سفر التكوين

[ للقمص /  تادرس يعقوب ملطي ]

________________________________________________________________

 

مقدمة

الكتاب المقدس فى العبرية [ العهد القديم ] ينقسم إلى ثلاث وحدات حسب واضعيها

أولا : الناموس أو التوراة ؛ يحوى أسفار موسى الخمسة ( التكوين ، الخروج ، اللاويين ، العدد ، التثنية ) .

ثانيا : الأنبياء – ينقسمون إلى أنبياء أولين وإلى أنبياء متأخرين ، القسم الأول يضم يشوع والقضاء حتى الملوك ، أما القسم الثانى فيشمل إشعياء وأرميا وحزقيال والأثنى عشر نبيا الصغار .

ثالثا : الكتوبهيم وينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام : كتب شعرية مثل المزامير والأمثال وأيوب ، وأخرى مثل النشيد وراعوث ، …… وكتب تاريخية غير نبوية مثل دانيال وعزرا ونحميا وأخبار الأيام .

بهذا تظهر أسفار موسى الخمسة كوحدة تسمى " الناموس " ، وإن كانت قد حملت أسماء أخرى مختلفة وردت فى العهدين ، منها :

·       التوراة أو الشريعة

·       سفر الشريعة أو كتاب موسى

·       سفر توراة موسى

·       سفر شريعة الله

·       كتاب موسى

·       ناموس ( شريعة ) الرب

·       شريعة موسى

وحدة تاريخية :

تمثل هذه الأسفار وحدة تاريخية مترابطة معا ، تبدأ بخلق العالم من أجل الأنسان ثم خلق الأنسان نفسه ، وإذ سقط الأنسان هيأ له الله الخلاص ؛ فاختار الله الآباء الأولين إبراهيم وإسحق ويعقوب ، وفى مصر بدأت البذرة الأولى للشعب الذى هيأه الله

ليتحقق من خلاله الخلاص للبشرية كلها ، ثم أقيم موسى كأول قائد لهذا الشعب ، أخرجه من عبودية فرعون وخلاله تمتعوا بالعهد عند جبل سيناء ، وأخيرا وقف بهم عند الشاطىء الشرقى للأردن ليسلمهم فى يد قائد جديد هو يشوع ، وكأنه بالناموس يسلمنا ليسوع قائد الحياة وواهب الميراث ، هكذا تحقق هذه الأسفار حقبة هامة متكاملة فى حياة البشرية من جهة علاقتها بالله ، وتمثل دورا هاما يعيشه الأنسان ، فيه يلمس رعاية الله له واهتمامه بخلاصه .

هذا ومما يجدر ملاحظته أن التاريخ فى هذه الأسفار يمتزج بالأيمان ، فلا انفصال بين الأحداث التاريخية والعقيدة الأيمانية .

محتويات الأسفار الخمسة :

عرضت لنا هذه الأسفار المقدسة حديثا تاريخيا ممتزجا بالعقيدة ، يكشف عن خطة الله من جهة الأنسان ، أقامه كصاحب سلطان ، لكنه إذ حرم نفسه بنفسه من هذا المركز الفريد اهتم الله بخلاصه فاختار الآباء البطاركة كتهيئة لأختيار شعبه ومساندتهم بكل إمكانية حتى ينطلق بهم من أرض العبودية ويرافقهم فى البرية ويعولهم ماديا ويهتم بتقديم شرائع مقدسة .

فى سفر التكوين نرى :

أولا : الخليقة كمقدمة لتاريخ الخلاص          التكوين 1 – 11

ثانيا : اختيار البطاركة كتهيئة لأختيار شعبه         12 – 50 .

+ إبراهيم              12 – 25

+ إسحق               25 – 26

+ يعقوب              26 – 36

+ يوسف              37 – 50

من كاتب سفر التكوين ؟

موسى النبى ، يظن أنه كتبه فى مديان عندما كان يرعى غنم حميه يثرون ، والأرجح أنه كتبه بعد إستلامه لوحى الشريعة . وقد تعلم الكتابة من المصريين الذين تثقف بحكمتهم ، وإن كان الذى علم التلاميذ اللغات يوم الخمسين قادر أن يعلم موسى الكتابة .

غاية السفر وسماته :

شغل موضوع الخليقة العالم القديم بكل دياناته وفلسفاته وأدبه الشعبى وكان يحمل مزيجا من الأساطير والخرافات ، لذا التزم موسى أن يسجل فى شىء من البساطة التى يمكن أن يفهمها حتى الرجل العامى فى شرحه للخليقة بعيدة كل البعد عن الخزعبلات القديمة .

الوحى الإلهى لم يهدف إلى عرض لاهوتيات وفلسفات خاصة بالخليقة وإنما أراد أن يدخل بنا إلى الخالق الذى يهتم بتجديد الخليقة بعد فسادها .

أبرز هذا السفر جانبا هاما يمس علاقتنا بالله ، فالأنسان فى نظر الله ليس مجرد خليقة وسط ملايين من المخلوقات الأرضية والسماوية ، لكنه كائن فريد يحمل السمة الأرضية فى الجسد والسماوية فى الروح . له تقديره الخاص فى عينى الرب . الأنسان هو الكائن الوحيد الذى وهبه الله الأرادة الحرة التى تميزه عن سائر المخلوقات ...

من أجل هذا خلق الله الأنسان سيدا على الأرض ، ومتسلطا على كل ما عليها وما تحتها ، ما فى البحار وما فى الهواء .... حتى على الفضاء ! لقد وهبه صورته ومثاله وأقامه كسفير له .

وتبرز نظرة الله لنا واعتزازه بنا من شوقه أن ينسب نفسه إلينا متى تأهلنا لذلك ، فيدعو نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب .... يود أن يكون إلها خاصا بكل إبن له .

النبوات فى سفر التكوين :

يقدم لنا السفر بداية النبوات الخاصة بمجىء السيد المسيح كمخلص العالم ، فقد وعد الله الأنسان بعد السقوط مباشرة أن " نسل المرأة " يسحق رأس الحية ( 3 : 15 ) ، ولم يقل " نسل الرجل " لأن السيد المسيح جاء متجسدا فى أحشاء القديسة العذراء مريم بغير زرع بشر ، هذا الذى سحق رأس الحية القديمة أى ابليس ( رؤ 20 : 2 ) .

فى سفر التكوين نتلمس شخصية ربنا يسوع المسيح كمخلص معلنة خلال نبوات صريحة ورموز كثيرة ، ويبقى السيد المسيح كعصب الأسفار لنراه :

" هو هو أمس واليوم وإلى الأبد "

جاء ليخلص الخطاة ويعد بمجيئه الأخير ليضمنا إلى مجده كعروس مقدسة له .

+  +  +


 

الأصحاح الأول

مقدمة :

نود فى دراستنا لسفر التكوين الألتزام بروح كنيستنا التى تتطلع إلى الكتاب المقدس لا ككتاب علمى أو فلسفى وإنما كسر حياة مع الله يتمتع بها الأنسان ويعيشها ، ولهذا عندما كتب القديس باسيليوس الكبير مقالاته عن أيام الخليقة الستة أوضح أن عمل الكنيسة ليس البحث عن طبيعة الأشياء والمخلوقات وإنما دراسة عملها ونفعها .

 

( 1 ) اللــه الخالق

بدأ سفر التكوين بهذه الأفتتاحية البسيطة : " فى البدء خلق الله السموات والأرض " ع 1

إن كان التعبير " فى البدء " لا يعنى زمنا معينا ، إذ لم يكن الزمن قد أوجد بعد ، حيث لم تكن توجد الكواكب بنظمها الدقيقة ، لكنه يعنى أن العالم المادى له بداية وليس كما أدعى بعض الفلاسفة أنه أزلى ، يشارك الله فى أزليته .

" فى البدء " لا يعنى زمنا وإلا كان للبدء بداية ونهاية ، لكن " البدء " هنا يعنى حركة أولى لا كما زمنيا ، كقول الكتاب : " بدء الحكمة مخافة الله " ( أم 9 : 10 ) .

يأخذ كثير من الآباء بأن عبارة " فى البدء " من الجانب الروحى تعنى " فى المسيح يسوع " أو " فى كلمة الله " خلقت السموات والأرض ..

عندما سأل اليهود السيد المسيح : من أنت ؟ أجابهم : " أنا هو البدء " ( يو 8 : 25 ) . هكذا فى البدء خلق الله السموات والأرض .

+ من هو بدء كل شىء إلا ربنا ومخلص جميع الناس ( 1 تى 4 : 10 ) يسوع المسيح ، :   " بكر كل خليقة " ( كو 1 : 15 ) ؟ وكما يقول الأنجيلى يوحنا فى بداية إنجيله : " فى البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ، هذا كان فى البدء عند الله ، كل شىء به كان وبغيره لم يكن شىء مما كان " ( يو 1 : 1 – 3 ) . فالكتاب لم يتحدث عن بداية زمنية ، إنما عن هذه البداية التى هى المخلص ، إذ به صنعت السموات والأرض .

 

 

( 2 ) روح اللـــه والمياة :

" وكانت الأرض خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة ، وروح الله يرف على وجه المياة " ( ع 2 ) .

فى الترجمة السبعينية قيل عن الأرض : " غير منظورة وغير كاملة " ، غير منظورة لعدم خلق الأنسان بعد لكى يراها ، ولأن المياة كانت تغطيها تماما ، أو لأن النور لم يكن بعد قد أشرق عليها فكان الجو غامضا ، أما كونها " غير كاملة " فبسبب عدم قدرتها على الإنبات .

على أى الأحوال إن كان الوحى قد أعلن أن الآب خلق السموات والأرض بكلمته ( ع 1 ) فهنا يكشف عن دور الروح القدس الذى كان يرف على وجه المياة ليخلق من الأرض الخربة والخاوية عالما صالحا جميلا . ولا يزال الروح القدس إلى يومنا هذا يحل على مياة المعمودية ليقدسها فيقيم من الأنسان الذى أفسدته الخطية وجعلت منه أرضا خربة وخاوية ؛ سموات جديدة وأرضا جديدة ....

 

( 3 ) اليوم الأول :

أول عمل يقدمه الله هو إنطلاق النور : " وقال : ليكن نور ، فكان نور ، ورأى الله النور أنه حسن ، وفصل الله بين النور والظلمة ، ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا ، وكان مساء وكان صباح يوما واحدا " ( ع 3 – 5 ) .

يلاحظ فى هذا النص :

أولا : إلى سنوات قليلة كان بعض العلماء يتعثرون فى هذه العبارة قائلين كيف ينطلق النور فى الحقبة الأولى قبل وجود الشمس ؟ إذ كان الفكر السائد أن النور مصدره الشمس ، لكن جاءت الأبحاث الحديثة تؤكد أن النور فى مادته يسبق وجود الشمس ، لهذا ظهر سمو الكتاب المقدس ووحيه الإلهى ، إذ سجل لنا النور فى الحقبة الأولى قبل خلق الشمس ، الأمر الذى لم يكن يتوقعه أحد . لقد ظهر النور حينما كانت الشمس فى حالتها السديمية الأولى ، أى قبل تكوينها الكامل .

ثانيا : من الجانب الرمزى هذا النور خاص بالمدينة السماوية المقدسة التى تضم الملائكة القديسين ، وفيها ينعم المؤمنون بالأبدية ، هذه التى قال عنها الرسول أنها أورشليم العليا ، أمنا الأبدية فى السموات ( غلا 4 : 26 ) ، والتى يكون لنا فيها نصيب ، إذ قيل : " جميعكم أبناء نور وأبناء نهار ، لسنا من ليل ولا ظلمة " ( 1 تس 5 : 5 )

ثالثا : فصل الله بين النور والظلمة لكى نقبل النور كأبناء للنور وأبناء للنهار ونرفض الظلمة فلا نسقط تحت ليل الجهالة المهلك .

رابعا : ليست " الظلمة " مادة مخلوقة أوجدها الله ، بل هى حرمان من النور فبظهور النور انفضحت الظلمة وعرفت .

خامسا : " ورأى الله ذلك النور أنه حسن " ( ع 4 ، 12 ، 18 ، 21 ) ... [ الله لا يحكم بأن الشىء حسن خلال افتتان العين به ولا لتذوق الفكر لجماله كما نفعل نحن وإنما يراه حسنا متى كان الشىء كاملا ، مناسبا لعمله ، نافعا حتى النهاية ] .

سادسا : يختم حديثه عن اليوم الأول أو الحقبة الأولى بقوله : " وكان مساء وكان صباح يوم واحدا " . بدأ بالمساء وختم بالصباح ، وفى التقليد اليهودى يبدأ اليوم بالعشية ويليها النهار ، فإن كان المساء يشير إلى الجسد القابل للموت ، والصباح يشير إلى خدمة البر أو النور فإن المساء يسبق الصباح بمعنى أن يكون الجسد خادما للبر ، لا البر خادما لشهوات الجسد.

 

( 4 ) اليوم الثانى .... الجلد : ( تك 1 : 6 – 8 )

 " وقال الله ليكن جلد فى وسط المياة ............"

ربما يقصد بالجلد المنطقة التى فوق الأرض مباشرة التى تطير فيها الطيور وليس الفضاء حيث الكواكب ...ويمكننا أن ندرك طريقة تحقيق أمر الله إن علمنا أن الأرض كانت فى غليان مستمر وبخار فكانت محاطة بغلاف كثيف . وفى الفترة ما بين الحقبة الأولى والحقبة الثانية أخذت درجة الحرارة تهبط ، وبالتالى هدأ البخار وبدأ الجو يصير صحوا ، أما تسمية الجلد " سماء " فذلك من قبيل اطلاق هذه الكلمة على ما هو سام ومرتفع فوق الأرض .

هذا الجلد يفصل ما بين المياة التى من فوق أى السحب ، والمياة التى من أسفل أى البحار والمحيطات .

+  +  +

 

( 5 ) اليوم الثالث : انبات الأرض

كتب موسى فى سفر التكوين ( 1 : 13 ) : " وقال الله لتجتمع المياة تحت السماء إلى واحد ولتظهر اليابسة ، وكان كذلك ودعا الله اليابسة أرضا ومجتمع المياة دعاه بحارا ، وراى الله ذلك أنه حسن "

كتب موسى بأن الله جمع المياة تحت السماء إلى مكان واحد ، والمتأمل فى خريطة العالم يلاحظ فعلا أن ذلك صحيح علميا ، إذ أن جميع المحيطات السبعة لها قاع واحد ، إذ هى مشتركة مع بعضها فى القاع . ولكن موسى كان حريصا إذ ذكر البحار منفصلة ، لأنه ذكرها بصيغة الجمع " بحارا " . وفى أيام موسى كان البحر الأحمر والبحر الأبيض وربما بعض أجزاء من المحيط الأطلنطى معروفين لدى البشر ، وأن المحيطات السبعة المعروفة الآن لدينا لم تكتشف إلا بعد قرون طويلة حين بنى الأنسان المراكب الضخمة ، فكيف عرف موسى أن البحار مع كونها منفصلة إلا أن قاعا واحدا لها !

 

( 6 ) اليوم الرابع : خلق الأنوار ..

من أجل الأنسان خلق الله العوالم الشمسية فى دقة نظامها الفائق ، لا ليجعل منا رجال فلك وإنما لأجل خدمتنا واعلان حبه لنا .

إن كان الله قد خلق الشمس لتنير للأنسان له فى النهار وتكون له عونا فى كل حياته ، إنما يقدم لنا كلمته الحى شمس البر الذى يحول ظلمتنا إلى نهار لا ينقطع ، واهبا إيانا حياة جديدة داخلية . يسطع باشراقاته على الكنيسة فيجعل منها قمرا تضىء على العالم ، ويعمل فى كل عضو ليجعل منه نجما له موضعه ليدور فى الفلك الذى له ساكبا نورا وبهاء على الأرض .

 

( 7 ) اليوم الخامس : خلق الأسماك والطيور ..

إذ تهيأت الأمور لخلق الأسماك قال : " لتفض المياة ذات أنفس حية " ( ع 20 ) ، فكانت بداية الخلائق التى لها نفس حية فى المياة ، وكما انجبت المياة كائنات حية طبيعيا بكلمة الله هكذا تلد المياة المقدسة الآن بكلمة لله كائنات حية حسب النعمة ، إذ نعيش كالسمك متمثلين بالمسيح السمكة الحقيقية  .

( 8 ) اليوم السادس : الحيوانات والإنسان ...

هيأ الله كل شىء لخلق الحيوان ثم خلق الإنسان ، مقدما لهم الأمور المنظورة وغير المنظورة ، يرى القديس ثاوفيلس الأنطاكى أن الحيوانات المفترسة لم تحمل روح الشراسة إلا بعد سقوط الإنسان ، مما قدمه الإنسان لنفسه من فساد خلال عصيانه إنعكس على طبيعة الأرض لتخرج شوكا وحسكا وعلى الحيوانات ليحمل بعضها نوعا من الشراسة ، تزول لكثير من الأبرار ...

أخيرا توج الله خليقته الأرضية بخلق الأنسان لا كخليقة وسط مخلوقات بلا حصر ، وإنما على صورته ومثاله ، وأقامه سيدا على الخليقة الأرضية ...

 ويلاحظ فى خلق الإنسان الآتى :

أولا : إن ما يشد أنظارنا فى خلق الإنسان قوله : " نعمل الأنسان على صورتنا كشبهنا " ( ع 26 ) ، مؤكدا : " فخلق الله الأنسان على صورته ، على صورة الله خلقه " ( ع 27 ) ، الأمر الذى لم نسمع عنه قط فى خليقة أخرى ، إذ أوجد النفس تحمل صورة الثالوث القدوس ، وتتسم بالتمثل بالله ...

ثانيا : فى خلق الإنسان وحده دون سائر الخليقة يقول الله : " نعمل " بصيغة الجمع ، إذ يلذ للثالوث القدوس أن يعمل معا بسرور من أجل هذا الكائن المحبوب .

ثالثا : خلق الله الإنسان فى النهاية حتى يتوجه كملك على الخليقة ، وكما نقول فى القداس الغريغورى أنه لم يجعلنا معوزين شيئا من أعمال كرامته ، خلق كل شىء من أجله وأعطاه سلطانا ، إذ قال : " إملأوا الأرض واخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض " ( ع 28 ) . لم يخلقه كائنا خانعا فى مذلة إنما أراده صاحب سلطان على نفسه كما على بقية الخليقة .

رابعا : جاء خلق الإنسان فى اليوم السادس أو الحقبة السادسة حتى إذ تكمل خلقته لا يرى الله أن كل ما عمله حسن فقط بل " حسن جدا " ( ع 21 ) ، فيستريح فى اليوم السابع ، أى يفرح ويسر بالإنسان موضع حبه . وكما خلق الإنسان فى اليوم السادس ، قدم السيد المسيح حياته فدية على الصليب ليعيد خليقته أو يجددها روحيا فى اليوم السادس فى وقت الساعة السادسة !!

خامسا : فى حديثه العام عن الخلق تحدث هنا عن خلقه الإنسان فى عبارة مختصرة ودقيقة للغاية ، إذ يقول : " ذكرا وأنثى خلقهم " ( ع 27 ) ، مع أنه سيعود ويتحدث فى شىء من التفصيل عن خلق آدم ثم حواء ، لكنه من البداية أكد " ذكرا وأنثى خلقهم " ليظهر أن لنا أبا واحدا وأما واحدة ، فترتبط البشرية كلها برباط دم واحد .. وليؤكد جانبا آخر هو تقديس لسر الزواج بين الرجل والمرأة بكونه سر الوحدة بينهما .

 

" فأكملت السموات والأرض وكل جندها ... وفرغ اللـــه فى اليوم السابع من عمله ، فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل ....

وبارك اللـــــه اليوم السابع وقدسه .. لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمل اللــــه خالقا " 

ويمكن أن نقارن بين ما خلق فى الثلاثة أيام الأولى للخلق ، والثلاثة أيام التالية للخلق ، 

 
أولا : الأيام الثلاثــــــة الأولى

 

ثانيا : الأيام الثلاثة الأخرى

اليوم الأول

فصل اللــــــه بين النور والظلمة ، ودعا الله النور نهارا ..... والظلمة دعاها ليلا وكان مساء وكان صباح يوما واحدا .

اليوم الرابع

وقال الله لتكن أنوار فى جلد السماء لتفصل بين النهار والليل .. فعمل الله النورين العظيمين ، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل .. والنجوم .

اليوم الثانى

عمل الله الجلد وفصل بين المياة التى تحت الجلد والمياة التى فوق الجلد ... ودعا الله الجلد سماء وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا

اليوم الخامس

وقال الله لتفض المياة زحافات ذات أنفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء

اليوم الثالث

قال الله لتجتمع المياة تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة .. وكان كذلك ودعا الله اليابسة أرضا ، ومجتمع المياة دعاه بحارا ..

وكان مساء وكان صباح يوما ثالثا

اليوم السادس

قال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها ...

وخلق اللــــه الأنسان على صورته ...

 

اما فى اليوم السابع : فقد استراح اللــــــه من جميع عمله الذى عمل


 

الأصحاح الثانى

آدم فى الفردوس

 

( 1 ) تقديس اليوم السابع

" فأكملت السموات والأرض وكل جندها ، وفرغ الله فى اليوم السابع من عمله الذى عمل ، فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل ، وبارك الله فى اليوم السابع وقدسه ، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمله الله خالقا " ( تك 2 :  1 – 3 ) .

ماذا يعنى " استراح فى اليوم السابع " ؟ بلا شك الراحة هنا لا تعنى التوقف عن العمل ، وإنما استراح براحة خليقته ، وكما يقول القديس أغسطينوس : [ راحة الله تعنى راحة الذين يستريحون فى الله ] . راحته كأب سماوى أن يجد محبوبيه ينعمون بالراحة الداخلية الحقة ، إننا نستريح عندما نصنع أعمالا صالحة ، كمثال لذلك كتب عن الله أنه " استراح فى اليوم السابع " وذلك عندما صنع كل أعماله وإذا بها حسنة جدا ، إنه لم يتعب ولا احتاج إلى راحة ، كما أنه لم يترك عمله حتى الآن ، إذ يقول ربنا يسوع المسيح بصراحة : " أبى يعمل حتى الآن " ( يو 5 : 17 ) .

ويبقى الله فى راحته مادام الإنسان أيضا يستريح فى حضن أبيه السماوى . لهذا رأى كثير من الآباء أن وصية " حفظ السبت " والتى تعنى فى العبرية " الراحة " إنما هى رمز للثبوت فى السيد المسيح بكونه " راحة الآب " ، فيه يجد لذته من جهتنا ، وكأن السيد المسيح هو :  " سبتنا الحقيقى ". 

هذا ويلاحظ أن الكتاب المقدس لم يقل عن اليوم السابع : " وكان مساء وكان صباح يوما سابعا " ، وكما يقول القديس أغسطينوس : [ لا نجد فى السبت مساء ، لأن راحتنا بلا نهاية ، إذ يضع المساء نهاية ] .

 

( 2 ) آدم فى الفردوس

إن كان الله قد خلق للأنسان المسكونة كلها من أرض وجلد وفضاء وكواكب ... إنما ليلمس فيها أبوة الله ورعايته الفائقة ، وقد كشف عن هذه الأبوة بالحديث بعد ذلك فى شىء من التفصيل عن خلق الأنسان وإقامة جنة عدن شرقا لأجله .

يروى الجنة نهر قيل عنه : " وكان نهر يخرج من عدن ليسقى الجنة ، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس " ( تك 2 : 10 ) .

إن كانت شجرة الحياة تشير إلى السيد المسيح واهب الحياة ، فإن النهر الذى يسقى الجنة هو الروح القدس الذى يفيض على أرضنا خلال مياة الروح القدس فيحول قفرنا إلى جنة تفرح قلب الله . تحدث السيد المسيح عن هذا النهر ، قائلا : " من آمن بى كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حى " ( يو 7 : 38 ) .

 

( 3 ) وصية الله لآدم

" وأخذ الرب الإله آدم ووضعه فى جنة عدن ليعملها ويحفظها " ( تك 2 :  15 )

قبل أن يقدم الله لآدم وصية الحب والطاعة ، وضعه فى جنة عدن ليعمل ويحفظ الجنة ، قدس الله العمل فأقام أكمل خليقته الأرضية لكى يعمل ، ووهبه الحكمة لكى يحفظ الجنة ، وكأن الله أقام وكيلا له على عمل يديه ليمارس العمل ببهجة قلب وبتعقل !

إذ وهبه الله هذه العطية ، عطية العمل فى الجنة وحفظها ، قدم له وصية : " من جميع شجر الجنة تأكل أكلا ، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها ، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت " ( تك 2 : 16 ، 17 ) .

ربما يتساءل البعض : هل من حاجة لهذه الوصية ؟ نجيب بأن الوصية تكرم من شأن الأنسان إذ تعلن حرية إرادته ؛ فقد أراد الله أن يتعامل معه على مستوى فائق ، ظن البعض أن الجزاء صعب للغاية ولا يتناسب مع الوصية بعد الأكل من ثمرة معينة ، لكن يجيب الدارسون على ذلك بالآتى :

أولا : أن الجزاء ليس بسبب نوع الوصية إنما بسبب الفكر الداخلى الذى قابل محبة الله الفائقة ورعايته للإنسان بالجحود .

ثانيا : بشاعة العقوبة تتناسب مع عطية الحرية الإنسانية وتقدير الله للإنسان .

ثالثا : بشاعة العقوبة تبرز قوة الخلاص الذى يقدمه الله للإنسان ببذل الأبن الوحيد الجنس .

رابعا : العجيب أن العقوبة سقطت بثقلها على الأرض والحية ، فلم يلعن الله آدم ولا حواء لكنه لعن الحية بسبب مخادعتها للإنسان ، وللأرض بسبب الساكن فيها ! الله فى محبته أبرز مرارة الخطية ، لكنه لم يلعن الإنسان .. أى حب أعظم من هذا ؟! .

 

( 4 ) خلق حواء

" وقال الرب الإله : ليس جيدا أن يكون آدم وحده ، فأصنع له معينا نظيره " ( تك 2 : 18 ) إن كان خلق العالم ككل قد احتاج إلى ملايين السنين ، لكن الوحى سجله فى اصحاح واحد باختصار شديد لكى يبقى الكتاب المقدس كله يعلن اهتمام الله بالإنسان على وجه الخصوص ، مركز العالم فى عينى الله .

جاء تعبير " معينا نظيره " يكشف عن مفهوم الحياة الزوجية ، علاقة آدم بحواء ، أو الرجل بالمرأة ، فالزوجة معينة لرجلها ، كما أن الرجل معين لزوجته ، وهى نظيره لا تتشامخ عليه ولا هى أقل منه !

جاءت قصة خلق حواء تحمل رمزا لخلق الكنيسة عروس المسيح ، التى من أجلها أخلى العريس ذاته ليلتصق بها وينطلق بها إلى سمواته ، وقد جاءت كتابات الكنيسة الأولى تحمل فيضا من الحديث عن خلق حواء وعلاقتها بالكنيسة عروس المسيح ؛ من كلمات القديس أغسطينوس فى هذا الشأن :

[ متى خلقت حواء ؟ عندما نام آدم !

متى فاضت أسرار الكنيسة من جنب السيد المسيح ؟ عندما نام على الصليب ]

أخيرا بعد أن تحدث عن خلق حواء والتصاقها بالحب مع آدم ، قال : " وكان كلاهما عريانين آدم وحواء وهما لا يخجلان " ( تك 2 : 25 ) . كانا عريانين جسديا ، ومستورين روحيا لهذا لم يجدا ما يخجلهما ، لأن ما يخجل الأنسان ليس جسده بل الفساد الذى دب فيه بسبب الخطية ، لهذا يرى بعض الآباء فى الدخول إلى جرن المعمودية عراة عودة إلى الفردوس حيث كان الإنسان فى نقاوة قلبه عريانا حسب الجسد ولا يخجل .


 

تكوين – الأصحاح الثالث

سقوط الأنسان

( 1 ) الحية الخادعة

إذ قدم الله للأنسان كل شىء أقامه فى الفردوس ، ووهبه الوصية ليرد الحب بالطاعة ... ولعله كان فى ذهن الله هبات أعظم يود أن يقدمها للإنسان كمكافأة له عن طاعته المستمرة للوصية ، لكن عدو الخير حسد الإنسان فأراد أن يهبط به إلى الموت مستخدما الحية ليدخل مع الإنسان فى حوار مهلك .

يقول الكتاب : " وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التى عملها الله ، فقالت للمرأة : أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة ؟! فقالت المرأة للحية : من ثمر شجر الجنة نأكل ، وأما ثمر الشجرة التى فى وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا " ( تك 3 : 1-3 ) .

لقد استخدم العدو الخليقة الصالحة التى من عمل الله كوسيلة لتحطيم الإنسان ، فكان العيب لا فى الوسيلة وإنما فى الإنسان الذى قبل أن يدخل فى حوار باطل مع الحية .

فى هذا الحوار الذى دار بين حواء والحية لم يقدم الشيطان للإنسان إلا وعودا ، قائلا : " لن تموتا ، بل الله عالم أن يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر " ( تك 3 : 4 ، 5 ) . مجرد وعد أنهما يكونان كالله ( كبرياء ! ) وينالان المعرفة ، لكنه لم يقدم عملا لصالحهما . ومع هذا نظرت حواء إلى الشيطان كموضع ثقة أكثر من الله ، مع أن الله أظهر إرادته الحسنة بأعماله .

جرب الشيطان الإنسان بثلاث أهواء هى [ النهم : حين أخذ الفاكهة من الشجرة ، وبالطمع : حين قال له : " تنفتح أعينكما " ، وبالكبرياء : حين قال له " تكونا كالله عارفين الخير والشر " ] – وهى نفس الأهواء التى حاول أن يحارب بها

" آدم الثانى " .. " السيد المسيح " [ بالنهم حين قال له : " قل أن تصير هذه الحجارة خبزا " .. ،  وبالكبرياء حين قال له : " إن كنت إبن الله فاطرح نفسك إلى أسفل ...... " ،  وبالطمع حين أراه جميع ممالك الأرض ومجدها ، وقال له : " أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لى " ( مت 4 ) ] ....لقد اعطانا الرب نفسه مثالا كيف يمكننا أن ننتصر كما انتصر هو حين جرب .

( 2 ) إنفتاح أعينهما

" فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان ، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر " ( تك 3 : 7 ) . ماذا يعنى إنفتاح العينين لتريا أن الجسد عريان ، إلا أن الإنسان بالخطية يدرك أنه دخل إلى حالة من الفساد تظهر خلال أحاسيس الجسد وشهواته التى لا تضبط ؟ ! بهذا يدخل الإنسان فى معرفة جديدة ، هى خبرة الشر الذى امتزج بحياته وأفسد جسده تماما ، إنه يتعرف على جسده الذى صار عنيفا فى الشر بلا ضابط .

 

( 3 ) اهتمام الله بالإنسان

إن كان الإنسان قد قابل حب الله بالعصيان ، فالله يقابل حتى هذا العصيان بالحب لكى يسحب قلبه من مرضه الذى أصابه ، ويقيمه من الموت الذى ملك عليه ( رو 5 : 14 ) . لقد جاء صوت الله ماشيا فى الجنة ليلتقى مع الإنسان الساقط .

يقول الكتاب :" وسمعا صوت الرب الإله ماشيا فى الجنة عند هبوب ريح النهار " ( ع 8 ) إنه صوت الرب أى " كلمته " ، الأبن الوحيد الجنس الذى جاء مبادرا بالحب ليقتنص الإنسان الساقط ويقيمه . جاء عند هبوب ريح النهار ، إذ نلتقى به بالروح القدس ، لأن كلمة " روح " و " ريح " فى العبرية هى واحدة . جاء فى وسط النهار لنتعرف عليه خلال نوره ، وكما يقول المرتل : " بنورك يارب نعاين النور " .

بادر " كلمة الله " بالحب ، فنادى آدم وقال له : " أين أنت ؟ " ( ع 9 ) . لم يكن يجهل موضعه لكنه أراد الدخول معه فى حوار ، ليس كحوار الحية مع حواء الذى أدى إلى السقوط ، ولكنه حوار الحب الحقيقى لأنتشال آدم وحواء من سقطتهما !

الآن ما هو موقف الإنسان تجاه هذه المبادرة الإلهية ؟

أولا : " اختبأ آدم وإمرأته من وجه الرب الإله فى وسط شجر الجنة " ع 8 – هذا الهروب هو ثمر طبيعى للعصيان والأنفصال عن دائرة الرب ، كما يقول آدم : " سمعت صوتك فى الجنة فخشيت ، لأنى عريان فاختبأت " ( ع 10 ) .

لم يقدر أن يعاين الرب لا لأن الرب مرعب ومخيف وإنما لأن الإنسان فى شره فقد صورة الله الداخلية التى تجتذبه بالحب نحو خالقه محب البشر ، فصار الله بالنسبة له مرعبا وديانا لخطاياه .

ثانيا : برر آدم خطأه بإلقاء اللوم على الغير ، فقال آدم : " المرأة التى جعلتها معى هى التى أعطتنى من الشجرة فأكلت " ( ع 12 ) ، وقالت المرأة : " الحية غرتنى فأكلت " ( ع 13 ) . وكأن آدم ألقى باللوم على الله الذى أعطاه حواء ! ولم يقدم أى منهما اعتذارا عن خطأه !

 

( 4 ) لعنة الحية

" فقال الرب الإله للحية : لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية ، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك " ( ع 14 ) .

كل انسان يقبل أن يكون أداة للعدو الشرير يصير كالحية ، يسعى على بطنه محبا للأرضيات ، ليس له أقدام ترفعه عن التراب ، ولا أجنحة تنطلق به فوق الزمنيات ، يصير محبا أن يملأ بطنه بالتراب .

 

( 5 ) الوعد بالخلاص

إذ لعن الحية التى أغوت الأنسان حتى نرفضها ونرفض سماتها فينا ، قدم لنا أول وعد بالخلاص ، قائلا للحية : " وأضع عداوة بينك وبين المرأة ، وبين نسلك ونسلها ، وهو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه " ع 15

وقد وضع الله عداوة بين إبليس والمرأة حتى يأتى السيد المسيح من نسل المرأة – دون زرع بشر – يسحق رأس الحية التى سحقت عقب البشرية ...

 

( 6 ) تأديب الإنسان

إذ قدم الوعد بالخلاص أعلن تأديبه للإنسان ؛ فتح باب الرجاء بإعلان الخلاص قبلما يقدم التأديب المر حتى لا يسقط الإنسان تحت ثقل اليأس ، وقد أعلن تأديبه للمرأة أولا ثم للرجل .

أولا : تأديب المرأة : " تكثيرا أكثر أتعاب حبلك ، بالوجع تلدين أولادا ، وإلى رجلك يكون إشتياقك ، وهو يسود عليك " ( ع 16 ) هذا التأديب الذى سقطت تحته حواء بسبب الخطية ، تحول بمراحم الله إلى بركات حينما قبلت الكنيسة – حواء الجديدة – أن تلد أولادا روحيين لله خلال آلامها .

ثانيا : تأديب الرجل : " ملعونة الأرض بسببك ، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك ، وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب الحقل . بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض الى أخذت منها ، لأنك تراب وإلى التراب تعود " ( ع 17 – 19 ) . خلق الله الأرض من أجل الأنسان ، وبسببه باركها لتثمر له بركات ، فإذا عصى الرب سقطت تحت اللعنة لتثمر له شوكا وحسكا يتناسب مع عصيانه أو فكره الداخلى .

 

( 7 ) القميص الجلدى

" ودعا آدم إمرأته حواء ، لأنها أم كل حى " ع 20

إن كان آدم وحواء قد سقطا تحت التأديب ، فإنهما أبوانا الأولان ، نجد فى آدم أبا لكل البشرية ، وفى حواء أما للجميع ... لكن خلال هذه الوالدية تسربت إلينا الخطية وسقطنا معهما تحت ذات التأديب حتى جاء آدم الثانى يهب الحياة الحقة للمؤمنين وصارت إمرأته – حواء الجديدة – الأم الصادقة لكل حى ، إنها الكنيسة أم المؤمنين .

أعلن الله محبته للإنسان قبل طردهما من الجنة بأن صنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما ( ع 21 ) عوض أوراق التين . هذه الأقمصة ربما تعلن عن كشف الله للإنسان الأول عن أهمية الذبيحة كرمز لذبيحة الخلاص .... وكأن الله سلم آدم وحواء طقس الذبيحة الدموية .

( 8 ) طرد الإنسان

إذ كان الله قد طردنا من الفردوس ، ففى حقيقة الأمر نحن طردنا أنفسنا بأنفسنا ، إذ خلال العصيان صارت طبيعتنا الفاسدة لا تليق بالحياة الفردوسية المقدسة بل تناسب الأرض التى تخرج الشوك والحسك .


 

تكوين - الأصحاح الرابع

هابيل وقايين

إن كانت الخطية قد انطلقت من حواء إلى آدم خلال غواية الحية فقد جاء النسل كله يحمل ميكروبها فى طبيعتهم ، وكما يقول الرسول : " من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت ، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع " ( رو 5 : 12 ) . وقد ظهر ذلك بقوة فى قايين الذى لم يحتمل قبول الله ذبيحة أخيه فارتكب أول حالة قتل فى تاريخ البشرية ، وقد اهتم كثير من الآباء بقصة هابيل وقايين بكونها قصة البشرية الساقطة التى حملت البغضة لبعضها البعض .

( 1 ) قبول تقدمة هابيل

" وعرف آدم حواء إمرأته فحبلت وولدت قايين ، وقالت : اقتنيت رجلا من عند الرب " ( ع 1 ) .

أكد آباء الكنيسة أن الله هو مؤسس الحياة الزوجية فى صورتها الكاملة ، وأنه بالسقوط أو بدونه كانت تتم العلاقة الجسدية بين أبوينا ويتحقق إنجاب الأطفال ، لكن لا يتم ذلك خلال شهوة شريرة بل كثمرة حب زوجى طاهر ، على أى الأحوال أدركت حواء أن طفلها هو عطية إلهية لذا دعته " قايين " ، ولعل سر فرحها به أنها ظنت مجىء المخلص الموعود به من نسلها قد اقترب جدا ، وربما انتظرت أن يتحقق ذلك فى أيامها .

" ثم عادت فولدت هابيل " ( ع 2 ) ، يرى القديس أمبروسيوس أن قايين يمثل الفكر العقلانى البحت أو المدرسة العقلية ، الذى يعتمد على المعرفة العقلية فقط كطريق للخلاص عوض الأيمان ، أما هابيل فيرمز إلى المدرسة الإيمانية التى تستند على نعمة الله لكى تتمتع بأسرار الله خلال الأيمان المعطى للإنسان دون تجاهل لعقله .

هذا وتقدم لنا قصة هابيل وقايين صورة حية لقصة بكورية الروح وبكورية الجسد ، فإذ كان قايين بكرا لآدم وحواء حسب الجسد لكنه فقد بكوريته خلال شره وظهرت بكورية هابيل الروحية بقبول ذبيحته بل وحياته كلها موضع سرور الله دون أخيه .

قايين رمز لآدم الأول " آدم " وقد فقد بكوريته ليظهر هابيل الحقيقى ؛ آدم الثانى " السيد المسيح " بكرا حقا لكل البشرية .

" وكان هابيل راعيا للغنم ، وكان قايين عاملا فى الأرض " ( ع 2 ) ، إن الكتاب المقدس لم يذكر هابيل أولا بلا هدف بالرغم من مولده بعد قايين .... لعل العمل فى الأرض يشير إلى الإنسان الجسدانى الذى يركز عينيه وكل طاقاته نحو الأرض والزمنيات ، أما رعى الغنم فيشير إلى الإنسان المهتم بالرعاية والتدبير وقيادة الجسد بكا طاقاته ( الغنم ) ، ...

" وحدث بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب ، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه من سمانها ، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر ، فاغتاظ قايين جدا وسقط على وجهه " ( ع 3 – 5 ) .

لماذا لم لم ينظر الله إلى قايين وقربانه ؟

أولا : ربما لأن تقدمة قايين كانت بإهمال [ بعد أيام ] .. أما تقدمة هابيل فكانت بحب وإخلاص واشتياق ! ..

ثانيا : لعل تقدمة قايين كانت من ثمار الأرض ، ولم يقل من " بكور الثمار " أما هابيل فقد : " من أبكار غنمه ومن سمانها " ... أعطى لله الأولوية !

ثالثا : كانت تقدمة قايين من ثمار الأرض غير القادرة على المصالحة بين الله والإنسان ، أما تقدمة هابيل فكانت ذبيحة دموية تحمل رمزا لذبيحة السيد المسيح القادر وحده على مصالحتنا مع الآب خلال بذل دمه عنا .

والآن إذ سقط وجه قايين لم يتركه الله هكذا منهارا بل تقدم إليه يسأله : " لماذا اغتظت ؟ ولماذا سقط وجهك ؟ إن أحسنت أفلا رفع ؟ وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك إشتياقها وأنت تسود عليها " ( ع 7 ) .

حقا لم يقبل تقدمته لأنها من قلب غير نقى ، لكنه لا يتركه فى سقوطه بل يتقدم إليه بالحب ويعاتبه !

( 2 ) قتل هابيل

" وكلم قايين هابيل أخاه ، وحدث إذ كان فى الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله ، فقال الرب لقايين : أين هابيل أخيك ؟ فقال : لا أعلم ، أحارس أنا لأخى ؟! فقال : ماذا فعلت ؟ صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض " ( ع 8 – 10 ) .

ظن قايين أنه قتل واستراح ، ولكن الله جاء ليسأله كى يثير فيه التوبة ، فهو لا يريد أن يستر على خطايانا بغلاف خارجى بينما يبقى الفساد يدب فى الأعماق ، إنما كطبيب روحى يريد أن يكشف الجراحات ويفضحها لأجل العلاج .

أخفى قايين جسد أخيه ، لكنه لم يقدر أن يكتم صوت النفس الصارخة إلى الله ، والتى عبر عنها الرب بقوله : " صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض " ، إذ يشير الدم إلى النفس بكونه علامة الحياة .

دم هابيل كان رمزا لدم المسيح الذى لا يتوقف صوته الكفارى وعمله ! ؛ ما يشفع به الدم القديم إنما يتحقق خلال مركز الدم الجديد . الدم الذى هو الكلمة يصرخ إلى الله معلنا أن الكلمة يتألم !

إن جريمة القتل الأولى قدمت لقايين تأديبا ماديا ملموسا يكشف له عما حل به فى أعماقه ، إذ قيل له : " متى عملت الأرض لا تعطيك قوتها " ( ع 12 ) .

إن كانت الأرض تشير إلى الجسد الذى يفقد عمله الأصيل فيصير بلا ثمر روحى ، فإن النفس أيضا تفقد سلامها الداخلى ، إذ قيل له : " تائها وهاربا تكون فى الأرض " ( ع 12 ) . وكأن النفس التى خضعت للجسد الترابى الأرضى تجده قفرا ، فتعيش فيه بلا راحة ولا سلام ، إنما فى حالة تيه وفزع . هذا ما أكده الكتاب المقدس بقوله : " خرج قايين من لدن الرب ، وسكن فى أرض نود شرقى الأردن " ( ع 16 ) .

أدرك قايين خطورة ما بلغ إليه حاله ، فاعترف للرب : " ذنبى أعظم من أن يحتمل ، إنك قد طردتنى اليوم من وجه الأرض من وجهك اختفى وأكون تائها وهاربا فى الأرض ، فيكون كل من وجدنى يقتلنى ، فقال له الرب : لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه ، وجعل الرب لقايين علامة لكى لا يقتله كل من وجده " ( ع 13 – 15 ) .

شعر قايين بالندم ليس كراهية فى الخطية ، وإنما خوفا من العقاب الأرضى ! ومع هذا فقد فتح له الرب باب الرجاء إذ لم يعده بألا يقتل وإنما من يقتله يعاقب بمرارة شديدة كمن ينتقم منه سبعة أضعاف .

" أغنيـــــة السيف للامك " :

سجل الكتاب المقدس سلسلة مواليد قايين حتى وصل إلى "لامك " الذى تزوج إمرأتين ،

قدم لامك لأمرأتيه أول قطعة شعرية فى الأدب العبرى ، تسمى " أغنية السيف للامك " ، جاء فيها : " إسمعا لقولى يا إمرأتى لامك ، واصغيا لكلامى ، فإنى قتلت رجلا لجرحى وفتى لشدخى . إنه ينتقم لقايين سبعة أضعاف وأما للامك فسبعة وسبعين " ( ع 23 ، 24 ) .

توجد تفاسير كثيرة لهذه الأغنية فالبعض يرى أن لامك شاخ جدا وصار ضعيف البصر وإذ كان حفيده يقوده وكان محبا للصيد أشار له حفيده عن صيد فضرب بالسهم فإذا به يقتل جده قايين عن غير قصد ، وإذ صرخ الحفيد معلنا قتل قايين ضرب لامك الفتى فقتله ، لذلك قال : " قتلت رجلا ( قايين ) لجرحى ، وفتى لشدخى " وأدرك أنه كقاتل لابد أن يقتل ، لكنه إذ قتل بغير عمد ينتقم له الرب سبعة وسبعين .

