الكتاب المقدس وعلم الفلك

جون سي. ويتكمب

الناشر Whitcomb Ministries

نقله إلى العربية فريق الترجمة والتعريب
مقدمة بقلم المترجم
مدخل الكتاب المقدس وعلم الفلك
خلق الله الكون
عدد النجوم
التنوع في الكون
عمليات وحوادث الكون
منشأ الكون
الخلق المفاجيء للكون
الشمس والقمر والنجوم خُلِقَتْ بعد الأرض والحياة النباتية
مصير الكون الفلكي
هدف الكون
الخالق وحده يستطيع أن يلبّي حاجاتنا

 

مقدمة بقلم المترجم


 

إن الخلق، خلق الإنسان والكون، هو قضيةٌ إيمانيةٌ وليست فلسفيةً. هل خلق اللهُ الكونَ من مادةٍ سابقةٍ أم من العدمِ؟ وكيف خلقَ اللهُ الكونَ؟ وما القصدُ الإلهي من هذا الخلق؟ كيف ننظر إيمانياً إلى نظرية النشوء والتطور؟ وهل تتعارض أم تتناقض هذه مع رواية الخلق كما وردت في سفر التكوين؟ كلُّ هذه الأسئلة يجيب عليها هذا الكتيِّب.

أما المؤلف فهو الدكتور جون سي. ويتكمب (John C. Whitcomb) الذي درَّس اللاهوتَ والعهدَ القديم في معهد غريس ( (النعمة)) اللاهوتي: (Grace Theological Seminary) في "وينونا ليك" (Winona Lake) في إنديانا (Indiana)، الولايات المتحدة. ولقد ساعد في تأسيس كنيسة في "بورتو ريكو"، وقام بالتعليم وإلقاء المحاضرات وكتابة المقالات في مختلف البلدان، داخل الولايات المتحدة وخارجها، وعُنِيَ بشكل خاص بتأليف الكتب عن الكتاب المقدس وعلاقته بعلم الفلك.

هذا الكتاب يُعطينا أفكاراً عن كل هذه المواضيع التي لا تزال تُطرح حتى في العصر الحالي، من قِبَلِ مؤمنين وملحدين، فيناقشها من وجهة نظر إيمانية وبطريقة علمية منطقية مقنعة تجعلك تؤمن أن لله شأنٌ في خلقِ الكون ووضعِ الإنسان فيه، وعلينا أن نفهم ذلك ونؤمن به.

نأمل أن يكون هذا الكتيّب مفيداً لكل مؤمن، أو حتى متشكّك، علّه يجد فيه ضالَّته المنشودة. ونرجو أن تنال هذه الترجمة استحسانَكم، وأن يستخدمَها الله لمجدِ اسمِه العظيم، آمين.

فريق الترجمة

مدخل الكتاب المقدس وعلم الفلك


 

"لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ" (رومية 1: 20).

إن الهدف النهائي الجوهري والمغزى من الكون الفلكي لاهوتيٌّ هو، وذلك بأن يخبرنا بطريقة حيوية عن الأمور الهامة المتعلقة بالله التي ما كنا لنعرفها لأننا مخلوقات محدودة. إن العددَ الكبير وغير المحدود تقريباً في تنوع الأجرام السماوية، واعتماديتها الكلية على الرغم من التغيير المضطرد، وأصلها الفائق الطبيعة ومصيرها، تشير كلها بشكل لا لبس فيه إلى إله حي شخصي هو المصمم الأسمى، والخالق، والذي يمدُّ الكونَ بأسباب الحياة والبقاء.

 

مجرة حلزونية

مجرة حلزونية (M51) في السَّلوقان (كوكبة شمالية)، مكونة من 100 مليار نجمة

خلق الله الكون


 

رغم أن الله نفسه غير مرئي للبشر ("أموره غير المنظورة")، فإن الكون الذي خلقه ("أي المصنوعات") هي فعالة ومؤثرة كقناة للوحي على أن "قدرته السرمدية ولاهوته" يمكن أن "تُرى بوضوح" فعلياً و"تُدررَك" من قِبَلِ البشر. في الواقع إن الله يُظهرُ أموراً كثيرةً بوضوح شديد عن نفسه من خلال الكون الذي خلقه، ولذلك فإن الناس "بلا عذرٍ" (رومية 1: 20).

لسنا في حاجةٍ إلى أدوات خاصة كالمرقاب (التلسكوب) لنكتشف أن الله قويٌ قديرٌ بلا حدود كخالق. هذه الحقيقة قريبة إلى أذهاننا جداً وسهلة الإدراك أكثر مما نتصور، "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ [في اليونانية en: (ἐν)] لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ [في اليونانية autois: (αὐτός)]" (رومية 1: 19).

إن المشكلة التي كان الناس دائماً يجدونها في المضامين اللاهوتية للفلك هي ليست نقص الدليل، أو الحقائق، أو المعطيات، أو المعلومات، أو الحقيقة، أو النور (الوحي العام أو الطبيعي). فالدليل هو في كل مكان حولنا. إننا ببساطة مغمورون فيه على جميع الأوقات. "اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إلى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً وَلَيْلٌ إلى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً. لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ وَإلى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَناً فِيهَا" (مزمور 19: 1- 4). "فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ الْقُدُّوسُ. ارْفَعُوا إلى الْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا مَنْ خَلَقَ هَذِهِ؟ مَنِ الَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ الْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ الْقُدْرَةِ لاَ يُفْقَدُ أَحَدٌ" (أشعياء 40: 25- 26).

حتى الطفل الراعي الذي يرعى قطيع والده ليلاً قبل 3000 سنة في يهوذا، كان يمكن أن يرفع ناظريه ويرى الله من خلال أعمال أو صنائع يديه السماوية. "إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا. فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!" (مزمور 8: 3- 4).

ولذلك، فإن المشكلة الحقيقية لم تكنْ أبداً في قلة أو ندرة أو غموض أو إبهام الدليل. لقد كانت رفض الإنسان الخاطئ بأن يذعن للدليل. ولذلك فإن نفس المقطع في رومية، الأصحاح1، التي تؤكد لنا على معرفة البشر الواضحة وفهمهم لقوة الله وألوهيته من خلال الشهادة القوية للوحي الطبيعي، تؤكد هذه أيضاً على أن "غَضَب اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ" (رومية 18، 19، 21، 22).

ولذلك، ولأن الناس "لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ"، فإنه "أَسْلَمَهُمُ إلى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ" (رومية 1: 28). بمعزل عن نعمة الله الخاصة من خلال موت وقيامة ابنه، التي جعلها الإنجيل معروفة ("البشرى الحسنة")، إن شهادة النجوم تبقى مخفية عن البشرية التي أعمَتْ ذاتها (1 كو 2: 18). بل إن الله حتى يوجّه الشيطان ليعززَ هذا العمى المقصود والمتصلب فلا يعود نور الخالق ينفذ بشكل فعال إلى فكر وقلب البشر (2 كو 3- 4).

كانت هذه حالتي شخصياً وأنا طالب في جامعة برينسيتون في بداية الأربعينات. لقد قبلتُ بسرور وبشكل كامل كقناعة شخصية الفلسفة المادية والنشوئية لأساتذة العلوم عندي، حين كنا ندرس أصل ومنشأ العالم. لم يكن لدي أي اهتمام من أي نوع باكتشاف الهوية الحقيقية لخالقي. لم تكن لدي رغبة في قلبي بأن أخضع له كرب مطلق عليَّ ودياني الآتي. ولعله يمكنني القول أن هذا الموقف كان يشاركني فيه كل هيئة التدريس والإدارة وتقريباً جميع أعضاء الهيئة الطلابية. لم يكن أحد في عائلتي يشجعني على أن آخذ بعين الاعتبار تصريحات إلهي وخالقي.

بعد ذلك، وبنعمة الله المذهلة والغامضة، دعاني اثنان أو ثلاثة من الطلاب لأحضر صفاً لتعليم الكتاب المقدس كان يعطيه خريج من جامعة برينسيتون كان قد خدم كمبشر في الهند. بعد بضعة شهور من سماع تصريحات يسوع المسيح وقد قُدِّمتْ على نحو صحٍيح ومُحِبّ، أتيتُ إلى مرحلة اتخاذ القرار. ومن جديد قرأت تصريح يسوع المسيح ربي وهو يقول: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إلى الآبِ إِلاَّ بِي" (يوحنا 14: 6). وآمنتُ عند ذاك بما قرأت. "الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ" و"فِي الْمَسِيحِ" صرتُ "خَلِيقَةً جَدِيدَةً" (2 كورنثوس 5: 17).

لا شيء في فلك الله تغير في تلك اللحظة. بل أنا من كان قد تغير. فمن منظور جديد منحني إياه الله مصحوباً بشبكة من الإعلان الخاص في الكتاب، وصلتُ الآن إلى رؤية مختلفة جذرياً عن حقائق كون الله. سرعان ما اكتشفت أنه، في حين أن وحي الله المكتوب ليس كتاباً مدرسياً في علم الفلك بالمعنى التقني لذلك المصطلح، وهذا أمر واضح، إلا أنه إلى حدٍّ بعيد كتاب ذو سلطة إلهية على فلسفة العلم وعلى ترتيب ومدة وطريقة الأحداث التي خلق بها الله الكونَ، وبالتالي يوجهه ويديره بها.

