القــــرآن

القرآن وحرق المصاحف

عندما نأتي إلى هذه القضية ، والتي يسكت عنها الكثير ممن كتبوا في علوم القرآن من المحدثين ، متجنبينها وعن عمد بينما تناولها البعض ممن دونوا لنا مؤلفات في علوم القرآن وتاريخه من الأولين.. ترى ما السبب ؟

ففي هذه القضية يمكننا أن نشتم رائحة التدبير السياسي ، واستخدام الكتاب المقدس لدى المسلمين ( القرآن ) ، أكثر منها غيرة على حفظه وقداسته . ولنرتب أفكارنا معاً قبل أن نسرد الروايات التي وصلتنا عن حرق المصاحف وردود الأفعال التي كانت حولها :

أولاً : لم يأمر محمد بجمع المصحف في كتاب واحد ، وما الأحاديث التي يتقولها البعض عن مراجعته لمصحف مجموع في حياته ( أي قبل وفاته ) لهي من الآحاد ، إن لم تكن موضوعة أصلاً . وإلا ، ما الداعي لجمعها طالما أنه جمعها في حياته ؟

ثانياً : أن الجمع تم على مراحل ، فمن صدور الرجال ، إلى رقائق وصحف لدى البعض من الصحابة ، وطبعا العارفين للقراءة والكتابة ، إلى مصاحف لدى الأئمة من الصحابة ، ثم المرحلة السياسية على يد عثمان " الخليفة الضعيف " والذي قتل بين مؤيد لقتله ومعارض ساكت !

ثالثاً أن بعض الأئمة الحافظين للقرآن ، من أمثال عبد الله بن مسعود ، يتم استبعاده ، مع أنه يوجد مصحف معروف باسمه ، وهذا يعني أن لديه نسخة كاملة ، ومع كل ذلك يتم استبعادة من لجنة جمع المصحف ؟

وطبعاً هذه النقاط تتفرع وتتشعب فتدخلنا إلى نتائج لا يحبها المسلمين ، إلا أن العابد الحق لله ، سيستخدم عطيته ( العقل ) ليخلص للنتيجة الحقة ! والآن ماذا عن الروايات في شأن حرق المصاحف ؟

بادئ ذي بدء ، يجب أن ننتبه إلى أن التمسك بالمصاحف السابقة على المصحف العثماني لم تبده حفصة بنت عمر فقط ، وإنما أبداه جماعة من أهل العراق حين جاءوا يطلبون مصحف أبي بن كعب من ولده محمد . وقد ورد خبر ذلك في الرواية التالية :" إنما تحملنا إليك من العراق ، فأخرج لنا مصحف أبي ، قال محمد " قد قبضه عثمان ، قالوالوا سبحان الله أخرجه لنا ! قال : قبضه عثمان ([1])". وعندما حرقت المصاحف هرع المسلمون العراقيون إلى عبد الله بن مسعود يستقصونه الخبر ، فقد كانوا يقرأون مصحفه . أخبر عن ذلك فلفلة الجعفي بقوله : فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في حين راعنا هذ الخبر ([2]) . وورد في الرواية ، أن عبد الله بن مسعود لم يذعن في البداية لقرار حرق وإتلاف المصاحف ومنها مصحفه ، فقام مناشداً العراقيين :" يا أهل العراق ، التموا المصاحف التي عندكم وغلوها ( أي احفظوها) ، فإن الله يقول : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، فألقوا الله بالمصاحف ([3]) " .

كما كان لعبد الله بن مسعود موقف من ترتيب أمر جمع المصحف أولاً ، ومن الحرق والإتلاف ثانياً . فهو يعرف والناس تعرف ، أنه أفضل من يقوم بهذا الأمر ، وحينها أخذ يفصح عما في صدره قائلاً : " يا معشر المسلمين ، أعزل عن نسخ المصاحف وتولاها رجل ( وهو زيد بن ثابت ) ، والله لقد أسلمت وأنه لفي صلب أبيه كافراً([4])". وقال أيضاً :" فكيف تأمروني أن أقرأ قراءة زيد ، ولقد قرأت من في ( فمي ) رسول الله بضعاً وسبعين سورة ، ولزيد ذوؤابتان يلعب بين الصبيان ([5])". وورد في المفاضلة بين ابن ثابت وابن مسعود " أن عبد الله بن مسعود بدري وذاك ليس هو ببدري ، وإنما ولاه لأنه كاتب رسول الله([6])" . وفي فضل ابن مسعود وردت أحاديث نبوية منها ، عن ابن عمر :" استقرأوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ()" . وعن أبي بكر وعمر ، أن الرسول قال أيضاً :" من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ( ابن مسعود)([7]) . ولكن الاثنين ، ابا بكر وعمر ، تنكرا لفضله في مهام جمع المصحف ! ، ثم استبعده عثمان في عملية جمعه ؟

