السماء أو مكان النعيم في المسيحية والإسلام

اسكندر جديد


السماء أو مكان النعيم في المسيحية والإسلام. إسكندر جديد. الطبعة الأولى . 1977. English title: . German title: .

القسم الأول: السماء أو مكان النعيم في المسيحية

مبني على آراء أفاضل اللاهوتيين

عبّر الكتاب المقدس عن أحوال الأبرار الأخيرة ومكان نعيمهم بأقوال متعددة منها:

1 - الحياة الأبدية

قال المسيح: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ اللّٰهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَل تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).

بهذه الآية المجيدة أعلن المسيح أن أصل الحياة الأبدية هو الفداء، وأصل الفداء محبة الله. فالإنسان مع أنه أثيم مستحق غضب الله، لم تكن إحساسات الله من جهته إحساسات الغضب والانتقام، بل عواطف المحبة. وكان مقياس هذه المحبة، أن الله بذل عن الإنسان أفضل موهبة في السماء، وهو ابنه الوحيد يسوع المسيح، فهو «عطية الله» (يوحنا 4: 10) «وعطية الله التي لا يُعبَّر عنها» (2 كورنثوس 9: 15).

وسُمِّي المسيح عطية الله، لأنه قُدّم للإنسانية مجاناً دون أن يكون لأحد حق فيه، ولا يستطيع أحد أن يثنيه على عمله. والله أرسل ابنه الوحيد لا ليملك أو يكرم، أو يمدح من الناس، بل ليكون مذلولاً من الناس ومهاناً في الجسد، ويُسخر منه، مصلوباً ومماتاً لفداء البشر. هكذا قال رسول الجهاد بولس: «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَل بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ» (رومية 8: 32) ونفهم من هذه النصوص، أن علة عطية المسيح للعالم، ليست محبة العالم لله، بل محبة الله للعالم.

وقد أخبر المسيح عن الحال التي يصير إليها الأبرار بقوله: «فَيَمْضِي هٰؤُلاَءِ (الأشرار) إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (متّى 25: 46) وتتضمن الحياة الأبدية علاوة على خلود الإنسان أنه ينال أسمى السعادة، وأنه يعاين الله ويشابهه في القداسة.

2 - المجد الأبدي

قال الرسول بولس: «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (2 كورنثوس 4: 17).

من يقرأ سيرة بولس يرَ مصائبه ثقيلة جداً. فإنه كان فقيراً جداً، يحتاج إلى الكفاف من القوت والكسوة والمأوى. وكان ضعيفاً، وأعداؤه أقوياء. جُلد مراراً لأجل المسيح ورُجم وسُجن، وانكسرت به السفينة. واحتُقر من أعدائه، وحُسب نفاية. وكانت عليه هموم كثيرة، إذ كان عليه أن يعتني بالكنائس التي أسسها، ويدفع عنها تدخلات المعلمين الكذبة، الذين كانوا يحاولون إفساد إيمانها بتعاليمهم المضلة، وبقي يعاني تلك المصائب سنين طويلة. وقد وصف بولس تلك الضيقات بأنها في غاية الثقل، إذ قال: «أَنَّنَا تَثَقَّلنَا جِدّاً فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الحَيَاةِ أَيْضاً» (2 كورنثوس 1: 8) لأن إحساسه كإحساس باقي الناس. فكان جسده يتألم من المرض والجوع والعطش والبرد والحر والتعب وكانت نفسه تتألم من الإهانة والظلم والغدر، وجحود النعمة من الذين خدمهم. لكن تقبل تلك الأرزاء بمحبة الله وصبر المسيح، وحين قابلها بالمجد العتيد أن يُستعلن وجد أنها ليس فقط خفيفة ووقتية، بل أنها تنشئ أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً، إذ يعقبها سعادة السماء، التي لا حد لعظمتها. وقد علم بأن تلك البلايا، تنشئ ذلك المجد الأبدي، لا لكونها تستحقه كأجرة، بل لأن الله بنعمته وعد بأن يثبت المؤمنين.

وهذا يتفق مع ما قاله الرسول بطرس: «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تَسْتَغْرِبُوا البَلوَى المُحْرِقَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ امْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ، بَل كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ المَسِيحِ افْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي اسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (1 بطرس 4: 12 و13).

والمراد بالمجد في هذه الآيات بهاء السماء وسمو السعادة والقداسة ووفرة المسرات. والضيقات والبلوى المحرقة، تنشئ ذلك، لأنها تزكي المؤمنين وتعدّهم للمجد العتيد، وتجعلهم يتوقون إليه ويسرون به، أكثر مما لو حصلوا عليه بلا تعب ولا ألم.

3 - راحة الله

قال الرسول: «فَلنَخَفْ، أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ وَعْدٍ بِالدُّخُولِ إِلَى رَاحَتِهِ، يُرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مِنْهُ! لأَنَّ الَّذِي دَخَلَ رَاحَتَهُ اسْتَرَاحَ هُوَ أَيْضاً مِنْ أَعْمَالِهِ، كَمَا اللّٰهُ مِنْ أَعْمَالِهِ. فَلنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلكَ الرَّاحَةَ» (عبرانيين 4: 1 و10 و11).

لأن المؤمن الذي دخل راحة الله في السماء استراح هو أيضاً من أتعابه في هذه الحياة ومن المشقات التي تكبدها في طريق الخلاص الصعب، واحتمال الكروب والاضطهادات لأجل المسيح ولأجل خدمة الإنجيل. فينظر إليها جميعها عند وصوله إلى السماء بفرح.

كما الله من أعماله، كما أكمل الله خلق العالم، ورأى أن كل شيء حسناً فرح بعمله، وعبر عن ذلك بأنه استراح في اليوم السابع. وبناء على ذلك قد سُميت راحة المسيحي في السماء براحة الله، أي أنها شبيهة براحة الله.

إنه لأمر خطير له معناه الكبير أن الله فرض التعب على الإنسان منذ أن دخلت الخطية العالم، فبعرق الوجه يحصل الإنسان على الخبز. صحيح أنه كان على الإنسان أن «يعمل الجنة ويحفظها» ولكن لم تكن هناك مرارة الضيقات والتعب. وهكذا في الفردوس السماوي الذي هو راحة الله، التي سندخلها، سيكون هناك نشاط وسيكون هناك تعبد طول الأبدية، ولكن بدون عناء وبدون تعب.

نحن نعرف مدى الراحة التي لنا الآن بإيماننا بالرب يسوع. ونعرف أيضاً مدى الراحة التي نختبرها، ونحن نحمل نيره الهين وحمله الخفيف. ولكننا رغم ذلك نعرف أننا نئن مع الخليقة التي تئن وتتمخض معاً. فمن أين هذا الأنين، ولماذا التنهد؟ الجواب أننا لن نحصل على المعنى الكامل لهذه الراحة، ما لم نعلم أنها قبل كل شيء راحة الله وليست راحتنا. في الخليقة الأولى، كان لا بد أن يكمل الله العمل كله، ويحكم على كل شيء أنه حسن، قبل أن يستريح، هكذا في الخليقة الجديدة، كل شيء فيها يجب أن يتجاوب مع الفكر الإلهي. فالخطية التي هي آخر عدو، يجب أن تبطل أبدياً. والشر بكل أنواعه وأشكاله، يجب أن يُمحى. ونتائج الخطية من آلام وأحزان وويلات الحياة والموت، يجب أن تنتهي. والكل أيضاً، يجب أن يطبع بطابع البقاء، بالمقارنة مع التغيير.

عندئذ يصبح في الإمكان أن تستطلع الخليقة الكمالات الإلهية، اللذة والسرور المجيدين. والمدينة السماوية العروس والحمل نورها ومجدها والأرض الجديدة، التي يسكن فيها البر، الكل يصبح موضوع رضاء الله المطلق. عندئذ يحسن كل شيء في عيني الله ثانية، والله نفسه يستريح من أعماله.

4 - المعرفة الكاملة

قال الرسول بولس: «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ المَعْرِفَةِ، لٰكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ» (1 كورنثوس 13: 12).

في هذه الآية تشبيه لبيان الفرق بين علمنا ونحن على الأرض، وعلمنا حين سنكون في السماء.

«ننظر في مرآة» كانت المرايا على زمن بولس صفائح معدنية مصقولة، والصور التي تظهر فيها ناقصة غير واضحة تماماً. ومثلها وسائط معرفتنا للحقائق الإلهية هنا. لأن الكلمات والإشارات والأمثال التي أعلن الله بها تلك الحقائق، لم توضحها تمام الإيضاح فلم تزل في شيء من الخفاء.

«في لغز» أصل اللغز عند الحكماء يشير إلى المقصود، إشارة خفية، فلا يُعلم إلا بعد الرؤية، فنعرف به فطنة مؤلفه ونباهة حاله. ثم أُطلق على كل كلام مُوّه معناه وهو المراد به هنا. فإعلانات العهد القديم كان معظمها بالرؤى والأحلام.

فأشبهت الألغاز، وقد أشار بولس إلى ذلك بقوله: «فَإِذْ لَنَا رَجَاءٌ مِثْلُ هٰذَا نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً. وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعاً عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ الزَّائِلِ. بَل أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى اليَوْمِ ذٰلِكَ البُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ العَهْدِ العَتِيقِ بَاقٍ غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي المَسِيحِ. لٰكِنْ حَتَّى اليَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، البُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلبِهِمْ. وَلٰكِنْ عِنْدَمَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ يُرْفَعُ البُرْقُعُ» (2 كورنثوس 3: 12 - 16) ومعنى قول الرسول، أن إعلانات الله لموسى كالألغاز بالنسبة لإعلانات الإنجيل. وقال هنا أن إعلانات الإنجيل كالألغاز بالنسبة للإعلانات في السماء.

«حينئذ» متى جاء الكامل، وجهاً لوجه، أي أننا في السماء، نحصل على معرفة الحقائق بالمشاهدة، لا بوسائط ناقصة كالتي نحصل عليها الآن بالرموز والإشارات الضعيفة الدلالة. وهذا على وفق قول يوحنا الرسول: «لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1 يوحنا 3: 2).

«سأعرف كما عرفت» أي أن معرفتنا في السماء تكون كاملة، كما أن معرفة الله أبينا كاملة.

5 - العروس امرأة الحمل

قال الرسول يوحنا: «ثُمَّ جَاءَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعَةِ المَلاَئِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُمُ السَّبْعَةُ الجَامَاتُ المَمْلُوَّةُ مِنَ السَّبْعِ الضَّرَبَاتِ الأَخِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ مَعِي قَائِلاً: هَلُمَّ فَأُرِيَكَ العَرُوسَ امْرَأَةَ الحَمَلِ» (رؤيا 21: 9).

في هذه الآية وما يليها وصف موجز للمدينة السماوية، وخلاصته تسعة أمور:

  1. أن كل مجد سكانها من الله (الآية 11).
  2. أن كل بركاتها مباحة للجميع، لأن أبوابها مفتوحة للكل، من كل الجهات (الآية 12 و13).
  3. أن كل سكانها من السماويين والأرضيين جماعة واحدة، من الملائكة والآباء والرسل والمؤمنين (الآية 13 و14).
  4. أن كل سكانها، أتوا من أمكنة مختلفة بسجايا مختلفة، لأن على أبوابها أسماء الاثني عشر سبطاً (الآية 13).
  5. إن فيها كل ما هو جميل ولذيذ، فمنع من دخولها كل ما يشين بهاءها (الآية 17 و18).
  6. أن الحقائق التي تكلم بها الأنبياء، القدماء هي مثل الجواهر الثمينة تتبين أنها مبادئ أبدية مملوءة جمالاً ومجداً (الآية 19 و20).
  7. أن سكان المدينة السماوية، يمكنهم أن يستغنوا عن الفرائض والمساعدات التي كانوا يحتاجون إليها وهم على الأرض (الآية 22 و23).
  8. أن عبيد الله ينالون في السماء كل ما كانوا يشتاقون إليه من البر هنا (رؤيا 22: 1 و2).
  9. أن واحداً من الملائكة السبعة، الذين معهم السبع الجامات أتى مع الرسول ليريه عروس الحمل الطاهرة.

6 - المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة

قال الرسول الملهم: «وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ المَدِينَةَ المُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا» (رؤيا 21: 2).

«المدينة المقدسة أورشليم الجديدة» لأن أورشليم العتيقة قد مضت مع الأرض الأولى. وأورشليم الجديدة، هي المرموز إليها بأورشليم الأرضية بعض الرمز. وذكرت صفاتها في قول الرسول: «ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ» (رؤيا 21: 1). ومن الواضح أنها ليست مدينة حرفيَّة، بل هي عبارة عن حال الأبرار في السماء. والتعبير عن السماء بمدينة متمم للأشواق السامية، كقول الكتاب عن إبراهيم أنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله (عبرانيين 11: 10)، وهذا اشتياق الجنس البشري. فهي غاية ما يستطيع الإنسان أن يدركه من درجات الكمال. وفيها كل ما يحتاج إليه الإنسان من الحاجات الشخصية، وأعظم المصنوعات الجميلة الفاخرة، وما تقوم به الأُلفة، وأفضل وسائل المعرفة. وتزيد فيها وسائل السعادة، وكل ما يتوق إليه الناس من وسائل اللذات العقلية والألفة الإنسانية والعبادة الجمهورية، معدّ في أورشليم الجديدة. ولهذا قيل: «لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللّٰهُ أَنْ يُدْعَى إِلٰهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً» (عبرانيين 11: 16).

«نازلة من السماء من عند الله» فمصدرها يحقق مجدها، ولعل في هذه العبارة إشارة إلى قول المسيح: «أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً» (يوحنا 14: 2).

«مهيأة كعروس مزينة لرجلها» شبهت كنيسة المسيح بعروس مزينة لرجلها، علاوة على تشبيهها بمدينة (مز 45: 3، إشعياء 49: 18 و61: 10 و62: 4) وزينتها التي بها تقدم للمسيح «عروساً مجيدة» هي الفضائل من حلم ووداعة وطاعة ومحبة. وتمثلت الكنيسة هنا، بأنها مغسلة من خطاياها ولابسة الثياب البيض، أي الطهارة. فهي تعطي المسيح قلبها باعتبار كونه محبها وسيدها وملكها.

7 - مسكن الله مع الناس

قال الرسول يوحنا: «وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: هُوَذَا مَسْكَنُ اللّٰهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاللّٰهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلٰهاً لَهُمْ» (رؤيا 21: 3).

في رؤيا 7: 15 قال: «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللّٰهِ وَيَخْدِمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالجَالِسُ عَلَى العَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ» أي يظللهم كما في خيمة الشهادة. والمراد بذلك، أن المجد، الذي ظهر لشعب العهد القديم، في قدس الأقداس في خيمة الاجتماع، وارتفع من الهيكل، سيرجع أيضاً إلى أحباء الله في السماء. ويظهر لهم وفقاً لقوله: «هوذا مسكن الله مع الناس». وهذا دليل على تنازل الله ومحبته لشعبه، وقربه إليهم، وحمايته لهم. والوصف مبني على خيمة الاجتماع، التي سكنها الله مع مؤمني العهد القديم. وقيل هنا إنه يسكن مع المفديين.

وهو سيسكن معهم، في مسكن حضرته، على وفق قوله: «وَالكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ» (يوحنا 1: 14).

«وهم يكونون له شعباً والله نفسه معهم إلهاً لهم» هذا على وفق قول الإنجيل «اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا) (متى 1: 23) انظر أيضاً (إشعياء 7: 14 ومزمور 37: 7 وخروج 29: 45 ولاويين 26: 1) فالناس المذكورون هنا، تبقى لهم سجاياهم الخاصة، التي كانت لهم وهم على الأرض، لكنهم يكونون خالين من كل نقص. فإبراهيم يبقى أبا المؤمنين كما كان، ويبقى داود المرنم الحلو، ويبقى الرسل تابعين الرب. ويكون الشهداء والقديسون في كل عصر وأصدقاؤنا، الذين ماتوا في الرب جزءاً من ذلك الجمهور العظيم حول العرش.

8 - أورشليم العليا

قال الرسول بولس: «وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ العُليَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعاً، فَهِيَ حُرَّةٌ» (غلاطية 4: 26).

«وأما أورشليم العليا» أي السماوية الرفيعة جداً، بدليل قوله: «مَدِينَةِ اللّٰهِ الحَيِّ: أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ» (عبرانيين 12: 22) فأورشليم الجديدة الروحية، هي عاصمة ملكوت المسيح المجيد ومركزه كما كانت أورشليم الحاضرة قصبة النظام الموسوي ومركزه. وكل مؤمن بالمسيح هو من أهل تلك المدينة.