ما الذي يُخبرنا به الله فعلياً بكلمته بما يخص علم الفلك (في اليونانية: "علم النجوم")[1]؟

 

عرض للزمن في مركز درب التبانة

عرض للزمن في مركز درب التبانة. المسار هو لقمر صناعي عابر. (مرصد الولايات المتحدة البحري)

[1]- علم الفلك: (astronomy): على الأرجح أن الأصل كلمة يونانية هي (astronomia)، وتعني حرفياً: "نظام ترتيب النجوم" [فريق الترجمة].

عدد النجوم


 

أولاً، يخبرنا (الله) أن عدد النجوم، من منظار بشري، هو غير محدود. رغم أن عدد النجوم المنظور للعين المجردة هو حوالي 2500 نجماً،[2] إلا أن الناس كانوا يعتبرونه على الدوام على أنه عددٌ لا يُحصى عملياً. وهكذا قاد الله أبرام في إحدى الليالي إلى السماء المكشوفة في العراء وقال له: "«انْظُرْ إلى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ إنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَعُدَّهَا». وَقَالَ لَهُ: «هَكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ»" (تكوين 15: 5).

كان الله قد أخبر أبرام قبلاً: "أجْعَلُ نَسْلَكَ كَتُرَابِ الأرْضِ حَتَّى إذَا اسْتَطَاعَ أحَدٌ أنْ يَعُدَّ تُرَابَ الأرْضِ فَنَسْلُكَ أيْضا يُعَدُّ" (تكوين 13: 16). وبعد سنوات، وعده قائلاً: "أكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيراً كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ" (تكوين 22: 17)؛ قارن مع (إرميا 32: 22). وهكذا، إذاً، أخبر الله إبراهيم ما كان من المتعذر على أي فلكي قديم أو قروسطي[3] أن يتخيل، أعني بذلك أن النظام ذا العدد الهائل من النجوم في الكون هو كعدد ذرات التراب في القارات وحبات الرمل على كل شواطئ العالم.

فمن منظور بشري، إذاً، يكون الكون غير محدود في حجمه. ويستخدم الله هذه الحقيقة كتحدٍ لأولئك الذين ينكرون عهده الأبدي مع شعب إسرائيل. فقد قال الله بإرميا: "إِنْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ تُقَاسُ مِنْ فَوْقُ وَتُفْحَصُ أَسَاسَاتُ الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ فَإِنِّي أَنَا أَيْضاً أَرْفُضُ كُلَّ نَسْلِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَجْلِ كُلِّ مَا عَمِلُوا يَقُولُ الرَّبُّ" (إرميا 31: 37).

التصريح الكتابي الأكثر إثارةً عن عدد النجوم الحقيقي في الكون نجده في (مزمور 147: 4- 5): "يُحْصِي عَدَدَ الْكَوَاكِبِ.... عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا ..... لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ". الفكرة الواضحة هنا هو أن أحد التصريحات العظيمة التي لله تدل على فهم لا محدود لديه هو أنه هو نفسه من أحصى عدد النجوم. ولا يمكن لأحد سواه أبداً أن يقدر على فعل ذلك. وفي الواقع، إنه قادرٌ على أن يؤكّد لنا أنه "لاَ يُفْقَدُ أَحَدٌ" (أشعياء 40: 26).

 

المجموعة النجمية الكروية في كوكبة الجاثي

المجموعة النجمية الكروية في كوكبة الجاثي (M13)، على الحافة الخارجية لدرب التبانة. آلاف من النجوم المنظورة الخاضعة للجاذبية. 

[2]- جوزيف سي. ديلاو، "المياه فوق" (شيكاغو: منشورات مودي Moody، الطبعة المنقحة، 1982، 1981)، ص 304.

[3]- قروسطيّ: (medieval): متعلق بالقرون الوسطى. [فريق الترجمة].

التنوع في الكون


 

ثانياً، يخبرنا الله شيئاً عن تنوع كونه. فكل مجموعة فلكية فريدة لا مثيل لها. بينما يظهر للمراقب البشري العادي أن كل النجوم متشابهة على نحو ممل رتيب، إلا أن خالقها يؤكّد لنا أن "نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ" (1 كورنثوس 15: 41). إن كلَّ نجمٍ مجيدٌ لأنه "مصنوع باليد"، وبالتالي فهو نِتاجٌ فريدٌ من صُنْعِ الفكر الإلهي.

ولكنّ هناك مستويات مختلفة لهكذا مجد. وهذا يتضح من حقيقة أن الله، ليس فقط "يُحْصِي عَدَدَ الْكَوَاكِبِ"، بل أيضاً "يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ" (مزمور 147: 4؛ قارن مع أشعياء 40: 26). إن المفهوم الكتابي لإعطاء "اسم"، [وفي العبرية shem (שׁם)]، لشخص أو لشيء ذو مغزى كبير. فهو أبعد من أن يكون مجرد منح اسم بشكل اعتباطي وبالتالي بدون أهمية (كما في حالة "إعطاء اسم" لأولادنا)، بل يشتمل على فهم للصفات والسمات الخاصة بهذا الشيء المُسمّى. ولذلك فإن آدم كان مُشاركاً مهماً في هذه العملية الفكرية العظيمة ذات المغزى عندما "دَعَا بِأسْمَاءٍ" جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ (تكوين 2: 20)، وأخيراً "دَعَا اسْمَ امْرَاتِهِ «حَوَّاءَ»" (تكوين 3: 20). ومن هنا نجد أن بولس "أَحْنى رُكْبَتَيه لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ" (أفسس 3: 14، 15). إن حقيقة كون الله وحده هو الذي يستطيع أن يسمّي كل نجم باسمه هي طريقته ليقول أن التنوع والجودة في الكون النجمي هو صورة مادية منعكسة كافية ووافية تُظهر للبشر علمه الكلي ومعرفته غير المحدودة.

 

صورة البدر

صورة البدر، وقد التقطت من مركبة أبولو 11 ، على بعد 10 آلاف ميل من الأرض. هذه الصورة المقربة تشبه الرسوم غير المتقنة التي رسمها غاليليو. (وكالة ناسا).

عمليات وحوادث الكون


 

وثالثاًَ، إن عمليات الكون هي على نفس المنوال موحية ومنوِّرة. إن وجوه القمر، وحركات الكواكب ["نجومٌ تائهةٌ" من الكلمة اليونانية (πλανήτης) وتعني "شاردة أو طائفة" (يهوذا 1: 13)]، ودوران الأرض، ومدارات المذنبات، والخسوف العجيب، كلها تستحق الانتباه في الكتاب المقدس. إن معظم هذه العمليات والحوادث ترتبط بحاجة الإنسان المعينة لتغيرات في شدة النور. ("النُّورَ الأكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ وَالنُّورَ الأصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ وَالنُّجُومَ")، ومؤشرات إلى الوقت (تكوين 1: 5، 16). إن الله لا يحتاج إلى إضاءة أو نور أو مقياس للوقت، بل البشر هم من يحتاجون إلى ذلك تحديداً.

كيف يصفُ الكتاب المقدس حوادثَ الكون؟ من التكوين وإلى الرؤيا، يتحاشى الكتابُ المقدس على الدوام (من أجل التواصل الفعال مع البشر) التعليم التقني العالي عن معطياتٍ وحقائق ومفاهيم علمية. ومع ذلك- وهذا أمر حاسم لكل النقاش- إن الكتاب المقدس يقدم وصفاً دقيقاً على نحو كامل للأشياء باستخدام لغة المظهر. لقد كان هذا دائماً موضع تحدٍّ ولكن دون نجاح.

إننا نجد مثالاً رائعاً عن هذا المبدأ في رواية خلق الشمس والقمر في (تكوين 1: 16): "فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ: النُّورَ الأكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ وَالنُّورَ الأصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ وَالنُّجُومَ". فبالمطلق، ليست الشمس والقمر "نورين عظيمين" بالمقارنة مع الكثير من النجوم العملاقة. وفي الواقع، إن القمر ليست نوراً على الإطلاق إذا اعتبرنا أن الشمس نورٌ. ولكن من مفهوم سكان الأرض، يصبحُ لهذا القول معنىً أوسع بكثير من تحليل فلكي تقني. إضافة إلى ذلك، فإن هذا القول صحيح تماماً. هناك فقط نيِّران عظيمان منظوران للعين المجردة، وليس ثلاثة أو عشرة.

مثال واضح آخر عن هذا المبدأ نجده في (رؤيا 7: 1) التي تتحدث عن الأرض ذات "أربع زوايا". هذا لا يعني أن الكتاب المقدس يؤيد مفهوم الأرض المسطحة، لأن التعبير التالي يفسّر أن "الزوايا الأربع"، تشير إلى "أربع رياح الأرض". حتى اليوم، يستخدم علماء الأرصاد الجوية جهات البوصلة الأربع ليصفوا حركة الرياح، دون أن يعني ذلك أن الأرض مسطحة.

وأخيراً، ولعل هذا أشهر مثال، هناك آيات الكتاب التي تشير إلى "شروق الشمس" (مثال: رؤيا 7: 2، قارن مع مزمور 19: 4-6). هل يعني هذا أن الكتاب المقدس يعلِّم نظرية مركزية الأرض (النظرية التي يقول بأن الأرض هي المركز المادي الفعلي للنظام الشمسي)؟ أبداً على الإطلاق. لأن لغة المظهر هذه ملائمة جداً حتى أنه لا يمكن حتى لعلماء الفلك في يومنا هذا أن يغيروا فيها[4].