( 3 ) ميلاد شيث

عندما اقتنت حواء " قايين " ظنت فيه بركة للأجيال كلها ، لكن سرعان ما فسدت حياته وقتل أخاه البار ... فلم يترك الله حواء منكسرة الخاطر ، بل وهبها بداية جديدة بإنجاب " شيث " عوض " هابيل " . معنى " شيث " فى العبرية ( عوض ) أو معين ، وكأن الله جبله عوض هابيل وعينه رأسا لجيل مقدس ، وبالفعل أنجب شيث " أنوش " الذى يعنى ( إنسانا ) ، " وحينئذ أبتدىء أن يدعى بإسم الرب " . ( ع 26 ) .

 

تكوين – الأصحاح الخامس

المـــوت

بالخطية دخل الموت الروحى كما الجسدى إلى حياة الإنسان ، فمهما طال عمر الإنسان على الأرض لا يستطيع الهروب من الموت ... لأنه " بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت ، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع " ( رو 5 : 12 ) . لكن وسط هذه الصورة القاتمة وجد أخنوخ الذى إنتقل إلى الله بكونه بارا .

( 1 ) مواليد آدم ( وموتهم ) :

قدم لنا الوحى الإلهى سلسلة مواليد آدم ، مبتدأ بآدم لينتهى بنوح حيث يبدأ العالم من جديد خلال معمودية الطوفان .


 

 

الأسم

عمره عند ولادة الأبن

عمره عند موته

سنة ميلاده بالنسبة لتاريخ العالم

سنة موته بالنسبة لتاريخ العالم

آدم

130

930

1

930

شيث

105

912

130

1042

أنوش

90

905

235

1140

قينان

70

910

325

1235

مهللئيل

65

895

395

1290

يارد

162

962

460

1422

أخنوخ

65

365

622

987

متوشالح

187

969

687

1656

لامك

182

777

784

1651

نوح

500

950

1056

2006

 

ويلاحظ فى هذه السلسلة من الأنساب :

-         لم يذكر هابيل الذى استشهد قبل أن يكون له نسل ، لكن صوته لم يتوقف بعد كقول الرسول : " وإن مات يتكلم بعد " ( عب 11 : 4 ) . كما تجاهل ذكر قايين وذريته الذى حكم على نفسه بنفسه بالموت وهو حى .

-         مع أن الإنسان شرير ؛ مع ذلك  فقد شبهه لله ، ففى بداية سلسلة الآباء يقول : " يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله " ( ع 1 )

-         يلاحظ أيضا فى سلسلة الآباء جاء أخنوخ من نسل شيث الذى : " سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه " ( ع 24 ) . ولعله يقابل " حنوك ( أخنوخ ) " الذى من نسل قايين ، على أسمه بنيت أول مدينة على الأرض .. وكأن الله أقام نسلا يحمل السمة السماوية عوض النسل المرتبط بالأرضيات .

-         من جهة أعمار هؤلاء الآباء : حاول كثير من الدارسين تقديم تفاسير مختلفة فمنهم من قال أن الأرقام فى العبرية قديما كانت غامضة ويصعب ترجمتها ، وآخرون قالوا بأن الأعمار المذكورة لا يقصد بها الآباء وإنما تعنى عمر عشائرهم ...

( 2 ) أخنوخ البار :

 بين هذه السلسة من الأنساب وجد إنسان واحد لم تختم حياته بعبارة " ومات " ، إنما قيل عنه : " ولم يوجد لأن الله أخذه " ( ع 24 ) ، هذا الذى " قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله " ( عب 11 : 5 ) .

انتقال اخنوخ إلى الله هى شهادة عن الحياة الأبدية وشهادة ضد الأشرار ودينونتهم العتيدة ، بجانب نبوته النطقية التى تسلمتها الكنيسة اليهودية خلال التقليد الشفوى وسجلها الرسول يهوذا : " وتنبأ عن هؤلاء أيضا أخنوخ السابع من آدم قائلا : هوذا قد جاء الرب فى ربوات قديسيه ، ليضع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجورهم على جميع أعمال فجورهم التى فجروا بها على جميع الكلمات الصعبة التى تكلم بها عليه خطاة فجار " ( يه 14 : 15 ) .

( 3 ) نـــوح :

خلال نسب الآباء أعلن الوحى ميلاد " نوح " بكونه علامة ( النياح ) أو ( الراحة ) التى يتمتع بها العالم بتجديده بمياة الطوفان ... الأمر الذى يعرضه الكتاب فى الأصحاحات التالية بشىء من التفصيل ، وقد جاء نسل نوح " سام وحام ويافث " كرؤوس  لكل شعوب الأمم بعد الطوفان .

 

 

تكوين - الأصحاح السادس

فلك نوح

احتلت قصة الطوفان مركزا رئيسيا فى تاريخ الخلاص وتجديد العالم بالماء ، إذ أعلن الله :

 " نهاية كل بشر قد أتت قدامى " ، لا ليبيد الإنسان وإنما ليجدد العالم ، فيحول كارثة الطوفان إلى خير أعظم للبشرية التى ألقت بنفسها فى الهلاك الأبدى ، هكذا جاء الطوفان فى الخارج يكشف عن طوفان الخطية المدمر للنفس فى الداخل .

( 1 ) أبناء الله وبنات الناس :

" وحدث لما أبتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات ، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات ، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروه " ( ع 1 ، 2 ) .

حذرنا الرسول بولس بقوله : " لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين ، لأنه أية خلطة للبر والإثم ؟! وأية شركة للنور مع الظلمة ؟! وأى اتفاق للمسيح مع بليعال ؟! " [ 2 كو 6 : 14 ، 15 ] .

جاء تعبير " أبناء الله " فى الترجمة السبعينية " الملائكة " ؛ وقد انحرف البعض فى التفسير الحرفى لهذا الموضوع بأن الملائكة نزلوا من السماء وتزوجوا من بنات الناس !!

أولا : إن كلمة " إنجيلوس " فى اليونانية تعنى [ رسول ] ، وكأن تعبير " ملائكة " هنا يشير إلى خدام الله ، وكأن أولاد الله أو خدامه قد انشغلوا بالزواج بشريرات عوض إنشغالهم بخدمة الله .

ثانيا : إن قول الرسول بطرس : " لأنه إن كان لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا بل فى سلاسل الظلام طرخهم فى جهنم وسلمهم محروسين للقضاء " [ 1 بط 2 : 4 ] ، لا يعنى سقوطهم فى شهوات جسدية مع نساء بشريات ، إنما سقوطهم قبل خلق الإنسان فى الكبرياء .

ثالثا : إن ما قصده الكتاب سواء ملائكة أو أبناء الآلهة إنما يعنى أبناء شيث الذين كان ينبغى أن يعيشوا كملائكة الله وخدامه ، فإذ بهموينجذبون إلى بنات قايين الشريرات لجمالهن الجسدى ، لقد أعلن الله عدم رضاه لقوله :

" لا يدين روحى فى الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر ، وتكون أيامه مئة وعشرين سنة " ( ع 3 )

تحقق هذا الوعد بالتدريج بعد الطوفان ، وإن كان قد سمح للبعض أن يعيشوا أكثر من مئة وعشرين لكنهم بلا حيوية ...

( 2 ) نوح البار

" ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فى الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم . فحزن الرب أنه عمل الإنسان فى الأرض ، وتأسف فى قلبه ، فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذى خلقته ، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء ، لأنى حزنت أنى عملتهم " ( ع 5 – 7 ) .

لم يكن ممكنا لله القدوس أن يطيق الشر الذى كثر على الأرض ، ولا يتحمل الإلتقاء مع النفس التى خلقها كمسكن له أن يرى تصورها شريرا كل يوم ، لهذا حزن أنه صنع الإنسان فى الأرض . وحينما يقول الكتاب : " حزن " أو " تأسف قلبه " أو " ندم " ، لا نفهم هذه التعبيرات كإنفعالات غضب ، إنما هى لغة الكتاب الموجهة لنا نحن البشر لكى نفهم وندرك مرارة الخطية فى ذاتها وعدم إمكانية الشركة بين القداسة الإلهية والفساد الإنسانى .

العجيب أنه وسط هذه الصورة المؤلمة التى أعلنها الله من جهة البشر ، لا يتجاهل إنسانا واحدا يسلك بالبر وسط جيل شرير ، إذ يقول الكتاب : " وأما نوح فوجد نعمة فى عينى الله " ( ع 8 ) . لقد وجد نوح نعمة فى عينى الرب الذى شهد له : " كان نوح رجلا بارا كاملا فى أجياله " ( ع 9 ) . أما قوله : " فى أجياله " فتكشف أن بره وكماله ليسا مطلقين ، إنما لو قورنا بما يقدمه أجياله من فساد ، فالإنسان بره نسبى .

( 3 ) فساد الأرض :

" وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما .... إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض " [ ع 11 ، 12 ] . نلاحظ تكرار كلمة " الأرض " فى هذا الأصحاح وهذا يكشف عن اشتياق الله أن يرى فى الحياة البشرية سمة سماوية .

( 4 ) فلك نوح :

كشف الله لعبده البار نوح ما كان مزمعا أن يفعله ، إذ قال له : " نهاية كل بشر قد أتت أمامى ، لأن الأرض إمتلأت ظلما منهم ، فها أنا مهلكهم مع الأرض " .

الله هو الصديق المحب الذى يحاور الإنسان ويكشف له حكمته وأسراره ، لقد كشف لنوح البار أن الهلاك هو ثمرة طبيعية لفساد هم اختاروه .

أهمية الفلك :

نرى فى كتابات الآباء وأقوالهم أهمية الفلك بكون أن الطوفان رمزا لعمل التجديد للطبيعة البشرية ، والفلك رمزا للصليب الذى حمل السيد المسيح معلقا لأجلنا ، فحمل فيه الكنيسة التى هى جسده المقدس ، كان لا بد من هلاك العالم القديم [ اإنسان القديم ] فى مياة المعمودية ليقوم العالم الجديد أو الإنسان الجديد الذى على صورة خالقه يحمل جدة الحياة أو الحياة المقامة فى المسيح يسوع [ رو 6 : 3 ، 4 ] .

نوح وعائلته داخل الفلك : يقول العلامة أوريجانوس : [ بصعودنا خلال أدوار الفلك المختلفة نصل إلى نوح نفسه الذى يعنى ( نياح ) أو ( بر ) ، فنوح هو يسوع المسيح ، إذ لا ينطبق على نوح القديم قول لامك أبيه : " هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التى لعنها الرب " [ تك 5 : 29 ] ... أنظروا إلى ربنا يسوع المسيح الذى قيل عنه : " هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم " [ يو 1 : 29 ] ..... ها أنتم ترونه بالحقيقة يهب راحة للبشرية ، ويخلص الأرض من اللعنة .

 

الأصحاح السابع

الطوفان

وسط فساد الأرض أعلن الرب خلاصه للبشرية خلال أحداث الطوفان وتجديد الأرض ، الأمر الذى حمل رمزا لعمل السيد المسيح الخلاصى .

( 1 ) اهتمام الله بنوح

الله فى رعايته الفائقة لأولاده يقول : " ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك ، لأنى إياك رأيت بارا لدى فى هذا الجيل " ( ع 1 ) ... ما أجمل أن يشهد الله لأولاده ، فإنها بحق شهادة صادقة ! إن كانت البشرية – فى ذلك الحين – قد جلبت لنفسها وللعالم الدمار ، لكن يبقى الله شاهدا لنوح ببره ومن أجله يهتم به وببيته فيدبر له الخلاص خلال الفلك بدقة فائقة .

+ يرى البعض أن نوحا بقى مئة وعشرين عاما فى انذار الأشرار ، وهو يبنى الفلك أمام أعينهم ليؤكد لهم صدق انذارات الله ، كان نوح وهو فى سن الستمائة موضع سخرية الناس ، إذ يصنع فلكا بهذا الحجم فى شيخوخته ليهرب من طوفان فى رأيهم من وحى خياله وللأسف أشترك كثيرون فى صنعه لحساب هذا الشيخ البار لكنهم فى غباوة طلبوا الأجرة عن تعب أيديهم ولم يفكروا فى الدخول لخلاص أنفسهم .

+ حدد الله لنوح أن يدخل من الحيوانات الطاهرة سبعة سبعة ذكرا وأنثى ومن غير الطاهرة إثنين ذكرا وأنثى ، ومن طيور السماء سبعة سبعة ذكرا وأنثى ( ع 3 ) .

+ يرى البعض أنه بهذا يكون العدد كبيرا جدا لا يسعه الفلك ، لهذا قال بعض الدارسين أن الطوفان كان محليا وليس شاملا لكل الأرض فى العالم ، لهذا التزم نوح بالحيوانات والطيور التى فى منطقته وحدها ، أما القارات الشاسعة والبعيدة والتى لم يكن يسكنها إنسان بعد فقد ضمت حيوانات وطيور بقيت إلى ما بعد الطوفان .

+ لم يحدد الله لنوح ما هى الحيوانات الطاهرة والحيوانات غير الطاهرة ، ولم تكن الشريعة الموسوية بعد قد أعلنت ، لهذا يرى البعض أن شريعة الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة تسلمها آدم شفاها من الله وسلمت عبر الأجيال بالتقليد ، ولما جاءت الشريعة الموسوية سجلت ما هو قائم فعلا ولكن بشىء من التفصيل .

( 2 ) دخول الفلك

دخل نوح وهو إبن ستمائة عام الفلك مع إمرأته وبنيه ونساء بنيه وكل الحيوانات والطيور ... " كما أمر الله نوحا " ( ع 9 ) ، ربما لم يكن هناك أية إشارة طبيعية لحدوث فيضان ، لكن بدأ الموكب يتحرك وبقى هكذا فى تحرك مستمر نحو الفلك سبعة أيام بلا باعث سوى أمر الله لنوح ، والطاعة للوصية بإيمان فى مواعيد الله . كان العالم يسخر بنوح ، وكان نوح يتمزق حزنا على إخوته مشتاقا أن يدخل بالكل إلى الفلك ليخلصوا .

أما بقاؤه سبعة أيام فى موكب متحرك ، إنما يشير إلى الكنيسة التى تفتح أبواب الرجاء لكل إنسان كل أيام الأسبوع ، أى كل أيام غربتنا على الأرض ، فهى تستقبل كل إنسان ولو كان فى النفس الأخير من حياته !

هذا ويلاحظ أن نوحا وأولاده لم يكن لكل منهم إلا زوجة واحدة كأبيهم آدم .

( 3 ) حدوث الطوفان :

وصف الكتاب المقدس الطوفان وصفا دقيقا للغاية ، حدد فيه مدته وروى دقائق أموره ، فقد بدأ فى السابع عشر من الشهر الثانى من سنة 600 من عمر نوح ( ع 10 ) ، ظلت الأمطار على الأرض 40 يوما ( ع 12 ) ، تعاظمت المياة على الأرض 150 يوما ( ع 24 ) ، ولم تجف الأرض إلا بعد 371 يوما من بدء الطوفان يوم أمر الله نوحا أن يخرج من الفلك [ 8 : 13 – 16 ] .

 

( 4 ) تعاظم المياة على الأرض :

 كثيرا ما يردد العبارة : " تعاظمت المياة على الأرض " أو ما يشبهها ( ع 17 – 24 ) ، وبقدر ما تعاظمت المياة كان الفلك يرتفع ليسير على وجه المياة ( ع 18 ) ، مرتفعا فوق الجبال الشامخة التى تحت كل السماء ( ع 19 ) ، وقد بقيت هكذا متعاظمة 150 يوما .

 

تكوين – الأصحاح الثامن

خلاص نوح بالفلك

إذ غرق العالم القديم بمياة الطوفان قام العالم الجديد ممثلا فى أشخاص نوح وعائلته ، لقد اهتم الله نفسه بخلاصهم وتجديد الأرض وقبل ذبيحة الإنسان رائحة رضا ليدخل معه فى عهد جديد

( 1 )  إجتياز ريح على الأرض 

" ثم ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التى معه فى الفلك ، وأجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياة .... وفى العاشر فى أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال " [ ع 1 ، 5 ] .

إن كان الله قد أغلق على نوح فهو لا ينساه وسط المياة ، إنما كالفخارى الذى يترقب الإناء الطينى داخل الفرن ، يخرجه فى الوقت المناسب إناء للكرامة .

من أجل نوح أرسل الله ريحا على الأرض ... وكأنه وسط مياة المعمودية يهب روحه القدوس لتقديس أرضنا ، فنتهيأ كأعضاء لجسد السيد المسيح ونصير هيكلا لروحه القدوس ..

استقر الفلك فى اليوم السابع عشر من الشهر السابع على جبل أراراط بأرمينيا ، أسمه مشتق من الكلمة الأكادية " أرارطو " وتعنى ( مكان مرتفع ) ، ولعلها القمة التى تدعى حاليا بالتركية " أغرى داع " أى " جبل شاهق " .

فى اليوم الأول من الشهر العاشر بدأت تظهر رؤوس الجبال الأقل ارتفاعا ، إن كان رقم 10 يشير إلى الناموس فإذ يبدأ اإنسان حياته بالوصية [ الناموس الروحى ] تظهر فى داخله رؤوس جبال الفضيلة التى سبقت فتغطت واختفت بسبب خطايانا . إن كان الفلك أى السيد المسيح يستقر فى داخلنا كما على جبل أرارط ، جبله الشاهق الصلد ، فإنه يتجلى فى داخلنا وتترأى الحياة التقوية فى أعماقنا كرؤوس جبال حية حينما نقبل ناموسه الروحى فنكون كمن فى اليوم الأول من الشهر العاشر .

( 2 ) إرسال غراب وحمامة :

إن كان الفلك يشير إلى الكنيسة ، فقد وجد فيه الغراب والحمامة ، وكما يقول القديس أغسطينوس : [ لقد أرسل نوح هذين النوعين من الطيور ، كان لديه الغراب والحمامة أيضا ... إن كان الفلك هو مثال الكنيسة فبالحقيقة ترى خلال طوفان العالم الحاضر وقد ضمت بالضرورة النوعين : الحمامة كما الغراب ، ما هى الغربان ؟ الذين يطلبون ما لذواتهم . ما هو الحمام ؟ الذين يطلبون ما هو للمسيح [ فى 2 : 21 ] .

الغراب يشير إلى الخطية التى يجب أن تطرد ، تنطلق فلا تعود تدخل إلى الفلك ، بل تبقى مترددة بين الجيف الفاسدة والفلك من الخارج ، ولا يمد نوح يده ليدخلها عنده كما فعل مع الحمامة .

( 3 ) كشف الغطاء عن الفلك :

" فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر وإذا وجه الأرض قد نشف " [ ع 13 ] كان ذلك فى السنة الواحدة والستمائة من عمر نوح ، فى اليوم الأول من الشهر الأول ... وكأن نوحا ينهى الستمائة عاما من عمره ليبدأ القرن السابع من عمره بكشف غطاء الفلك والتطلع إلى الأرض الجديدة من خلال الفلك . بهذا يشير إلى السيد المسيح – نوح الحقيقى – قائد الكنيسة والحال فى وسطها  ، يعمل الأيام الستة ( 6 ) من أجل خلاص قطيعه المئة ( لو 15 : 4 ) كل أيام تغرب الكنيسة ( 6 × 100 = 600 ) ، حتى متى انقضى الزمن وجاء اليوم السابع الذى هو يوم الراحة ينزع الرب كل غطاء لنلتقى معه وجها لوجه .

( 4 ) خروج نوح إلى الأرض الجديدة :

فى اليوم السابع والعشرين من الشهر الثانى جفت الأرض تماما وصدر الأمر لنوح أن يخرج ، وكان ذلك بعد ثمانية أسابيع من رفع الغطاء عن الفلك ، وفى ختام الأسبوع الثالث والخمسين من بدء الطوفان .

( 5 ) إقامة مذبح للرب :

أول ما صنعه نوح بعد خروجه من الفلك هو إقامة مذبح للرب على الأرض الجديدة التى غسلتها مياة الطوفان ، وكأن الكنيسة لا تقدر أن تقدم ذبيحة السيد المسيح ( الأفخارستيا ) إلا بعد التمتع بالمعمودية . لهذا السبب أيضا نجد الكتاب المقدس للمرة الأولى يعلن إقامة مذبح للرب ، وإن كان بلا شك قد قدمت ذبائح للرب منذ الخروج من الفردوس ..

أعلن الله رضاه على الإنسان بعد أن تنسم رائحة سرور خلال ذبيحة المصالحة ، مؤكدا أنه لا يعود يهلك البشرية معا بسبب ضعفها ، عجيب هو الله فى صفحه وعفوه !

بدأت الحياة الجديدة بالعبادة خلال الذبيحة كما خلال الصليب ، فانتزعت اللعنة عن الأرض ( ع 21 ) ...

أخيرا ما قدمه نوح كان رمزا لعمل السيد المسيح الذبيحى فى كنيسته ، وكما يقول الكاهن :

[ الذى أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا ، فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة ] .   

+  +  +

 

تكوين – الأصحاح التاسع

تجديد العهـــــــد

إذ تنسم الله من الإنسان المتجدد فى ذبيحته رائحة رضا بارك البشرية ، مقدما لها ناموسا تخضع له ، وعهدا يربطها به ، وعلامة تسندها فى أيام تغربها .

( 1 ) الله يبارك نوحا وبنيه :

" وبارك الله نوحا وبنيه ، وقال لهم : اثمروا واكثروا واملأوا الأرض " [ ع 1 ] .

إذ خرج نوح وبنوه إلى الأرض المتجددة بمياة الطوفان باركهم الله وقدم لهم ما سبق أن وهبه لآدم وحواء : " اثمروا واكثروا وأملأوا الأرض " ... وكأن الإنسان قد بدأ من جديد ، أو كأن العالم قد انطلق إنطلاقة جديدة خلال نوح عوض آدم الأول .

هذه البركة فى حقيقتها هى رمز للبركة التى نالتها الكنيسة فى العهد الجديد خلال نوح الحقيقى ، ربنا يسوع المسيح واهب النياح أو الراحة ...

( 2 ) ناموس نوح :

وضع الله ناموسا لنوح عوض الوصية التى قدمها قبلا لآدم ، وقد جاء هذا الناموس يحوى الآتى :

أولا – السماح بأكل لحوم الحيوانات والطيور والأسماك ، ( ع 3 ، 4 ) . كان طعام الأنسان قبلا من العشب الأخضر ، والآن سمح له بأكل لحوم الحيوانات والطيور والأسماك ...

 لماذا ؟ لكى يهىء الطريق لقبول الشريعة الموسوية التى بها يلتزم الكاهن أن يأكل من ذبيحة السلامة كرمز للتمتع بتناول جسد ربنا يسوع ودمه ، فالذبيحة ليست كما يظن الوثنيون لتهدئة غضب الله ، إذ أن الله لا يسر بالمحرقات ولا يأكل لحوم أو شحوم ، إنما الذبيحة المقدسة وهى تعلن مصالحة الله مع الإنسان هى عطية للإنسان بها تشبع نفسه ويرتوى قلبه على مستوى روحى فائق للطبيعة .

ثانيا – إذ سمح بأكل اللحوم حذر من أكلها بدمها ، ليهىء الطريق للكشف عن خطورة الدم المبذول عنا كعنصر أساسى للتكفير والفداء ، إذ " بدون سفك دم لا تحصل مغفرة " ( عب 9 : 22 ) ، " دم كريم من حمل بلا عيب دم المسيح " ( 1 بط 1 : 19 ) .

من الجانب الجسدى منعه من أكل الدم أو شربه لأجل المحافظة على صحته ، ومن الجانب السلوكى خشى عليه من التوحش والعنف ، أما من الجانب الروحى فأراد تقديس الدم بكونه يمثل الحياة المبذولة من أجل خلاص الإنسان .

( 3 ) تجديد العهــــد

أقام الله ميثاقا مع نوح وبنيه ، وجعل قوس قزح علامة للميثاق بينه وبينهم ، وبينه وبين نسلهم من بعدهم ، إذ جاء التأديب خلال الطبيعة ( الطوفان ) أقام الله العلامة فى الطبيعة علانية ( قوس قزح ) ، أما فى العهد الجديد إذ حمل السيد المسيح تأديبنا فى جسده جعل العلامة فيه خلال جراحات الصليب .

يظهر قوس قزح حول العرش الإلهى ( رؤ 4 : 3 ؛ 10 : 1 ) ، ذلك لأن مجد الله ليس جبروتا وعظمة فحسب وإنما هو أيضا حب بلا حدود . وقوس قزح علامة الحب التى قدمها الله حين أقام ميثاقا مع نوح بعد الطوفان ، ويبقى الله كمحب للبشرية يقدم لنا كل حب خلال ميثاقه معنا . هذا القوس له ألوان كثيرة تعلن عن إحسانات الله وعطاياه المتعددة .

والعجيب أن الله فى حبه للإنسان يعتز بالميثاق معه ، فيقول : " ميثاقى " ( ع 9 ، 11 ، 15 ) ، " قوسى " ( ع 13 ) .

 

( 4 ) نوح وعريه

إذ خرج نوح  إلى الأرض الجديدة التى غسلتها مياة الطوفان " إبتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما " ( تك 9 : 20 ) لم يكن " عاملا فى الأرض " ( تك 4 : 2 ) كما كان قايين بل فلاحا يغرس كرما ، نوح يشير إلى السيد المسيح الذى جاءنا كفلاح يغرس كرمه من جديد ، أى الكنيسة التى صارت كما فى أرض جديدة ترتوى بمياة الروح القدس وتغتسل بدم السيد المسيح القدوس .

غرس نوحا كرما .. غالبا ما كان يعرف فاعلية عصير الكرم المختمر ... لذا يرى بعض الآباء فى نوح أنه أول من اختبر المسكر ! ، إن كان قد سكر بمعرفة أو غير معرفة فقد تعرى ، وسجل لنا الكتاب المقدس هذا الضعف ليؤكد لنا أن الخلاص لم يكن بسبب بر نوح الذاتى فإن كان بارا إنما بسبب نعمة الله الفائقة التى كانت تسنده .

+ + ساعة سكر واحدة عرت ( نوحا ) الذى ظل مستترا طوال ستمائة عام بالوقار ، يا لسلطان الخمر ، فقد جعلت ذاك الذى لم تغلبه مياة الطوفان أن يصير عاريا !

الخطية هى بالحقيقة الخمر المسكر الذى يعرى النفس ويفضحها ، أما السيد المسيح فهو اللباس البهى الذى يستر النفس من فضيحتها الأبدية . 

+ + إذ تعرى نوح أبصر حام عورة أبيه ، أما سام ويافث فبوحى الناموس الطبيعى حرصا ألا يبصرا عورة أبيهما ، هنا تظهر وحدة الناموس الطبيعى والناموس المكتوب وتطابقهما ، إذ يحذر الناموس الإنسان من كشف عورة الأب أو الأم ( لا 8 : 6 – 18 ) ، هذا وكشف العورة لا يفهم فقط بالمعنى الحرفى البحت ، إنما ربما يقصد به عدم الأعتداء على زوجة الأب أو ارتكاب الفتاة شرا مع زوج أمها ! ... لكن ما فعله حام كان فيه سخرية بأبيه المتعرى بالمعنى الحرفى لمعنى التعرية .

+ + رأى القديس جيروم فى قصة نوح هذه صورة رمزية للسيد المسيح الذى شرب كأس الألم ، ومن أجلنا تعرى على الصليب ، فسخر به الأشرار ( حام ) بينما آمن به الأمم ( سام ويافث ) .

( 5 ) نبوة نوح عن كنعان وسام ويافث

" فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به إبنه الصغير " ( ع 24 ) . يرى البعض أن المقصود بأبنه الصغير هنا حفيده كنعان بن حام ، لكن الأرجح أنه حام .

ولكن على أى الأحوال يبدو أن حاما وأبنه كنعان إشتركا فى السخرية بنوح ، فكانا يمثلان الذين يصلبون السيد المسيح المصلوب لأنفسهم مرة ثانية ، ويشهرونه بسبب أعمالهم الشريرة ( عب 6 : 6 ) . وقد لعن نوح حفيده كنعان ، مباركا إله سام وطالبا الخيرات ليافث .... وقد جاءت كلماته تحمل نبوة عن الأجيال المقبلة ، ويلاحظ فيها الآتى :

( 1 ) لم يلعن نوح إبنه حاما بل حفيده كنعان ، ولعل حفيده كان أكثر سخرية به من إبنه ؛ هذا ويرى الشهيد يوستين أن الإبن الذى باركه الله بفمه من قبل مع أخوته لا يمكن أن يلعن ، وقد حلت اللعنة بالإبن الذى مارس خطية أبيه وربما بصورة أبشع . هذا ومن ناحية أخرى فإن دعوة كنعان بعبد العبيد أى النزول إلى أدنى صور العبيد إنما هى نبوة عن الكنعانيين الذين عاندوا الله وانحرفوا إلى الرجاسات الوثنية مثل تقديم أبنائهم ذبائح للأصنام ( لا 18 : 25 – 28 ، تث 20 : 17 ، 18 ) .

( 2 ) حين تحدث عن سام ، بارك " إله سام " ، إذ منهم خرج إبراهيم وإسحق ويعقوب ؛ إن النبوة تحققت بولادة السيد المسيح منهم حسب الجسد ، فإن كان إسم " سام " يعنى ( سام ) أو ( عال ) فأى إسم أسمى من السيد المسيح الذى فاح عبيره فى كل موضع ؟‍ ‍

( 3 ) جاءت النبوة عن " يافث " والذى يعنى ( توسع ) أو ( ملء ) أن الله يفتح له فيسكن فى مساكن سام ، فقد إتسعت مساكن سام كنيسة ( السيد المسيح ) لتقبل ملء الأمم ، أى تقبل يافث فيها .

+  +  +


 

تكوين – الأصحاح العاشر

تعمير الأرض الجديدة

بعد تجديد الأرض بمياة الطوفان عمرها الله بذرية نوح ، ولكن بالرغم من التجديد الذى تم عاد الإنسان وتمسك بالشر فانتشر فى العالم .

فى هذا الأصحاح يقدم لنا الوحى الإلهى سلسلة مواليد نوح ، تكشف عن أصل الأمم القديمة ، وكما يقول العلماء : [ إنه سجل لا نظير له على الإطلاق لبيان أصل الأمم ومنشأها ، وقد أيدته كل الأكتشافات الأثرية السالفة ] .

هذا السفر لا يهدف إلى عرض نشأة الأمم إنما أراد أن يقدم لنا تمهيدا لنشأة الشعب القديم الذى منه يخرج السيد المسيح مخلصا للشعوب .

( 1 ) بنو يافث :

" يافث " إسم سامى يعنى ( ليكن فسيحا أو رحبا ) .

ولد بعدما بلغ نوح حوالى 500 عاما ، تصرف بحكمة مع أخيه سام عندما تعرى والده ، فنال بركة تبدو غامضة ، تعلن تحرك الشعوب غير السامية ( من نسل يافث ) لتسكن فى مساكن سام ، ويرى البعض أنها تشير إلى التحركات التى حدثت أكثر من مرة لبعض الأمم والشعوب إلى حضن السيد المسيح أو إلى كنيسته ، هذا الذى جاء متجسدا من نسل سام ، وقد فتح أبواب كنيسته لكل الشعوب والأمم . يافث يمثل الشعب [ الهندو أوربى ] بوجه عام

ذكر هنا سبعة بنين ليافث دعيت بأسمائهم عدة شعوب ، كما تفرعت من بينه السبعة شعوب أخرى .

( 2 ) بنو حام :

كلمة " حام " تعنى ( حام ) أو ( ساخن ) ، لذلك دعى إله الشمس ( حامو ) بسبب حرارة الشمس .

تصرف حام وابنه الصغير كنعان مع نوح بغير حكمة أو لياقة ، فسقط كنعان تحت اللعنة .

وقد قدم لنا حام خلال أولاده الأربعة الشعوب التى قطنت جنوب العربية والنوبة وأثيوبيا ومصر وأرض كنعان ، وأن اسم حام أحيانا يطلق على مصر فى القطع الشعرية ( مز 78 : 51 ، 105 : 23 ، 27 ؛ 106 : 22 ) .

أولا : كوش

 كلمة " كوش " تعنى بالعبرية ( أسود ) . وهو بكر حام وأنجب خمسة أبناء قدموا خمسة شعوب .

سكنت هذه الشعوب فى وسط البلاد العربية وجنوبها وحتى إثيوبيا . وفى كثير من الكتب تعتبر كوش هى إثيوبيا فقط .

وقد قدم نسل حام بوجه عام شعوبا وأمما مقاومة لعمل الله ولشعبه فى العهد القديم ، لذا جاء العهد القديم يعلن العقوبة الإلهية على هذه الشعوب بكونها تحمل رموزا للشر ، فكوش كانت تشير إلى ظلمة الشر ، ومصر إلى محبة العالم التى تستعبد النفس وكنعان إلى العمل الشيطانى الخ ..... لكن النبوات فى العهد القديم لم تترك هذه الشعوب بلا رجاء ... شعب الله رفض الإيمان ودخلت هذه الشعوب إلى الميثاق الإلهى .

ثانيا : مصرايم

 كلمة " مصرايم " فى العبرية مثنى ، لذا ظن البعض أنها دعيت هكذا بسبب وجود الوجه البحرى والوجه القبلى ، لكن الأرجح أنها دعيت " مصر " بالعربية عن العبرية نسبة إلى مصرايم حيث سكن هو وأولاده فيها .

ثالثا : كنعان

الأبن الأصغر لحام ، من نسله ظهرت القبائل الكنعانية .

( 3 ) بنو سام :

" سام " إسم عبرى يعنى ( سام ) .

نال سام بركة أبيه نوح ، لأنه تصرف بحكمة ولياقة من جهة والده عندما سكر وتعرى .

وقد سكن أولاده الخمسة فى الأرض الممتدة من عيلام غرب آسيا حتى شرق البحر الأبيض المتوسط ، ومن نسله جاء اليهود والأراميون والآشوريون والعرب – وله خمسة أبناء ، هم أشور ، وأرفكشاد ، ولود ، وأرام .

اهتم  موسى النبى بذكر أولاد أرفكشاد إذ أنجب شالح ، وشالح أنجب عابر ، وعابر أنجب فالج ، وفالج رعو ، ورعو سروج ، وسروج ناحور ،  وناحور تارح الذى انجب " ابرام " الذى تزوج ساراى . وهكذا بدأ بأول انطلاقة للشعب بظهور أبرام ( إبراهيم ) أب الآباء . كما أوضح موسى النبى قرابة لوط لأبرام بكونه إبن أخيه من هاران بن تارح .

ويفسر القديس اغسطينوس العبارة : " إسم الواحد فالج لأن فى أيامه قسمت الأرض " ( ع 25 ) ، بأن هذا التقسيم إنما يشير إلى تعدد اللغات ، ففى أيام فالج بدأ ظهور أكثر من لغة على الأرض ، بعدما كان الكل يتحدث بما دعى فيما بعد بالعبرية .

+  +  +

تكوين – الأصحاح الحادى عشر

برج بابل

إن كان الله قد تدخل لتجديد العالم بمياة الطوفان ، فعوض أن يستجيب الإنسان بالحب والأتكاء على صدر الله إتكأ على ذاته ، وأراد أن يقيم لنفسه برجا من صنع يديه يحتمى فيه من قرارات الله نحوه . وكأن هذا البرج يمثل الفلسفات المعاصرة – خاصة الوجودية – التى ترى فى الله أنه يكتم أنفاس الإنسان ويحرمه حريته ، وكأن مجد الله يقوم على مذلة الإنسان ، وقوة الله على حساب كرامة بنى البشر ، فحسبوا أنه لا مناص من التخلص من هذا الإله بتأليه الذات والهروب من الله للتمتع بكمال الحرية .

( 1 ) برج بابل :

" وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة " ( ع 1 ) .

الأصحاح السابق تحدث عن مواليد نوح وظهور الأمم والشعوب ، كل أمة لها لسانها ، هنا نرى كيف أن الأرض كانت كلها لسانا واحدا ولغة واحدة ، وكيف حدثت البلبلة بعد ذلك وصار لكل شعب لسانه أو لغته .

هناك من يقول أن اللغة الوحيدة كانت هى العبرية ، ونادى فريق آخر بأنها الكلدانية ( السريانية ) – على أى الأحوال لا يمكن الجزم أو تحديد لغة العالم الواحدة التى كانت وقتئذ .

كانت لغة الأنسان الأول هى لغة الحب ، الذى لا يعرف الأنقسام ؛ تخاطب بهذه اللغة مع الله والملائكة وجميع السمائيين ... وخلال لغة الحب كان الأنسان منسجما حتى مع الخليقة غير الناطقة فينطق الكل معا بروح الشكر لله والتسبيح له . أما وقد سقط الأنسان فى العصيان خسر لغة الحب والوحدة ، ولم يستطع اإنسان أن يتحدث مع الله بفرح وبهجة ولا أن يشترك مع السمائيين فى ليتورجياتهم ولا أن ينسجم حتى مع الخليقة غير الناطقة .

" وحدث فى ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة فى أرض شنعار وسكنوا هناك ، وقال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنا ونشويه شيا ، فكان لهم اللبن مكان الحجارة ، وكان لهم الحمر مكان الطين . وقالوا : هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ، ونصنع لأنفسنا إسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض " ( ع 2 – 4 ) .

عرف الإنسان كيفية صنع الطوب الأحمر من الطين مثلما يحدث فى مصر ، وبدلا من أن يشكروا الله على هذه المعرفة الجديدة فى الحياة ، كانت خطتهم البشرية هو تدبير إقامة مدينة وبرج مرتفع حتى إذا ما حل الطوفان مرة أخرى ، يجدون لأنفسهم ملجأ من تأديبات الله القاسية . وكأنهم لم يثقوا فى ميثاق الله مع نوح وحسبوا الله غير أمين فى مواعيده  .

يرى القديس أغسطينوس أن نمرود هو الذى أسس هذه المدينة التى دعيت بابل ( تك 10 : 9 ، 10 ) ، فحينما تحدث الكتاب المقدس عنه قال أن بداية مملكته كانت بابل ( تك 10 : 10 ) ، أما قول الكتاب :

" فنزل الرب لينظر المدينة والرج اللذين كان بنو آدم ( البشر ) يبنوها "( ع 5 ) – فيعلق القديس أغسطينوس قائلا بأن الذين يبنون هم بنو البشر : [ لم يكونوا أبناء الله ، إنما كانت هذه الجماعة تعيش بطريقة بشرية ، والتى ندعوها " مدينة أرضية " ] . أما عن القول :

" نزل الرب لينظر " فلا يعنى المفهوم الحرفى للعبارة ، وكأنه بهذا تصير حضرته ملموسة

( 2 ) مواليد سام

يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرا لذكر نسل سام بعد الحديث عن الطوفان وإنشاء مدينة بابل مباشرة إذ يقول ، فكما جاء من نسل حام من يقيم بابل رمز المدينة الأرضية ، هكذا جاء من نسل سام من يقيم مدينة الله – والآن بعد أن كشف الكتاب المقدس عن المدينة الأرضية أى بابل ، يعود إلى الأب سام ليخلص الأجيال النازلة منه حتى إبراهيم .... .

( 3 ) إبرام ولوط

بعدما عرض مواليد سام بلغ إلى ابراهيم وإبن أخيه لوط اللذين وجدوا فى أور الكلدانيين .... وبظهور إبراهيم يظهر أب الآباء لينال وعدا وميثاقا من الله ، بنسله تتبارك كل الأمم ...

ظهر إبراهيم فى أور الكلدانيين ويبدو أن عائلته أيضا كانت تعبد آلهة غريبة ، ولم يكن فى العالم كله من يعبد الله الحى غير إبراهيم ، إذ قيل : " آباؤكم سكنوا فى عبر النهر منذ الدهر ، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور وعبدوا آلهة أخرى ، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به فى كل أرض كنعان وأكثرت نسله وأعطيته إسحق " ( يش 24 : 2 ، 3 ) .   

+  +  +  

 

تكوين – الأصحاح الثانى عشر 

دعوة إبرام

إجتمعت البشرية حتى بعد الطوفان ضد الله تتعامل معه كخصم وليس كصديق محب ، أما الله ففى حبه لم يعطها ظهره بل فتش بينها حتى وجد إنسانا واحدا إستحق أن يتمتع بالدعوة ليكون أبا لشعب الله ، بنسله تتبارك الأمم ، هذا الأب " أبرام " دعى للخروج من أرضه وشعبه وبيت أبيه لينطلق بالبشرية فى علاقتها مع الله ببداية جديدة .

( 1 ) دعوة ابرام

ابرام هو العاشر فى تسلسل الآباء الذين ولدوا من سام بعد الطوفان . كلمة " ابرام " تعنى ( الأب مكرم ) ، وقد غير الله إسمه إلى " إبراهيم " التى تعنى ( أب جمهور ) ( تك 17 : 5 ) إذ بدأ حياته كأب مكرم وسام ، جعله الله أبا لجمهور كثير أب الأباء ، أب لجميع المؤمنين .

إذ رأى الله أمانة إبراهيم – وكان يعيش فى وسط مجتمع غنى مع رجاسات وثنية – دعاه للخروج من أور الكلدانيين وعاد ليكرر الدعوة له فى حاران بعد أن أقام فيها زمانا طويلا مع والده وزوجته وإبن أخيه ، ومات أبوه هناك ( 11 : 31 ، 32 ) .

لم يتجاهل الله إنسانا واحدا أمينا وسط المدينة بأكملها ، بل وسط العالم كله فى ذلك الحين ، بل جعله صخرا منه يقطع المؤمنون .

جاءت الدعوة الإلهية لأبرام هكذا : " وقال الرب لأبرام : أذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التى أريك " ( ع 1 ) .

هذه الدعوة الإلهية موجهة إلى كل نفس بشرية لكى تنطلق لا من مكان معين أو عشيرة أو بيت ما وإنما تنطلق بالقلب خارج محبة العالم والذات ( الأنا ) ، لكى تلتقى بالرب السماوى وتعيش معه فى أحضانه . إنها دعوة للأجيال كلها ، وقد سحبت قلوب الكثير من الآباء مدركين أنها دعوة إلهية تمس حياتهم الشخصية ؛ إنها دعوة ليتخلى اإنسان عن محبة غنى العالم ، وعن عشيرته أى حياته القديمة وعن بيت أبيه ليطلب بيت الآب السماوى .

لم يكن خروج ابرام سهلا ، إذ يعيش فى مدينة ساحلية عرفت بغناها وتقدمها وثقافتها بجانب إرتباطه بعائلته ، ولم يكن له ولد  يعاونه فى انتقاله وترحاله .. خرج من حاران فى سن 75 عاما ! أى فى وقت يحتاج فيه إلى الأستقرار .. ولكنه فى مرونة الطفولة تحرك فى طاعة الله . هكذا قبل إبراهيم الدعوة الإلهية وأطاع متغلبا على الصعوبات والعواطف البشرية والعجيب أن الله وهو يدعوه للخروج لا يحدد له الموضع الذى يستقر فيه .

( 2 ) ابرام بركة للأمم

مع كل دعوة أو وصية يقدم الله وعدا : " فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم إسمك " ( ع 2 ) ... " وتكون بركة وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه " ... وإذ سأله أن يترك عشيرته وبيت أبيه قال : " وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض " ( ع 3 ) .

الله لا يقبل أن يكون مدينا لأنسان إنما يطلب فرصة ليهبه بفيض ؛ انه يريد أولاده فى حالة شبع حقيقى لا حرمان .

قيل لأبرام : " تتبارك فيك جميع قبائل الأرض " الأمر الذى تحقق بمجىء السيد المسيح من نسل ابرام الذى به تباركت الشعوب .

( 3 ) ابرام العملى فى إيمانه :

لم يكن ابرام فى إيمانه يتوقف عند تعرفه على الله بأفكار نظرية يحفظها ويدافع عنها ، ولا يتوقف فى ترجمته للمعرفة عند تقديم عبادات معينة ، لكنه فى إيمانه أطاع الله كصديق أعظم له . يقول الوحى الإلهى : " فذهب أبرام كما قال له الرب وذهب معه لوط ، وكان أبرام إبن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران ، فأخذ أبرام ساراى إمرأته ولوطا إبن أخيه وكل مقتنياتهما والنفوس التى إمتلكا فى حاران ، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان " ( ع 4 ، 5 ) .

حقا لقد كانت طاعة إبراهيم كاملة فى قلبه لكنها كانت جزئية فى تنفيذها فخرج أولا من أور الكلدانيين ومعه والده تارح ، ولا ندرى لماذا خرج تارح ؟ هل كان متعلقا بإبنه إبراهيم ؟ أم وجد الفرصة سانحة لترك العبادة الوثنية ؟ ... توقف الموكب فى حاران حوالى 15 عاما ، إذ لم يكن إبراهيم قادرا على الإنطلاق منها إلا بعد موت والده تارح الذى غالبا ما استثقل التحرك نحو كنعان فأعاق الموكب كله .