9 - المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله

قال الرسول: «بِالإِيمَانِ (إبراهيم) تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ المَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِناً فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهٰذَا المَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ المَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللّٰهُ» (عبرانيين 11: 9 و10).

«كان ينتظر المدينة.. الخ» هذا الوصف لا يصح على أورشليم الأرضية، بل يصح على أورشليم السماوية. لذلك يجب القول إن إبراهيم إذ كان مؤمناً بالله والآخرة، أطاع الله لما أمره بالخروج من أرضه، والتغرب في أرض لا يعلم شيئاً عنها، غير مبال بالمشقات، التي تسببت له بها الغربة. لأن قلبه لم يكن معلقاً بهذه الدنيا، بل كان مشغولاً بحب السماء. وكان إيمانه متسلطاً على حياته وأعماله، فرضي أن يسكن في الخيام، لسبب إيمانه بالوصول إلى المدينة السماوية.

كان ينتظر مدينة معينة له، معروفة منه، المدينة التي لها الأساسات، أي الأساسات المعروفة منه. ولا يمكن أن يكون لتلك المدينة إلا نوع واحد من الأساسات، يوصف في سفر الرؤيا بأنه حجارة كريمة، رمزاً لله ممجداً في المسيح. ولا ريب أن المسيح نفسه هو أساس تلك المدينة السماوية. وعمله الكفاري، وهو القاعدة، التي ترتكز عليها.

تطلع إبراهيم رجل الإيمان إلى تلك المدينة فقط. فهو لم يكن هدفه التملك في أرض كنعان، فالخيمة كانت كل ما يملك هناك. وهكذا نرى أن الإيمان يطيع دعوة الله ويعيش بالانفصال عن كل ما هو هنا. وهو أيضاً يتطلع إلى الأمام إلى الوقت، الذي فيه ندخل إلى فرح الرب الكامل، في المسكن الذي أعده الله لشعبه المفديّ بدم يسوع.

10 - مدينة الله الحي

قال الرسول: «بَل قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللّٰهِ الحَيِّ: أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللّٰهِ دَيَّانِ الجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ» (عبرانيين 12: 22 و23).

«مدينة الله الحي» هذه الكلمات تفسير «لجبل صهيون» أي كما أنه كان يراد بجبل صهيون أورشليم المبنية عليه، هكذا يراد الآن بجبل صهيون المعنوي أورشليم السماوية. وهي كناية عن السماء بعينها، على نوع أن أورشليم الأرضية كانت مركز ديانة اليهود، حيث كان هيكلهم والمقام الذي تتجه إليه جمع آمالهم، والمكان الذي كان يظهر مجد الله فيه على نوع خاص للمؤمنين في العهد القديم. أما أورشليم السماوية، فهي مدينة الله الحي، كما كانت أورشليم الأرضية مدينة الملك العظيم (الإنجيل بحسب متى 5: 35).

«وإلى ربوات هم محفل ملائكة» يقابل الرسول هنا مصاحبة الملائكة للظهور الإلهي على جبل سيناء. بمحفل الملائكة في السماء ومعاشرتهم. ويخلص إلى القول إن شعب العهد القديم سيشتركون مع الملائكة في تمجيد الله عند انتقالهم إلى السماء.

في مكان آخر من هذه الرسالة، ذكر أن الإنسان أقل من الملائكة. ولكن النعمة في المسيح، وضعت كل التمييزات جانباً، وأتت بالمفديين بدم يسوع إلى ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار «مكتوبين في السموات» وهذا يعني أن أسماء المفديين مكتوبة في سفر حياة الحمل. وهذا إعلان صريح أن مركزهم في السموات. وموجز ما تعنيه الآية هو أن المشار إليهم جماعة واحدة، فيها ملائكة، وفيها مفديون من الناس أي كنيسة أبكار، وعبر عن عددهم بربوات، أي ما لا يُحصى.

11 - ميراث القديسين في النور

قال الرسول بولس: «شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ القِدِّيسِينَ فِي النُّورِ» (كولوسي 1: 12).

لقد ضم بولس نفسه إلى قارئ رسالته بقوله: «أهّلنا» وأبان ذلك بصيغة الماضي، لأن التأهيل كان لما آمنوا بالمسيح، إذ خلقهم الله جديداً بقوة الروح القدس وأهّلهم لتلك البركة العظيمة بالنعمة، لأنهم لا يستحقون من أنفسهم شيئاً من هذا الامتياز العظيم. ويؤيد ذلك قوله «لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا... بَل كِفَايَتُنَا مِنَ اللّٰهِ» (2 كورنثوس 3: 5) فالمسيح له المجد عيَّن لكل مؤمن نصيباً في ميراث القديسين في النور، بدليل قول الرسول: «الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» وقوله: «مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي القِدِّيسِينَ» (أفسس 1: 11 و18).

فالقديسون الذين نالوا هذا الميراث، والذين سينالونه، هم المؤمنون في المسيح، ممن يحيون على الأرض والذين سبقونا إلى السماء. والجميع لم ينالوا الميراث باستحقاقهم بل بنعمة الله.

«في النور» هذا من صفات ميراث القديسين، وهو يدل على أن الميراث مجيد وطاهر وبهيج وعظيم. ويُسمى شركاء ذلك الميراث أولاد النور (لوقا 16: 8 و1تسالونيكي 5: 5). وقول الرسول هنا موافق لدعوة الله له: «أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ... حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ المُقَدَّسِينَ»(أعمال الرسل 26: 17 و18). والله يؤهل المؤمنين لذلك الميراث في النور وهم سالكون في النور على الأرض. فتقديسهم يكون شيئاً فشيئاً هنا، ويكمل عند انتقالهم إلى السماء.

12 - الميراث الذي لا يفنى

قال الرسول بطرس: «مُبَارَكٌ اللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ المَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (1 بطرس 1: 3 و4).

«ولدنا لرجاء حي» كنا في حال الطبيعة بلا رجاء، ولكن ولادتنا الثانية من الله، أدخلتنا في حياة جوهرها الرجاء. والمراد بكون الرجاء حياً، أنه يحيي وأنه قوي في الرب، وأنه ينشئ الأعمال الصالحة التي سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها. وأن الغرض المنتظر منه هو الحياة الأبدية. إن كثيراً من آمالنا تموت قبلنا، فنبكي عليها، أو تموت بموتنا. ولكن هذا الرجاء الحي، يبقى معنا إلى نهاية الحياة الأرضية وبعدها. والذي ندركه في السماء، أعظم مما رجوناه على الأرض (رومية 8: 28).

«بقيامة يسوع المسيح من الأموات» لما قام المسيح ولد الرجاء الحي. وصارت قيامته للمؤمنين واسطة حياة جديدة، بالنظر إلى اتحادهم به بالإيمان. فقاموا بقيامته، وهم يحيون بحياته (رومية 6: 4).

«الميراث» هذا الميراث متعلق بولادتنا، فإن الله لما ولدنا روحياً للرجاء، ولدنا أيضاً للميراث، بدليل قول الرسول بولس: «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ اللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ المَسِيحِ» (رومية 8: 17). لقد صار المؤمنون ورثة، لأنهم أبناء الله بالتبني. ووعدهم أبوهم السماوي بالسماء ميراثاً لهم، وكان ذلك دليل حبه إياهم.

«لا يفنى» أي لا يزول كالميراث الأرضي (1 كورنثوس 9: 25) فنضطر أن نتركه. أما الميراث السماوي فهو أبدي.

«ولا يتدنس» في أحيان كثيرة، تتدنس المواريث الأرضية بالخداع أو بالظلم أو بالاختلاس. لكن الميراث السماوي، لا يلحقه شيء من المدنسات. لأن وارثه، يتقدم دوماً في المعرفة والقداسة والرغبة في خدمة الله.

«ولا يضمحل» أي لا يتلاشى مجده وبهاؤه، خلافاً للمقتنيات الأرضية الزائلة الفانية. ولعل الرسول الكريم، قابل في نفسه ميراث المؤمنين في السماء، بميراث بني إسرائيل في الأرض المقدسة، فإنه زال عنهم وتدنس بالأوثان والعصيان.

«محفوظ في السموات لأجلكم» لأنه عيَّن لكم أيها المفديون وحفظ من الله الذي منحه بالنعمة. وهو أعده لكم، منذ تأسيس العالم (متى 25: 34) وهذا ما أشار إليه بولس بقوله: «مِنْ أَجْلِ الرَّجَاءِ المَوْضُوعِ لَكُمْ فِي السَّمَاوَاتِ» (كولوسي 1: 5).

13 - الفردوس

قال الرب يسوع للص الذي صلب عن يمينه: «الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ اليَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43).

«اليوم تكون معي» هذا الوعد يعني أن المسيح واللص يموتان وأن كليهما يكونان معاً في الفردوس، ويتحقق اللص أنه ينال الراحة والفرح سريعاً.

طلب اللص من المسيح أن يذكره، في وقت ما في المستقبل. ولكن المسيح أكد له، أنه يذكره في ذلك اليوم عينه، بأخذه معه إلى الفردوس. ولا ريب أن وعد المسيح ونعمته المقترنة به، عزى نفس اللص، الذي آمن وقواها، وهو يتألم على الصليب إلى أن مات.

«في الفردوس» الفردوس اسم فارسي الأصل، ومعناه جنة. وأشار به اليهود إلى جنة عدن. ثم أخذوا يشيرون به إلى مسكن المتوفين من الأتقياء قبل قيامة الأجساد. وهو الذي يجري منه نهر الحياة، خارجاً من عرش الله، وفيه شجرة الحياة (رؤيا 2: 7).

خاطب يسوع اللص بكلام اعتاد أن يسمعه، فيمكنه أن يدركه. فأشار به إلى مكان الراحة والسعادة. فمعناه كمعنى حضن إبراهيم (متى 16: 12) وذكره بولس بقوله: «أَعْرِفُ إِنْسَاناً فِي المَسِيحِ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إِلَى الفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا» (2 كورنثوس 12: 2 و4).

14 - حضن إبراهيم

قال الرب يسوع: «فَمَاتَ المِسْكِينُ (لعازر) وَحَمَلَتْهُ المَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ» (لوقا 16: 22).

«حملته الملائكة» أي حملت نفسه. وهذا حسب اعتقاد اليهود أن الملائكة تحمل أنفس الأتقياء عند وفاتهم إلى مكان سعادة الأبرار. وهذا حق، بدليل قول الكتاب عن الملائكة: «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلخِدْمَةِ لأَجْلِ العَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الخَلاَصَ!» (عبرانيين 1: 14).

«إلى حضن إبراهيم» كان إبراهيم أباً لكل الأمة اليهودية، وبالتالي أباً للمؤمنين. فاعتقد اليهود أن الحلول في حضن إبراهيم حظ كل يهودي مؤمن. والاتكاء في حضن إبراهيم إشارة إلى نوال الراحة التامة في الفردوس، والإكرام الزائد واللذة الكاملة. وكثيراً ما يعبر عن السماء، كأنها محل وليمة. وأن القديسين يتكئون هناك مع إبراهيم وإسحق ويعقوب (متى 8: 11) وحضن إبراهيم في هذه الآية، يعبر عن الفردوس.

بعد الاستشهاد بهذه النصوص الكتابية على أن المؤمنين المفديين سيذهبون بعد الموت إلى السماء لا بد من طرح بعض الأسئلة.

1 - هل يستنتج من أقوال الكتاب المقدس أن السماء مكان كما أنها حالة؟

الجواب: يستنتج أن السماء مكان خاص، من أن جسد المسيح البشري في السماء. ولذلك يستوجب كون السماء محلاً. ويستنتج ذلك من قول الرب: «فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً» (يوحنا 14: 2) ويستنتج أيضاً من أن السماء وطناً أفضل أي سماوياً (عبرانيين 11: 10 و16) وسماء جديدة وأرضاً جديدة (رؤيا 21: 1).

2 - بأي شيء تقوم السعادة السماوية على ما أعلن لنا؟

الجواب: إن السعادة السماوية لا يمكن لحواسنا الضعيفة أن تتصورها. لأنه «لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (1 كورنثوس 2: 9) ولكننا نعلم أن سعادة السماء غير المدركة تنشأ من نظر الله. وهذا النظر، مسبب السعادة. ويحوّل النفس إلى صورة الله، جاعلاً فيها الحياة الإلهية، لكي تمتلئ بملء الله. وأن نظر الله هذا في وجه يسوع المسيح، الذي فيه كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي 2: 9) لأن الله ظهر في الهيئة كإنسان، في شخص يسوع المسيح. وهذا هو الذي يبهج النفس، إلى حد لا يبلغه التصور. ولا يستطيع البشر احتماله على الأرض. فإن بطرس ويعقوب ويوحنا، صاروا كأموات حين نظروا مجده لحظة في الجبل المقدس. وسعادة المفديين لا تنشأ من استعلان مجد الله فقط، بل من محبته أيضاً. تلك المحبة الكاملة غير المتغيرة، وغير المحدودة، التي عمل الفداء من أثمارها. وأنه لمن سعادة القديسين أن تتوسع قواهم توسعاً عجيباً. وان يتم خلاصهم كاملاً من كل خطية وحزن، وأن يخالطوا الكائنات السماوية العاقلة والآباء والرسل والشهداء وجميع المفديين. وأن يتقدموا دوماً في المعرفة وخدمة الله وتأكيد حصولهم الدائم على كل خير.

قال الرسول الملهم يوحنا: «وَذَهَبَ بِي بِالرُّوحِ إِلَى جَبَلٍ عَظِيمٍ عَالٍ، وَأَرَانِي المَدِينَةَ العَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ المُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ» (رؤيا 21: 10).

«جبل عظيم» يصعد الناس إلى قنن (قمم) الجبال، ليمتد نظرهم إلى مشاهد واسعة جميلة. أما الجبل الذي ذهب إليه الملاك بيوحنا، فهو جبل رمزي، أو مركز تُرى منه المدينة السماوية وهي على جبل آخر. وعلى ذلك الجبل الرمزي، رأى حزقيال النبي وهو في بابل أورشليم الرمزية، حين كانت أورشليم الأرضية ركاماً (حزقيال 40: 2).

«نازلة من السماء من عند الله» رآها يوحنا أولاً من بُعد، وشغل باله بما قيل له عن مسكن الله مع الناس. والملاك، وجه نظرة ثانية إلى المدينة السماوية. فوجد أن نزولها من عند الله يستلزم أن الله سبحانه وهو صانعها وبارئها.

«لَهَا مَجْدُ اللّٰهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ» (رؤيا 21: 11).

«لها مجد الله» أي السحابة المنيرة، التي كانت تحل على خيمة الاجتماع في البرية ( خروج 40: 34).

«ولمعانها شبه أكرم حجر يشب بلوري» المعنى أن المدينة كانت شفافة كالألماس، ولكنها ملونة قليلاً بخضرة كالقوس التي كانت حول العرش (رؤيا 4: 3) وهذا على وفق قول المسيح إن الكنيسة نور العالم (متى 5: 14).

«وَكَانَ لَهَا سُورٌ عَظِيمٌ وَعَالٍ، وَكَانَ لَهَا اثْنَا عَشَرَ بَاباً، وَعَلَى الأَبْوَابِ اثْنَا عَشَرَ مَلاَكاً، وَأَسْمَاءٌ مَكْتُوبَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ» (رؤيا 21: 12).

«كان لها سور عظيم وعال» هذا ما أشار إليه داود النبي بقول: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ لأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ عَجَباً رَحْمَتَهُ لِي فِي مَدِينَةٍ مُحَصَّنَةٍ» (مزمور 31: 21).

«وكان لها اثنا عشر باباً» هكذا قيل في حزقيال: بنيت الأبواب للحماية والسور العظيم العالي يحقق أمن المدينة السماوية وسلامها (حزقيال 48: 31 - 34) وهكذا قيل في زكريا: «وَأَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ، أَكُونُ لَهَا سُورَ نَارٍ مِنْ حَوْلِهَا، وَأَكُونُ مَجْداً فِي وَسَطِهَا» (زكريا 2: 5).

«وعلى الأبواب اثنا عشر ملاكاً» هذه إشارة من الله يوصي ملائكته بشعبه لكي يحفظوهم في كل طرقهم (مزمور 91: 12) فهم كحراس باعتبار كون المدينة حصناً حصيناً.

«وأسماء مكتوبة هي أسماء أسباط بني إسرائيل» يعني هذا الترتيب على وفق الترتيب الذي ذكر في سفر العدد الأصحاح الثاني من الآية الثانية إلى الحادية والثلاثين.

«مِنَ الشَّرْقِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الشِّمَالِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الجَنُوبِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ وَمِنَ الغَرْبِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ» (رؤيا 21: 13).

هذا يشير إلى أن المدينة مفتوحة لكل داخل من كل ناحية، وأن سكانها يأتون من كل قطر.

