عرفت الله عندما رأيته في المسيح

قصتا اهتداء من سلسلة: «أبناء الشرق يلتقون بالمسيح»

نوزاد ومحمود جليلي

مقدمة

هذه قصة اهتداء مسلم إيراني إلى المسيح، وقد كتبها بنفسه عام 1927 باللغة الفارسية، ونُشرت بعنوان «كيف يمكن لكائن بشري أن يتغيَّر». ويسرنا أن نضيف هذه القصة إلى مجموعة القصص التي سبق أن نشرناها عن المهتدين إلى المسيح، من مختلف البلاد الإسلامية.

وكثيراً ما جاء السؤال: «لماذا يصعب ربح المسلمين للمسيح، ولماذا نرى الكنيسة ضعيفة في معظم البلاد الإسلامية؟» وللإجابة على ذلك نقول إن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي جاءت بعد المسيح، والتي تعترف أن المسيحية كانت ديانة عظيمة في وقتها، ويدَّعي أنه صار الدين الحقيقي الوحيد للعالم. ويعتقد المسلمون أن الله واحد، لكنهم يرفضون أن يدعوه «الآب». ويعتقدون أنه أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم قدموا للبشر شرائع إلهية وأرشدوه إلى الطريق السوي، وأعظمهم نوح، وإبرهيم، وموسى، والمسيح ومحمد. ويعتقدون أن الله أنزل كتباً لبعض الأنبياء، مثل توراة موسى، وزبور داود، وإنجيل المسيح، لكنهم يعتبرون أن هذه الكتب لم تعُدْ ضرورية بعد أن أعطى الله إعلانه الكامل لمحمد. ويعترف القرآن بولادة المسيح من مريم العذراء، لكنه ينكر بنوَّته الإلهية. ويشير إلى معجزات المسيح في الشفاء. ويعترف المسلمون عامة أن المسيح وُهب قوة من الله لإقامة الموتى. لكن القرآن ينكر موت المسيح على الصليب، ويزعم أن واحداً من أعداء المسيح أو من أصحابه تغيّر بقوة الله إلى شكل المسيح فـ «شُبِّه لهم» وصُلب خطأ عوضاً عنه. ويقول إن المسيح رُفع حياً إلى السماء حيث هو اليوم. ومن الزعم المسلَّم به عند المسلمين أن المسيح في الإنجيل تنبأ عن مجيء محمد، وأمر أتباعه أن يقبلوه عندما يأتي. ولكن حيث أنه لا توجد إشارة إلى محمد في الكتب المقدسة المسيحية، لذلك يتهم المسلمون المسيحيين بجريمة تحريف كتبهم المقدسة، لأن النبوّات عن مجيء محمد قد حُذفت، وأُضيفت عبارات عن المسيح كابن الله، وعن صلبه وقيامته من الأموات.

وأغلبية المسلمين في بلاد مثل إيران، وإن كانوا يعترفون بالمسيح كنبي صالح وعظيم جداً، إلا أنهم يقولون إن محمداً هو خاتمة الأنبياء وأعظم المرسلين قد أخذ مكانه. ويقولون لا نريد «أن نرجع إلى الوراء» ونصبح أتباع المسيح، بل على عكس ذلك يجب على أتباع المسيح أن يطيعوا أمر سيدهم و «يتقدموا إلى الأمام» ويقبلوا محمداً والقرآن.

والإسلام ليس ديناً فقط بل هو أسلوب حياة، فيه تتوحد كل العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. بل حتى عندما يقتنع مسلم أن المسيح هو المخلص الوحيد يصعب عليه أن يعترف بإيمانه علناً ويقطع علاقته بمجتمعه السابق.

وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو مستحيلة في اهتداء المسلمين، يوجد مئات كثيرون من أعضاء الكنائس المسيحية في إيران ممن كانوا في الأصل مسلمين، أو هم أبناء مسلمين اهتدوا إلى المسيح بنعمة الله وقدرته، وبعضهم يخدمون الكنائس بأمانة كرعاة ومبشرين، وأسقف الكنيسة الأنجليكانية يحتفظ باسمه المسلم للدلالة على أنه من الممكن في إيران أن يعترف المسلم علناً بإيمانه بالمسيح وأن يخدمه بجرأة وشجاعة. لكن الحرية التي ينعمون بها اليوم، شأنها شأن الحرية الدينية في أية بلاد أخرى، لم تأتِ عفواً بدون شجاعة وآلام. فقد استخدم الله شهادة الرجال الأوفياء أمثال «رجب علي» الذي سمَّى نفسه «نوزاد» (أي مولود جديد) و(محمود جليلي) مع سائر العوامل الأخرى ليأتي بكثيرين من المسلمين إلى حظيرة المسيح، الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخطاة.

وهذا ما نرجوه للقارئ الكريم.

الناشرون

نوزاد المولود الجديد في المسيح

في 12 فبراير (شباط) عام 1905 تعمَّد رجل كان مسلماً من قبل، ولو أنه كان قد آمن بالمسيح قبل ذلك بسنين كثيرة. وتمت حفلة عماده في غرفة الصلاة الصغيرة الملحقة بالكنيسة، واسم الرجل رجب علي. ولم يغيِّر اسمه فلم يُعط له اسم جديد عند عماده، ولكن حدث بعد ذلك ببضع سنين أن طلبت الحكومة الإيرانية من كل رعاياها أن يختاروا لأنفسهم اسماً عائلياً، فاختار رجب اسماً كان ممكناً أن يُمنح له عند عماده. دعا نفسه نوزاد (أي مولود جديد) وصار معروفاً بهذا الاسم في إيران كلها.

وقد كتب عنه القس وليم ويشام الذي يعرفه معرفة جيدة في طهران في مقدمة عن قصة إيمانه، قال: صار نوزاد مسيحياً منذ ثلاثين سنة، وكان من أوائل المسلمين الذين قبلوا الإنجيل في إيران. وقد تنوعت نواحي حياته فقد كان صانعاً، ووكيلاً، وخادماً في البرلمان أثناء الأيام الصاخبة التي صاحبت الحكومة الدستورية الأولى، ورجل مباحث المدينة، وموظفاً مسؤولاً جديراً بالثقة في الإرسالية المشيخية بطهران. وقد تولى تعليم نفسه بنفسه، ولكنه كان يمتاز بقدرة فذة في حفط معلوماته، وكان ينفق وقتاً طويلاً في التفكير والتأمل. وبسبب ما اشتهر به من قوة الملاحظة كان يكتب سلسلة مقالات في كثير من المجلات الفارسية عن الأحوال في بلاد الفرس وكانت مقالاته مليئة بالفكاهة والقدح، وأثارت الكثير من التعليقات.

في مدى ثلاثين عاماً من حياته مع المسيح صاغ المسيح بقوته هذا الرجل من جديد، وهو الآن شيخ متقدم في الكنيسة الإيرانية في طهران، وقوته في الصلاة، وحكمته، واستقلاله، وحسن ذوقه، مزايا لا تقدَّر قيمتها في نمو الكنيسة. أما في درس الكتاب فلم يكن ليستعين بشيء يُذكر من التفاسير الثمينة والكتب الروحية التي حصل عليها بوفرة، لكن أفكاره عن المسيحية كانت عجيبة ومتسعة وشاملة. وكانت حياته بلا لوم، وكانت مقدرته الصامتة وتفكيره السليم كلها مثالاً للمبشرين الذين يعمل معهم. وأنا أكتب هذا الآن أثناء قيامنا برحلة تبشيرية معاً لإحدى المدن الإسلامية الصغيرة. وهو رفيق ممتاز في السفر، وقصصه التي لا تنتهي وملاحظاته الحكيمة تملأ ساعات فراغنا اليومي معاً. ولكنك غالباً تراه في أحسن حالاته عندما يقدم إنجيل المسيح للمسلمين الذين لم يسمعوا به من قبل. والمتعصبون الذين جاءوا ليُفحمونا بمجادلاتهم وبراهينهم يجدونه يقضي على تعصبهم بمهارته الفائقة، وسرعان ما يُصغون بانتباه إلى القصة القديمة عن المسيح الذي شهد عنه الأنبياء، وعلّم الحق الروحي الخالد، ومات لأجل خطايانا. وهو يقوم بهذه الأبحاث دائماً بدون خوف ولا وجل، مقدِّماً اعترافه بإيمانه المسيحي الشخصي، مع أن شريعة البلاد تقضي بقتل المرتد عن الإسلام....

وكتب صديقٌ عنه يقول: «كان نوزاد رجلاً عملياً فوق كل شيء. لم يكن متعلماً بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة، لكنه كان عظيم الحكمة، واسع الاختبار، عميق الروحانية. وقد أهَّلته اختباراته أن يكتب كتاباً صار أوسع الكتب مبيعاً وانتشاراً سنين عديدة بين جميع الكتب التي نُشرت باللغة الفارسية. واستخدمه الكثيرون للتعبد الشخصي والعائلي. ولا يزال يُستخدم إلى اليوم».

وفي عام 1927 نشر نوزاد قصة تجديده العجيبة إلى المسيحية باللغة الفارسية، بعنوان «كيف يمكن لكائنٍ بشري أن يتغيَّر». وقد طُبع هذا الكتيب خارج إيران، ووُزع في إيران بعناية دقيقة حرصاً على حياة المؤلف وعلى عمل المسيح. وقد بذلنا جهدنا لنجعل ترجمتنا لقصة نوزاد تعكس أفكاره بكلماته وتعبيراته، لا باصطلاحاتنا وتعبيراتنا نحن. لهذا ليسامحنا القراء إذا رأوا بعض الجمل أو التعبيرات جافة أو غير مستساغة. فقد فعلنا ذلك عمداً.

قال نوزاد: منذ ثلاثين سنة اجتمع حشدٌ كبير من الناس في آخر يوم من رمضان عند الغروب ليشهدوا ظهور القمر الجديد. فلما أهلّ البدر بطلعته البهية عبّرت الجماهير عن فرحها وطربها، وقام أحدهم في نشوة بهجته فحمل أحد أصدقائه من خلفه تحت ذراعيه وطوح به حوله. وحدث أن رِجل الصديق صدمت بطن أحد الواقفين، وأصابته بأضرار داخلية خطيرة جعلته يمرض ويلازم الفراش، وثم مات في اليوم الثالث. وبقي من عائلته ولد عمره ثماني سنوات وابنتان عمرهما 6 و4 على التوالي، وابنة كانت بعد جنيناً في بطن أمها عمرها 7 شهور. لم يكن له أي مدخرات، فاضطرت أرملته أن تبيع كل ممتلكات البيت وأن تقتصد أشدّ اقتصاد بل تقتّر حتى تستطيع أن تعول عائلتها إلى أن ينمو ابنها. وظل هذا الابن يغيّر عمله مراراً إلى أن قرر أخيراً أن يصير خادماً، ودخل في زمرة الأشرار.