ليته لا يكون لنا فى خروجنا من أور الكلدانيين تارحا مرافقا لنا حتى لا نتوقف فى حاران سنوات طويلة بل ننطلق مسرعين نحو كنعان السماوية ، نتمتع بمواعيد الله بلا عائق .

أول بلدة بلغها إبراهيم فى أرض كنعان هى " شكيم " التى تعنى " كتف " ، كان يسكنها الكنعانيون بكتف معاندة لله ؛ لكنها صارت فيما بعد تمثل الكتف المنحية بالحب لله تحمل الأثقال ، إذ صارت تمثل جزءا من أرض الموعد ، مدينة تابعة لسبط لاوى وإحدى مدن الملجأ .

يبدو أن ابرام لم يدخل شكيم إنما خيم يجوارها وعبر إلى " بلوطة مورة " ( ع 6 ) – فى هذا الموضع أقام أبرام " مذبحا للرب " ( ع 7 ) لأول مرة فى أرض كنعان ، .... يقال أنه هناك دفن يعقوب كل الآلهة الغريبة التى فى أيدى عائلته والأقراط التى فى آذانهم ( تك 35 : 4 ) التى جاءوا بها من حاران ... وهناك أخذ ( يشوع ) حجرا كبيرا ونصبه تحت البلوطة التى عند مقدس الرب ، ( يش 24 : 26 ، 27 ) .

لقد تقدس الموضع إذ قدم ابرام ذبيحة شكر لله الذى دخل به إلى أرض كنعان التى وعده أن تكون لنسله من بعده ، حيث يتمجد الله وتدفن الآلهة الغريبة يتحول الموضع إلى مكان كرازة ليشوع الحقيقى فيسمع الشعب صوت الكلمة الإلهية .  

هذه هى المرة الأولى التى نسمع فيها أن الرب ظهر لإنسان ( ع 7 ) ، مؤكدا وعده لأبرام : " لنسلك أعطى هذه الأرض " ( ع 7 ) ، ولم يكن أمام أبرام إلا أن يبنى مذبحا للرب يقدم عليه ذبيحة شكر لذاك الذى دعاه ورافقه الطريق وأكد رعايته له .

إنتقل أبرام نحو بيت إيل ... " فبنى هناك مذبحا للرب ودعا بأسم الرب " ( ع 8 ) . تم ارتحل إرتحالا متواليا نحو الجنوب .


 

 ( 4 ) أبرام فى مصر :

" وحدث جوع فى الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك ، لأن الجوع فى الأرض كان شديدا " ( ع 10 ) .

كانت المجاعات تتكرر فى أرض كنعان ، وكان العلاج هو النزول إلى مصر حيث نهر النيل

لم يكن بعد قد أقام أبرام الشيخ المسن فى أرض الموعد كثيرا حتى حدثت المجاعة ، ومع هذا لم يشعر أبرام أنه أخطأ التصرف بخروجه من أرضه وعشيرته وبيت أبيه ، ولا تذمر على الله ، ولا استهان بوعد الله له أنه يعطيه هذه الأرض لنسله بكونها أرضا تتعرض لمجاعات .

لقد تباركت مصر باستقبال أبرام أب الأباء لتعوله وقت المجاعة ، ولتستقبل حفيده يعقوب هو وعائلته لينطلق شعب إسرائيل من مصر ، وأما ما هو أعظم من الكل فقد لجأ إليها السيد المسيح نفسه فى طفولته يباركها ( مت 2 : 13 ) . لكن كثيرين يشعرون أن إبراهيم أخطأ بانحداره إلى مصر ، إذ جاء إليها دون رسالة صريحة من قبل الله كما حدث مع حفيده يعقوب .

وبقدر ما صور لنا الكتاب المقدس أبرام فى أروع صوره وهو خارج فى طاعة للدعوة الإلهية يتكىء على وعد الله بإيمان ، إذ به يكشف عن ضعفه فى صورة بشرية مؤلمة ، فقد إتكأ على أرض مصر وقد عرف ما اتسم به المصريون فى ذلك الحين من شهوات جسدية فخاف ، مطالبا زوجته أن تقول أنها أخته ... " ليكون لى خير بسببك وتحيا نفسى من أجلك ! " ( ع 13 ) .

( 5 ) ساراى وفرعون

أخطأ أبرام بنزوله إلى مصر دون الرجوع إلى الله أو إنتظار اعلاناته له ، وسحبه الخطأ إلى أخطاء متوالية ... وكانت الثمرة الطبيعية أنه حرم من زوجته إلى حين إذ سلبه فرعون إياها ، والعجيب أن ما كان أبرام عاجزا عن إعلانه بأن ساراى زوجته أعلنه الله لفرعون ليردها إليه دون أن يمسها بل ونال غنى وكرامة .

العجيب أن الله لا يحاسب الإنسان حسب ضعفاته ، فلو أن الله سمح لفرعون أن يمس إمرأة أبرام لبقى الأخير معذب الضمير كل أيام حياته ، مهما نال من بركات أو عطايا ، لقد كان أبرام أحد خائفى الرب ومحبيه ، لذا تمتع بالمراحم التى تعلو على الأرض .


 

تكوين – الأصحاح الثالث عشر

إعتزال ابرام لوطا

تدرب أبرام على الترك من أجل الرب والآن إذ عاد من مصر واغتنى جدا طلب من إبن أخيه لوط أن يعتزل مختارا النصيب الذى يحسن فى عينيه ، محتملا مفارقة لوط رفيق مسيرته الأيمانية لأجل السلام .

( 1 ) صعوده من مصر

" فصعد ابرام من مصر هو وإمرأته وكل ما كان له ولوط معه إلى الجنوب " ( ع 1 ) .

خرج ابرام من التجربة  التى كشفت عن ضعفه ببركات كثيرة فقد أدرك رعاية الله الفائقة له ، إذ لم يستطع فرعون أن يمس إمرأته ، بل وصار أبرام " غنيا جدا فى المواشى والفضة والذهب " ( ع 2 ) . ما هو سر الغنى ؟ إن كان عن ضعف سقط أبرام ، لكنه بقوة الروح لم يستسلم للسقوط ، فالنفس المؤمنة المملوءة رجاء تتحول حتى ضعفاتها إلى فرص لأقتناء غنى أعظم .

إن الشرور التى ارتكبناها لا تغيظ الله قدر عدم رغبتنا فى التغيير ، لأن من يخطىء يكون قد سقط فى ضعف بشرى ، وأما من يستمر فى الخطية فإنه يبطل إنسانيته ليصير شيطانا .

كان أبرام غنيا جدا ، ولكن هذا الغنى لم يعفه عن غنى النفس .

 

( 2 ) اعتزاله عن لوط

" لوط السائر مع أبرام كان له أيضا غنم وبقر وخيام ، ولم تحتملهما الأرض أن يسكنا معا ، إذ كانت أملاكهما كثيرة ... فخدثت مخاصمة بين رعاة مواشى أبرام ورعاة مواشى لوط .. فقال أبرام للوط : لا تكن مخاصمة بينى وبينك ، وبين رعاتى ورعاتك ، لأننا نحن أخوان . أليست كل الأرض أمامك ؟! اعتزل عنى ، إن ذهبت شمالا فأنا يمينا ، وإن يمينا فأنا شمالا " ( ع 5 – 9 ) .

كان أبرام يحمل قلبا بسيطا مكشوفا ، أما لوط فكان يسير مع الموكب الأيمانى بقلب مغلق ، يحمل فى أعماقه شيئا من حبه للذات وارتباط بالعالم أما فى الخارج فيبدو كرجل إيمان ورفيق لأعظم أب ، لهذا كان الزمن يفضح ضعفاته والتجارب تكشفه . وكان ينهار من يوم إلى يوم حتى فقد زوجته وممتلكاته وتدنس مع أبنتيه ، وإن كنا لا ننكر بعض الجوانب الطيبة فيه .

كان لوط له " غنم وبقر وخيام " ( ع 5 ) ولم يكن له " فضة وذهب "  كأبرام ( ع 2 ) ، فإن كانت الفضة تشير إلى كلمة الله والذهب يشير إلى الروح أو الحياة السماوية ، فإننا من هذا نفهم الفرق بين الشخصين !!

أبرام وهو الأكبر ترك للأصغر حق الأختيار بفرح ورضى ، الأمر الذىكشف قلبه المؤمن وفضح قلب لوط المادى .

 

( 3 ) إختيار لوط سدوم

" فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأردن أن جميعها سقى قبلما أخرب الرب سدوم وعمورة ، كجنة الرب كأرض مصر ، حينما تجىء إلى صوغر ، فاختار لوط لنفسه كل دائرة الأردن .. ونقل خيامه إلى سدوم ، وكان أهل سدوم أشرارا وخطاة لدى الرب جدا "

 ( ع 10 – 13 ) .

منظر واحد يسحب قلب أبرام إلى الحب الأخوى ، وقلب لوط إلى الأنانية ، الأول إشتهى الفردوس والآخر طلب الأرض السقى ...

لوط يمثل الأنسان المتدين ، صاحب المعرفة النظرية والممارسات الشكلية ، أما قلبه ففى محبة العالم غارقا ، وفى الأرض زاحفا .

أما الخطأ الثالث الذى أرتكبه لوط بجانب أنانيته وعدم تمييزه بين ما هو روحى وما هو زمنى فهو عدم مبالاته بسكان المنطقة إذ كانوا " أشرارا وخطاة لدى الرب جدا " الأمر الذى أفقده وعائلته الكثير ، روحيا وماديا .

 

( 4 ) الرب يبارك أبرام

تمتع أبرام بمواعيد الله الفائقة :

" أرفع عينيك وانظر من الموضع الذى أنت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ... قم أمش فى الأرض طولها وعرضها ، لأنى لك أعطيها " ( ع 17 ) .

لم يرد الله أن يحصر أبرام فى اتجاه واحد إنما طالبه بالتطلع نحو الأتجاهات الأربع ، لكى يرى محبة المسيح الفائقة فى طولها وعرضها وعمقها وارتفاها ، ولعله بالنظر إلى الأتجهات الأربع يكون قد رأى الصليب بالأيمان الذى يملك السيد المسيح الخارج من نسل أبرام على الشعوب والأمم التى صارت خلال العبادة الوثنية أرضا .

إذ نال أبرام وعدا بميراث الأرض لنسله الذى لا يعد .. مع أنه لم يكن بعد قد أنجب إبنا ، بإيمان قبل المواعيد دون نقاش بل نقل خيامه " وأتى وأقام عند بلوطات ممرا التى فى حبرون ، وبنى هناك مذبحا للرب " ( ع 18 ) .. هناك عند بلوطات ممرا يستضيف الله ، وملاكين ، وينال وعدا بميلاد إسحق ( تك 18 ) .

رحل لوط إلى سدوم وعمورة ليعيش فى الأرض الخصبة بين الأشرار ، فيفقد كل شىء ، ورحل أبرام إلى بلوطات ممرا التى فى حبرون ليستضيف الله وملاكيه وينعم بحياة شركة مع الله على مستوى أعمق ، حياتنا رحيل مستمر بلا توقف ، إما نحو سدوم حيث الهلاك أو نحو بلوطات ممرا حيث اللقاء مع واهب الحياة !

 

+  +  +

تكوين – الأصحاح الرابع عشر

موقعة كدر لعومر

نجح أبرام فى إظهار الطاعة لله بخروجه من أور الكلدانيين ومن حاران متجها نحو كنعان ، وإذ ضاقت الأرض برعاته ورعاة إبن أخيه ترك لإبن أخيه حق الخيار ، والآن إذ سقط إبن أخيه أسيرا انطلق أبرام برجاله يخلصه هو ومن معه من يد كدرلعومر ، رافضا كل مكافأة بشرية ، ليهبه الله ما هو أعظم .

( 1 ) سبى لوط وعائلته :

إختار لوط منطقة سدوم الخاضعة فى ذلك الحين لكدرلعومر ملك عيلام – تدفع له الجزية .

أما كدر لعومر ملكها فإسمه يعنى ( عبد لعومر ) أى عبد أحد آلهة عيلام ؛ عرف ببطشه وسطوته إذ اكتسح كل ممالك الجنوب ، وأخضع لسلطانه كل بلاد وادى الأردن . وبسط حمايته على الطريق الرئيسى بين دمشق ومصر . خضعت له البلاد وبعد أثنتى عشر سنة ، إذ شعرت بالمذلة قام خمسة ملوك بالثورة ضده حتى لا يدفعوا له جزية ، فاضطر كدرلعومر أن يقوم بحملة ثانية لتأديب هؤلاء الملوك المتمردين ، وقد تحالف معه ثلاثة ملوك آخرين ، وقد اكتسح هؤلاء الملوك الأربعة المنطقة . وإذ تركزت الحرب بجوار سدوم فبالرغم من مناعتها الطبيعية ومرارة نفوس سكانها انهزمت بسبب الفساد الذى حطمها ، وأضطر الملك إلى الهرب بينما سقط لوط وعائلته أسرى وصارت ممتلكاتهم غنيمة .

 

( 2 ) ابرام ينقذ لوطا :

 إذ نجا إنسان أخبر أبرام العبرانى بسبى إبن أخيه ، " فلما سمع أبرام أن أخاه ُسبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان ، وأنقسم عليهم ليلا هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى عن شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطا أخاه أيضا وأملاكه والنساء أيضا والشعب " ( ع 14 – 16 ) .

طلب لوط ما لنفسه فخسر كل شىء ، أما أبرام ذو القلب النارى فى محبته لم يطق أن يستريح بينما الغير متألما ، لذلك قام بسرعة ومعه 318 من غلمانه المتدربين على الحرب ليغلب ذاك الذى غلب خمسة ملوك .

[ رقم 318 يذكرنا بمجمع نيقية الذى حضره 318 أسقفا لدحض بدعة آريوس ] .

 

( 3 ) لقاء مع ملكى صادق :

سبق أن تعرفنا على شخصية ملكى صادق ، فى رسالة نشرت فى الجروب من مخطوطة بدير السريان العامر ، [ ولا مانع من إرسالها لمن يرد ] ....

 فى إيجاز نورد مقارنة بين السيد المسيح وملكى صادق :

أ – من جهة الأسم " ملكى صادق " يعنى ( ملك البر ) ( رو 3 : 24 ) .

ب – من جهة العمل " ملك ساليم " أى ( ملك السلام ) ( يو 16 : 33 ) .

جـ - كان ملكا وكاهنا فى نفس الوقت الأمر الذى لا يتحقق عند اليهود ، إذ كان الملوك من سبط يهوذا والكهنوت من سبط لاوى ، أما فى المسيح يسوع فتحقق العملان معا .

د – تقدمة ملكى صادق فريدة فى نوعها تشير إلى ذبيحة السيد المسيح .

هـ - لم نعرف شيئا عن أبيه وأمه ولا بداية ملكه أو نهاية ، إشارة إلى السيد المسيح الذى بلا أب جسدى وبلا أم من جهة اللاهوت ، بلا بداية أيام ، أبدى .

ز – جاء السيد المسيح كاهنا على رتبة ملكى صادق ، وكأن الكهنوت اللاوى قد إنتهى ليقوم كهنوت جديد .

ط – إبراهيم الذى فى صلبه لاوى الذى يجمع العشور ، يقدم بنفسه العشور لملكى صادق رمز السيد المسيح ، فماذا يكون هذا الرمز ؟ وكم يكون المرموز إليه نفسه ؟! .

 

( 4 ) أبرام يرفض المكافأة البشرية :

كان من حق أبرام أن ينال المكافأة عن تعبه ، فإنه إذ سمع ملك سدوم أن أبرام أنقذ شعبه من كدرلعومر خرج من مخبئه ليستقبله ( ع 17 ) ، وقال له : " أعطنى النفوس وأما الأملاك فخذها لنفسك ، فقال أبرام لملك سدوم : رفعت يدى إلى الرب الإله العلى مالك السماء والأرض ، لا آخذن لا خيطا ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك ، فلا تقول أنا أغنيت أبرام ، ليس لى غير الذى أكله الغلمان ، وأما نصيب الرجال الذين ذهبوا معى عانر وأشكول وممرا فهم يأخذون نصيبهم " ( ع 21 – 24 ) .

كان أبرام أمينا فى الحرب ، متضعا فى نصرته ، مفضلا ألا يغتنى بهبات الآخرين بل بهبات الله .

كان فى شهامته يرفض المكافأة البشرية لنفسه منتظرا المكافأة الإلهية ، لكنه وهو يفعل هذا لا يحرم غلمانه من التمتع بحقهم ( نوال الأكل من ملك سدوم ) ، ولا حرم شركاءه فى العمل من نوال نصيبهم . يرفض أن يأخذ لنفسه لكنه لا يلزم الغير أن يرفضوا المكافأة ... صورة حية للنضوج الروحى والفكرى ! . 

+  +  +


 

تكوين – الأصحاح الخامس عشر

الميثاق الإلهى

فى أمانة جاهد أبرام من أجل لوط ورفقائه ، وإذ غلب رفض المكافأة البشرية التى كانت حقا شرعيا له ، فكافأه الرب بما لا يستطيع البشر أن يقدموه ، وهو التمتع بالدخول فى عهد إلهى ، فيكون نسله كنجوم السماء ، ومن نسله يتبارك الأمم .

 

( 1 ) ظهور الرب له :

" بعد هذه الأمور صار كلام الرب إلى أبرام فى الرؤيا ، قائلا : لا تخف يا أبرام ، أنا ترس لك ، أجرك كثير جدا ، فقال أبرام : أيها السيد الرب ماذا تعطينى وأنا ماض عقيما ومالك بيتى هو أليعازر الدمشقى ؟! " ( ع 1 ، 2 ) .

لم نسمع عن أبرام أنه خائف بل خرج من المعركة غالبا ، فلماذا يؤكد له الرب : " لا تخف يا أبرام ، أنا ترس لك ؟ " .. بلا شك هذا التأكيد الإلهى إنما يمثل اقترابا إلهيا نحو أبرام . لقد اقترب أبرام إلى الله لا بالصلاة وتقديم الذبائح فحسب وإنما اقترب إليه بالعمل ، خلال الجهاد من أجل نفع الآخرين ، لذا يقترب إليه الرب حسب وعده : " اقتربوا إلى يقول رب الجنود فأقترب إليكم " ( زك 1 ) .

معاملات الله مع أبرام أعطت الأخير الدالة ليتحدث معه بصراحة بقلب مفتوح حتى دعى :

" خليل الله " . لم يطلب منه أبنا لينزع العار عنه ويتمتع بالميراث ، لكنه فى دالة يسأله معاتبا ما نفع العطايا الكثيرة لإنسان عقيم يرثه آخر ؟ ....

 

( 2 ) الوعد بالبركة :

كانت إجابة الرب له : " لا يرثك هذا ، بل الذى يخرج من أحشائك هو يرثك ثم أخرجه إلى خارج وقال له : أنظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها ، وقال له : هكذا يكون نسلك ، .... فآمن بالرب فحسب له برا " ( ع 4 ، 5 ، 6 ) .

هذه هى المرة الأولى التى فيها نسمع كلمة " آمن " .

يقول معلمنا بولس : " ولا بعدم إيمان ارتاب فى وعد الله بل تقوى بالأيمان معطيا مجدا لله " ( عب 4 : 20 ) .

وكأن أبرام أب الآباء قد فتح لنا نحن أولاده طريق البر خلال الأيمان ، إذ يقول الرسول :

" ولكن لم يكتب من أجله وحده أنه حسب له ، بل من أجلنا نحن أيضا الذين سيحسب لنا ، الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات " ( رو 4 : 23 ، 24 ) .

 

( 3 ) الحيوانات المشقوقة والطيور :

فى دالة الصداقة الفائقة القائمة بين الله وأبرام ، إذ نال الأخير وعدا آمن فحسب له برا ، لكنه طلب علامة ، قائلا : " أيها السيد الرب بماذا أعلم أنى أرثها ؟ " ( ع 8 ) .

فى اختصار طالبه الرب أن يشق عجلة سنها ثلاث سنوات وعنزة وكبشا فى ذات السن ، ويضع كل شق مقابل الآخر ، ويذبح يمامة وحمامة دون أن يشقهما ( راجع تك 15 : 8 ) .

ماذا يعنى هذا كله ؟ إن هذه الرؤيا تخص الكنيسة الجامعة وقد ضمت أعضاء من كل الأمم .. صاروا أولادا لأبراهيم لا حسب الجسد وإنما بالأيمان .

لا تضم الكنيسة الجامعة أعضاء روحيين فقط بل وجسديين أيضا ..

الحيوانات المشقوقة تمثل الجسديون أما اليمامة والحمامة فتمثل الروحيون .. ، الجسديون منقسمون أما الروحيون فلن ينقسموا .

بقى اليوم كله فى طاعة لله يزجر الجوارح دون أن يرى شيئا أو يسمع صوتا ، وقبيل مغيب الشمس صار فى سبات ووقعت عليه رعبة مظلمة وعظيمة .. لماذا ؟ لقد رأى ثمر الخطية فى حياة الأنسان ، كيف تفسده وتستعبده ؟ فقد سمع أن نسله يكون مستعبدا لأمة غريبة فى مذلة أربعمائة عام ... إنها صورة مؤلمة للنفس التى تسقط تحت الخطية فتصير فى عبودية فرعون الطاغى ومذلته . لكن الله عند غروب الشمس ، أى فى ملء الزمان ، يطلق البشرية بالصليب من هذه العبودية واهبا إياهم غنائم روحية كثيرة ، إذ يقول : " بعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة " ( ع 14 ) ... " ثم غابت الشمس فصارت عتمة ، وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع " ( ع 17 ) ، إشارة إلى خلاص الناس فى الرب واستنارتهم بالروح القدس النارى .

الرب الراقد على الصليب إذ ينزل إلى الجحيم يحملنا على كتفيه ويخرج بنا كما بأملاك جزيلة ، حاملا غناه ، وواهبا إيانا غنى الروح ، حتى متى جاء غروب العالم وإنقضاء الدهر يعلن خلاص أجسادنا ، ويعلن يومه العظيم كما بنار .

 

( 4 ) الرب يقطع معه عهدا :

 " فى ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا ، قائلا : لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات " ( ع 18 ) .

هذا الميثاق يحمل جانبين متكاملين : تمتع أولاد إبراهيم بالأرض وطرد الأمم الوثنية منها ، وقد حددهم بعشر أمم ( ع 19 ) ... هذه الأمم قد تشير إلى خطايا : النهم ، والزنى ، ومحبة المال ، والغضب ، والغم ، والفتور الروحى ، وحب الظهور ، والكبرياء ، وعبادة الأوثان والتجديف .

+  +  +

تكوين – الأصحاح السادس عشر

إبرام وهاجر

دخل أبرام فى صداقة مع الله نفسه الذى أكد له الوعد بأن نسله الخارج من صلبه يكون وارثا للأرض التى أخرجه إليها ، وإذ مرت سنوات دون حدوث تغير ظنت ساراى أنها تتمتع ببنين لها خلال هاجر جاريتها ، فقدمتها لرجلها ، وقبل أبرام الأمر حاسبا أن الله يحقق وعوده خلال نسله من هاجر ... لكنه إذ سلكت ساراى بتفكير بشرى بحت خارج دائرة الإيمان نالت مرارة وخسارة .

 

( 1 ) ساراى تسلم هاجر لرجلها

إذ بقيت ساراى عشر سنين مع أبرام فى أرض كنعان ولم تنجب بل كانت عاقرا ، استخدمت التفكير البشرى المحض لتحقيق وعود الله ، إذ طلبت من رجلها أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر ، وإذ حبلت الجارية صغرت مولاتها فى عينيها عينيها ، فألقت ساراى باللوم على أبرام الذى أسلم هاجر بين يديها فأذلتها حتى هربت ، هذا العمل يمثل إتكال الإنسان على ذاته يخطط لنفسه دون الرجوع إلى الله وطلب مشورته .

إن كان أبرام وساراى يسلكان بالأيمان فإنه حتى ضعفهما يستخدمه الله لمجد إسمه ، إذ صارت ساراى تمثل كنيسة الأمم ( العهد الجديد ) التى كانت قبلا عاقرا لا تنجب أولادا لله وهاجر تشير إلى اليهود الذين انجبوا عبيدا برفضهم البنوة لله فى المسيح يسوع له المجد

 

++ ساراى أنجبت إبنها حسب وعد الله فجاء مباركا ، أما هاجر فأنجبته حسب الطبيعة فجاء عبدا . هذا الفكر أعلنه الرسول بولس بوضوح ، إذ قال للمسيحيين الذين يريدون العودة إلى الفكر اليهودى : " قولوا لى أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الناموس ألستم تسمعون الناموس ؟! فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم إبنان واحد من الجارية والآخر من الحرة ، لكن الذى من الجارية ولد حسب الجسد ، وأما الذى من الحرة فبالموعد ، ...... " غلا 4 : 21 – 31

إبراهيم لم يطلب الألتصاق بهاجر لشهوة جسدية وإنما لطلب الذرية وكطلب زوجته ، وقد أظهر تمام حبه لساراى بترك الجارية بين يديها تفعل بها ما تشاء عندما أساءت التعامل مع مولاتها ساراى .. لذا قال لها : " هوذا جاريتك فى يديك ، أفعلى بها ما يحسن فى عينيك " (ع 6 ) .

 

( 2 ) هروب هاجر من وجه ساراى

يرى القديس أغسطينوس أن " هاجر " أو ( غريب ) تشير إلى النفس الغريبة غير المواطنة بين شعب الله ، وتمثل كل فكر غريب عن الإيمان . لقد حبلت هاجر واحتقرت مولاتها ، لذا استحقت الطرد للتأديب ، حتى متى خضعت لها قلبيا ترجع إليها .

ما أكثر هاجر فى حياتنا الداخلية ، أى ما أكثر الأفكار الغريبة عن الأيمان التى تحتقر مولاتها ( الفكر الإيمانى ) أو ( معرفة الله ) .. لنطرد عنا هاجر ...

هربت هاجر ، " فوجدها ملاك الرب على عين الماء فى البرية ، على العين التى فى طريق شور " ( ع 7 ) ، لعلها كانت متجهة إلى مصر موطنها الأصلى ، فنزلت إلى برية فاران حيث لاقها ملاك الرب عند عين ماء ، ربما " عيون موسى " القريبة من السويس ، فى طريق شور أى سور ، وهو طريق قوافل فى البرية ..

لم يكن ممكنا لهاجر أن ترجع إلى ساراى وأبرام وتنجب إبنا ما لم تلتق بملاك الرب عند عين ماء فى طريق شور ، فإن كان ملاك الرب يشير إلى السيد المسيح فقد نزل إلينا فى بريتنا القاحلة لكى يلتقى بنا عند مياة المعمودية ويكون لنا سورا " شور " ، فيردنا من الأتجاه نحو مصر أى محبة العالم إلى كنعان السماوية ، لقد طردنا من كنعان أى الفردوس بسببخطايانا ، وصرنا فى مرارة وعزلة ، فى برية هذا العالم ، لكن الرب لا يتركنا بل يردنا إليه بتجديدنا فى المعمودية .

 

( 3 ) عودة هاجر إلى ساراى :

طلب ملاك الرب من هاجر أن ترجع إلى مولاتها ساراى ، وكأنها تشير إلى الحكمة الزمنية التى إن تقدست تخدم الأيمان بخضوعها له ، إنها تمثل الفلسفات الزمنية إن قبلها المؤمن بروح تقوى وبفكر إيمانى ، فإنها تصير خادمة له فى الرب وليست محطمة لإيمانه بروح الكبرياء والعجرفة ..

لعل هاجر أيضا تشير إلى الأنسان الجسدانى ، إن احتقر الروح ( ساراى ) كان محطما لنفسه ، لكنه إن تقدس فى مياة المعمودية ، وقبل عمل الروح القدس فيه ، وعاد إلى ساراى خاضعا للروح ، يكون خادما للرب .

طالبها ملاك الرب بالخضوع والطاعة لسيدتها ( ع 9 ) التى يبدو أنها لم تظلمها فى طردها بل هاجر كانت عنيفة فى ازدرائها بسيدتها ، مقابل هذا الخضوع وعدها بكثرة النسل ؛ لكنه يكون إبنها وحشيا لا يتوقف عن مقاومة إخوته ، وهم أيضا يقاومونه .

 

( 4 ) ميلاد اسمعيل :

ولدت هاجر إبنها ودعته " اسمعيل " كقول ملاك الرب ، ويعنى ( الله سمع ) ، ودعاه أبرام بذات الأسم إذ حسب أن الله سمع له وأعطاه إبنا يرثه ( 17 : 18 ) ... إذ لم يكن يظن أن سارة تلد له إبنا .

كان أبرام إبن 86 سنة حين ولدت هاجر اسمعيل ، وكان إبن مئة سنة حين ولد إسحق ، وكأن اسمعيل يكبر أسحق بحوالى 14 عاما .

+  +  +

تكوين – الأصحاح السابع عشر

عهد الختان

كانت سارة تتعجل الأمور بطريقة بشرية إذ ترى الغنى الذى يفيض عليهما وقد شاخت هى ورجلها وليس لهما من يرثهما إلا ألعازر الدمشقى فألزمت رجلها أن يدخل على جاريتها ، الأمر الذى صار لها مرارة نفس هى ونسلها من بعدها ، أما الله فكان يتطلع إلى إيمان أبرام ليدخل معه فى عهد جديد أبدى بعلامة تقام فى جسد كل ذكر ( الختان ) ، كطريق للتمتع بالعهد الجديد الذى يقيمه ربنا يسوع المسيح بجسده على الصليب مصالحا إيانا مع أبيه السماوى .

 

( 1 ) وعد الله لأبرام

" ولما كان أبرام إبن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له : أنا الله القدير ، سر أمامى وكن كاملا ، فأجعل عهدى بينى وبينك وأكثرك كثيرا جدا " ( ع 1 ، 2 ) .

فى بدء خلق الإنسان – قبل السقوط – كان العهد مقاما على أساس الحب دون أية علامة ظاهرة ، أما بعد السقوط إذ ارتبك الأنسان داخليا وحلت اللعنة بالأرض لتخرج شوكا وحسكا صارت الحاجة ملحة لأقامة ميثاق بين الله والأنسان يتجدد بين الحين والآخر . فعند تجديد العالم بمياة الطوفان أعطى الله علامة الميثاق فى " قوس قزح " – الآن إذ يدخل الرب مع أبرام فى ميثاق يجعل العلامة ثابتة فى جسم كل ذكر " الختان " ... وبقى الأنسان عبر الأجيال يرى خلال هذه العلامة ظلا لميثاق أعظم يقدمه ربنا يسوع المسيح فى جسده للمصالحة على مستوى أبدى . فيقول النبى : " اميلوا آذانكم وهلموا إلى ، إسمعوا فتحيا أنفسكم واقطع لكم عهدا أبديا مراحم داود الصادقة ، هوذا قد جعلته شارعا للشعوب وموصيا للشعوب ، ها أمة لا تعرفها تدعوها وأمة لم تعرفك تركض إليك من أجل الرب إلهك وقدوس إسرائيل لأنه قد مجدك " ( إش 55 : 3 – 5 ) ؛ وقد تحققت هذه الدعوة لدخول الأمم إلى العهد الإلهى حينما قدم السيد المسيح دمه عهدا جديدا لغفران الخطايا [ مت 26 : 28 ، لو 22 : 20 ، 1 كو 11 : 25 ] .

 

( 2 ) علامة الختان

 " هذا هو عهدى الذى تحفظونه بينى وبينكم وبين نسلك من بعدك ، يختن منكم كل ذكر ، فتختنون فى لحم غرلتكم ، فيكون علامة عهد بينى وبينكم ، إبن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر فى أجيالكم ... فيكون عهدى فى لحمكم عهدا أبديا ، وأما الذكر الأغلف الذى لا يختن فى لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها ، أنه قد نكث عهدى " ( ع 9 – 14 ) .

كان للختان أهمية كبرى فهو الذى يميز أولاد إبراهيم أصحاب العهد من الأمم ، وتبدو أهميته فى كلمات الرب عن الأغلف الذى لا يختتن ، وكان الختان قاصر على الذكور ، لأن المرأة مقدسة فى الرجل إن كان تقدس للرب . فعدم ختان المرأة لا يعنى استخفاف الله بها أو عدم اهتمامه بقطع العهد معها ، إنما أراد تأكيد وحدة الأسرة البشرية ، والدليل على ذلك أن الله أمر بختان العبيد " وليد البيت والمبتاع بفضة " ( ع 13 ) ، ولا يمكن أن يكون العبيد أفضل من الزوجات سادتهن ، إنما يريد قطع العهد مع الجميع : أغنياء وفقراء ... خلال ختان كل ذكر . ومن الجانب الطبى فإن ختان الرجل صحى وختان الفتيات ضار .

وتظهر أهمية الختان أيضا فى العهد القديم أنه فى كل مرة يقدم الشعب توبة يعلن هذا الرجوع إلى الله خلال ثلاثة أمور : ختان كل ذكر لم يسبق ختانه ، قراءة الشريعة ، حفظ السبت .

يتم الختان فى اليوم الثامن من ميلاد الطفل ، لأن رقم 8 يشير إلى " الحياة الأبدية " أو إلى " الحياة الأخرى " بكون رقم رقم 7 يشير إلى حياتنا الزمنية ( سبعة أيام الأسبوع ) ، فالثامن يعنى الدخول إلى ما وراء حياتنا الزمنية ، فالختان هو عبور إلى الحياة الأبدية بخلع محبة الزمنيات وقبول عمل المسيح الأبدى وملكوته السماوى .

إن كان الشعب قد أهتم بختان الجسد ، لكن الرب كان يحثهم على ختان القلب الروحى وختان الأذن .. [ تث 30 : 6 ؛ 10 : 16 ؛ أر 4 : 4 ] .

 

 

( 3 ) تمتع سارة بالبركة :

إن كان أبرام قد غير الله إسمه إلى ابراهيم ، فإن ساراى أيضا تمتعت بتغيير إسمها إلى سارة . كلمة " ابرام " معناها ( أب مكرم ) ، أما كلمة " ابراهيم " فمعناها ( أب لجمهور ) ( ع 4 ) . وساراى أيضا كان اسمها يعنى ( أميرتى ) أما سارة فتعنى ( اميرة ) ، فلم تعد خاصة بإبراهيم ( أميرتى ) إنما يعتز بها جميع المؤمنين كأم لهم وكأميرة للكل .

ولأول مرة يعلن الله صراحة أن الوارث لإبراهيم يكون من سارة زوجته : " وأباركها وأعطيك أيضا منها إبن ، أباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها يكونون " ( ع 16 ) .

لم يحتمل إبراهيم هذا الوعد : " فسقط إبراهيم على وجهه وضحك ، وقال فى قلبه : هل يولد لأبن مئة سنة وهل تلد سارة وهى بنت تسعين سنة ؟! " ( ع 17 ) .

إن ضحكه لا يعنى عدم إيمانه ، وإنما يعلن شدة دهشته لعمل الله معه ، الذى يقيم نسلا لشيخ بلغ المئة من عمره وزوجته العاقر إبنة تسعين سنة ... أما علامة إيمانه فهو سقوطه على وجهه يقدم الشكر . لم يشك إبراهيم فى وعد الله ، بل كما قال الرسول : " ........ وإذ لم يكن ضعيفا فى الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتا إذ كان إبن مئة سنة ولا مماتية مستودع سارة ، ولا بعدم إيمان إرتاب فى وعد الله بل تقوى بالإيمان معطيا مجدا لله " ( رو 4 : 18 – 20 ) ، كانت أحشاء سارة أشبه بالحجارة التى بلا حياة ، لعله لهذا السبب قال القديس يوحنا المعمدان : " لا تفتكروا أن تقولوا فى أنفسكم لنا إبراهيم أبا ، لأنى أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم " ( مت 3 : 9 ) .

 

( 4 ) بين إسحق واسمعيل :

" وقال إبراهيم لله : ليت إسمعيل يعيش أمامك " ( ع 18 ) .

لم يتذمر إبراهيم على الله ، وعندما ولدت هاجر إسماعيل حسبه إبنها الوارث له .. والآن يصلى لله معلنا اقتناعه بما وهبه خلال الجارية كوارث له .. أما الله الذى راعى ظروف إبراهيم بكونه أول من نال وعدا كهذا أن ينجب فى هذا السن وإمرأته مسنة وعاقر ، عاد ليؤكد له : " بل سارة تلد لك إبنا وتدعو إسمه إسحق وأقيم عهدا أبديا لنسله من بعده " ( ع 19 ) .

( 5 ) تحقيق الختان :

دخل إبراهيم فى العهد مع الله واختتن هو واسمعيل وكل ذكر فى بيته ... وكان الختان ختما للعهد . 

+  +  +    

تكوين – الأصحاح الثامن عشر

الوليمة الفريدة

إذ دخل إبراهيم فى عهد مع الله إنما دخل إلى صداقة أعمق يعتز الله بها فيدعوه خليله ، ففى حديثه مع إسرائيل يقول : " وأما أنت يا إسرائيل عبدى يا يعقوب الذى اخترته نسل إبراهيم خليلى " ( إش 41 : 8 ) ، اللقب الذى استخدمه يهوشافاط فى حديثه مع الله حينما سأله العون لشعبه ( 2 أى 20 : 7 ) ، أعلنه يعقوب الرسول بقوله عن إبراهيم :

" دعى خليل الله " ( يع 2 : 23 ) .

هذه الصداقة الفريدة تظهر فى مواقف كثيرة تكشف عن حب الله ومعاملاته مع أولاده ، الآن يظهر الله بملاكيه لإبراهيم ليستضيفهم عند الظهيرة فى بلوطات ممرا ، فيعده الله بإسحق ، ويدخل معه فى حوار مفتوح من جهة سدوم وعمورة .

 

( 1 ) عند بلوطات ممرا :

" وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس فى باب الخيمة وقت حر الظهيرة ، فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه ، فلما نظر ركض لأستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض " ( ع 1 ، 2 )

جاء هذا اللقاء التاريخى يمثل لقاء روحيا حقيقيا تتمتع به كل نفس تتمثل بأب الآباء إبراهيم ، تدخل مع الله فى صداقة حب صادقة ، وتجلس عند باب خيمتها عند بلوطات ممرا ، لتستقبل فى داخلها رب السماء وملائكته ، فتكون هيكلا لله تعلن ملكوت السموات فى داخلها .

يرى بعض مفسرى اليهود أن هذا اللقاء تم بعد الختان بثلاثة أيام ، وأن الرب جاء ليشفى إبراهيم من جرحه ؛ إن صح هذا القول فإن الختان وهو يرمز للمعمودية التى نتممها باسم الثالوث القدوس إنما هو طريق دخولنا إلى الصداقة الإلهية ، خلالها يشتهى الله أن نستقبله فى خيمتنا التى تتقدس بروحه القدوس فيجد فينا وليمته المبهجة ، ويسمع صوتنا : " ليأت حبيبى إلى جنته ويأكل ثمره النفيس " ( نش 4 : 16 ) .

 

إضافة الغرباء :

استضافة إبراهيم للرب وملاكيه جذبت أنظار رجال الله القديسين ، فقال الرسول بولس :

" أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون " ( عب 13 : 2 ) . وتحدث الآباء بفيض عن عمل : " إضافة الغرباء " كطريق حتى لأستضافة الرب فى خليقته ، يقول القديس أمبروسيوس :

[ ربما يكون السيد المسيح قادما فى شخص الغريب ، إذ هو يأتى فى شخص الفقير كقوله : " كنت مسجونا فزرتمونى ، كنت عريانا فكسوتمونى " ]( مت 25 : 36 ) .

 

( 2 ) إبراهيم السخى :

كشف هذا اللقاء عن طبيعة إبراهيم السخية فى العطاء ، فكان يقدم قلبه قبل طعامه ، ويستضيف الآخرين فى داخله قبل أن يفتح لهم خيمته ، ظهر ذلك بوضوح إذ " ركض لأستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض " ( ع 2 ) ، أى جرى إليهم وهو شيخ وسجد للتحية ، إذ كان ينتظر من يستضيفه ، فى اتساع قلب قال : " يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة فى عينيك فلا تتجاوز عبدك ، ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة ، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون ، لأنكم قد مررتم على عبدكم ، فقالوا : هكذا تفعل كما تكلمت " ( ع 3 – 5 ) .

لقد ظنهم إبراهيم أناسا مسافرين ، فسألهم أن يقيلوا غسل أقدامهم وأن يسندوا قلبهم بكثرة خبز بعد أن يستريحوا تحت ظل الشجرة ثم يرحلون ، هكذا يتحدث فى حب وشوق للعطاء بروح اتضاع ، فيطلب أن يغسل أقدامهم وحسب أن ما يقدمه لهم إنما هو كسرة خبز علامة محبة بسيطة لا ترفض .


 

( 3 ) اعداد الوليمة :

" فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال : اسرعى بثلاث كيلات دقيقا سميذا ، اعجنى واصنعى خبز ملة ، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا وجيدا وأعطاه للغلام فاسرع لعمله " ( ع 6 ، 7 ) .

يلاحظ فى هذه الوليمة :

-         أن ابراهيم وهو شيخ قد ركض ، هكذا كان يسرع فى عمل الخير بفرح ، واشرك زوجته وغلمانه فى العمل ، الكل يتسم لا بعمل الخير فقط وإنما بالسرعة فيه .

-         سأل ابراهيم زوجته سارة أن تعجن ثلاث كيلات من الدقيق السميذ أى الدقيق الفاخر ، فلا يقدم إبراهيم لضيوفه من الخبز القديم وإنما يود دائما أن يهب أفخر ما لديه ، أما الثلاث كيلات فربما تشير إلى " الإيمان والرجاء والمحبة " ، هذه الأمور الثلاثة التى تعجنها الكنيسة لتقدم للرب فى حياة أولادها خبزا فاخرا يسر الله به . هذه هى تقدمة الكنيسة المستمرة ، خاصة وان هذه الأمور إنما تعجن بمياة الروح القدس .

-         " الخبز الملة " هو خبز يصنع على حجارة محماة ويعتبر من الخبز النفيس ( 1 مل 19 : 6 ) .

-         إذ وضع إبراهيم الطعام أمامهم " كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة " ( ع 8 ) ، كان يقف بنفسه لخدمة الغرباء ، أى حب مثل هذا ؟!

لنقف مع ابراهيم تحت شجرة الصليب نخدم الآخرين فى اتضاع وبفرح ، فإننا نخدم الرب نفسه فيهم ! .

 

( 4 ) تمتع سارة بالثمرة :

بالحب قدم إبراهيم وسارة أفضل ما لديمها للرب ، وبالحب تنازل الرب ليقبل من الإنسان العطية التى فى حقيقتها هى من عنده ، وكما قال سليمان الحكيم أن ما يقدمه هو مما لله . وإذ لا قبل الرب أن يكون مدينا رد الحب بالحب ، إذ سأل عن سارة ، فقيل له : " ها هى فى الخيمة " ( ع 9 ) ، " فقال إنى أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة إبن " ( ع 10 ) – لقد استضافا الرب ، وها هو الرب يهب لهذين الشيخين المتقدمين فى الأيام ( ع 11 ) إبنا ، وكأنه يقيم من الموت حياة ، ومن الحجارة أولادا لإبراهيم ... وهبهما :

" إسحق " الذى يعنى ( ضحكا ) . حقا إنه ضحك ، إذ يقال عن سارة وهى عاقر ومسنة أنها أم ، وأما ما هو أعظم فإنه خلال إسحق يأتى المسيا المخلص حاملا الجسد كإبن له وهو ربه ، فتتبارك به كل الأمم ! إنه عمل إلهى فائق ، وسر لا يمكن إدراكه ! هذا هو الثمر الذى تمتع به إبراهيم أب الآباء وسارة خلال إيمانهما العامل بالمحبة .

لقد سأل الرجال : " أين سارة إمرأتك ؟ فقال : ها هى فى الخيمة " ( ع 9 ) – كان إبراهيم يمثل النفس المنطلقة فى حرية الروح القدس خارج الخيمة أى فوق كل ضغوط الجسد ، أما سارة فتشير إلى الجسد الذى يلزم أن يكون خلف النفس وليس أمامها ، فيخضع الجسد لمطالب النفس فى الرب ..

كان ابراهيم وسارة شيخان أى مملوءان حكمة ، ومتقدمان فى الأيام إذ لم يضيعا يوما واحدا من حياتهما بلا عمل وبلا ثمر روحى ، أيامهما نهار بلا ليل كلها نور ، سجلت لحسابهما بلا فقدان ، لذلك قيل " متقدمين فى الأيام " .

سمعت سارة بالوعد :

" فضحكت سارة فى باطنها ، قائلة : أبعد فنائى يكون لى تنعم وسيدى قد شاخ ؟! فقال الرب : لماذا ضحكت سارة قائلة أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت ، هل يستحيل على الرب شىء ؟! فى الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة إبن . فانكرت سارة قائلة : لم أضحك ، لأنها خافت . فقال لها : بل ضحكت " ( ع 12 – 15 ) .