ولذلك، فإن الجدال بمجمله في القرن السابع عشر بين غاليليو والكنيسة الرومانية الكاثوليكية حول إذا ما كانت الأرض تدور حول الشمس أم لا لم تكن له علاقة بالكتاب المقدس. لقد كان غاليليو وكنيسته كلاهما جاهلان بشكل مريع بدلائل الكتاب المقدس ذاته التي تشير إلى تفسيره الصحيح. صحيح ما قاله صاحب المزامير بأن "تثبتت الْمَسْكُونَةُ. لاَ تَتَزَعْزَعُ" (مزمور 93: 1 و 96: 10). وإذ يتحدث عن نفسه، على أي حال، فإنه يؤكد قائلاً أن: "لاَ أَتَزَعْزَعُ" (مزمور 10: 6، 16: 8، 36؛ 55: 22؛ 62: 2؛ 66: 9؛ 121: 3). ويقصد بذلك أن يقول بوضوح أنه لم يتوقع أن ينحرف عن المسار الذي حدده له الله. وعلى نفس المنوال، فإنه لا يمكن للأرض أن تنحرف عن الوظائف التي رسمها لها الله، كما في حركة دورانها حول الشمس[5].

يقول الكتاب المقدس أيضاً أن هناك قانون كوني عام من الانحلال والتفسخ. فالكون بمجمله يتحرك "شاقولياً نحو الأسفل" إلى الفوضى والشواش وليس "شاقولياً نحو الأعلى"، وذلك بواسطة مبدأ نشوئي ابتكاري تكاملي[6]. إن كمية الكتلة/الطاقة الكلية في الكون تبقى ثابتة، لأن عمل الله في الخلق قد انتهى في ختام اليوم السادس: "فَأكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا" (تك 2: 1). وما من شيء آخر أُضيفَ إلى الكون، بل إن ما هو موجود آخذٌ في الانحلال والتفسخ دائماً وفي كل مكان: "السَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ. وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ" (مز 102: 25- 27). "ارْفَعُوا إلى السَّمَاوَاتِ عُيُونَكُمْ ....... فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ كَالدُّخَانِ تَضْمَحِلُّ ...... أَمَّا خَلاَصِي فَإلى الأَبَدِ يَكُونُ" (أشعياء 51: 6).

رغم هذا التدفق الكوني للكتلة/الطاقة الذي ينجرف إلى الأسفل في خواصه أبداً، إلا أنه، مع ذلك، يوجد هناك اعتمادية أساسية. بعد الطوفان مباشرةً وَعَدَ اللهُ نوحاً والبشرية التي بعد الطوفان: "مُدَّةَ كُلِّ أيَّامِ الأرْضِ زَرْعٌ وَحَصَادٌ وَبَرْدٌ وَحَرٌّ وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ لا تَزَالُ" (تك 8: 22). إن ديمومة واستمرارية الليل والنهار هي ضمانة على أن الأرض ستستمر بالدوران حول محورها بالنسبة إلى الشمس. إن التغيرات الموسمية تفترض الميلان الدائم لمحور الأرض بالنسبة إلى مستوى دورانها حول الشمس. لاحظ، على كل حال، أن هذا "التحول المتماثل المحدود"[7] للحوادث الجيولوجية والفلكية يستمر فقط "إذا بقيت الأرض".

يؤكد إرميا النبي هذا المبدأ الكتابي البالغ الأهمية بقوة: "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ الْجَاعِلُ الشَّمْسَ لِلإِضَاءَةِ نَهَاراً وَفَرَائِضَ الْقَمَرِ وَالنُّجُومِ لِلإِضَاءَةِ لَيْلاً الزَّاجِرُ الْبَحْرَ حِينَ تَعِجُّ أَمْوَاجُهُ رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْفَرَائِضُ تَزُولُ مِنْ أَمَامِي يَقُولُ الرَّبُّ فَإِنَّ نَسْلَ إِسْرَائِيلَ أَيْضاً يَكُفُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أُمَّةً أَمَامِي كُلَّ الأَيَّامِ" (إرميا 31: 35، 36). "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: إِنْ نَقَضْتُمْ عَهْدِي مَعَ النَّهَارِ وَعَهْدِي مَعَ اللَّيْلِ حَتَّى لاَ يَكُونَ نَهَارٌ وَلاَ لَيْلٌ فِي وَقْتِهِمَا. فَإِنَّ عَهْدِي أَيْضاً مَعَ دَاوُدَ عَبْدِي يُنْقَضُ فَلاَ يَكُونُ لَهُ ابْنٌ مَالِكاً عَلَى كُرْسِيِّهِ" (إرميا 33: 20- 21). "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: إِنْ كُنْتُ لَمْ أَجْعَلْ عَهْدِي مَعَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ فَرَائِضَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. فَإِنِّي أَيْضاً أَرْفُضُ نَسْلَ يَعْقُوبَ وَدَاوُدَ عَبْدِي..." (إرميا 33: 25- 26).

يبدو لي أن هذه التأكيدات القوية نفسها التي في سفر التكوين وإرميا تقدم لنا الإطار الضروري من المراجع لفهم أعجوبة المزولة الشمسية في أيام الملك حزقيا الذي كان على يملك على يهوذا، وحتى يوم يشوع الطويل. إن العلامة التي أعطاها الله لحزقيا (2 ملوك 20: 8- 11) كانت بالتأكيد إحدى أكثر المعجزات تأثيراً في تاريخ العهد القديم. ففي فناء القصر كانت هناك عدة درجات (ليس بالضرورة مزولة كما قد نعتقد عادة)، مرتبة بحيث أن الظل الذي تعطيه الشمس يعطي قيمة تقريبية تعادل وقت النهار. وبناءً على طلب الملك، ومن غير شك في حضور عدد كبير من الموظفين (لعل بعضهم من وزراء الخارجية)، كان الظل يتحرك متراجعاً إلى الخلف لعشر خطوات (أو"درجات").

كيف عمل الله فعلياً هذه المعجزة؟ هل جعل الأرض تتوقف عن دورانها وتتراجع قليلاً إلى الوراء؟ إن جميع المسيحيين الحقيقيين يوافقون على أنه كان بمقدوره أن يفعل هكذا شيء، إذ به تقوم كل الأشياء، أو تتماسك معاً (كولوسي 1: 17). ولكن الكتاب المقدس واضح نوعاً ما أن تلك لم تكن طريقة الله، إذ في إشارته إلى هذه المعجزة، يقول (الأخبار الثاني 32: 24) أن حزقيا "فِي تِلْكَ الأَيَّامِ مَرِضَ إلى حَدِّ الْمَوْتِ وَصَلَّى إلى الرَّبِّ فَكَلَّمَهُ وَأَعْطَاهُ عَلاَمَةً [في العبرية mopheth (מופת)]. ولكن في الآية 31 نعلم أن رُؤَسَاءِ بَابِلَ أرسلوا رسولاً إلى حزقيا "لِيَسْأَلُوا عَنِ الأُعْجُوبَةِ (mopheth) الَّتِي كَانَتْ فِي الأَرْضِ". من الواضح إذاً أنه قد حدثت أعجوبة في مكان جغرافي معين، وهذه لم تتضمن انقلاباً في دوران الأرض، مع ظلال تتراجع عشر درجات في كل أرجاء ذلك المكان من العالم. بل إن الأعجوبة هذه حدثت فقط في مكان معين "فِي الأَرْضِ" (في يهوذا). ولنكن أكثر تحديداً، لقد حدثت فقط في فناء بلاط الملك، فقد "رَجَعَتِ الشَّمْسُ عَشَرَ دَرَجَاتٍ فِي الدَّرَجَاتِ الَّتِي نَزَلَتْهَا" (أشعياء 38: 8).

في قناعتي، إن فهماً صحيحاً لطبيعة هذه الأعجوبة العظيمة يساعد في فهمنا لما حدث في معجزة يوم يشوع الطويل (يشوع 10: 12- 14). بما أن حاجة يشوع كانت إلى إطالة وقت النور (وليس تبطيء حركة دوران الأرض)، فإن حاجته كان يمكن تحقيقها بديمومة فائقة الطبيعة لنور الشمس ونور القمر في وسط فلسطين "نحو يوم كامل" إلى أن أمكن لجيش يشوع استئناف انتصاره العظيم وتدمير أعدائهم على نحو كامل. لقد كانت هذه أعجوبة مذهلة لله. وفي الحقيقة "لَمْ يَكُنْ مِثْلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ سَمِعَ فِيهِ الرَّبُّ صَوْتَ إِنْسَانٍ. لأَنَّ الرَّبَّ حَارَبَ عَنْ إِسْرَائِيلَ" (يشوع 10: 14). لم يكن تغيير اتجاه أشعة الشمس في إحدى ساحات المعارك أو حتى المزولة الشمسية يحتاج من الله قدرات خارقة أو فائقة للطبيعة أكثر منها في أن يوقف دوران الأرض. وعلى نفس المنوال، فلم يكن أقل إعجازاً أو قدرة فائقة للطبيعة لربنا في أن يُنهِضَ رجلاً من الموت، من أن يُقيم كلَّ الناس من الموت في نهاية التاريخ (يوحنا 11: 40 -45؛ قارن مع يوحنا 5: 28- 29).

 

كوكبة الجبار

كوكبة الجبار(الجوزاء).