لا شك أن كل البشر ساقطون، لكن في تلك الأيام كان الخدم طبقة أكثر إجراماً من الجميع. ولا حاجة إلى القول إن الشخص الساقط الذي يعيش في بيئة ساقطة لا يعمل شيئاً سوى التمادي في السقوط والانحطاط. لهذا فإن جرائم هذا الشاب وسقوطه لا يمكن وصفها أو ذكرها. لكني سأذكرها وعلى سبيل التمهيد أقول إني أنا ذلك الشاب.

لقد كنت غيوراً متعصباً جداً في مراعاة فرائض دين آبائي. كنت أتمم فروض الصلاة في مواعيدها المعينة بدون تقصير ولا إهمال، أتممت فريضة الصوم، وتذكرت الشهداء، وذهبت إلى الحج، وفاق تعصبي كل أقراني، مع ذلك تملكتني الخطية والشرور فأشبعت كل شهواتي. ولو أن قلبي لم يجد إشباعه أو راحته في ذلك، وكان ضميري يبكتني. لكني كنت عبداً للخطية.

بعد وقت تعرَّفت على شخص صار لي صديقاً، وكان متعلّماً ضليعاً لم أجد له مثيلاً إلى اليوم. وكل من عرف هذا الشخص شهد أنه شخص غير عادي. ومع أنه كان أشبه بناسكٍ معتزل، وكان متقاعداً يميل دائماً للاعتزال عن الناس، ظل معلّماً يقصده طلاب كثيرون من عائلات الشرفاء والأرستقراطيين. وكانت فروع العلوم التي علّمها تشمل الطب، والتشريح، والتاريخ والرياضيات، والدين، والفقه، والعقيدة، وما وراء المادة أو الطبيعة، والكيمياء، واللغة الفارسية، واللغة العربية، وفن الكتابة، والمنطق، والفَلك، والجغرافيا. وقد درس 46 سنة، منها 12 في كرمنشاه، و14 في أحرام ما بين النهرين، و10 في أكاديمية العلوم في طهران و10 في سيزفاز. ولم يتزوج، ولم يأخذ من مال الدنيا شيئاً سوى غرفة مملوءة بالكتب الفارسية والعربية وكان نحو 95 في المائة منها مكتوبة بخط اليد. سوى ذلك لم يملك شيئاً. وبين الذين كان دائماً يتحدث عنهم باحترام أبو علي وسينا والفقيه الكبير المُلا صدرا. والكتاب الذي فاز باحترامه العظيم هو الإنجيل.

من حديثي معه صرت أعرف شيئاً عن الكون. تعلمت منه علوم الجغرافيا والفلك والطب والتشريح والطبيعيات، واستأثر علم التاريخ باهتمامي بنوع خاص. ولكن في كل مرة تناول الحديث موضوع الدين كنت أراه يتجنّبه ويتظاهر بالجهل ويحاول تغيير الموضوع. وأخيراً واجهته ذات يوم بهذا السؤال: «لماذا تحاول دائماً أن تتجنب الحديث في موضوع الدين؟».

أجاب: «لأني لو أخبرتك بما أعرفه لا تحتمل ولا تطيق أن تسمعه، وإذا أخبرتك بما تريد أن تسمع أناقض اقتناعي».

سمعت منه هذا الجواب مراراً فساءلت نفسي: «ماذا أريد أن أسمع مما يناقض اقتناعه، أو ماذا يريد أن يقول مما لا أطيق سماعه؟» أخيراً قلت له ذات يوم: «أجب يا سيدي على سؤالي ولا تخفِ عني شيئاً مهما يكن الأمر. وأنا أعدك من جانبي أن أسمع لك بكل اهتمام ومع منتهى ضبط النفس».

أجاب: «إن كنت تقدم لي هذا الوعد، فأنا مستعد أن أتكلم. لكني لا أظن أنك تستطيع أن تنفّذ وعدك. لكن مهما كان الأمر أخبرني ما هو سؤالك؟» قلت: «أخبرني من فضلك ما هو دينك، وأي كتاب إلهي تعتقد أنه الكتاب الحقيقي؟».

أجاب: «أنا أؤمن بالله خالق كل العالمين، ولا أجد أية صعوبة في ذلك، لأن هذه الخليقة لا يمكن أن تكون قد وُجدت بدون خالق قدير كائن وموجود منذ الأزل. لكني لا أؤمن بأي شخص ادَّعى أنه نبي غير المسيح. لقد قاومته مراراً فباءت كل جهودي بالفشل. ناقضته لكنه دائماً أثبت أنه لا يُقاوَم ولا يدحض».

لما سمعت جوابه هذا استشاطت نفسي غضباً وتهيج فيّ تعصبي وتمردت أذناي وامتلأت مشاعري بالسخط، لكني ضبطت نفسي ولم أظهر ما يجيش في داخلي، وإنما سألته: «لماذا لا يجذبك الآخرون بينما يجذبك المسيح ويسبي قلبك؟».

أجاب: «لأن الآخرين قاموا بأعمال يمكن (بحسب فكري) أن يقوم بها الحكماء من البشر. أما الأعمال التي فعلها المسيح فليست من عمل إنسان».

سألته: «ما هي أعمال المسيح التي تعتبرها فوق حكمة البشر ولا يمكن أن ترفضها؟».

أجاب: «إنها واسعة النطاق، منها أن الموتى لا يمكن أن ينالوا الحياة بحكمة البشر أو بالأساطير والخرافات أو بأية وسيلة أخرى غير قوة الله».

قلت: «ما الأسباب التي تؤسس عليها اعتقادك، أو كيف تعرف أن هذه الأشياء حقيقية؟ هل عندك أدلة تؤيد بها اعتقادك؟».

أجاب: «لو كان هناك إنجيل واحد ربما كان يتسرب إليّ الشك. لكن توجد أربعة أناجيل، أو أربع نسخ للإنجيل، كل منها يختلف عن الآخر. وواضح أنه قد كتب هذه الأناجيل الأربعة أربعة أشخاص مختلفون، وواضح أيضاً أن هذه الأناجيل لم تُكتب في وقت واحد ولا في مكان واحد. ومع هذه الاختلافات الظاهرة فإن الحق، والمعنى، والمحتويات كلها متشابهة بل كلها واحد ... في كل إنجيل من الأناجيل الأربعة تُذكر معجزات المسيح بتطويل. وهذا دليل على صحة هذا الكتاب. إن أعمال المسيح منتشرة ومعروفة بوجه عام جيد المعرفة عند الجميع، ونجد الناس اليوم في إيران والجزيرة العربية وأفغانستان وتركستان ومصر وسوريا وحتى في بعض بلدان أفريقيا يعرفونها، حتى أنك إذا سألت طبيباً في أي بلدٍ منها: لماذا لم يستطع شفاء هذا المريض أو ذاك، يجيبك: هل أنا يسوع المسيح حتى أستطيع أن أمنح الحياة للأموات».

سألته: «ماذا تقول عن موسى وداود وغيرهما؟» أجاب: «إني مهتم الآن بالدراسة عن يسوع، ويحيّرني في الأمر سؤالان يجب أن أوجههما لأناسٍ هم حجّة في معرفة الأناجيل. عندما أجد حلاً لهذين السؤالين أصير مسيحياً. يجب على كل مسيحي أن يقبل ويؤمن بأنبياء العهد القديم لأن المسيح قبلهم واعترف بهم».

سألته: «ماذا تقول عن النبي محمد وعن القرآن؟».

فأجاب أنه لا يرى في القرآن شيئاً يبيّن أنه كتاب منزَل، بل أنه يرى فيه أقوالاً منقولة عن التوراة والإنجيل. ومضى يقول كلاماً اعتبرته إنكاراً لتنزيل القرآن الكريم. ومع أني سخطت عليه، وأردت أن أقطع لسانه، أو أنقضّ عليه لأقتله، إلا أني ضبطت نفسي حفظاً لوعدي، وتركته يوالي حديثه لأعرف ما في نفسه حتى أتّخذ موقفي منه، أو أقتله بعد أن أسمع بقية حديثه. ثم قلت له: «يا سيدي وأنت تدرس القرآن بكل عظمته، ألم تجد فيه شيئاً تعترف أنه كلام الله؟ ربما لم تدرسه بعناية كافية».

ابتسم وأجاب: لقد أنفقت الشطر الأكبر من حياتي أدرس العلوم الإسلامية، وأنا زعيم ديني في الإسلام جدير أن أمارس الفقه والشريعة، فلا يخفى عليّ شيء في القرآن أو الإسلام. وأستطيع أن أتلو من الذاكرة كل ما تريد من آيات القرآن، وأعرف كل أحاديث الشيعة والسنة وآراء قادة المفسرين وما في التفاسير عن هذه الآيات. وأنت تعلم إني لا أقبل شيئاً مطلقاً دون أساس سليم. لقد درست بعمق وتفصيل، ولو كنت قد وجدت شيئاً من الحق في دراساتي المطولة ما كنت تركت الإسلام. أنا لست مجنوناً، ولست عدواً لخلاصي. ولكن أعلم أن أي شخص عرف عُشر ما عرفته بعمق عن الإسلام يتركه. ما عدا ثلاثة أصناف من الناس يتمسكون به.

الصنف الأول: هم الذين يكتسبون رزقهم ويحصلون على أحوال معيشتهم من ممارسة الفرائض الدينية. والثاني: هم الذين يستخدمون الدين لمآربهم الشخصية وقد وجدوا فيه وسيلة للتقدم والترقي، أو أملاً في الحصول على ذلك. والثالث: هم العامة الذين لا معرفة لهم، ويقبلون باحترام كل ما يسمعونه في بيئتهم دون برهان ولا سؤال. ولولا هؤلاء الأصناف الثلاثة ما عاش الإسلام.

واسترسل في طعنه في القرآن الشريف وفي رسول الله العظيم بكلام لم أعد قادراً أن أسمعه ولا أن أحتمله. ولا أستطيع أن أصف ما حدث لي وأنا أسمع هذا الكلام، لكني اعتبرت أن من واجبي أن أقتل ذلك الرجل ... ضاع مني النوم وزهدت الطعام ولم أجد الراحة. لقد ظللت كالمجنون أبحث ليلاً ونهاراً عن الجواب، وعن وسيلة للانتقام منه. ولم أستطع أن أجد راحة لأني كنت واثقاً أن كل ما قاله كان سباً وتجديفاً، ولا شيء فيه من الحقيقة إطلاقاً، لأني كنت أعلم أن محمداً والقرآن بريئان لا لوم ولا عيب ولا نقص فيهما. لذلك انضممت إلى رجال الدين وصممت على الكفاح والبحث لتقصّي الحقيقة وتأكيدها.