«وَسُورُ المَدِينَةِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاساً، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الحَمَلِ الاِثْنَيْ عَشَرَ» (رؤيا 21: 14).

كان البناؤون القدماء ينقشون أسماءهم على ما يبنونه. والأسس لم تكن تحت الأرض، بل كانت ظاهرة والمراد بها الأعراق السفلى من السور، وهي تحيط بكل المدينة. فأسماء الاثني عشر سبطاً تدل على خدمة أتقياء العهد القديم وأنبيائه في بناء المدينة. وأسماء الرسل تدل على تعليمهم وشهادتهم، التي بنيت عليها أسس أروشليم الروحية، وهذا موافق لقول الرسول بولس: «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ المَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ البِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ» (أفسس 2: 20 و21) فالذي كان يعرف يسوع في مدى خدمته على الأرض صار يعرفه «ابن الله» على جبل صهيون السماوي (رؤيا 14: 1) وهو «الحمل» بالنسبة للرسل (يوحنا 1: 29 و36) وكان الرسل، يأخذون تعليمهم كل يوم من الرب. فنالوا عنايته ومحبته لهم، وأخذوا منه الروح القدس ومواهبه. ووزعوا تعاليمه إلى أقاصي الأرض، فحق أن يقال إن الكنيسة مبنية على أساس الرسل والأنبياء. وهذا موافق لقول المسيح لبطرس: «أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هٰذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي» (متى 16: 18).

«وَالَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعِي كَانَ مَعَهُ قَصَبَةٌ مِنْ ذَهَبٍ لِكَيْ يَقِيسَ المَدِينَةَ وَأَبْوَابَهَا وَسُورَهَا» (رؤيا 21: 15).

هذه المدينة كالتي رآها حزقيال النبي في رؤياه يجب أن تقاس (حزقيال 4: 2 - 5) وكالتي رآها زكريا النبي (زكريا 2: 1 و2) وكان قياس المدينة التي رآها حزقيال والتي رآها زكريا لحمايتها من الخطر. أما قياس هذه فكان بياناً لمجدها.

«وَالمَدِينَةُ كَانَتْ مَوْضُوعَةً مُرَبَّعَةً، طُولُهَا بِقَدْرِ العَرْضِ. فَقَاسَ المَدِينَةَ بِالقَصَبَةِ مَسَافَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلفَ غَلوَةٍ. الطُّولُ وَالعَرْضُ وَالاِرْتِفَاعُ مُتَسَاوِيَةٌ» (رؤيا 21: 16).

«والمدينة كانت موضوعة مربعة» أي كانت على وضع قدس الأقداس في خيمة الاجتماع.

«مسافة اثني عشر ألف غلوة» أي بين كل بابين ألف غلوة. فمحيط المدينة ينيف على ثلاثماية ميل، ولعل المقصود أن نعرف أنها عظيمة جداً.

«الطول والعرض والعلو متساوية» المرجح أن هذا يعني ان المراد بهذا التساوي أن علوّها واحد في كل محيطها.

«وَقَاسَ سُورَهَا: مِئَةً وَأَرْبَعاً وَأَرْبَعِينَ ذِرَاعاً، ذِرَاعَ إِنْسَانٍ (أَيِ المَلاَكُ)» (رؤيا 21: 17).

«ذراع إنسان» كان أعلى سور سليمان مئة وعشرين ذراعاً (2 ملوك 3: 4) وكان علو بعض سور بابل ثلاثماية قدماً. ونلاحظ في هذه أن ذراع الملاك كذراع الإنسان.

«وَكَانَ بِنَاءُ سُورِهَا مِنْ يَشْبٍ، وَالمَدِينَةُ ذَهَبٌ نَقِيٌّ شِبْهُ زُجَاجٍ نَقِيٍّ» (رؤيا 21: 18).

«وكان بناء سورها من يشب» أي جزء سورها الذي فوق الأسس من يشب، وهو حجر كريم. وهو من نوع أحد الحجارة الاثني عشر التي كانت على صورة هرون. وقيل عن اليشب إنه أكرم حجر لامع بلوري وألوانه مختلفة متموجة.

«والمدينة ذهب نقي» الذهب أثمن المتطرقات، وهو يشير إلى فضيلة المحبة، التي هي أعظم الفضائل. فإن الله هو رب المدينة «محبة» وغنى المدينة قائم بالمحبة، وكذا كل نشاطها وخدمتها. فكل سكانها ساكنون في المحبة، ومحاطون بالمحبة.

«شبه زجاج نقي» هذا يشير إلى أن المحبة عند سكان تلك المدينة نقية وخالية من الرياء والأنانية.

«وَأَسَاسَاتُ سُورِ المَدِينَةِ مُزَيَّنَةٌ بِكُلِّ حَجَرٍ كَرِيمٍ. الأَسَاسُ الأَوَّلُ يَشْبٌ. الثَّانِي يَاقُوتٌ أَزْرَقُ. الثَّالِثُ عَقِيقٌ أَبْيَضُ. الرَّابِعُ زُمُرُّدٌ ذُبَابِيٌّ الخَامِسُ جَزَعٌ عَقِيقِيٌّ. السَّادِسُ عَقِيقٌ أَحْمَرُ. السَّابِعُ زَبَرْجَدٌ. الثَّامِنُ زُمُرُّدٌ سِلقِيٌّ. التَّاسِعُ يَاقُوتٌ أَصْفَرُ. العَاشِرُ عَقِيقٌ أَخْضَرُ. الحَادِي عَشَرَ أَسْمَانْجُونِيٌّ. الثَّانِي عَشَرَ جَمَشْتٌ» (رؤيا 21: 19 و20).

في هذه العبارات بيان مواد بناء الأسس في كل محيط المدينة. وهذا على وفق الوصف في رؤيا إشعياء النبي حيث يقول «هَئَنَذَا أَبْنِي بِالأُثْمُدِ حِجَارَتَكِ، وَبِاليَاقُوتِ الأَزْرَقِ أُؤَسِّسُكِ، وَأَجْعَلُ شُرَفَكِ يَاقُوتاً وَأَبْوَابَكِ حِجَارَةً بَهْرَمَانِيَّةً، وَكُلَّ تُخُومِكِ حِجَارَةً كَرِيمَةً» (إشعياء 54: 11 و12) وهذا يعني أن تنوع أشكال الأسس يدل على تنوع المواهب والخدم والوحدة في الذات، إذ لها رب واحد وروح واحد. وتلك الأسس غير مرتبة كترتيب الحجارة في صدرة هرون بل مرتبة بالنظر إلى نسبة بعض الألوان إلى بعض. وكون العدد اثني عشر يشير إلى الكمال. والمقصود بها بيان اتحادها وقوتها وجمالها، والنور السماوي يشع عليها، إظهاراً لعظمتها:

  • الأول يشب، وهو حجر كريم أخضر لامع (رؤيا 21: 11 و18)
  • الثاني ياقوت أزرق، (خروج 39: 1، حزقيال 28: 13)
  • الثالث عقيق أبيض يضرب قليلاً إلى الزرقة (خروج 28: 19)
  • الرابع زمرد زبابي (خروج 28: 17، 39: 10، حزقيال 28: 13)
  • الخامس جزع عقيقي أبيض يضرب إلى الحمرة (خروج 39: 11، حزقيال 28: 13)
  • السادس عقيق أحمر (رؤيا 4: 3)
  • السابع زبرجد، وهو أصفر ذهبي
  • الثامن زمرد سلقي، وهو أخضر يضرب إلى الزرقة
  • التاسع ياقوت أصفر، وهو لامع
  • العاشر عقيق أخضر، وهو لامع
  • الحادي عشر أسمانجوني، أي أزرق سماوي
  • الثاني عشر جمشت، وهو بنفسجي اللون

كل هذه الحجارة الثمينة تليق بالمدينة السماوية فهي مختلفة الألوان متفقة في الجمال.

«وَالاِثْنَا عَشَرَ بَاباً اثْنَتَا عَشَرَةَ لُؤْلُؤَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الأَبْوَابِ كَانَ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ. وَسُوقُ المَدِينَةِ ذَهَبٌ نَقِيٌّ كَزُجَاجٍ شَفَّافٍ» (رؤيا 21: 21).

«الاثنا عشر باباً...» كانت الأسس متنوعة لكن الأبواب متماثلة. وهذا يشير إلى أن كل الذين يدخلون المدينة من طرق مختلفة، يدخلون من باب واحد وهو المسيح (يوحنا 10: 7).

«وَلَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلاً، لأَنَّ الرَّبَّ اللّٰهَ القَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ وَالحَمَلُ هَيْكَلُهَا» (رؤيا 21: 22).

فليس من احتياج إلى المعونات والفرائض والذبائح الهيكلية في العبادة المسيحية، كالعادة في الديانة اليهودية. وليس من احتياج إليها في العبادة السماوية. فكل الفرائض والنوافل ستبطل، كل السياسات الكنيسية ستزول. ويبقى الله، الكل في الكل. فيكون هو الهيكل والمقدس (حزقيال 48: 35، يوحنا 14: 2). وليس من مكان في السماء، أقدس من غيره، فكلها مقدسة، والله والحمل قدَّسا كل مواضعها بحضورهما الدائم، لأنهما موضوع العبادة، ولأن الذبيحة العظيمة، أي الحمل هناك.

«وَالمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى القَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللّٰهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالحَمَلُ سِرَاجُهَا» (رؤيا 21: 23).

«لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر» لأن الله نور ومسكنه النور والقداسة الفائقة، وليس فيه ظلمة البتة (1 يوحنا 9: 5) والنور في أورشليم السماوية، يضيء كما ضاء في قدس أقداس هيكل سليمان. والقول موافق لما جاء في نبوة إشعياء، حيث يقول: «لاَ تَكُونُ لَكِ بَعْدُ الشَّمْسُ نُوراً فِي النَّهَارِ، وَلاَ القَمَرُ يُنِيرُ لَكِ مُضِيئاً، بَلِ الرَّبُّ يَكُونُ لَكِ نُوراً أَبَدِيّاً وَإِلَهُكِ زِينَتَكِ» (إشعياء 60: 19).

«والحمل سراجها» بالنظر إلى عمله الأرضي فادياً ووسيطاً. ولنذكر أن المسيح كان في يوم الفداء كنعجة تُساق إلى الذبح. فهو الذي يمنح المدينة مجداً وسروراً. وكون الحمل سراجها، يذكرنا بالمنارة الذهبية في الخيمة والهيكل.

«وَتَمْشِي شُعُوبُ المُخَلَّصِينَ بِنُورِهَا، وَمُلُوكُ الأَرْضِ يَجِيئُونَ بِمَجْدِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا» (رؤيا 21: 24).

«وملوك الأرض يجيئون» رأى يوحنا على الأرض في عصره كنائس المسيح مهانة مضطهدة صغيرة، لكنه رأى في رؤياه، أنها في المستقبل واسعة مكرمة، كما كانت تكرم الملوك.

«وَأَبْوَابُهَا لَنْ تُغْلَقَ نَهَاراً، لأَنَّ لَيْلاً لاَ يَكُونُ هُنَاكَ» (رؤيا 21: 25).

أبوابها لن تغلق نهاراً للسلام والأمن وزوال الخطر وانتفاء الأعداء.

«لأن ليلاً لا يكون» لأن الله شمسها. فالخطية تجعل العالم مظلماً، والحزن ينفي النور عن بيوت الناس ومن قلوبهم. وكذا المرض. لأن كل هذه الأسباب تكون قد زالت إلى الأبد. وهذا موافق لنبوءة إشعياء إذ يقول: «وَتَنْفَتِحُ أَبْوَابُكِ دَائِماً. نَهَاراً وَلَيْلاً لاَ تُغْلَقُ. لِيُؤْتَى إِلَيْكِ بِغِنَى الأُمَمِ وَتُقَادَ مُلُوكُهُمْ» (إشعياء 60: 11).

«وَيَجِيئُونَ بِمَجْدِ الأُمَمِ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا» (رؤيا 21: 26).

إن تقدمات الأمم في أورشليم الأرضية تشهد لهم بالشكر لله والمحبة والعبادة. فنسب هنا لأورشليم السماوية، ما كان لأورشليم الأرضية من إكرام ملوك الأمم.

«وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً، إِلاَّ المَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ» (رؤيا 21: 27).

«لن يدخلها شيء دنس» مع أن أبوابها مفتوحة أبداً. وهذا تأكيد للوعد القائل أن لا يدخل السماء خطية.

«إلا المكتوبين في سفر حياة الحمل» هذا دليل على أن علة خلاص المفديين ليست أعمالهم الصالحة، بل تكفير المسيح لخطاياهم بدمه. وأن خلاص المؤمنين حتى قديسي العهد القديم، متوقف على المسيح ومحبة الله منذ الأزل.

«وَأَرَانِي نَهْراً صَافِياً مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعاً كَبَلُّورٍ خَارِجاً مِنْ عَرْشِ اللّٰهِ وَالحَمَلِ» (رؤيا 22: 1).

«أراني» أي الملاك «نهراً صافياً» هذا النهر يشبه الذي كان يجري في جنة عدن (تكوين 2: 10) إلا أن ينبوع نهر المدينة السماوية، أسمى من ينبوع نهر جنة عدن. ويشبه الينبوع الذي رأه يوئيل النبي إذ قال: «وَمِنْ بَيْتِ الرَّبِّ يَخْرُجُ يَنْبُوعٌ وَيَسْقِي وَادِي السَّنْطِ» (يوئيل 3: 18) والينبوع الذي وصفه حزقيال بأنه يجري من تحت عتبة بيت الله، وكان يزداد اتساعاً وعمقاً وعظمة، كلما زاد جرياناً. ويأتي بالحياة لكل نفس تدب حيثما يأتي النهر (حزقيال 47: 1 - 12) والذي عبّر عنه بنهر النعمة، إذ قال «يَرْوُونَ مِنْ دَسَمِ بَيْتِكَ وَمِنْ نَهْرِ نِعَمِكَ تَسْقِيهِمْ. لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الحَيَاةِ» (مزمور 36: 8 و9).

«خارجاً من عرش الله والحمل». أي أن ينبوعه من عند الله ويلزم منه أن ينبوعه واحد وهو عرش الله والحمل، أي النعمة اللامحدودة، وهذا موافق لقول المسيح: «مَنْ يَشْرَبُ مِنَ المَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ المَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا 4: 14).

«فِي وَسَطِ سُوقِهَا وَعَلَى النَّهْرِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ تَصْنَعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ثَمَرَةً، وَتُعْطِي كُلَّ شَهْرٍ ثَمَرَهَا، وَوَرَقُ الشَّجَرَةِ لِشِفَاءِ الأُمَمِ» (رؤيا 22: 2).

«في وسط سوقها وعلى النهر من هنا وهناك» يظهر من العبارة أن النهر يجري في وسط المدينة. وهذا مبني على ما ورد في تكوين 2: 9، حيث يقول: وشجرة الحياة في وسط الجنة.

«تصنع اثنتي عشرة ثمرة» يعني أن أثمارها، تكفي الجياع إلى البر، كما أن مياه نهر الحياة يكفي العطاش إلى البر (متى 5: 6) وحملها كل شهر يشير إلى كثرة أثمارها وديمومتها.

«وورق الشجرة لشفاء الأمم» قيل سابقاً أن لا مرض هناك، ولا وجع (رؤيا 21: 4) وأبان هنا علة حفظ الصحة أبداً. والأمم هنا تعني المذكورين في (رؤيا 21: 24). كان كل من نهر الحياة وشجرة الحياة في جنة عدن. وكذلك هما في الجنة السماوية. وأما ما قيل عن الثمار الاثنتي عشرة فهو على عدد أسس المدينة وعدد أبوابها. وهي تشير إلى الفداء الروحي وكونها من فرع واحد يدل على الاتحاد.

«فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا 14: 2 و3).

في هذه العبارات عبّر الرب يسوع عن السماء بمسكن الله. لأنه تعالى يظهر مجده هنا بأكثر البهاء والجلال. وهذا على وفق ما جاء في المزامير: الساكن في السموات (مزمور 2: 4) «مِنَ السَّمَاوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ... مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الأَرْضِ» (مزمور 33: 13 و14) وجاء في نبوة إشعياء: «تَطَلَّعْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَانْظُرْ مِنْ مَسْكَنِ قُدْسِكَ» (إشعياء 63: 15).

فالمسيح له المجد صرّح بأنه ذاهب إلى السماء. وعزى خاصته بوعده بأنه سينقلهم إلى السماء، وفي هذا تعزية لنا جميعاً، إذ نعلم منه أن السماء بيت أبينا، فإذاً هي وطننا.

«منازل كثيرة» قصد المسيح هنا بيان سعة السماء، والتأكيد لخاصته بأنهم سيجتمعون به في تلك المنازل، التي ستضمهم مع سائر المفديين، مع كل جنود الملاكئة.