[4]- للاستفادة من دراسة حول هذه المسألة الحساسة، انظر : ر. ليرد هاريس، "الكتاب المقدس وعلم الكون، نشرة الجمعية اللاهوتية الإنجيلية"، 5: 1 (آذار، 1962) : 11- 17؛ ورسالة إلى المحرر في "مجلة المؤسسة الأمريكية العلمية" 21: 3 (أيلول 1969): 92- 93.

[5]- لمزيد من التحليل عن مناظرة غاليليو، انظر كتاب تشارلز إي. همل، "الثورة العلمية في القرن السادس عشر السابع عشر"JASA 20: 4 (كانون الأول- ديسمبر- 1968): 101؛ جيروم جي. لانغفورد، "غاليليو، والعلم والكنيسة"، طبعة منقحة. (آن أربور: منشورات جامعة ميشيغان، 1971)، ص 1- 158؛ و آر. هويكاس، "الدين ونشوء العلم المعاصر"، ص 124- 126.

[6]- انظر هنري م. موريس في "ما هو علم الخلق؟" الذي كتبه هنري م. موريس وغاري إي. باركر (سان دييغو، كاليفورنيا: منشورات حياة الخلق. 1982)، ص 163.

[7]- "النظرية التماثلية" أو " التحول المتماثل": (uniformitarianism): أو ( (نظرية الحوادث الجيولوجية المتماثلة)): النظرية التي تقول أن نفس الحوادث الجيولوجية قد حدثت في الماضي كما تحدث اليوم، وأن التشكيلات والبنيات الجيولوجية يمكن تفسيرها أو تعليلها بمراقبة الحوادث والعمليات الكونية التي تجري الآن. [فريق الترجمة]

منشأ الكون


 

يقدّم الكتاب المقدس أيضاً للبشرية المعلومات الوحيدة المعصومة والموثوقة التي تتعلق بمنشأ ومصير الكون الفلكي. بالنسبة للفكر العبراني، إن مفهوم خلق الشمس والقمر والنجوم كان لِيُعَظِّم مجدَ الله بسبب الطريقة الخاصة التي يُستَهل بها الأصحاح الافتتاحي من الكتاب المقدس العبري (التكوين) في وصفه لهذا الحدث الكوني. إن الفهم التقليدي العبراني/المسيحي للفصل الافتتاحي من التكوين كان بسيطاً ومباشراً، وعلى النقيض تماماً من الطيف العريض لمفاهيم الخلق التي تميز العالم المسيحي المعاصر، بما في ذلك تلك الآراء مثل النظرية النشوئية الإيمانية (حيث الله يوجّه الكون بعناية فائقة نحو أشكال أعلى وأكثر تعقيداً كالنباتات والحيوانات وأخيراً الإنسان في جدول زمني جيولوجي يمتد على مليارات السنين) ونظرية الثغرة أو الفجوة في (تكوين 1: 1- 2) (حيث يخلقُ الله عالماً كاملاً قبل ذلك بمليارات السنين، و يدمره عند سقوط الشيطان، ثم يعيد خلقه، في ستة أيام حرفية)[8].

هناك سبب وجيه جداً لذ لك: كل القصص والسرد التاريخي في الكتاب المقدس فُهِمَت بطريقة عادية (معروفة تقنياً بالطريقة التاريخية/ النحوية لعلم التفسير، التي تأخذ بالاعتبار ليس فقط النص الذي في كل مقطع بل أيضاً كل الاستعارات والتشابيه). بما أنه ليس هناك دليل على الشعر في الأصحاح الأول من التكوين[9]، فيبدوا واضحاً نوعاً ما أن الله عنى بالأصحاح أن يُفهَمَ بطريقة طبيعية عادية. إن أهملنا، من جهة أخرى، الطريقة التي تأخذ الله بالاعتبار أو الوقت بالاعتبار في التفسير التاريخي/ النحوي، فإننا نضطر عندئذ إلى أن نتخلى عن كل أمل بفهم حاسم لمعنى العبارات الافتتاحية في الكتاب المقدس.

والآن من الضروري أن نميز أن سبب امتداح كتاب الكتاب المقدس لله على عمله في خلق الشمس والقمر والنجوم هو أنهم فهموا قصة التكوين. على الأقل هناك أمران يمكن إدراكهما بوضوح في رواية الخلق كشفت النقاب عن مجد الخالق. أولاً، أن الأجرام الكونية قد خُلِقت فجأة، وبهذا رسخت فرادة قوة الله المطلقة (القدرة الكلية الغامرة الساحقة. وثانياً أن الأجرام الكونية قد خُلِقَتْ بعد خلق الأرض والحياة النباتية[10]، مزيلةً بذلك كل التنافس الممكن (بمعنى الألوهية الشمسية أو القمرية أو حتى "إله" نظرية النشوئية الكونية المدنية الحديثة) لإعلان السيادة النهائية وبالتالي الألوهية.

 

أبولو 17. منظر للأرض

أبولو 17. منظر للأرض، التقطت الصورة خلال النزول الأخير على القمر ضمن برنامج أبولو لوكالة ناسا. وفي الصورة يمكن رؤية كامل ساحل قارة أفريقيا تقريباً (ناسا).

[8]- من أجل نقد مميز لنظرية الفجوة في تكوين 1:1-2 وأيضاً نظريات مشابهة (مثل الفجوات بين أيام الخلق، والفجوة قبل التكوين 1:1 ، إلخ.)، انظر ويستون و. فيلدز، "خربة وخاوية"، وكتاب جون ج. دافيس، "من الفردوس إلى السجن: دراسات في سفر التكوين"، ص 37-57. انظر أيضاً جي. سي. ويتكمب، "الأرض الأولى" ص 141-158؛ وهنري م. موريس، "الخلق العلمي"، ص 220-255.

[9]- و. سي. كيسر، "الشكل الحرفي في تكوين 1-11"، في "نظرات جديدة إلى العهد القديم"، طبعة جي. بارتون باين (1970)، ص 59-60.

[10]- تردد كثيراً القول أن الشمس والقمر لم تُخلق في اليوم الرابع لأن الفعل العبري المستخدم في (تك 1: 16) هو (asah) (עשׂה) ("صنع") وليس الفعل (bara) (בּרא) ("خلق") كما في (تك 1: 1). على كل حال، هذه عثرة تفسيرية جدية. في سياق الخلق، يُستخدم الفعلان بنفس المعنى، كما يُظهر أي فهرس أبجدي. فمثلاً المخلوقات البحرية "خُلقت" (الآية 21) في حين أن الحيوانات البرية قد "صُنِعت" (الآية 25). بالتأكيد هذا لا يعني أن الحيوانات البرية لم تُخلَقْ. إضافة إلى ذلك، هذا الفعلان يُستخدمان بالتبادل لوصف نفس الحوادث: تك 1: 26 ("صنع") و تك 1: 27 ("خلق")؛ تك 2: 4أ ("خلق") و تك 2: 4ب ("صنع")؛ تك 1: 1 ("خلق") و خر 20: 11 ("صنع")؛ تك 1: 16 ("صنع") و مز 148: 3، 5 مع أش 40: 26 ("خلق"). ولكن بروس كي. والتكي يصل إلى الاستنتاج التالي: "علاوة على ذلك، من الواضح أن (asah) (עשׂה) والأفعال الأخرى تدل على أن الخلق كان من مادة سابقة (creatio ex nihilo). إن عقيدة "الخلق من مادة سابقة" لا تستند إلى الفعل (bara) (בּרא) .... فالشمس والقمر والنجوم أتت إلى الوجود بمجرد أن أصدر خالقها الأمر بذلك". ("إن رواية الخلق في تك 1: 1- 3، " "الكتاب المقدس" Biblio Sacra 132: 528 تشرين الأول، 1975، 337). ومن هنا، فإنه من غير الممكن تفسيرياً أن نؤرّخَ نشوء القمر إلى ما قبل اليوم الرابع في أسبوع الخلق. انظر ويستون و. فيلدز، "خربة وخاوية"، ص 53- 74: و جي. سي. ويتكمب: "الأرض الأولى"، ص 151- 153. أنظر بشكل خاص ويتكمب، و دييونغ، "القمر: نشوءه، وشكله ومغزاه" (وينونل ليك، كتب BMH، 1978)، ص 72. إن حواشي ومعظم أجزاء هذه المقالة قد اقتُبِسَتْ من هذا الكتاب.

الخلق المفاجيء للكون


 

إن خلق الكون الفلكي لم يكن فقط من مادة سابقة (ex nihilo) (أي من مادة موجودة سابقاً، كما ورد في عبرانيين 11: 3)[11]، بل كان أيضاً، وبنفس هذه الحالة، فجائياً، أي بشكل مفاجئ وفوري. ولذلك فإن نشوءه لم يكن تلقائياً أو ذاتياً. إن المفهوم النشوئي في التكوين التدريجي لعناصر أثقل فأثقل عبر مليارات السنين تستبعده تصريحات الكتاب المقدس.