وبعد سنتين أصبحت على يقين أن العبارات التي قالها لي ذلك الرجل الحكيم لم تكن للإهانة ولا للإساءة، بل كانت كلها حقيقية. وكل ما وصلت إليه السلطات الدينية هو وضع ستار عليها، وكانت التفاسير حسب نظريات واضعيها تشير إلى اتفاقهم مع الحقائق التي نطق بها ذلك الرجل الحكيم في عباراته.

أخيراً انطفأ سراج الإسلام في قلبي رغم كل محاولاتي لتحسين زيته وتنظيف فتيلته. يئستُ من كل الناس ومن كل شيء، ولم أعد أثق في شيء، وصرت أنظر إلى الكون كما لو كان بلا عقل ولا معنى. وحسبت في فكري أن جميع الأنبياء مُضِلّون، وكل الكتب المقدسة مجرد قصاصات من الورق. ونظرت إلى خلق البشر كأنه نزوة من نزوات الطبيعة. وقلت في نفسي: ما حياة الإنسان إلا عدد من نبضات القلب سرعان ما تنتهي، وإن الإنسان إنما يعيش في حالة زوال، ولا شيء في الدنيا سوى ظلام أبدي، وسوف تزول البشرية وتفنى.

رأيت العالم كسِجن لا شيء فيه يُحَب. لا شيء يشبعني! نظرت إلى العالم كمهزلة أو لعبة. ومرت كل لحظة من حياتي كظلام دامس وكابوس مريع. ولم أعد أتوقع سوى الموت فقط لينقذني من مخالب الكون، وأغوص في هاوية الفناء. وكنت أطوي الليل حتى أصل إلى النهار والنهار إلى الليل ساخطاً على الحياة، فلم أكن راضياً بشيء فيها، وقلت: «ليتني أستطيع أن أمضي من هذا العالم الذي لا سيد له».

وذات يوم خطر ببالي أن أتكلم قليلاً مع أحد الكهنة المسيحيين، لأرى ماذا يقول. ولو أني كنت واثقاً أنه لا يوجد إنسان في العالم يستطيع أن يقنعني. وإذ لم أكن أعرف أحداً من الكهنة ظللت أبحث حتى وجدت رجلاً مسيحياً مثقفاً كان يسكن في بيت على طرف المدينة. ولم يكن حول بيته سوى أرض فضاء لا مساكن فيها. فذهبت إلى بيته ثلاث مرات، وقضيت في كل مرة ساعات أتحدث معه وأباحثه، لكني لم أفهم معنى أي شيء قاله. وفي المرة الرابعة، التي كانت زيارتي الأخيرة له، قال: «كما أن الملاريا منتشرة في العالم وعلاجها الوحيد هو الكينين، هكذا الخطية داءٌ أصاب كل البشر، ودواؤه الوحيد هو الإنجيل. ولكل واحد أن يختار هل يقبله أم يرفضه». وكان هذا نهاية حديثنا.

انطلق مدفع الظهر عندما وقفت وانصرفت من البيت، وما أسوأ حالة الحزن والخيبة واليأس التي تسلطت عليّ وقتئذ. ولم أر شيئاً لما خرجت من باب بيته سوى أرض قفراء وبعض أسوار قليلة من الطين. لم يكن هناك أي شيء ولا أي شخص، فجعلت أجول وحيداً منفرداً في ذلك المكان الموحش. وفي حالة تشتت تام رفعت يديّ وقلت:«اللهم إن كنت موجوداً، والمسيح هو من عندك، والإنجيل هو العلاج الوحيد لداء العالم، أرشدني أنت لأني في حيرة شديدة. وإن لم تكن موجوداً فها أنا قد قلت كلمتي في الهواء».

فجأة رأيت فوق رأسي صورتين روحيتين يشبه منظرهما وثيابهما لون الجو، وقالا بصوت مسموع: «الله موجود، ويسوع حقيقي. اطمئن وتأكد من ذلك، وتعال». وفي الحال اختفيا.

ذُعرت من هذه الرؤيا وهذا الصوت، واستولى الرعب الشديد عليّ، وفي الحال ابتل كل جسمي بالعرق. وبالرغم من شدة حر الظهيرة اعتراني برد شديد مع صرير الأسنان، فأسرعت أركض حتى وصلت إلى جزء من مباني المدينة حيث كان الناس يغدون ويروحون. فلما رأت عيناي بعض الناس فارقني الرعب والذعر. لكن بسبب ما رأيت وسمعت شعرت عن يقين تام أني لم أعُد بعد كما كنت من قبل، وضاع مني فوراً كل غم وحزن وحقد وخيبة أمل ويأس. وعوضاً عن ذلك امتلأتُ بسعادة جديدة وفرح فياض وسلام عميق. ورأيت نفسي إنساناً جديداً، أمتلك حياة جديدة.

رغبت أن أسترشد بالإنجيل. ولما أقول الإنجيل لم يعد هو الإنجيل الذي قرأته من قبل، ولو أنه كان نفس الكتاب. لكني وجدت في قراءته لذةً لا تعادلها لذة، وكلما قرأت آياته جلبت لقلبي مزيداً من فرح فوق فرح، وغبطة فوق غبطة. وبدا لي كأن كل آياته كُتبت لسد حاجاتي وإشباع رغباتي وأفكاري ويقيني. وكنت دائماً أقول لنفسي: هذا هو الإنجيل نفسه الذي قرأته من قبل، فلماذا كان بالأمس كتاباً معيباً، فأصبح اليوم كتاباً آخر؟ وبالاختصار قرأت الإنجيل أربعة أيام وأربع ليالٍ بأشد اجتهاد. والجزء الوحيد الذي لم أستطع أن أفهمه هو سفر رؤيا يوحنا.

بعد أن قرأت الإنجيل كله بكل اجتهاد بدأت أقرأ التوراة. كنت قد وجدتها من قبل محيطاً زاخراً من الأسئلة التي لا أجد لها جواباً. ولكني استطعت الآن أن أراها واضحةً، وصرت سعيداً مغتبطاً بقراءتها. ومنذ ذلك اليوم أصبح الكتاب المقدس ولا يزال كنزي وثروتي ومكتبتي وتسليتي وفرحي وعلاج يأسي وآلامي الروحية وحل كل صعوباتي ومشاكلي. بل أصبح رجائي، وفخري، وحياتي، وثقة قلبي، وخلاصي، وإيماني ويقيني التام. إن ملكي وربي هو يسوع المسيح الذي صُلب ودُفن وقام في اليوم الثالث، والآن يجلس عن يمين الله وله السلطان، وهو الذي كان والكائن والذي سيكون من الأزل وإلى الأبد. له المجد والقوة والقدرة. وهذه النعمة والمحبة والعطف وهبات الرحمة التي تفوق كل تصور أو إدراك أو تفسير أو فهم بشري إنما هي كلها صادرة من الله خالق الكل، والذي هو فوق الكل وهبها للبشر غير المستحقين، غير الجديرين الساقطين وغير المستأهلين. فالمجد والكرامة والإجلال لاسمه المبارك!

بعد ذلك صرت أتمنى أن أتعرَّف إلى زملائي المؤمنين. وظللت أبحث حتى وجدت المكان الذي كان يجتمع فيه المسيحيون الإنجيليون للعبادة. وكان عملي يمنعني من الحضور معهم كل يوم أحد لأني كنت وكيلاً لشخص ألقى على عاتقي مسؤولية عمله كلها، أي كل أعماله، وكل قراه وضياعه، وكل أراضيه وممتلكاته، بما فيها من بيع وشراء وإشراف على بيته، وفي الواقع كنت أقوم مقامه في كل شيء. مع كل هذه المسؤوليات بذلت أقصى ما في وسعي لحضور اجتماعات الكنيسة. وكنت أحضر غالباً معظم أيام الآحاد. وأصبح سيدي وأبناؤه وزوجاته وكل المستخدمين يعرفون أني مسيحي. ومراراً كثيرة كنت أقرأ الكتاب المقدس لسيدي. فكان يتقبل ذلك بشيء من الرضى ولو أنه لم يكن مسيحياً، ولم يظهر أي اعتراض أو مناقضة.

وهنا أراه ضرورياً أن أذكر كلمة عن صديقي العزيز الذي كان أول من وجَّه نظري إلى حق المسيحية وإلى طبيعة الإسلام. وفي الوقت الذي فيه ذهبت إلى العراق لمأمورية تختص بعملي كتب لي يخبرني أنه مريض وقال: «إن كنتَ لا تراني مرة أخرى فاعلم أن السؤالين قد اتضحا الآن أمامي بعد أن صرت مسيحياً». ولما رجعت إلى طهران بعد سبعة شهور وجدت أنه قد مات.

والاختبارات التي حدثت لي كثيرة ومتنوعة. أما بعضها فلم أذكره من قبل ولن أذكره لمخلوق بشري مطلقاً. أما اختباراتي الأخرى فإنها مطولة جداً لا سيما مع التفاصيل المتعلقة بها. لذلك أكتفي هنا أن أذكر باختصار طائفة ثالثة من هذه الاختبارات.

في ذلك الوقت كان حاكم إيران هو مظفر الدين شاه، وكان يليه في المنصب ميرزا علي أخبار خان عتابغ الكبير. وقام أحد خدام عتابغ الكبير بالاستيلاء على بعض ممتلكات أختي. وكنت باعتباري أحد المستخدمين عند عتابغ لا أستطيع أن أقاضيه، كما أن الحكومة والمحاكم كان لا بد أن تؤيّده هو. وذات يوم قالت لي أختي: «هذا الرجل قوي وأنا ضعيفة. هل هناك سبيل لخروجي من مأزقي، أم هل عليّ أن أموت في يأسي؟» فلم أستطع أن أجيب إلا بأن أطأطئ رأسي خجلاً.

في تلك اللحظة خطر ببالي خاطر وأظنه ممتاز، وهو أن أذهب إلى الكنيسة لأصلي. وذهبت يوم الأحد إلى الكنيسة، وبعد العظة صليت سراً في قلبي وقلت: «يا يسوع المسيح، أنت تعلم أن أختي ليس لها أحد يعينها سواي. وأنا لا أستطيع أن أقاوم هذا الخصم القوي، لهذا أسلّم هذا الموضوع لك وأنت تعمل الأفضل».

بعد أن قدَّمت هذه الصلاة ذهبت إلى بيت مخدومي. وفي يوم الأحد هذا بالذات وجدت أن خادم عتابغ قد حمل كل ممتلكات أختي على ظهور الحمالين وسلّمها لها. وعلمت بعد ذلك أنه قال لزوجته: «إذا بقيت هذه الأشياء في بيتي الليلة فلا بد أن أحرقها». وقد أثّرت نتيجة استجابة هذه الصلاة فيَّ تأثيراً جعلني أخجل أمام المسيح، لأنه أخرجني بسرعة مدهشة من المأزق الشديد الذي كنت فيه.