«أنا أمضي لأعد لكم مكانا». هذا كقول الرسول: أن يسوع دخل السماء كسابق لأجلنا (عبرانيين 6: 20) أي أن يسوع هو العربون الأكيد على أننا نحن المؤمنين سندخل أيضاً السماء، في الوقت المعين منا لله، لنمكث في المنازل التي أعدها في بيت الآب لجميع المفديين بدمه الكريم.

«حيث أكون أنا تكونون أنتم» هنا يؤكد المسيح للمؤمنين به، أنهم يكونون حيث هو. وأعظم مسرات المؤمنين أن يكونوا مع الرب كل حين. لذلك حين نذكر ذهابنا من هذا العالم، يجب أن لا نتصور الموت آتياً لملاشاتنا، بل أن نتصور المسيح آتياً لإتمام خلاصنا. وأن لا نفتكر في خسارتنا هنا، بل في ربحنا هناك. وأن لا نهتم لفراق الأصدقاء على الأرض، بل أن نهتم بلقاء الأصدقاء في السماء. صحيح أن الموت هائل، بالنسبة لمن لا يعلم إلى أي مكان يذهب بعد الموت. ولكن ليس هكذا بالنسبة لمن أنار لهم المسيح الحياة والخلود بالإنجيل، فتحققوا أنهم يذهبون إلى بيت أبيهم السماوي، ليكونوا مع أخيهم الأكبر يسوع المسيح.

نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين: «وَأَمَّا المَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلخَيْرَاتِ العَتِيدَةِ، فَبِالمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ المَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هٰذِهِ الخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَل بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً» (عبرانيين 9: 11 و12).

في هذه الكلمات نجد الفرق المبارك بين رجاء عهد الناموس، وبين رجاء عهد النعمة، فبالنسبة لليهودي في وقت الناموس كانت الخيرات العتيدة غير موجودة بعد. كانت عتيدة آتية، ولم تعلن حتى أكمل عمل المسيح، وفتح الطريق إلى محضر الله، إلى ذلك الكنز الذي منه تدفق كل غنى النعمة الإلهية، وكل بركات محبة الله في المسيح. فالخيرات المتوقعة، التي كان ينتظرها اليهودي، ويجب أن ينتظرها هي الخيرات المسيحية، أي الكمال الذي وعد به المسيح، حين قال: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَل لأُكَمِّلَ» (متى 5: 17) وهو يشير بذلك إلى الفداء بدليل قوله على الصليب: «قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا 19: 30).

إن الخيرات التي نتجت عن الفداء هي أيضاً برسم المستقبل، بالنسبة لنا، فنحن نتكلم عن كون المؤمنين في الأقداس بالنسبة لاقترابهم إلى الله. ولكن بالنسبة للجسد، ما زلنا في البرية، معرضين لتغييرات وتجارب الطريق المتعبة، والباب الضيّق. والمؤمنون أنفسهم يشاركون في أنين الخليقة. لقد أتى المسيح بالخيرات، وحققها الروح القدس بالنسبة لإيماننا، و لكن ارتحالنا إلى السماء ما زال مستقبلاً. لقد عرفنا بركات الله بغفران الخطايا، وذقنا أن الرب طيب، ونعمنا بالسلام مع الله بربنا يسوع المسيح، ولكن هناك بركات آتية ما زلنا ننتظرها.

لقد عرفنا نعمة المسيح المخلصة، وتمتعنا بتعزياته خلال البلايا المحرقة. وكان المسيح معنا في تجاربنا القاسية، وواسانا في أحزاننا وساندنا في كل خيبة أمل. ووقف إلى جانبنا في كل ما يحزن النفس ويسحقها. وكرئيس كهنة كان كافياً لنفوسنا، وموجداً كل ما نحتاجه في مختلف ضعفاتنا. ولكنه نال خيرات أكثر ما زالت برسم الآتي.

نحن لا نعلم ما ينتظرنا من أحداث. ولكننا نعلم أننا سنكون مع المسيح في السماء. ولنا أن نتطلع بالإيمان إلى أعلى، وأن نفكر في المجد الذي أمامنا في المسيح. لأن المسيح سأل الآب من أجلنا إذ قال: «أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هٰؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي» (يوحنا 17: 24). ولنا أن نتطلع بالإيمان إلى فوق، إلى ميراثنا في المسيح، حيث لم تره عين، ولم تسمع به أذن وما لا يخطر على بال إنسان.

هذه كلها من الخيرات العتيدة، التي أعدها المسيح. وعندما تدور الأبدية اللانهائية دورانها، فإننا لن نستنفد ملء البركة التي أعدها قلب الله ومحبة المسيح لكل مؤمن. ويمكنك أيها المؤمن بيسوع بكل ثقة ويقين، أن ترى مكتوباً على أبواب السماء نفسها «الخيرات العتيدة» خيرات متجددة، تستمتع بها النفس بلا مال ولا تعب في فرح دائم وشعور متجدد بالغبطة كلما قاسمنا فادينا المبارك ثمار ما ربحه لنا.

نقرأ في الرسالة الثانية إلى كورنثوس: «فَإِذاً نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الجَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ» (2 كورنثوس 5: 6 و8).

في هذه العبارات حسب الرسول بولس القرب من الرب جوهر سعادة السماء. ولأنه موقن بأن ذلك سيكون عاقبة موته، لم يبال بنقض جسده المعبّر عنه بالخيمة الأرضية. وبقي الرسول المغبوط مسروراً في أثناء أتعابه ومشقاته، التي قربت وقت انتقاله من وطنه الأرضي الوقتي إلى وطنه السماوي الأبدي، فقال: «نثق» أي نبقى مطمئنين بالرغم من الأخطار والآلام، وانتظار الموت على توالي الأيام. وقد قال هذا لأن ذهابه إلى حيث المسيح، بعد الوفاة، لم يكن موضع ريب، ولا مجرد مشتهيات بل كان من اليقينيات. ولم يحصل على ذلك إلا من الله. وما وهبه الله له، مستعد أن يهبه لكل عبد أمين. ولهذا قال: «نسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد» أي نموت ونذهب إلى حيث يظهر المسيح لشعبه. وهذا اليقين عنيه كان عند الرسول يوحنا، وقد عبّر عنه بالقول: «وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1 يوحنا 3: 2) وهذه المماثلة تكون قبل القيامة روحية، ولكنها تكون بعدها حسية. فيكون جسد المؤمن مثل جسد المسيح المجيد، الذي قام فيه. وحينئذ يكمل عمل الفداء.

وواضحٌ أن الحال التي تكلم عنها الرسول يوحنا، هي ما تأكد أنه يصير إليها، عند مفارقة روحه الجسد. فهي كالحال التي أشار إليها المسيح بقوله للص الذي آمن: «الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ اليَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43).

صحيح أن الكتاب المقدس، لم يذكر بالتفصيل الحال التي تكون عليها النفس بين الموت والقيامة. ولكن الذي علمناه من نصوصه أمران.

الأول: أن تلك الحال حال الشعور، لا حال السبات إلى يوم الدين. وإلا كان وعد المسيح للص، الذي صُلب عن يمينه، بأن يكون معه يوم موته في الفردوس بلا معنى. ولكان عبثاً قول الرسول بولس: «لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ المَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 23). لأنه كان أحب إليه أن يعاشر المسيح وهو على الأرض ويخدمه بين شعبه، من أن يكون في السماء مع المسيح، وهو لا يشعر بحضور المسيح، ولا بوجوده هو هناك.

الثاني: أن تلك الحال هي حال الكون في الوطن السماوي بدليل قوله «نستوطن عند الرب»، وأن شعب الله هم نزلاء وغرباء في الأرض (فيلبي 3: 20 وعبرانيين 11: 13 و13: 14) وهم في وجودهم على الأرض معرضون للأتعاب والقتل، بين الذين يحسبونهم أجانب وأعداء. وتلك الحال التي اشتهاها بولس، ليست سوى مقدمة للمجد الأسمى والسعادة الكاملة اللذين ينالهما المؤمنون يوم القيامة. آنئذ تتحد الروح بالجسد، بعد تغييره إلى حال مجيدة.

«لأننا سنراه» قال الرسول يوحنا. ورؤية المسيح، أحسن أنواع السعادة. لأنها تستلزم المشابهة له، التي هي أعظم المجد. لأن الذي سنراه هو مجد الله، في وجه يسوع المسيح، على وفق قول الرسول بولس: «لأَنَّ اللّٰهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ المَسِيحِ» (2 كورنثوس 4: 6) وقول الرسول الرائي يوحنا: «وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ» (رؤيا 22: 4).

ومن ميزات مشاهدة المسيح، أنها تحوّل المشاهد إلى صورة المسيح، بدليل ما قيل في المزامير: «أَمَّا أَنَا فَبِالبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ» (مزمور 17: 15) وقول بولس: «الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي 3: 21).

هذه النصوص الموحى بها من الله، لا تدع مجالاً لذكر عذابات مطهرية ولا عذابات في القبر، ولا حسابات منكر ونكير، ولا لحال عدم الشعور، أو فقد الإدراك. بل إنه لمن الواضح الجلي، أنها حال سعادة مدركة.

«لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللّٰهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ. فَإِنَّنَا فِي هٰذِهِ أَيْضاً نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ. وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً. فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَل أَنْ نَلبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ المَائِتُ مِنَ الحَيَاةِ» (2 كورنثوس 5: 1 - 4).

في الأصحاح السابق، قال الرسول الكريم: «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (2 كورنثوس 4: 17) ثم كمل هنا، قائلاً: لأننا نعلم علم اليقين بما أعلنه الله لنا، أن نقض بيت خيمتنا الأرضي (أي انحلال جسدنا بالموت) ينشئ لنا مجداً. أي أن الرسول الكريم شبَّه مسكن نفسه على الأرض بالخيمة في الوهن والزوال وسهولة النقل «إن نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء» فقد شبه مسكن النفس المستقبل بالبناء، بياناً لفضله على مسكنها الخيمة الحاضرة في القوة والبقاء.

ثم بيّن الرسول، أنه يتعزى بتوقعه الانتقال من الأرض إلى السماء، وأنه ليس بمسرور جداً في حاله الحاضرة، حتى يصعب عليه تركها. وهذا برهان على علمه أن له بيتاً في السماء وهو في شدة الشوق إلى ذلك البيت.

ولشوقه إلى السماء حيث يحصل على جسد لا يقبل الموت ولا الألم ولا التعب يئن، وعلة أنينه هو أنه ما دام مستوطناً في الجسد الأرضي، فهو متغرب عن الرب (2 كورنثوس 5: 27).

وأثبت اشتياقه بالقول: «مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء». هذا التعبير «نلبس» مقتبس من الأدب اليوناني، فقد كان مؤلفو قدماء اليونان، يشبهون الجسد بثوب للنفس، كما كانوا يشبهونه ببيت لها. ومن يتوقع صعوبة في «لبس المسكن» فليذكر أن مسكن النفس السماوي، لا بد أن يكون خالياً من أعراض البيت الأرضي، المانعة له أن يكون ثوباً للنفس، فهو روحي طاهر، غير قابل للفساد.

ومراد الرسول بقوله: «فوقها» أنه يرغب في الحصول على الجسد السماوي بلا موت، كما يلبس الإنسان ثوباً فوق ثوب. فاشتهى أن يبلغ ما بلغه أخنوخ وإيليا، اللذين انتقلا إلى السماء بلا موت. وما سيبلغه المؤمنون الأحياء، عند مجيء المسيح ثانية، كما في قوله: «لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ» (1 كورنثوس 15: 51)... «فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هٰذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ البَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللّٰهِ، وَالأَمْوَاتُ فِي المَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ البَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الهَوَاءِ، وَهٰكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ» (1 تسالونيكي 4: 15 - 17).

«وإن كنا لابسين» ذلك الثوب المجيد، الذي أعده الله لنا، وهو جسد سماوي كجسد يسوع «لا نوجد عراة» أي بلا أجساد، فإن الروح عند الموت تخلع الجسد الأرضي وتتركه للقبر وترجع إلى الله. على وفق القول الإلهي «فَيَرْجِعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجِعُ الرُّوحُ إِلَى اللّٰهِ الَّذِي أَعْطَاهَا» (جامعة 12: 7) لكن الروح لا تدوم بلا جسد، بل تلبس مسكنها الذي من السماء، أي جسداً موافقاً لكل أحوالها هناك.

«فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين» في الجسد الأرضي الضعيف الفاني، بسبب شدة الآلام والضيقات والأتعاب. فبالنظر لهذه الأتعاب، اشتاق الرسول الكريم إلى أن يكون في السماء، لابساً الجسد الممجد، متمتعاً بكل ما يقترن به من السعادة.

«لسنا نريد أن نخلعها» أي نموت ونترك هذا الجسد. لأن الرسول لم يعتبر الجسد سجناً، فاشتاق من ضيقته إلى الهرب منه لينال حرية الروح، ولم تكن رغبته مجرد التخلص من التعب في هذه الدنيا، بل كان معظم رغبته أن يكون مع المسيح. وفي كلمة أخرى أن الرسول، لم يذهب مذهب قدماء الفلاسفة، إلى أن الجسد قيد للنفس، بربطها باللذات الدنيوية الدنيئة المانعة لها من الارتقاء إلى الحال السامية، التي تليق بها، وإنما الموت يطلقها من أسرها. وهو لم ير في الموت شيئاً يرغبه فيه، وإنما الذي رغبه فيه هو ما رآه بعد الموت من المجد والسعادة.

«نلبس فوقها» الثوب السماوي، أو المسكن الذي من السماء. والمعنى أنه يحصل على الجسد الممجد، أي البيت غير المصنوع بيد الأبدي في السماء، المشار إليه بقوله: «هذا الفاسد، يلبس عدم فساد. وهذا المائت يلبس عدم موت».

«لكي يُبتلع المائت من الحياة» فالرسول أراد أن يخلص من كل متعلقات الحياة الحاضرة، من ضعف وألم وعناء، ويدخل في كل متعلقات الحياة الخالدة في السماء. وهذا كما في قوله، الذي تقدم: «هٰذَا الفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ... فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الكَلِمَةُ المَكْتُوبَةُ: ابْتُلِعَ المَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (1 كورنثوس 15: 53 و54). ولعل في هذه الكلمات إعلان الرسول رغبته في أن لا يموت إن أمكن. وأن يتغيَّر وهو حي، كما سيتغير الأحياء يوم مجيء المسيح ثانية.

قال يوحنا الرائي: «وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً...» (رؤيا 5: 9 و10).

«ترنيمة جديدة» قيل عن الترنيمة إنها جديدة، لأن الدافع على الترنم بها جديد. وهو بيان استحقاق المسيح الرب الفادي. فالترنيمة إذاً هي ترنيمة الفداء الكامل، ولذلك هي جديدة. وموضوع الشكر استحقاق المسيح. وأثبت ذلك بثلاثة أمور:

الأول: أن الحمل ذُبح، وهذا يشتمل على كل تواضعه وإنكاره لنفسه كل مدة حياته على الأرض.

الثاني: أنه اشترى المختارين بدمه، وهذا يشتمل على نجاتهم من إثم الخطية والحزن والموت الثاني، ونيلهم قداسة السماء وسعادتها.

الثالث: أنه جعلهم ملوكاً وكهنة، أي أعضاء المملكة السماوية، التي يسكن معه فيها المفديون بدمه. وبناء على كون المؤمنين كلهم كهنة، صار يحق لهم أن يدخلوا إلى ما وراء الحجاب ويطلبوا البركات لأنفسهم ولغيرهم، لأنهم تقدسوا بالدم (عبرانيين 9: 21).

ولا مراء في أن هنالك ثلاثة أسباب تستوجب الشكر: (الأول) أن المؤمنين بيسوع، يؤلفون مملكة هي مملكة الله. (الثاني) أنهم جُعلوا كهنة. (الثالث) أنه وُهب لهم النسب الملوكي، على وفق قول الرسول بطرس: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ» (1 بطرس 2: 9).

«وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ العَرْشِ وَالحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مُسْتَحِقٌّ هُوَ الحَمَلُ المَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ القُدْرَةَ وَالغِنَى وَالحِكْمَةَ وَالقُوَّةَ وَالكَرَامَةَ وَالمَجْدَ وَالبَرَكَةَ» (رؤيا 5: 11 و12).