من كل ما سبق ، نستخلص التالي ؛ أن التشريع وأمر الحكم ، والخوف من خلخلة المركزية كان وراء أن يبقى مصحف واحد . أما أن حرقها كان لصيانة وحدة المسلمين ، فالأمر لم يكن أكثر خطورة من الاختلاف من الاختلاف في التفسير والتأويل ، فهو قرآن واحد والمسلمون تفرقوا إلى أكثر من سبعين فرقة ومذهب . إن حال التمذهب حال سليمة ، فما دام هناك حياة وتطور اجتماعي وفكري ، لا بد أن تتبلور آراء ومفاهيم تقود إلى قيام فرقة أو مذهب . ومع هذا لم يمر حرق المصاحف دون معارضة ، وأكثر من عارضه المسلمون العراقيون عندما وقفوا مع عبد الله بن مسعود ، وذهبوا يبحثون عن مصحف أبي بن كعب ، كما سبقت الإشارة . وعارضه المسلمون المصريون أيضاً ، عندما قدموا ناقمين على عثمان بن عفان قائلين :" انه محا كتاب الله عز وجل ، وحمى الحمى ، واستعمل أقرباءه([8]) ". وذكر المصدر نفسه أن عثمان وافق مضطراً على جواز القراءة من غير مصحفه قائلاً:" أما القرآن فمن عند الله إنما نهيتكم لأني خفت عليكم الاختلاف فأقرءوا على أي حرف شئتم" . وقد يطرح السؤال نفسه : لماذا لم يفكر عمر بحرق الصحف والمصاحف التي كانت موجودة في عهده ، كمصحفي عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ؟ ولماذا ظهر الخلاف مفاجئاً بعد قتل عمر ؟ وهل كان عمر غافلاً عن وجود تلك المصاحف ؟ أسئلة عديدة تحتاج إلى إجابات ، ابتعد عن إثارتها الباحثون ، وقبلوا بواقع الأمر!

ولعل من العجب أن نرى الشيخ محمد رشيد رضا يقول في مقدمة النسخة العربية لـ " إنجيل برنابا" ناقداً الكنيسة :" لو بقيت تلك الأناجيل كلها لكانت أغزر ينابيع التاريخ في بابها ما قبل منها أصلاً للدين ، وما لم يقبل ، ولرأيت لعلماء هذا العصر من الحكم عليها والاستنباط منها بطرق العلم الحديثة المصونة بسياج الحرية والاستقلال في الرأي والإرادة ما لا يأتي مثله من رجال الكنيسة الذين اختاروا تلك الأربعة ورفضوا سواها ([9])". ولعل الشيخ رضا وهو يدين إتلاف أو إبطال الأناجيل الأخرى – وهذا هو الأدق ، إذ ما تزال بين أيدينا ، وفي متناول كل باحث تلك الأناجيل " الأبوكريفية " وهي رهن أمر الباحث ، حتى أن دور نشر إسلامية قد نشرت ، في مصر ترجمة لإنجيل توما ، وآخر لإنجيل يوحنا ، وهما من الأناجيل المرفوضة من الكنيسة !- أومأ دون قصد منه إلى إتلاف المصاحف في زمن عثمان بن عفان ..!

القرآن وتحريفه>>>>


[1] - المصاحف ، ص 32 – 33.

[2] - المرجع السابق ، ص 25

[3] - المرجع السابق ، ص 25

[4] - المصاحف ، ص 25

[5] - المصاحف ، 22

[6] - الرجع السابق ، 25

[7] - كنز العمال 3071/2

[8] - المصاحف ، ص 19

[9] - محمد رشيد رضا ، مقدمة الناشر في إنجيل برنابا ، ص(ف)

الصفحة الرئيسية