بعد ذلك بوقت قصير، وأنا ساكن مع أختي في نفس البيت أصاب طفلها (وكان عمره خمسة عشر شهراً) انتفاخ أو ورم كبير جداً في حنجرته، وظل الورم يكبر حتى صار في حجم يد ذلك الطفل. وكلما زاد حجمه زادت قساوته. وكل علاج وصفه الطبيب لم ينفع. وساءت حالة الطفل واشتد عليه الألم حتى لم يستطع أن يحرك جسمه. وذات يوم قيل لي إن تلك الليلة ستكون آخر ليلة للطفل، لأنه لم يأكل ولم يتحرك منذ أربعة أيام، ولا تبدو أية علامة تدل على تخفيف أو تحسين حالة الورم.

أنهيت عملي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وعدت إلى بيتي وسألت عن حالة الطفل، فأخبروني أنها كما هي لم تتغير. دخلت الغرفة بكل هدوء، ووقفت بجانب سرير الطفل ولمست الورم في عدة مواضع فوجدته قاسياً مثل سفرجلة خضراء. وفتح الطفل عينيه ببطء ونظر إليّ، ثم أغمضهما. انزعجت جداً وغشيني عطف ورثاء عليه، وشعرت مع الرسول بولس وهو يقول: «أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم» (2 كورنثوس 12: 2). وخرجَت من فمي هذه الكلمات عفواً «أيها الألم، أنا آمرك باسم يسوع أن تخرج من جسد هذا الطفل في مثل هذه الساعة الليلة القادمة». ثم تنفست على وجه الطفل.

بعد أن نطقت بهذه الكلمات انتابني ضعف شديد فتحاملت على نفسي وذهبت إلى جانب من الغرفة وجلست. وشعرت بصوت حركة، ففتحت عينيَّ ورأيت الطفل يقوم من مكانه ويحبو متجهاً نحوي. فأخذته في الحال بين ذراعي ودعوت أمه لتعطيه قدحاً من اللبن. وكنت مذهولاً والطفل يشرب اللبن ويبتسم. وكلما مسسنا أو ضغطنا على مكان الورم كنا كأننا نضغظ على ثيابه، فلم يشعر بألم. ومرت تلك الليلة ونحن في أشد سرور، واستيقظت مبكراً في الصباح وذهبت إلى عملي. وبعد أن حل الليل بنحو ساعة أنهيت أعمالي وسرت في طريقي نحو بيتي وأنا واثق أن المرض قد فارق الطفل. ولما دخلت البيت نظرت إلى الطفل وإذا الورم الذي كان في حجم الليمونة قد زال. وقالت أمي إن الورم قد انفجر من تلقاء ذاته وخرجت منه كمية كبيرة من الصديد، وكان الطفل يلعب وقد التأم الجرح بسرعة، ولم يبق شيء تراه العين سوى بقعة صغيرة تدل على مكانه.

وأروي اختباراً ثانياً: كان لي زميل في العمل ينافسني وينتهز كل فرصة ليسيء إليَّ. وبعد عام واحد سنحت لي الفرصة أن أنتقم منه وأجازيه عن كل إساءاته. ورغم أنه جرح قلبي بتصرفاته أظهرتُ له نية حسنة. وقال لي أصدقائي: «هذا يوم الانتقام فاعمل به ما تشاء». لكني قلت: «إن النقمة لله، وكتابي يعلّمني أن لا أجازي الشر بالشر، إنما أنا سلّمت أمري لله، ولن أفعل معه شيئاً سوى أن أظهر له النية الحسنة». ومضت عدة شهور، بعدها ذهب هذا الزميل إلى فراشه ذات ليلة لينام، وكان في تمام الصحة، واستيقظ في الصباح وإذا به مصاب بشلل نصفي. ولما علمت أن نصف جسمه قد أصابه الشلل تألمت جداً أني سلمته أو شكوته لله، بينما كان واجبي أن أسامحه. وقد ندمت وتبت مراراً كثيرة عن هذا الإهمال، لأن المسيحي يجب أن يصفح ويسامح من كل قلبه.

إن ذكريات تلك الأيام باقية تجول في خاطري وكلٌ منها يلعب دوراً في عجَلة إيماني تزيده قوة وصلابة. ولولا أن هذه الحوادث الفائقة الطبيعة وغير المألوفة قد أظهرت لي بيد غير منظورة ربما كان فضولي الطبيعي قد قبل تعاليم العلماء الذين يشددون على أن العالم كله من صنع الطبيعة، أو مجرد حادث طارئ، أو تطور طبيعي! أما الآن فإن جوابي على آلاف من هذه النظريات والفلسفات هو جواب إيماني: «لقد عرفت الله بواسطة الله نفسه، وأنا أعلم أنه موجود وحاضر دائماً في كل مكان، يراني كل حين ويعرف ويسمع ويقبل أي شخص يأتي إليه، أياً كان وأينما كان». أنا أعلم هذا لأني إنسان بشري، وأكثر الناس اعوجاجاً، وأحقرهم وأقلهم استحقاقاً. أنا أشرّ الخطاة وأجدرهم بالهلاك، ورغم هذا كله قبلني الله في شركته بيسوع المسيح.

فوق ذلك أقرر عن اختبارٍ أن خدمة المسيح تجعل الشخص قوياً كارهاً لعمل الشر ميالاً للأعمال الحسنة، فالمسيحي لا يضمر الشر لأحد، لكنه يعطف على كل واحد.

إن الأمانة والإخلاص والاعتماد على الله والشكر كلها بعض الواجبات التي يرى المسيحي أنه لا مفر منها، فهو يعيش في شركة مع الله ويطلب دائماً أن يفعل ما يرضيه، وتراه راغباً ومستعداً أن يساعد الآخرين. إن المسيحي لا يكتفي بأن يعرف ما هو الخير وما هو الشر، بل يسعى دائماً أن يترك الشر ويفعل الخير، ويجب أن يثبت إيمانه بأعماله وأعماله بإيمانه حتى تؤول تصرفاته لمجد الله أمام الآخرين. لذلك أرفع صوتي وأقول: يا إخوتي وزملائي بني الإنسان، ها هو خلاص الله أمامكم مجاناً كما أنه أبدي! لا تبيعوه بثمن بخس. لا تفرطوا فيه بسبب الأمور الدنيوية. لا تهملوه. إن الحياة تسرع إلى مقر راحتها الأخير كحمامة تطير بجناحين سريعين، وعشها قد أُعد إما في مخلب صقر الهلاك أو في محفل أحباب الله في حضرة المسيح. وقد وضع الله الاختيار في هذا الأمر بين أيدينا في دائرة جهودنا ومساعينا. سَل نفسك هذا السؤال: أين أنت ذاهب: صوب الموت أم صوب الحياة؟ إني أقول أمراً واحداً وهو أن ينبوع الخلاص في المسيح وأنت إما أن تقبله أو ترفضه. صلاتي إلى الله هو أن يوجه أشعة نوره الكاشف إلى قلبك آمين.

مات رجب علي نوزاد عام 1944 واضعاً ثقته في المسيح.

المسابقة

إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. لماذا طُبع كتاب «كيف يمكن لكائن بشري أن يتغيّر» خارج إيران؟ وماذا كان موضوع الكتاب؟
  2. لماذا قال الرجل الحكيم إنه لا يؤمن بنبي إلا المسيح؟
  3. كيف رأى الرجل الحكيم في وجود أربعة أناجيل برهاناً على صدقها؟
  4. من هم الذين لا يتركون الدين الإسلامي؟
  5. ما هو التشابه الذي قاله القسيس لنوزاد إنه موجود بين الكينين والإنجيل؟
  6. ما هي الرؤيا التي أعادت لنوزاد سلامه الداخلي؟
  7. اذكر اختباراً في استجابة الصلاة اختبره نوزاد.
 

جليلي، رجل الله

سافر ثلاثة أصدقاء من طهران إلى أصفهان لحضور اجتماع مسيحي هناك. وفيما كانوا في تلك المدينة زاروا بعض مبانيها التاريخية الرائعة، وهي المدينة الشهيرة في العالم بمساجدها ومآذنها. وحيث أن أهل الشيعة المسلمين يعتبرون غير المسلمين نجسين، كان يتعذر عادة على شخص مسيحي أن يدخل أي مسجد في إيران. إلا أن بعض المساجد الإسلامية البديعة في أصفهان أصبحت لا تُستخدم كدُور للعبادة، بل تحولت إلى أماكن سياحية يُسمح لكل السائحين من جميع الأديان بدخولها. وهذا أتاح لهؤلاء المسيحيين الثلاثة أن يدخلوا المسجد العظيم، مسجد الشاه. وبعد أن أعجبوا بالتربيعات المغطاة بالقرميد التي أبدعتها أيادي صنّاع مهرة منذ أكثر من ثلاثة قرون مضت، ساروا إلى نقطة وسطى تحت القبة الضخمة يستمعون إلى الصدى الشهير الصادر من الصوت. وهمس اثنان من هؤلاء الرجال الثلاثة ثم صاحا بصوت عال، ثم أصغيا إلى صوتيهما، والصدى يتردد في أعالي القبة. أما الرجل الثالث، وكان قصير القامة، فجاء إلى النقطة التي يتكلم فيها الناطق، وتطلع إلى القبة الضخمة في أعلى البناء، وصاح بأعلى صوته الرقيق الهادئ قائلاً بكل ما يملك من قوة باللغة الفارسية «يسوع المسيح هو الرب، يسوع المسيح هو الرب».

تُرى من كان ذلك المسيحي الذي أعلن إيمانه جهاراً في مكان تعوَّد أن تتردد فيه شهادة الإسلام وعقيدته ملايين المرات من ملايين المسلمين، ولم يُسمع فيه قط شهادة عن سيادة الرب يسوع المسيح من قبل؟ لم يكن قسيساً، ولا يهودياً متنصراً، بل كان مسلماً صار مسيحياً، اسمه محمود جليلي، كان منذ سنوات قليلة يردّد بكل قلبه عقيدة الإسلام ويتلو الشهادتين «لا إله إلا الله محمد رسول الله». فماذا جرى له حتى تغيَّر من مسلم صميم إلى مسيحي لا يهاب؟

ولد محمود عام 1892م في تبريز، وانتقل أبوه مع أسرته إلى طهران لما كان محمود في السادسة من عمره، وسكنوا بها. وكان أبوه وزيراً لزوجة الشاه، فتربى محمود في البلاط الملكي. وبما أنه كان الابن الوحيد تعلق به قلب والده، فكان يأخذه دائماً إلى جانبه حينما يكون في البيت، كما كان يأخذه معه في أسفاره العديدة. ولم يرضَ أن يرسله إلى المدرسة بل كان يستحضر له مدرّسين إلى بلاط الحريم ليعلّموه، فتعلّم اللغات العربية والفارسية والفرنسية، وتمتع بما يُعتبر تهذيباً حراً عصرياً يشمل الموسيقى.

