داود يتزوج أبيجايل

ظل داود يهرب من مكان إلى مكان والملك شاول يجري وراءه يطارده ليقتله. ومع أن داود عفا عن شاول حتى بكى شاول على خطئه، إلا أنه عاد يطارد داود مرة أخرى. وفي وسط هذا الهروب والتعب والخيانة، نرى شعاع نور يرسله الله على حياة داود. هي امرأة فاضلة اسمها أبيجايل، قال لها داود: »مُبَارَكٌ عَقْلُكِ وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ« (1صموئيل 25:33).

كانت أبيجايل وزوجها نابال يملكان قطعاناً كثيرة من الغنم، وكانا يسكنان على حدود مملكة بني إسرائيل، وكان الوثنيون والعمالقة يهاجمونهم ليخطفوا غنمهم، وكان داود ورجاله يدافعون عن أهل بلدهم، حتى قال الرعاة من بني إسرائيل عن داود ورجاله إنهم محسنون إليهم جداً  كانوا سوراً ليلاً ونهاراً، كل الأيام التي كانوا فيها معهم يرعون الغنم. (القصة كلها في سفر صموئيل الأول 25).

وكان اليهود يحتفلون احتفالاً عظيماً بجز الغنم يقيمون فيه الولائم ويقدمون الهدايا. وكان نابال زوج أبيجايل رجلاً غنياً يمتلك أربعة آلاف رأس من الغنم والمعز، وكان يحتفل بجزّ غنمه. فأرسل داود بعض رجاله إلى نابال يحملون إليه سلام داود، ويقولون له إن داود ورجاله حافظوا على أغنامه. ثم طلبوا منه هدية في هذه المناسبة السعيدة. ولكن نابال كان أحمق. صحيح أنه كان عظيماً في ماله، لكنه كان غنياً غبياً، فقد كان يظن أن المال هو كل شيء، ويحتقر الآخرين. وفي حماقته قال لرجال داود: »من هو داود؟ أنا لا أعرفه!«. لقد كان نابال يعلم بدون شك أن داود العظيم هو الذي قتل جليات الجبار الوثني، وأنه تزوَّج ابنة الملك. لكنه كان يعلم أيضاً أن الملك يريد أن يقتل داود، ولذلك احتقر داود. وزاد نابال في حماقته فقال لرجال داود: »هل آخذ خبزي وذبيحي وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟«. ولم يجاوب رجال داود على نابال، بل رجعوا إلى داود يحكون له ماحدث.

داود يغضب:

عندما سمع داود شعر بالإهانة الشديدة. لقد كان يستحق كل كلمة صالحة من نابال، وكان يستحق هدية عظيمة على الخير الذي عمله. ولكن نابال لم يقدّر خدمة داود له، فقرر داود أن ينتقم منه وأن يقتله.

ومن معرفتنا السابقة بشخصية داود نستغرب كثيراً أنه أراد أن يقتل نابال. لقد كان داود مخطئاً في رغبته في الانتقام، فإن الكتاب المقدس يقول لنا إن النقمة للرب وحده. الله الذي يعرف قلوب الناس، وحده له الحق أن يدين ويحكم ثم ينفذ. نحن لا نعرف كل الظروف. الله وحده هو الذي يعرف، وحكمه وحده هو الحكم الصحيح. لم يكن لداود، أو لأي إنسان آخر حق أن يحرم شخصاً من الحياة. فالله هو الذي أعطى الإنسان حياته، والله وحده هو الذي له الحق أن يأخذ تلك الحياة عندما يريد. الله عادل ولايبرئ الخاطي، وليس عنده محاباة. لذلك يجب أن نتكل على حكم الله في كل شيء، وهو في وقته يسرع بحكمه العادل. وأدرك داود بعد أن غضب وأراد أن يقتل نابال، أنه أخطأ في غضبه السريع. وبعد أن مات نابال ميتة طبيعية قال داود: »مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي انْتَقَمَ نَقْمَةَ تَعْيِيرِي مِنْ يَدِ نَابَالَ، وَأَمْسَكَ عَبْدَهُ عَنِ الشَّرِّ« (1صموئيل 25:39).

هذه القصة تعلمنا أن نحذر من الغضب، فإن الذي يملك نفسه أفضل من الذي يأخذ مدينة. إذا غضبت لا تخطئ. لا تنتقم لنفسك ولا تعمل تدبيراً للشر. ضع الأمر كله بين يدي الرب، وهو يرى كيف ينقذك ويعطيك حقك. لا تفكر في الثأر بل كن شفوقاً متسامحاً وسلم أمورك كلها بين يدي الله.

أبيجايل تحسن التصرف:

أدرك رجال نابال أن داود لن يسكت على الإهانة، وأنه لا بد أن يلحق الأذى بنابال وأسرته، فأسرعوا إلى سيدتهم أبيجايل زوجة نابال، وحكوا لها الموقف كله. وبسرعة تصرفت أبيجايل. لم تصرخ على البلوى الآتية وعلى حظها السيء في زواجها من رجل أحمق، بل فكرت في عمل سريع حكيم.