بالدرجة الأولى، إن التأثير المباشر الفوري لكلمة الله الخلاقة نجد تأكيداً شديداً عليه في (المزمور 33: 6، 9): "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا. لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ". بالتأكيد لا مجال هنا لفكرة تطور تدريجي، أو عملية محاولة وخطأ، أو تكوين على مدى طويل وخطوة فخطوة. وفي الحقيقة، من غير الممكن أن نتخيل وجود فاصل زمني خلال عملية التحول من العدم إلى الوجود. على نفس المنوال، نجد الآية: "وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ" (تك 1: 3). ففي لحظةٍ لم يكن هناك نورٌ على الإطلاق في أي مكان في الكون ثم فجأة وبلحظة صار نورٌ. هذا الحدث الخَلْقي مثير مذهل جداً لدرجة أن العهد الجديد يقارنه بالاهتداء الفجائي وفوق الطبيعي للمؤمنين (2 كورنثوس 4: 4-6؛ انظر أيضاً 5-17). لعله من المؤكد، وبثقة، أن فكرة الظهور المفاجئ هي الفكرة المسيطرة على كل رواية الخلق (انظر 1:1، 3، 12، 16، 21، 25، 27؛ 2: 7، 19، 22).

هذا يقودنا إلى اعتبار آخر هام يتعلق بخلق الكون الفلكي، أعني به تشابه أعمال الله في الخلق بشخص المسيح خلال خدمته على الأرض قبل حوالي 2000 سنة في فلسطين. بما أن العهد الجديد يوضح أن الكون قد خُلق بالمسيح، ابن الله (يوحنا 1: 3، 10؛ كولوسي 1: 16؛ عبرانيين 1: 2)، وأن المعجزات التي أنجزها (يسوع) إبّان وجوده على الأرض كان يُقصد بها أن يكشفَ طبيعتَه الحقيقية ومجده (يوحنا 1: 14؛ 2: 11؛ 20: 31)، فمن المفيد جداً أن نلاحظ أن هذه الأعمال كان فيها جميعاً تحول مفاجئ. ولذلك، وفي حين أن أحد الفلاسفة أعلن قائلاً: "ما من استراتيجية متزعزعة غامضة وخطيرة مثل التشابه" هناك، فالتشابه الكتابي بين عمل المسيح في الخلق في التكوين وفي الأناجيل يبقى كبيراً ولافتاً بشكل لا يُقاوم.

استجابةً لمجرد كلمة من يسوع المسيح، على سبيل المثال، هدأت فجأة عاصفة هوجاء، وزادٌ كبير من الطعام ظهر للوجود فجأة، ورجل وُلد أعمى فجأة استعاد بصره، ورجل ميت وقف فجأة عند مدخل قبره. ومن بين معجزات الشفاء الهائلة التي قام بها المسيح، الاستثناء الوحيد على فورية الشفاءات هو ذاك الرجل الأعمى الذي استعاد بصرَهُ على مرحلتين، وكل منهما كانت فورية (مرقس 8: 25).[12] هكذا معجزات كانت علامات لا يمكن نكرانها، وتدل على قدرة ربنا الفائقة الطبيعة في إعلانه عن مسيانيته. وإننا متأكدون تماماً أنه لو أَظْهر، في شفائه للمريض والمقعد والأعمى، "استخفافاً مسرفاً بالوقت الذي يمر، هذه السمة التي تميز من يصنع عملاً فنياً"[13]، لما كان أحد ليلقي بالاً إلى إعلاناته وتصريحاته. فلو كان بحر الجليل سيستغرق يومين ليهدأ بعد أن قال يسوع: "«اسْكُتْ. ابْكَمْ»"، لما كان التلاميذ "خَافُوا خَوْفاً عَظِيماً" ولما "قَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (مرقس 4: 39- 41).

إن المضامين اللاهوتية الراسخة في هذه الحقائق للفهم المسيحي لنشوء الكون يمكن تمييزها أو إدراكها من خلال تعليق لنشوئي بريطاني بارز: "إن اللاهوتي ينسب صفات معينة لا متناهية لله الذي يؤمن به؛ فيصفه بأنه كلي المقدرة، وكلي العلم، وذو ألوهية غير متناهية. وإن الفكر الذي يكشف عن نفسه في تطور الحياة على هذا الكوكب من الواضح أنه ليس كلي القدرة، وإلا لكان رَكَّبَ على نحو كامل متعضياتٍ مباشرةً من تراب الأرض دونما حاجة إلى أن يمضي عبر العملية الطويلة من المحاولة والخطأ التي ندعوها النشوء".[14]

إن كل محاولةٍ لتعديلِ أو تلطيفِ فُجائيةِ أو فوقَ طبيعيةِ حوادث الخلق لجعلها مقبولة أكثر بالنسبة لـ "الفكر المعاصر" تُولد فقط السعي الحثيث إلى تصغير وتهميش وإبهام السمات الحقيقية لإله الخلق. وكان هذا درساً قاسياً صعباً توجّب على مسيحيين كثيرين أن يتعلموه.

بالدرجة الثالثة، إن حقيقة أن عمل الله في الخلق استغرق ستة أيام حرفياً يُظهر أن عمل الخلق في كل يوم كان مفاجئاً وفائق الطبيعة. من منظار الاعتراض الواسع النطاق على هذا المفهوم، حتى في بعض الدوائر المسيحية، من المدهش لكثير من الناس أن يعلَموا كم هو قوي الجدال الذي يبسطه الكتاب المقدس لتأييد الفكرة، إن قُبل نهجُ علم التفسير الكتابي التاريخي/ النحوي الذي لا مفر منه:

(1) رغم أن الكلمة العبرية المُستخدمة بمعنى "يوم" (yom) يمكن أن تُشير إلى فترة زمنية أطول من 24 ساعة (مثلاً كما نقول"يوم الرب")، فإن ارتباطهم بالصفة العددية يحصر معناها إلى 24 ساعة ("اليوم الثاني"، الخ.، انظر سفر العدد 7: 12- 78).

(2) إن صيغة "مساءًَ وصباحاً" تتضمن مدة الأربع وعشرين ساعة لدورة الأرض حول محورها في إشارة إلى مصدر ضوء فلكي ثابت (ليس بالضرورة الشمس). هذا التغيير نفسه يرد في (دانيال 26:8) و (14:8) حيث أنه يشير من كل بُدٍّ إلى الأيام بحرفيتها.

(3) ما كان لإسرائيلي أن يفهم أيامَ الخلق عند الله على أنها أكثر من 24 ساعة وخاصة بسبب التشابه الواضح مع الدورة الأسبوعية للإنسان من العمل والراحة (خروج 20 :11؛ 15:31-17). إن التعبير ستة "أيام" (بالجمع) لا يمكن أن تكون رمزية أو مجازية.

(4) إن "الأيام" في (تك1: 14) يجب أن تكون حرفية وإلا فإن كلمة "سنين" الواردة في نفس الآية تصبح بلا معنى.

(5) كلمة "يوم" في (2بطرس 3: 8) يجب أن تكون يوماً بحرفيته لكي يصحّ التضاد مع كلمة "ألف عام". إن الله يستطيع أن يفعل في وقت قصير ما يتطلب من الإنسان أو "الطبيعة" وقتاً طويلاً لينجزه (إن أمكنه ذلك). ولهذا السبب فإن البشر الخطاة سيفضلون بشكل طبيعي أن يمدوا أيام الله في الخلق لتغطي فترات طويلة من الزمن.

(6) بما أن كلمة "يوم" في (تك 2: 4) تنقصُها الصفة العددية، فإنها من الممكن أن تشير إما إلى اليوم الأول أو إلى كل أسبوع الخلق. وإلا فإن العبارة ستعني ببساطة "عندما".

(7) لا يمكن اكتساب أي شيء فعلي من إطالة أيام الخلق لتتلاءم مع الجدول الزمني النشوئي في تاريخ الأرض، لأن الأحداث المنكشفة هي عامة في ترتيب معاكس لذاك الذي تتطلبه النظرية النشوئية (مثلاً الأرض قبل الشمس؛ والحيتان قبل الثدييات البرية؛ والطيور قبل الزواحف).[15]

 

الأرض الرفيعة على شكل هلال


الأرض الرفيعة على شكل هلال

رأى طاقم أبولو 15 هذه الأرض الرفيعة على شكل هلال تصعد فوق أفق القمر. في نفس الوقت كنا على الأرض نرى بدراً كاملاً تقريباً(ناسا).

[11]- إن (عبرانيين 11: 3) لا يمكن بالتأكيد أن تعني أن الجوهر المادي الذي يشكّل كوننا المنظور يتألف من جزيئات ذرية "غير منظورة". وليس هناك حاجة إلى إيمان روحي لقبول النظرية الذرية للمادة. إن الفكرة في هذه الآية الأساسية بما يتعلق بالنظرية النشوئية هي أن قوام المادة لم يُوجَد بأي شكل من الأشكال إلا في فكر الله السرمدي الأبدي كلي العلم والمعرفة إلى أن نطق بالكلمة الخلّاقة. انظر (رومية 4: 17).

[12]- هذا الاستثناء الوحيد من بين آلاف الشفاءات الفورية التي قام بها ربنا لا يمكن بالتأكيد استخدامها كأساس لبرهان المفهوم القائل بأن الخلق قد تم على مراحل، خطوة فخطوة (مع كونه فائق الطبيعة). هذه الواقعة الوحيدة المتمثلة بهذه الحالة الاستثنائية الفريدة تفيد في تحذيرنا ضد الذين يزعمون أن تلك كانت طريقة الله في خلق العالم. إن رواية الخلق لا تبين أي إشارة على "خلق" تم على عدة مراحل وأن ذلك امتد على أزمان ودهور طويلة. إن ما يقال عن حقيقة ظهور القمر إلى الوجود في اليوم الرابع، دبون الإشارة إلى وجود مادة سابقة، يدل على خلق "من مادة سابقة" (ex nihilo)، وليس على عملية خلق أخذت عدة مراحل. ويمكننا الاستعانة بقول ربنا في نص آخر: ".... وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ...." (يوحنا 14: 2).