ولما صار شاباً يانعاً بدأ يخدم في البلاط الملكي، فأتاح ذلك له فرصة التعرف على وجهاء المملكة وأعيانها. وفي عهد الشاه مظفر الدين شاه (1896 - 1907) مات والد محمود وتعين محمود في وظيفة بوزارة المالية. وفي السنوات الأخيرة من حكم الشاه هذا تمتع الشعب الإيراني باستنارة جعلته يطالب بدستور. ونشأ نزاع على السلطة بين المطالبين بالدستور والمتمسكين بالملكية المطلقة. وانحاز الشاب جليلي في هذا النزاع إلى جانب المطالبين بالدستور، وقام بدورٍ فعّال في هذه الثورة التي نجحت، ومنحت إيران لأول مرة دستوراً ومجلساً نيابياً (برلمان). وقد تهلل قلب جليلي بهذا الانتصار. وبنشوة الشباب ظن أن كل مشاكل بلاده المحبوبة، إيران قد حُلت، ولكنه كما ذكر بعد ذلك بأعوام «رأيت أني لا أزال على مسافة أميال عديدة من تحقيق أهدافي ورغباتي».

تزوج جليلي وأصبح أباً لعدد من البنين والبنات، وكان له مركز ممتاز في إدارة صك النقود، وكان يتمتع باحترام أصدقائه ومعارفه. إلا أن هذه فشلت في إشباع نفسه كما فشل من قبل إصدار الدستور، ولم يحصل على سلام قلبه، ولا على يقين من جهة المستقبل. وزادت آلامه بموت زوجته، وزواجه مرة أخرى بزوجة رُزق منها بثلاثة بنين آخرين. وقد نُقل من إدارة صك النقود إلى وزارة المالية، حيث مُنح منصباً ممتازاً، لكن كل هذا لم يشبع قلبه ولم يرح نفسه. وذات مرة ذهب مع جماعة من المسلمين المتعبدين إلى مدينة «قم» المقدسة، حيث قضوا أياماً في الصلاة والصوم. ومراراً وهو في طهران كان يستيقظ مبكراً ويترك بيته في جيليباد (التي سُميت باسم والده) ويخرج إلى خارج المدينة وينفرد في البرية مصلياً إلى الله أن يهديه ويمدَّه بما ينقصه في حياته، أياً كان. ومرت أعوام على هذا المنوال.

أخيراً خطر ببال جليلي أن حاجته الماسة ربما تكمن في اكتسابه تهذيباً عصرياً أكثر، فرأى أن يتعلم اللغة الإنكليزية، ويدرس كتباً جديدة، ويختلط مع أناس مثقَّفين، عسى أن يجد في ذلك معنى أهم للحياة. وبعد البحث وجد معلماً للغة الإنكليزية كان مستعداً أن يأتي إلى بيته ويعطيه بعض الدروس الخصوصية. وكان هذا المعلم طالباً بمدرسة المرسلية المشيخية في طهران، واسمه أحمد، هو ابن أخت نوزاد. وكان أحمد قد صار مسيحياً عن طريق خاله ولم يكن جليلي يعرف ذلك. وكان أحمد مؤدباً صادقاً ولطيفاً، كما كان معلماً ممتازاً. ولم يمض وقت يُذكر حتى استطاع جليلي أن يتكلم وأن يقرأ بهذه اللغة الأجنبية الصعبة، التي أتقنها أحمد خير إتقان في مدرسة الإرسالية.

كان «جاهانفر» أصغر أبناء جليلي من زوجته الأولى، وكان والده يحبه حباً جماً. وإذ رأى الوالد في ما اكتسبه أحمد من تهذيب على يد الدكتور جونسون وزملائه في كلية البورتز، تاقت نفسه أن يحصل ولده «جاهانفر» على مثل هذا التهذيب، فأرسل ابنه هذا في الوقت المناسب إلى المدرسة المسيحية، حيث تعلم الإنكليزية وتعرَّف شخصياً إلى يسوع المسيح، لكنه لم يخبر والده أنه صار مسيحياً.

وفي نوفمبر (ت2) عام 1930 قامت الكنيسة الإنجيلية الصغيرة في طهران بعملٍ لم يسبق له مثيل في إيران، إذ عقدت اجتماعات كرازية كل ليلة لمدة أسبوع هدفها تقديم المسيح للمسلمين في المدينة. وخشي البعض أن هذه المحاولة الجريئة التي تهدف إلى تجديد المسلمين في بلادٍ دينها الرسمي الإسلام قد تضر أكثر مما تفيد، بل قد ينجم عنها طرد المرسلين، لكن الكنيسة صممت على ذلك بإيمان وثقة. وطبعت بطاقات الدعوة، وأرسلتها للناس تدعوهم لحضور سلسلة خطابات في الكنيسة يقدمها واعظ مشهور من خارج المدينة، ورُفعت صلوات كثيرة. وعُقدت الاجتماعات في وقتها، وازدحمت قاعة الكنيسة كل ليلة بالسامعين المتلهّفين مسيحيين وغير مسيحيين. ولم تحدث مقاومة تُذكر.

لما عاد «جاهانفر جليلي» من المدرسة إلى البيت ذات يوم أحضر بطاقة الدعوة وقال لوالده: «بابا، إن الدكتور جونسون رئيس المدرسة يبعث إليك بهذه البطاقة مع أطيب تحياته، ويدعوك أن تذهب الليلة إلى الكنيسة لتسمع خطاباً». ولم يكن جليلي قد حضر اجتماعاً في كنيسةٍ من قبل، لكنه كثيراً ما تردد على أماكن أخرى يستمع إلى محاضرات مختلفة ليزيد معلوماته. ولكن حيث أن الدكتور جونسون الشهير قد دعاه، وحيث أن ابنه يريده أن يحضر، قبل الدعوة وذهب في تلك الليلة مع ابنه جاهانفر إلى الكنيسة. وكان جليلي ينتظر أن يسمع محاضرة عن موضوع دنيوي.

لما دخل جليلي قاعة الكنيسة الغاصة بالحاضرين وتلفت إليهم شعر أنه أرفع منهم. أليس هو الذي تربَّى في بلاط الشاه؟ ثم جلس هو وابنه وسط الجمهور وبدأ الاجتماع. وسرعان ما أدرك جليلي أن هذا ليس الاجتماع الذي يليق به أن يحضره. هذا اجتماع ديني! صحيح أنه سُرّ من الترنيم، لكن لما حاول أن يتتبَّع الألحان لم يلازمه النجاح. وهدأت نفسه من الصلوات التي رُفعت، خاصة أنها لم تكن باللغة العربية كما في الصلوات والعبادة الإسلامية، بل بالفارسية. ثم بدأ الخطاب. وتكلم الخطيب عن آدم أب الجنس البشري، وكيف عصى الله فجَرَّ نفسه، وكل الجنس البشري معه إلى الخطية وإلى الموت. ثم تكلم عن وعد الله بمجيء مخلّص يولد من امرأة ويسحق الشيطان، ومضى يوضح كيف جاء المخلص ووُلد من مريم العذراء ومات على الصليب وقام من الأموات لينقذ البشر من الخطية ومن الموت. وختم بدعوة السامعين أن يؤمنوا بيسوع المسيح فيخلصوا.

إذ كان جليلي يصغي إلى الرسالة مسَّت أعماق قلبه. وقال فيما بعد: «مرَّت كل حوادث حياتي أمام عيني كما لو كانت على شاشة بصورة متحركة، وإذ تأملت في أعمالي الماضية رأيت نفسي شخصاً محكوماً عليه. لقد كنت مثل رجل أعمى، فلما فُتحت عيناي رأيت قذارة حياتي». لقد عاش جليلي من قبل حياةً فاضلة، وكان يُعتبر أحسن من كثيرين من الناس، لكن الله فتح عينيه فجأة، فرأى نفسه لأول مرة كما يراها الله. رأى أنه خاطئ يحتاج إلى مخلّص، وسمع وقبل دعوة المخلّص وهو يقول: «تعالوا إليَّ وأنا أريحكم».

انتهى الاجتماع وانصرف الجمع الحاشد من الناس، ولكن بقي عدد من الحاضرين كانوا يريدون أن يتعلموا أكثر عن المسيح. وكان بينهم جليلي وابنه. وأوضح المتكلم لهؤلاء الراغبين أنه كما يذهب المريض إلى طبيب يثق فيه، ويسلّم نفسه له ليعتني به، كذلك نحن المرضى بمرض مميت هو الخطية علينا أن نأتي إلى الطبيب الأعظم يسوع المسيح الذي أحبنا ومات لأجلنا، وغلب الموت، وهو حي معنا اليوم. إنه مستعد أن يقبل ويسامح ويخلّص كل الذين يثقون به. وسأل المتكلم: من يريد أن يأتي إلى المسيح المخلّص؟ فوقف عدد من الناس وتكلموا، وكان بينهم جليلي وابنه جاهانفر. وقال جليلي بصوت مرتعش: «لما دخلت هذه القاعة ظننت أني أفضل إنسان هنا، لكني الآن أعلم أنه لا يوجد في هذا الاجتماع خاطئ أكبر مني. أنا أؤمن بيسوع المسيح وأتّخذه مخلصاً لي وأتبعه كل أيام حياتي».

وقال جليلي بعد ذلك بمدة طويلة: «لست أعلم كيف استطعتُ أن أقف أمام هؤلاء الناس وأعترف أني إنسان رديء، لأني حاولت من قبل أن أجعل الناس يعتقدون أني رجل صالح. حقاً لقد رفعَتني قوة غير منظورة وأقامتني على رجليَّ ومكّنتني أن أعترف بخطاياي، فلما فعلت ذلك اختبرت في تلك اللحظة فرحاً عميقاً سَرى في نفسي، كما لو كنتُ قد تخلّصت من حمل ثقيل، وشعرت أني لم أعد ذلك الإنسان الأول، بل صرت إنساناً جديداً. لقد وُلدت ثانية في تلك الليلة! صار القلب المضطرب مطمئناً هادئاً، وتغيّر اعتدادي بنفسي إلى التواضع، وتحولت العداوة إلى محبة وصداقة، وصرت مشتاقاً أن أتقرَّب من الناس بعد أن كنت أتجنَّبهم. وأصبح العالم بالنسبة لي شيئاً جديداً، إذ وجدت ما كنت أطلبه منذ وقت طويل».

