ميزة الكتاب المقدس

. يقول الأب اسطفان شربنتييه في كتابه " دليل إلى قراءة الكتاب المقدس " إن الكتاب المقدس ، لاسيما العهد القديم ، كتاب محير . نعلم ، قبل أن نفتحه ، أنه الكتاب المقدس عند اليهود والمسيحيين ، ونتوقع أن نجد فيه كلام الله غير ممزوج بأي شئ .. فعندما نفتحه .. نجد فيه قصصاً من ماضي شعب صغير ، قصصاً كثيراً ما تكون لا فائدة فيها ، وروايات لا نستطيع أن نقرأها بصوت مرتفع دون أن نخجل ، وحروباً واعتداءات ، وقصائد لا تحملنا على الصلاة ، وإن سميناها مزامير ، وفضائح من أخلاقية قديمة تخطاها الزمن وكثيراً ما هي مبغضة للنساء . كتاب محير …!!" ويعود هذا كله إلى تميز هذا الكتاب عن كل الكتب البشرية ، إذ هو كلمة الله

. ومن ناحية أخرى ، نجد أن الناس يقفون بذهول أمام قوى الفكر الخلاقة، ويعتبرونها مواهب تسبغ علي قلة نادرة. يطلق علي أعمال النابغين صفة "ملهمة" – ذلك لأنها تلهمنا، ولأن الفنان أو النابغة ذاته يشعر وكأن أعماله الإبداعية هي أكثر من مجرد نتيجة نشاط الإنسان ووعيه الخاص

. لذا ، فعندما نقول عن الكتاب المقدس إنه "ملهم" يفهم كثيرون الكلمة علي النحو الذي أشرنا إليه، لكن إذا ما تأملنا في ما يدعيه الكتاب المقدس لنفسه، نجد أن الكلمة "ملهم" تعني أعمق من ذلك، إنها تحمل معني يختلف عن معنى الإلهام الذي تصف به الأعمال الفنية

وحي الكتاب المقدس

. يشهد الكتاب المقدس لنفسه أن رسالته نابعة من مصدر يفوق البشر. فكلمات الأنبياء هي كلمة الله الآتية من خلالهم. "وكانت كلمة الرب إلي النبي …". وبطرس الرسول يؤكد ذلك بقوله: "لم تأت نبوة قط عن إرادة بشر بل إنما تكلم رجال الله القديسون محمولين بإلهام الروح القدس". ولا عجب في قوله أيضاً أن الأنبياء ما كانوا قادرين علي فهم كل مضامين ما نطقوا به من تعاليم، فمصدر كلامهم يتجاوز أنفسهم. كان المتكلم في الواقع :"روح المسيح الذي فيهم إذ سبق فشهد بآلام المسيح وبما يتلوها من المجد"

. لذا كان من الطبيعي أن تستدعي كلمة الله تجاوباً ممتازاً من الذين يسمعونها. فعندما يتكلم النبي بكلام الله، لا من بنات أفكاره تكون كلمة الله للسامعين، علي حد قول إرميا، حنطة تغذي نفوسهم (ما للتبن من الحنطة) أو مطرقة يتحطمون تحت تأثيرها (كمطرقة تحطم الصخر). من هنا استنتج بعضهم أن وحي الكتاب المقدس يكمن في تأثيره بالناس، أي أنه يلهمهم. غير أنهم علي خطأ. يجب الإقرار أن التأثر بكلام الكتاب المقدس يدل علي وحيه. ويمكن لهذا التأثير أن يقود المرء إلي درس الكتاب بتعمق ليري ماذا يقول عن ذاته وعن تأثيره. بيد أن وحي الكتاب المقدس لا يعتمد علي مدي قبول الناس إياه كوحي. هنا نحن ملزمون أن نعتبر ما يدعيه الكتاب المقدس لنفسه. هنا نقطة البداية