يرى القديس أكليمندس الأسكندرى أن سارة ضحكت ليس لعدم تصديقها للوعد ، وإنما خجلت من الموقف ، كيف تكون بعد أما لإبن ، ويرى القديس أغسطينوس أنها ضحكت من الفرح لكنها لم تكن مملوءة إيمانا .

 

( 5 ) حوار مع الله :

تحدث الله مع ابراهيم كصديق ، إذ يقول : " هل أخفى عن إبراهيم ما أنا فاعله ، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض .... ؟! ( ع 17 ، 18 ) .

يتحدث الله مع ابراهيم فى صراحة وانفتاح قلب ، حتى يتعلم أولاده حياة الشركة مع الله وانفتاح قلبهم له .

أعلن الرب آثام سدوم وعمورة لإبراهيم ، قائلا : " إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدا ، أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتى إلى ، وإلا فأعلم " ( ع 20 ، 21 ) .

يظهر بشاعة ما بلغه الإنسان فى شره ، إذ صارت الخطايا تصرخ لتطلب القصاص من فاعليها ، أو أن الأرض – الخليقة الجامدة – لم تعد تحتمل هذا الفساد فصارت تئن إلى الله ليقتص من الإنسان ، ذلك كما فعل دم هابيل الصارخ إلى الله بسبب قسوة قايين ( تك 4 : 10 ) ، وكصوت أجرة الحاصدين المنجوسة حين تصرخ من ظلم أصحاب الحقول ( يع 5 : 4 ) .

بعد هذا الحديث انصرف الملاكان إلى سدوم وعمورة وبقى إبراهيم أمام الرب ... وفى دالة الحب : " تقدم إبراهيم وقال : أفتهلك البار مع الأثيم ؟! عسى أن يكون خمسون بارا فى المدينة ... " ( ع 23 ، 24 ) .

لم يتحدث ابراهيم مع الله بشأن أبنهما المنتظر ( اسحق ) ! لكن كل مشاعر ابراهيم قد أمُتصت فى هؤلاء الذين يتعرضون للهلاك ، فيقف شفيعا فيهم ! إنها صورة حية للحب الناضج الذى فيه ينشغل الإنسان بخلاص إخوته ، ويطلب عنهم أكثر مما لنفسه ! حتى وإن كان هذا الغير شريرا ومستحقا الموت .

إن كان الله قد فتح باب الحوار مع خليله إبراهيم ، فإن ابراهيم بدوره التزم بروح الأتضاع فى حديثه مع الرب ، وأغلق باب الحديث أمامه فى أمر حرق سدوم قال :

" أنا تراب ورماد " ( ع 27 ) ، عظيم هو هذا الأتضاع الذى يتسم به القديسون العظماء ! .

+  +  +


 

تكوين - الأصحاح التاسع عشر

حرق سدوم

تمتع إبراهيم باستضافة الله مع ملاكين ، أما لوط فاستضاف الملاكين وحدهما اللذين أنقذاه من الدمار الذى حل بسدوم ، وإن كان قد فقد إمرأته كما ارتكب معه إبنتيه خطأ .

( 1 ) استضافة الملاكين :

" فجاء الملاكان إلى سدوم مساء ، وكان لوط جالسا فى باب سدوم ، فلما رآهما لوط قام لأستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض ، وقال : يا سيدى ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما ، ثم تبكران وتذهبان فى طريقكما . فقالا لا بل فى الساحة نبيت ، فألح عليهما جدا ، فمالا إليه ودخلا بيته ، فصنع لهما ضيافة وخبز فطيرا فأكلا " ( ع 1 – 3 ) .

لا يستطيع أحد أن يتجاهل ما اتسم به لوط من حياة إيمانية وفضائل ، وإن كان قد تصاغر جدا أمام رجل الإيمان إبراهيم .. فإن كان لوط يمثل عهد الناموس فإن إبراهيم يمثل عهد النعمة .

شتان ما بين إبراهيم ولوط ، الأول إذ طلب من الرب وملاكيه أن يستضيفهم ، قالوا فى الحال:" هكذا نفعل كما تكلمت " ( 18 : 5 ) ، أما الثانى فقد ألح على الملاكين جدا وإذ كانا يريدان أن يبيتا فى الساحة أى الميدان العام كغريبين ليس لهما من يستضيفهما قبلا أن يميلا إليه ويدخلا بيته ( ع 3 ) .

انتهى لقاء إبراهيم بنواله البركة مع سارة إذ وعدهما الرب بإبن لهما ، أما اللقاء مع لوط فانتهى بالكاد بخلاص لوط وابنتيه دون زوجته ، الأول نال وعدا أن يتمتع نسله بأرض الموعد ، أما الثانى فخرج من المدينة فارغ اليدين ، لا يعرف له مأوى !

فى لقاء إبراهيم مع الله والملاكين تشفع من أجل الآخرين ( سدوم وعمورة ) ، أما لوط فكان يتوسل لأجل نفسه وبنتيه لعله يسمح لهما الملاكان بالسكنى فى مدينة صوغر .

( 2 ) هياج الشعب على الملاكين

إذ استضاف لوط الرجلين ( الملاكين ) أحاط رجال المدينة من أحداث وشيوخ بالبيت يطلبونهما ليعرفونهما ، أى يصنعوا معهما قباحة وشرا .. صورة تكشف عن مدى ما وصل إليه الشعب كله من نجاسة مع جسارة مرة ، حتى صارت هذه الخطية تنسب إليهم إذ تدعى بالسدومية ، نسبة إلى سدوم مدينتهم .

حاول لوط أن يحمى ضيفيه فطلب أن يخرج لهم بنتيه يفعلون بهما ما يشاءون ، ربما لأجل تخجيلهم ، وإذ أصر الكل على اخراج الرجلين ، مد الرجلان أيديهما وأدخلا لوطا إليهما إلى البيت وأغلقا الباب ، وضربا الرجال الواقفين بالعمى فلم يستطيعوا أن يجدوا الباب .

إن كان لوط قد اتسم بحب الضيافة ، وفى نضوج أصر ألا يسلم الرجلين للشر ، لكنه يلام على عرضه أن يسلم بنتيه فدية للضيفين ... على أى الأحوال تطلع الله إلى قلب لوط محب الغرباء ، فلم يترك لوطا يحفظ الغريبان إنما قام الغريبان بحفظه وأهل بيته من الأشرار . 

 

( 3 ) إنقاذ لوط وعائلته

أعلن الملاكان خطة الله الخلاصية وطلبا من لوط أن يخرج ومعه زوجته وبنتاه وأصهاره ، لكنه كان " كمازح فى أعين أصهاره " ( ع 14 ) . كان يمكن لأصهاره أن يخلصوا حتى فى اللحظات الأخيرة لكنه فى كل جيل يرى الأشرار فى إنذارات الله هزلا ومزاحا ، يستخفون بها . أخيرا إذ طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطا قائلين : " قم خذ إمرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بأثم المدينة " . كانت دعوة الملاكين له فى الفجر : " قم " . وكأنها دعوة السماء لنا أن نقوم مع السيد المسيح القائم من الأموات فى فجر الأحد . تقوم نفوسنا ومعها أجسادنا ( إمرأته ) وأيضا تقوم طاقاتنا ومواهبنا ( إبنتاه ) بتقديسها فى الرب . 

لقد طلب الملاكان من لوط أن يهرب إلى الجبل ، لكنه لم يكن قادرا على الأنطلاق إلى الجبل فسأل أن يهرب إلى مدينة صغيرة قريبة منه دعيت صوغر ، لأنها كانت أصغر مدن الدائرة ، وقد كان إسمها قبلا " بالع " ، يغلب أنها على الشاطىء الشرقى لبحيرة لوط . لقد قبل الله طلبه ولم يلزمه بالذهاب إلى الجبل بل إلى مدينة صوغر ، لكن لوطا فقد فى هذا الكثير ! الله يريدنا أن نهرب إلى الجبل المقدس ، لنُرفع بروحه القدوس إلى القمم العالية ، ونحن فى ضعفنا نكتفى بصوغر !!

ما هو هذا الجبل المقدس الذى نهرب إليه لحياتنا ؟

إنه الكتاب المقدس ، فيه نجد حصنا منيعا ضد هجمات العدو الشرير إبليس ..

 

( 4 ) هلاك سدوم وعمورة :

" وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر ، فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء " ( ع 23 ، 24 ) .

العجيب أن الله لم يمطر على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عنده إلا بعد دخول لوط إلى صوغر ... إذ كان حريصا كل الحرص على لوط كإنسان بار .

يظهر هنا سر التثليت بالقول : " أمطر الرب ..... من عند الرب " ، كأن الإبن الكلمة أمطر من عند الآب .

 

( 5 ) هلاك إمرأة لوط :

" ونظرت إمرأته من ورائه فصارت عمود ملح " ( ع 26 ) .

قال السيد المسيح لتلاميذه : " اذكروا إمرأة لوط " ( لو 17 : 32 ) .

فيما يلى بعض تعليقات للآباء عن إمرأة لوط :

+ إذ نظرت إلى الوراء صارت نصبا تذكاريا للنفس غير المؤمنة .

+ فقدت إمرأة لوط طبيعتها ذاتها لأنها تطلعت إلى الوراء ، تطلعت إلى ما هو دنس ولو بعينين نقيتين .

+ خلصت إمرأة لوط من سدوم لكنها تطلعت فى الطريق إلى الوراء ، فى الموضع الذى تطلعت فيه هناك بقيت .

 

( 6 ) تطلع إبراهيم إلى سدوم وعمورة :

" وبكر إبراهيم فى الغد إلى المكان الذى وقف فيه أمام الرب ، وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون ، وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطا من وسط الإنقلاب " ( ع 27 – 29 ) .

النفس الكبيرة فى عينى الرب تظلل على النفوس الصغيرة بالحب ، والصلاة وتنهدات القلب الخفية ، وتكون سر بركة لها .

تشفع إبراهيم عن سدوم وعمورة ؛ عن كل ساكنيها ، .. كان الأمر قد شغل باله طوال الليل فبكر صباحا لينظر نحو سدوم وعمورة ، لم ينطق إبراهيم بكلمة بخصوص لوط وعائلته لكن كان يتكلم بقلبه وفكره وعواطفه وأحاسيسه التى لا يسمعها إلا الرب نفسه ، وقد استجاب له ، إذ يقول : " الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطا من وسط الأنقلاب " ؛ وكأن ما تمتع به لوط كان بسبب إبراهيم !!

 

( 7 ) خطأ إبنتى لوط مع أبيهما :

يسدل الكتاب المقدس آخر فصل عن حياة لوط بحدث مؤلم للغاية ، هو ثمرة طبيعية إجتناها لوط من الزرع الذى غرسه ، فقد اختار سدوم مسكنا له فشربت بنتاه من أهلها روح الشر .

حاول بعض المفسرين تقديم الأعذار لهاتين الإبنتين بحجة أنهما فعلا ذلك ليس بسبب شهوة لكن بغرض إعمار الأرض !

هذه النظرة رفضها كثير من الآباء إذ كان يلزمهما ألا يستخدما الطريق البشرى لحل المشكلة مع تجاهل لعمل الله القادر أن يقيم أولادا من الحجارة .

هاتين الأبنتين تمثلان صورة مرة لمن يسىء استخدام الناموس ( الأب ) فيرتبط به جسديا أو حرفيا لا روحيا لينجب ثمارا ليست فى الرب ، كما انجبت هاتان الإبنتان موآب وعمون من أبيهما كرأسين لأمتين شريرتين ، خير لنا أن نبقى بلا ثمر ولا نصير أمهات بطريقة كهذه !


 

تكوين – الأصحاح العشرون

ساراى وأبيمالك

إذ انتقل إبراهيم إلى جرار قال عن سارة إمرأته إنها أخته ، فأرسل أبيمالك ملك جرار يطلبها زوجة له ، لكن الرب منعه من الأقتراب إليها .

 

( 1 ) أبيمالك وسارة

بعد حوالى 23 عاما ترك إبراهيم بلوطات ممرا وذهب إلى جرار ، ربما لأنه قد تأثر بصورة سدوم وعمورة وهما تحترقان فأراد ترك الموضع كله ، أو لأن مواشيه كانت قد كثرت فصار يطلب مرعى آخر ، أو لعل مجاعة قد حلت بالمنطقة ... هناك قال عن سارة أنها اخته ! فأرسل أبيمالك ملك جرار يأخذها لنفسه زوجة وكانت قد بلغت فى ذلك الحين التسعين من عمرها ، فجاء الله " الوهيم " إلى أبيمالك فى حلم الليل يوبخه : " ها أنت ميت من أجل المرأة التى أخذتها فإنها متزوجة ببعل " ( ع 3 )

وكان أبيمالك لم يقترب إليها ، وقد أجاب الله :

" يا سيد أ أمة بارة تقتل ؟! ألم يقل هو لى إنها أختى ، وهى نفسها قالت : هو أخى . بسلامة قلب ونقاوة يدى فعلت هذا " ( ع 5 )

" فقال له الله فى الحلم : أنا أيضا علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا ، وأنا أيضا أمسكتك عن أن تخطىء إلى ، لذلك لم أدعك تمسها . فالآن رد إمرأة الرجل فإنه نبى يصلى لأجلك فتحيا . وإن كنت لست تردها فاعلم أنك موتا تموت أنت وكل من لك " ( ع 6 ، 7 ) .

كان أبيمالك ملكا للفلسطينيين وثنيا ، وقد اتسم بصفات جميلة ولطف عجيب فى حديثه مع الله الذى ظهر له فى حلم ، وفى لقائه مع سارة وأيضا إبراهيم .

منذ سنوات حين نزل أبرام إلى مصر ، أخذ فرعون ساراى من إبراهيم ، ليجعلها زوجة له ، والرب ضرب فرعون وبيته ضربات عظيمة حتى لا يمس سارة ، وقد وبخ فرعون أبرام بسبب إخفائه حقيقة زواجه بسارة ، ومع ذلك بقى إبراهيم ضعيفا فى هذا الأمر ، فتكرر حتى فى شيخوخته مع أبيمالك .

كأن الله يحذرنا من أنفسنا أننا وإن بقينا عشرات السنوات لا نرتكب ضعفا معينا لكنه ربما فى سن الشيخوخة نسقط فيما سقطنا فيه قبلا ! إن كان رجل الله إبراهيم بعد كل هذه المعاملات مع الله سقط ، أفلا يليق بنا نحن أن نحذر من أنفسنا ؟ .

 

( 2 ) أبيمالك يستدعى إبراهيم

بالرغم من أن أبيمالك ورجاله كانوا وثنيين لكن قلوبهم كانت مستعدة لقبول كلمة الله ، ففى الصباح المبكر دعا أبيمالك جميع عبيده وأخبرهم باعلان الله له :

 " فخاف الرجال جدا " ( ع 8 ) .

إن كان الله قد كرم إبراهيم جدا فى عينى أبيمالك ، قائلا له : " فإنه نبى فيصلى لأجلك فتحيا " ( ع 7 ) ، لكنه سمح لأبيمالك الوثنى أن يوبخ نبيه ويعاتبه ، قائلا له : " ماذا فعلت بنا ؟ وبماذا أخطأت إليك حتى جبلت على وعلى مملكتى خطية عظيمة ؟! أعمالا لا تعُمل عملت بى " ( ع 9 )  ...

 العجيب أن ابراهيم عوض أن يعترف بالخطأ الذى أرتكبه قدم عذرا

"  قلت ليس فى هذا الموضع خوف الله البتة ، فيقتلوننى لأجل إمرأتى " ( ع 11 )

سقط فى خطية الأدانة والتسرع فى الحكم على الآخرين ، مع أنه قد ظهر فى أبيمالك ورجاله خوف الله واضحا .

 

( 3 ) أبيمالك يكرم إبراهيم

كان اكرام أبيمالك لإبراهيم عظيما لا فى الهدايا التى قدمها فحسب وإنما فى اعلان محبته وتقديره له ، بقوله :

" هوذا أرضى قدامك ، اسكن فى ما حسن فى عينيك " ( ع 15 ) .

إن كان قد وبخه لأنه عرض حياته ومملكته للخطر لكنه أظهر سخاءه فى العطاء لا حين أخذ منه إمرأته كما فعل فرعون ( 12 : 16 ) ، وإنما حين ردها إليه مقدما له قلبه كما أرضه ! لقد رد الأساءة إليه بالحب العملى ، الأمر الذى يصعب على بعض المؤمنين تحقيقه .

فى عتاب مملوء حبا قال لسارة : " إنى قد أعطيت أخاك ألفا من الفضة ، ها هو لك غطاء عين من جهة كل ما عندك وعند كل أحد ، فانصفت " ( ع 16 ) .

 دعى إبراهيم أخاها بتوبيخ رقيق ، وقد وهبه ألفا من الفضة ليكون ذلك غطاء عين لك ، أى تكريما لك ورد شرف ، ويرى البعض أن قوله : " ها هو لك غطاء عين " لا يعنى بها الفضة بل إبراهيم نفسه يكون حاميا لها وساترا إياها من كل عين تتطلع أو تفكر فى أخذها .

أخيرا إذ صلى إبراهيم عن أبيمالك وإمرأته وجواريه شفاهم الرب .

+  +  +

تكوين – الأصحاح الحادى والعشرون

ميلاد إسحق

إن كان إبراهيم قد ترك سارة فى يدى الملك الوثنى أبيمالك بعدم اعلانه عن العلاقة الزوجية التى تربطهما معا ، فقد حفظها الله دون أن يمسها أحد ، وردها مكرمة لكى تنجب إسحق إبن الموعد ، الذى بنسله تتبارك الأمم .

 

( 1 ) ولادة إسحق

" وافتقد الرب سارة كما قال ، وفعل الرب لسارة كما تكلم ، فحبلت سارة وولدت لإبراهيم إبنا فى شيخوخته ، فى الوقت الذى تكلم الله عنه " ( ع 1 – 2 ) .

إن كان إسحق من زرع إبراهيم ومن صلبه ، لكنه فى الحقيقة هو عطية الله له ولسارة ، لهذا يتطلع الآباء إلى إسحق ليس كابن طبيعى لإبراهيم بل هو " إبن الموعد " ، افتقد الله إبراهيم وسارة وأعطاهم طفلا يفرح به قلوب البشرية كلها ...

 

( 2 ) ختان إسحق

فى اليوم الثامن ختن إبراهيم إسحق : " كما أمره الله " ( ع 6 ) ، وكأن سارة تمثل الكنيسة التى تمتلىء فرحا بولادة بنيها روحيا ، بختانهم ليس حسب الجسد وإنما حسب الروح ، خلال مياة المعمودية ....

 

( 3 ) فطام إسحق

" فكبر الولد وفطم ، وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحق " ( ع 8 ) .

لم يصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم ولادة إسحق ، إنما يوم فطامه ، إن كنا لا نستطيع أن ننكر الفرح الشديد الذى ملأ قلب إبراهيم وسارة وكل محبيهما يوم ولادته ، لكن إبراهيم يود أن يرى إسحق ناميا ينتقل من مرحلة إلى أخرى ليبلغ كمال النضوج .

 

( 4 ) إبن الميراث وإبن الجسد

الوليمة العظيمة التى أقامها إبراهيم يوم فطام إسحق ألهبت مشاعر هاجر وإبنها بالضيق والغيظ ، فتذكرت هاجر مرارة هروبه من وجه ساراى ( 16 : 6 ) ، وكانت إلى وقت قريب تتطلع إلى ابنها بكونه الوارث الوحيد لإبراهيم ، هذه المشاعر تجسمت فى حياة إبنها الذى صار يمزح مع إسحق ( 21 : 9 ) ، مزاحا سخيفا يكشف عن مرارة نفسه التى لم يكن من السهل أن يخفيها ، حتى دعى الرسول بولس هذا المزاح اضطهادا ( غل 4 : 29 ) ، الأمر الذى أثار نفس سارة فطالبت إبراهيم بطرده مع أمه ، قائلة : " لأن إبن هذه الجارية لا يرث مع إبنى إسحق " ( ع 10 ) ، قبح الكلام جدا فى عينى إبراهيم إذ حسبه ظلما من سارة ، هذا مع عدم تجاهله لإبنه حتى وإن كان من جارية . وكان صوت الله له :

" لا يقبح فى عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك ، فى كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها ، لأنه بإسحق يدعى لك نسل ، وإبن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك " ( ع 12 ، 13 ) .

فى وضوح يقول الرسول بولس : " الذى من الجارية ولد حسب الجسد وأما الذى من الحرة فبالموعد ، وكل ذلك رمز ، لأن هاتين هما العهدان : أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية الذى هو هاجر ... وأما نحن أيها الأخوة فنظير إسحق أولاد الموعد ، ولكن كما كان الذى ولد حسب الجسد يضطهد الذى حسب الروح هكذا الآن أيضا ، لكن ماذا يقول الكتاب : أطرد الجارية وإبنها لا يرث إبن الجارية مع إبن الحرة ، إذا أيها الأخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد حرة " غل 4 : 23 – 31

 

( 5 ) هاجر وبئر الماء

بناء على الأمر الإلهى صرف إبراهيم هاجر وإبنها بعد أن زودهما بالخبز وقربة ماء وودعهما فى الصباح الباكر لعلهما يجدان مأوى قبل الظهيرة . وكان الولد يبلغ حوالى 16 عاما من عمره ... فخرج الإثنان إلى البرية متجهين نحو الجنوب وقد تاها فى البرية التى دعيت بعد ذلك " بئر سبع " . وإذ فرغ الماء من القربة خار الولد من العطش فتركته أمه مطروحا فى الظل تحت الأشجار ، إذ قالت : " لا أنظر موت الولد " ( ع 16 ) . فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت .

العجيب أن هاجر رفعت صوتها وبكت أما الولد فكان فى إعياء شديد غير قادر على الكلام ، ومع ذلك فكان صمت الغلام صوتا مسموعا لدى الله أكثر من بكاء هاجر ، إذ قيل : " سمع الله صوت الغلام ، ونادى ملاك الله هاجر من السماء ، وقال لها : مالك ياهاجر ، لا تخافى لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو " ( ع 17 ) .

يقول الكتاب : " وفتح الله عينيه فابصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام " ( ع 19 ) .

وكما يقول العلامة أوريجانوس : [ اليوم اليهود بجانب الآبار لكن أعينهم منطمسة فلا يستطيعون الشرب من آبار الناموس والأنبياء ] .

أخيرا سكن إسماعيل فى برية فاران كصياد وقد تزوج من أرض مصر ، إذ أزوجته أمه من بنات شعبها .

 

( 6 ) ميثاق بين إبراهيم وأبيمالك :

أكرم أبيمالك ملك جرار إبراهيم جدا وسمح له بالبقاء فى أرضه لكنه إذ رآه يعظم جدا ، أدرك أن " اللـــه " هو سر عظمته ونجاحه فخاف منه ، لذلك جاء ومعه رئيس جيشه فيكول ليقيما معه ميثاقا حتى لا يغدر إبراهيم به أو بنسله وذريته .

طلب أبيمالك إقامة ميثاق مع إبراهيم ، فعاتبه الأخير بسبب أغتصاب عبيد أبيمالك بئر ماء لإبراهيم ، فى حكمة وباتساع قلب أخبره أبيمالك أنه لم يعلم عن البئر شيئا .

قدم غبراهيم غنما وبقرا لأبيمالك كهدية محبة عند قطع العهد ، كما أفرز سبع نعاج وإذ سأل أبيمالك عن هذه النعاج قال له : " لكى تكون لى شهادة بأنى حفرت هذه البئر " ( ع 30 ) . فقد سميت ببئر سبع حتى أن كل من يسأل عن الأسم يقال أنها نسبة للسبع نعاج التى قدمها إبراهيم ، وإذ أراد تثبيت ملكيته غرس أشجار أثل هناك يستظل بظلالها ويقيم خيامه تحتها ، " ودعا هناك باسم الرب الإله السرمدى " ( ع 33 ) .

" وتغرب إبراهيم فى أرض الفلسطينيين أياما كثيرة " ( ع 34 ) .

+  +  +    

تكوين – الأصحاح الثانى والعشرون

ذبح إسحق

إن كان نجم إبراهيم أب الآباء قد تلألأ فى سماء الروح إنما من أجل إيمانه الذى رفعه فوق الأحداث ، فكانت العطايا تزيده شكرا لله دون تعلق بها ، والضيقات تزكيه أمام الكل ... لقد عاش سنوات غربته سلسلة من النصرات غير المتقطعة . الآن إذ فرح مع إمرأته سارة من أجل إسحق إبن الموعد اللذين قبلاه فى شيخوختهما عطية إلهية فائقة ، فقد طلبه الرب منه ذبيحة حب . وبقدر ما قست التجربة جدا تمجد إبراهيم وإسحق إبنه ، فصارا يمثلان صورة حية لعمل الله الخلاصى خلال ذبيحة الصليب وإعلان قيامة المسيا .

 

( 1 ) إمتحان الله لإبراهيم

إن كانت الكنيسة تعتز بيوم " الخميس الكبير " أو " خميس العهد " الذى فيه تذكر تقديم السيد المسيح ذبيحة العهد الجديد لتلاميذه قائمة على الصليب ، لم تجد الكنيسة صورة أوضح من تقدمة إبراهيم إسحق إبنه محرقة للرب كصورة حية لعمل الصليب ، حيث يقدم الآب إبنه فدية عن خلاص العالم ، لهذا جاءت " قسمة قداس خميس العهد " منصبة على ذبح إسحق ، وستبقى الأجيال كلها ترى فى هذا العمل الإيمانى مثلا حيا وفائقا يكشف عن ذبيحة السيد المسيح .

يقول الكتاب : " وحدث بعد هذه الأمور أن الله إمتحن إبراهيم . فقال له : يا إبراهيم ، فقال : هأنذا . فقال : خذ إبنك وحيدك الذى تحبه إسحق ، وإذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذى أقول لك " ( ع 1 ، 2 ) .

سمح الله لأبراهيم بالتجربة لكى يزكيه أمام الكل ويعلن إيمانه القوى الخفى ، فيكون مثلا حيا للآخرين .

بالروح عرف الرسول بولس عاطفة إبراهيم وأفكاره ، معلنا إياها بقوله : " بالأيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب ، قدم الذى قبل المواعيد وحيده ، الذى قيل له بإسحق يدعى لك نسل ، إذ حسب أن الله قادر على الأقامة من الأموات " ( عب 11 : 17 ) . لقد سلمنا الرسول أفكار هذا الرجل المؤمن ، إذ كانت أفكاره هكذا من جهة إسحق ، وهذه هى أول مرة يظهر فيها الأيمان بالقيامة ، فقد ترجى إبراهيم قيامة إسحق – هكذا كشفت التجربة عن قلب إبراهيم أب الآباء كإنسان يؤمن بالقيامة من الأموات .

إن كان إبراهيم انطلق بإبنه نحو المذبح ، فقد رجع من التجربة يحمل إسحق وكأنه قائم من الأموات ، رمزا للسيد المسيح الذبيح القائم من الأموات .

لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم إبنه ذبيحة ، مع أن الشريعة الموسوية فيما بعد حرمت الذبائح البشرية ؟  

بلا شك كان الوثنيون يقدمون أبكارهم ذبائح لآلهتهم ، وكانت هذه التقدمات لا تحمل حبا من جانب مقدميها بقدر ما تكشف عن روح اليأس الذى يملأ قلوبهم ، إذ كانوا يودون غفران خطاياهم بأى ثمن ، كما كانوا يودون استرضاء آلهتهم المتعطشة إلى الدماء ! لهذا فإن الله طالب إبراهيم خليله بهذه التقدمة ليعلن للوثنيين قلب إبراهيم المحب لله ، إذ هو مستعد أن يقدم أثمن ما لديه ، وفى نفس الوقت إذ قدم الله كبشا عوض إسحق أعلن عدم قبوله الذبائح البشرية ، ليس عن جفاف فى محبة المؤمنين لله ، وإنما فى تقدير الله للإنسان ، إذ لا يطلب سفك دمه وهلاكه ! الله لا يطيق الذبائح البشرية ، إذ هو محب للبشر ، يشتهى حياتهم لا هلاكهم ، مقدما إبنه الوحيد فدية عنهم ، هذا الذى وإن صار إنسانا لكنه وحده لا يقدر الموت أن يملك عليه ولا الفساد أن يقترب منه .

 

( 2 ) إسحق فى الطريق :

" فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره وأخذ إثنين من غلمانه ومعه إسحق إبنه وشقق حطبا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذى قال له الله " ( ع 3 )

إذ سمع إبراهيم الأمر الإلهى مع ما بدأ كمتناقض لمواعيده السابقة فى طاعة قام لينفذ الأمر ، إنطلق للعمل " باكرا " فى الصباح دون تراخ من جانبه ، وبغير جدال أو شك فى مواعيد الله .

يعلق القديس يوحنا الذهبى الفم على عدم إستشارة إبراهيم لزوجته سارة فى هذا الأمر : إن كان لنا شخص عزيز لدينا كعضو فى العائلة ؛ ليتنا لا نظهر له أعمال محبتنا ( لله ) ما لم تحتم الضرورة .

" وفى اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد " ( ع 4 ) .

إن اليوم الثالث إنما يشير إلى قيامة السيد المسيح ، وكأن إبراهيم قد دخل مع الرب فى القبر وعاش معه آلامه حتى انبثق نور قيامته فى فجر الأحد ( اليوم الثالث ) فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد .

كانت عيناه قبلا منخفضتين نسبيا ومتذللتين ؛ ربما حاربه العدو بسارة التى تركها الآن فى الخيمة ولم يخبرها عن خروجه مع إبنه ليذبحه ... أو ربما أراد الشيطان أن يشككه فى مواعيد الله له .. ، وربما حاربه بمحبته لأبنه وشفقته عليه .. ، لكن على أى الأحوال لم يتوقف إبراهيم عن السير فى الطريق ثلاثة أيام ،  وكأنه ببنى إسرائيل الذين طلب إليهم الرب أن يقدموا ذبيحة على مسيرة ثلاثة أيام ( خر 5 : 3 ) ، إذ لا تقبل ذبيحة خارج دائرة قيامة ربنا يسوع المسيح . هكذا فى اليوم الثالث رأى إبراهيم علامة القيامة بطريقة أو بأخرى فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد ، ما هو هذا الموضع إلا السيد المسيح نفسه الذى فيه يرى إسحق إبنه قائما من الموت معه وبه أيضا !

امتلأت نفس إبراهيم تعزية لمعاينة سر المصلوب القائم من الأموات ، فتهلل فى داخله إذ رأى يوم الرب ( يو 8 : 56 ) .  تحول أتون التجربة إلى ندى سماوى بظهور السيد المسيح المصلوب القائم من الأموات أمام بصيرة إبراهيم أب الآباء .

" فقال إبراهيم لغلاميه : إجلسا أنتما مع الحمار ، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما ...

فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحق إبنه وأخذ بيده النار والسكين وذهب كلاهما معا " ( ع 5 ، 6 ) .

الخادمان اللذان أمرهما إبراهيم بالبقاء مع الأتان يشيران إلى الشعب اليهودى الذى لم يستطع أن يصعد ويبلغ إلى موضع الذبيحة ، إذ لم يريدوا الأيمان بالمسيح ، الآتان تشير إلى المجمع اليهودى ، والكبش الموثق فى الغابة بقرنيه يبدو أنه يرمز إلى المسيح ، لأن المسيح أوثق بين الأشواك بقرون إذ علق على خشبة الصليب وسمر بالصليب ....

كان الكبش قويا ، وربطه إشارة إلى إرادة السيد المسيح أن يربط لاهوته حتى يتمم عملية الفداء الذى جاء من أجله .. ولا ينتقم من صالبيه !

عندما حمل إسحق الخشب للمحرقة كان يرمز للمسيح ربنا الذى حمل خشبة الصليب إلى موضع آلامه ، هذا السر سبق فأعلنه الأنبياء ، كالقول : " وتكون الرئاسة على كتفيه " ( إش 9 : 5 ، 6 ) .

أما القول : " فذهب كلاهما معا " فتشير إلى أن هذه الذبيحة هى ذبيحة إبراهيم كما هى ذبيحة إسحق ، قدم إبراهيم إبنه الوحيد خلال الحب الفائق ، وقدم الإبن ذاته خلال الطاعة الكاملة ، فحسبت الذبيحة لحساب الأثنين معا .

إذ سار إسحق مع إبراهيم نحو المذبح ، بدأ الأبن يسأل أباه : " يا أبى .. هوذا النار والحطب ، ولكن أين الخروف للمحرقة ؟! "

يقول العلامة أوريجانوس : فى هذه اللحظة تتجسم فى كلمة الإبن [ يا أبى ] أقسى مواقف التجربة ، تصوروا إلى أى درجة يستطيع صوت الإبن الذى سيذبح أن يثير أحشاء أبيه ؟! لكن إيمان إبراهيم الثابت لم يمنعه من الأجابة بكلمة رقيقة : " هأنذا يا إبنى " !!

فى الإيمان بالقدر أن يقيم من الأموات قال إبراهيم :

" الله يرى له الخروف يا إبنى " ( ع 8 ) ، وقد رأى الآب الحمل الحقيقى ، يسوع المسيح ، الذى قدمه ليس فدية عن إسحق وحده بل عن العالم كله .

 

( 3 ) إقامة المذبح وتقديم الذبيحة :

بلغ إبراهيم الموضع الذى رسمه الله ، والمذبح قد بنى ، والحطب الذى حمله إسحق قد رتب ، وربط إسحق بيدى أبيه ووضع على المذبح فوق الحطب ، ومد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبحه .. كانت الأمور تسير فى جو من الهدوء الداخلى ، إبراهيم يؤمن بالله الذى لن يتخلى عن مواعيده ، وإسحق فى طاعة يمتثل للذبح ولم تبق إلا لحظات ليذبح الإبن ويقدم محرقة .

قُبلت تقدمة إبراهيم وإن لم تتحقق بطريقة حرفية ، الله لا يطلب الدم بل الطاعة اللائقة . وحسب إسحق إبنا للطاعة إذ قبل الصليب بإيمان .

وفى اللحظة الحاسمة وسط الهدوء الشديد إذ بملاك الرب ينادى إبراهيم :

" إبراهيم إبراهيم " ..... لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا ، لأنى الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك إبنك وحيدك عنى " ( ع 11 ، 12 ) .

رأى إبراهيم كبشا موثقا بقرنيه فى الغابة ، وأصعده محرقة عوضا عن إبنه ، وكأنه رمز للسيد المسيح الذى علق على خشبة الصليب وسمر بذراعيه المفتوحتين لأجل خلاص العالم .

دعى إبراهيم الموضع " يهوه يرأه " أى ( الله يُرى )، هكذا ترأى الله لإبراهيم فى موضع الذبيحة .

 

( 4 ) تجديد الوعد الإلهى :

خلال الذبيحة تمتع إبراهيم برؤية الرب كما تمتع بتجديد الوعد بطريقة فاقت المرات السابقة ، الوعد هنا أبرز أبوته الروحية ، إذ يقول : إذ كان يليق به أن يكون أبا للذين هم من الإيمان ( غل 3 : 9 ) ويدخل الميراث خلال آلام المسيح وقيامته ....

الوعد الأول حيث كان ( الصوت الإلهى ) فى الأرض : " ثم أخرجه إلى خارج – خارج الخيمة – وقال له : أنظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها ، وقال له هكذا يكون نسلك " ( تك 15 : 1 ) .

أما فى تجديد العهد فيظهر الكتاب أن الصوت جاء من السماء ( 22 : 11 ) ، الآول جاء من الأرض والثانى من السماء ، ألا يبدو فى هذا وجود رمز لحديث الرسول :

" الإنسان الأول من الأرض ترابى ، والإنسان الثانى الرب من السماء " ( 1 كو 15 : 47 ) ؟

لعل انطلاق الغلامين إلى بئر سبع مع إبراهيم وإسحق فى نهاية المطاف يشير إلى عودة اليهود إلى الأيمان بالسيد المسيح الذى لم يستطيعوا قبلا معاينة سر ذبيحته .. فينطلقوا فى آخر العصور إلى مياة المعمودية ويقبلوا من قد جحدوه .

 

( 5 ) أولاد ناحور :

ذكر الكتاب أولاد ناحور أخ إبراهيم من زوجته ملكة ليكشف عن قرابة رفقة لزوجها إسحق ، والده إبن أخ إبراهيم ، أى هى إبنة عمه ...   

+  +  +

تكوين – الأصحاح الثالث والعشرون

موت سارة

إن كانت سارة كزوجة تمثل الجسد فى إرتباطه بالنفس ، فإن سارة كرفيقة لرجلها فى جهاده الروحى ، لا تمثل ثقلا يعطل نموه بل معينا له تسنده كل أيام غربته ، تنطلق معه من أور الكلدانيين لتعيش كغريبة ، وتشاركه استضافته الغرباء ، تسمع له وتتجاوب معه ، إنما تمثل الجسد الذى بتقديسه بالروح القدس لا يعوق النفس فى إنطلاقها نحو السماء بل يسندها خلال الممارسات الحية من صلاة وأصوام وتعبدات الخ .... الآن ماتت سارة ليدفنها إبراهيم رجلها على رجاء القيامة .

 

( 1 ) موت سارة :

مما يلفت نظرنا أن الكتاب المقدس أهتم بتجديد عمر سارة والحديث عن شراء قبر فى أرض كنعان لدفنها .... إذ يقول : " وكانت حياة سارة مئة وسبعا وعشرين سنة سنى حياة سارة . وماتت سارة فى قرية أربع التى هى حبرون فى أرض كنعان ، فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكى عليها " ( ع 1 ، 2 ) .

عاشت سارة 127 عاما ، كلها أعوام مثمرة فى الرب، بدت فى سنواتها التسعين الأولى عقيمة من جهة الإنجاب ، لكن بالإيمان ظهرت أما للمؤمنين ( إش 51 : 2 ) ، تشارك رجلها إبراهيم ( أب المؤمنين ) كل أيام جهاده ، تحمل معه المشقات وتتقبل معه الوعود الإلهية ... كما سلكت بروح الطاعة حتى طلب الرسول بطرس من امؤمنات أن يتمثلن بها : " كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياها سيدها ، التى صرتن أولادها صانعات خيرا وغير خائفات خوفا البتة " ( 1 بط 3 : 6 ) .

لم نسمع أن إبراهيم بكى أو حزن عند مفارقته أهله بأور الكلدانيين ، ولا عند سبى لوط ، ولا عند إنطلاقه ثلاثة أيام ليذبح إبنه ، لكنه يقف الآن أمام سارة يندبها ويبكيها ......

إن كان إيمان إبراهيم قد رفعه فوق الأحداث ، لكن هذا الإيمان لا يتعارض مع المشاعر الإنسانية الرقيقة التى فجرت ينابيع دموعه أمام جثمان سارة ! الأيمان لا يجردنا من الأحساسات ، بل يقدسها وينميها فى الرب .

هذا ما نلمسه حتى فى يسوع المسيح نفسه ، لم يحتمل دموع مريم ومرثا وبكى على لعازر ( يو 11 : 35 ) ، حتى قال اليهود : " أنظروا كيف كان يحبه ؟! " ( يو 11 : 36 ) .

( 2 ) شراء مغارة المكفيلة :

لم يفكر إبراهيم فى دفن زوجته بجوار أسلافه ، فإن كان بالإيمان قد خرج مع سارة من أور الكلدانيين ، بقى سالكا بالأيمان حتى النفس الأخير ، اقتنى مغارة فى كنعان لتدفن سارة ويدفن هو وإسحق ورفقة ويعقوب وليئة .

يقول الكتاب : " وقام إبراهيم من أمام ميته وكلم بنى حث ، قائلا : أنا غريب ونزيل عندكم ، اعطونى ملك قبر معكم لأدفن ميتى من أمامى . فأجاب بنو حث إبراهيم ، قائلين له : اسمعنا يا سيدى أنت رئيس من الله بيننا ، فى أفضل قبورنا ادفن ميتك ... فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبنى حث ... " . ( ع 3 – 7 ) .

يبرز الكتاب المقدس إتضاع إبراهيم النابع عن شعوره بالتغرب ... ، فبينما يتطلع إليه بنو حث كسيد ورئيس ( أمير ) من الله بينهم ، إذ به يدعو نفسه غريبا ونزيلا عندهم ، بهذه الروح عاش أولاد إبراهيم الحقيقون ، فقال داود النبى فى أيامه الأخيرة إذ أعد كل شىء لإبنه سليمان لبناء الهيكل : " من أنا ومن هو شعبى حتى نستطيع أن ننتدب هكذا ، لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك ، لأننا نحن غرباء أمامك ، نزلاء مثل كل آبائنا ، أيامنا كالظل على الأرض وليس رجاء " ( 1 أى 29 : 14 ، 15 ) .

يلخص الرسول بولس حياة رجال الأيمان ، أولاد إبراهيم ، قائلا : " فى الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروا وصدقوها وحيوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض " ( عب 11 : 13 ) .

الفكر الإيمانى الذى عاشه أبونا إبراهيم وأعلنه بقوة برفضه إستلام المقبرة كهبة مجانية من يدى إنسان ، منتظرا بصبر أن يتقبل نسله الأرض كلها – أرض الموعد – من يدى الله إذ يقول : " هكذا إذن فإن وعد الله لأبراهيم قد بقى ثابتا ، إذ قال له : ارفع عينيك وانظر من الموضع الذى أنت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، لأن جميع الأرض التى أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد " ( تك 13 : 14 ، 15 )

ومع ذلك " لم يعطه فيها ميراثا ولا وطأة قدم " ( أع 7 : 5 ) . بل ظل غريبا ونزيلا هناك على الدوام .

نسل إبراهيم هذا هو الكنيسة التى تمتعت بالبنوة لله فى الرب ، كقول يوحنا المعمدان : " الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم " ( مت 3 : 9 ) .

يقول القديس باسيليوس الكبير : أن إبراهيم كرجل إيمان لم يقتن شيئا ، إنما اقتنى فى كل حياته مقبرة يدفن فيها مع زوجته وأولاده ، وكأنه يعلن أنه لا يطلب من الأرض إلا ما يدفن فيه الجسد على انتظار القيامة من الأموات !

+  +  +

تكوين – الأصحاح الرابع والعشرون

زواج اسحق

حمل تتابع الأحداث صورة رمزية لأحداث الخلاص ، فإن ذبح إسحق بكر سارة يشير إلى صلب السيد المسيح وقيامته ، وإرسال كبير بيت إبراهيم لأحضار رفقة زوجة لإسحق من مدينة ناحور بحاران فيشير إلى عمل الروح القدس الذى اجتذب الأمم من أرضهم الشريرة – عبادة الأوثان – ليقيمها عروسا لإسحق الحقيقى ربنا يسوع المسيح .

 

( 1 ) إرسالية كبير بيت إبراهيم :

ماتت سارة وعمرها 127 عاما ، أما إبراهيم فكان قد بلغ 137 عاما ... ويبدو أنه بعد ثلاث سنوات من موت سارة أستدعى إبراهيم عبده كبير بيته مدبر كل أمواله وسأله أن يضع يده تحت فخذه ليحلف بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا يأخذ زوجة لإبنه من بنات الكنعانيين الذين يسكن فى وسطهم بل يذهب إلى عشيرته فى منطقة ما بين النهرين ويأتى إليه بزوجة من عشيرته . سأله الرجل وإن رفضت المرأة أن تتبعه إلى هذه الأرض ( كنعان ) فهل يرجع بإبنه إلى حيث عشيرته ، فأجاب إبراهيم معلنا إيمانه بالله الذى وعده بالأرض أنه يرسل ملاكه ليعد لإبنه الزوجة ، محذرا الرجل من الرجوع بابنه إلى الأرض التى خرج منها إبراهيم .

لم يهتم إبراهيم فى إختيار زوجة لإبنه أن تكون غنية أو جميلة إنما كان هدفه الأول أن تكون مقدسة ومؤمنة تعين إبنه فى حياته الروحية ولا تكون عائقا له فى الطريق .. لذلك أعطى الرب لإسحق رفقة ، إمرأة جميلة المنظر والروح ، كانت سر تعزية وفرح له كل أيام غربته .

( 2 ) فى مدينة ناحور :

مدينة ناحور قريبة من حاران فى شمال غربى الميصة ( ما بين النهرين ) ، يقول الكتاب : " ثم أخذ العبد عشرة جمال من جمال مولاه ومضى وجميع خيرات مولاه فى يده ، فقام وذهب إلى آرام النهرين إلى مدينة ناحور ، وأناخ الجمال خارج المدينة عند بئر الماء وقت المساء وقت خروج المستقيات ، وقال : أيها الرب إله سيدى إبراهيم يسر لى اليوم واصنع لطفا إلى سيدى إبراهيم ... " ( ع 10 – 12 )

+ ما هذا البئر إلا مياة المعمودية التى فيها يلتقى السيد المسيح بكنيسته كعروس له ، أما كبير بيت إبراهيم فنراه كسيده يثق فى الله كمدبر لكل الأمور ، لهذا عندما بلغ البئر بدأ يصلى مسلما الأمر بين يدى الله ، وبعد الأختيار نجده يقدم الشكر لله الذى أنجح طريقه ( ع 48 ) .