إن ما سبق من الترنيم هو ترنيم الخليقة ونواب المفديين، وهم أُعتقوا على الرجاء من عبودية الخطية والموت. ولكن أولئك النواب، لم يكونوا سوى جزء من جنود السماء. وهم ليسوا بنواب عن أولئك الجنود. وجمهور الملائكة العظيم، لم يشتركوا في ذلك الترنم إلى الوقت المذكور هنا. ثم سمع الرسول بعد قليل ترنم تسبيح الفداء العظيم مرتفعاً من كل جنود السماء. فسمع علاوة على أصوات نواب الخليقة والكنيسة أصوات الملائكة على اختلاف رتبهم. فهم في كل دوائرهم، يقدمون للحمل المذبوح تقدمة التسبيح والسجود والتعظيم بمعنى أن السماء كلها احتفت به.

أما الصفات، التي نسبت للمسيح في هذه الترنيمة فهي سبع دلالة على كمال صفاته.

«بَعْدَ هٰذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ... وَهُمْ يَصْرُخُونَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: الخَلاَصُ لإِلٰهِنَا الجَالِسِ عَلَى العَرْشِ وَلِلحَمَلِ» (رؤيا 7: 9 و10).

«وهم يصرخون» أي لا ينفكون عن الهتاف والتسبيح والتمجيد.

«الخلاص لإلهنا.. وللحمل» أي أن الخلاص، الذي نلناه بالنعمة يوجب علينا أن نحمد الله ونشكره عليه. لأنه هو مصدر الخلاص، ولأنه بذل ابنه للموت، لكي نحصل عليه. وأن نحمد الحمل ونشكره لأنه اشترى لنا الخلاص بدمه الكريم.

«وَجَمِيعُ المَلاَئِكَةِ كَانُوا وَاقِفِينَ حَوْلَ العَرْشِ وَالشُّيُوخِ وَالحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ، وَخَرُّوا أَمَامَ العَرْشِ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَجَدُوا لِلّٰهِ قَائِلِينَ: آمِينَ! البَرَكَةُ وَالمَجْدُ وَالحِكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالكَرَامَةُ وَالقُدْرَةُ وَالقُوَّةُ لإِلٰهِنَا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ» (رؤيا 7: 11 و12).

هنا يشترك الملائكة مع المفديين في الترنيم، بأن انتظموا تجاههم وتداولوه، كما في رؤيا 5: 11. وأحاطوا بالعرش دائرة عظيمة في وسطها الشيوخ نواب المفديين، والحيوانات نواب الخليقة. وفي الترنيمة نسب إلى الله سبع صفات العظمة، دليلاً على كمال تسبيحه.

1 - لباسهم

«بَعْدَ هٰذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ العَرْشِ وَأَمَامَ الحَمَلِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ» (رؤيا 7: 9).

«متسربلين بثياب بيض» هي ثياب السماء الدالة على الطهارة. والثياب البيض تشير إلى الخلاص والبر. وهي التي أشار إليها إشعياء بقوله: «فَرَحاً أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي، لأَنَّهُ قَدْ أَلبَسَنِي ثِيَابَ الخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ البِرِّ» (إشعياء 61: 10) وقد عُبر عنها في رؤيا 19: 8 بثياب البر النقي هو تبررات القديسين. وهي تشبه الثياب التي ظهر فيها يسوع على جبل التجلي ووصفها متّى الإنجيلي بقوله: «وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ» (متى 17: 2) ووصفها مرقس بقوله: «وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَالثَّلجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذٰلِكَ» (مرقس 9: 3). وقد أظهر البشيران أن الثياب التي ظهر فيها يسوع على جبل التجلي أكثر بياضاً مما في المواد الطبيعية وفي ما هو كذلك من مصنوعات الناس.

2 - طعامهم

«مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَليَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللّٰهِ» (رؤيا 2: 7).

هذا الوعد الذي جاء في آخر أسفار الكتاب المقدس، مبني على ما قيل في أولها (تكوين 2: 9) ويبدو أن البركة التي فقدها الإنسان بعصيانه لشريعة الله، وجدها المسيح، لأنه هو الذي قال «فسأعطيه» ذكرت شجرة الحياة في سفر الأمثال بقوله: «ثَمَرُ الصِّدِّيقِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ» (أمثال 11: 30). والمراد بالأكل من تلك الشجرة، هو الاشتراك في تلك الحياة التي هي الحياة الأبدية.

«مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ المَنِّ المُخْفَى» (رؤيا 2: 17).

سمع يوحنا من فم المسيح ما قاله لليهود: «الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَل أَبِي يُعْطِيكُمُ الخُبْزَ الحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ. الوَاهِبُ حَيَاةً لِلعَالَمِ... أَنَا هُوَ الخُبْزُ الحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا الخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يوحنا 6: 32 و33 و51).

فهذا المن مخفىً عنا الآن، كما أخفي قسط المن قديماً في قدس الأقداس أمام الشهادة (خروج 6: 34) وفي هذا إشارة إلى كون ينبوع الحياة المسيحية مخفي عن العالم (كولوسي 3: 3) فالمؤمنون بالمسيح يقتاتون به بالإيمان، وينالون البركات غير المنظورة من النعمة الإلهية. ولن يبقى المسيح مخفياً عن شعبه إلى الأبد فإنه سوف يأتي ثانية ليأخذهم إليه، فيرونه كما هو، ويتغيرون إلى صورته. فأكل المن السماوي، والتغير إلى صورة المسيح، هو ثواب المفديين في السماء.

«يحيا إلى الأبد» فالمسيح يعطي مختاريه من الحياة الروحية التي فيه لاتحادهم به. وهذه الحياة تشتمل على كمال القداسة والسعادة فالذي ينالها، لا يدخل في الدينونة لأنه يتبرر ثم يتقدس ثم يتمجد.

3 - شرابهم

«ثُمَّ قَالَ لِي: قَدْ تَمَّ! أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَاليَاءُ، البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي العَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الحَيَاةِ مَجَّاناً» (رؤيا 21: 6).

«قد تم» هذا كلام الجالس على العرش. ومعناه أنه أنجز ما وعد، إذ جعل كل شيء جديداً.

«أنا هو الالف والياء البداءة والنهاية» أي الأزلي الذي لا يتغير وهو علة الجديد كما هو علة القديم، وهو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل (كولوسي 1: 17 ويوحنا 1: 1).

«أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً» هذا كقوله: «أَيُّهَا العِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى المِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ» (إشعياء 55: 1). وكقوله: « مَنْ يَشْرَبُ مِنَ المَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ المَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا 4: 14). وكقوله: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَليُقْبِل إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا 7: 37 و38).

هذه الآيات المجيدة تبين لنا أن ماء الحياة مع أنه ثمين جداً، إلا أنه يعطى لنا بالنعمة بلا ثمن ولا بدل. هذه هي بشارة السماء، أن الحياة الأبدية «هبة مجانية».

«لأَنَّ الحَمَلَ الَّذِي فِي وَسَطِ العَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ» (رؤيا 7: 17).

هكذا نقرأ في المزامير: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي» (مزمور 23: 1 و2) فالرب الفادي لا ينسى خرافه في السماء، بل يسقيهم من ماء الحياة الذي يروي عطشهم إلى الأبد.

في القديم ذكر الصدوقيون للمسيح حادثة من الممكنات المستحيلة الوقوع. فإنهم فرضوا كأمر لا بدّ منه، وهو أن الموتى إن قاموا يتزوجون في السماء. فقال لهم المسيح: «لأَنَّهُمْ فِي القِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَل يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللّٰهِ فِي السَّمَاءِ» (متى 22: 30).

صرّح المسيح أن المؤمنين المخلّصين يكونون في السماء مثل الملائكة في الخلود وعدم الزيجة، وأنهم ليسوا عرضة لنوع من الجوع، أو العطش، أو الوجع، أو الموت، أو الشهوات الجسدية. وأن أجسادهم السماوية لا تقبل الفساد.

ونفي المسيح الزواج في السماء لا يلزم منه أن نفهم بأن الذين عرف بعضهم بعضاً على الأرض لا يعرف بعضهم بعضاً في السماء، ولا أن الأصدقاء هنا لا يكونون أصدقاء في السماء. إنّما حقق أنه لا يعتري الجسد الروحاني من الشهوات الجنسية، ما يعتري الجسد الحيواني لأنه كما قال الرسول: «يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً» (1 كورنثوس 15: 44).

ويلزم من تشبيه المسيح الأبرار بالملائكة، أنهم يقومون كاملين في القداسة والسعادة.

وجاء في الإنجيل بحسب لوقا: «أَبْنَاءُ هٰذَا الدَّهْرِ يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ، وَلٰكِنَّ الَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلحُصُولِ عَلَى ذٰلِكَ الدَّهْرِ وَالقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضاً، لأَنَّهُمْ مِثْلُ المَلاَئِكَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ اللّٰهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ القِيَامَةِ» (لوقا 20: 34 - 36).

نفهم بدلالة القرنية، أن الله عيّن الزيجة في هذا العالم فقط، لأن الناس يموتون فيه، فيلزم أن يولد غيرهم، ليأخذوا مكانهم. بخلاف عالم الأرواح، فإنه لا موت فيه. فلا حاجة إذن للزواج.

«الذين حسبوا» أي الذين صاروا أهلاً للحصول على ذلك الدهر. فالدهر هنا السماء، والذين حسبوا أهلاً للذهاب إلى السماء هم الأتقياء المفديون الذين ينالون الأبدية هناك.

«والقيامة من الأموات» تعني الحياة المجيدة، التي تكون القيامة مدخلاً إليها. وهي قيامة الحياة، التي ذكرت في الإنجيل بحسب يوحنا 5: 29 وهي التي عناها بولس، بقوله: «لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ» (فيلبي 3: 11) والمقصود بها حياة القداسة والسعادة التي يدخل فيها المختارون بعد الموت، حين يأخذهم المسيح إلى منازل الآب.

«لا يستطيعون أن يموتوا» لأن الله حكم بنفي الموت في السماء.

«لأنهم مثل الملائكة» وذلك في أمرين: (الأول) أنهم غيرخاضعين للموت ثانية. (والثاني) أنهم لا يحتاجون إلى الزيجة بعد.

وهم «أبناء الله» لقيامتهم وتحولهم إلى صورة المسيح. فحين كانوا على الأرض في الجسد كانوا أبناء البشر وكانوا عرضة للموت. ولما تبناهم المسيح لله، صاروا أبناء الله. ولما بلغوا السماء صاروا خالدين. وإلى هذا أشار داود النبي بقوله: «أَمَّا أَنَا فَبِالبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ» (مزمور 17: 15).

«أبناء القيامة» لأنهم ورثة كل فوائد القيامة، وفقاً لقول المسيح: «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا 14: 19). ولأنهم يأخذون في القيامة أجساداً ليست عرضة للموت. ووفق ذلك قول بولس: «هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ البُوقِ الأَخِيرِ» (1 كورنثوس 15: 51 و52).

«لا يزوّجون ولا يتزوّجون» قال المسيح ونفهم من كلامه أنه لن يكون للأبرار في السماء لا حوريات عين كاللؤلؤ المكنون للاضطجاع معهنّ. ولا ولدان مخلّدون يطوفون عليهم بأكواب وأباريق الشراب.

القسم الثاني: السماء أو مكان النعيم في الإسلام

أعد نقلاً عن أهل التفسير المسلمين

أطلق القرآن على مكان النعيم المعد للمتقين أسماء متعددة أكثرها وروداً في آيات القرآن الجنة. وقد وصفها الإمام فخر الدين الرازي بالبستان من النخيل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. والتركيب دائر على معنى الستر. وكأنها لتكاثفها وتظليلها، سُميت بالجنة (التفسير الكبير جزء 2 صفحة 126).

وهناك أسماء أخرى كثيرة، أطلقها القرآن على الجنة وهي: دار السلام (يونس 10: 25) مساكن طيبة (التوبة 9: 72) دار الخلود (البقرة 2: 25) الفردوس (الكهف 18: 107) روضة (الروم 30: 16) المقام المحمود (الإسراء 17: 79) جنة المأوى (النجم 53: 13) جنات عدن (في معظم السور) جنات النعيم (المائدة 5: 65) المقام الأمين (الدخان 44: 51) المستقر الحسن (الفرقان 25: 76) النعيم المقيم (التوبة 19: 21) جنان وعيون (الحجر 15: 45) المكان الأمين (الدخان 44: 52) حسن مآب (ص 38: 50) زُلفى وحسن مآب (ص 38: 40) روضات الجنان (الشورى 42: 22) نعم الثواب (الكهف 18: 31) جنات ونهر (القمر 54: 54) جنات المأوى (السجدة 32: 19) طوبى وحسن مآب (الرعد 13: 29) خير مستقر وأحسن مقيلاً (الفرقان 25: 24).

وقد عبر القرآن في أمكنة عديدة عن أن الجنة هي دار وإرث الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ومكان الذين اتقوا ربهم. ودار الذين يخافون ربهم. ودار الذين أحسنوا الحسنى. ودار المؤمنين والمؤمنات. ودار الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله. ودار من تاب وآمن وعمل صالحاً. ودار الذين أطاعوا الله ورسوله. ودار الذين ينفقون في السراء والضراء. ودار من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى. ودار الذين كتب في قلوبهم الإيمان. ودار السابق بالخيرات. ودار من خشي الرحمان بالغيب. ودار من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. ودار الذين هم لأمانتهم راعون. ودار المقربين. ودار عباد الله المخلصين. ودار الذين قالوا ربنا الله. ودار الذين قُتلوا في سبيل الله.

قال العلامة عفيف طبارة: اختلف الباحثون في فهم النّعيم الأخروي، وإدراك لذائذه. ففريق ذهب في كل هذه الملذات وأسباب النعيم مذهب الحقيقة، وأنها مادية جسمانية. وفريق وقف في الطرف الثاني، فتغلبت عليه الرمزية والإشارات المجازية. وهم طائفة من الصوفية والفلاسفة، وإننا نذهب إلى أن نعيم الجنة، منه ما هو مادي حسي، ومنه ما هو روحي ومعنوي. هذا هو مفهوم القرآن الكريم (روح الدين الإسلامي صفحة 127).

جاء في سورة محمد: «مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ» (سورة محمد 47: 15).

ففي هذه الآية وصف لأنهار الجنة: أنهار من ماء، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل. وكل شيء في الجنة بلا حساب، لا ينضب له معين. فهي أنهار تجري بأطايب الحياة، التي يشتهيها الإنسان... وهذه الأنهار من نوع أجود ومن طعم ألذ، ومعها كل أنواع الفاكهة. وفوق هذا كله مغفرة من ربهم (روح الدين الإسلامي صفحة 127).

قال الإمام الفخر الرازي: أن الله تعالى ذكر الماء الذي يشرب لا للطعم وهو عام الشرب. وقرن به اللبن الذي يشرب لطعمه، وهو عام الشرب. إذ ما من أحد إلا وكان شربه اللبن. ثم ذكر الخمر الذي يشرب لا للطعم، وهو قليل الشرب. وقرن به العسل الذي يشرب للطعم، وهو قليل الشرب. وقال تعالى في الخمر لذة للشاربين بأسرهم ولأن الخمر كريه الطعم قال لذة للشاربين. أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم (التفسير الكبير جزء 27، صفحة 55).

وجاء في سورة البقرة: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (سورة البقرة 2: 25).

قال الفخر الرازي في شرح هذه الآية: اعلم أن مجامع اللّذات: إما المسكن، أو الطعم، أو المنكح. فوصف الله المسكن بقوله: «جنات تجري من تحتها الأنهار». والمطعم بقوله: «كلما رزقوا من ثمرة رزقاً». والمنكح بقوله: «ولهم أزواج مطهرة». ثم أن هذه الأشياء، إذا حصلت قارنها خوف الزوال، كأن التنعم منفضاً. فبيّن تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم، فقال: «وهم فيها خالدون». فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرور (التفسير الكبير جزء 2، صفحة 126).

وقال السيوطي: أخبر الذين صدقوا بالله، وعملوا الصالحات من الفروض والنوافل، أن لهم حدائق ذات شجر ومساكن، تجري من تحت أشجارها وقصورها المياه. كلما أُطعموا من تلك الجنات قالوا هذا مثل ما رُزقنا قبله في الجنة، لتشابه ثمارها. ولهم فيها أزواج من الحور العين وغيرها مطهرة من الحيض وكل قذر، وهم فيها ماكثون أبداً (الجلالان صفحة 6 - 7).

وقال الأستاذ طبارة: أمر الله أن يبشر رسوله المؤمنين بخبر يسرهم وهو أن الله أعد لهم عنده جنات مثمرة تتخللها الأنهار الجارية تحت أشجارها وقصورها. كلما رزقه الله في هذه الجنات رزقاً من بعض ثمارها، قالوا: هذا يشبه ما رُزقنا من قبل في الدنيا. لأن هذه الثمرات، التي ينالونها تتشابه أفرادها في الصورة وفي الجنس. ولكنها تتمايز في الطعم واللذة. ولهم فيها أيضاً زوجات، كاملات الطهارة ليس فيهم ما يُعاب. وهم سيحيون في هذه الجنات، حياة أبدية خالدة.