لما عاد الوالد وابنه إلى البيت لاحظت زوجته تغييراً جديداً على وجه زوجها فسألته: «لماذا أنت مغتبط ومسرور الليلة؟ هل أنت سكران؟».

أجاب جليلي: «كلا. أنت تعلمين أني لا أشرب، لكني قد أصبحت مسيحياً!».

سُرّ «جاهانفر» أشد السرور بقرار والده، لكن سائر أفراد العائلة لم يُسرّوا، إذ شعروا أن جليلي قد جلب عاراً عليهم، بهجره دين الوطن، واعتناقه دين الأجانب. واحتمل الوالد تعييراتهم بصبر وتواضع، وانتصرت محبة المسيح، فقد حدث بعد ذلك أن زوجته والشباب في عائلته صاروا مسيحيين.

وقد كتب أحدهم وصفاً للاجتماعات التي تجدد فيها جليلي وغيره قال: «كانت هذه الاجتماعات للرجال والنساء على السواء ولكن زاد عدد الحاضرين من الرجال زيادة كبيرة عن عدد النساء إلا في مساء الأربعاء حين كان الاجتماع قاصراً على النساء... وقُدمت الدعوة عن طريق بطاقات صغيرة مطبوعة كان على الراغب أن يملأ خاناتها ويؤرّخها بيده. وقد وُزع من هذه البطاقات ثلاثة آلاف في خلال الأسبوع، وكانت الاجتماعات مزدحمة يحضرها حوالي 200 - 250 كل ليلة. ومع أن معظم الحاضرين كانوا مسلمين، فلم يُذكر الإسلام في المواعظ، كما لو كان الواعظ يتكلم لكنيسة مزدحمة في أمريكا. وكان الواعظ يكرر أننا كلنا نحتاج إلى مخلّص من الخطية وإلى قوة تجعلنا نحيا حياة الطهارة والمحبة. وكان التأثير بالغاً وبدا كأن الناس كانوا ينتظرون هذه الفرصة بشغف. وطُلب من كل من يريد أن يعرف أكثر عن المسيح أو ينال هذه الحياة الجديدة أن ينتظر بعد الاجتماع، فاستجاب للدعوة نحو ثلاثين أو أربعين كل ليلة، وفي حضور مثل هذا العدد الكبير صرح الكثيرون أنهم يريدون أن يصيروا مسيحيين، وقبلوا المسيح، أو طلبوا الصلاة من أجلهم. وفي نهاية الاجتماعات الثمانية أعلن ستون شخصاً رغبتهم في أن يصيروا مسيحيين، ومعظمهم من الشباب، ومنهم عشرون من كلية الإرسالية، ونحو هذا العدد من المدرسة اليهودية (التابعة للكنيسة الإنجليكانية) والبقية من الخارج ... ولكن للأسف نقول إن كثيرين من هؤلاء الستين الذين بدأوا الحياة الجديدة بحماس كانوا كالبذار الذي سقط على الطريق. أما جليلي فلم يكن كذلك».

عندما يكون الإنسان في بيئة معادية، لا سيما في بلاد إسلامية، تشتد التجربة على المؤمنين بالمسيح أن يحتفظوا بإيمانهم لأنفسهم «وأن يضعوا سراجهم تحت المكيال»حتى لا يجلبوا مصائب على أنفسهم أو عائلاتهم. أما جليلي فلم يستطع أن يسكت، كما لم يستطع تلاميذ المسيح في أورشليم أن يسكتوا عندما أمرهم رؤساء اليهود بعدم الكرازة. في اليوم التالي للقرار العظيم الذي اتخذه جليلي ذهب إلى مكتبه وأخبر أصدقاءه أنه قد صار مسيحياً ودعاهم إلى بيته ليخبرهم لماذا فعل ذلك. وجاءوا ذات ليلة كجماعة فقدم لهم شهادته عن خلاص المسيح. وقد تأثر بعضهم وقاومه البعض الآخر. وسرعان ما اعتاد على أن ينحني لحظات للصلاة كلما جلس إلى مكتبه كل صباح، فكان المغتاظون منه ينتهزون الفرص لينادوه ويزعجوه حتى يقطعوا عليه الصلاة. وقد احتمل بصبر هذه الاضطهادات التافهة لأجل المسيح. لكن رؤساءه بوزارة المالية لم يهددوه بالطرد بسبب تركه الإسلام، لأنهم كانوا في حاجة إلى شخص يُعتمد عليه مثل جليلي فاحتفظوا به في وظيفته.

بعد أن تجدد جليلي بدأ يدرس العهد الجديد، ولم تكن له معرفة سابقة به، ولكنه صار موضوع بهجته أن يتأمل في كلمة الله. وبعد تسعة شهور تعهد هو وشخصان آخران اهتديا من الإسلام إلى المسيحية، وكان عمادهم في 27 أغسطس (آب) عام 1931 في مؤتمر عقد بطهران حضره أعضاء من الكنائس الإنجليكانية والمشيخية في إيران. بعد ذلك بوقت قصير كوّن هؤلاء المؤمنون الثلاثة رابطة أخوّة صغيرة لتقوية إيمانهم ولتقديم أخبار الخلاص السارة للآخرين. وكانوا يدعون أصدقاءهم مرة كل أسبوع في مساء أيام الاثنين إلى بيت جليلي، وكان بما اشتهر به الإيرانيون من كرم الضيافة يجهز لهم الشاي بيده ويقدمه لهم. ثم يقرأ لهم من الكتاب المقدس ويخبرهم بما فعله المسيح له، وما يمكن أن يفعله لهم هم أيضاً، إذا آمنوا به واتّخذوه مخلّصاً لهم. وظلت هذه الاجتماعات تُعقد في بيت جليلي 35 عاماً في أثنائها التقى كثيرون بالمسيح وجهاً لوجه.

كان الروح في هذه الاجتماعات غير الرسمية روح المودة والصداقة الدافئة، لأن جليلي كان يتوق أن يكرز لهم بالمسيح، لا أن يهاجم الإسلام. ولكن حدثت فترات فيها اقتحم الأعداء بيته وعملوا كل ما في استطاعتهم حتى يمنعوا الاجتماعات، وحدث مرة عندما جاء من بيروت الكاتب اللبناني الشهير لطفي ليفونيان ليزوره ويتكلم في الاجتماع أن بعض أعداء الإنجيل القساة تدخلوا بفظاظة وجعلوا الموقف حرجاً. وكان حاضراً أحد ضباط الجيش المسيحيين وهو مصارع ممتاز، فتدخَّل بقوته ونفوذه لحماية الضيف المكرم فلم يلحق به أذى. وصار حارساً له حتى عاد إلى بيته بسلام. ولم ينس الأستاذ ليفونيان تلك الليلة في بيت جليلي.

ولما ضاقت الغرفة التي كانت تُعقد بها الاجتماعات عن أن تسع الحاضرين، بذل جليلي تضحية كبرى وبنى غرفة أوسع بنافذة تطل على الشارع حتى يتسنَّى للمارة أن يسمعوا وأن يروا وأن يدخلوا.

ولم يكتف جليلي بدعوة الأصدقاء إلى بيته، بل شرع يذهب إلى الشوارع ويحمل الكتب المسيحية والنبذ وأجزاء من الكتاب المقدس مع مؤلفات مسيحية أخرى ليبيعها، ويدعو من يرغب أن يأتي إلى غرفة القراءة المسيحية وإلى اجتماعات الكنيسة. ويُعتبر بيع الكتب في الشوارع في إيران عملاً حقيراً لا يليق أن يقوم به شخص مثقف، لكن جليلي اعتبره شرفاً أن يشهد للمسيح بهذه الطريقة، فمهما قال عنه أصدقاؤه القدامى كان همُّه أن يكون أميناً لصديقه الجديد، يسوع المسيح. وقد انتصر إخلاصه وتواضعه في تقديم الإنجيل. وفي غالب الأحيان تحوَّل من قاوموه في البداءة إلى أصدقاء.

كان يُعقد اجتماع في غرفة القراءة بدار الإرسالية المشيخية كل مساء، يدرس فيه المسيحيون والمسلمون الكتاب المقدس. وكان جليلي يواظب على حضوره، ثم صار فيما بعد قائداً له. وقد وجد فيه فرصة سانحة ليخبر الشباب المجتمعين هناك عما عمله المسيح له. وفي هذا الاجتماع الذي دام سنوات عديدة تعرَّف عدد كبير من المسلمين على المسيح المخلّص.

ليس طريق المتجدد سهلاً ناعماً، فلم تخلُ حياة جليلي من المشاكل، فمع أن زوجته صارت مسيحية نشأت مشكلة قادت جليلي بعد إلحاح شديد من أقاربه المسلمين أن يلجأ إلى الطلاق. فحلّت على بيته سحابة قاتمة. وحدث ذات يوم أن جاء لزيارة جليلي أخ مسيحي يُدعى منصور سنغ وركعا معاً للصلاة، وقال منصور: «أنت شخص مسيحي، وكما غفر لك الله ينبغي أن تغفر لها وتعيدها إلى البيت!» وشعر جليلي أن هذا أمر من الرب فأطاع. وبعد ذلك أعيد قران الزوجين في زواج مسيحي في خدمة خاصة بالكنيسة.

في شهر أغسطس (آب) عام 1938 كتب أحدهم عن جليلي ما يأتي: «إن قيل عن أي شخص إنه تجدد حقاً ووُلد الولادة الثانية، يكون جليلي هو هذا الشخص، ففي خلال الثماني السنوات الماضية كان مثالاً عجيباً لما يستطيع أن يفعله المسيح لشخصٍ مسلم. إنه يشغل منصباً هاماً في الخدمة العامة حيث يلقى كل ثقة واحترام. لكن هدف حياته وبهجتها هما في خدمة المسيح وكنيسته. هو شيخ مكرم، وقائد للعمل الكرازي في الكنيسة، ولم أسمع قط أي شخص يشك أو يتساءل عن حقيقة إيمانه المسيحي وحياته المسيحية. إنه قديس إيراني حقيقي. لقد جُرب وامتُحن بأقسى ما يكون الامتحان، فأظهر محبة المسيح بشكل يندر وجوده بين المسيحيين في أي مكان. ما أعظم البركات التي يغمرنا جميعنا بها هذا الرجل الفاضل!».

