهم ولم يرفعوا في وجوههم سلاحاً لا هجوماً ولا دفاعاً ,سوى سلاح الصبر والتسليم لله ,حتى يأتيهم الفرج من عنده.

وفي سنة 314 للميلاد اعتنق الملك قسطنطين المسيحية ,ولكنه لم يتعمد إلا بعد سنين كثيرة من ذلك التاريخ ,وحينئذ نجا المسيحيون من الاضطهاد ,بل علت منزلتهم لدى الهيئة الحاكمة, وقد زَّين هذا لكثير من الناس أن يتنصروا أفواجاً أفواجاً بدون توبة ولا تجديد ولا تعليم ,فأدخلوا معهم إلى الكنيسة آراء كثيرة وثنية ,ودبَّ في النصارى روح الإهمال في مطالعة الأسفار المقدسة ,وانحرفوا إلى إكرام القديسين ,وفترت محبتهم بعضهم لبعض ,وأخذت العبادة المسيحية تتميز في الطقوس والرسوم الكنائسية ,وفقدت الكثير من روحانيتها ونقاوتها الأولى ,وراجت سوق الرياء وكثرت البدع ,وعوض أن يحب أولئك النصارى بعضهم بعضاً كما أوصاهم الإنجيل أخذوا يتجادلون ويتباحثون في المواضيع التافهة ,حتى سوَّلت لهم نفوسهم أن يضطهدوا بعضهم بعضاً ,فانحدر جمهور منهم في وهدة الخطية وتعبَّد آخرون لمريم العذراء والقديسين والتماثيل, وهيجت هذه الأعمال عليهم غضب الله ,حتى أنه كما سلط على اليهود لأجل تمردهم وعصيانهم ملوك بابل وأشور واليونان والرومان ,هكذا سلط على النصارى لأجل تأديبهم العرب خصوصاً في بلاد الشرق - رؤ 9 :20 و21 - وأما الآن فكثير من الكنائس الشرقية استنارت ورفضت عبادة الصور والتماثيل ,وأقبلت تطالع الأسفار المقدسة وتسير بموجبها حسب إرشاد الروح القدس ,وقامت طائفة منهم تكرز بالإنجيل للمسلمين, وأخيراً نقول إن المسيحيين على اختلاف مذاهبهم يؤمنون بالكتاب المقدس ,ويعتقدون بالمسيح كلمة الله ,ويتكلون على كفارته التي قدمها على الصليب لأجل خطايا العالم, فليرتض الله إله كل رحمة أن ينير أذهان القراء الكرام حتى يشتركوا معنا في هذا الخلاص المجيد المقدم مجاناً للعالم أجمع بالمسيح يسوع الحي .

عودة الى الرئيسية