[13]- ليوناردو فيردوين، "الإنسان، الكائن المخلوق: من أي سلف حيواني؟" مجلة "المسيحية اليوم" Christianity Today، 9: 17 (أيار 21، 1965)، 10. حيث يكتب فيردوين من وجهة نظر نشوئية

[14]- جون ل. راندال، "الباراسيكولوجيا وطبيعة الحياة". (لندن: منشورات سوفينير Souvenir Press، 1975)، ص 235.

[15]- من الاعتراضات الشائعة على تفسير أسبوع الخلق استناداً إلى الأيام حرفياً هو أن اليوم السابع لم ينتهِ بأربع وعشرين ساعة لأن الله كان لا يزال يستريح من عمل الخلق الذي عمله (عبرانيين 4: 3- 11). ولكن سفر الخروج (20: 10- 11) يوضح أنه كان على إسرائيل أن يحفظ يوم السبت المؤلف من 24 ساعة، وكان سبت الله نموذجاً عن ذلك. علاوة على ذلك، فإن آدم وحواء ل بد أن يكونوا أحياء خلال ذلك اليوم السابع كله قبل أن يطردهما الله من الجنة. بالتأكيد ما كان ليلعن الأرض في اليوم السابع الذي باركه وقدّسه (تك 2: 3). هناك اعتراض آخر هو أن تلك الآيات مثل (تك 1: 9- 12) تدل ضمناً على عمليات وحوادث تتعلق بالعناية الإلهية على مدى فترات زمنية طويلة. ولكن أياً كانت العمليات التي جرت خلال أسبوع الخلق فإنها كانت سريعة كمثل العجائب التي صنعها ابن الله خلال رسالته العلنية. إن التعامي عن الفرق بين الأعجوبة والعناية في الخلق يشبه اعتبار الحبل العجائبي بيسوع المسيح على نفس المستوى مع ولادته الطبيعية (أي العناية). أظهر إدوارد جي. يونغ أن تك 2: 1- 3 ترسم خطاً فارقاً بين "الأوامر الإلهية الخاصة والخلقية" و عمل عناية الله العادي ("دراسات في تك 1". نتلي، نيوجرسي، المنشورات المشيخية والمصلحة، 1964، ص 58- 65). للإطلاع على مناقشة كاملة للموضوع، انظر كتاب ويتكمب، "الأرض الأولى" (غراند رابيدز: دار بيكر للنشر، طبعة منقحة، 1986)، ص 24- 40؛ وكتاب ويتكمب، "القمر"، ص 76- 83.

الشمس والقمر والنجوم خُلِقَتْ بعد الأرض والحياة النباتية


 

لقد كان من المفهوم دائماً أن ترتيب الحوادث في الأصحاح الأول من سفر التكوين مقصود وذو مغرى، وأن كل الآراء البديلة عن النظرة التقليدية لأسبوع الخلق الحديثة نسبياً تشترك في نكرانها لهذا الترتيب الإلهي. بينما يقولون بأن نسمح للأصحاح الافتتاحي في الكتاب المقدس أن يتحدث عن نفسه، فإن مناصري هذه الآراء البديلة في الواقع يعكسون نظام الخلق للأرض وللكون النجمي ليلائم النظرية التماثلية التي يجُمعُ عليها الفلكيون المعاصرون. من نتائج هذا القلب هو الانهيار الفاضح المأساوي لرسالة راسخة تتخلل كل العهد القديم: إن الخالق أسمى من المخلوق بشكل لا متناهٍ، بما فيه الخليقة الفلكية. ولذلك فما من جرم سماوي منظور يمكن أن يُعبد.

هذا المبدأ اللاهوتي الراسخ يؤكّده ويظهره بوضوح الحقائق الواردة في الكتاب المقدس بأن النجوم قد أتت إلى الوجود بشكل مباشر وفوري بمعزل عن مواد سابقة الوجود وذلك بمجرد كلمة نطق بها الله خالق الكون، ذلك الفريد، الكلي القدرة، الكلي العلم، القدوس، والمتعالي، إله إسرائيل والكنيسة، الذي له وحده حق العبادة. إضافة إلى ذلك - وهذه الحقيقة المهملة هي مسألة لاهوتية حاسمة- إن الانتقاص غير المحدود لدى النجوم عن إله لخلق مثبت بحقيقة أنها قد خلقت بعد خلق الأرض وخلق الحياة النباتية فيها. وعلى حدِّ قول طالب بارز في تاريخ العلوم: "قد توضّح من الأصحاح الأول من سفر التكوين أنه ما من شيء على الإطلاق، سوى الله، له أن يدّعي الألوهية؛ وحتى الشمس والقمر، التي تعتبرها الشعوب المجاورة آلهة سامية، تأخذ مكانها بين الأعشاب والحيوانات وقد جُعِلَت في خدمة البشر.[16]

إن عبادة الأوثان رائجةٌ أكثر في جيلنا وهي أقل "مصداقية" وصراحة مما كانت عليه في العالم القديم. ولذلك فإن دراسة عبادة الشمس والقمر في "مهد الحضارة" ومسحاً لشجب العهد القديم لتلك العبادة قد يبدو غير ذي صلة تماماً وبعيداً عن القارئ المعاصر. من الواضح بالنسبة للتلاميذ ذوي البصيرة أنه بينما تتغير أشكال وأهداف ومواضيع العبادة الوثنية عبر القرون، فإن الرفض الضمني لشهادة روح الله في قلب الإنسان من خلال الإعلان العام والخاص يبقى على حاله. إن أذهان المعاصرين، وعلى درجة ليست أقل من أذهان القدماء، تعي أن الخالق الذي أُعلن في الأصحاح الافتتاحي في الكتاب المقدس هو مختلف جداً في صفاته ومطالبه من البشر عن أي إله آخر يمكن أبداً أن نتخيله. وهذا هو السبب في أن فهمنا للطريقة والكرونولوجيا[17] المرتبطة بخلق الكون الفلكي لا يمكن أن تكون مسألةً سطحية أبداً، حتى بالنسبة للإنسان "المعاصر".

 

قبة مقراب هالي

قبة مقراب هالي التي تبلغ 200 بوصة (5 أمتار) على جبل بالومار. (التقط الصورة الدكتور ليستر إي. بيفر).

 

[16]- ر. هوكاس، "الدين ونشوء العلم الحديث" (غراند رابيدز: منشورات إيردمانز، 1972)، ص 8.

[17]- الكرونولوجيا: (Chronology): تقسيم الزمن إلى فترات، ودراسة الأحداث الواقعة في كل فترة. [فريق الترجمة]

مصير الكون الفلكي


 

إن الاعتمادية الأساسية للشمس، والقمر، والنجوم لا تتناقض، بل، بمعنى من المعاني، تؤكدها إشارات الكتاب المقدس إلى تقلبات كثافة الضوء المستقبلية فيها. نفس الحقيقة بأن الشمس والقمر والنجوم سوف لن تشرق في يوم الرب، إذ تكون خاضعة للدينونة الكونية، تُقال أيضاً على التاريخ العجيب الذي لا مثيل له، والذي يضيف لها قيمة رمزية في تناسبها الدقيق مع اعتماديتها العادية. وهذا أمر مميز في كل آيات الكتاب المعجزية. إنها لا تتذمر بل تستلزم تماثلاً واتساقاً للعمليات الطبيعية والتاريخية.

قبل ثمانية قرون من المسيح أعلن النبي يوئيل بما يخص الدينونة الإلهية التي ستسبق مباشرة المجيء الثاني للمسيح قائلاً: "قُدَّامَهُ تَرْتَعِدُ الأَرْضُ وَتَرْجُفُ السَّمَاءُ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُظْلِمَانِ وَالنُّجُومُ تَحْجِزُ لَمَعَانَهَا. وَالرَّبُّ يُعْطِي صَوْتَهُ أَمَامَ جَيْشِهِ. إِنَّ عَسْكَرَهُ كَثِيرٌ جِدّاً. فَإِنَّ صَانِعَ قَوْلِهِ قَوِيٌّ لأَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ عَظِيمٌ وَمَخُوفٌ جِدّاً فَمَنْ يُطِيقُهُ؟" (يوئيل 2: 10- 11، وانظر 3: 15). الله نفسه حذّر العالم بقوله: "وَأُعْطِي عَجَائِبَ فِي السَّمَاءِ.... تَتَحَوَّلُ الشَّمْسُ إلى ظُلْمَةٍ وَالْقَمَرُ إلى دَمٍ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمُ الْمَخُوفُ" (يوئيل 2: 30- 31)؛ وهذه استشهد بها بطرس في (أع 2: 19- 20). وطبّقَ حزقيال هذه الدينونة الكونية القادمة على مصر بشكل خاص فقال: "أَحْجُبُ السَّمَاوَاتِ وَأُظْلِمُ نُجُومَهَا، وَأُغْشِي الشَّمْسَ بِسَحَابٍ، وَالْقَمَرُ لاَ يُضِيءُ ضُوءَهُ" (حزقيال 32: 7).