 

( 3 ) لقاء مع رفقة :

ما ان فرغ كبير بيت إبراهيم من حديثه الأيمانى مع الله حتى وجدت الأستجابة الفورية ، فقد ظهرت رفقة حفيدة ناحور أخى إبراهيم عند الماء جاءت لتستقى ، وقد امتازت بجانب جمالها الجسدى بلطفها فى الحديث ومروئتها ، فإذ طلب الرجل أن تسقيه ماء من جرتها حتى أسرعت وانزلت جرتها على يدها لتسقيه وتطلب منه أن تسقى جماله دون أن يطلب منها .

إذ كان الرجل يتأمل عمل الله صار :

 " يتفرس فيها ليعلم أ أنجح الرب طريقه أم لا ؟! " (ع 21 )

 وإذ أدرك العمل الألهى :

 " أخذ خزامة ذهب وزنها نصف شاقل وسوارين على يديها وزنهما عشرة شواقل ذهب " ( ع 22 ) . 

إن كان الذهب يشير إلى السمة الروحية أو الطبيعة السماوية ، فإن الكنيسة إذ تتقبل عمل الله خلال خدامه تصير أذناها سماويتين وأيضا يداها فلا تسمع إلا لما هو إلهى ولا تعمل إلا لحساب مملكة السموات .

إذ سألها الرجل إن كان فى بيت أبيها مكان لهم ليبيتوا ، فأجابته : " عندنا تبن وعلف كثير ومكان لتبيتوا أيضا " ( ع 25 ) ،

 " فخر الرجل وسجد للرب " ( ع 26 ) ،

 ليس شىء يمجد الله فى حياتنا مثل إتساع القلب للناس ، فيجدون فيه طعاما لهم ولجمالهم وموضعا يستريحون فيه .

ما فعلته رفقة كممثلة لكنيسة العهد الجديد مارسه الرسول بولس كعضو فيها ، إذ يقول : " فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون ، قلبنا متسع " ( 2 كو 6 : 11 ) .

 

( 4 ) فى بيت رفقة :

هنا نقف فى دهشة أمام عمل الله العجيب ، فانه ليس فقط رفقة قد اتسمت باللطف والكرم فى العطاء ، وإنما حمل أخوها لابان ذات السمتين : " أدخل يا مبارك الرب ، لماذا تقف خارجا وأنا قد هيأت البيت ومكانا للجمال ؟! " ( ع 31 ) يدعو خادم إبراهيم " مبارك الرب " ، وكأن الله كان يهيىء هذا الجو الروحى العجيب وسط بلد وثنى مملوء بالرجاسات والجحود ، كان الله يهيئه من أجل إبراهيم أب الآباء ليستريح قلبه من جهة إبنه إسحق ،

لا نستطيع أن نتجاهل دور رئيس بيت إبراهيم ، الذى أصر ألا يأكل حتى يعرض عليهم أعمال الله ويأخذ منهم كلمة من جهة رفقة وإلا يصرفوه فيذهب يمينا أو شمالا ( ع 49 ) .

 إنه رمز للخدام الأمناء الذين لا ينشغلون بالمجاملات البشرية بل يطلبون تحقيق غاية الرب فيهم ، لهذا أوصاهم السيد المسيح قائلا :

 " لا تنتقلوا من بيت إلى بيت " ( لو 10 : 7 ) ، " لا تسلموا على أحد فى الطريق " ( لو 10 : 4 ) .

 

( 5 ) نجاح مهمة كبير بيت إبراهيم :

 عندما بدأ الموكب يتحرك قالوا : " ندعو الفتاة ونسألها شفاها ، فدعوا رفقة وقالوا لها : هل تذهبين مع هذا الرجل ، فقالت أذهب " ( ع 57 ، 58 ) ، فقد آمنوا بحرية الأختيار ، ليس من يلزم فتى أو فتاة على الزواج بشخص معين مهما كانت الظروف ! إن كان الله يكرم الأنسان ويقدس حرية إرادته ، فيليق بنا أن نؤمن بحرية أولادنا وإخوتنا فلا نلزمهم بشىء إنما نشير عليهم ونسندهم بغير إجبار .

باركها أهلها وقالوا لها : " أنت أختنا ، صيرى ألوف ربوات ، وليرث نسلك باب مبغضيه " ( ع 60 ) .

انطلقت رفقة مع مرضعتها المحبوبة لديها جدا ، التى تدعى دبورة ( 35 : 8 ) .

 

( 6 ) رفقة زوجة إسحق

إنطلقت رفقة نحو عريسها إسحق بعد أن تركت عشيرتها وبيت أبيها ، وكأنها بكنيسة العهد الجديد التى تركت ما ورثته قبلا عن العالم الوثنى لتتقبل السيد المسيح عريسا لها ، وكما التقى العبد بها عند البئر ، خرج إسحق إليها ليلتقى بها عند بئر لحى رئى ، كما فى مياة المعمودية .

كبير بيت إبراهيم وجد رفقة عند البئر ، وبدورها وجدت رفقة إسحق عند البئر !!

فالمسيح لا يجد الكنيسة ولا الكنيسة تجد المسيح إلا بسر المعمودية .

كان إسحق يمثل السيد المسيح الذى ترك أمجاده وانطلق إلى الحقل خلال التجسد ليتقبل رفقة المتواضعة التى تراه فتنزل هى بدورها عن الجمل ليلتقيا معا بعد أن تغطت ببرقع الوداعة والحياء ... وهكذا دخل بها إسحق إلى خباء أمه سارة ، فصارت له زوجة وأحبها ، فتعزى إسحق بعد موت أمه ( ع 67 ) .  

+  +  +


 

تكوين – الأصحاح الخامس والعشرون

عبور ابراهيم

فى هذا الأصحاح يسجل لنا الوحى الإلهى عبور إبراهيم عن هذا العالم بعدما تزوج قطورة وأنجب أبناء كثيرين لكنه وإن قدم عطايا لكل إبن من أبنائه وهب الميراث كله لأبنه إسحق ، سلمه رجاءه فى الخلاص وتمتعه بالميثاق الإلهى ، ليسلم إسحق بدوره ذات الميراث لأبنه يعقوب .

 

( 1 ) زواج إبراهيم بقطورة ( 1 – 6 )

تزوج إبراهيم بقطورة بعد موت إمرأته سارة وأنجب أبناء صاروا رؤساء أمم ، لكنهم لم ينالوا ما ناله إسحق ، إذ يقول الكتاب : " وأعطى إبراهيم إسحق كل ما كان له ، وأما بنو السرارى اللواتى كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحق إبنه شرقا إلى أرض المشرق وهو بعد حى " ( ع 6 ) . لم يترك إبراهيم أولاده من السرارى بلا عطايا ، لكنه صرفهم عن إبنه إسحق الذى تمتع بكل ما كان لأبيه : أعطاه إيمانه الحى وسلمه المواعيد وبعث فيه روح الرجاء بالخلاص الإلهى الخ ... هذا هو التقليد ( التسليم ) الكنسى الذى ننعم به كميراث حتى نعيشه .

ليتنا لا نكون كأبناء السرارى نطلب من أبينا عطايا مادية إنما لنكن كإسحق إبن الموعد ننعم بكل ما فى قلب أبينا ، فنعيش أيامنا على الأرض كأولاد الله حاملين الغنى الروحى الذى لا يستطيع أحد أن يسلبه منا .

 

( 2 ) إبراهيم يسلم الروح :

" وهذه أيام سنى حياة إبراهيم التى عاشها : مئة وخمس وسبعون سنة ، وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة شيخا وشبعان أياما وانضم إلى قومه " ( ع 7 ، 8 ) .

إن كان إبراهيم قد مات لكنه حى بالله ، وكما يقول العلامة أوريجانوس :

[ بالنسبة لموضوع موت إبراهيم نضيف ما حواه الإنجيل من كلمات الرب : " وأما من جهة الأموات أنهم يقومون ، أفما قرأتم فى كتاب موسى فى أمر العليقة كيف كلمه الله قائلا : أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب ؟! ليس هو إله أموات بل إله أحياء ( مر 12 : 26 ) ، " لأن الجميع عنده أحياء " ( لو 20 : 37 ) .

إننا نشتهى موتا كهذا : " نموت عن الخطايا فنحيا للبر " ( 1 بط 2 : 24 ) .

إذ يليق بنا أن نفهم موت إبراهيم هكذا ، أن أحضانه تتسع لتضم كل القديسين الذين يأتون من أربع جهات العالم ، إذ تحملهم الملائكة إلى حضن إبراهيم ( لو 16 : 22 ) .

بمعنى آخر يمكننا القول أن الموت لم يحطم إبراهيم أبانا وإنما بالعكس جعل أحضانه متسعة لتضم فيها نفوس القديسين عبر العصور !

انضم إبراهيم إلى قومه ، إذ انطلقت نفسه لتحيا مع آبائه وأجداده ، أما جسده فقد دفن مع جثمان سارة إمرأته فى مغارة المكفيلة التى أشتراها من بنى حث .

" وكان بعد موت إبراهيم أن الله بارك إسحق إبنه ، وسكن إسحق عند بئر لحى رئى " ( ع 11 ) .

هذه هى البركة التى نالها إسحق ، أنه سكن عند بئر الرؤيا ، واستحق أن يستمر فى حالة رؤيا ويسكن هناك .

 

( 3 ) مواليد إسماعيل :

ولد إسماعيل أثنى عشر إبنا صاروا رؤساء لقبائل أو لشعوب كوعد الله لإبراهيم ( 17 : 20 ) ، فإن الله لم ينس اسماعيل وأولاده ، وإن كان لم ينعم بما ناله إسحق الذى جاء السيد المسيح من نسله متجسدا .

 

( 4 ) ميلاد عيسو ويعقوب :

كانت رفقة زوجة إسحق عاقرا ، وقد صلى إسحق من أجلها فولدت أبنيها عيسو ويعقوب ، وإذ كان فى أحشائها جنينان تزاحما معا ، فقالت رفقة :

 " إن كان هكذا فلماذا أنا ؟! " ( ع 22 ) . بمعنى إن كان هذا حال الجنينين فما الحاجة لهذا الحمل ، أو ما لحياتى من طعم بعد ؟! .

هذا الصراع بين عيسو ويعقوب ظهر وهما بعد جنينان وكأن الأحشاء الواحدة لم تحتملهما معا ، وقد تجسم بالأكثر بعد ولادتهما ، وتزايد جدا بين نسلهما : إسرائيل وأدوم . ويرى بعض الآباء فى هذا الصراع صورة للصراع المستمر بين الشر والخير حتى فى داخل أحشاء الكنيسة .

إذ شعرت رفقة بالآلام وضاقت نفسها جدا " مضت لتسأل الرب " ( ع 22 ) .

كانت إجابة الرب لها : " فى بطنك أمتان ، ومن أحشائك يفترق شعبان ، شعب يقوى على شعب ، وكبير يستعبد لصغير " ( ع 23 ) ..

 كشف لها الرب سر المصارعة ، إذ حملت فى داخلها شعبين ، أحدهما ينشأ عن الطفل الأصغر – يعقوب – لكنه يقوى على الآخر روحيا ، ويكون سيدا له .

أما رفقة فقد كملت أيامها لتلد " خرج الأول أحمرا ، كله كفروة شعر فدعوا إسمه عيسو ، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعى إسمه يعقوب ، وكان إسحق إبن ستين سنة لما ولدتهما " ( ع 25 ، 26 ) .

كان عيسو رجل البرية محبا للصيد ، أما يعقوب فكان إنسان كاملا يسكن الخيام ( ع 27 ) . وقد أحب إسحق عيسو ما يقدمه له من صيد ، أما رفقة فوجدت فى يعقوب إنسانا وديعا تستريح له .

 

( 5 ) يعقوب يشترى البكورية

ظهر عيسو كإنسان جسدى إذ باع بكوريته لأخيه يعقوب من أجل طبق عدس أحمر ، وقد ظهر استهتاره من قوله :

" ها أنا ماض إلى الموت ، فلماذا لى البكورية ؟! " ( ع 32 ) .

صاحب البكورية يمثل رئيس العائلة الذى يرث عن أبيه حق ممارسة العمل الكهنوتى ، إن صح هذا التعبير ، فهو الذى يقدم الذبائح عن الأسرة ... لهذا خرج من صلب يعقوب سبط لاوى الذى قام بالدور الكهنوتى . 


 

تكوين – الأصحاح السادس والعشرون

تغرب إسحق فى جرار

إذ حدث جوع فى الأرض لم ينزل إلى مصر كأبيه إبراهيم بل تغرب فى جرار كطلب الرب ، وكما فعل أبوه هكذا سلك إسحق قائلا عن رفقة إنها أخته فوبخه أبيمالك ملك جرار ، وإذ تزايد إسحق طمس الفلسطينيون آباره ، فمضى إلى وادى جرار ومنها إلى بئر سبع حيث ظهر له الرب وباركه مجددا معه العهد الذى وهبه لأبيه ، كما أعطاه نعمة فى عينى الملك ورئيس جيشه .

 

( 1 ) وعد الله أثناء المجاعة :

مر إسحق بذات التجربة التى مر بها أبوه إبراهيم : " وكان فى الأرض جوع غير الذى كان فى أيام إبراهيم " ( ع 1 ) .

 غير أن اسحق استشار الله الذى ظهر له وقال له : " لا تنزل إلى مصر ، اسكن فى الأرض التى أقول لك ، تغرب فى هذه الأرض ، فأكون معك وأباركك ، لأنى لك ولنسلك أعطى هذه البلاد وأفى بالقسم الذى أقسمت لإبراهيم أبيك ، وأكثر نسلك كنجوم السماء وأعطى نسلك جميع هذه البلاد وتتبارك فى نسلك جميع أمم الأرض " ( ع 2 – 4 ) .

عندئذ انتقل من عند بئر لحى إلى جرار ، التى تبعد حوالى 6 أميال جنوب شرقى غزة ، تقع فى الموقع الذى يدعى الآن " خربة أم جرار " ، وقد رأينا أن الأسم مشتق من كلمة " جرة " أو ( إناء خزفى ) .

 

( 2 ) دعوته رفقة أختا له :

حمل إسحق ذات الضعف الذى لأبيه ، فإذ خاف أن يقتله أهل الموضع من أجل إمرأته رفقة إذ كانت حسنة الصورة دعاها " أخته " . وفى هذه المرة نجد أبيمالك – وهو غالبا غير أبيمالك الذى كان فى أيام إبراهيم ، إذ قلنا أنه " أبيمالك " هو لقب ملك جرار وليس إسمه – تطلع من الكوة ونظر إسحق يلاعب رفقة إمرأته ، فاستدعاه وصار يعاتبه بنبل ، وقد أوصى الملك : " الذى يمس هذا الرجل أو إمرأته موتا يموت " ( ع 11 )

لكل مؤمن ضعفاته ، كما أن لكل وثنى جوانبه الطيبة ، الأمر الذى لا يجعلنا نحتقر أحدا حتى ولو كان وثنيا .

 

( 3 ) حسد الفلسطينيين له

يعلن الكتاب مباركة الله لإسحق بقوله : " وزرع إسحق فى تلك الأرض ( شعير حسب الترجمة السبعينية ) فأصاب فى تلك السنة مئة ضعف وباركه الرب ، فتعاظم الرجل وكان يتزايد فى التعاظم حتى صار عظيما جدا ، فكان له مواش من الغنم ومواش من البقر وعبيد كثيرون فحسده الفلسطينيون " ( ع 12 – 14 ) .

إن كان إسحق فى ضعف قد أخطأ أرسل الله له ملكا وثنيا يعاتبه ويوبخه ... لكن هذا لا يمنع بركة الرب عنه ولا تحقيق وعود الله له ، فإن زرعه أصاب مئة ضعف بجوار الغنم والمواشى الكثيرة والعبيد أيضا ، الأمر الذى أثار سكان المنطقة ضده ، إذ خشوا منه .

أمام هذا الغنى والعظمة اللذين ظهرا خلال زراعة الشعير يقف العدو حاسدا فيطمر الآبار التى حفرها إبراهيم بالتراب ، ويطلب أبيمالك من إسحق أن يترك الموضع ، قائلا له : " اذهب من عندنا لأنك صرت أقوى منا جدا " ( ع 16 ) .

 

( 4 ) قطع عهد مع أبيمالك :

سبق فطلب أبيمالك أن يقطع عهدا مع إبراهيم إذ قال له : " الله معك فى كل ما أنت صانع " ( تك 21 : 22 ) ، والآن يقطع أبيمالك – ليس بالضرورة ذات الملك – عهدا مع إبنه إسحق ، وقد جاء إليه مع مستشارين له هما صديقه أحزات الذى يعنى ( مُلك ) ، ورئيس جيشه فيكول ، قائلين :

 " إننا قد رأينا أن الرب كان معك ، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ، ونقطع معك عهدا ، أن لا تصنع بنا شرا كما لم نمسك وكما لم نصنع بك إلا خيرا وصرفناك بسلام ، أنت الآن مبارك الرب " ( ع 28 ، 29 ) .

إن كان نجاح إسحق قد سبب لأهل المنطقة خوفا وأثار فيهم روح الحسد ، لكنهم إذ رأوا فيه عمل الله صاروا شهود حق ، فدعوه " مبارك الرب " ، وسألوه أن يقطع معهم عهدا ، ما أجمل أن يكون للمؤمن شهادة من الذين فى الخارج ، فيدركون أنه رجل الله ويشعرون بهيبة الله تحوط به .

إن كان نجاح المؤمن يثير فى البداية حسدا لكنه يبعث فى النهاية نعمة فى أعين الجميع !

قابل إسحق مخاوفهم بالحب ، فصنع لهم ضيافة وأكرمهم بعد أن أقام معهم ميثاق صلح ومحبة وسلام .

 

( 5 ) زواج عيسو من الحيثيين

تزوج عيسو بأمرأتين من بنى حث ، كانتا مرارة نفس لإسحق ورفقة ( ع 34 ، 35 ) . لم يكن حكيما فى تصرفه إذ التحم بوثنيتين أفسدتا علاقته بوالديه وحرمتاه ونسله من السلام .

+  +  +

تكوين – الأصحاح السابع والعشرون

إسحق يبارك يعقوب

إستطاع يعقوب أن يختلس البكورية من أخيه عيسو بأكلة عدس ، والآن تدبر له أمه الأمر ليغتصب البركة من أبيه إسحق عوض عيسو

 

( 1 ) إسحق يستدعى عيسو :

" وحدث لما شاخ إسحق وكلت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو إبنه الأكبر وقال : يا أبنى ... إنى قد شخت ولست أعرف يوم وفاتى ، فالآن خذ عدتك جعبتك وقوسك وأخرج إلى البرية وتصيد لى صيدا ، واصنع لى اطعمة كما أحب وآتنى بها لآكل حتى تباركك نفسى قبل أن أموت " ( ع 1 – 4 ) .

إن كنا نلوم رفقة لأنها تدخلت بطريقة بشرية لينال يعقوب المحبوب لديها البركة عوض أخيه عيسو ، حتى وإن كان فى ذلك تحقيق للصوت الإلهى بأن الكبير يستعبد للصغير ، فنحن لا نستطيع أنكار ضعف إسحق إذ أراد أن يبارك إنسانا كعيسو سبق فأعلن الله أنه يكون مستعبدا للصغير ..

 

( 2 ) رفقة تسند يعقوب :

كانت رفقة تسمع ما قاله إسحق رجلها لعيسو ، وربما كانت حاضرة ، والآن فى محبتها لإبنها يعقوب أخبرته بما حدث .. والعجيب أن رفقة ويعقوب لم يشعرا أنهما أخطأ! ولا وبخهما إسحق على تصرفهما بعد إكتشافه الخدعة ، بل أكد بركته ليعقوب ، ولعل إسحق أدرك أنهما على حق وإن استخدما وسيلة غير سليمة !

يرى القديس أغسطينوس أن الكتاب المقدس أراد أن يوضح أن تصرف يعقوب لم يكن عن مكر واحتيال إنما كان فى بساطة قلب وإيمان ، لهذا استحق نوال البركة .

كنا نتوقع فى رفقة كأم حكيمة وزوجة مخلصة ومحبة لرجلها أن تصارح إسحق بما فى قلبها وتذكره بالصوت الإلهى الخاص بمباركة الأصغر ، لكن الله استخدم حتى ضعفها للخير ، وإن كانت قد ذاقت مرارة تصرفاتها المتسرعة .

قال إسحق : " الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو " ... فباركه ! إنها صورة حية للسيد المسيح ، صوته صوت الإبن وحيد الجنس ، لكن يديه هما أيدينا إذ حمل طبيعتنا فيه ! صار كعيسو يحمل ضعفاتنا وخطايانا وهو يعقوب البار !

 

( 3 ) يعقوب يتمتع ببركة أبيه :

" فقال له إسحق أبوه : تقدم وقبلنى يا أبنى . فتقدم وقبله ، فشم رائحة ثيابه وباركه ، وقال : أنظر ، رائحة إبنى كرائحة حقل باركه الرب . فليعطك الله من ندى السماء ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر ، ليستعبد لك شعوب ، وتسجد لك قبائل . كن سيدا لإخوتك ، وليسجد لك بنو أمك ، ليكن لاعنوك ملعونين ، ومباركوك مباركين " ( ع 26 – 29 ) .

أكل إسحق وشرب خمرا وطلب من إبنه أن يتقدم ويقبله قبلة الحب والأحترام ، لينال البركة الأبوية خلال فيض الشبع الذى ملأ حياة إسحق والرائحة الذكية التى عاشها كل أيام غربته . واشتم إسحق رائحة ثياب عيسو التى لبسها يعقوب ، فقد كانت ثياب عيسو الثمينة وسط روائح طيبة وقد أثارت فيه رائحة الحقول بزهورها وثمارها المبهجة ، لهذا بدأ البركة بقوله : " رائحة إبنى كرائحة حقل باركه الرب " . طالبا له ندى السماء الذى يحول الأرض القفر إلى جنة ، ودسم الأرض أى خصوبتها ، وأن يمنحه الرب حنطة وخمرا علامة الشبع والفرح ..

 

( 4 ) عيسو يحرم من البركة :

ربما يتساءل البعض : وما ذنب عيسو ليحرم من بركة إختلسها أخوه بتدبير أمهما رفقة ؟

يجاب على ذلك بأن عيسو كان متهاونا فيما بين يديه – البكورية – ففقد بغير إرادته البركة ...

إن صرخة عيسو العظيمة والمرة جدا تعنى أنه طلب البركة بدموع كما قال الرسول ( عب 12 : 17 ) لكنه لم يطلبها بمفهومها الروحى ، بل طلبها لأجل البركات الزمنية ، والدليل على ذلك أنه سأله أن ينال هو أيضا بركة ، قائلا : " أما أبقيت لى بركة ؟! " ( ع 36 ) . هى بركة واحدة خلالها ينعم بأن يأتى من نسله السيد المسيح ، فكيف يمكن أن تكون لأخين ؟! .

 

( 5 ) عيسو يحقد على أخيه :

إن كان عيسو قد حقد على أخيه لكننا لا ننكر شهامته ، فقد رفض أن يقتل أخاه من أجل كرامة شيخوخة أبيه ... متوقعا سرعة موت أبيه ولم يعلم أن أباه يعيش بعد ذلك سنوات طويلة .

طلبت رفقة من يعقوب أن يذهب إلى حاران ليتخذ من هناك زوجة له ، ولا يتزوج من بنات حث كما فعل عيسو أخوه ... وبهذا وجدت المنفذ لإبنها لينال البركة من أبيه قبل هروبه من وجه أخيه .

أخيرا حرمت رفقة من إبنها يعقوب كثمرها لتخطيطها البشرى وخداعها لرجلها .  

+  +  +

تكوين – الأصحاح الثامن والعشرون

يعقوب والسماء المفتوحة

إذ بارك إسحق إبنه يعقوب أوصاه – كطلب رفقة – أن ينطلق إلى خاله لابان ليتزوج من بناته زوجة له تقدر أن تسنده فى طريق إيمانه ولا يرتبط كأخيه ببنات حث الوثنيات ... وفى الطريق انفتحت السموات ليرى يعقوب سلما رأسه فى السماء وملائكة الله صاعدون ونازلون عليه ، والرب واقف عليه ... وإذ إستيقظ من نومه مسح الحجر الذى كان مستندا عليه ليكون عمودا فى بيت الله .

 

( 1 ) وصية إسحق ليعقوب

تيقنت رفقة وزوجها إسحق أن يعقوب هو وارث البركة ، وفيه تتحقق المواعيد ، الأمر الذى أوضحه أيضا إسحق بقوله له : " يعطيك بركة إبراهيم لك ولنسلك معك ، لترث أرض غربتك التى أعطاها الله لإبراهيم " ( ع 4 ) .

بسبب حقد عيسو فضل إسحق ورفقة أن ينطلق إبنهما إلى خاله ويقيم عنده " أياما قليلة " ، هذه الأيام القليلة امتدت حوالى 40 عاما ... خلالها ماتت رفقة ولم تنظر إبنها يعقوب .

بارك إسحق إبنه يعقوب قبل إنطلاقه إلى لابان خاله الذى وصفه الكتاب هكذا : " أخ رفقة أم يعقوب وعيسو " ( ع 5 ) ، هنا تدعى رفقة أم يعقوب إذ حسب البكر والمتمتع ببركة إبراهيم .

( 2 ) عيسو يتزوج إبنة إسماعيل :

رأى عيسو أن أخاه قد نال البكورية فالبركة ، وتثبت ذلك بإرساله إلى فدان آرام ليتزوج من بنات خاله ، كما شعر أن زواجه ببنات حث الوثنيات حرمه من الكثير لهذا عزم أن يتزوج من نسل إبراهيم ليسترضى والديه فأخذ لنفسه زوجة ثالثة هى محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت .

 

( 3 ) السلم السماوى :

والآن إذ انطلق يعقوب هاربا من وجه أخيه عيسو ، محروما من عاطفة والديه واهتمامهما ، صار فى الطريق وحده معرضا لمخاطر كثيرة ، وسط هذا الضيق وضع يعقوب رأسه على حجر واضطجع فى ذلك الموضع ليرى السموات مفتوحة ، وسلما سماويا منصوبا على الأرض رأسه يمس السماء ، الأمر الذى لم يكن ممكنا أن يشاهده حين كان مدللا فى الخيمة تهتم به والدته وتضع الوسائد الناعمة تحت رأسه !

وسط الضيق والحرمان يتجلى الله ليسد كل عوز ويعطى بفيض أكثر مما نسأل وفوق أن نطلب .

إن كان الحجر هو السيد المسيح فإننا لا ننعم به فى حياتنا ؛ إذا كنا نعيش مدللين نطلب الإتكاء على الآخرين ... أما السلم الذى رآه يعقوب فهو صليب ربنا يسوع المسيح الذى بالإيمان نرتفع خلاله لننعم بالسماء عينها ..

لا ننظر إلى الدرجات بل نطلع إلى فوق حيث الرب واقف فى انتظارنا ..

 

( 4 ) يعقوب وبيت الله :

فى رؤيتنا للكنيسة كبيت الله رأينا بيت إيل ، بكونه أول بيت لله أقامه الإنسان بعدما تمتع بالسماء المفتوحة ورأى السلم المنصوب على الأرض رأسه يمس السماء ، والملائكة صاعدين ونازلين عليه كما سمع الرب الواقف عليه يقول له :

" هــا أنــا معــك "

 فبكر يعقوب وقال :

" حقا ، إن الرب فى هذا المكان ! ... ما أرهب هذا المكان ! ... ما هذا إلا بيت الله ، وهذا باب السماء ! "

 ثم أخذ الحجر وأقامه عمودا وصب عليه زيتا ، ......

ودعى الموضع " بيت إيل " أى [ بيت اللــــه ] .

أراد الله أن يقدم للجماعة المقدسة خلال أبيهم يعقوب حقيقتين إيمانيتين ، هما : معيته معهم :  " ها أنا معك " ،

وانفتاح السماء على الأرضيين : فقد تمت المصالحة خلال السلم الحقيقى :

" صـليب ربنــا يســــــوع "

+  +  +

تكوين – الأصحاح التاسع والعشرون

زواج يعقوب بليئة وراحيل

إذ تمتع يعقوب بسلام الله خلال السلم أسرع نحو فدان آرام ، وهناك التقى براحيل عند بئر الماء ، وإذ خدم خاله لابان تزوج إبنتيه ليئة وراحيل .

 

( 1 ) لقاء مع راحيل

" ثم رفع يعقوب رجليه وذهب إلى أرض بنى المشرق " ( ع 1 ) .. كلما انفتحت أعيننا نحو السمويات ، أسرعنا فى الطريق للأتحاد مع الله فى ربنا يسوع المسيح له المجد .

" ونظر وإذ فى الحقل بئر وهناك ثلاثة قطعان غنم رابضة عندها ، لأنهم كانوا من تلك البئر يسقون القطعان ، والحجر على فم البئر كان كبيرا " ( ع 2 ) .

إذ كان يعقوب يتحدث مع الرعاة أبصر راحيل قادمة ومعها غنم خاله لابان ، فتقدم ودحرج الحجر عن فم البئر وسقى غنم خاله لابان ، وقبل يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى وأخبرها أنه أخو أبيها وأنه إبن رفقة ، فركضت وأخبرت أباها ... وإذ جاء لابان قال له : " إنما أنت عظمى ولحمى ، فأقام عنده شهرا " .

لعل دحرجة الحجر أيضا تذكرنا بما تم فى يوم قيامة  السيد المسيح من بين الأموات ، إذ قام والحجر على فم القبر ، لكنه بعث بملاكه يدحرج الحجر لنشرب من ماء بئر قيامته .. بدفننا معه وقيامتنا أيضا معه . 

 

( 2 ) يعقوب يخدم خاله :

إذ قضى يعقوب شهرا كضيف وكان يعمل فى بيت خاله لابان : " قال لابان ليعقوب : ألأنك أخى تخدمنى مجانا ؟‍ ‍ اخبرنى ما أجرتك ؟ .... ‍ ‍‍‍‍‍فقال اخدمك سبع سنين براحيل إبنتك الصغرى . فخدم يعقوب براحيل سبع سنين ، وكانت فى عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها " ( ع 15 – 20 ) .

كان يعقوب يمثل السيد المسيح الذى نزل إلى العالم كضيف وهو خالقه ، وكان لا يزال يعمل فى العالم من أجل الإبنة الصغرى راحيل أى كنيسة العهد الجديد ليقتنيها لنفسه عروسا .

 

( 3 ) زواجه بليئة وراحيل :

إذ أكمل يعقوب سبع سنين العمل كأيام قليلة طلب راحيل كزوجة حسب وعد أبيها ، وإذ أقام لابان وليمة ، قدم له فى المساء ليئة إبنته وأعطاه زلفة جارية لها ، وفى الصباح إذ اكتشف يعقوب خداع خاله له اعتذر له خاله :

" لا يفعل هكذا فى مكاننا أن نعطى الصغيرة قبل البكر ، أكمل أسبوع هذه فنعطيك تلك أيضا الخدمة التى خدمتنى أيضا سبع سنين أخر " ( ع 26 ، 27 ) .

لم يكن الخداع صعبا ، إذ كانت العروس تزف فى وليمة الزواج وهى مرتدية برقعا أحمر .... وفى الليل لم يكن سهلا أن يميزها حيث النور الخافت أو الظلام ...

يلاحظ أن السيد المسيح جاء من سبط يهوذا الذى ولدته ليئة ، إذ جاء السيد المسيح من الأمة اليهودية متجسدا .

ليئة وراحيل تشيران إلى الشعبين اليهودى والأمم .. والسيد المسيح كحجر الزاوية ربط الشعبين ، كقول الرسول :

" لأنه هو سلامنا الذى جعل الإثنين واحدا " ( أف 2 : 14 ) .

 

( 4 ) أولاد ليئة :

ليس بدون هدف فتح الرب رحم ليئة لتنجب ليعقوب رأوبين فشمعون ولاوى ثم يهوذا لتتوقف عن الولادة فقد نظر الله إلى مذلتها إذ كان يعقوب يحب راحيل ، فأعطى ليئة فرصة الإلتقاء برجلها ليحبها من أجل أولادها .

من ليئة جاء رأوبين البكر .. إذ كان اليهود كبكر فى عينى الرب حتى سحب الأمم منهم البكورية الروحية ، ومنها جاء لاوى حيث الكهنوت ، وأيضا يهوذا إذ جاء السيد المسيح من اليهود ... 

+  +  +


 

تكوين – الأصحاح الثلاثون

صراع فى حياة يعقوب

إن كان يعقوب قد دخل مع أخيه عيسو فى صراع وهما بعد فى الأحشاء ( 25 : 22 ) ، فقد قضى حياته كلها سلسلة لا تنقطع من الصراعات ، فقد صارع مع عيسو واختلس منه البكورية والبركة ، والآن ها هو فى أرض الغربة يعيش فى جو عائلى مملوء صراعا بين زوجتيه ليئة وراحيل ، ويدخل فى صراع مع أبيهما بسبب أجرته ، ويبقى هكذا كل حياته مصارعا .

 

( 1 ) صراع بين ليئة وراحيل

إذ كانت ليئة ضعيفة العينين ، أكبر سنا من راحيل وأقل منها جمالا أعطاها الرب أولادا حتى ينزع كراهية يعقوب لها ( 29 : 31 ) ، الأمر الذى أثار غيرة راحيل اختها فقالت لزوجها : " هب لى بنين وإلا فأنا أموت " ( ع 1 ) . فتمررت نفس يعقوب إذ يود رضى راحيل التى يحبها ، وها هى تطلب منه ما لا يستطيع ، لذا فى غضبه قال : " ألعلى مكان الله الذى منع عنك ثمرة البطن " ( ع 2 ) . وإذ قدمت له جاريتها بلهة لينجب لها بنينا خلالها دخل فى صراعات مستمرة بين راحيل وليئة .. كل منهما تود أن يكون لها بنين أكثر من الأخرى . أما سر هذا الصراع فهو :

أولا : ربما سمعت الزوجتان من يعقوب الكثير عن وعود الله لإبراهيم وإسحق ويعقوب وما يتمتع به نسلهم من ميراث لأرض الموعد وبركة بمجىء المخلص من نسلهم ، فكان الصراع يقوم على أساس شوق كل منهما أن يحظى نسلها بالوعد الإلهى ، ويتحقق فيه المواعيد الزمنية والروحية .

ثانيا : طلبت راحيل من ليئة أن تعطيها من لفاح إبنها ( ع 14 ) ، أجابتها : " أقليل إنك أخذت رجلى فتأخذين لفاح إبنى أيضا ؟! " ( ع 15 ) .. أما موضوع اللفاح الذى وجده رأوبين فى الحقل وجاء به إلى أمه ( ع 14 ) فهو نبات يسمى " تفاح الجن " أو [ تفاح المحبة ] ، شكله كالتفاح يسمى أيضا " اليربوح " وكان الأعتقاد سائدا أنه يجلب محبة الزوج لزوجته إذا أكلت منه .

ثالثا : من جهة راحيل فقد إمتلأت من جهة اختها التى انجبت أربعة بنين بينما هى عاقر ... وقد سمح الله بعقر راحيل ليعطى فرصة لأنفتاح قلب يعقوب من جهة ليئة ، ولتكون رمزا لكنيسة العهد الجديد التى جاءت من الأمم الذين كانوا قبلا بلا ثمر روحى ، وقد وهبها أبناء ، إذ يقول الكتاب : " وذكر الله راحيل وسمع لها الله وفتح رحمها ، فحبلت وولدت إبنا فقالت : قد نزع الله عارى ، ودعت إسمه يوسف قائلة : يزيدنى الرب إبنا آخر " ( ع 22 ، 23 ) . صارت رمزا لكنيسة العهد الجديد التى انجبت يوسف ، ويعنى ( نمو ) أو ( زيادة ) إذ تطلب حياة النمو بلا انقطاع ، وتشتاق أن تثمر على الدوام !

عندما ألقت راحيل رجاءها على الله ، عندما فشلت الطرق البشرية البحتة خارج دائرة الأيمان ، عندئذ فتح الله رحمها  ووهبها بنين  .....

فيما يلى بيان بأبناء يعقوب ومعنى أسمائهم وعلة التسمية

الأم

الأسم

معناه

علة التسمية

ليئة

رأوبين

إبن الرؤيا

الرب رأى مذلة ليئة ( 29 : 32 )

ليئة

شمعون

مستمع

الرب سمع أنها مكروهة ( 29 : 33 )

ليئة

لاوى

مقترن بى

الآن يقترن بها رجلها لأنها ولدت 3 بنين

ليئة

يهوذا

يحمل ( يعترف )

أحمد الرب لأنه وهبها 4 بنين ( 29 : 35 )

بلهة

دانا

يدين ( يقضى )

قضى الرب لراحيل وأعطاها إبنا من جاريتها ( 30 : 6 )

بلهة

نفثالى

متسع

أعطاها الرب غلبة ( اتساعا ) بانجاب جارتها ثانية 30 : 8

زلفة

جاد

متشدد

صارعت ليئة بكثرة البنين ( 30 : 11 ) .

 زلفة

اشير

سعيد ( مغبوط )

صارت ليئة مغبوطة ( 30 : 13 ) .

ليئة

يساكر

جزاء

أعطانى الله جزائى ( اجرتى ) 30 : 18 )

ليئة

زبولون

مسكن

الآن يساكننى رجلى لأنى ولدت له 6 بنين ( 30 : 21 ) .

راحيل

يوسف

يزيد

يزيدنى الرب إبنا آخر ( 30 : 24 ) .

راحيل

بنيامين

إبن اليمين

دعته أمه وهى تلد " إبن أوانى " أى ( إبن حزنى ) بسبب شدة الألم ، أما يعقوب فدعاه " بنيامين " .......

 

هكذا بدأ نسل يعقوب بالبكر جسديا رأوبين الذى يعلن أن الله رأى مذلتنا فوهبنا ثمرا ، ويظل يهبنا حتى ننعم ببنيامين ، أى نبلغ خلال الألم إلى يمين الله شركاء فى المجد الأبدى .

ويلاحظ بعض الآباء :

أولا : جاء الترتيب هنا بحسب السن ، أما التعداد الوارد فى سفر الرؤيا فجاء الترتيب هكذا : أبناء ليئة فأبناء راحيل ثم أبناء الجاريتين دون التزام بتاريخ ميلادهم . وكأن الله أراد أن يؤكد أن الأمجاد الإلهية لا تعطى بحسب السن إنما حسب النمو الروحى والأتحاد العملى مع الله .

ثانيا : رأى بعض الآباء أن الأثنى عشر إبنا كان لهم أخت واحدة " دينة " من ليئة ( ع 21 ) ، أو على الأقل لم يذكر الكتاب سواها ، دينة هذه وهى وحيدة بسببها دخل يعقوب وأولاده فى صراع مع أهل شكيم ( ص 34 ) ، وكأن الجسد ما لم يضبط ويتقدس يفسد سلام الروح ويفقدها ثمرها المتكاثر .

 

( 2 ) يعقوب يطلب أجرته :

ما إن بدا الأستقرار العائلى بسبب انجاب الزوجتين ، هنا بدا يعقوب يفكر فى العودة إلى أرض كنعان ، قائلا للابان خاله :

" اصرفنى لأذهب إلى مكانى وإلى أرضى ، أعطنى نسائى وأولادى الذين خدمتك بهم فأذهب ، لأنك أنت تعلم خدمتى التى خدمتك " ( ع 26 ) .

 كانت هذه الكلمات تحمل شيئا من العتاب الحازم ، فقد قضى 14 سنة يخدمه ليتزوج بنتيه ، وحوالى ست سنوات لا يأخذ شيئا سوى طعامه وزوجتيه وأطفاله ، والآن يخرج ومعه إحدى عشر إبنا وأيضا إبنه ومعه زوجتاه لا يملك شيئا من الغنم .

كان لابان يدرك بركة الرب العاملة فى بيته بسبب يعقوب ، إذ يقول له : " ليتنى أجد نعمة فى عينيك ، قد تفاءلت فباركنى الرب بسببك " ( ع 27 ) .

 " وقال : عين لى أجرتك فأعطيك " ( ع 28 ) . هنا طلب يعقوب أن تكون له كل شاة بلقاء ( أى تكون النقط السوداء والبيضاء منتشرة بالتساوى تقريبا ) ورقطاء ( أى سوداء يشوبها نقط بيضاء ) وسوداء ، وأيضا كل معزى بلقاء ورقطاء .. وهذه الأصناف كانت قليلة فى الشرق ، فاختار لنفسه القليل ليترك الكثير للابان .

إذ أفرز يعقوب ما اتفق عليه مع لابان وصار بين قطيعه وقطيع خاله " مسيرة ثلاثة أيام " ( ع 36 ) ، أى حوالى 40 ميلا ، هذا يكشف مدى الغنى الذى وصل إليه لابان ، هذا الذى لم يكن له إلا قطيعا صغيرا تقوده إبنته الصغرى راحيل لتسقيه فى يوم مجىء يعقوب من بيت أبيه .

بالحياة الجديدة التى لنا فى المسيح يسوع يكون لنا غنى روحى وفيض بتقديس حواسنا وعواطفنا ومواهبنا وكل طاقاتنا لحساب مملكته ! .

+  +  +

تكوين – الأصحاح الحادى والثلاثون

العودة إلى كنعان

إن كان يعقوب يشير إلى السيد المسيح فإنه يضم إليه كنيسة العهد الجديد ( راحيل ) بأبنائها وكنيسة العهد القديم ( ليئة ) بأبنائها ليحمل الكل معا إلى كنعان السماوية ... لكن لابان الوثنى الذى يمثل إبليس لا يستطيع أن يقبل هذا الموكب السماوى فينطلق بجنوده ليعوقه فيفشل تماما .

 

( 1 ) هروب يعقوب  1 : 21

شعر بنو لابان أن يعقوب أخذ كل ما كان لأبيهم وصنع لنفسه كل هذا المجد ( ع 1 ) ، الأمر الذى جعل وجه لابان يتغير بالنسبة ليعقوب .. فى ذلك الوقت " قال الرب ليعقوب أرجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك ، فأكون معك " ( ع 3 ) .

أدرك يعقوب أن ما يمر فى حياته ليس جزافا أو محض الصدفة إنما بتدبير إلهى وسماح إلهى حتى تتحقق غاية الله فيه ، إن كان ما أظهره لابان وبنوه كان بدافع الحسد بروح شرير لكن يعقوب تلمس إن ما حدث جاء فى الوقت المناسب . الأمر الذى لمسه الرسول بولس فقال : " نحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله " ( رو 8 : 28 ) .

أرسل يعقوب ودعا زوجتيه إلى الحقل لتريا غناه ، وكشف لهما بروح التفاهم كيف غدر به لابان أبوهما وحنث بوعده معه .. وأخيرا فقد دعاه الله للعودة إلى أرض ميلاده وهو ملتزم بالطاعة .. وكأن يعقوب بأحاديثه السابقة مع زوجتيه قد هيأ قلبيهما وذهنيهما لقبول الخروج طاعة لله ..  إذ كان ختام حديثهما معه :

 " كل ما قال الله لك أفعل " ( ع 16 ) .

شعرت راحيل وليئة أن أباهما عاملهما كغريبتين ، فعوض أن يهبهما مما له باعهما بخدمة رجلهما الأمين سبع سنوات فسبع أخر ... فصارتا مشجعتين ليعقوب على الرحيل .

للحال : " قام يعقوب وحمل ألاده ونساءه على الجمال ، وساق كل مواشيه وجمع مقتناه الذى قد اقتنى ، مواشى اقتنائه التى اقتنى فى فدان آرام ليجىء إلى إسحق أبيه إلى أرض كنعان .. فهرب هو وكل ما كان له وقام وعبر النهر وجعل وجهه نحو جبل جلعاد " ( 17 – 21 ) .

لنشعر نحن أيضا بذات شعور هاتين الزوجتين ، لنقل معهما أن أبينا القديم عدو الخير قد عاملنا كغرباء وباعنا إذ سلبنا حياتنا وحريتنا وأمجادنا ها هو يخاتل لكى يأسرنا فى ملكوته ... لنهرب مع يعقوبنا من سلطانه ، ولننطلق بالروح القدس عابرين مياة المعمودية لندخل إلى أبينا الجديد الآب السماوى القدوس فننعم بميراثه عوض ميراث أبينا القديم المهلك ! .

 

( 2 ) لابان يسعى وراء الموكب : 22 – 25

إن كان يعقوب قد انطلق كهارب من وجه لابان ، لكنه كان يقود موكب الكنيسة المجاهدة والمنتصرة به وفيه ، وكما يقول القديس بولس :

" ولكن شكرا لله الذى يقودنا فى موكب نصرته فى المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته فى كل مكان " ( 2 كو 2 : 14 ) .... هذا الموكب يثير عدو الخير الذى لا يستطيع تحمل أن يرى السيد المسيح حاملا البشرية ، بل يتعقبه .

كان لابان – كممثل لعدو الخير – يجز غنمه ، فإن كان ابليس يبذل كل الجهد ليقتنى كل نفس كغنمة له إنما ليجزها ويأخذ صوفها لحساب مملكته . إنه مستغل لتابعيه !