ويقول الله تعالى في وصف الجنة: «وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً» (سورة الإنسان 76: 14) والمعنى أن ظلال الجنة قريبة لمتناولها، مظلة عليهم زيادة في نعيمهم. أما ثمارها فقد سخرت لهم لمتناولها، وسهل أخذها (روح الدين الإسلامي صفحة 127: 128).

أما الفخر الرازي فقال: «كلما رزقوا منها من ثمر رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل» تدل الآية على أنهم شبهوا رزقهم، الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك. أهو من أرزاق الدنيا، أو من أرزاق الجنة؟ والجواب فيه قولان:

القول الأول: أنه من أرزاق الدنيا. ويدل عليه وجهان: (الأول) أن الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل. فإذا رأى ما لم يألفه، نفر عنه طبعه. ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد، ثم وجده أشرف مما ألفه أولاً، عظم ابتهاجه وفرحه به. فأهل الجنة إذا أبصروا الرمانة في الدنيا، ثم أبصروها في الآخرة، وجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا، كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا. (الوجه الثاني) إن قوله: «كلما رزقوا منها» يتناول جميع المرات. فيتناول المرة الأولى. فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بدّ وأن يقولوا: هذا الذي رزقنا من قبل، ولا يعطون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة، حتى يشبه ذلك به. فوجب حمله على أرزاق الدنيا.

القول الثاني: إن المشبه به رزق أهل الجنة أيضاً. والمراد تشابه أرزاقهم. ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين: (الأول) المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات، في القدر والدرجة، حتى لا يزيد ولا ينقص (الثاني) المراد تشابههما في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول، على ما رُوي عن الحسن. ثم هؤلاء يختلفون فمنهم من يقول: الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم. فإن الرجل، إذا التذ بشيء، وأعجب به، لا تتعلق به نفسه إلا بمثله. فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه، كان ذلك نهاية اللذة. ومنهم من يقول: إنه وإن حصل الاشتباه في اللون، لكنه تكون مختلفة في الطعم (التفسير الكبير جزء 2، صفحة 129).

قوله: «أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ» (سورة آل عمران 3: 15).

قال المفسرون: جنات تجري من تحتها الأنهار، وصف لطيب الجنة. ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر. وبالجملة فالجنة، مشتملة على جميع المطالب، كما قال تعالى: «فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين»، وقوله: «أزواج مطهرة» تحقيق القول فيه، أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالزواج، اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن (التفسر الكبير جزء 7، صفحة 199 - 200).

قوله: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً» (سورة النساء 4: 57).

قال المفسرون: اعلم أنه تعالى ذكر في شرح ثواب المطيعين أموراً: أحدها، أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وثانيها أنه تعالى وصفها بالخلود، وفيه رد على جهم بن صفوان، حيث يقول: إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان. وثالثها أن لهم فيها أزواج مطهرة، والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا. ورابعها قوله: «وندخلهم ظلاً ظليلاً» قال الواحدي: الظليل المبالغة في نعت الظل. واعلم أن بلاد العرب، كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة (التفسير الكبير جزء 10، صفحة 139).

وجاء في سورة النبأ: «إِنَّ لِلمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَواعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً» (سورة النبأ 78: 31 - 36).

قال المفسرون: المفاز يحتمل أن يكون بمعنى الفوز والظفر بالبغية. ويحتمل أن يكون موضع فوز. والفوز يحتمل أن يكون المراد منه الفوز بالمطلوب. أو أن يكون المراد منه الفوز بالنجاة من العذاب، أو أن يكون المراد منه مجموع الأمرين. ويقول الفخر الرازي: وعندي تفسيره الفوز بالمطلوب، أولى من تفسير الفوز بالنجاة من العذاب، ومن تفسيره بالفوز بمجموع الأمرين.

- قوله: «حدائق وأعناباً» الحدائق جمع حديقة وهي بستان محوط عليه، من قولهم. أحدقوا به أي أحاطوا به. والتنكير في قوله «أعناباً» يدل على تعظيم حال تلك الأعناب.

- قوله: «وكواعب أتراباً» كواعب جمع كعب، وهي النواهد التي تكعبت ثديهن وتفلكت. أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة.

- قوله: «وكأساً دهاقاً» دعا ابن عباس غلاماً له، فقال: اسقنا دهاقاً. فجاء بها الغلام ملأى فقال ابن عباس: هذا هو الدهاق.

وقال عكرمة: دهاقاً: أي صافية، والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع داهق، وهو خشبتان يعصر بهما، والمراد بالكأس الخمر. قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر التقدير وخمراً ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بالدهاق.

- قوله: «لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً»... أي لا يجري بينهم لغو في الكأس التي يشربونها. وذلك لأن أهل الشراب في الدنيا يتكلمون بالباطل إذا شربوا. وأما أهل الجنة فإذا شربوا لم يتغير عقلهم، ولم يتكلموا بلغو.

- قوله: «جزاء من ربك عطاءً حساباً» قال الزجاج: المعنى جازاهم هم بذلك جزاء، وكذلك عطاء، لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد.

قرأ بن قطب «حساباً» بالتشديد، على أن الحسّاب بمعنى المحسب، كالدّراك بمعنى المدرك. وهكذا ذكره صاحب الكشاف (التفسير الكبير جزء 31، صفحة 20: 22).

- جاء في سورة آل عمران: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ» (سورة آل عمران 3: 132 و133).

قال المفسرون: (أولاً) أن المراد لو جعلت السموات والأرض طبقاً طبقاً، بحيث تكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحاً مؤلفاً من أجزاء لا تتجزأ. ثم وصل البعض بالبعض طبقاً واحداً، لكان ذلك مثل عرض الجنة. وهذا غاية في السعة، لا يعلمها إلا الله. (ثانياً) أنّ الجنة، التي يكون عرضها مثل عرض السموات والأرض، إنما تكون للرجل الواحد. لأن الإنسان إنما يرغب في ما يصير ملكاً. فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا. (ثالثا) قال أبو مسلم: إن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع، لكانت ثمناً للجنة. (رابعاً) المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة، وذلك لأن لا شيء عندنا أعرض من السموات والأرض. ونظيره قوله: «خالدين فيها ما دامت السموات والأرض» فإن أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض، فخوطبنا على وفق ما عرفناه هكذا ههنا (التفسير الكبير جزء 9 صحفة 5 - 6).

وقال مقاتل: إن السموات السبع والأرضين السبع، لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها. وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أن لكل واحد من المطيعين بهذه الصفة. وقال السدي: إن الله تعالى شبّه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك. وقال الزجاج: إن مثل هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم. وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض (التفسير الكبير جزء 29 صفحة 234).

جاء في سورة الزخرف: «يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفيِهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ» (سورة الزخرف 43: 68 - 73).

قال المفسرون: من وقائع القيامة، أنه تعالى إذا أمَّن المؤمنين من الخوف والحزن، وجب أن يمر حسابهم على أسهل الوجوه وعلى أحسنها. ثم يقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم وأنتم تُحبرون. والحبرة المبالغة بالإكرام فيما وصف بالجميل، يعني يكرمون إكراماً على سبيل المبالغة.

قال الفراء: يطاف عليهم بصحاف من ذهب، إشارة إلى المطعوم. «وأكواب» إشارة إلى المشروب (التفسير الكبير جزء 27 صفحة 224 - 225).

وقال الإمام الرازي: واعلم أنه تعالى بعث محمداً (صلعم) إلى العرب أولاً، ثم إلى العالمين ثانياً. والعرب كانوا في ضيق شديد، بسبب المأكول والمشرب والفاكهة، فلهذا السبب، تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى، تكميلاً لرغبتهم وتقوية لدواعيهم.

وقال الأستاذ طبارة: فهؤلاء عباد الله الصالحون، يناديهم الله يوم القيامة بأن لا يخافوا من العذاب، ولا يحزنوا على فراق الدنيا. فقد هيأ لهم جنات النعيم، هم وزوجاتهم جزاء أعمالهم. ثم وصف الله ما يتمتعون به من النعيم، فها هي صحاف الذهب فيها أطيب أنواع الطعام، وها هي الأكواب تحتوي على ألذ أصناف الشراب. وفي الجنة أيضاً ما تشتهيه نفوسهم وتلذ أعينهم. وهذا النعيم دائم لا يزول، كما هو نعيم الدنيا. وبعد هذا أخبر الله، أن لهم سائر أصناف الفاكهة التي يشتهونها. ... فعباد الله المخلصون يوم القيامة لهم جنات يتمتعون فيها بكل ما لذ وطاب. فيتمتعون بلذيذ الفواكه، وهي تقدم لهم وهم مكرمون، كما تقدم للملوك وذوي اليسار في الدنيا، وهم جالسون على سرر متقابلين. وكما يتمتعون بطيب المآكل، يتمتعون بلذيذ الشراب. فيؤتى لهم بالخمر، التي تتميز بلونها الأبيض ولذة طعمها. وهذه الخمر، لا تؤثر في الجسم، كما تؤثر خمر الدنيا. فلا تصدع الرأس، ولا تفسد العقل بالسكر (روح الدين الإسلامي صفحة 128 - 129).

وجاء في سورة الإنسان: «إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً» (سورة الإنسان 76: 5 - 21).

قال أهل التفسير: إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين من نِعم، ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم، فقال: «يشربون من كأس» يعني إناء فيه الشراب. ولهذا قال ابن عباس ومقاتل: يريد الخمر وفي الآية سؤالان:

الأول: إن مزج الكافور بالمشروب، لا يجعله لذيذاً، فما السبب في ذكره؟ الجواب من وجوه: (أحدهما) أن الكافور عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده. ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته. فالمعنى أن ذلك الشراب، يكون ممزوجاً بماء هذه العين (وثانيها) أن رائحة الكافور عرض، فلا يكون إلا في جسم. فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب، سمى ذلك الجسم كافوراً، وإن كان طعمه طيباً. (ثالثها) أي بأس في أن يخلق الله تعالى الكافور في الجنة، لكن من طعم طيب لذيذ، ويسلب عنه ما فيه من المضرة، ثم أنه تعالى يمزجه بذلك المشروب؟ كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من مضار.

قوله تعالى: «عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً» معناه يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم تفجيراً سهلاً لا يمتنع عليهم...

قوله تعالى: «وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً» والمعنى أنه جزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري، بستاناً فيه كل مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي. ونظيره قوله تعالى: «ولباسهم فيها حرير» ولما ذكر تعالى طعامهم وشرابهم ولباسهم، وصف مساكنهم. ثم أن المعتبر في الساكن أمور:

  1. الموضع الذي يجلس فيه، فوصفه بقوله «متكئين فيها على الأرائك» وهي السرر في الحجال، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعت.
  2. المسكن فوصفه بقوله: «لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً» وفيه وجهان (أحدهما) أن هواءها معتدل في الحر والبرد (والثاني) أن الزمهرير في لغة طي هو القمر. والمعنى أن الجنة ضياء، فلا يحتاج فيها إلى شمس وقمر.
  3. كونه بستاناً نزهاً، فوصفه بقوله: «ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً» كأنه قيل، وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد ودنوا الظلال عليهم. ويحتمل أن يقال: وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً، وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها. وذلك لأنهم وعدوا جنتين، ولمن خاف مقام ربه جنتان.

قوله تعالى: «وذللت قطوفها تذليلاً» ذكروا في ذلك وجهين: (الأول) قال ابن قتيبة: ذلك، أُدنيت منهم. من قولهم: حائط ذليل، إذا كان قصير السمك. (والثاني)، أي جُعلت منقادة ولا تمتنع على قطافها، كيف شاءوا. قال البراء بن عازب: ذلك لهم، فهم يتناولون منها كيف شاءوا. فمن أكل قائماً، لم يؤذه ومن أكل جالساً، لم يؤذه. ومن أكل مضجعاً لم يؤذه.

واعلم أنه تعالى، لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم، وصف شرابهم، وقدم عليه وصف تلك الأواني، التي فيها يشربون، فقال: «ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضة قدروها تقديراً» وفي الآية سؤالات:

  1. قال تعال: ويطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب، والصحاف هي القصاع، والغالب فيها الأكل. فإذا كان ما يأكلون فيه من ذهب، فما يشربون فيه أولى أن يكون ذهباً. لأن العادة أن يتنوق في إناء الشرب، ما لا يتنوق في إناء الأكل. وإذا دلت هذه الآية على إناء شربهم يكون من الذهب، فكيف ذكر ههنا أنه من الفضة؟ والجواب أن لا منافاة بين الأمرين، فتارة يسقون بهذا، وتارة بذاك.
  2. ما الفرق بين الآنية والأكواب؟ الجواب: قال أهل اللغة: الأكواب الكيزان، التي لا عُرَى لها. فيحتمل أن يكون على معنى أن الإناء، الذي يقع فيه الشرب كالقدح. والكوب ما صب منه في الإناء كالابريق.
  3. ما معنى كانت قواريراً؟ الجواب، هو من يكون في قوله: «كن فيكون» أي تكونت قوارير بتكوين الله لها، تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين.
  4. كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير؟ الجواب عنه من وجوه: (أحدهما) أن أصل القوارير في الدنيا الرمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة. فكما أن الله تعالى قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك هو قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة، فالغرض من هذه الآية التنبيه على أن نسبة قاروة الجنة إلى قارورة الدنيا، كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا. فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين، فكذا يكون بين القارورتين في الصفاء واللطافة (وثانيهما) قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء. وإذا كان كذلك، فكمال الفضة في بقائها ونقائها وشرفها، إلا أنه كثيف الجوهر. وكما القارورة في شفافيتها وصفاتها، إلا أنه سريع الانكسار. (وثالثها) فآنية الجنة آنية، يحصل فيها من الفضة بقاؤها ونقاؤها وشرف جوهرها، ومن القارورة. ولا يستبعد من قدرة الله تعالى الجمع بين هذين الوصفين. (ورابعها) أن المراد بالقوارير في الآية، ليس هو الزجاج. فإن العرب تسمي ما استدار من الآنية التي تُجعل فيها الأشربة ورق وصفاً قارورة. فمعنى الآية: وأكواب من فضة مستديرة صافية رقيقة.

أما قوله تعالى: «قدروها تقديراً» ففيه مسائل: (الأولى) قال المفسرون: معنى قدروها تقديراً، أي على قدر شربهم لا يزيد ولا ينقص من الري، ليكون ألذ لشربهم. وقال الربيع بن أنس: إن تلك الأواني تكون بمقدار ملء الكف. لم تعظم، فيثقل حملها. (الثانية) أن منتهى مراد الرجل في الآنية، التي يشرب منها الصفاء والنقاء والشكل. أما الصفاء فقد ذكره الله تعالى بقوله: «كانت قواريراً» وأما النقاء فقد ذكره بقوله: «من فضة» وأما الشكل فقد ذكره بقوله: «قدروها تقديراً» (الثالثة) المقدر هذا التقدير من هو؟ الجواب فيه قولان: (1) أنهم الطائفون، الذين دل عليهم قوله تعالى: «يطاف عليهم» وذلك أنهم قدروا شرابها على قدر ري الشارب (2) أنهم الشاربون، وذلك لأنهم إذا اشتهوا مقداراً من المشروب جاءهم على ذلك القدر.

قوله تعالى: «ويسقون فيها كأساً كان مزاجاً زنجبيلاً» كان العرب يحبون جعل الزنجبيل في المشروب، لأنه يحدث فيه ضرباً من اللذع. فلما كان كذلك، وصف الله شراب الجنة بذلك. ولا بد أن تكون في الطيب على أقصى الوجوه. قال ابن عباس: وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن مما في الجنة، فليس له في الدنيا إلا الاسم.

قوله تعالى: «عيناً فيها تسمى سلسبيلاً» قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، فعلى هذا، لا يعرف له اشتقاق. وقال الأكثرون: يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، أي عذب وسهل المساغ... والفائدة في ذكر السلسبيل هو أن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، وليس فيه لذعة. لأن نقيض اللذع، هو السلاسة. وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، أن معناه: سل سبيلاً إليها. وهو بعيد، إلا أن يراد جملة قول القائل: سلسبيلاً جعلت علماً للعين... وسميت كذلك لأنه لا يشرب منها، إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح.

واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس فقال:

«ويطوف عليهم ولدان مخلدون»... الأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة، التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة. فقال الفراء: يقال مخلدون مسوّرون. وروى نفطويه عن ابن الأعرابي: مخلدون مُحلّون.