ولكن بينما كان جليلي الوالد ينمو باستمرار إلى حياة التشبُّه بالمسيح، كان الابن الذي أتى به إلى الكنيسة (منذ ثماني سنوات مضت) ينزلق وينحدر ويهوي. كان شاباً موهوباً طموحاً جداً. وكان يحب المسيح، لكن أدرك أنه إذا اعتمد واعترف بإيمانه علناً فإنه لن يصل إلى المركز السامي الذي يصبو إليه. ولهذا حاول أن يلعب على الحبلين، بأن يمسك بالمسيح بيد واحدة، وبالعالم باليد الأخرى، فرفض المعمودية وكفَّ عن حضور الكنيسة، ووجَّه كل همه نحو التمسك بالعالم. كتب كتاباً جذب الأنظار إليه، وحصل على مركز عظيم، لكن والده حزن عليه كثيراً، لأنه ذهب إلى كورة بعيدة. وفجأة أصيب الابن بالمرض، وقال الطبيب إنه مرض خطير. وهنا يقول أحد أصدقائه: «ذهبتُ لزيارته ووجدته في حالة مؤلمة من الهزال والنحافة، ولكنه حيّاني بابتسامة، وحالما جلست بجانبه قال: أنا ضعيف جداً في جسمي وفي روحي، وأحتاج إلى المعونة! .. ولم أكن في حاجة أن أسأله عن أي شيء، فقد كان واضحاً أن الابن الضال قد اتجه راجعاً نحو البيت. أكدت له غفران الله، وذكرته أن دم ابن الله يطهرنا من كل خطية، وأخبرته أن يلقي كل حمله عند قدمي المسيح فيجد راحة لنفسه. ثم صلينا، صلى هو، وصلى أبوه وصليت أنا. وعدت لزيارته بعد يومين، فوجدته بدأ يتحسن ... وأخبرني بعزمه أن يعود إلى الكنيسة حالما يستطيع ذلك، وأن يعتمد ويقوم بعمل نشيط في الكنيسة وقال: ما أعظم أن يكون الإنسان مع إخوته المسيحيين وأن يعمل معهم في خدمة الله ... لكن «جاهانفر جليلي» لم يحظ قط بالفرصة التي كان يتمناها لخدمة الله في الكنيسة، بل ظل يزداد ضعفاً. وفي ربيع عام 1939 مات واضعاً ثقته في المسيح. وكان موته مؤسفاً جداً، فقد كان موهوباً ككاتب عظيم. وكان يمكن ان يقدم خدمة كبرى بقلمه لعمل المسيح في إيران. وقد تحطمت قلوب أفراد أسرته. لكن والده احتمل هذا الحزن بثبات عجيب وثقة مدهشة لا يمكن أن يمنحها إلا المسيح» .

عندما بلغ جليلي سن الستين، كان يتلهف أن يكرس كل وقته لخدمة سيده فطلب من وزارة المالية أن تحيله إلى التقاعد بعد أن خدمها سنوات عديدة. وقد أجابت الوزارة طلبه ومُنح معاشاً، فأصبح عند ذلك حراً وقادراً أن ينفق وقتاً أطول في غرفة القراءة يكلم الطالبين والراغبين في استزادة المعرفة، وفي الشوارع أيضاً يبيع الكتب المسيحية. وكثيراً ما كان يرافق المبشرين في رحلاتهم إلى مدن الإقليم. ولما كان المرسلون يذهبون إلى مكاتب الحكومة لمقابلة المسلمين وبيع بعض الكتب المسيحية لهم، كان الموظفون في أغلب الأحيان يعرفون جليلي أو أبناءه، وكانوا دائماً يرحبون به بلطف، وكانوا عادة يشترون الكثير من كتبه. ولم يقصر قط في أثناء زياراته في تقديم شهادته عن يسوع المسيح ربه. ومع أن المسلمين غالباً ينفرون من قول المسيحيين عن مخلّصهم إنه «ابن الله» إلا أن جليلي كان دائماً يفتخر بأن يدعو المسيح «ابن الله الوحيد»، وكان السامعون يشعرون بإخلاصه العميق فنادراً ما كانوا يعترضون.

صار جليلي في تلك الفترة من قادة الكنيسة الإنجيلية الموثوق بهم في إيران. وكثيراً ما كان يتكلم من المنبر لا سيما في خدمات مساء الأحد الكرازية. لم يكن واعظاً فصيحاً، لكن السامعين كانوا دائماً يتأثرون من غيرته وتكريسه التام للمسيح. وقد دعته لجنة الكرازة أن يكون كارزاً علمانياً، فقبل الدعوة بسرور، وظل دائباً في جهوده لتقديم بشارة الخلاص وأخباره السارة لبني وطنه.

أما أخت «جاهانفر» فكانت متعلقة به شديدة الولاء له، وفي مرضه الأخير اعترفت بإيمانها بالمسيح لكنها لم تطلب العماد. وفي الأعوام الثمانية التي تلت ذلك لم تُبد رغبة حقيقية في أن تصبح مسيحية. وفي كل ذلك الوقت ظل والدها يصلي من أجلها. وفي شهر أبريل (نيسان) عام 1947 استُجيبت صلواته وقد كتب أحد القسوس عن هذا يقول: «جاءت عكوة جليلي ابنة المبشر القديس في الكنيسة تزورني ذات صباح، وقالت لي إنها تريد أن تصير مسيحية. واعترفَت أنها لم تكن مسرورة عندما صار والدها مسيحياً منذ ستة عشر عاماً، وكثيراً ما تكلمت ضده بكلمات قاسية، لكنها رأت منذ وقت قصير مضى شيئاً غيَّر موقفها تماماً، فقد حدث أن أحدهم كلّم والدها كلمات نابية وهي موجودة وسامعة، وظل ينطق بكلام قاس وتهم باطلة، لكن والدها احتمل بروح مسيحي وصبر ووداعة، ولم يرد بكلمة واحدة. وقالت: وكان هذا أكثر جداً مما أتصور، لأني لم أرَ قط روحاً نبيلاً مثل هذا. إن أبي فقير أما أنا فغنية، وعندي كل ما يتمناه الإنسان ويشتهيه، لكن ليس لي صبر والدي ولا صفحه. أنا لست سعيدة وأريد أن أحصل على ما عنده هو. لذلك جئت إليك لترشدني إلى المسيح حتى أضع يدي في يده، عسى أن أصير مثل والدي العزيز ... وتكلمنا معاً لمدة ساعة عن المسيح وعن والدها، وإذ كانت الدموع تنساب من عينيها اعترفت بخطاياها وطلبت من الله الصفح والغفران، وسلمت حياتها للمسيح. وقد تهلل قلب جليلي لأن ابنته جاءت للمسيح وتعمدت وخدمت المسيح بفرح وأمانة إلى وقت موتها بعد سنوات قليلة».

أما عبد الله جليلي وهو أخ أكبر لجاهانفر فكان مدرساً محترماً للغة الفرنسية في طهران. وذات صباح استيقظ مبكراً ليذهب إلى موعد، وفيما هو يعبر الشارع صدمته سيارة فمات. وحيث أنه كان مسلماً فقد أُخذ جثمانه فوراً إلى مسجد لخدمة الجناز. وقد جاء أحدهم إلى جليلي وقال له: «أرجو أن تأتي فوراً معي إلى المسجد». فذهب وهو لا يعلم السبب، ولكنه شعر أنه لا بد أن يكون قد حدث أمر خطير، فدخل المسجد ووجد جمعاً كبيراً محتشداً فيه. عندئذ أخبره أحدهم أن هذا جناز ابنه عبد الله. فصُعق من الخبر المفاجئ المحزن. فكيف يحتمل صدمة مباغتة كهذه؟ لكن في الحال جاءته هذه الكلمات «لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي - تعالو إليَّ ... وأنا أريحكم». ونظر إلى المسيح فوجد سلاماً وقوة حتى اندهش كل الذين رأوه وتأملوا في ثباته. بعد أيام قليلة أُقيمت حفلة تذكارية لعبد الله جليلي في قاعة وزارة التربية حضرها الوالد الحزين وكان أحد المتكلمين فيها، وقدم شهادته كشخص مسيحي أمام عدد كبير من أصدقاء ابنه وزملائه، ولما أنهى كلمته وقف وزير التربية وهو مسلم وقال: «هذا الأب رجل إيمان، وهذا هو السبب الأكبر لثباته العظيم ورباطة جأشه في حزنه». وكثيراً ما أشار جليلي في السنوات التالية لاختباره هذا كمثال لما يعنيه له المسيح في أحزانه الكثيرة.

عيّن سنودس الكنيسة الإنجيلية لجنة لوضع برنامج تدريبي للكارزين. وفي صيف 1948 صرف عدد من الرجال والنساء أربعة شهور في دراسة موضوع «الكرازة» وللصلاة والإعداد لتوصيل بشارة الإنجيل لإيران. وظل التدريب يُمارس في صيف السنوات التالية حتى جاء عام 1950 حين تخرج أول صف ونال المتخرجون شهاداتهم ومن بينهم جليلي.

كان جليلي أكبر الطلاب سناً، ومن أشدهم حماساً في هذه الدراسة. وقد اشتغل بكل جد وقوة وحفظ غيباً آيات من الكتاب المقدس بأمانة كما فعل أصغر الطلاب سناً. وكان من الصعب منعه عن كنس غرفة الطعام وحمل دلو الماء إلى المطبخ. وكان يحسب وجوده في هذه الرابطة السعيدة كأنه في السماء، كما كان وجوده بركة لكل شخص آخر. وذات يوم جاءت ابنته لتودعه قبل سفرها إلى أمريكا لرؤية ابنها وكان طالباً بكاليفورنيا. ووقفت بجانب والدها والدموع تنهمر على خديها وقالت إن حياته المقدسة هي التي قادتها إلى المسيح. وتأثر الجميع أعمق تأثر.

في نفس السنة التي تخرج جليلي فيها تمتع بفرصة العودة إلى تبريز التي لم يكن قد رآها منذ أيام طفولته. وهناك في مسقط رأسه أُتيحت له الفرصة أن يقدم شهادته عن حقيقة ولادته الجديدة في المسيح. وفيما هو هناك كتب ونشر على نفقته الخاصة كتيباً باللغة الفارسية عنوانه «أخبار الخلاص السارة» فيه وصف حياته الأولى، وتجديده، وخدمته كمسيحي، وختمه بهذه العبارة «أشكر الله أنه منحني هذه الفرصة لآتي إلى مسقط رأسي وأقدم الأخبار السارة عن يسوع المسيح بواسطة كلمتي هذه لمواطنيّ الأعزاء. محمود جليلي».

بينما كان جليلي في تبريز تاقت نفسه أن يرى أقاربه على أمل أن يقودهم إلى المسيح، لكنهم لم يرضوا أن يتقابلوا مع ابن عمهم لأنه صار كافراً، ولكن طبيباً شاباً وآخرين من تبريز جذبهم جليلي بروحه المحب، وعن طريقه جاءوا إلى المسيح.