إذ عرف لابان بهروب يعقوب فى اليوم الثالث : " أخذ أخوته معه وسعى وراءه مسيرة سبعة أيام ، فأدركه فى جبل جلعاد ، وأتى الله إلى لابان الأرامى فى حلم الليل ، وقال له : احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر " ( ع 23 ، 24 ) .

إن كان العدو قد ادرك موكب نصرتنا حينما عرف عن السيد المسيح كواهب القيامة – فى اليوم الثالث – فإنه عوض أن يتراجع أخذ أخوته معه وانطلق وراءنا سبعة أيام ، أى يحاربنا طوال أيام الأسبوع بلا راحة .. لم تكن الحرب بين يعقوب ولابان ، بل هى بين مملكة الله ومملكة الشيطان .

 

( 3 ) يطلب ما له فينا :

عاتب لابان يعقوب أنه رحل دون أن يقوم لابان بمراسم التوديع المعتادة ، وفى الحقيقة أنه كان يسعى لعرقلة تحركه .. على أى الأحوال كان السؤال الرئيسى بعد تحذير الله له : " لماذا سرقت آلهتى ؟! " ( ع 30 ) .  وكانت إجابة يعقوب :

 " الذى تجد آلهتك معه لا يعيش ؛ قدام اخوتنا انظر ماذا معى وخذه لنفسك " ( ع 32 ) .

لم يعلم يعقوب أن راحيل كانت قد سرقت آلهة أبيها .. ووضعتها فى رحل الجمل وخبأتها وجلست عليها مدعية أنها غير قادرة على الوقوف بسبب مرضها الشهرى .

[ بسبب حكم أبونا يعقوب الذى أصدره بالموت على سارق الأصنام .. وقد سجل هذا الحكم فى السماء .. من فم البطريرك يعقوب .. ماتت راحيل قبل بلوغها افراتة ..

( 35 : 16 – 20 ) .. وهكذا كان سلطان الحل والربط الذى للآباء الكهنة معمولا به منذ القديم ... ] .

 لم يكن ممكنا أن الأرض التى سيولد فيها المسيح تدخلها أصنام لابان !!

احتج يعقوب على لابان مشهدا القوم على أمانته له فى خدمته كل هذه العشرين عاما .. ( ع 37 – 41 ) .

 

( 4 ) قطع العهد :

 رأى لابان أنه من الحكمة أن يقيم عهدا مع يعقوب صهره حتى لا يسىء أحدهما إلى الآخر ، وقد أقام يعقوب عمودا ، ثم عملوا رجمة ( كومة ) من الحجارة ليأكلوا عليها وليمة مصالحة ، ويكون العمود والرجمة شهادة وتذكارا للميثاق الذى قطعاه .

إن هذا العمود يشير إلى صليب ربنا يسوع الذى ارتفع على جبل الجلجثة مقدما جسده ودمه ذبيحة حب لنا .

 

( 5 ) انصراف الفريقين :

" ثم بكر لابان صباحا وقبل بنيه وبناته وباركهم ومضى ورجع لابان إلى مكانه " ( ع 55 ) .

لقد وضع لابان قلبه فى حاران ووضع يعقوب قلبه فى أرض الموعد ..فأعطى الله لكل واحد سؤل قلبه ، الله لا يحابى إنسانا ، ... .

+  +  +

تكوين – الأصحاح الثانى والثلاثون

الاستعداد لملاقاة عيسو

إن كان يعقوب قد ارتبك جدا وخاف من لقائه مع عيسو ، لكن الله هيأ قلبه لهذا اللقاء بظهوره لخاله لابان مؤكدا له أنه هو الحافظ له والمدبر لحياته ، وفى الطريق ظهر الله له وسمح له بمصارعته ليهبه إسما جديدا تحمله كنيسة العهد القديم عبر الأجيال .

 

( 1 ) يعقوب مع ملائكة الله :

" وأما يعقوب فمضى فى طريقه ولاقاه ملائكة الله ، وقال يعقوب إذ رآهم : هذا جيش الله ، فدعا إسم ذلك المكان محنايم " ( ع 1 ، 2 ) .

يعقوب يمثل الكنيسة المتغربة على الأرض تنطلق بقلبها وبأعضائها وبكل ما لها نحو حضن الآب بالروح القدس خلال إتحادها فى المسيح يسوع رأسها وثبوتها فيه ، تسير مختفية فى مسيحها ومستندة أيضا . بجيشه ( ملائكة الله ) . هذا ما نظره يعقوب ، إذ قال : " هذا جيش الله " ...

 فنحن نسير فى موكب إلهى ترافقنا الملائكة المحبين لخلاصنا .

 

( 2 ) يعقوب يبعث رسلا لأخيه :

إن كان الله قد أعطى يعقوب درسين ، الأول خلال ظهوره للابان القادم إليه ليصنع به شرا إذ أوقفه عن هذا العمل ، والثانى بظهور ملائكة الله له ، فإن يعقوب فى ضعفه البشرى كان يخاف غضب أخيه فأرسل إليه رسلا ليختبر شعوره من نحوه .

سمع عيسو الرسالة وكان غنيا جدا حتى خرج للقاء أخيه ومعه أربعمائة رجل من عبيده ، الأمر الذى أرعب قلب يعقوب فضاق به الأمر ( ع 7 ) ، ففكر فى تقسيم موكبه إلى جيشين حتى إذا هاجم عيسو الجيش الأول يهرب الآخر ، كما فكر فى تقديم هدية محبة إسترضاء لأخيه .

لا يلام يعقوب فى تدبيره للأمر ، خاصة وأنه عمل بحكمة وفى إتضاع ، لكنه يلام على عدم إستشارته الرب ! .

 

( 3 ) يعقوب يلجأ لله إله أبيه :

 إذ ضاق الأمر بيعقوب وخشى أخاه عيسو التجأ إلى الله بالصلاة وجاءت صلاته قوية وفعالة ، إذ اتسمت بالآتى :

أولا : يتحدث مع الله خلال العلاقة الشخصية فيدعوه : " يا إله أبى إبراهيم وإله أبى إسحق " ( ع 9 ) .

ثانيا : يذكر الله بمواعيده وثقة يعقوب فى هذه المواعيد : " الرب الذى قال لى إرجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأحسن إليك " ( ع 9 ) ..

ثالثا : يشعر فى صلواته بالضعف أمام غنى محبة الله الفائقة ، وكأنه يخجل أن يطلب بعد شيئا ، إذ يقول :

" صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك " ( ع 10 ) .

رابعا : يقول يعقوب : " فإنى بعصاى عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين " ( ع 10 ) .. لا ينسى فضل الله عليه ، بدلا من العصا التى خرج بها من بيت أبيه ، يعود الآن بجيشين عظيمين ! ما هذه العصا إلا رمز للصليب الذى يحمله المؤمن كسر قوته ..

أخيرا سأل الله أن ينجيه ! ليتنا لا نعرض مشاكلنا ومتاعبنا واحتياجاتنا إلا بعد تقديم ذبيحة الشكر لله والتمتع بحديث ودى معه واستعراض أعماله العجيبة معنا !

 

( 4 ) يعقوب يرسل هدية لأخيه :

بحكمة بعث يعقوب إلى أخيه هدية ، ومع الهدية قدم إتضاعا ، إذ طلب من حاملى الهدايا أن يقولوا : " لعبدك يعقوب هو هدية مرسلة لسيدى عيسو ، وها هو أيضا وراءنا " ( ع 18 ) ،........

 " وتقولون : هوذا عبدك يعقوب أيضا وراءنا ، لأنه قال أستعطف وجهه بالهدية السائرة أمامى وبعد ذلك أنظر وجهه ، عسى أن يرفع وجهى " ( ع 20 ) .

 

( 5 ) يعقوب يصارع مع الله :

" فبقى يعقوب وحده ، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر " ( ع 24 ) .

إذ اجتاز يعقوب وأسرته نهر يبوق انفرد للخلوة ، وكأنه كان يستعد لملاقاة عيسو خلال لقائه مع الله ، وقد ظهر له إنسان ، يرى غالبية الدارسين أنه ملاك على شكل إنسان ، وليس كلمة الله ، لكنه يمثل الحضرة الإلهية ، إذ يقول يعقوب :

" لأنى نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسى " ( ع 30 ) ، كما قيل له : " لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت " ( ع 28 ) .

" ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه ، فانخلع حق فخذ يعقوب فى مصارعته معه " ( ع 25 ) ....  الأمر الذى بدأ فيه الملاك كمن هو مغلوب والإنسان كغالب ، فضربه على حق فخذه ضربة خفيفة حتى جاءت فى بعض الترجمات : " لمس حق فخذه " ،.........

 وكان يعقوب يصر : " لا أطلقك إن لم تباركنى " ( ع 26 ) .

 إذ أدرك أنه كائن سماوى .

لماذا صارع يعقوب معه وأمسك به ؟

لأن " ملكوت السموات يغصب والغاصبون يختطفونه " ( مت 11 : 12 ) .

إنتهى الجهاد بسؤال مشترك ، سأل الملاك يعقوب عن إسمه لا لجهله بالأسم وإنما لكى يغيره إلى إسم جديد يليق به كمجاهد ، إذ يقول له : ( ع 28 )

" لا يدعى إسمك فى ما بعد يعقـوب بل إسرائيل ، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت "

قدم له الأسم الجديد للشعب الجديد ، وكأن هذه العطية لم توهب ليعقوب فى شخصه وإنما لكل شعب الله علامة جهادهم الروحى .

دعى يعقوب الموضع الذى تم فيه هذا الصراع : " فنيئيل " أى ( وجه اللــه ) ، إذ حسب نفسه مغبوطا أن يرى الله وجها لوجه وتنجو نفسه ... وإذ أشرقت الشمس انطلق يعقوب ليلحق بأسرته متشددا بهذه الرؤى وهذا الجهاد .

+  +  +  


 

تكوين – الأصحاح الثالث والثلاثون

لقاء يعقوب مع عيسو

إن كان يعقوب قد دبر الأمر لملاقاة أخيه عيسو بالصلاة وتقديم هدايا وتقسيم أسرته إلى جيشين ، فإن الله من جانبه هيأ قلب عيسو فأشعل فيه مشاعر الأخوة وألهب فيه الحنين نحو لقاء أخيه .

 

( 1 ) لقاء الأخوين :

تطلع يعقوب فرأى أخاه قادما من بعيد ومعه رجاله فخاف ، وقسم عائلته هكذا :

يبدأ الموكب بالجاريتين وأولادهما ثم ليئة وأولادها وأخيرا راحيل وابنها يوسف ، أما هو فتقدم الكل وسجد إلى الأرض سبع مرات قبل لقائه بعيسو .

هذا التدبير كشف عن قلب يعقوب فمن جهة وضع راحيل المحبوبة لديه مع إبنها فى آخر الموكب ليعطيها قدر من الأمان أكثر من الآخرين ..

وأما هو فتقدم الكل وكأنه يقدم نفسه فدية عن الجميع حتى عن جاريتيه .

هكذا يليق بالمسيحى أن يحمل هذه الروح ، روح البذل عن الجميع ، فيكون كسيده السيد المسيح له المجد ، الذى تقدم الخراف بكونه الراعى الصالح الذى يبذل نفسه عن الخراف الناطقة .

قاد يعقوب الموكب لا بروح التشامخ والعنف بل بروح الأتضاع إذ كان يسجد لأخيه سبع مرات علامة كمال الخضوع .

إن كان يعقوب قد اغتصب البكورية والبركة وتمتع بمواعيد الله لأبيه إبراهيم وأبيه إسحق ، لكن الكتاب لم يتجاهل ما حمله أخوه من طيبة قلب ورقة شعور ، الأمر الذى ظهر خلال التصرفات التالية :

أولا : إذ رأى عيسو أخاه حنت أحشاؤه نحوه ، إذ يقول الكتاب : " فركض للقائه ووقع على عنقه وقبله ، وبكيا " ( ع 4 ) ... وكأنه قد نسى الماضى بما يحمله من حقد وحسد !

ثانيا : كشف عن حبه بسؤاله بدالة أخوية عن هذا العدد الكبير الذى قدم مع يعقوب ، وهنا يعترف يعقوب أنها نعمة الله الواهبة كل شىء .

ثالثا : يبدو أن عيسو حاول الأعتذار عن تقبل الهدية التى قدمها له أخوه يعقوب بل أراد أن يستضيفه هو وعائلته ... وقد قابل يعقوب هذه المشاعر بروح الأتضاع والحكمة ، إذ قال له :

" إن وجدت نعمة فى عينيك تأخذ هديتى من يدى " ( ع 10 ) . وكأنه يعتذر عن الماضى ويسأله أن يعلن رضاه عنه بقبوله الهدية ، وبحكمة يقول : " لأنى رأيت وجهك كما يرى وجه الله فرضيت على " ( ع 10 ) ، رأيت فيك صورة الله الذى يقابلنا بالحب ويعلن رضاه ومحبته لعبيده . وقد ألح يعقوب على عيسو ليقبل الهدية فقبلها .

رابعا : إذ اعتذر يعقوب بأن أولاده صغار وغنمه مرهقة فهو مضطر إلى الإبطاء فى الحركة ، سائلا عيسو أن يتقدمهم ، أراد عيسو أن يترك من رجاله من يسندونه ويرشدونه .

 

( 2 ) يعقوب فى سكوت وشكيم :

ارتحل يعقوب إلى " سكوت " وتعنى " مظال " ، وهى تقع شرقى الأردن جنوب نهر يبوق بحوالى ميل .

بعد سكوت إنطلق إلى شكيم فى أرض كنعان ، وهناك اشترى حقلا من بنى حمور ..

أول عمل قام به يعقوب عند عودته أرض كنعان هو إنشاء مذبح للرب ، إذ قيل :

" وأقام هناك مذبحا ودعاه إيل إله إسرائيل " ( ع 20 ) . أى دعاه :

[ الله إله إسرائيل ]  ،  فقد جاء ليستقر فى حضن الله خلال الذبيحة المقدسة .

ليكن لنا فى قلبنا مذبح للرب ، فتكون أعماقنا كنعان الروحية التى يتجلى الله فيها خلال ذبيحة الصليب !

+  +  +  


 

تكوين – الأصحاح الرابع والثلاثون

دينة وأهل شكيم

عاد يعقوب إلى كنعان ومعه أحد عشر إبنا كما كان معه دينة من زوجته ليئة ، إذ خرجت دينة لتنظر بنات الأرض ، اعتدى عليها شكيم بن حمور الأمر الذى أثار نفس أولاد يعقوب فقتلوا أهل شكيم وسبوا نساءهم وأطفالهم وسلبوا أموالهم ، فتكدر يعقوب جدا .

 

( 1 ) اعتداء شكيم على دينة :

" وخرجت دينة إبنة ليئة التى ولدتها ليعقوب لتنظر بنات الأرض ، فرآها شكيم بن حمور الحوى رئيس الأرض وأخذها واضطجع معها وأذلها " ( ع 1 ، 2 ) .

خرجت دينة كفتاة ترى بنات الأرض أى بنات العالم لتتمثل بهن فى تصرفاتهن العالمية ففقدت بتوليتها وحريتها ، وأذلها العالم .

هناك فرق بين سارة التى كانت فى الخيمة ، وراء ابراهيم ... وبين دينة التى كانت بالخارج فى العالم ..

الأولى تمتعت مع زوجها بالوعد الإلهى ، أما دينة ففقدت سلامها وحطمت نفسها .

 

( 2 ) حمور يطلب دينة لإبنه :

توجه حمور إلى يعقوب يطلب إبنته دينة زوجة لإبنه شكيم ، بعد أن أفسدها هذا الأخير ، الأمر الذى صدم يعقوب فصمت ( ع 5 ) منتظرا مجىء أخوتها من الحقل ليخبرهم بالأمر ، فحسبوا ذلك نجاسة فى إسرائيل . وتزعم شمعون ولاوى عملا بعيدا عن الإنسانية .

ظن حمور أنه يعوض يعقوب عن شرفه بتقدمه لتزويج شكيم من دينة ، يحذرنا بولس الرسول : " أية شركة للنور مع الظلمة " ( 2 كو 6 : 14 ) .

 

 

( 3 ) إجابة بنى يعقوب بمكر :

إن كان حمور قد أخطأ إذ حسب الزواج صفقة تجارية ، يستطيع بأرضه وماله أن يقتنى دينة ، فإن بنى يعقوب خاصة شمعون ولاوى قد أخطأوا بمكرهم واستغلالهم الدين كفرصة للأنتقام بطريقة غير إنسانية .. طلب شمعون ولاوى من حمور أن يختتن هو وابنه وكل رجال المدينة حتى يحق لهم الدخول معهم فى مصاهرات ويصير الكل عائلة واحدة ، وإذ اختتنوا استل شمعون ولاوى سيفهما وقتلوا كل المختونين فى اليوم الثالث ، وأخذا دينة أختهما من بيت شكيم وخرجا ، وقد استغل أخوتهما الأمر فقاموا بقتل الكثيرين ونهب المدينة وسبى الأطفال والنساء .

إنها بلا شك جريمة وحشية أزعجت نفس يعقوب وكدرته ، إذ خاف لئلا تجتمع الأمم المجاورة معا وتنتقم لأهل شكيم ، خاصة وأنه غريب ويمثل نفرا قليلا .

إن كان يعقوب قد ألقى باللوم على إبنتيه لمكرهما ، ففى الواقع إنما يشرب من ذات الكأس التى مزجها ، لقد سبق فاستخدم مكره فى اغتصاب البركة من أبيه ، فصارت حياته سلسلة لا تنقطع من المرارة بسبب مكر الآخرين وغدرهم به ، حتى وإن كان هؤلاء الآخرون هم أبناءه . تصرف يعقوب بمكر فغدر به لابان عشر مرات ، والآن يتكدر بسبب مكر إبنيه ، ويبقى يعقوب حتى الشيخوخة يحصد مما زرعه .

+  +  +   

تكوين – الأصحاح الخامس والثلاثون

إرتحال يعقوب إلى بيت إيل

بلا شك عاش يعقوب كل أيامه فى فدان آرام يحلم باليوم الذى يعود فيه إلى بيت إيل ، حيث رأى السلم السماوى وأحس برهبة بيت الله ونذر لله نذرا ... والآن يحقق له الله شهوة قلبه إذ يدعوه للصعود إلى بيت إيل .

 

( 1 ) إرتحال يعقوب إلى بيت إيل :

" ثم قال الله ليعقوب قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك واصنع هناك مذبحا لله الذى ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك " ( ع 1 ) .

كانت دعوة الله ليعقوب أن يصعد إلى بيت إيل ليقيم هناك ويصنع مذبحا لله . ويلاحظ فى هذا العمل الآتى :

أولا : طلب يعقوب من بيته أن يعزلوا الآلهة الغريبة مثل الترافيم التى سرقتها راحيل من لابان أبيها ، والآلهة التى ربما كانت مع عبيده قبل أن يدخلوا فى العهد الإلهى ، والتماثيل التى يحتمل أن يكون أولاده قد نهبوها من شكيم ... فإنه لا يمكن أن يعلن تقديس بيت الله ( بيت إيل ) ما دامت الجماعة غير مقدسة !

ثانيا : طلب يعقوب أيضا من بيته أن يبدلوا ثيابهم ، فإن كان نزع الآلهة الغريبة يشير إلى تقديس النفس ، فتطهير الثياب يشير إلى نقاوة الجسد .

ثالثا : قدم الكل الأقراط التى فى آذانهم مع الآلهة الغريبة ليطمرها يعقوب تحت البطمة التى عند شكيم ... يرجح أن هذه الأقراط لم تكن تستخدم للزينة فحسب وإنما كانت تستخدم لأغراض دينية خرافية كجلب الخير وابعاد الحسد الخ .......

رابعا : إذ انتقل يعقوب إلى بيت إيل لم يجسر أحد من الأمم المجاورة أن يقتفى أثره ، إذ " كان خوف الله على المدن التى حولهم " ( ع 5 ) شعرت الأمم برهبة الله فى حياة يعقوب المختفى فى بيت الله فلم تقدر أن تطارده .

خامسا : إذ انطلق موكب يعقوب إلى بيت إيل قيل : " وماتت دبورة مرضعة رفقة ودفنت تحت بيت إيل تحت البلوطة فدعا إسمها ألون باكوت " ( ع 8 ) لم يحدث هذا مصادفة ، ولا سجل الكتاب هذا الحدث بلا معنى ، فقد أراد الله أن تدفن دبورة مرضعة رفقة فى بيت إيل تحت البلوطة التى سميت ألون باكوت أى بلوطة البكاء .

فى بيت الرب يجتمع الكل المجاهدون الذين لا زالوا على الأرض يكملون أيام غربتهم مع اخوتهم الذين سبقوهم فى الجهاد ، ليكون الكل كنيسة واحدة ، بيتا واحدا للرب .

دفن يعقوب مربية أمه رفقة التى قدمتها لها عائلتها كهدية يوم خطبتها ( تك 24 : 59 ) ، وكان للمرضعات منزلة كبيرة واحترام يقترب من منزلة الأم واحترامها . يرى البعض أن دبورة قد ماتت فى سن المئة والثمانين ، احضرها يعقوب من بيت أبيه إسحق فى حبرون ، ويبدو أن يعقوب زار أباه أكثر من مرة وأستأذنه أن يأخذ دبورة لينال بركتها كأم لوالدته التى يحتمل أن تكون قد ماتت قبل مجيئه إلى كنعان من عند خاله لابان .

سادسا : الآن ينعم يعقوب بظهور إلهى وتأكيد لتجديد اسمه وتجديد الوعود الإلهية ، إذ يقول الكتاب : " وظهر الله ليعقوب ... ، وقال له الله : إسمك يعقوب ، لا يدعى إسمك فيما بعد يعقوب بل يكون إسمك إسرائيل ... وقال له الله : أنا الله القدير ، اثمر واكثر ، أمة وجماعة أمم تكون منك ، وملوك سيخرجون من صلبك ، والأرض التى أعطيت إبراهيم وإسحق لك أعطيها ، ولنسلك من بعدك أعطى الأرض " ( ع 9 : 11 ) .

سابعا : أخيرا قام يعقوب بتدشين أول بيت لله بعد السقوط ، إذ قيل : " فنصب يعقوب عمودا فى المكان الذى فيه تكلم معه ، عمودا من حجر وسكب عليه سكيبا وصب عليه زيتا " ( ع 11 ) . قدم يعقوب عمودا حجريا وسكيبا من الخمر وزيتا .. فتقبلهم الله من يدى يعقوب ليجعل من الموضع مسكنا له ولملائكته ، هذا الذى لا تسعه السماء ولا الأرض ، إنه من قبيل تنازله يقبل هذا الموضع كعلامة حلوله وسط شعبه والتصاقه بأولاده ودخوله بالحب فى حياتهم .

 

( 2 ) ولادة بنيامين وموت راحيل :

إذ رحل يعقوب وكل موكبه من بيت إيل متجها نحو افراته ، على بعد حوالى ميل واحد شمالى افراته ولدت راحيل وتعسرت فى الولادة ، وكان عند خروج نفسها لأنها ماتت دعت إبنها " إبن أونى " أى ( إبن حزنى ) بسبب شدة ما قاسته من آلام وأخزان ، أما أبوه فدعاه بنيامين ، الذى يعنى ( إبن اليمين ) . وقد دفنت راحيل هناك بجوار بيت لحم ، فنصب يعقوب عمودا على قبرها ، ولا يزال قبرها موجودا للآن .

 

( 3 ) خطية رأوبين

بعد موت راحيل رحل إسرائيل إلى وراء مجدل عدر أى برج عدر أو برج القطيع ، وهو موضع يقع فى سهل الرعاة شرقى بيت لحم بنحو ميل ... فى ذلك الحين تجاسر رأوبين الإبن البكر ليضطجع مع بلهة جارية راحيل التى أعطتها ليعقوب لينجب لها بنين ... وبسبب هذا الدنس فقد رأوبين بركة الباكورية ... الأمر الذى يذكره يعقوب بمرارة وهو على فراش الموت ( تك 49 : 14 ) .

ما فعله رأوبين الإبن البكر ، إنما يشير إلى عمل عدو الخير الذى كان قبلا كوكب الصبح وقد وهبه الله إمكانيات وهبات فائقة ، لكن فى كبرياء قلبه غرر بالإنسان ليسحب منه قلبه ، مسكن الله ، ليحتله إبليس كمغتصب ومدنس للفراش ! .

 

( 4 ) موت إســـحق :

مات إسحق وعمره مئة وثمانون سنة .. وانضم إلى قومه شيخا وشبعان أياما ( ع 29 ) .

إن كان إسحق قد عاش هذا العمر لكنه قدم ثمار سنوات كثيرة ، فالعمر لا يحسب بالسنوات وإنما بالحياة العملية التقوية .

+  +  + 

تكوين – الأصحاح السادس والثلاثون

نسل عيسو

إذ مات إسحق ودفنه عيسو ويعقوب إبناه قدم لنا الكتاب المقدس قوائم بنسل عيسو والأمراء الخارجين منه ، ونسل سعير وملوك آدوم ... وقد جاءت القوائم مختصرة حتى يمكن للمؤمن أن يتفهم الأحداث الواردة بعد ذلك عبر العصور بمعرفته لأصل كل شعب أو أمة ، هذا وقد دخلت هذه الشعوب فى الإيمان عندما جحد إسرائيل القديم مسيحه .

 

( 1 ) نساء عيسو :

سبق أن وردت أسماء نساء عيسو فى ( تك 26 : 34 ، 35 ؛ 28 : 9 ) ، أما سبب الأختلاف بين القائمة الواردة هنا وما ورد قبل ذلك فهو حمل بعضهن أكثر من إسم ، وهذه عادة كانت سائدة بين الرجال والنساء كدعوة عيسو آدوم ، وسارى سارة إلخ ...

( 2 ) مواليد عيسو فى كنعان :

قدم لنا قائمة بالأولاد الذين انجبتهم نساء عيسو حين كان لا يزال مع أبيه إسحق فى كنعان ، وهم :

أولا : إبن عدا : أليفاز ( إلهى قوة ) .

ثانيا : إبن بسمة : رعوئيل ( رعاية الله ) .

ثالثا : أبناء أهوليبامة : يعوش ( يهوه يسرع ) ، يعلام ( يهوه يعلم ) ، قورح ( نبات القرع ) .

 

( 3 ) إرتحال عيسو إلى سعير :

إذ اغتنى يعقوب وعيسو جدا لم تعد أرض كنعان تسعهما ، فسكن يعقوب بعد موت أبيه فى أرض كنعان ليرث هو ونسله ما وعده به الرب ، أما عيسو فارتحل إلى بلاد سعير ، كانت تمتد من البحر الميت إلى خليج العقبة وهى تضم سلسلة من الجبال بها مناطق وعرة كما بها مناطق زراعية .

يرى البعض أن إسم سعير ينسب لعيسو نفسه بكونه مملوءا شعرا ، ويرى آخرون أنه نسبة إلى وجود أشجار كثيرة فتشبه الأرض الجسد المشعر ، وآخرون يرون أنها نسبة إلى سعير أحد أمراء الحوريين ( ع 20 ) ، الذى صاهره عيسو بزواجه أهوليبامة إبنة صبعون وقد ارتحل عيسو وامتلك الأراضى هناك .

 

( 4 ) مواليد عيسو فى سعير :

قدم لنا الكتاب المقدس قائمة بأبناء عيسو وأحفاده الذين صاروا له فى جبل سعير ، بعد رحيله من كنعان ... وإن كانت القائمة قد ضمت بعضا ممن ولدوا فى كنعان .

( 5 ) أمراء بنى عيسو :

يقصد بالأمراء هنا رؤساء قبائل ، وقد جاءت الكلمة العبرية بمعنى ( ألف ) أى رؤساء ألوف ، وكان دورهم أقرب إلى شيوخ القبائل .

 

( 6 ) بنو سعير :

يذكر هنا أولاد سعير الحورى السبعة وأحفادهم :

 

( 7 ) أمراء سعير :

دعى أبناء سعير السبعة أمراء باعتبارهم رؤساء قبائل .

 

( 8 ) ملوك أدوم :

يذكر هنا ملوك أدوم ، وكان هؤلاء الملوك أشبه بالقضاة فى إسرائيل ، فلم يكن يورث وسلطانه أشبه برئيس قبيلة .

 

( 9 ) قائمة أخرى بأمراء عيسو :

يرى البعض أن بعض هؤلاء الأمراء تولوا الأمارة بالقوة لا بالوراثة .

+  +  +       

تكوين – الأصحاح السابع والثلاثون

يوسف الأبن والعبد

الكتاب المقدس يتحدث عن يوسف فى شىء من الإفاضة فقد حملت حياته صورة رمزية حية عن شخص المسيا وسماته وعمله الخلاصى وأمجاده حتى استحق أن ينعم بنصيب ضعفين إذ صار دون إخوته سبطين هما أفرايم ومنسى ، هذا ونعنبر حياة يوسف حلقة الوصل بين عصر الآباء ونشأة اليهود كشعب أو أمة ، إذ فتح يوسف الطريق لأبيه وأخوته أن يعيشوا فى مصر .

فى هذا الأصحاح نرى يوسف رمز السيد المسيح بكونه الإبن المحبوب والعبد المحب لأخوته ، يقدم حياته فدية عنهم .

 

( 1 ) يوسف فى بيت أبيه

" وسكن يعقوب فى أرض غربة أبيه فى أرض كنعان . هذه مواليد يعقوب : يوسف إذ كان إبن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم وهو غلام عند بنى بلهة وبنى زلفة إمرأتى أبيه ، وأتى يوسف بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم ، وأما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه ، لأنه إبن شيخوخته " ( ع 1 – 3 ) .

لم يجد الوحى الإلهى ما يسجله عن مواليد يعقوب أى نسله أعظم من الحديث عن الشاب يوسف الذى يبلغ السابعة عشر عاما ، كغلام يساعد أولاد الجاريتين بلهة وزلفة . إنه عظيم فى عينى الله ومحبوب لدى أبيه ، وإن عمل غلاما لدى أولاد الجوارى ! فالعظمة الحقيقية لا تنبع عن نوع العمل الذى يمارسه الإنسان ولا عن مركزه وإنما عن حياته الداخلية وسلوكه الروحى . لقد استطاع يوسف أن يغتصب قلب أبيه أكثر من جميع إخوته وحسبه إبن شيخوخته مع أنه يوجد إخوة له أصغر منه : أحب يعقوب إبنه لأن الآب يحب إبنه وحيد الجنس ، إذ يقول :

 " هذا هو إبنى الحبيب " ( مت 3 : 17 ) .

وفى موضع آخر يقول الرسول بولس :

" فإنى إذ كنت حرا من الجميع أستعبدت نفسى للجميع لأربح الأكثرين " ( 1 كو 9 : 19 ) .

إذ أحب إسرائيل إبنه أكثر من إخوته : " صنع له قميصا ملونا " ( ع 3 ) ....

ما هو هذا القميص الملون إلا الكنيسة المتعددة المواهب التى تقبلها السيد المسيح من يدى أبيه ثمنا لحبه للبشرية ودخوله إلى العبودية من أجلها ؟! القميص الملون هو الكنيسة التى التصقت بالسيد المسيح كثوب له .. ففى تجليه :

" صارت ثيابه بيضاء كالنور " ( مت 17 : 2 ) .

إن الكنيسة بحاجة إلى كل الألوان [ المواهب ] ، ولكل عضو فيها أيا كان لونه أو مركزه أو عمله أو مواهبه .

قيل عن السيد المسيح : " تبتهج نفسى بإلهى ، لأنه قد ألبسنى ثياب الخلاص ، كسانى رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة [ إكليل ]  " ( إش 61 : 10 ) .  

( 2 ) صــاحب الأحــلام

لم يحتمل إخوة يوسف محبة أبيهم لأخيهم يوسف فكانوا يحقدون عليه حتى " لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام " ( ع 4 ) .

هذه المشاعر المرة التى أحاطت بيوسف من إخوته فى بيت أبيه لم تكن قادرة أن تغلق قلبه نحوهم ولا أن تؤذى مشاعره أو تفقده سلامه ، لهذا انفتحت السماء قدامه لتؤكد له بحلمين متتاليين يحملان معنى واحدا هو:

" دخــوله إلى المـجد ، وخضـوع الكل لـه "

 كأنه يمثل السيد المسيح الذى يفتح قلبه بالحب للبشرية التى حملت له العداوة بلا سبب ، مقدما حياته فدية حتى لصالبيه !

حلم يوسف أن حزما قد احاطت بحزمته وسجدت لها ، كما حلم أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا قد سجدت له ، فأدرك إخوته أنه يملك عليهم ، وهم يخضعون له .. وعوض أن يسمعوا لصوت السماء فينفتح قلبهم له " إزدادوا أيضا بغضا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه " ( ع 8 ) وامتلأوا حسدا ( ع 11 ) ، وكأنهم بالكرامين الأشرار الذين " لما رأوا الإبن قالوا فيما بينهم : هذا هو الوارث ، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه " ( مت 21 : 38 ) . أعلنت السموات مجده فازداد الأشرار من نحوه شرا ، فإذا بالله الصالح يخرج من الشر خيرا ، ويحول تصرفاتهم إلى طريق لإتمام خطته الإلهية .

" حسده إخوته وأما يعقوب فحفظ الأمر " ( ع 11 ) . ادرك يعقوب أنه يخضع لإبنه فى مجده ... وربما كان الأمر يمثل سرا لم يكن قادرا على إدراكه فى ذلك الحين ، فحفظ الأمر فى قلبه مترقبا فى صمت وتأمل أعمال الله وتحقيق مواعيده .. كما قيل عن السيدة العذراء :

" وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور فى قلبها "     ( لو 2 : 51 )

 

( 3 ) إرسالية محبته

مضى إخوة يوسف إلى شكيم ليرعوا غنم أبيهم ، ويغلب أن يكون هذا الغنم قد ضم الأغنام التى استولوا عليها بعد قتل أهلها انتقاما لأختهم دينة ( ص 34 ) ، لذلك أرسل يعقوب يوسف لينظر سلامة إخوته وسلامة الغنم خشية أن تكون بعض القبائل الكنعانية قد اعتدت عليهم إنتقاما لأهل شكيم .

إرسالية يوسف تمثل إرسالية الإبن وحيد الجنس ، أرسل الآب إبنه الوحيد الجنس ليفتقد الجنس البشرى الذى كان ضعيفا بالخطية ، قطيعا مفقودا .

 

( 4 ) المفترى عليه : 

إذ نزل يوسف من بيت أبيه بالحب يبحث عن إخوته الضالين يقول الكتاب :

" فلما أبصروه من بعيد قبلما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه ، فقال بعضهم لبعض : هوذا هذا صاحب الأحلام قادم ، فالآن هلم نقتله ونطرحه فى إحدى الآبار ونقول وحش ردىء أكله ، فنرى ماذا تكون أحلامه " ( ع 18 – 20 ) .

تشفع فيه رأوبين فلم يقتلوه بل خلعوا عنه القميص الملون وألقوه فى بئر ماء فارغ . وإذ جلسوا يأكلون رأوا قافلة إسمعيليين قادمة من جلعاد جمالها محملة كثيراء وبلسانا ولاذنا لينزلوا بها إلى مصر فأشار عليهم يهوذا ببيعه عبدا لهم ، فباعوه بعشرين من الفضة ، وإذ رجع رأوبين إلى اخوته لم يجد يوسف فى البئر فمزق ثيابه ولم يعرف كيف يتصرف .

ما فعله اخوة يوسف هنا حمل رمزا لما فعله اليهود مع السيد المسيح فى جوانب متعددة منها :

أ – لقد تحمل يوسف تعنيفا مرا من اخوته ، وقدم اليهود لوما للرب قائلين : " إننا لم نولد من زنا " ( يو 8 : 41 ) ..

ب – عنما رأى اخوة يوسف اخوهم قادما ، ناقشوا موته ، وذلك كما فعل اليهود بيوسف الحقيقى ، المسيح الرب ، إذ صمم الجميع على خطة واحدة أن يصلب ، اغتصب اخوة يوسف ثوبه الخارجى الملون ، ونزع اليهود عن السيد المسيح ملابسه عند موته على الصليب ، تعرى لكى يستر خطايانا ! إذ نزع الثوب عن يوسف ألقى فى جب أى حفرة ، وإذ حطموا جسد المسيح نزل هو إلى الجحيم . رفع يوسف من الجب وبيع للإسماعيليين أى للأمم ، والمسيح إذ عاد من الجحيم إشتراه الأمم بثمن الإيمان ، هكذا كان يوسف رمزا للسيد المسيح والمشاورة ضده ، وفى إلقائه فى الجب ، وفى خلع ثيابه ، وفى بيعه للأمم .

جـ - كما اشار يهوذا ببيع يوسف هكذا باع يهوذا السيد المسيح ...

د – إذ ألقى الأخوة يوسف فى البئر الفارغة من الماء " جلسوا ليأكلوا طعاما " ( ع 25 ) ... وهكذا إذ دبر اليهود قتل السيد المسيح جلسوا يأكلون الفصح القديم كطعام يشبع أجسادهم لا نفوسهم .

 

( 5 ) غمس قميصه بالدم :

حاول إخوة يوسف خداع أبيهم بغمس قميص يوسف الملون بدم تيس وتقديمه له ليتحقق إن كان هو قميصه ، معلنين أن وحشا رديئا افترسه . فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحا على حقويه وناح على إبنه أياما كثيرة .

إذ ظن يعقوب أن إبنه مات قال فى مرارة : " إنى أنزل إلى إبنى نائحا إلى الهاوية " ( ع 35 ) . نزل إلى الهاوية لأن الفردوس لم يكن بعد قد افتتح بالخلاص الذى أتمه فادينا على الصليب  ..

 

( 6 ) يوسف العبد

" وأما المديانيون فباعوه فى مصر لفوطيفار خصى فرعون رئيس الشرطة " ( ع 36 ) .

الأبن الملل بيع كعبد فى مصر ، يحمل قلبا حرا ونفسا كريمة لا تستطيع العبودية الخارجية أن تدخل إلى أعماقه الداخلية ، إنما بحريته الداخلية رفع من شأن العبيد وكرم الإنسانية الحرة أيا كان وضعها الأجتماعى ..

يوسف الإبن صار عبدا وكأنه يحمل صورة ربنا يسوع المسيح الإبن الوحيد الذى صار من اجلنا عبدا ( فى 2 : 7 ) .

بيع إلى فوطيفار ، وكلمة " خصى " تعنى وظيفة رئيس من رؤساء الحرس لدى فرعون .

+  +  +

تكوين – الأصحاح الثامن والثلاثون

يهوذا وثامار

إذ يأتى السيد المسيح من نسل يهوذا كان لا بد للكتاب المقدس ان يعرض لنا سلسلة مواليد يهوذا حتى نتتبع أنساب السيد .

حقا لقد اشار يهوذا – فى محبته للمال – على إخوته أن يبيعوا أخاهم يوسف ، لكن الله حول خطأه إلى تحقيق مقاصده الإلهية ، والآن ينطلق يهوذا ليتزوج بكنعانية ، لكن نعمة الله الفائقة حولت حتى هذا العمل لإعلان تدبير الله الخلاصى .

 

( 1 ) أولاد يهوذا :

" وحدث فى ذلك الزمان أن يهوذا نزل من عند إخوته ومال إلى رجل عدلامى إسمه حيرة ، ونظر يهوذا هناك إبنة رجل كنعانى إسمه شوع ، فأخذها ودخل عليها ، فحبلت وولدت إبنا ودعى إسمه عيرا " ( ع 1 – 3 ) .

اقترن يهوذا بإبنة رجل كنعانى يدعى " شوع " أى ( غنى ) ، وكأنه يمثل الأمة اليهودية التى جحدت يوسف الحقيقى وانطلقت خلال محبتها لغنى العالم تقترن بالفتاة الوثنية أى عدم الإيمان .

حبلت إبنة شوع ثم ولدت أونان ، وللمرة الثالثة انجبت شيلة وكان فى كزيب حين ولدته .

 

( 2 ) عير وثامار :

أخذ يهوذا لبكره عير ثامار زوجة له التى يعنى إسمها ( نخلة ) .

إن كان يهوذا قد أخطأ باقترانه بأمرأة كنعانية ، فإن ثمر هذا الخطأ قد تجلى فى أولاده ، لقد مات ابنه البكر عير ، وعندما ألزم يهوذا إبنه أوثان أن يتزوج بثامار لإقامة نسل لأخيه ، تصرف بطريقة غير إنسانية فى حياته الزوجية حتى لا تنجب ثامار . ولعله كان يهدف من وراء ذلك ألا يكون للميت نصيب فى ميراث أبيه ، لذلك أماته الرب ( ع 10 ) .

كان يليق بيهوذا أن يراجع حساباته ، ويدرك أنه فشل فى تربيته لأولاده ، وها هو قد فقد عيرا وأونانا ولم يبق سوى شيلة .. فعوض التفاهم مع شيلة ليسلك بروح أبائه يعقوب وإسحق وإبراهيم طلب من ثامار أن ترجع إلى بيتها تحت ستار صغر سن إبنه الثالث ، أما فى قلبه فقال : " لعله يموت هو أيضا كأخويه " ( ع 11 ) . ما أحوجنا فى علاج أمورنا أن ندخل إلى العمق ، فنرى السبب الحقيقى للفساد وننزعه ، عوض التصرف بطريقة شكلية خارجية .

 

( 3 ) يهوذا وثامار :

كبر شيلة ولم يف يهوذا بوعده ، إذ لم يقدم زوجا لثامار ... وإذ كان يهوذا صاعدا إلى تمنة ليجز غنمه ، خلعت ثامار ثياب ترملها وتغطت ببرقع وجلست فى مدخل عينايم التى على طريق تمنة ، وإذ حسبها يهوذا زانية دخل عليها بعد أن قدم لها خاتمه وعصاه رهنا حتى يرسل لها جدى معزى من الغنم . وإذ أرسل يهوذا جدى المعزى لم يجدها الرسول فرده إلى يهوذا . وبعد ثلاثة أشهر أخبر يهوذا بأن ثامار حامل ، فقال يهوذا : " اخرجوها فتحرق " ( ع 24 ) ، أما هى فأخرجت الخاتم والعصا ، وإذ تحققهما يهوذا ادرك خطأه ، فقال :

" هى أبر منى ، لم اعطها لشيلة إبنى " ( ع 26 ) .

ثامار التى كانت تشتهى ككل سيدة عبرانية أن يأتى من نسلها المسيا المخلص قبلت أن تعرض نفسها للخطر ، ولم تخجل أن تظهر كزانية ليس من اجل شهوة الجسد إنما من أجل الإنجاب ، تظهر طهارتها أنها إذ كشفت الأمر لم تطلب بعد الزواج بأخى رجلها إنما عاشت مع حميها ، وقد قيل : " لم يعرفها أيضا " ( ع 26 ) .

من أجل إيمانها اشتهت أن تنجب أما يهوذا ففى كبر سنه إرتكب الزنا ... لذا يقول :

" هى أبرمنى " ( ع 26 ) . وقد صارت ثامار مثلا حيا يمنعنا من الإدانة مهما كانت علامات الخطية تبدو واضحة وملموسة .

بهذا العمل الإيمانى تأهلت ثامار أن تكون جدة للسيد المسيح ، دمها يجرى فى عروقه ، حتى سجل الإنجيل متى إسمها فى نسب السيد المسيح ( مت 1 : 23 ) بينما لم يسجل إسم سارة ولا رفقة ولا غيرهما من الأمهات المباركات .

كانت ثامار رمزا لجماعة الأمم التى صارت كنيسة مقدسة للرب ، هذه التى كانت قبلا بلا ثمر كثامار ، أشبه بأرملة مهجورة ليس من يسندها ولا من يعينها .

 

( 4 ) ولادة فارص وزارح :

أخرج زارح يده فربطت القابلة يده بخيط قرمزى أحمر ، لكنه أدخل يده ليخرج فارص أولا وبعده زارح . ويرى بعض الآباء فى زارح مثلا للشعب اليهودى الذى كان يجب أن يكون البكر ، وقد مد يده واستلم الشريعة التى تركزت حول الذبيحة ( الدم القرمزى ) لكن خلال عدم الإيمان خرج فارص ممثلا الأمم الذين صارت لهم باكورية الروح عوض زارح ( اليهود ) .  

+  +  +      

تكوين – الأصحاح التاسع والثلاثون

يوسف وامرأة فوطيفار

إن كان يهوذا الإبن الحر قد استعبد نفسه لشهوة الجسد فتزوج بالكنعانية إبنة شوع ، فإن يوسف العبد أعلن حريته الحقة إذ لم تستطع إمرأة سيده أن تقتنص قلبه أو تدنس جسده بالرغم من كل الظروف المرة التى يعيش فيها هذا الشاب .

حقا إن كان " يوسف " يعنى ( نمو ) أو ( تزايد ) ، فقد حمل فى حياته نموا بلا توقف ، نجح فى حبه لأخوته بالرغم من بغضهم له وها هو ينجح فى التمتع بالطهارة فى بيت العبودية .