. إن استعمال الكتاب المقدس لكلمة "الوحي" الواردة مرة فقط في رسالة بولس الثانية إلي تيموثاوس – تظهر أن الوحي مؤسس لا علي تجاوب الناس، ولا علي الخبرة الذاتية للذين دونوه، لكن علي حقيقة أن "كل الكتاب المقدس موحى به من الله"

. المعني الحرفي لكلمة "موحى" هنا هي "متنفس به"، أي أن الله زفره أو نفخه. والمقصود أن كل الكتاب هو موحى به ، كله لا بعضه، وكله نافع لا أجزاء منه. هذه العبارة الصريحة تصف الكتاب المقدس عموماً ولا تفيد أن الكتاب يلهم الناس بمعنى من المعاني، ولا حتى إنه كتب بواسطة أناس ملهمين، بالمعنى الذي ذكرناه أولاً. بل أن الكتاب المقدس ذاته هو "نفخة" الله في الذين دونوه

نظرة العهد الجديد إلي القديم

. تعامل الذين كتبوا العهد الجديد مع القديم معاملة من يؤمن بوحيه. فهم ما حاولوا أبداً مناقشة تلك المسألة أو حاولوا برهنتها لكنهم اعتبروها أمراً مسلماً به. فبالنسبة إليهم ما كتبه الشعراء في المزامير وما نطق به الأنبياء هو ما قاله الله بالروح القدس. والعبارة "يقول الكتاب"، حسب بولس، تعني تماماً ما تعنيه عبارة "يقول الله". والرسل في نظرتهم هذه إلي الوحي إنما يقتفون إثر يسوع وتعليمه. إذ أن نظرتهم إلي العهد القديم تتعدى النظرة القائلة إنه مجموعة من "قصص ذات مغزى"

. اختار الله أن يبلغ رسالته إلي الناس بواسطة الكلمة، من أجل ذلك استعمل الرسل الكلمات التي دونوها في العهد الجديد بجدية. لا أقول إنهم استعملوا الكلمات بمعزل عن ارتباطها بعضها ببعض وانتظامها في جمل ومقاطع، كما لو كان تبليغ الرسالة بواسطة كلمات متفرقة ممكناً. لكن المثال الذي وضعوه كاف لتحذيرنا من أي موقف أو نظرة ظرفية عشوائية نحو كلمات الكتاب المقدس المعطاة من الله

. كما توازي نظرة العهد الجديد نحو القديم ما يقوله القديم عن نفسه. فالعبارات "قال الرب"، و"هكذا يقول الرب"، و"كانت كلمة الرب إلى … " أو صيغ متشابهة، تصدرت البلاغات النبوية أكثر من 38.. مرة. وقال عاموس وإرميا إنهما كانا يشعران بضغط إلهي لأن ينطقا بكلام الله. وتبلغ حزقيال الأمر الإلهي بأن يبلغ شعبه رسالة الله مهما كانت النتائج

. والعهد الجديد، بطبيعة الحال، لا يذكر الكثير عن وحيه هو. علي العموم، فإن حقيقة كون العهد الجديد مدعوماً بسلطة الرسل هي بحد ذاتها ضمانة كافية لوحيه. أما بولس فيقول بوضوح إنه نال تعليمه من الروح القدس ويدعم الإنجيل الذي ينادى به بقوله إنه أعلن له بواسطة يسوع المسيح. ويؤكد يوحنا في رسالته الأولي : أن ما يكتبه أتاه من المسيح نفسه. ويقول بولس، في موضع آخر، أنه يحكم علي بصيرة الناس الروحية بالطريقة التي يتجاوبون بها مع تعاليم رسائله. وكان يؤمن بشدة أنه والرسل نالوا قوة خاصة لإعلان حق يتجاوز في سموه كل حق سبق إعلانه