بالاستناد إلى هذه التحذيرات بعلامات دينونة سماوية في نهاية هذا الدهر، تنبأ المسيح مسبقاً بأن: "وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَعَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ...." (لوقا 21: 25). وأكثر تحديداً: "وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ" (متى 24: 29؛ انظر أيضاً مرقس 13: 24- 25).

بعد ستين سنة، وفي حين كان الرسول يوحنا في منفاه في جزيرة منعزلة في بحر إيجه، مُنِحَ رؤيا لحوادث نهاية الزمن الفريدة فقال: "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الرَّابِعُ، فَضُرِبَ ثُلْثُ الشَّمْسِ وَثُلْثُ الْقَمَرِ وَثُلْثُ النُّجُومِ، حَتَّى يُظْلِمَ ثُلْثُهُنَّ، وَالنَّهَارُ لاَ يُضِيءُ ثُلْثُهُ، وَاللَّيْلُ كَذَلِكَ" (رؤيا 8: 12؛ قارن مع 6: 12).

بعد الضيقة العظيمة بانقطاع وظائف الشمس والقمر الفريدة من نوعها والمذهلة بالنسبة لسكان الأرض (قارن يشوع 10: 12-31؛ عبرانيين 3: 11؛ لوقا 23: 4-45)، سيبزغ فجر دهر الملكوت العظيم في نهاية المطاف.[18] سيكون مجدُ ملك الملوك عجيباً جداً عند ظهوره الأول على الأرض لأنه بعد صعوده ومنذ حوالي 2000 سنة "يَخْجَلُ الْقَمَرُ وَتُخْزَى الشَّمْسُ لأَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ مَلَكَ فِي جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَفِي أُورُشَلِيمَ. وَقُدَّامَ شُيُوخِهِ مَجْدٌ" (أشعياء 24: 23). ولكن من منظار آخر، دهر الملكوت سيكون على النقيض تماماً من الظلمة الرهيبة التي ستسبقه مباشرةً، حتى أنه "يَكُونُ نُورُ الْقَمَرِ كَنُورِ الشَّمْسِ وَنُورُ الشَّمْسِ يَكُونُ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ كَنُورِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ يَجْبُرُ الرَّبُّ كَسْرَ شَعْبِهِ وَيَشْفِي رَضَّ ضَرْبِهِ" (أشعياء 30: 26).

ويصف الرسولُ يوحنا المصيرَ النهائي الأخير للكون الفلكي فيقول: "ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشاً عَظِيماً أَبْيَضَ، وَالْجَالِسَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! ... ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ. وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إلى الشَّمْسِ وَلاَ إلى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْحَمَلُ سِرَاجُهَا. وَأَبْوَابُهَا لَنْ تُغْلَقَ نَهَاراً، لأَنَّ لَيْلاً لاَ يَكُونُ هُنَاكَ" (رؤيا 20: 11؛ 21: 1-2، 23، 25).

ولذلك فإن الشمس والقمر والنجوم ستستمر في إنجاز أهدافها الثلاثة التي عيّنها لها الله ألا وهي: نيرات، مؤقت زمني، وآيات (تك 1: 14) طالما بقيت الأرض (قارن مع تك 8: 22)، حتى خلال دهر الملكوت، بتركيز أُخروي على علامات وآيات وضعها لها الله. ولكن هذه الأجرام السماوية ليست أساسية للوجود البشري وهي بالتأكيد ليست آلهة لتُعبد. إنها جميلة، معقدة، وهامة وظيفياً بالنسبة لسكان الأرض، إلا أنها أدنى أو أقل مستوى من الله الذي خلقها.

 

مجموعة الثريا المكشوفة

السماوات وراء القمر تظهر تنوعاً لا نهاية له (مرصد الولايات المتحدة البحري). مجموعة الثريا المكشوفة، المذكورة في أيوب 9: 9، أيوب 38: 1، وعاموس 5: 8.

 

[18]- لدراسة دقيقة عن الدهر الآتي، انظر ألفا جي. ماكلين، "عظمة الملكوت" (وينونا ليك، ‘نديانا، منشورات BMH، 1959)

هدف الكون


 

وأخيراً فإن الكتاب المقدس وحده يمكن أن يخبرنا عن الهدف الأساسي النهائي للكون. الكثير من الفلكيين اليوم يؤكدون على أننا لن نجد أبداً مفتاحاً يدلنا إلى هدف الكون إلى أن نؤسس اتصالاً مع الكائنات المادية العاقلة من مجرات أخرى. يبدو أنه من المؤكد كتابياً أن هذا الباب مغلق بإحكام، لأن الله خلق الحياة على هذا الكوكب وليس في أي مكان آخر.

هناك عدد من الدلالات الكتابية التي تشير بوضوح باتجاه الفرادة المطلقة للحياة المادية على الأرض. يركّز المزمور 115 على لفت انتباهنا إلى فرادة الله كخالق وضابط للكون في تضاد كلي مع الآلهة التي صنعها الإنسان والتي تميز الديانات الوثنية. ويصل صاحب المزامير إلى ذروة رسالته بالقول: "السَّمَاوَاتُ سَمَاوَاتٌ لِلرَّبِّ أَمَّا الأَرْضُ فَأَعْطَاهَا لِبَنِي آدَمَ" (الآية 16). هناك دلالة صحيحة وفي محلها على هذا القول الملهَم وذلك في أن أولئك الذين يعرفون الرب حقاً لا يمكن أن يهددهم أي شيء كان في هذا الكون أو ما وراءه. بمعنى آخر إن الذكاء الوحيد القادم من خارج كوكب الأرض الذي ينبغي أن يُهتمَّ به بعمق أو يُقلقَ بشأنه هو الذكاء الذي من الله نفسه، كما كشف لنا في كلمته.

الآية (أشعياء 45: 18) تضفي ضوءاً هاماً على هذه المسألة الآسرة: "لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «خَالِقُ السَّمَاوَاتِ هُوَ اللَّهُ. مُصَوِّرُ الأَرْضِ وَصَانِعُهَا. هُوَ قَرَّرَهَا. لَمْ يَخْلُقْهَا أرضاً يباب. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ". بما أن الكلمة العبرية [tohu ، (תּהוּ)]، تُترجم إلى ((أرض يباب))[19]، وهذه تظهر أيضاً في (تك 1: 2)[20]، فإن هذا القول الوارد في (أشعياء 45: 18) لطالما استُخْدِمَ لتأكيد التفسير الذي يقول بنظرية الفجوة. يفيد هذا الرأي بأن الله قد خلق بالأصل أرضاً كاملة (تك 1: 1) وهذه أصبحت لاحقاً أرضاً "خربةً" بسبب سقوط الشيطان. ومن ثم، وبعد ملايين أو مليارات من السنين، أُعيدَ خلقُ الأرضِ في ستة أيامٍ حرفياً. ولكن، ليس هذا هو مدلول قول أشعياء. فهو يقول أن الله لم يخلق الأرضَ لكي تكون أرضاً "خربةً"، بل خلقها لتكون مسكونةً (خلافاً لكل الكواكب الأخرى). وإذ نعود إلى (تك 1)، نكتشف أن هذه هي الطريقة التي خُلِقَتْ عليها الأرض. فلم تُخلق لتبقى فارغةً خاويةً، بل خُلِقَتْ في ستة أيام وجيزة لتقطنها كل أنواع الكائنات الحية.

بمقارنة القول الوارد في (أشعياء 45: 18) مع (تك 1:2)، بيّنَ معلّمٌ بارز للعهد القديم أن "أشعياء لم ينكر أن الأرض كانت "خربةً" [(tohu، (תּהוּ)]، بل قال أن الرب لم يخلق الأرض لتكون "خربةً"، لأن الأرض الخربة ليست مؤهلة للسكن، ولا تحقق الهدف المرجو من خلقها. بل كان الهدف من خلق الأرض هو أن تكون مأهولة"[21].

إن كانت الحياة المادية العاقلة توجد فقط على الأرض، فلا بد من طرح السؤال: "لماذا تُوجد نجوم ومجرات لا عدد لها في كل أرجاء الكون؟" ولقد تساءل كثير من المسيحيين: "لماذا مضى الله إلى خلق مليارات المجرات ثم وضع الحياة فقط في كوكب صغير نسبياً؟" إجابة على هذا السؤال، لا بد من أن نميز، وقبل كل شيء، أن الجهد أو الطاقة الذي يستهلكه الله ليخلق تريليون مجرة ليس أكثر مما يستهلك منها لخلق كوكب واحد "أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلَهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ. يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً" (أشعياء 40: 28- 29).

لقد تنازل الله ليعطي الناس ثلاثة أسباب لعمله في خلق الكون النجمي. "وَقَالَ اللهُ: «لِتَكُنْ أنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأوْقَاتٍ وَأيَّامٍ وَسِنِينٍ. وَتَكُونَ أنْوَاراً فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأرْضِ». وَكَانَ كَذَلِكَ" (تك 1: 14- 15). إن الأهداف الثلاثة المعلَنة لوجود الكون، بما يخص الإنسان، هي: (1) آيات، (2) أوقات، و(3) إنارة ليلاً ونهاراً لسكان الأرض. وليس من داعٍ لسبب رابع لأنه غير مذكور، ألا وهو في الإدعاء القائل بأنه عُني للأرض أن تكون منصات فضائية لمخلوقات عاقلة من خارج الأرض. إن قيمة الرمزية والدلالة العجيبة للأنوار السماوية يؤكدها بشكل واضح المزمور 8، والمزمور 19: 1-2 ورسالة رومية 1: 18-19. بما أنه واضح أن الله قد اعتبر أن هذه الأهداف الرئيسية الثلاثة كافية وافية للخليقة في الكون النجمي، فلذلك ليس من داع لزيادة الأسباب عما قاله الله في الكتاب.