 

( 1 ) يوسف فى بيت فوطيفار :

لم نسمع عن يوسف وهو فى بيت أبيه يعقوب أن البيت تبارك بسببه ولا قيل : " كان الرب مع يوسف فكان رجلا ناجحا " ( ع 2 ) ، ليس لأن يوسف لم يكن " بركة " فى بيت أبيه ولا لأنه لم يكن ناجحا ... لكنه إذ كان مدللا فى أحضان أبيه يتمتع بالقميص الملون دون إخوته لم يكن محتاجا إلى كلمة تشجيع ... أما وقد بيع كعبد فى أرض غريبة وحرم من كل عاطفة أسرية أعلن الوحى أن الرب نفسه كان معه يهبه النجاح ويعطيه نعمة فى عينى سيده ، حتى قيل : " الرب بارك بيت المصرى بسبب يوسف ، وكانت بركة الرب على كل ما كان له فى البيت وفى الحقل ، فترك ( فوطيفار ) كل ما كان له فى يد يوسف ، ولم يكن معه يعرف شيئا إلا الخبز الذى يأكل ، وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر " ( ع 5 ، 6 ) ...

الضيقة التى كان فيها يوسف كشفت عن جمال وجهه الداخلى وسلام قلبه وفكره ...

وما حدث مع يعقوب أبيه تكرر معه ، فما استطاع يعقوب أن يتمتع بالسلم السماوى وهو فى بيت أبيه وأحضان أمه .. إنما نال ذلك عندما صار طريدا فى الطريق بلا عون بشرى ...

 

( 2 ) يوسف وإمرأة سيده :

تقف الكنيسة فى كل أجيالها أمام يوسف الطاهر الذى عرض حياته للموت حتى لا يدنس جسده بكل إجلال وتكريم . فالقلب الذى امتلأ بالحب الحق حتى لأخوته المبغضين له ليس فيه فراغ لشهوة جسدية ولا عوز إلى عاطفة إمرأة غريبة ! لقد نجح يوسف فى تجربته التى نصبها له العدو خلال إمرأة سيده لا من أجل شهامة إنسانية ولا من أجل تربية نشأ عليها وإنما بالأكثر من أجل الحب الذى ملأ قلبه .

فى حديثه معها لم يجرح مشاعرها بكلمة قاسية .. لم يتفوه بكلمة أنها تزنى ، بل فى اتضاع قال : " هوذا سيدى لا يعرف معى ما فى البيت وكل ما له قد دفعه إلى يدى ، ليس هو فى هذا البيت أعظم منى ، ولم يمسك عنى شيئا غيرك لأنك إمرأته " ( ع 9) . ... وسجل له الكتاب المقدس عبارته الخالدة : ( ع 9 )

 كيف اصنع هذا الشر العظيم وأخطىء إلى اللــــه ؟!

لقد احبها فى الرب وخضع لها فى الرب

أما علامة حبه الصادق أنه لم يشهر بها فى السجن ولا إنتقم منها حين سلمه فرعون كل شىء ! وعلى العكس كانت إمرأة فوطيفار تحبه جسديا أو بمعنى آخر تحب شهوات جسدها ، وعلامة ذلك أنها سلمته للسجن وعرضته للموت بعد أن شهرت به ، فهل حملت حبا له ؟!

 

( 3 ) يوسف والثوب :

إذ كانا بمفردهما فى البيت أمسكت به ، للحال : " ترك ثوبه فى يدها وهرب وخرج إلى خارج " ( ع 13 ) . كان يعرف ثمن هروبه : العرى والفضيحة والأفتراء عليه والسجن وربما الموت ، لكنه قبل هذا كله ثمنا لعلاقته مع الله وطهارته ، بهذا صار يوسف الشاب مثلا حيا للطهارة ، وكما يقول الأب قيصريوس :

[ يوجد فى الكنيسة ثلاثة نماذج للطهارة يجب أن نتمثل بها :

يوسف وسوسنة ومريم ... يتمثل الرجال بيوسف ،.... والنساء بسوسنة ، ... والعذارى بمريم ] .

كان يوسف جميلا فى الداخل أكثر من الخارج ، بهيا بنور قلبه أكثر من جمال جسده ، حيث لم تكن عينا هذه المرأة تقدران أن تخترقا وتتمتعا بجماله ...

صار يوسف مثلا حيا وشجاعا للهروب من الشر ، ....

 

( 4 ) يوسف فى السجن :

إذ لم تستطع إمرأة فوطيفار أن تعتصب قلب يوسف وأمسكت بثيابه صرخت لتتهمه بالشر ، فخمى غضب رجلها :

" فأخذ يوسف سيده ووضعه فى بيت السجن المكان الذى كان أسرى الملك محبوسين فيه ، وكان هناك فى بيت السجن ، ولكن الرب كان مع يوسف وبسط إليه لطفا وجعل نعمة له فى عينى رئيس بيت السجن " ( ع 20 ، 21 ) .

لقد أعطاه الرب نعمة فى عينى رئيس بيت السجن فسلمه كل شىء ؛ وإذا بالرب معه " ومهما صنع كان الرب ينجحه " ( ع 23 ) .

ما أجمل الكلمات التى قالها القديس يوحنا الذهبى الفم : [ كان يوسف أكثر مجدا من كل منتصر مكلل وهو مستمر تحت القيود ، وكانت ( إمرأة فوطيفار ) أكثر بؤسا من أى سجين حتى وإن قطنت فى المساكن الملوكية ] .

يؤكد الوحى الإلهى : " الرب كان مع يوسف " ... تحول السجن إلى سماء ، لأنه حيث يوجد الرب يصير الموضع سماءا !

نستطيع أن نلتقى مع ربنا أينما وجدنا ، التقى يونان بالرب وهو فى جوف الحوت ، وظهر كلمة الله ليحيط بالثلاثة فتية وهم فى أتون النار ، والتقى بطرس بالله وهو مقيد بالسجن ، وكذلك بولس الرسول ... بينما حرم الفريسى من لقاء الرب وهو داخل الهيكل ؛ لأنه وقف يعدد فضائله ، ولسنا نقلل من قدسية الهيكل ، ...

هكذا تحول السجن فى حياة يوسف إلى لقاء جديد مع الرب على مستوى ربما أعمق مما كان عليه وهو فى بيت أبيه أو فى بيت سيده .

 نال يوسف نجاحا فى السجن ، وتحول السجن إلى طريق للمجد

+  +  +   

تكوين – الأصحاح الأربعون

يوسف فى السجن

دخل يوسف السجن لا لذنب إرتكبه وإنما ثمنا لشهوة إمرأة فوطيفار ، وهكذا نزل الرب إلينا واجتاز المعصرة لا عن شر إرتكبه إنما فدية للبشرية التى تنجست . وفى السجن التقى بخصيى الملك وكأنه بالسيد المسيح المصلوب بين لصين .

 

( 1 ) الخصيان فى السجن

إذ سخط فرعون على خصييه رئيس السقاة ورئيس الخبازين ووضعهما فى حبس بيت رئيس الشرطة فى بيت السجن ، ولم يجدا من يخدمهما بأمانة ورقة مثل يوسف ، لقد عاش يوسف فى السجن – كما فى بيته – يهتم بالمسجونين كأعضاء معه فى بيت واحد ، إتسم بالوداعة والرقة والطاعة ، لم يخجل من عبوديته ولا من سجنه بل كان مترفقا بالجميع يخدم الكل حتى قساة المسجونين ، هكذا نجح يوسف أيما وجد ! .

 

( 2 ) حلما الخصيين

" الخصى " هنا لا يعنى المعنى الحرفى بل يشير إلى مركز سام فى بلاط فرعون ، لقد حلم الإثنان فى ليلة واحدة وفى موضع واحد ، وكان الإثنان مغتمان ... لكن يوسف استطاع بالله أن يفرز بينهما ، قائلا :

" أليست لله التعبير ؟! قصا على " ( ع 8 ) .

ماذا يعنى هذا ؟

الخصيان يشيران إلى جنس البشرية الساقط ، لكن قسما بالإيمان يجتاز الغضب ويعبر إلى الملكوت والآخر فى جحوده يفقد حياته أبديا .

وكأن الحلمين بالنسبة لرئيس السقاة يشير إلى قيامة السيد المسيح ( وقيامتنا معه ) وما تحقق بالنسبة لرئيس الخبازين يشير إلى موت السيد المسيح ( إذ ندفن أيضا معه ) ، وقد بدأ بالقيامة حتى لا نرتعب من الموت والدفن ، كما فعل الرسول بولس حينما قال : " لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته " ( فى 3 : 10 ) .

ومع ما وصل إليه يوسف من هذا السمو الفائق فصار رمزا للسيد المسيح فى موته وقيامته ، ورمزا له فى صلبه بين اللصين لكنه فى ضعف بشرى إتكل على ذراع بشرية ، طالبا من رئيس السقاة أن يذكره أمام فرعون ، وإن كان قد تحدث فى أدب لم يجرح مشاعر فوطيفار أو إمرأته ، إذ قال" لأنى قد سرقت من أرض العبرانيين ، وهنا أيضا لم أفعل شيئا حتى وضعونى فى السجن " ( ع 15 ) .

الله فى محبته ليوسف أدبه على هذا التصرف ، وكما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم : [ إذ كان يوسف متعجلا فى الهروب من السجن ترك هناك زمانا .. حتى يتعلم ألا يضع رجاءه أو ثقته فى البشر وإنما فى الله وحده ] .

 

( 3 ) تحقق الحلمين :

تحقق الحلمان فى اليوم الثالث كقول يوسف ، يوم ميلاد فرعون ، حيث صنع وليمة لجميع عبيده ، ونال رئيس السقاة العفو والعودة إلى عمله بينما علق رئيس الخبازين كما عبر يوسف . 

+  +  +    

تكوين – الأصحاح الحادى والأربعون

يوسف الممجـــــد

تخرج يوسف فى مدرسة المحبة الصادقة ، فقد إتسع قلبه بالحب لإخوته المبغضين له ، ونجح فى بيت فوطيفار كعبد يخدم فى محبة طاهرة ، وأخيرا كسجين وسط المذنبين ، وفى الوقت المناسب رفعه الله إلى القصر وكأنه بالسيد المسيح الذى نزل من أجلنا إلى سجن الجحيم لكى يرفعنا معه إلى قصره السماوى واهبا إيانا خبزا سماويا .

 

( 1 ) حلما فرعون :

طلب يوسف من رئيس السقاة أن يذكره أمام فرعون دون أن يمس سمعة إمرأة فوطيفار فى شىء ، لكن إذ إتكل يوسف على هذا الذراع البشرى تركه بعد ذلك سنتين فى السجن ، حتى متى جاء الوقت المحدد من قبل الله تكلم الله نفسه فى قلب فرعون خلال حلمين أزعجاه .

رأى فرعون نفسه واقفا عند نهر النيل ، وإذا بسبع بقرات حسنة المنظر وسمينة خرجت من النهر لترتع من مرج أخضر وخصيب ، ثم خرجت سبع بقرات أخرى قبيحة المنظر ورقيقة اللحم أكلت البقرات الأولى وقد بقيت كما هى فى قبح منظرها ( ع 21 ) . وإذ استيقظ فرعون ونام رأى سبع سنابل فى ساق واحدة سمينة وحسنة ، ابتلعتها سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها .

لقد فسر يوسف الحلمين بكونهما يشيران إلى أمر واحد أراد الله تأكيده ، هو حدوث رخاء عظيم لمدة سبع سنوات يفسده جوع شديد وقحط ليس له مثيل لمدة سبع سنوات تالية .

( 2 ) احضار يوسف :

إذ انزعج فرعون أحضر جميع سحرة مصر وحكمائها وقص عليهم حلمه فعجزوا عن تقديم تفسير للحلم .

هنا تذكر رئيس السقاة ما حدث له ولرئيس الخبازين فى السجن وكيف فسر لهما الغلام العبرانى يوسف الحلمين . أخبر رئيس السقاة فرعون ، فاستدعى يوسف الذى حلق وأبدل ثيابه ودخل على فرعون ... وإذ أخبره فرعون بالأمر ، أجاب :

 " ليس لى ، الله يجيب بسلامة فرعون " ( ع 16 ) .

 

( 3 ) الحلمان وتفسيرهما :

قص فرعون ليوسف الحلمين وأخبره أن السحرة لم يستطيعوا أن يخبروه بتفسيرهما ، لم يقف عمل يوسف عند تفسير الحلمين بل قدم لفرعون مشورة صالحة بحسب الحكمة الإلهية :

 " فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا وحكيما يجعله على أرض مصر ، يفعل فرعون فيوكل نظارا على الأرض ، ويأخذ خمس غلة أرض مصر فى سبع سنى الشبع ، فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ويخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما فى المدن ويحفظونه ، فيكون الطعام ذخيرة لسبع سنى الجوع التى تكون فى أرض مصر ، فلا تنقرض الأرض بالجوع " ( ع 34 – 36 ) .

تركزت مشورة يوسف إلى الحاجة إلى رجل بصير وحكيم .... وكانت إجابة فرعون على هذا المطلب :

" هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله ؟! ثم قال فرعون ليوسف : بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك ، أنت تكون على بيتى ، وعلى فمك يقبل جميع شعبى " ( ع 38 – 40 ) .

طالب يوسف فرعون بالجمع فى أيام الشبع ، وتخزين خمس المحصول السنوى لمدة سبع سنوات حتى يستخدم هذا الفائض فى أيام الجوع ، هذه مشورة حكيمة يليق بكل مؤمن أن يلتزم بها روحيا ، ففى فترات تعزيته الروحية والتهاب قلبه بمحبة الله يكون حريصا أن يغتنم كل فرصة ليجمع لحساب ملكوت الله فى مخازن قلبه الداخلية ، حتى متى كان أمينا وغير مستهتر فى تلك الآونة يسنده الرب نفسه فى أوقات الجفاف وفى فترات التجارب .

بقدر أمانتنا فى فترات الإلتهاب الروحى وحرصنا على كل فرصة للنمو والبنيان المستمر ، نجد عون الله المجانى يفيض فى فترات الفتور ... فهو أمين و:

" ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة " ( عب 6 : 10 ) .

 

( 4 ) يوسف وختم فرعون :

تلمس فرعون فى يوسف أنه رجل فيه روح الله ( ع 38 ) ، إنسان بصير وحكيم ليس مثله فى الحكمة ، لذا قال له :

" أنظر قد جعلتك على كل أرض مصر ، وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله فى يد يوسف ، وألبسه ثياب بوص ( من الكتان الأبيض ) ووضع طوق ذهب فى عنقه ، وأركبه فى مركبته الثانية ، ونادوا أمامه اركعوا " ( ع 41 – 43 ) .

ياللعجب الذى طرده إخوته من بينهم وحسبوه أهلا للموت يكرمه الملك الوثنى ويقيمه فى قصره على كل أرض مصر ، إخوته خلعوا قميصه الملون ، وغريب الجنس يقدم له الثوب الكتانى الأبيض ، باعه إخوته كعبد والوثنى يهبه خاتمه ويضع طوق ذهب فى عنقد ويركبه مركبته الثانية . إخوته أذلوه والغريب نادى أن يركع له الجميع .

من هو يوسف هذا إلا السيد المسيح الذى رفضته أمته وقبله الأمم كملك يسيطر على قلوبهم ويدبر حياتهم ويتجلى فى أعماقهم ؟!

من هو يوسف هذا إلا كل مؤمن حق يثبت فى السيد المسيح ليصير مرفوضا من إخوته ، مشهودا لبره من الذين فى الخارج ؟!

لقد دعى فرعون يوسف " صفنات فعنيح " التى تعنى بالمصرية ( طعام الحياة ) ... اللقب الذى يليق بحق بالسيد المسيح إذ لم يبن مخازن أرضية ليجمع حنطة فى أيام الرخاء بل قدم نفسه خبزا سماويا ، من يأكله لا يجوع إلى الأبد ..... يرى البعض أن هذا اللقب يعنى بالعبرية : ( مخلص العالم ) أو ( معلن الأسرار ) .

أزوجه فرعون اسنات إبنة فوطى فارع كاهن أون ، وكان ذلك يرمز لأتحاد السيد المسيح بعروسه القادمة من الأمم حيث كان والدها يتعبد ويكهن للأصنام .

يقال أن أسنات كانت فتاة جميلة ومهذبة أحبت يوسف بسبب ما اتسم به من سمات فتركت عبادة الأوثان والتصقت بعبادة الله الحى .

 

( 5 ) يوسف وتخزين القمح :

أقام يوسف مخازن ، وموظفين يقيدون كميات الطعام الواردة فى كل مدينة وحدث فيض كثير حتى لم يستطع أحد أن يحصى الكميات الواردة ، " وخزن يوسف قمحا كرمل البحر كثيرا جدا حتى ترك العدد إذ لم يكن له عدد " ( ع 49 ) .

حينما نسلم حياتنا فى يد ربنا يسوع يفيض فى كل مخازن حياتنا ، ويهبنا شبعا بلا كيل ، فوق كل الحسابات البشرية ، فيعيش الإنسان متهللا ....

 

( 6 ) إبنا يوسف :

فى سنوات الشبع انجبت أسنات ليوسف إبنين هما منسى ، إذ قال يوسف : " الله أنسانى كل تعبى وكل بيت أبى " ( ع 51 ) ، وأفرايم ، قائلا : " الله جعلنى مثمرا فى أرض مذلتى " ( ع 52 ) .

 

( 7 ) يوسف يشبع مصر :

كملت سبع سنى الشبع لتأتى السبع الجوع ... وإذ كان يوسف مدبرا للأمر يقول الكتاب :

" فكان جوع فى جميع البلدان وأما أرض مصر فكان فيها خبزا " ( ع 54 ) .

 إن سلمنا حياتنا فى يدى إلهنا وقت الشبع فإنه لن يتركنا جائعين وقت الجوع !

نختم حديثنا هنا بالتأمل فى تدبير الله العجيب ، فقد سمح ليوسف أن يلقى فى السجن حتى ينقذ المصريين من المجاعة ويهب لعائلته الحياة ... وكأنه بالسيد المسيح الذى صار عبدا ، ودخل تحت حكم الصليب لكى يقدم ذاته خبزا سماويا يشبع الأمم الغريبة الجنس ، وفى آخر الأزمنة ترجع إليه خاصته التى جحدته لتقبل الإيمان به بعد سنى الجحود الطويلة .

+  +  +     

تكوين – الأصحاح الثانى والأربعون

اخوة يوسف فى مصر

إذ حرم إخوة يوسف أنفسهم من يوسف ببيعهم إياه فقدت كنعان كلها البركة ودخلت فى مجاعة بينما تباركت مصر بيوسف وصارت مصدر شبع للجائعين . والآن إذ شعر هؤلاء الأخوة بالجوع اضطروا للرحيل إلى مصر ليشتروا لأنفسهم قمحا ، وكأنهم يمثلون جماعة اليهود التى خانت السيد المسيح وباعته بقليل من الفضة ، فى آخر الأيام إذ تشعر بالجوع الحقيقى تترك كنعان وتنطلق إلى مصر ، أى إلى كنيسة الأمم تبحث عمن فقدته : الإيمان بالسيد المسيح ، لكنها لا تستطيع أن تلتقى به ما دامت متعصبة لصهيونيتها مرتبطة بمطامع زمنية .

 

( 1 ) يعقوب يرسل أولاده :

" فلما رأى يعقوب أنه يوجد قمح فى مصر ، قال يعقوب لبنيه : لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض . وقال : إنى سمعت أنه يوجد قمح فى مصر ، إنزلوا إلى هناك واشتروا لنا من هناك لنحيا " ( ع 1 ، 2 ) .

يلاحظ فى النص الذى بين أيدينا الآتى :

أ – يكرر كلمة " يعقوب " أكثر من مرة ، ولم يقل " إسرائيل " مع أنه كان قد أخذ الوعد أنه لا يدعى بعد " يعقوب " بل " إسرائيل " . لكن يعقوب هنا لا يمثل شعب الله بل " اليهود " الذين فقدوا الإيمان بالسيد المسيح أى يوسف الحقيقى .. إنهم لا يحسبون إسرائيل الروحى ولا شعب الله بسبب جحودهم .

ب – الآن يلجأ يعقوب خلال أولاده إلى أرض مصر لكى يحيوا ولا يموتوا ، فقد خسر اليهود سر حياتهم – يوسف الحقيقى – بينما قبل الأمم – مصر – مصدر الحياة الحقة .

جـ - يقول يعقوب لهم : " لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض ؟! " ... كان يليق بهم أن ينظروا إلى مصدر الشبع ، إلى حيث يوسف موجود ، عوض أن ينظروا إلى بعضهم البعض .

 

( 2 ) المثول بين يدى يوسف :

إذ كانت كنعان فى رخاء لم يفكر يعقوب وبنوه فى اللقاء بيوسف ، وربما نسى أبناء يعقوب يوسف وظنوا أنهم لن يروه بعد ، لكن الله فى محبته سمح بالجوع فى كنعان حتى يلتقى الكل بيوسف . الله لا يشتاق إلى مذلتنا ولا يطلب لنا الجوع ، لكننا إذ نفقد يوسفنا الداخلى تصير أعماقنا جافة وفى قحط ، فيسمح الله بالجوع يحل بالأرض لا لشىء إلا لنكشف الجوع الداخلى ونطلب يوسفنا يشبع الداخل كما الخارج .

يقول الكتاب : " كان يوسف هو المسلط على الأرض ، وهو البائع لكل شعب الأرض ، فأتى إخوة يوسف وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض " ( ع 6 ) .

أ – إذ يمثل يوسف السيد المسيح ، عرف إخوته وتنكر لهم أما هم فلم يعرفوه ... جاء السيد المسيح الذى يعرفنا بأسمائنا ، لكنه إذ حمل طبيعتنا وصار فى الهيئة كإنسان لم يستطع اخوته اليهود أن يعرفوه ، وكما يقول الرسول : " ولو عرفوا رب المجد لما صلبوه " .

ب – تحدث معهم بجفاء بل واتهمهم كجواسيس لا لينتقم منهم ، إذ كانت أحشاؤه ملتهبة فيه ... وعندما سمعهم يتحدثون فى مرارة متذكرين ما فعلوه به وهم لا يدرون أنه يوسف : " تحول عنهم وبكى " ( ع 24 ) . إنما كان قصده بهذا الجفاء ألا يعرفوه سريعا حتى لا يخافوا منه ، ومن ناحية أخرى أراد أن يستفسر عن أبيه وأخيه بنيامين بطريقة غير مباشرة .

الله فى حبه لنا يبدو أحيانا جافيا لا ليحرمنا من حنوه وإنما ليحقق فينا غايته ، ويدخل بنا إلى أسراره والتمتع بنعمه بطريقته الإلهية الفائقة لإدراكنا .

جـ - تذكر يوسف الأحلام التى حلم عنهم ( ع 9 ) ... فقد يطول بنا الوقت ونظن إستحالة تحقيق وعود الله ، لكنه يهبنا تحقيق وعوده فى الوقت المعين وبطريقة فائقة لم نكن نتوقعها .

د – أمر بحبسهم ثلاثة أيام .. وكأنه أراد أن يؤدبهم ولكن فى حنو لعلهم يذكرون خطيتهم من نحو دمه البرىء ؛ وفى اليوم الثالث تحدث معهم برفق : " افعلوا هذا واحيوا . أنا خائف الله . إن كنتم أمناء فليحبس أخ واحد منكم فى بيت حبسكم وانطلقوا أنتم وخذوا قمحا لمجاعة بيوتكم ، وأحضروا أخاكم الصغير إلى فيتحقق كلامكم ولا تموتون " ( ع 18 – 20 ) ، إنه يريد التحقق من صدق أقوالهم باحضار الأبن الأصغر إذ كان قلبه ملتهبا نحو رؤيته ، وقد وضع فضتهم فى عدالهم ( جوالقهم ) ، إذ لا يطلب منهم ثمنا للطعام الذى يقدمه .

هـ - لماذا قيد يوسف شمعون أمام عيونهم ( ع 24 ) ؟ بلا شك لم يقيده حقدا ولا انتقاما ... وربما فك قيوده وأحسن معاملته بعد رحيل إخوته ، إنما أراد أن يثير فيهم الأسراع باحضار بنيامين حتى تفك قيود شمعون أخيهم ، وترد له حريته .

ويرى البعض أن شمعون كان قاسيا جدا على يوسف وأنه هو الذى اقترح بقتله ( 37 : 19 ، 20 ) فاستحق التأديب ليشعر بخطيته ويقدم توبة عن تصرفاته .

كان رأوبين يوبخ إخوته : " ألم أكلمكم قائلا لا تأثموا بالولد وأنتم لم تسمعوا ، فهوذا دمه يطلب " ( ع 22 ) .

 

( 3 ) العودة إلى كنعان :

عاد إخوة يوسف بدون شمعون إلى أبيهم فى أرض كنعان ليخبروه بكل ما أصابهم ، وكيف أتهموا بأنهم جواسيس ، وأن الرجل " سيد الأرض " قال لهم : " بهذا أعرف أنكم أمناء . دعوا أخا واحدا منكم عندى وخذوا لمجاعة بيوتكم وانطلقوا واحضروا أخاكم الصغير إلى ، فأعرف أنكم لستم جواسيس بل أنكم أمناء فأعطيكم أخاكم وتتجرون فى الأرض " ( ع 33 – 34 ) .. وكان تعليق يعقوب : " أعدمتمونى الأولاد ، يوسف مفقود وشمعون مفقود وبنيامين تأخذونه ، صار كل هذا على " ( ع 36 ) .. وكان أن رأوبين قال لأبيه :

 " أقتل إبنى إن لم أجىء به إليك ، سلمه بيدى وأنا أرده لك " ( ع 37 ) .

دعوة يوسف " سيد الأرض " دون أن يعرفوه فشهدوا له من ورائه أن فيه تحققت الأحلام التى كانوا لا يطيقون تذكرها ..

رفض يعقوب تسليم إبنه بنيامين لئلا تصيبه أذية فى الطريق كأخيه يوسف ، عندئذ كما يقول : " تنزلون شيبتى بحزن إلى الهاوية " ( ع 38 ) ... هذه هى مشاعر الأبوة الصادقة ، فإن سقوط أى إبن لنا مهما كان صغيرا ينزل شيبتنا بحزن كما إلى الهاوية .  

+  +  +  

تكوين – الأصحاح الثالث والأربعون

اللقاء الثانى مع يوسف

فى اللقاء الأول تظاهر يوسف بالجفاء معهم وأتهمهم أنهم جواسيس ، وفى هذا اللقاء جاءوا إليه مرتعبين ولم يستطيعوا أن يتعرفوا حتى جاء اللقاء الثالث فحنت أحشاؤه عليهم فاطلق صوته بالبكاء وأعلن لهم ذاته ( 45 : 2 ، 3 ) ، كأنهم يلتقون بيوسف فى المرة الثالثة خلال قيامته فى اليوم الثالث فيعرفونه كسر حياتهم وكأخ حقيقى لهم ، أما اللقاءان الأولان فيحملان لهم الكثير من الآلام .

 

( 1 ) الحاجة إلى الطعام :

إشتد الجوع بالأرض حتى اضطر يعقوب أن يحثهم على العودة إلى مصر لشراء طعام . عندئذ سأله يهوذا أن يسمح لهم بأخذ بنيامين أخيهم ، وأنه ضامن لأخيه ، إذ قال لإسرائيل : " أرسل الغلام معى لنقوم ونذهب ونحيا ولا نموت نحن وأنت وأولادنا جميعا ، أنا أضمنه ، من يدى تطلب . إن لم أجىء به إليك قدامك أصر مذنبا إليك كل الأيام " ( ع 8 ، 9 ) .

إذ لم يكن يوجد طريق آخر للخلاص أرسل يعقوب بنيامين إلى أرض مصر ، كما طلب من أولاده أن يحملوا من أفخر جنى الأرض فى أوعيتهم : قليلا من البلسان وقليلا من العسل وكثيراء ( نوع من الصمغ كان يستخدم فى الطب والتغرية ) ، ولاذنا ( نوع آخر من الصمغ ، وربما نوع من اللبان ) .. وفستقا ولوزا ، كما سألهم أن يردوا الفضة التى وجدوها فى عدالهم وفضة أخرى ثمنا لما اشترونه .

 

( 2 ) لقاء فى بيت يوسف :

إذ رأى يوسف أخاه بنيامين مع أخوته " قال للذى على بيته ادخل الرجال إلى البيت ، واذبح ذبيحة ، وهيىء ، لأن الرجال يأكلون معى عند الظهر " ( ع 16 ) ..

لكن الرجال إذ ادخلوا إلى بيت يوسف ظنوا إنما أدخلهم لكى يمسك بهم وينتقم منهم بسبب الفضة التى وجدت فى عدالهم ، لكن الموكل طمأنهم ، قائلا لهم :

" سلام لكم لا تخافوا . إلهكم وإله أبيكم أعطاكم كنزا فى عدالكم ، فضتكم قد وصلت إلى " ( ع 23 ) .. يبدو أن يوسف كان قد لقن هذه الكلمات للرجل حتى يبعث فى قلوب إخوته الطمأنينة .. خاصة أن الرجل أخرج إليهم أخاهم شمعون ليلتقوا به ، كما قدم لهم ماء يغسلون أرجلهم ، وأعطاهم عليقا لحميرهم . وإذ جاء يوسف إليهم فى بيته سألهم عن سلامة أبيهم ، وإذ تأكد من بنيامين أخيه :

" إستعجل يوسف لأن أحشاءه حنت إلى أخيه وطلب مكانا ليبكى ، فدخل المخدع وبكى هناك . ثم غسل وجهه وخرج وتجلد وقال قدموا طعاما . فقدموا له وحده ولهم وللمصريين الآكلين عنده وحدهم ، لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين . فجلسوا قدامه البكر بحسب بكوريته والصغير بحسب صغره ، فبهت الرجال بعضهم إلى بعض ، ورفع حصصا من قدامه إليهم ، وكانت حصة بنيامين أكثر من حصص جميعهم خمسة أضعاف ، وشربوا ورووا معه " ( ع 30 – 34 ) .

هذا هو اللقاء الثانى الذى تم بين يوسف وأخوته ، وقد ظهر الفارق واضحا بين لقائه الأول ( ص 42 ) وهذا اللقاء ، فالأول كان يقدم لنا ظلا للقائنا مع السيد المسيح خلال آلام صلبه أما هنا فنلتقى معه فى قبره ، لكى فى اللقاء التالى ( الثالث ) ننعم باللقاء معه خلال قيامته ... وإن كنا لا نستطيع الفصل بين الصلب والدفن والقيامة بكونهم يمثلون عملا خلاصيا متكاملا لا يمكن تجزئته .

ما هو الدخول إلى بيت يوسف سوى الدخول إلى العضوية الكنسية لنصير بالحق فى بيت الرب خلال مياة المعمودية ، وما هو غسل الأرجل بالماء إلا تقديم التوبة التى تغسل آثامنا وما تعلق بأنفسنا من تراب خلال رحلتنا .

نختم حديتنا عن هذا اللقاء بتعليق القديس يوحنا الذهبى الفم على بكاء يوسف عندما شاهد أخوته :

[ لنتمثل بهذا الرجل ، فنحزن ونبكى على الذين يضروننا . ليتنا لا نغضب عليهم ، فإنهم بالحق يستوجبون الدموع من أجل العقوبة التى تحل بهم والدينونة التى يلقون أنفسهم فيها ] .   

+  +  +    

تكوين – الأصحاح الرابع والأربعون

طاس يوسف الفضى

لم يكن ممكنا ليوسف بعد أن رأى أخاه بنيامين ودخل الأخير بيته وجلس على مائدته أن يتركه يتغرب عنه ، لهذا بحكمة أمر يوسف بوضعه طاسه الفضى فى عدل بنيامين حتى يرده إليه وليتحقق أيضا مدى أمانة إخوته من جهته ، هل يتخلون عن أخيهم ويرجعون بدونه أم يتمسكون به .

 

( 1 ) وضع الطاس فى عدل بنيامين

أمر يوسف رئيس عبيده أن يضع فضة كل واحد فى عدله ، وأن يضع طاسه الفضى فى عدل بنيامين ، هذا الطاس هو كأس يستخدم فى الشرب . وكان بعض الأمم يتفاءلون بالكأس ، بأن يلقوا عملة أو خاتما فيه ويتأملون عدد الفقاقيع التى تظهر وإتجاهاتها ، ومن خلال هذه الفقاقيع يعرفون المستقبل ، ولا تزال هذه العادة توجد فى مصر وإن أخذت شكلا آخر ، فالبعض يدعى معرفة المستقبل بالنظر إلى الفنجان أو الكأس التى يشرب فيها الإنسان " القهوة " بعد أن يحرك ما تبقى من القهوة ويتأمل ما تتركه من أشكال ...

كان البعض أيضا يستخدم الكأس لأستجلاب النوم خلال التأمل المستمر والعميق فى الفقاقيع التى تظهر فيها ، حيث يعطى ذلك للإنسان شيئا من الأسترخاء .

فى الصباح إذ انصرف الرجال بحميرهم ، وخرجوا من المدينة ولم يبتعدوا بعد لحق بهم رئيس عبيد يوسف ووبخهم على سرقتهم كأس سيده بعدما قدم لهم كل هذا الخير ، فكانت إجابتهم : " لماذا يتكلم سيدى مثل هذا الكلام ؟! حاشا لعبيدك أن يفعلوا مثل هذا الأمر . هوذا الفضة التى وجدنا فى أفواه عدالنا رددناها إليك من أرض كنعان ، فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبا ؟! الذى يوجد معه من عبيدك يموت ، ونحن أيضا نكون عبيدا لسيدى " ( ع 7 – 9 ) . إذ فتش الرجل عدالهم مبتدئا من الكبير إلى الصغير ، وجده فى عدل بنيامين ، فمزقوا ثيابهم وحمل كل واحد على حماره ورجعوا إلى المدينة .

لقد نجح يوسف فى خطته ، فقد رجع بنيامين إليه حتى وإن كان متهما بالسرقة ظلما ، كما إكتشف تغير قلب إخوته ، إذ مزقوا ثيابهم ورجع الكل فى مرارة من أجل أخيهم الأصغر بنيامين ، لهذا أعلن ذاته لهم .. بتوبتهم وبحبهم الباذل من أجل الأصغر إستحق الكل أن يلتقى مع يوسف للمرة الثالثة كما مع المسيح المقام ليعلن قيامته لهم وفيهم .

ما هذه الكأس التى وجدت فى عدل بنيامين التى ردت الكل إلى يوسف ، إلا الكأس التى شربها السيد المسيح عنا ، قائلا : " يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس ، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت " ( مت 26 : 39 ) .

قال الرجل :

 " الذى يوجد معه من عبيدك يموت ، ونحن أيضا نكون عبيدا لسيدى " ( ع 9 ) . هذا هو صوت البشرية الصارخ " خير أن يموت واحد عن الشعب " لقد حمل السيد الكأس عنا ومات بالجسد ، وبالحقيقة صرنا نحن عبيدا لسيدنا ، وكأنه قد تحقق القول السابق حرفيا فى شخص السيد المسيح ومؤمنيه .

مزق الرجال ثيابهم ، إذ خلعوا الإنسان القديم ، وانطلقوا مع بنيامين حامل الكأس إلى المدينة ليلتقوا بيوسف الممجد .

 

( 2 ) يهوذا يفدى أخاه الأصغر :

إن كان بنيامين قد صار رمزا للسيد المسيح الذى تقدم فى آخر الصفوف كأنه الأصغر ليحمل عنا كأس غضب الله ويفى الدين ويدخل بنا إلى مدينة الله لنلتقى بسيد الأرض الممجد ، فإنه من جانب آخر يمثل البشرية الحاملة للخطية والتى جاءها الخارج من سبط يهوذا يشفع فيها ، مقدما حياته لخلاصها . هذا ما فعله يهوذا حين تقدم أمام يوسف بروح الأتضاع ليصرف عنه الغضب مسلما نفسه فدية عن أخيه الأصغر ، إذ يقول : " عبدك ضمن الغلام لأبى ، قائلا : إن لم آجى به إليك أصر مذنبا إلى أبى كل الأيام " فالآن ليمكث عبدك عوضا عن الغلام عبدا لسيدى ويصعد الغلام مع إخوته ، لأنى كيف أصعد إلى أبى والغلام ليس معى ، لئلا أنظر الشر الذى يصيب أبى " ( ع 32 – 34 ) .

لقد روى يهوذا ليوسف الحديث الذى جرى بينهم وبين أبيهم ، وكيف تتعلق نفس أبيهم بالغلام خاصة وأن أخاه قد افترس إفتراسا ، والآن لا يستطيع أن يرى الشر يصيب أباه ... هذا التعليق الذى يربط نفس يعقوب ببنيامين والذى يدفع يهوذا لتقديم نفسه فدية عن أخيه هو صورة خفيفة للحب الذى يربط  الآب بالبشرية ، لهذا يتقدم الإبن الوحيد الجنس فى محبته لأبيه وللبشرية كفاد ومخلص للبشرية .

+  +  +  

تكوين – الأصحاح الخامس والأربعون

يوسف يعلن ذاته

لقاء يوسف الأول مع إخوته كان يشير إلى تمتعنا بالشركة فى آلام السيد المسيح وصلبه ، واللقاء الثانى يشير إلى الدفن مع السيد المسيح ، أما هذا اللقاء فيشير إلى قيامتنا مع السيد المسيح الذى أعلن ذاته لنا كواهب الحياة وغالب الموت .

( 1 ) يوسف يعلن ذاته :

" فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده ، فصرخ : أخرجوا كل إنسان عنى . فلم يقف أحد عنده حين عرف يوسف إخوته بنفسه . فأطلق صوته بالبكاء ، فسمع المصريون وسمع بيت فرعون . وقال يوسف لإخوته : أنا يوسف ، أحى أبى بعد ؟! فلم يستطع إخوته أن يجيبوه لأنهم إرتاعوا منه " ( ع 1 – 3 ) .

كان يوسف يضبط نفسه فى اللقائين السابقين ، وكانت أحشاؤه تلتهب حبا وحنينا وكان يبكى من وراء إخوته ... أما الآن فلم يستطع أن يخفى مشاعره ، ولم يقدر إلا أن يعلن ذاته بعد اخراج الغرباء .

كان اللقاء الأول فى حضرة الكثيرين ، والثانى أيضا ، أما الثالث فلم يعلن يوسف ذاته إلا بعد أن اخرج الغرباء .... هكذا تحقق اللقاء الأول مع السيد المسيح عند الصليب أمام الجميع وشهد لكل أحداث الصلب ، وأيضا فى الدفن إذ كان الجند حول القبر ، أما فى القيامة فلم يعلن ذاته إلا لأحبائه .

يقول الكتاب " فسمع المصريون وسمع بيت فرعون " ...كما سمع الحراس صوت الزلزلة والنور العجيب عند قيامة السيد من بين الأموات !! ولكن أحدا من هؤلاء أو هؤلاء لم يكن يدرك ما يحدث !

إنهم كانوا كالمرافقين لشاول الطرسوسى الذين شاهدوا نور السيد المسيح المبهر ، وصوتا من السماء ، ولكنهم لم ينعموا بفهم صوت القائم من الأموات ولا عاينوه ...

" قال يوسف لإخوته : أنا يوسف " .... وكأنه يرمز إلى السيد المسيح الذى قال من السماء :

 " أنا يسوع الذى أنت تضطهده ، صعب عليك أن ترفس مناخس " ( أع 9 : 5 ) . وكما ارتاع إخوة يوسف من هذا اللقاء ، إرتاع أيضا شاول وتحير .

ليتنا نسمع صوت يوسفنا الذى بعناه بخطايانا : أنا يوسف أخوكم الذى أحببتكم وقدمت لكم كل حنو ، فبعتمونى بفضة غاشة ! أنا يوسف الذى دفعتمونى إلى المذلة ...

 " لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتمونى إلى هنا ، لأنه لأستبقاء حياة أرسلنى الله قدامكم " ( ع 5 ) .. بعناه بالفضة الغاشة ، فإذا به يصلب ليهبنا حياة أبدية ! .

ما هو سر خوف إخوته منه ؟ لقد رأوا يوسف كمن قد مات وقام ! لم يكونوا يتوقعون رؤية أخيهم بعد ، خاصة فى هذا المجد العظيم . ولعلهم تذكروا أحلام يوسف التى إستهانوا بها وسخروا بها ، واليوم تتحقق فى أروع صورة ! أو لعلهم حسبوا أنفسهم قد وقعوا فى فم الأسد ، فالذى ألقوا به فى الموت بلا رحمة قد قام فجأة يحمل السلطان ! .

فى رقة عجيبة أراد يوسف أن ينزع كل خوف عنهم ، إذ قال لهم : " تقدمـــوا إلى " ( ع 4 ) . كما يقول الرسول بولس : " ولكن الآن فى المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلا بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح " ( أف 2 : 13 ) .

قال لهم : " والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتمونى إلى هنا ، لأنه لأستبقاء حياة أرسلنى الله قدامكم .. فالآن ليس أنتم أرسلتمونى إلى هنا بل الله " ( ع 5 – 8 ) . استخدم الله هذا الشر لخيره واخيرهم !

بنفس الفكر يعلن السيد المسيح لخاصته أنهم وإن باعوه واسلموه للموت فقد كان ذلك لخير البشرية كلها !!

ما أجمل أن نتلمس خطة الله وتدبيره إذ يحول كل الأمور للخير ، حتى وإن أراد إخوتنا الخلاص منا ببيعنا إلى مصر !

يقول يوسف أيضا : " هوذا قد جعلنى أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلطا على كل أرض مصر " ( ع 8 ) .. لقد صار السيد المسيح أبا للأمم وسيدا على كل حياتهم ومتسلطا على أجسادهم ( كل الأرض ) كما على أرواحهم ..

الآن إذ نزع يوسف عنهم الخوف سألهم أن يسرعوا إليه بأبيه : " إسرعوا اصعدوا إلى أبى وقولوا له : " هكذا يقول إبنك يوسف قد جعلنى الله سيدا لكل أرض مصر ، إنزل إلى لا تقف . فتسكن فى أرض جاسان وتكون قريبا منى أنت وبنوك وبنوا بنيك وغنمك وبقرك وكل ما لك ، واعولك هناك لأنه يكون أيضا خمس سنين جوعا لئلا تفتقر أنت وبنوك وكل ما لك .. وتخبرون أبى بكل مجدى فى مصر " ( ع 9 – 13 )

عوض أن يوبخ إخوته على ما فعلوه به وفى حقه من ظلم وقسوة ، رأى – ببصيرة روحية – يد الله القدير وخطته الفائقة لخلاصه وخلاص أبيه وإخوته وأبنائهم من الموت .

أرض جاسان – شمال شرقى الدلتا المصرية – مكانها الآن محافظة الشرقية ، من أجود الأراضى ، كانت أرضا للرعى وقد أقام بها إسرائيل فى أيام يوسف يرعون غنم فرعون وأغنامهم ، وبقى إسرائيل بها حتى وقت الضيقة .

 

( 2 ) دعوتهم لدخول مصر : 

إذ سمع فرعون وعبيده بلقاء يوسف مع إخوته فرحوا جدا ، وكان فرعون سخيا للغاية إذ طلب من يوسف : " قل لإخوتك أفعلوا هذا : حملوا دوابكم وانطلقوا واذهبوا إلى أرض كنعان ، وخذوا آباءكم وبيوتكم وتعالوا إلى فأعطيكم خيرات أرض مصر وتأكلوا دسم الأرض . فأنت قد أمرت ، افعلوا هذا ، خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم ونساءكم واحملوا أباكم وتعالوا . ولا تحزن عيونكم على أثاثكم ، لأن خيرات جميع أرض مصر لكم " ( ع 17 – 20 ) .

ما هى خيرات أرض مصر وما هو دسم الأرض التى اشتهى فرعون أن يقدمها لإخوة يوسف محبة فى أخيهم المحبوب لديه إلا إشارة إلى اسرار ملكوت الله وفيض غنى السماء الذى صار لنا من قبل الله خلال يوسف الجديد المحبوب لدى الآب .

ما أعذب الكلمات التى قالها فرعون : " لا تحزن عيونكم على أثاثكم ، لأن خيرات جميع أرض مصر لكم " ( ع 20 ) .

 لم تكن بالأمر السهل أن يترك إسرائيل الشيخ وبنوه واحفاده وعبيده أرضهم بالرغم مما لحق بهم بسبب المجاعة ما لم يتطلعوا إلى الوعد " لأن خيرات جميع أرض مصر لكم " . ونحت أيضا لا نستطيع أن نتخلى عما لنا فى أرض غربتنا ما لم يفتح الرب بصائرنا لنرى المجد الأبدى المعد لنا إن رحلت قلوبنا إلى هناك .

يوسف فى حب عجيب أراد أن يؤكد لهم صفحه عن الماضى ، إذ وهبهم عجلات وحلل ثياب علامة الكرامة كما قدم لأخيه بنيامين ثلاثمائة من الفضة مع خمس حلل ثياب ، وأرسل لهم عشرة حمير حاملة من الخيرات وعشر أتن حاملة حنطة وخبزا وطعاما لأبيه لأجل الطريق من كنعان إلى مصر ... كما أوصاهم :

 " لا تتغاضبوا فى الطريق " ( ع 24 ) ... إذ خشى أن يلوم بعضهم البعض عما سبق أن فعلوه به ، إنه ليس وقت اللوم ، بل للإسراع بالعودة إليه مع أبيهم ونسائهم وأولادهم وكل ما لهم .