قوله تعالى: «إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً» وفي كيفية التشبيه وجوه: (أحدهما) شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور. ولو كانوا صفاً، لشبهوا باللؤلؤ المنظوم (ثانيها) أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب، إذا انتثر من صدفه. لأنه أحسن وأكثر ماءً (ثالثها) قال القاضي: هذا من التشبيه العجيب، لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر، لوقوع شعاع بعضه على البعض.

واعلم أنه تعالى لما ذكر تفضيل أحوال الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى، وأعظم من هذا القدر المذكور فقال: «وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً» وفيه مسائل:

1 - اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة: قضاء الشهوة، وإمضاء الغضب، واللذة الخيالية، التي يعبر عنها بحب المال والجاه. وكل ذلك مستحقر... فالملك الكبير، الذي ذكره الله ههنا، لا بد أن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة. وما هو إلا أن تصير نفسه منتعشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت. وأما ما هو أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم. فبيّن تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع. وبيّن في هذه الآية حصول التعظيم، وهو أن كل واحد منهم، يكون كالملك العظيم. وأما المفسرون، فمنهم من حمل هذا الملك الكبير، على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره.

قال ابن عباس: لا يقدر واصف أن يصف حسنه ولا طيبه. ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة، ينظر في ملكه مسيرة ألف عام. ويرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل: لا زوال له. وقيل: إذا أرادوا شيئاً حصل. ومنهم من حمله على التعظيم، فقال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله، فيستأذن عليه. ولا يدخل عليه رسول ذي العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.

قال بعضهم: أن قوله: «إذا رأيت ثم رأيت» خطاب لمحمد خاصة. والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله (صلعم) أرأيت إن دخلت الجنة، أترى عيناي ما ترى عيناك؟ فقال: نعم. ما ترى عيناك؟ فقال: نعم. فبكى حتى مات.

قوله تعالى: «عليهم ثياب سندس خضر واستبرق» وفيه مسائل:

1 - السندس، ما رقَّ من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه. وكل ذلك داخل في اسم الحرير. قال تعالى: «ولباسهم فيها حرير» ثم قيل: إن الذين هذا لباسهم، هم الولدان المخلدون. وقيل: بل هذا لباس الأبرار. وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي أعلاها أفضلها، ولهذا قال عاليهم. ومعنى عاليهم، أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب من سندس. والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج.

قوله تعالى: «وحلوا أساور من فضة» وفيه سؤالات:

1 - قال تعالى في سورة الكهف: «أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب»، فكيف جعل تلك الأساور ههنا من فضة؟ والجواب من ثلاثة أوجه: (أحدهما) أنه لا منافاة بين الأمرين. فلعلهم يسورون بالجنسين، أما على المعاقبة أو على الجمع... (وثانيها) أن الطباع مختلفة. فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة، فوق استحسانه لصفرة الذهب. فالله تعالى يعطي كل واحد ما تكون رغبته فيه أتم، وميله إليه أشد. (وثالثها) أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للولدان، الذين هم الخدم. وأسورة الذهب للناس.

2 - السوار إنما يليق بالنساء، وهو عيب الرجال، فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب؟ الجواب: أهل الجنة، جرد مرد شباب. فلا يبعد أن يُحلوا ذهباً وفضة وإن كانوا رجالاً.

قوله تعالى: «وسقاهم ربهم شراباً طهوراً» الطهور فيه قولان:

القول الأول: المبالغة في كونه طاهراً. ثم فيه على التفسير احتمالات (أحدها) أنه لا يكون نجساً كخمر الدنيا (وثانيها) المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة، يعني ما مسته الأيدي الوضرة، وما داسته الأقدام الدنسة (وثالثها) أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك.

القول الثاني: في الطهور، أنه المطهّر. وعلى هذا التفسير في الآية احتمالات: (الأول) قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها، نزع الله ما في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذىً (والثاني) قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذاك، أتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فيطهر ذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم، مثل ريح المسك... (الثالث) أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة كما روينا. فإذا فرقوا منها، أتوا بالشراب فيشربون، فيطهر ذلك بطونهم... وهذا يدل على أن هذا الشراب، مغاير لتلك الأشربة وأنه يهضم سائر الأشربة، ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك. (الرابع) أن الروح من عالم الملائكة والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم على هذه الأرواح مشبه بالماء العذب، الذي يزيل العطش ويقوي البدن. وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة، فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة. فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس، ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض. وبعضها زنجبيلية، على طبع الحر واليبس، فيكون صاحب هذه الحالة قليل اللالتفات إلى ما سوى الله تعالى، قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات. ثم لا تزال الروح البشرية متنقلة من ينبوع إلى ينبوع، ومن نور إلى نور. ولا شك أن الأسباب والمسببات، متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود، الذي هو النور المطلق، جلّ جلاله وعزّ كماله. فإذا وصل إلى ذلك المقام، وشرب من ذلك الشراب، انهضمت تلك الأشربة المتقدمة، بل فنيت. لأن نوراً ما سوى الله تعالى، يضمحل في مقابلة نور الله، وكبريائه وعظمته. وذلك هو آخر سير الصديقين، ومنتهى درجاتهم في الارتقاء والكمال. فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله: «وسقاهم شراباً طهوراً».

واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء، قال تعالى: «إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً» وفي الآية وجهين:

الأول: قال ابن عباس: المعنى أن يقال لأهل الجنة، بعد دخولهم فيها، ومشاهدتهم لنعيمها: إن هذا كان لكم جزاء، وقد أعده الله تعالى لكم، إلى هذا الوقت كله لكم بأعمالكم، على قلة أعمالكم، كما قال حاكياً عن الملائكة إنهم يقولون لأهل الجنة: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وقال تعالى: «كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية». والغرض من ذكر هذا الكلام، أن يزداد سرورهم. وقال للمثاب: هذا بطاعتك فيكون ذلك تهنئة له، وزيادة في سروره.

الثاني: أن يكون ذلك أخباراً من الله تعالى لعباده في الدنيا، فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة: إن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي. لكم خلقتها، ولأجلكم أعددتها (التفسير الكبير جزء 30، صفحة 240 - 255).

وجاء في سورة الطور: «إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئيِنَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» (سورة الطور 52: 17 - 20).

وجاء في سورة الحاقة: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ» (سورة الحاقة 69: 19 - 24).

وجاء في سورة المرسلات «إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (سورة المرسلات 77: 41 - 43).

قال أهل التفسير: إن في هذه الآيات بيان أسباب التنعيم على الترتيب. فأول ما يكون المسكن وهو الجنات. ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط، ثم الأزواج. فهذه أمور أربعة، ذكرها الله على الترتيب. وذكر في كل واحد منها ما يدل على كمال قوله (جنات) إشارة إلى المسكن، والمسكن للجسم ضروري وهو المكان. فقال: (فاكهين) لأن مكان التنعيم قد يتنغص بأمور. وبيّن سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون بما أتاهم الله... وأما في الأكل والشرب والأذن المطلق، فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما. وقوله تعالى: «هنيئاً» إشارة إلى خلوهما عما يكون فيهما من المفاسد في الدنيا. منها أن الآكل يخاف من الأمراض فلا يهنأ له الطعام. ومنها أنه يخاف النفاد، فلا يسخو بالأكل، والكل منتف في الجنة، فلا مرض ولا انقطاع. فإن كل واحد عنده ما يفضل عنه. ولا إثم، ولا تعب في تحصيله. فإن الإنسان في الدنيا، ربما يترك لذة الأكل، لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة. أو ما فيه من قضاء الحاجة، واستقذار ما فيه، فلا يتهنأ، وكل ذلك في الجنة منتفِ (التفسير الكبير جزء 28 صفحة 248).

وجاء في سورة الواقعة: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِريِنَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمَ وِلدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» (سورة الواقعة 56: 10 - 21).

قال أهل التفسير: «أولئك المقربون»... هم المقربون في الجنات من الله. والمراد بيان تنعيم جسمهم وكرامة نفسهم. فهم مقربون عند الله، وهم في غاية اللذة وفي جنات، فجسمهم في غاية النعيم...

قوله تعالى: «يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين» هذه هي أواني الخمر، وفي الآية مسائل:

  1. الفرق بين الأكواب والأباريق والكأس... نقول: هو على عادة العرب في الشرب يكون عندهم أوان كثيرة فيها الخمر معدة موضوعة عندهم. أما الكأس فهو القدح، الذي يشرب به الخمر... فإن قيل الطواف بالكأس على عادة أهل الدنيا، وأما الطواف بالأكواب فغير معتاد فما الفائدة فيه؟ نقول عدم الطواف بها في الدنيا لدفع المشقة عن الطائف، لثقلها. وإلا فهو محتاج إليها، بدليل أنه عند الفراغ، يرجع إلى الموضع الذي هي فيه. وأما في الآخرة، فالآنية تدور بنفسها والوليد معها إكراماً، لا للحمل...
  2. «من معين» هذا بيان ما في الكأس أو بيان ما في الأكواب والأباريق؟ فنقول: يحتمل أن يكون الكل من معين...
  3. ما معنى المعين؟ قلنا في سورة الصافات إنه فعيل أو مفعول. فإن قلنا فعيل، فهو من معين الماء إذا جرى. وإن قلنا مفعول، فهو من عانه إذا شخصه بعينه وميزه. والأول أصح.

    قوله: «لا يصدعون عنها ولا ينزفون» فيه مسائل:

1 - لا يصدعون، فيه وجهان (الأول) لا يصيبهم منها صداع (الثاني) لا ينزفون عنها ولا ينفدونها ولا يمنعون عنها من الصدع... المراد هنا بيان خمر الآخرة في نفسها وبيان ما عليها. فالنظر وقع عليها لا على الشاربين. ولو كان المقصود أنهم لا يصدعون عنها لوصف منهم كما كان مدحاً لها. وأما إذا قال هي لا تصدع لأمر فيها يكون مدحاً لها. فلما وقع عليها النظر، قال عنها. أما إذا كنت تصف رجلاً بكثرة الشرب وقوته عليه، فإنك تقول في حقه هو لا يصدع من كذا من الخمر. وأما إذا وصفت الخمر فتقول هذه لا يصدع عنها أحد.

2 - قوله: «ولا ينزفون» الذي يحسن ذكره هنا: إن كان معنى لا ينزفون لا يسكرون، فنقول: إما أن نقول معنى لا يصدعون أنهم لا يصيبهم الصداع، وإما أنهم لا يفقدون. وإن قلنا بالقول الأول فالترتيب في غاية الحسن. لأنه على طريقة الارتقاء، فإن قوله تعالى لا يصدعون، أنهم لا يصيبهم الصداع. ولكن هذا، لا ينفي السكر. وإن قلنا: لا ينزفون معناه لا يفقدون، فالترتيب أيضاً كذلك. لأن قولنا لا يصدعون، أي لا يفقدون ومع كثرته ودوام شربه لا يسكرون. فإن عدم السكر لنفاد الشراب ليس بعجيب. لكن عدم السكر مع أنهم مستديمون للشراب عجيب.

قوله: «وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون» وفيه مسائل:

1 - الفاكهة لا يطوف بها الولدان؟ الجواب عنه من وجهين: (الوجه الأول) أن الفاكهة واللحم في الدنيا، يطلبان في حالتين، الأولى في حالة الشرب والأخرى في حال عدمه. فالفاكهة من رؤوس الأشجار، تؤخذ كما قال تعالى: «قطوفها دانية»... وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان، فيناولونهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة للإكرام (الوجه الثاني) أن يكون عطفاً في المعنى على جنات النعيم. أي هم المقربون، في جنات وفاكهة ولحم وحور. أي في هذه النعم يتقلبون.

2 - هل في تخصيص التخير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة؟ قلت: وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة... والذي يظهر لي فيه أن الفاكهة واللحم إذا حضرا عند الجائع، تميل نفسه إلى اللحم. وإذا حضرا عند الشبعان، تميل نفسه إلى الفاكهة. والجائع مشته، والشبعان غير مشته، وإنما هو محتار إن أراد أكل، وإن لم يرد لا يأكل...

أما قوله أهل الجنة فتكون أولاً عند أصحاب الجنة من غير سابق ميل إليها، يتفكهون بها على حسب اختيارهم. وأما اللحم فتميل أنفسهم إليه أدنى ميل، فيحضر عندهم. وميل النفس إلى المأكول شهوة، ويدل عليه هذا قوله تعالى، «قطوفها دانية» وقوله: «وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة». فهو دليل على أنها دائمة الحضور. وأما اللحم فالمروي له، أن الطائر يطير فتميل نفس المؤمن إلى لحمه، فينزل مشوياً ومقلياً على حسب ما يشتهيه... (التفسير الكبير جزء 29 صفحة 145 - 153).

جاء في سورة التوبة: «وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ» (سورة التوبة 9: 72).

قال الحسن: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن قوله: ومساكن طيبة، فقالا: على الخبير سقطت. لقد سألنا الرسول (صلعم) عن ذلك فقال: هو قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون فراشاً. على كل فراش زوجة من الحور العين. في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام. وفي كل بيت سبعون وصيفة، يعطى المؤمن من القوة من غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع.

وعن ابن عباس: أنها دار الله التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر. ولعله أراد القول: إنها دار المقربين عند الله. فإنه كان أعلم بالله من يثبت له داراً.

وعن أبي هريرة: قلت يا رسول الله حدثني عن الجنة وما بناؤها، فقال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران، وحصاؤها الدر والياقوت فيها النعيم بلا بؤس، والخلود بلا موت. لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه.

وقال عطاء عن ابن عباس: جنات عدن هي قصبة الجنة. وسقفها عرش الرحمن. وهي المدينة، التي فيها الرسل والأنبياء، والشهداء. دائمة الهدى، وسائر الجنات حولها. وفيها عين التسنيم، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب. فتهب ريح طيبة، من تحت العرش، فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر.

وقال عبد الله بن عمرو: إن في الجنة قصراً، يقال له عدن، حوله البروج. وله خمسة آلاف باب. على كل باب خمسة آلاف حرة. لا يدخله إلا النبي أو صديق أو شهيد (التفسير الكبير جزء 16 صفحة 132 - 133).

وجاء في سورة الزمر: «لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبهَّمُ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ المِيعَادَ» (سورة الزمر 39: 20).

قال المفسرون: إن من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله: «لهم غرف فوقها غرف مبنية» وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار: «لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل» فإن قيل ما معنى مبنية؟ قلنا: لأن المنزل إذا بني على منزل آخر تحته، كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني. فقوله: «مبنية» معناه، أنه وإن كان فوق غيره، لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل. والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني، حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة. أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع، ونقصانه الرخاوة والسخافة. وأما التحتاني فبالضد منه. أما منازل الجنة، فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل. وهي عالية ومرتفعة، وتكون في غاية القوة والشدة. وقال حكماء الإسلام: هذه الغرف المبنية بعضها فوق بعض، مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية. فإن بعضها يكون مبنياً على البعض، والنتائج الآخرة، التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وبصفاته، تكون في غاية القوة. بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية (التفسير الكبير جزء 26 صفحة 263).

وجاء في سورة الكهف: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً» (سورة الكهف 18: 107 و108).

قال قتادة: إن الفردوس وسط الجنة وأفضلها. وقال كعب: ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس، وفيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وقال مجاهد: الفردوس هو البستان بالروحية.

وعن النبي (صلعم) أنه قال: الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام. والفردوس أعلاها درجة، ومنها الأنهار الأربعة، والفردوس من فوقها. فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تنفجر أنهار الجنة.

وقال بعضهم: إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلاً للمؤمنين. والكريم إذا أعطى النزل أولاً، فلا بد أن يتبعه بالخلعة. وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله (التفسير الكبير جزء 21 صفحة 175).

وجاء في سورة الرعد: «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (سورة الرعد 13: 20 - 24).

قال ابن عباس: لهم خيمة من درة مجوفة، طولها فرسخ وعرضها فرسخ. لها ألف باب، مصاريعها من ذهب. يدخل عليهم الملائكة يقولون لهم سلام عليكم بما صبرتم على أمر الله (التفسير الكبير جزء 19 صفحة 44 - 45).

وجاء في سورة النحل: «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدَّنُيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ المُتَّقِينَ» (سورة النحل 16: 30 و31).

قال المفسرون: قوله، جنات يدل على القصور والبساتين. وقوله: «عدن» يدل على الدوام. وقوله: تجري من تحتها الأنهار يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم (التفسير الكبير جزء 20 صفحة 25).

وجاء في سورة الكهف: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً» (سورة الكهف 18: 30 و31).