. وكان أوضح الكل بطرس عندما وضع رسائل بولس في مقام واحد مع "باقي الكتب". وهذه العبارة الأخيرة تشير، بكل تأكيد، إلي أسفار العهد القديم، وتفيد أن رسائل بولس، في ذلك التاريخ، كانت تقرأ في اجتماعات العبادة وكان لها سلطة توازي سلطة أسفار العهد القديم

تفوق الوحي

. يعلم الكتاب المقدس بوضوح أنه موحى به. لا ريب في ذلك. فكلمات الكتاب المقدس التي دونها البشر أصلاً، كانت كلمات الله. وهذا أمر مختلف تماماً عما نعنيه بالإلهام "الفني" عموماً. من المؤكد أن الله الخالق هو الذي يعطي، بواسطة الروح القدس، البشر الذين خلقهم علي صورته الإمكانية لأن يبدعوا الجمال. والطريقة ذاتها يمنحهم الحنان ليعتنوا بأولادهم أو ليديروا شؤون بلدانهم بحكمة. لكن هذه النعمة الممنوحة من الله لكل البشر، حتى للذين يكرهونه، يجب ألا يخلط بينها وبين القوة المخلصة التي نراها تعمل عندما يؤكد الله أن البشر يمكن أن يروا ويسمعوا كلامه. واستطراداً، صحيح أن صورة الله يمكن أن ترى في كل إنسان، لكن المثال الإلهي يظهر من دون تشويه في إنسان واحد فقط هو يسوع المسيح

تصويب بعض الأفكار الخاطئة

. نعطي كلمة الله المكتوبة حقها الكامل إن تمسكنا بحقيقتين متلازمتين، كما نفعل حيال يسوع الكلمة المتجسد. وهما إن الكتاب المقدس إلهي وإنساني في آن، موحى به من الله وفي الوقت نفسه بشري إلى أقصى حد

. وهذا يعني ،أن يتكلم الله مباشرة من خلال الكتاب المقدس وبشكل فريد لا يجعل من الذين كتبوا الأسفار المقدسة مجرد آلات كاتبة. فكل سفر يحمل في طياته البرهان علي أن كاتبه إنسان نحاول أن نلصق به العصمة ، حتى نصيره فيما يقرب صورة الإله ، وهو ما نراه مثلاً في مفهوم " عصمة الأنبياء " عند المسلمين . وما كان الذين كتبوا الأسفار وحرروها آلات كاتبة ذاتية. لذا فإننا نجد أن البشير لوقا ، قد جاهد ليجمع مواد صحيحة للسفرين اللذين كتبهما واعتنى قدر استطاعته ليكونا سجلين دقيقين. كذلك كتاب العهد القديم استعملوا قواهم الفكرية لتقييم المصادر، تاركين الروايات غير المناسبة لغايتهم، مستعملين المناسب لحاجاتهم. وكتب بولس رسائله وفي ذهنه ظروف معينة يرغب في معالجتها. وثمة اختلافات في الأسلوب جمة بينه وبين يوحنا كما بين اشعياء وهوشع، على سبيل المثال

. من جهة أخرى، أن يكون الكتاب المقدس كتاباً بشرياً لا يجعله، ذاتياً، يحتوي علي أخطاء. فالله، سيد الخليقة كلها هو الذي شكل شخصيات المسؤولين عن تدوين إعلانه وظروفهم، مؤهلاً إياهم لإنجاز قصده. فلا تنكر على الله القدرة، في قصده الخلاصي وحكمته غير المحدودة، علي ضمان الحق في سجلات الوحي ومصداقيتها

. وحقيقة كون الكتاب المقدس كتاباً "ملهماً" لا تعفينا من بذل الجهد الضروري روحياً وعقلياً لفهمه وتفسيره بصحة واستقامة. ولا تعني ضمناً أن جميع أجزاء الكتاب المقدس تعلن الله بالمقدار نفسه. فالقول إن الفصل الثالث من سفر اللاويين والثالث من بشارة يوحنا كلاهما موحى به، لا يراد به أكثر من أن الله أشرف علي نص كليهما بحيث أن الكلمات المستعملة هي أفضل ما يمكن استخدامه لإيصال الحق الخلاصي الذي يريده.حيث استخدم لغة بشرية لإعلان قصده الإلهي