إن الدليل الأكثر أهمية في الكتاب على فرادة الحياة على الأرض هو بلا شك تجسد يسوع المسيح ربنا ومجيئه الثاني. إن الأقنوم الثاني من الله الثالوث، الذي به أتى الكون برمته إلى الوجود (يوحنا 1:1-3؛ كولوسي 1: 16-17؛ عبرانيين 1: 1-2)، قد صار عضواً دائماً باقياً في الجنس البشري بالتجسد (يوحنا 1: 14). إن الدلالات المذهلة لهذه الحقيقة لا يقلل منها أولئك الذين يقرون بأنهم مسيحيون يؤمنون بالكتاب المقدس.

ليس هناك أدنى دليل في الكتاب على أن المجيء الأول للمسيح كان حادثاً غير ذي أهمية نسبياً في حياة ابن الله، وتوقفه لفترة وجيزة على الأرض، في طريقه إلى الكواكب والمجرات الأخرى لكي يحمل إليها رسالة كونية من الوحي والفداء. إن الخالق العظيم الذي صار مخلصنا أخبرنا أيضاً أن نصلي هكذا: "أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ" (متى 6: 9- 10). فالأرض، وليس أي كوكب آخر، سيكون مكان ملكوت المسيح.

إذا أخذنا كلَّ واحد على حدا، فسنجد أنه ما من دليل كتابي لوحده كافٍ بذاته ليُظهر فرادة الحياة على الأرض. إلا أنه، في كتاب يُعتبر أنه يعطي البشر كل ما هو ضروري لفهمنا للحياة والكون، من المهم جداً أن ندرك أنه ما من كلمة واحدة قد أُعطيت لتأييد مفهوم حياة عاقلة خارج كوكب الأرض. إن المعرفة العلمية الدنيوية يمكن أن يسعى المرء وراءها من خلال الخشية بأن نكون وحدنا كلياً في الكون. ولكن ليس هذا منظور الكتاب المقدس على الإطلاق. فمليارات من الكائنات الروحية، والتي تدعى "ملائكة" (أي "رسل") مشتركة بعمق في قضايا البشر (مثال: دانيال 10: 20؛ لوقا 20: 36؛ عبرانيين 1: 14). وبالتأكيد، وفوق كل هذه المخلوقات غير المنظورة والقوية الفعالة، نجد الله، خالق كل الأشياء، الذي أعلن نفسه للبشر كآب، وابن، وروح قدس.

 

[19]- في العبرية : (tohu): (תּהוּ)، ومعناها "الأرض اليباب" أو "الأرض البور" (waste land)، ولكنها تُرجِمَتْ إلى (in vain) في الكتاب المقدس الإنكليزي، وإلى "باطلاً" في ترجمة ( (سميث وفاندايك)) العربية. [فريق الترجمة].

[20]- (تك 1: 2): "وَكَانَتِ الأرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً....".

[21]- إدوارد جي. يونغ، "تفسير سفر أشعياء" (غراند رابيدز: إردمانس، 1972)، 3: 211.

الخالق وحده يستطيع أن يلبّي حاجاتنا


 

لقد خلق اللهُ الإنسانَ بطريقة تجعله لا يجد إشباعاً كاملاً أو عميقاً في معزل عنه. وإذ يجد نفسه محبطاً كلياً بسبب الآثام والقساوات في هذه الحياة، فإن كاتب المزامير الذي يُدعى آساف دخل إلى مقدس الله، وهكذا اكتسب منظاراً جديداً كليةً إلى العالم (المزمور 73: 17). واختتم بالقول بهذه الكلمات الملهَمة "بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي وَبَعْدُ إلى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ" (مز 73: 24- 25). إن قمة مأساة النشوئية الكونية هي أنها تتجاهل فعلياً الله نفسه الذي خلقنا لنجد تحقيق ذواتنا فيه وحده. إن المؤسسة العلمية المدنية، بنظرية البيغ بانغ (الانفجار الأعظم)[22]، قد رفضت عامدة متعمدةً المسيح "الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ" (كولوسي 2: 3). فبذكائهم الذي يتبجّحون به، أهمل الناس أو تجاهلوا ابن الله "الذي فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً". الذي، كما يؤكد الرسول بولس، "أَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ" (كولوسي 2: 9-10). فبالنسبة للمسيحيين، ليس الكون بلا هدف وليس بلا مغزى. والاتجاهات الكافية الوافية متوفرة. فنحن لسنا وحدنا (في هذا الكون).

ليس من طريقة منطقية للتوفيق بين النظرية النشوئية للكون والمنظار الإيماني المسيحي. فالإيمان المسيحي يفترض مقدّماً صحة وعصمة الكتاب المقدس. إن تطبيقاً صادقاً ومتماسكاً للمبادئ التفسيرية في تحليل روايات الكتاب المقدس عن المنشأ الأصلي (للكون) يدفع المرءَ إلى أن يصل إلى طريق مسدود في محاولة إجراء التوافق بينها وبين النظرية الكونية الأكثر انتشاراً في جيلنا. وللتأكيد، النشوئيون "الإيمانيون" يتحدثون كثيراً عن الله (أو "عن الإله")؛ ولكن من الواضح أنهم لم يسمعوا رسالة كلمته المكتوبة بوضوح.

خلافاً لفترة الخلق ذات الستة أيام الواردة في (تك 1) و(خروج 20)، على سبيل المثال، النشوئية الكونية بكل أشكالها الشائعة الرائجة حالياً (إلحادية، عقلانية، وإيمانية) تُصوّر عقلياً النجوم مشكّلة مئات ملايين السنين بعد الحدث الكوني الذي استُهل الكون به أولاً، والكواكب في نظامنا الشمسي التي ظهرت في وقت لاحق. كيف يمكن التوافق بين هذه وإعلان الله بأن كوكب الأرض قد خُلق قبل النجوم؟

إن النظرية النشوئية الكونية ترجئ ظهور الإنسان على الأرض إلى 20 مليار سنة على الأقل من خلال عمليات طبيعية لا هدف لها ظاهرياًُ قد سلكت نهجها. ولكنّ مدونات التكوين تصور الإنسان كملك حقيقي على الأرض منذ بدء تاريخ الأرض، فيمارس السيادة على كل الحيوانات، بما فيها تلك التي في أعماق البحار (تكوين 1: 26-28؛ قارن مع مزمور 8: 5-8)، خلال مدة ساعات من خلقها. حتى نجوم السماء سبقت الإنسان زمنياً بفاصل زمني وهو يومان فقط (تك 1: 19، 31؛ قارن مع خروج 20: 11)، إذ لم يكن فيها هدف مستقل للوجود. لقد خُلقت لأجل ابن الإنسان (كولوسي 1: 16) ولأجل أولئك الذين خُلقوا وتجدّدوا على صورته (1 كورنثوس 3: 21-23؛ كولوسي 3: 10). فهي لم تنتظر ملايين السنين لتنجز ما خُلقت لأجله، أعني به، أن تكون آيات للناس على حكمة الله الخلاقة (تك 1: 14؛ رو 1: 20). فقط عندما ينكر المرء شهادة التسلسل التاريخي للأحداث الواردة في سفر التكوين بوضوح يمكنه أن يتكلم بنظرية نشوئية "إيمانية".

قبل أربعة آلاف سنة مضت، سأل الله أيوب: "أيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ.... هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟ أَتُخْرِجُ الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَهْدِي النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟ لْ عَرَفْتَ سُنَنَ السَّمَاوَاتِ أَوْ جَعَلْتَ تَسَلُّطَهَا عَلَى الأَرْضِ؟" (أيوب 38: 4، 31- 33). وبتناقض مذهل مع فكر القرن الحادي والعشرين المتكبر والدنيوي، "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُخْفِي الْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ! وَلَكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا.اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أيوب 42: 2- 6).

إن خيارنا الأساسي والنهائي هو إما أن نؤمن بأن الكون هو نتاج صدفة عشوائية لا مغزى منها، أو أن الله الحي قد خلقه شخصياً. ولكن هذه الالتزامات الإيمانية البديلة ليست ولا يمكن أن تكون خيارات متساوية للناس الذين يحملون صورة الله مختومة بشكل يتعذر محوه على أعمق أعماق كيانهم. إن الله الخالق، ببساطة، لن يسمح بأن يُقارَنَ مع أي "إله" آخر، بما فيها الزمن/الصدفة النشوئية: "فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ الْقُدُّوسُ. ارْفَعُوا إلى الْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا مَنْ خَلَقَ هَذِهِ؟ مَنِ الَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ الْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ الْقُدْرَةِ لاَ يُفْقَدُ أَحَدٌ..... تَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ" (أشعياء 40: 25- 26؛ 45: 22).

 

[22]- نظرية البيغ بانغ (الانفجار الأعظم): (big-bang): نظرية تقول أن أصل الكون هو انفجار مقدار صغير من مادة شديدة الكثافة. يدعم أصحاب هذه النظرية رأيهم بالاستناد إلى أن الكون لا يزال يتمدد. [فريق الترجمة]

 

الصفحة الرئيسية