قال المفسرون اعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر، أردفه بالتفصيل من وجوه (أولها) صفة مكانهم «أولئك لهم جنات عدن» والعدن من اللغة عبارة على الإقامة. فيجوز أن يكون المعنى: أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة. ويجوز أن يكون العدن اسماً لموضع معين في الجنة، وهو وسطها وأشرف أماكنها...

أما كيفية جلوسهم، فقال في صفتها: «متكئين فيها على الأرائك» قال الأرائك جمع أريكة، وهي سرير في حجلة... ولما وصف الله تلك الأقسام قال: نعم الثواب.. (التفسير الكبير جزء 21 صفحة 22).

وجاء في سورة الرحمن: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَاِن تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ ربِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ» (سورة الرحمن 55: 46 - 55).

قال المفسرون: «متكئين على فرش بطائنها من استبرق» الظاهر أن لكل واحد فرشاً كثيرة لا أن لكل واحد فراشاً، فلكلهم فرش عليها كائنون، والاستبرق هو الديباج معرب، بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم...

وقال أهل التفسير: قوله «بطائنها من استبرق» يدل على نهاية شرفها. فإن ما تكون بطائنها من الاستبرق تكون ظهائرها خير منها، وكأنه شيء لا يدركه البصر من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم.

قوله «جنتان» إن كانتا جسميتين، فهو يكون دائماً بينهما عن يمينه وشماله وهو يتناول ثمارها. وإن كانت إحداهما روحية والآخرى جسمية، ولكل واحدة منها فواكه وفرش تليق بها.

وقوله: «فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ. كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالمَرْجَانُ» (سورة الرحمن 55: 56 و58).

قال أهل التفسير: في أول الأمر بيّن المسكن، وهو الجنة، ثم بيّن ما يتنزه فيه، فإن من يدخل بستاناً يتفرج أولاً، فقال: ذواتاً أفنان. ثم ذكر ما يتناول من المأكول، فقال: «فيهما من كل فاكهة زوجان» ثم بعد التناول ذكر موضع الراحة، وهو الفراش. ثم ذكر ما يكون في الفراش معه... أي قاصرات الطرف... كأنه قال: فيهن نساء قاصرات الطرف... (التفسير الكبير جزء 29 صفحة 122 - 130) باختصار.

وجاء في سورة العنكبوت: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ» (سورة العنكبوت 29: 58).

قال المفسرون: في هذه الآية بيّن أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين النيران. وبيّن أن فيها غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بيّن إن تحت الكافرين النار...

وأما قوله تعالى: «لهم غرف من فوقها غرف» لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقها. والنار فوق النار وهي فوقهم. ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار، وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء. وذلك لأن النار، لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقاً، ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها... وأما الماء إذا كان تحت الغرفة، في أي وجه كان، وعلى أي بعد كان يكون ملتذاً به. فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها، وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان. ومنها أن هناك قال ذوقوا لإيلام قلوبهم، بلفظ الأمر. وقال ههنا نعم أجر العاملين لتفريح قلوبهم، لا بصيغة الأمر. وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق بعده. فإن من قال لأجيره: خذ أجرتك يفهم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه. وأما إذا قال: ما أتم أجرتك عندي! أو نعم ما لك من الأجر، يفهم منه أن ذلك عنده. ولم يقل ههنا: خذوا أجرتكم أيها العاملون.

وجاء في سورة الواقعة: «أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِريِنَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ» (سورة الواقعة 56: 11 - 16).

قال المفسرون: الموضونة هي المنسوجة القوية اللحمة والسدى. والوضين هو الحبل العريض، الذي يكون منه الحزم لقوة سداه ولحمته. والسرر التي تكون للملوك، يكون لها قوائم من شيء صلب. ويكون مجلسهم عليها، معمولاً بحرير وغير ذلك. لأنه أنعم من الخشب، وما يشبهه في الصلابة. وهذه السرر قوائمها من الجواهر النفيسة وأرضها من الذهب الممدود.

وقوله «متكئين عليها» للتأكيد والمعنى أنهم كائنون على سرر، متكئين عليها متقابلين. ففائدة التأكيد هو أن لا يظن أنهم كائنون على سرر، متكئين على غيرها.

وجاء في سورة الرحمن: «مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ» (سورة الرحمن 55: 76).

قال المفسرون: إذا قلنا أن الرفرف هي البسط، فما الفائدة في الخضر، حيث وصف تعالى ثياب الجنة بكونها خضراً. قال تعالى: ثياب سندس خضر؟ نقول: ميل الناس إلى اللون الأخضر في الدنيا أكثر لكونه مشتملاً على الألوان الأصلية.

قوله: «عبقري حسان» العبقري منسوب إلى عبقر وهو عند العرب موضع من مواضع الجن. فالثياب المعمولة عملاً جيداً يسمونها عبقريات، مبالغة في حسنها، كأنها ليست من عمل الأنس (التفسير الكبير جزء 29 صفحة 136 - 137).

جاء في سورة الكهف: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً» (سورة الكهف 18: 30 و31).

قال أهل التفسير: «قوله: يحلون أساور من ذهب» والمعنى أنه يحلّيهم تعالى ذلك، أو تحليهم الملائكة. وقال بعضهم: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: سوار من ذهب لأجل هذه الآية، وسوار من فضة، لقوله تعالى: وحلّو أساور من فضة. وأساور من لؤلؤ، لقوله تعالى: «ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير».

وأما اللباس التستر، فقوله: «يلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق»، فالأول هو الديباج الرقيق، وهو الخز. والثاني هو الديباج الصفيق. وقيل أصله فارسي معرب، وهو «استبره» أي غليظ. قيل ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي «يُحلون» وقال في السندس والاستبرق«ويلبسون» فأضاف اللبس إليهم؟ قلنا يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم، وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم، ابتداء من زوائد الكرم (التفسير الكبير جزء 21 صفحة 122).

وجاء في سورة الحج : «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» (سورة الحج 22: 23).

قال المفسرون: إن الله سبحانه، ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه:

  1. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار.
  2. الحلية، وهو قوله: يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً. فبيّن تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور. وإن كان من أحله لهم أيضاً شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا، يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة.
  3. الملبوس، وهو قوله: ولباسهم فيها حرير.
  4. الطيب، وهو قوله: وهدوا إلى الطيب، وفيه وجوه: (أحدها) إن شهادة لا إله إلا الله، هو الطيب من القول (وثانيها) قال السدي: وهدوا إلى الطيب من القول وهو القرآن (وثالثها) قال ابن عباس في رواية عطاء: هو قولهم «الحمد لله الذي صدقنا وعده» (ورابعها) أنهم ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات، التي تأتيهم من قبل الله تعالى بدوام النعم والسرور والسلام. وهو معنى قوله: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (وخامسها) وهو أن العلاقة البدنية جارية مجرى الحجاب للأرواح البشرية في الاتصال بعالم القدس. فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء، ولاحت تلك الأنوار الإلهية. وظهور تلك الأنوار هو المراد من قوله: «وهدوا إلى الطيب» (التفسير الكبير جزء 23، صفحة 22 - 23).

وجاء في سورة الدخان: «إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ» (سورة الدخان 44: 51 - 53).

قال المفسرون: واعلم أن المسكن إنما يطيب بشرطين: أحدهما أن يكون آمناً عن جميع ما يخاف ويحذر. وهو المراد من قوله «في مقام أمين» والثاني، الطيب المكان، أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة، وهي الجنات والعيون.

ومن تنعماتهم الملبوسات، فقال: «يلبسون من سندس واستبرق» قيل السندس ما رقَّ من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه، وهو تعريب استبرك، فإن قالوا كيف جاز ورود الأعجمي في القرآن؟ قلنا لما عرب صار عربياً (التفسير الكبير جزء 27 صفحة 253).

وجاء في سورة فاطر: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّونَ فِيهَا مِنْ أَساَوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» (سورة فاطر 35: 33).

قال المفسرون: قوله «يحلون فيها» إشارة إلى سرعة الدخول. فإن التحلية، لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير الدخول. فقال يدخلونها وفيها تقع تحليتهم... وقوله لباسهم فيها حرير ليس للإكثار. لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة يدل على الغنى... والتحلي إما باللآلئ والجواهر وإما بالذهب والفضة. والتحلي بالجواهر واللآلئ يدل على أن المتحلي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكبيرة عند الحاجة، حيث يُعجز عن الوصول إلى الأشياء القليلة الوجود لا لحاجته. والتحلي بالذهب والفضة، يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لعرف الذهب والفضة إلى رفع الحاجة... (التفسير الكبير جزء 26 صفحة 27).

وجاء في سورة الإنسان: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً» (سورة الإنسان 76: 19 - 21).

قال المفسرون: «عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق» ويطوف على الأبرار ولدان حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس. السندس هو ما رقَّ من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه وكل ذلك داخل في اسم الحرير. قال تعالى: «ولباسهم فيها حرير». ثم قيل إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون. وقيل بل هذا لباس الأبرار. وكأنهم يلبسون عدة من الثياب، فيكون الذي يعلوها أفضلها، ولهذا قال عاليهم... ومعنى عاليهم، أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس. والمعنى أن حجالهم من الديباج.

فهؤلاء المؤمنون في جنات، يقيمون فيها منعمين أبداً. تنساب الأنهار خلالها وهم على أبهى زينة. فهم متحلون بالذهب ويلبسون الثياب الخضر، من الحرير على اختلاف أنواعه. متكئين فيها على السرر، بين الوسائد والستائر. نعم الثواب ينعمون به، وحسنت الجنة دار مقام وراحة (روح الدين الإسلامي صفحة 129).

جاء في سورة الدخان: «إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» (سورة الدخان 44: 51 - 54).

قال المفسرون: اعلم أنه تعالى ذكر من اسباب تنعمهم أربعة أشياء:

  1. مساكنهم، فقال: «في مقام أمين»
  2. الملبوسات، فقال: «يلبسون من سندس استبرق»
  3. جلوسهم، فقال: «متقابلين» والغرض منه استئناس البعض بالبعض.
  4. أزواجهم، فقال: «وزوجناهم بحور عين»

قال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجاً كما يزوج البعل بالبعل... وقال يونس: قوله: «وزوجناهم بحور عين» أي قرناهم بهن.. وقال الواحدي: والتنزيل يدل على ما قال يونس، ذلك قوله: «ولما قضى زيد منها وطراً زوجناكها».

وأما الحور، فقال الواحدي: أصل الحور البياض، والتحوير التبييض. وعين حوراء، إذا اشتد بياض بياضها، واشتد سواد سوادها. ولا تسمى المرأة حوراء، حتى يكون حور عينيها بياضاً في لون الجسد. والدليل على أن المراد بالحور في هذه الآية البيض، هو قراءة ابن مسعود بعيس عين. والعيس البيض. وأما العين فجمع عيناء، وهي التي تكون عظيمة العينين من النساء فقال الجبائي: رجل أعين، إذا كان ضخم العين واسعها. والأنثى عيناء، والجمع عين. ثم اختلفوا في هؤلاء الحور العين، فقال الحسن: هن عجائزكما الدرر ينشئهن الله خلقاً آخر. وقال أبو هريرة إنهن لسن من نساء الدنيا (التفسير الكبير جزء 27 صفحة 252 - 253).

وجاء في سورة الطور: «إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئيِنَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» (سورة الطور 52: 17 - 20).

قال المفسرون: في هذا بيان أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المسكن وهو الجنات، ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج...

قوله تعالى: «وزوجناهم» إشارة إلى النعمة الرابعة، وفيها أيضاً ما يدل على اكتمال الحال من وجوه: (أولها) أنه تعالى هو المزوّج، وهو يتولى الطرفين. يزوج عباده بأمانة، ومن يكن كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد (ثانيها) قال: «وزوجناهم بحور» ولم يقل زوجناهم حوراً، مع أن لفظة التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف. يقال زوجتكها قال تعالى: «ولما قضى زيد منها وطراً زوجناكها» وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم، وإنما زَوجوا للذتهم بالحور، لا للذة الحور بهم.. (ثالثها) عدم الاقتصار على الزوجات، بل وصفهن بالحسن، واختار الأحسن من الأحسن. فإن أحسن ما في صورة الآدمي وجهه، وأحسن ما في الوجه العين. ولأن الحور والعين يدلان على حسن المزاج في الأعضاء ووفرة المادة في الأرواح. أما حسن المزاج، فعلا منه الحور. وأما وفرة الروح، فإن سعة العين بسبب كثرة الروح المصوبة إليها (التفسير الكبير جزء 28 صفحة 249 - 249).

وجاء في سورة الرحمن: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ... فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ... كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالمَرْجَانُ... حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ» (سورة الرحمن 55: 46 - 72).

قال أهل التفسير: قوله تعالى: «فيهن قاصرات الطرف» فيه مباحث:

الأول: في الترتيب وإنه في غاية الحسن، لأنه في أول الأمر بين أن المسكن هو الجنة. ثم بين ما يتنزه به...، فقال: ذواتاً أفنان. ثم ذكر ما يتناول من المأكول، فقال فيهما من كل فاكهة. ثم ذكر موضع الراحة، بعد التناول وهو الفراش ثم ذكر ما يكون معه في الفراش.

الثاني: وفيه وجوه: أحدهما اشتمال (الجنة) على النوعين الحاضرين للخيرات. فإن فيها ما في الدنيا وما ليس في الدنيا. وفيها ما يعرف وما لا يعرف. وفيها ما يقدر على وصفه وفيها ما لا يقدر. وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية...

فإذا ثبت هذا فنقول: اجتماع النسوان للمعاشرة مع الأزواج والمباشرة في الفراش في موضع واحد في الدنيا لا يمكن، وذلك لضيق المكان أو عدم الإمكان أو دليل ذلة النسوان. فإن الرجل الواحد لا يجمع بين النساء في بيت واحد، إلا إذا كن جواري غير ملتفت إليهن. فأما إذا كانت كل واحدة كبيرة النفس كثيرة المال فلا يجمع بينهن. واعلم أن الشهوة في الدنيا تزداد بالحسن الذي في الأزواج، تزداد بسبب العظمة وأحوال الناس في أكثر الأمر وتدل عليه. فإذا ثبت هذا، نقول: الحظايا في الجنة، يجتمع فيهم حسن الصورة والجمال والعز والشرف والكمال. فتكون الواحدة لها كذا وكذا من الجواري والغلمان، فتزداد اللذة بسبب كمالها...

قال فيهن: «قاصرات الطرف» من القصر وهو المنع، أي المانعات أعينهنَّ عن النظر إلى الغير. أو من القصور، وهو كون أعينهم قاصرة، لا طموح فيها للغير...

«قاصرات الطرف» فيها دلائل على عفتهن وعلى حسن المؤمنين في أعينهن. فيحببن أزواجهن حباً يشغلهن عن النظر إلى غيرهم. ويدل أيضاً على الحياء، لأن للطرف حركة الجفن، والحورية لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها.

قوله: «لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان» فيه وجوه: (الأول) لم يفرعهن (يعرفهن) (الثاني) لم يجامعهن (الثالث) لم يمسسهن، وهو القرب إلى حالهن، وأليق بوصف كمالهن...

أيها القارئ العزيز،

إن تعمقت في قراءة هذا الكتيب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة.

  1. لماذا يُسمى النعيم في المسيحية «راحة الله»؟
  2. ما المقصود أن النعيم في المسيحية فيه «المعرفة الكاملة»؟
  3. لماذا يُسمى النعيم في المسيحية «ميراث القديسين في النور»؟
  4. اذكر وصفين للمدينة السماوية وردا في الإنجيل المقدس.
  5. ما المقصود بقول المسيح «أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً»؟
  6. لماذا يفعل المؤمنون المسيحيون في السماء؟
  7. بحسب الإنجيل، ما هو لباس أهل السماء، وما هو طعامهم، وما هوشرابهم؟
  8. ماذا قال المسيح عن الزواج في السماء؟
  9. اذكر اسمين من أسماء النعيم عند المسلمين، واشرح معناهما.
  10. ما هو طعام أهل الجنة المسلمين وما هو شرابهم؟
  11. يقول القرآن إن المسلمين في الجنة يتحلّون بأساور من فضة، وأثار الإمام الرازي في هذا سؤالين، ما هما السؤالان؟ وما هو ردّه عليهما؟
  12. اشرح معنى قول القرآن «وزوّجناهم بحورٍ عين».
  13. ما معنى «سلسبيل»؟
  14. ماذا يفعل الوِلدان المخلّدون في الجنة، ولماذا إذا رآهم المسلمون في الجنة حسبوهم لؤلؤاً منثوراً؟
  15. كيف شرح الإمام الرازي قول القرآن: «قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس ولا جان... كأنهنّ الياقوت والمرجان... حورمقصورات في الخيام»؟

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:

The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland

عودة الى  الصفحة الرئيسية