لقد اختار الله إذاً إعلان رسالته الخلاصية بواسطة الكلمة المكتوبة: العهدين القديم والجديد. أما كيف فعل ذلك ولماذا بالتحديد، فصعب علينا إدراكه كعقيدة الثالوث أو كصيرورة الله أنساناً في يسوع المسيح. لكن في كل من هاتين العقيدتين يقدم الكتاب المقدس في تعليمه معنى أفضل من النظريات البشرية أو من حلول الوسط المقترحة. إننا عندما نقبل ما يقوله الكتاب حول هذه الأمور، نضع أنفسنا في أفضل موقع لنتعلم من الله، قائلين مع كاتب المزامير :"أنت يارب كل ما أملك، عهدي أن أحفظ كلمتك".

.. آمن لتفهم

. إن حقيقة الحدث الجوهرية لا تظهر للعيون ، فعلي أن أشعر بها من خلال ما للحدث من وجوه تاريخية ، من خلال ما أراه . فمثلاً : أرى رجلاً وامرأة يتعانقان . هذا أمر مطابق للواقع ، هذا أمر تاريخي . ولكني لا أستطيع أن استخلص منه شيئاً ، لأنه قد أعانق أحياناً أحداً لا أحبه . فإن قيل لي إنهما يحب أحدهما الآخر ، عندئذ يكون للقبلة معنى فتصبح علامة حبهما . " إن قيل لي … " .. هذا يعني أن أصدق ما يقال لي . فلأني أصدق ، فهذا يجعلني أفهم أن هذه القبلة علامة حبهما . إن أردت أن أفهم ، يجب على أن أصدق ، وكوني قد فهمت يقوي إيماني . وهكذا نتقدم ، وكأننا في لولب .. ندور على شكل حلقة ، ولكننا نتقدم في كل دورة

. هذا هو شأن الكتاب المقدس ، وكل ما قلناه ينطبق على الذين وضعوه .. كانوا يروون أحداثاً ، ولكن هذه الأحداث كان لها معنى ، لأنهم كانوا يؤمنون . والأمر ينطبق علينا نحن ، عندما نقرأ الكتاب المقدس .. في استطاعتنا أن ندرسه ، سواء كنا مؤمنين أو غير مؤمنين ؛ وفي استطاعتنا أن نفهم ما تقوله النصوص لنا . ولكننا نفهمها فهماً مختلفاً إن شاركنا واضعيها في إيمانهم ، وإن دخلنا وإياهم في بحث واحد

قد يبدو كل ذلك معقداً إلى حد ما ، ولكننا سنعود إليه فيتضح كل شئ ونحن في الطريق . أما الآن ، فعلينا أن نستخلص نتيجة هامة : ما هو معنى نص من النصوص ؟ أو ما معنى القراءة ؟

معنى النص الموحى به

. حين نكون أمام نص من النصوص ، ولا سيما من النصوص القديمة ، يكون تفكيرنا العفوي على الوجه التالي : أراد الكاتب أن يقول شيئاً ما وأن ينقل معنى ما . وهذا المعنى قد " غلفه " في ألفاظه وثقافته هو . فعلينا اليوم أن " نفكك " هذا المعنى وأن نعيد " تغليفه " في ألفاظنا نحن . يبدو لنا أن في النص معنى موضوعياً و " نواة صلبة " لا بد من استخراجها . فالقراءة هي أن نتناول نصاً وأن نجعله يقول لنا اليوم شيئاً ما ، شيئاً من شأنه أن يحينا . لأنه موحى به من الله ، والله مازال يكلمنا من خلال هذه النصوص ، ولكنه ينتظر منا أن نعيد تفكيك ألفاظه بألفاظنا نحن

الصفحة الرئيسية