يقع على شمال جبال البورتز أقليم مزرديران الكبير الذي يمتد أميالاً عديدة على الشاطئ الجنوبي من بحر قزوين، ولم يكن في هذا الإقليم أي مركز دائم لأية مرسلية، رغم أن عدداً كبيراً من المرسلين زاروا تلك البقاع مراراً، وجاء إلى مدنها الكبيرة كارزون وأطباء من طهران. وأبدى جليلي اهتماماً خاصاً بمزرديران، فزارها مرة بعد أخرى تارة منفرداً وطوراً بصحبة واحد أو أكثر من الإخوة المسيحيين. وكان الموظفون في المدن يعاملون هذا الكارز المحبوب بمودة واحترام وأصبح معروفاً تماماً في كل الإقليم. ومن المدهش أن طلبة المدرسة الثانوية أحبوا هذا الرجل العجوز وانجذبوا إليه. فحالما كان يصل إلى المدينة كان الأولاد يأتون إلى غرفته في الفندق أفراداً وجماعات ويستمعون بتلهف إلى رسالة يسوع المسيح.

وروى أحد القسوس الاختبار التالي: «حدث أن طالباً بالمدرسة الثانوية في بابول كان قد تعرف بجليلي منذ عدة سنوات وأراد أن يصير مسيحياً. فأحضر صديقاً آخر، وأحضر الاثنان آخرين حتى زاد عددهم عن مئة طالب في مدرسة حكومية واحدة، وكانوا كلهم يريدون أن يصيروا مسيحيين، ولم يكن هناك أحد يستطيع أن يقدم لهم تعليماً منتظماً، وكان عدد كبير منهم لا يفهمون إلا أقل القليل عن معنى أن يكون الإنسان مسيحياً. ولكن لم يحدث قط في أية مدرسة في إيران، ولا في مدارسنا المرسلية سابقاً مثل هذا العدد من الطلاب المسلمين يقولون إنهم يريدون أن يصيروا مسيحيين. وكان من المناسب أن نؤجِّل عمادهم إلى أن نتحقق من إخلاص إيمانهم، ولم يعمد أحد منهم إلا بعد ثلاث سنوات. وليتك كنت حاضراً معنا عندما أُقيمت خدمة صغيرة حول المائدة في غرفة بالمدرسة في بابول حينما تعمّد أول شابين من هؤلاء الطلبة! لقد اعترفا بإيمانهما جهراً بدون خوف ولا وجل أمام عائلاتهم وزملائهم الطلبة، وقاد كل واحد منهم عدداً من أصدقائه لقبول المسيح، وكانوا قد انتظروا تحت الاختبار ثلاث سنين قبل العماد - وكم كان سروري طاغياً وأنا أقبلهم وأرحب بهم في عضوية الكنيسة أمام أستاذهم الفرنسي، وهو كاثوليكي، والمبشر جليلي ونكبور. وكلهم قد تناولوا عشاء الرب معاً، واشترك معنا الأستاذ الكاثوليكي بسرور. هؤلاء الجنود الصغار للمسيح يثقون أن عدداً كبيراً من زملائهم الآخرين سينالون المعمودية بعد وقت قصير. وفي الليلة التالية حضر عشرون رجلاً على الأقل إلى غرفتي بالفندق، وظلوا يستمعون بشوق إلى «عكوه جليلي» وهي تحدثهم عن الحياة الجديدة التي نالتها من المسيح، وصرح كثيرون منهم جهاراً أنهم يؤمنون بالمسيح» .

لما تقاعد جليلي مرة أخرى منحه مجلس الكرازة معاشاً صغيراً فظل يقوم بخدماته في الكنيسة وفي غرفة القراءة متطوعاً، فقد كانت هذه حياته وكان مصمماً أن يقدم كل ما عنده لسيده. ولما تقرر قفل غرفة القراءة في ليالي السبت غيّر ميعاد الاجتماع في بيته من الإثنين إلى السبت. وأدخل على برنامج الاجتماع عنصراً جديداً، فقد خطر بباله أنه وهو صبي أخذ دروساً في اللعب على الطار وسأل نفسه هل يستطيع بعد كل السنين الطويلة أن يستعيد مهارته، فاشترى طاراً وسُرّ إذ وجد نفسه يستطيع أن يلعب على أوتاره. وحيث أن كل شيء في حياته أصبح مكرساً للرب فقد كرس الطار أيضاً لخدمة الرب، فلما جاء أصدقاؤه إلى بيته مساء السبت طلب منهم جليلي أن يرنّموا ألحاناً وهو يلعبها على الطار. وسُر أصدقاؤه وهم يرنمون الألحان باللغة الفارسية، سواء انسجموا مع نغمة الطار أم لم ينسجموا. وكان جليلي وهو يعزف كأنه قد انتقل إلى عالم آخر بالموسيقى، وسكب كل نفسه في عزفه، سواء كان اللحن «قف مع يسوع» أو «ليس أحلى منها ساعة الصلاة لله». ربما هذا لم يعجب قائد الترنيم في الكنيسة، لكن جليلي وأصدقاءه كانوا في غاية الاغتباط وهم يهتفون للرب وشعروا بسرور أكيد.

في أعوام حياته الأخيرة بدأ نظره يضعف وبدأت صحته تتدهور، فوجد تعزيته العظمى في الصلاة. لقد كان رجل صلاة منذ تجدد، وظلت عادته سنين أن يصلي لأجل أصدقائه بأسمائهم كل صباح. ولما بلغ السبعين من عمره اهتم كثيراً بابنٍ صغير لأحد المرسلين، وكان يصلي لأجل «ستيف» كل يوم سنين عديدة. ولما دخل مدرسة الكرازة عام 1948 قرأ مقالة في مجلة كنسية تتحدث عن شاب مبشر مدهش استخدمه الله بقوة في اجتماعات كبرى عُقدت في كالفورنيا. وطرب قلبه جداً وبدأ يصلي يومياً من أجل اجتماعات بلي غراهام. وبعد سنين سمع الدكتور غراهام عن رجل الله الذي يصلي بأمانة لأجله فأرسل له خطاب شكر كان جليلي يقدِّره أعمق تقدير.

كان جليلي أيضاً يُسر أن يتسلم رسائل من أصدقائه، وكان دائماً يرد عليها فوراً. وكان أصدقاؤه الإيرانيون يتندرون عن خطه باللغة الفارسية فكانوا يقولون إن خطه بديع بحيث لا يستطيع أحد أن يقرأه، وصدقت هذه الفكاهة مع معظم أصدقائه المرسلين، لذلك اشترى آلة كاتبة إنكليزية واستخدمها عدة سنين في مراسلاته مع أصدقائه الناطقين باللغة الإنكليزية. ولما كانت معرفته باللغة الإنكليزية محدودة، فكثيراً ما كان يخلط بين اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ولم يتقن قط فن الطباعة على الآلة الكاتبة، ولم تكن آلته الكاتبة من النوع الممتاز، لكن الرسائل المكتوبة عليها كانت مثل كاتبها، مفعمةً بالمحبة لأصدقائه والشكر لربه. ولما كان الجنود الأمريكيون في إيران في أثناء الحرب العالمية الثانية صار بعض المسيحيين منهم أصدقاء مقرّبين لجليلي، وكثيراً ما ذهبوا إلى بيته. وبعد انتهاء الحرب ظل عدد قليل منهم يحتفظون بأواصر الصداقة معه بالمراسلة، وكان جليلي بين آن وآخر يعلن بغبطة «لقد تسلمت اليوم خطاباً من كلايد بأوهايو».

منذ عدة سنوات مضت كان خادم كنيسة الجالية الأمريكية بطهران يعظ في يوم أحد، فذكر للحاضرين (ومعظمهم كانوا يعملون في وظائف حكومية أو مشروعات يقوم بها رجال الأعمال في إيران) قصة تجديد جليلي، ثم قال: «إن الرجل الذي كلّمتكم عنه حاضر معنا هنا الآن، وأنا أرجو السيد جليلي أن يأتي إلى المنبر ويذكر كلمة عن نفسه». فقام جليلي الرجل القصير القامة الأصلع الرأس، وسار من مقعده الخلفي في الكنيسة إلى المنبر وبلغته الإنكليزية «المكسَّرة» قدم شهادته المسيحية. وأشار إلى أن ديانته السابقة لم تقدم لقلبه السلام والفرح، لكن الله جاء إليه في المسيح وخلصه. وأضاف جليلي قائلاً: «لما كنتُ مسلماً ظننت أني أعرف الله، لكني لم أكن أعرفه. إنما عرفت الله عندما رأيته في المسيح».

فإن كان أحد الحاضرين قد ظن من قبل أن الإسلام كافٍ للذين يعتنقونه، أو أنه لا يمكن لشخص مسلم متعبد أن يصير مسيحياً، فلا بد أن يكون قد فهم بعد كلمة «جليلي»تفرُّد الإيمان المسيحي، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه أو الاستعاضة بغيره، وذلك من وجه جليلي المشع بالضياء وهو يتحدث عن المسيح، ويقدم شهادته ببساطة عن القوة غير المنظورة التي غيرت حياته. إن جليلي وأمثاله ممن جاءوا من الإسلام إلى الشركة المسيحية عرفوا أن المسيح هو وحده الطريق وليس سواه. وإنجيل المسيح هو قوة الله للخلاص «لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُص» (أعمال 4: 12).

 

لقد ظل جليلي إلى آخر حياته يذهب ماشياً في شوارع إيران المزدحمة لحضور اجتماعات الكنيسة كل يوم أحد ويوم أربعاء، رغم ضعف بصره المتزايد حتى عمي تقريباً. وقد نال محمود جليلي إكليله يوم 3 يناير (ك2) سنة 1969 ووري جسده ليستريح في المدافن المسيحية بقرب قبر ابنته، وانضم إلى جماعة المفديين الممجدين الذي يعظم انتصارهم بقوة يسوع المسيح.

أيها القارئ العزيز،

إن قرأت هذا الكتيب، لما لا تحاول الإجابة عن الأسئلة التالية؟:

  1. ما الذي قاله محمود جليلي في مسجد الشاه في أصفهان؟
  2. ما الذي جعل محمود جليلي يرسل ولده ليتعلم في كلية البورتز؟
  3. ما الذي جعل جليلي يقبل المسيح مخلّصاً؟
  4. لماذا لم يطردوا جليلي من عمله بعد تنصيره؟
  5. لماذا طلبت عكوة جليلي المعمودية؟
  6. ما هو موضوع كتاب «أخبار الخلاص السارة»؟
  7. من اختبار جليلي، كيف تبرهن صحَّة ما جاء في أعمال 4: 12؟

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:

The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland

الصفحة الرئيسية