إن كل ما وهبنا يوسف الحقيقى إنما هو " طعام لأجل الطريق " ( ع 23 ) ، أما ما وراء هذا الطعام فهو تمتع بأمور لا ينطق بها ، أو كما يقول الرسول :

" ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه " ( 1 كو 2 : 9 ) .

ما نناله هنا هو عربون وزاد للطريق حتى نبلغ إلى المجد لننعم بكمال العطية الإلهية .

 

( 3 ) إسرائيل يسمع عن يوسف :

" فصعدوا من مصر وجاءوا إلى أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم وأخبروه قائلين : يوسف حى بعد ، وهو متسلط على كل أرض مصر . فجمد قلبه لأنه لم يصدقهم ، ثم كلموه بكل كلام يوسف الذى كلمهم به ، وأبصر العجلات التى أرسلها يوسف لتحمله ، فعاشت روح يعقوب أبيهم ، فقال إسرائيل : كفى ، يوسف إبنى حى بعد ، أذهب وأراه قبل أن أموت " ( ع 25 – 28 ) .

كان الموقف أكبر من يحتمله الشيخ يعقوب ، حتى خيل إليه أن قلبه قد توقف عن النبض . لم تشغله المركبات ولا المجد الذى بلغه إبنه وإنما قال : " أذهب وأراه " ... وكأنه يعلن ما قاله المرتل : " من لى فى السماء ، ومعك لا أريد شيئا على الأرض " ( مز 73 : 25 ) .

عبارة " صعدوا من مصر وجاءوا إلى كنعان " ( ع 25 ) ، توضح أن الكتاب المقدس لا يذكر النزول إلى أماكن مقدسة بل الصعود إليها والعكس أيضا ، فإن مصر كانت فى العهد القديم رمزا للعالم ومحبته .

ليتنا نتحد بيوسفنا الحقيقى فنحمل فيه كل غلبة ، ونكون بالحق متسلطين على مدينة أو أثنتين أو ثلاثة بل على كل جسدنا ( مصرنا الرمزية ) ، به نضبط الفكر وبه نحيا مقدسين فى العواطف والحواس وبه نسلك بوقار !  

+  +  +         

تكوين – الأصحاح السادس والأربعون

نزول يعقوب إلى مصر

يبدو أن يعقوب قد تشكك فى أمر نزوله إلى مصر بالرغم من الظروف القاسية المحيطة به ومن لهيب قلبه نحو إبنه يوسف ، لذلك كلمه الله فى رؤيا وطمأنه من جهة نزوله إلى مصر .

 

( 1 ) أمر الله بالنزول :

اشتاق يعقوب أن ينزل إلى مصر ليلتقى بإبنه يوسف ، وإذ كان متخوفا إرتحل إلى بئر سبع وهناك قدم ذبائح للرب إله أبيه إسحق ( ع 1 ) . هناك كلمه الله فى رؤى الليل ، وقال :

" يعقوب يعقوب ... أنا الله إله أبيك . لا تخف من النزول إلى مصر ، لأنى أجعلك أمة عظيمة هناك ، أنا أنزل معك ، وأنا أصعد معك أيضا ويضع يوسف يده على عينيك " ( ع 2 ، 3 ) .

كانت هذه المرة الأخيرة التى فيها ظهر الله ليعقوب ، ولم يظهر لأحد فى مصر حتى ظهر لموسى فى العلية ( خر 3 ) لأجل خروج إسرائيل من مصر . وكأن الله كان مهتما بنزوله كما بصعوده ... فماذا يعنى نزوله إلى مصر ؟

إن النزول إلى مصر هنا يشير إلى نزول المؤمن كما إلى معركة روحية ، خلالها ينمو ينتصر ويخرج بالرب غالبا لينعم بأورشليم السماوية ، إذ يقول : " لأنى أجعلك أمة عظيمة هناك ، أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضا " ( ع 3 ) . يليق بنا ألا نخاف العدو ، ولا للمعارك مع إبليس ،  ولا نخشى التصدى لصراع هذا العالم لأن الله معنا فى نزولنا وفى إنتصارنا .

يقول العلامة أوريجانوس فى تعليقه على نزول يعقوب إلى مصر ومعه الرب ووعد الله له أنه يصعد من هناك بقوله : [ أظن أن النص يخفى فيه سرا أعمق من الحرف الظاهر ، فإنه تجتذبنى العبارة " لأنى أجعلك أمة عظيمة ، ... " من هو بالحقيقة ذاك الذى صار أمة عظيمة فى مصر ؟ نظن أن النص يخص يعقوب ، ولكن يعقوب مات فى مصر ، إنه إشارة إلى نزول الله للعالم وصعوده إلى الآب بعد موت كل شىء خاصة الإنسان الأول الذى نزل إلى مصر وسط المعارك عندما طرد من بهجة الجنة محتملا عذاب هذه الحياة والآمها .. فإن الله لم يترك الذين فى هذه المعركة بل هو معهم على الدوام ؛ حتى صعودهم من هذا العالم للسعادة الأبدية ، إلى كمال الحياة الأبدية لننال إكليل البر ] .

أما وعد الله له " ويضع يوسف يده على عينيك " ( ع 4 ) فيشير إلى العادة التى كانت سائدة أن يغمض أعز الأقرباء عينى المتوفى .

ونلاحظ هنا أن  يوسف الحقيقى - السيد المسيح - عندما يضع يديه على عينى الأعمى ؛ يحدث شىء آخر هو منحه البصر ! .

إذ نال يعقوب هذه المواعيد فى بئر سبع بعد تقديم ذبائح لإله أبيه إسحق ( ع 1 ) إرتحل من بئر سبع وحمل بنو إسرائيل أباهم وأولادهم ونساءهم فى العجلات ومعهم كل مواشيهم ومقتنياتهم وانطلقوا إلى مصر .

 

( 2 ) النفوس التى رحلت معه :

ذكر لنا السفر قوائم بأسماء أبناء يعقوب وأحفاده ؛ بلغت هذه النفوس 66 نفسا .. وقد ذكر عدد هذه الأنفس فى الكتاب المقدس أكثر من مرة ليؤكد كيف نموا وازدادوا جدا .

فى سفر الأعمال ذكر القديس اسطفانوس عددهم 75 نفسا ( أع 7 : 14 ) ربما لأن القديس اسطفانوس أضاف إلى هذا العدد أحفاد يوسف الخمسة من أفرايم ومنسى .

 

( 3 ) لقاء إسرائيل مع يوسف :

أخيرا .. إلتقى يوسف بأبيه ، فوقع إسرائيل على عنق إبنه وقبله ، وبكى على عنقه من شدة التأثر ، وقد بقى على عنقه فترة لا يستطيع أن يتركه ، وأخيرا قال له : " أموت الآن بعدما رأيت وجهك أنك حى " ( ع 30 ) . إن يعقوب كممثل للكنيسة إذ التقت بيوسفها القائم من الأموات إنسحقت أمامه حبا واشتهت الإنطلاق معه .

أعلم يوسف أباه وإخوته أنه يصعد ليخبر فرعون بحضورهم ، وأوصاهم أن يخبروا فرعون بعملهم كرعاة غنم حتى يسكنوا فى جاسان ( 45 : 10 ) ، أما علة إختياره للموقع فهى :

أولا : أن يكونوا فى شمال شرق مصر ، فى أقرب موقع نحو كنعان ... وكأنه أراد لهم حتى فى غربتهم طوال أكثر من ثلثمائة عام أن يكون قلبهم متهيئا للرحيل إلى أورشليم .

ثانيا : لكى لا يتعرضون لإزدراء المصريين بهم ، إذ كانوا يحسبون رعاية الغنم رجاسة ، فباعتزالهم فى جاسان لا يحتكون بهم .

ثالثا : باعتزالهم فى جاسان لا يتأثرون بالعبادات الوثنية والعادات الشريرة قدر المستطاع . 

+  +  +      

تكوين – الأصحاح السابع الأربعون

لقاء يعقوب مع فرعون

إذ أخبر يوسف فرعون عن مجىء عائلته إلتقى يعقوب بفرعون ، وخرج من لدنه ليسكن فى أرض جاسان حتى يموت هناك .

 

( 1 ) لقاء خمسة إخوة ليوسف بفرعون :

لم يخجل يوسف من أبيه واخوته كرعاة غنم ، فى عينى المصرى رجسيين ، بل بكل إعتزاز إنطلق بمركبته ليلتقى بهم ، ثم أسرع إلى فرعون يخبره بمجيئهم ، وقد طلب من أخوته أن يكونوا صرحاء مع فرعون فى أمر صناعتهم .

قدم يوسف خمسة من إخوته لفرعون نيابة عن الجميع ليتحدثوا معه ، وكأنه بيسوع المسيح الذى يقدم كنيسته كخمس عذارى حكيمات ، أو يقدم البشرية المؤمنة فى المجد خلال تقديس الحواس الخمسة .

قال الرجال لفرعون : " جئنا لنتغرب فى الأرض " ( ع 4 ) ، وهكذا لا يفارق المؤمن شعوره بالغربة حتى يلتقى بعريس نفسه وجها لوجه .

أمام صراحة يوسف وحبه لأخوته ، قال فرعون اكراما له : " أرض مصر قدامك ، فى أفضل الأرض أسكن أباك واخوتك ، ليسكنوا فى أرض جاسان ، وإن علمت أنه يوجد بينهم ذوو قدرة فاجعلهم رؤساء مواش على التى لى " ( ع 6 ) . هكذا القلب المنفتح بالحب لا ينال إلا حبا حتى وإن تعرض فى البداية لضيقات كثيرة . لقد قدم فرعون ليوسف كل أرض مصر ، وسأله أن يعين من إخوته رؤساء لمواشيه إن وجد فيهم من يصلح لهذا العمل .

 

( 2 ) لقاء يعقوب بفرعون :

إذ أدخل يوسف أباه وأوقفه أمام فرعون ، فمع شيخوخته وصعوبة مشيه وربما كانت عيناه قد ضعفتا لكن فرعون شعر بمهابة الرجل والتمس منه البركة ، إذ قيل :

 " وبارك يعقوب فرعون " ( ع 7 ) . غالبا ما انحتى فرعون أمام هذا الشيخ ليضع يديه على رأسه ويباركه .

سأل فرعون يعقوب : " كم هى أيام سنى حياتك ؟ فقال يعقوب لفرعون : أيام سنى غربتى مائة وثلاثون سنة ، قليلة وردية كانت أيام سنى حياتى ، ولم تبلغ أيام سنى حياة آبائى فى أيام غربتهم " ( ع 9 ) .

كان يعقوب يلازمه الشعور بالغربة كل أيام حياته ، خاصة وأن حياته لم تكن إلا سلسة من المتاعب ، سواء فى بيت أبيه من أخيه عيسو المتسم بالعنف .. أو فى بيت خاله الذى خدعه فى زواجه من راحيل ، أو فى خداعه فى أجرته عشرة مرات ، وفقدانه لراحيل وهو فى طريق عودته من عند خاله ، وفى تكدره من أعمال أبنائه فى شكيم بسبب أختهم دينة ، ثم فى فقده لأبنه يوسف بيد إخوته ، وقيام رأوبين بعمل مؤلم للنفس إذ اضطجع مع سارية أبيه ( 35 : 21 ) ..الخ .

هكذا قضى يعقوب حياته سلسلة من المتاعب حتى ليظن الإنسان أنه قد فشل ، لكنه قد جاء السيد المسيح من نسله متجسدا ،ويبقى أبونا يعقوب أبا لكل مؤمن ! انه بارك فرعون ، وعاد أيضا فباركه للمرة الثانية ( ع 10 ) ، وكأن الآلام لم تزده إلا بركة !

 

( 3 ) بنو يعقوب فى رعمسيس : 

اسكن يوسف أباه واخوته فى أرض رعمسيس ( ع11 ) ، أى ( أرض إبن الشمس ) ، ويقصد بها جزء من أرض جاسان .

 

( 4 ) استعباد المصريين لفرعون :

إذ كان الجوع شديدا جدا على الأرض جاء المصريون يقدمون فضتهم لفرعون لشراء قمح لهم ، وإذ فرغت الفضة سلموا مواشيهم . وفى السنة التالية لم يجدوا ما يقدمونه سوى أجسادهم وأرضهم . قائلين : " إشترنا وأرضنا بالخبز فنصير نحن وأرضنا عبيدا لفرعون " ( ع 20 ) . وإذ باع كل واحد حقله لفرعون تنقلوا من أقصى الأرض فى مصر إلى أقصاها ، وصار الكل تحت العبودية يتسلم البذار ليعمل فى أرض لا يملكها ، مقدما خمس المحصولات لفرعون كل أيام حياته . والمؤلم أنهم جاءوا يطلبون العبودية بإرادتهم قائلين : " ليتنا نجد نعمة فى عينى سيدنا فنكون عبيدا لفرعون " ( ع 25 ) .

إذ كان المصريون يرمزون لغير المؤمنين ( إذ كانوا يعبدون الأوثان ) ولمحبى العالم بينما كان العبرانيون يمثلون جماعة المؤمنين ، فالأولون يشتهون حياة المذلة والأستعباد لأبليس مقابل شهوات زمنية أما الآخرون فيستخدم العدو كل طاقاته ويبذل كل الجهد لكى يأسرهم لحسابه . على أى الأحوال حينما كان الأولون يسقطون فى العبودية كانوا يعيشونها كل أيام حياتهم ، أما العبرانى فإن بيع كعبد يلزم فى السنة السابعة أن يتحرر ( خر 21 : 2 ) ... الشرير يسقط بهواه فيقال عنه أنه مثل " كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة " ( 2 بط 2 : 22 ) ، يأكل من قيئه ويلهو فى الحمأة ، أما رجل الله فإنه وإن سقط يقوم ... لا يستريح إلا فى حرية مجد أولاد الله .

ربما يسأل البعض لماذا قام يوسف وهو رجل بار بهذا الدور ، أن يسلم المصريين عبيدا لفرعون ؟

يقول العلامة أوريجانوس : [ نستطيع أن نجيب على هذه الكلمات بأن الكتاب المقدس نفسه يقدم عذرا لتدبير هذا الرجل القديس بقوله إن المصريين باعوا انفسهم وممتلكاتهم ( تك 47 : 20 ) ، فلا يقع اللوم إذن على المدبر عندما يتمم ما يستحقه الذين ينالون الجزاء ، ولعلك تكتشف أن بولس أيضا قد صنع أمرا كهذا عندما سلم شخصا للشيطان كى لا يجدف ( 1 كو 5 : 5 ) ] .

 

( 5 ) وصية يعقوب ليوسف :

إن كان المصريون قد باعوا أنفسهم عبيدا لفرعون وكهنة الأوثان صاروا أصدقاء وأحباء له ، فإن إسرائيل عاش فى مصر أما قلبه فكان مع الله ، إذ قيل : " وسكن إسرائيل فى أرض مصر فى أرض جاسان ، وتملكوا فيها واثمروا واكثروا جدا " ( ع 27 ) . فإن كان إسرائيل قد سكن فى مصر لكنه ذهب إلى أرض جاسان التى تعنى رمزيا تعلق القلب بالله والألتصاق به .

إذ شعر يعقوب أن أيام رحيله قد اقتربت دعا إبنه يوسف وقال له : " إن كنت قد وجدت نعمة فى عينيك فضع يدك تحت فخذى واصنع معى معروفا وأمانة . لا تدفنى فى مصر ، بل اضطجع مع آبائى فتحملنى من مصر وتدفننى فى مقبرتهم " ( ع 29 ، 30 ) . وإذ قبل يوسف الوصية حلف لأبيه أنه يتممها ، عندئذ سجد إسرائيل على رأس السرير ( ع 31 ) .

كان يقصد إسرائيل بهذه الوصية اعلان اهتمامه بقيامة جسده ، والتزام بنيه بالتعلق بمواعيد الله الخاصة بالتمتع بميراث أرض كنعان حيث يدفن فيها آباؤهم ...

إذ نجد يعقوب يسجد على رأس عصا يوسف ، فإن إسرائيل يمثل الكنيسة المتغربة فى العالم كيعقوب فى مصر ، فإنها إذ تجد  يوسف الحقيقى أى ربنا يسوع المسيح يعدها أن يحمل حتى جسدها إلى كنعان السماوية بعد أن يهبه طبيعة روحية جديدة تسجد الكنيسة أمام قضيب ملك عريسها يوسف الحقيقى ، علامة الشكر على إحساناته المستمرة عليها ، وقد رأى كثير من الآباء فى هذه العبارة نبوة صريحة عن الصليب أو المصلوب على خشبة والمستحق السجود له .

+   +  +   

تكوين – الأصحاح الثامن والأربعون

يعقوب يبارك افرايم ومنسى

إذ اقتربت الساعة التى لأجلها احتمل إسرائيل المتاعب كل أيام حياته ، والذى طال انتظاره لها ، أسرع يوسف باحضار أبنيه ليباركهما أبوه ، فتشدد يعقوب وبارك الأصغر بيمينه والأكبر بيساره .

 

( 1 ) مرض يعقوب :

" قيل ليوسف هوذا أبوك مريض ، فأخذ معه إبنيه منسى وافرايم ، فأخبر يعقوب وقيل له : هوذا إبنك قادم إليك فتشدد إسرائيل وجلس على السرير " ( ع 1 ، 2 ) .

إذ شعر يوسف أن أباه مريض مرض الموت أسرع بابنيه منسى وافرايم لينالا بركة أبيه ويتمتعا برجائه فى المخلص ، وكان يود أن ينال الأكبر البركة بيمين يعقوب ...

سمع إسرائيل المريض بخبر قدوم يوسف فتشدد وجلس على السرير ليستقبله ، مقدما له الوصية الوداعية والبركة .

 

( 2 ) يعقوب يبارك يوسف :

فى مباركة يعقوب ليوسف أعلن الآتى :

أولا : أعلن يعقوب فى بدء حديثه ظهور الله له فى لوز ( بيت إيل ) فى أرض كنعان حيث باركه هناك ، وكأنه يريد أن يؤكد ليوسف أن ما يقدمه من بركة إنما هى بركة الرب نفسه العامل فيه خاصة وقت الضيق .

ثانيا : طلب يعقوب من يوسف أن ينتسب إبناه أفرايم ومنسى ليعقوب ، فيكون بهذا يوسف قد نال ضعف إخوته ، إذ صار سبطين بينما كل أخ من إخوته صار سبطا واحدا ، لعله بهذا أراد أن يقيم من يوسف بكرا عوض رأوبين الذى فقد البكورية بتدنيس مضطجع أبيه ( تك 35 : 22 ) .

ثالثا : إذ يبارك يعقوب يوسف فى إبنيه لا ينسى والدته راحيل فيخبره عن موتها وذفنها فى طريق أفراتة الى هى بيت لحم ( ع 7 ) ، وكأنه إلى النفس الأخير لا ينسى زوجته المحبوبة لديه . لعل يعقوب أراد أن يسحب قلب إبنه المحبوب لديه إلى كنعان فلا تنسيه زوجته المصرية ولا كثرة البنين ولا غناه أرض الموعد .

 

( 3 ) يعقوب يبارك أفرايم ومنسى :

إن كان يعقوب يعترف ببركات الله عليه حينما يتقدم ليبارك بنيه وأحفاده ، فإن يوسف إبنه كأبيه يعترف أن إبنيه هما عطية الله له ( ع 8 ) .

طلب يعقوب من يوسف أن يقدم له إبنيه ، وإذ قربهما إليه قبلهما واحتضنهما أما هما فسجدا مع أبيهما يوسف أمام يعقوب . مد يعقوب يده اليمنى على أفرايم الأصغر الذى اوقفه يوسف عن يسار يعقوب ، ومد يساره ليضعها على رأس الأكبر منسى الواقف عن يمينه ، وصار يباركهما ببركة الله إله أبويه إبراهيم وإسحق ، وقد طلب فى البركة الآتى :

اولا : أن تحل بركة الله على يوسف من خلال إبنيه الغلامين .

ثانيا : أن تحل عليهما بركة الملاك الذى خلصه من الشر وقت الضيقة ..

ثالثا : أن يدعى عليهما إسم يعقوب وإسما إبراهيم وإسحق ، وقد تحقق ذلك إذ صار كل منهما سبطا منسوبا ليعقوب بن إسحق بن إبراهيم .

رابعا : طلب لهما أن يكثرا كثيرا فى الأرض ( ع 16 ) .

إن كان يوسف قد تهلل جدا بالبركة التى تقبلها من أبيه فى خص إبنيه لكن الأمر ساء فى عينيه ، وقد أمسك بيدى أبيه ليحول يمينه إلى منسى الأكبر ويساره إلى افرايم وكان يظن بهذا أنه يصحح وضعا لا يفطن له أبوه ، أما الأخير فأبى أن يغير مؤكدا لإبنه أن الله كشف له عن سر عظمة الأصغر بقوله : " علمت يا إبنى علمت . هو أيضا يكون شعبا ، وهو أيضا يصير كبيرا ولكن أخاه الصغير يكون أكبر منه ونسله يكون جمهورا عظيما " ...

كان افرايم عظيما وقويا حتى أنه كثيرا ما دعيت المملكة الشمالية ( إسرائيل ) باسم :

" إفرايم " . ومن هذا السبط خرج يشوع بن نون ( عد 13 : 8 ) .

فى وضع يعقوب يديه على الغلامين  وكأنه يضع صليبا على رأسيهما ، وكأن سر البركة الحقيقية هو " ذبيحة الصليب " .

ختم يعقوب بركته لهما بقوله : " بك يبارك إسرائيل قائلا : يجعلك الله كأفرايم وكمنسى " ( ع 20 ) .. وكأن الله يبارك البشرية خلال كنيستى العهد الجديد والقديم ...

( 4 ) إمتياز يوسف :

فى الختام يعلن إسرائيل لإبنه يوسف أنه يموت لكن قلبه متعلق بوعد الله له ولآبائه من قبله أن نسلهم يرثون أرض الموعد ( ع 21 ) ، وقد وهب إسرائيل إبنه يوسف سهما ( نصيبا ) إضافيا فوق سائر إخوته ( ع 22 ) إذ جعله البكر ، وقبل إبنيه كسبطين . وهبه أيضا أرضا اقتناها بسيفه ورمحه من الأموريين ( يو 4 : 5 ، 6 ) وقد تمتع يوسف أيضا بدفن عظامه فى الحقل الذى إشتراه أبوه ( يش 24 : 32 )

+  +  +

تكوين – الأصحاح التاسع والأربعون

يعقوب يبارك أولاده

بنهاية حياة يعقوب على الأرض ينتهى عصر الآباء البطاركة العظام ( إبراهيم وإسحق ويعقوب ) ، لينطلق إسرائيل لا كأفراد بل كشعب وخميرة كان يجب أن تخمر العجين كله بالإيمان وتعد العالم لمجىء المسيا المخلص . لذا ختم هذا العصر بتقديم البركة لكل سبط تحمل فى طياتها نبوة عن مجىء المخلص .

 

( 1 ) يعقوب يدعو أولاده

" ودعا يعقوب بنيه وقال : اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم فى آخر الأيام " ( ع 1 ) .

بعد حياة مليئة بالجهاد خلالها اغتصب يعقوب البركة والباكورية ، واستحق رغم ضعفاته المتكررة أن ينال الوعد بمجىء المسيا المخلص من نسله ، هذا الذى به تتبارك كل الأمم ، قضى فى مصر 17 عاما فى صمت وسكون ... والآن إذ هو عابر من هذه الأرض تطلع إلى أولاده كأسباط منهم يخرج شعب الله الذى يتمتع بأرض الموعد ، ويأتى المسيا المخلص فانفتح لسانه ينطق بما يراه خلال روح النبوة أو خلال الظلال ، كأنه بموسى الذى إرتفع على جبل نبو يتطلع من بعيد إلى أرض الموعد ، فيفرح قلبه من أجل الشعب الذى ينعم بتحقيق الوعد الذى حرم هو منه .

يمكننا فى إيجاز القول بأن يعقوب رأى بروح النبوة فى أولاده صورة حية للكنيسة المجاهدة فى المسيح يسوع

 

( 2 ) رأوبين :

يبارك يعقوب بكره حسب الجسد وفى نفس الوقت يعاتبه : " رأوبين أنت بكرى قوتى وأول قدرتى ، فضل الرفعة وفضل العز ، فائرا كالماء لا تنفصل ، لأنك صعدت على مضطجع أبيك ، حينئذ دنسته . على فراشى صعد " ( ع 3 ، 4 ) .

يعقوب لا ينسى أن رأوبين صعد ودنس فراشه ، وبسبب ذلك فقد البكورية لينالها إبنا يوسف ( 1 أى 5 : 1 ) ، أما البكورية الروحية فاغتصبها يهوذا . لقد انهزم رأوبين أمام شهوته الجسدية فصار كالماء الذى يفور ليبرد ثانية ، فاقدا أفضليته .

فى الأيام الأخيرة يهاجم الناس مضطجع الآب ، أى الكنيسة العروس ، بقصد إفسادها ، الأمر الذى يحدث هذه الأيام من خلال البدع والهرطقات .

 

( 3 ) شمعون ولاوى :

" شمعون ولاوى أخوان ، آلات ظلم سيوفهما ، فى مجلسهما لا تدخل نفسى ، بمجمعهما لا تتحد كرامتى ، لأنهما فى غضبهما قتلا إنسانا وفى رضاهما عرقبا ثورا ، ملعون غضبهما فإنه شديد ، وسخطهما فإنه قاس " ( ع 5 – 7 ) .

ماذا رأى يعقوب فى إبنيه حتى رفض مجلسهما ؟!

من شمعون جاء الكتبة ، ومن لاوى الكهنة ، وبإرادتهما تمم الكتبة والكهنة الشر بقتلهم المسيح بفكر واحد .. حقا إنهما أخوان ، لكن فى اتحادهما لم يكرما الله بل قتلا المخلص الذى جاء كإنسان وعرقباه وهو المتقدم كذبيحة ( كثور ) ليفديهما .

 

( 4 ) يهوذا :

حقا إن يهوذا لم ينل نصيب إثنين كيوسف ، لكن يهوذا نال نصيب الأسد فى البركة إذ رأى يعقوب السيد المسيح الملك والكاهن يأتى من نسله ، إذ يقول :

" يهوذا إياك يحمد إخوتك ، يدك على قفا أعدائك ، يسجد لك بنو أبيك " ( ع 6 ) .

من هو يهوذا هذا الذى يحمده إخوته ويسبحونه إلا السيد المسيح نفسه الخارج من سبط يهوذا ، الذى وضع بالصليب يده على قفا إبليس عدوه فحطمه ، محررا البشرية من سلطانه حتى يسجدوا له بالروح والحق ..

لقد صار يهوذا هو السبط الملوكى ، بدأ بداود الملك والنبى وتوج بظهور ملك الملوك رب المجد منه

" يهوذا جرو أسد ، من فريسة صعدت يا إبنى ، جثا وربض كأسد ولبؤة من ينهضه ؟! " ( ع 9 )

إذ رأى يعقوب فى صٌلب يهوذا ؛ السيد المسيح دعاه بالأسد الذى خرج من حرب الصليب غالبا أعدائه الروحيين ، لقد جثا وربض على الصليب ... لكن حتى فى نومه على الصليب كان أسدا لا يقدر العدو أن يقترب منه .

قوله " ربض " إشارة إلى موت السيد المسيح بإرادته وليس قسرا ...

يكمل يعقوب حديثه مع يهوذا : " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتى شيلون وله يكون خضوع شعوب " ( ع 10 ) . إنه امتياز يقدمه يعقوب لإبنه الذى يحمل نسله قضيب الملم ومن نسله ( بين رجليه ) يكون الحكم الذى يشرع حتى يأتى المسيا واهب السلام ( شيلون ) فيضم الشعوب إلى مملكته الروحية .

" رابطا بالكرمة جحشه ، وبالجفنة إبن أتانه . غسل بالخمر لباسه ، وبدم العنب ثوبه " ( ع 11 )

إن هذا اللباس من اليهود والأمم غسله السيد المسيح بدمه الطاهر [ الأتان والجحش يشيران إلى الأمة اليهودية والأمم ] ...

" مسود العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن " ( ع 12 ) .

عيناه لامعتان كما بكلمة الحق إذ ترقبان ما يؤمن به ، وأسنانه بيضاء كاللبن معبرا عن قوة كلماته المنيرة ، لذا دعاها بيضاء وقارنها باللبن الذى يقوت الجسد والنفس ] .

 

( 5 ) زبولون :

" زبولون عند ساحل البحر يسكن ، وهو عند ساحل السفن وجانبه عند صيدون " ( ع 13 ) .

سكن زبولون غرب نهر الأردن وغرب بحر الجليل ، بذكره زبولون محددا سكناه بحدود البحر إنما يوضح التحام إسرائيل بالأمم ليصير الشعبان قطيعا واحدا تحت يد الراعى الأعظم الواحد ، الصالح بطبعه ، المسيح . لذلك ففى مباركته يقول موسى :

" افرح يا زبولون " ( تث 18 : 33 ) .

إنه يقدم قولا نبويا عن كنيسة الأمم التى ظهرت فى الإنجيل :

" أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم ، الشعب الجالس فى الظلمة أبصر نورا عظيما "  ( مت 4 : 15 ، 16 ) .

 

( 6 ) يساكر :

" يساكر حمار جسيم رابض بين الحظائر ، فرأى المحل أنه حسن والأرض أنها نزهة ، فأحنى كتفه للحمل وصار للجزية عبدا " ( ع 14 ، 15 ) .

شبه يساكر بحمار جسيم أو ضخم وقوى ، فقد اشتغل هذا السيط بالفلاحة وكان دأبهم الصبر ، وكانت الأرض خصبة فاكتفى السبط بالزراعة ولم يمل إلى الأنشغال بالسياسة إلا نادرا وقد تعرض لدفع الجزية أو الضرائب .

( 7 ) دان :

" دان يدين شعبه كأحد أسباط إسرائيل ، يكون دان حية على الطريق ، افعوانا على السبيل ، يلسع عقبى الفرس فيسقط راكبه إلى الوراء ، لخلاصك انتظرت الرب ! " ( ع 16 – 18 ) .

لما كانت النبوة تحمل مرارة لذلك بدأها بعتاب معلنا أن دان " كأحد أسباط إسرائيل " إذ حسب سبطا مع أنه أول إبن ليعقوب من جارية ( تك 30 : 1 – 6 ) ، وقد عرفت ذريته بالدهاء والمكر ، شبهه موسى بشبل أسد يثب من باشان ( تث 33 : 22 ) .

ذكر القديس إيرنياؤس أن ضد المسيح يخرج من سبط دان ، وقبل كثير من الآباء هذا الفكر . وقد دلل القديس هيبوليتس على ذلك من قول إرميا النبى : " من دان سمعت حمحمة خيله ، عند صوت صهيل جياده إرتجفت كل الأرض فأتوا وأكلوا الأرض وملأها المدينة والساكنين فيها ، لأنى هأنذا مرسل عليكم جيات أفاعى لا ترقى فتلدغكم يقول الرب " ( إر 8 : 16 ) . متطلعا أن ما وصفه إرميا هنا ينطبق على عصر الأرتداد حين يخرج ضد المسيح من سبط دان بجيشه يحارب الكنيسة فى كل الأرض ويلدغ المؤمنين بسموم تجاديفه .

 

( 8 ) جـــاد :

" جاد يزحمه جيش ، ولكنخ يزحم مؤخرة " ( ع 19 )

كان نصيب سبط جاد شرق الأردن كطلبه وقد اشترط موسى النبى على بنى جاد وبنى رأوبين أن يعبروا مع إخوتهم ويحاربوا وعند التقسيم يأخذون شرقى الأردن ( عدد 32 ) . إختيارهم لشرقى الأردن جعلهم معرضين للقتال ، فكانت أرضهم ساحة قتال بين آرام ، وإسرائيل ( 2 مل 10 : 33 ) . كما تعرضوا لغزو العمونيين والأموريين لكن بنى جاد كانوا يلحقون بهم ويقاتلونهم ويستردون غنائمهم . وكان جبابرة سبط جاد مرافقين لداود فى صقلغ ، قيل عنهم : " جبابرة البأس رجال جيش للحرب صافوا أتراس ورماح وجوههم كوجوه الأسود وهم كالظبى على الجبال فى السرعة ... صغيرهم لمئة والكبير لألف " ( 1 أى 112 : 8 – 14 ) .

إذن فجاد يمثل النفس التى تتعرض لحروب روحية كثيرة لكنها لا تتوقف عن الجهاد فى الرب ، تسرع كالظبى نحو أورشليم العليا بلا عائق وتقاتل الخطايا والرجاسات بلا خوف !

 

( 9 ) أشير :

" أشير خبزه سمين وهو يعطى لذات ملوك " ( ع 20 ) .

تنبأ يعقوب عن أشير بكثرة الخيرات ، كما تنبأ موسى عنه أنه يغمس فى الزيت قدمه ( تث 33 : 24 ) .. وقد تحققت النبوتان إذ تمتع سبط أشير بأرض خصبة غنية بأشجار الزيتون التى يستخرج منها الزيت .

 

( 10 ) نفتالى :

" نفتالى أيلة ( أنثى الإيل ) مسيبة تعطى أقوالا حسنة " ( ع 21 ) .

يشبه فى محبته للحرية بأنثى الإيل المنطلقة فى برية مفتوحة ، لكن هذه الحرية ليست فرصة للأنحلال والشر وإنما التزم السبط بعلاقات طيبة مع بقية الأسباط مقدما " أقوالا حسنة " .

باركهم موسى النبى قبل موته : " يا نفتالى أشبع رضى وامتلىء بركة من الرب واملك الغرب والجنوب " ( تث 33 : 23 ) ...

 

( 11 ) يوسف :

نال يوسف " رجل الأحلام " الإبن البكر لراحيل مدحا أكثر من كل إخوته ، فقد كان أمينا فى علاقته مع الله ومحبا للجميع كإبن أو كأخ أو كعبد أو كأجير أو كسجين أو كقائد فى القصر ... لذا دعاه أبوه " غصن شجرة مثمرة " وقد كرر العبارة مرتين إشارة إلى أن الثمرة هى ثمرة الحب ، لأن رقم 2 كما يقول القديس أغسطينوس يشير إلى الحب ، إذ يجعل الأثنين واحدا .. كان يوسف غصنا يثمر حبا سماويا مرتفعا إلى فوق لا يعوقه حائط الظروف المحيطة أو الأحداث ، إذ يقول : " يوسف غصن شجرة مثمرة ، غصن شجرة مثمرة على ماء ، أغصان قد ارتفعت فوق حائط ، فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام ، ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه " ( ع 22 – 34 ) .

إنه كالنفس التى تكون فى الرب غصنا مثمرا مرتبطة بالأصل كقول السيد : " أنا الكرمة وأنتم الأغصان ، الذى يثبت فى وأنا فيه هذا يأتى بثمر كثير ، لأنكم بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا " ( يو 15 : 5 ) .

لقد عزل أبناء يعقوب أخاهم يوسف عنهم وباعوه كعبد يعيش بعيدا عنهم فى مذلة ، فإذا به يراه يعقوب " نذير إخوته " ( ع 26 ) ، أى المكرس لله عن إخوته .. تمتع ببركات علوية وخيرات أرضية فائقة ، إذ باركه أبوه هكذا :

" من يدى عزيز يعقوب ، من هناك من الراعى صخر إسرائيل ،

" من إله أبيك الذى يعينك ومن القادر على كل شىء

 الذى يباركك تأتى بركات السماء من فوق وبركات الغمر الرابض تحت ،

 بركات الثديين والرحم ، بركات أبيك فاقت على بركات أبوى .

إلى منية الآكام الدهرية تكون على رأس يوسف

 وعلى قمة نذير إخوته " ( ع 24 – 26 ) .

هكذا أحب يعقوب إبنه يوسف أكثر من نفسه طالبا من إلهه أن يهبه أكثر مما ناله هو من بركة والده وأن تعم البركة نفسه ( بركات السماء ) وجسده ( بركات الغمر الرابض تحت ) وكل طاقاته ومواهبه ليكون مباركا إلى ابديا ونذيرا عن إخوته يشفع عنهم .

 

( 12 ) بنيامين :

" بنيامين ذئب يفترس ، فى الصباح يأكل غنيمة وعند المساء يقسم نهبا " ( ع 27 )

تشير النبوة هنا إلى شجاعة سبط بنيامين وقوته فى الحروب ، كان شاول الملك من سبط بنيامين ، كان ذئبا أراد أن يفترس داود الملك ..!

 

( 13 ) الوصية الوداعية :

سبق فأوصى يعقوب إبنه يوسف أن يدفنه مع أبيه وأمه وجده وجدته فى كنعان فى مغارة المكفيلة التى اشتراها إبراهيم من بنى حث ، وها هو يكرر الوصية لأولاده الإثنى عشر ... لقد عاش غريبا كآبائه ينتظر تحقيق وعود الله فى نسله ... وأخيرا مات على رجاء ، إذ أسلم الروح وانضم إلى قومه .

+  +  +  

تكوين – الأصحاح الخمسون

دفن يعقوب

مات يعقوب غريبا فى أرض مصر بعد أن أوصى أولاده بدفنه فى كنعان فى مقبرة آبائه ، وكأنه وقد أدرك أن بذرة شعب الله قد غرست فى مصر لتنمو وتترعرع ، يطلب من هذا الشعب أن يبقى قلبه متعلقا بكنعان أرض الموعد حتى يتمتع بوعود الله

 

( 1 ) تحنيط يعقوب :

عاش يعقوب كآبائه متغربا فى خيام ، غير مستقر فى موضع ، وانتهت حياته على الأرض وهو غريب فى مصر ، وقد أصر فى وصيته الوداعية أن يدفن فى كنعان فى مغارة المكفيلة حيث دفن فيها إبراهيم وسارة وإسحق ورفقة ...

يؤكد الآباء أن رجال العهد القديم كانوا يهتمون فى وصيتهم بدفن أجسادهم فى موضع معين كتسليم ملموس خلاله يدرك أولادهم قيامة الجسد ... فقد عاش هؤلاء الآباء كغرباء حارمين أنفسهم وأجسادهم من الترف والتدلل لكنهم ينتظرون أن يحملوا هذا الجسد ممجدا فى يوم الرب العظيم . ...

برغم أن يعقوب عاش أواخر أيامه فى مصر بسبب المجاعة ، ولكن قلبه كان مرتبطا بكنعان التى وعد الله بها إبراهيم أن يتمتع بها نسله ، وهو يريد من أولاده أن أن تكون أنظارهم متجهة إلى هناك دائما .

أراد يعقوب أن يؤكد لأولاده أيضا ، أن حياته تسير فى تناغم وإنسجام مع إيمان آبائه المسلم عبر الأجيال ... خاصة إيمانه بالقيامة من الأموات .

أمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه حتى يحمله إلى كنعان ، وطلب من بيت فرعون أن يسألوا فرعون لكى يسمح لهم بحمل جثمان أبيه إلى كنعان كوصيته ، إذ لم يكن ممكنا ليوسف أن يقابل فرعون بثياب الحزن أو بلحيته التى يطلقها لأجل الميت ، حسب هى العادة فى ذلك الوقت . والتى مازال البعض يتبعها للآن .

 

( 2 ) دفن يعقوب فى كنعان :

تحرك الموكب العظيم من جاسان لينطلق إلى أرض كنعان لدفن إسرائيل ، إذ قال يوسف : " اصعد لأدفن أبى " ( ع 5 ) . وكان الموكب فى عينى يوسف كما فى عينى فرعون نفسه ( ع 6 ) موكب صعود لا نزول ، إذ حمل رمزا لأرتفاع الكنيسة نحو أورشليم العليا ، كنعان الحقيقية ، لتوجد مع عريسها للأبد .

 

وقد تمت مراسم الدفن أو تحركات الموكب على ثلاث خطوات :

الخطوة الأولى : انطلاق الموكب من مصر ، وقد وصفه الكتاب : " كان الجيش كثيرا جدا " ( ع 9 ) . لقد ضم الموكب فى مقدمته يوسف أو هو القائد الحقيقى لموكبنا الروحى الغالب للظلمة ، كقول الرسول : " لكن شكرا لله الذى يقودنا فى موكب نصرته فى المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته فى كل مكان " ( 2 كو 2 : 14 ) . كما يضم الموكب جميع عبيد فرعون وشيوخ بيته وجميع شيوخ أرض مصر وكل بيت يوسف وإخوته وبيت أبيه . وصعد معه مركبات وفرسان . إنه موكب الكنيسة الجامعة التى تضم كل رجال الإيمان من الأمم كما من اليهود ، تضم العبيد مع الشيوخ العظماء .

الخطوة الثانية : كان الموكب عند عبر الأردن فى " بيدر أطاد " ، وكان يمثل الكنيسة التى إشتهت الخروج من محبة العالم إلى التمتع بالحياة السماوية خلال عبورها المعمودية المقدسة . هناك يقف الموكب سبعة أيام ليصنع مناحة مرة ، إذ قيل : " فلما رأى أهل البلاد الكنعنيون المناحة فى بيدر أطاد قالوا :

"هذه مناحة ثقيلة للمصريين ، لذلك دعى المكان إسمه إبل مصرايم الذى فى عبر الأردن " ( ع 11 ، 12 ) .

الخطوة الثالثة : إذ بلغوا أرض كنعان لم نسمع عن دموع أو بكاء ، وكأن الدخول إلى كنعان السماوية ينزع عن الكنيسة آلامها . وكما قيل فى سفر الرؤيا : " وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم ، والموت لا يكون فى ما بعد ، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فى ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت " ( رؤيا 21 : 4 ) .

دخل يعقوب إلى ذات المغارة التى دفن فيها أبوه إبراهيم ، وكأن الكنيسة المتغربة قد إستراحت واستقرت فى حضن إبراهيم .

 

( 3 ) يوسف يطيب قلب إخوته :

ظن أولاد يعقوب أن يوسف ينتقم لنفسه بعد موت أبيهم ويرد عليهم الشر الذى فعلوه به ، فجاءوا إليه يطلبون باسم أبيه وحسب وصيته أن يصفح عن ذنبهم ، أما هو فلم يحتمل توسلهم فى لطف زائد إنهمرت الدموع من عينيه . هنا إزداد يوسف مهابة فى عينى إخوته فسجدوا أمامه ، قائلين : " ها نحن عبيدك " .

لقد صارت كلمات يوسف لإخوته : " أنتم قصدتم لى شرا أما الله فقصد به خيرا لكى يفعل كما اليوم ليحيى شعبا كثيرا " منهجا حيا يجد فيه الروحيون كشفا لأسرار الله ومعاملاته معهم .

 

( 4 ) يوسف يوصى من جهة عظامه :

إن كان يوسف فى محبته لإخوته عزاهم وطيب خاطرهم بقوله : " لا تخافوا ، أنا أعولكم وأولادكم " ( ع 21 ) ، فقد كشف فى وصيته الوداعية أن الله وحده هو الذى يعولهم ويهتم بهم أما هو فيموت ، إذ يقول : " أنا أموت ، ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التى حلف لإبراهيم وإسحق ويعقوب " ( ع 24 ) . الأمر الذى تحقق على يدى موسى ويشوع .

لقد عاش بإيمان آبائه متأكدا أن شعبه لا بد أن ينطلق إلى أرض كنعان ، لذلك استحلفهم قائلا : " الله سيفتقدكم فتصعدون عظامى من هنا " ( ع 25 ) . إشارة إلى رغبته فى مشاركة شعبه الخروج من أرض العبودية ولو خلال عظامه .

أخيرا انتهى سفر التكوين بموت يوسف وتحنيطه ووضعه فى تابوت فى مصر ... وكما سبق القول أن هذا السفر بدأ بالخلقة أى خروج الحياة من العدم بعمل الله ، وانتهى بدخول الإنسان فى الأكفان فى أرض مصر حيث التحنيط والأهرامات الضخمة والفنون والحضارة .. الأمور التى لم تستطع أن تخلصه من الموت وذلك بسبب فساد الإنسان الداخلى .

+  +  +

إن كان اللـــه قد سمح أن يبدأ فى تكوين شعبه المختار كخميرة – وسط الشعوب الوثنية – فى ذلك الوقت ، على أرض مصر ..  هذا الشعب العبرانى الذى يمثل كنيسة العهد القديم .. وفيه عاش البطاركة العظام الأوائل : إبراهيم وإسحق ويعقوب .. فإنه إشارة روحية لتكون أرض مصر وبطاركتها ؛ هى مقر وقيادة كنيسة العهد الجديد .. التى حفظت الإيمان على مر العصور وقدمت آلاف الشهداء ، ومازالت إلى اليوم ترعى الإيمان المستقيم ولا تحيد عنه .. شكرا لألهنا ومسيحنا ..

على هذه الصخرة ابنى كنيستى وابواب الجحيم لن تقوى عليها

وله كل المجد إلى الأبد

آمين

+  +  +

عودة الى الرئيسية