كانت أبيجايل تعلم أن زوجها أحمق، ولا يمكن الكلام معه لأنه عنيد. كما أنه في ذلك الوقت كان قد سكر بالخمر، وكانت الحكمة تقتضي أن تسرع بدون أن تستشيره، لتمنع الشر عن نفسها وعنه. وجهزت هدية محترمة لداود ورجاله: أخذت مئتي قرص تين، وركبت حمارها ومعها بعض رجالها وذهبت لتقابل داود. وفي الطريق قابلته ورجاله وهم قادمون ليبطشوا بنابال. وما إن رآها داود وعرف من هي حتى بدأ يكلمها. قال إنه ندم على الخير الذي صنعه مع نابال، وأكد أنه سيقتل كل من لنابال. وفي هدوء بدأت أبيجايل السيدة الحكيمة تجاوب على داود.

أظهرت تواضعها إذ أسرعت ونزلت من على الحمار وسجدت إلى الأرض أمام داود. هذا التواضع من سيدة غنية جميلة أمام داود الرجل الفقير طريد الملك كان حكمة منها لأن داود كان غاضباً أشد الغضب.

ثم بدأت تعترف بالذنب، وقالت إن غلطة نابال عليها هي، واعتذرت لأن نابال مثل اسمه أحمق جاهل. واعتذرت بأنها لم تسمع عن مجيء رجال داود إلى بيتها ولم تقابلهم. ولو أنها قابلتهم لأعطتهم من البركة التي أعطاها الرب لها. ثم بدأت تحدثه عن الرب إلهه الذي دبَّر التدبير الصالح، ومنع داود عن القتل، ومن الانتقام لنفسه، وقالت له إنه لو قتل نابال فإنه سيندم على هذا القتل بعد أن يصبح ملكاً.

ولا بد أن كلمات أبيجايل الحكيمة نخست قلب داود بقوة. وجعلته يذكر أعمال الله الصالحة. ثم قدَّمت هديتها لداود وهي تقول إنها تعرف أنه هو الذي حارب حروب الرب، وأن ليس في داود شر. ثم قالت له إن نفسه محزومة في حزمة الحياة، وكأنها تطلب إلى الرب أن يحفظ داود بعنايته. ولا شك أن هذه الكلمات الحكيمة جعلت داود يتراجع عن غضبه.

غضب داود ينصرف:

كانت كلمات أبيجايل الجواب اللين الذي يصرف الغضب، كما قال إمام الحكماء سليمان. وبالحكمة بنت أبيجايل بيتها ونحتت أعمدتها السبعة، وبالكلمات اللينة والجواب الحكيم أرجعت داود إلى التفكير السليم.

  بدأ داود يجاوب على أبيجايل قال: إن الرب هو الذي أرسلها إليه لتستقبله، والرب دوماً يرسل النافع الصالح. وقال داود لأبيجايل إن عقلها مبارك وإنها هي مباركة. عقلها أفضل من عقل زوجها، وحياتها مباركة أكثر من حياة داود الغاضب.

  ثم قال لأبيجايل الحكيمة إن مجيئها نافع لأنه منعه من أن يرتكب الأذى الذي كان سيُتعب ضميره كل أيام حياته. ثم قال إنها جاءت في الموعد المناسب، فإن تأخيرها كان سيسبّسب الأذى والضرر لنابال زوجها ولداود ورجاله.

  ثم أصدر عفوه عن نابال.

ورجعت أبيجايل السيدة الحكيمة إلى بيتها لتجد زوجها سكراناً، فلم تتكلم معه بشيء. وفي الصباح أفاق من سِكره فحكت له كل حكاية داود، فخاف غاية الخوف. من أن يرجع داود ليقتله. وبهذا أظهر أنه ليس أحمق فقط لكنه جبان أيضاً. وبعد عشرة أيام مات! وتقول التوراة إن الرب ضربه.ف هل مات نتيجة الخوف والرعب من عودة داود ليقتله؟ أو هل مات نتيجة مرض زاد عليه؟ نحن لا نعلم لكن الكتاب المقدس يقول: إن الشر يبيد الشرير.

وأرسل داود رجالاً يطلب أبيجايل أن تكون زوجة له. وقبلت أبيجايل بتواضع وصارت زوجة لداود.

أيها القارئ، ليس كل رجل حكيماً، وليست كل امرأة جاهلة، لكن العقل عطية من الله، والإنجيل المقدس يعلمنا أن من تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر فسيُعطى له (يعقوب 1:5) يقول لنا الإنجيل: ليس الرجل من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل - ففي المسيح ليس رجل ولا امرأة، بل الجميع واحد، لأن المسيح فدى الكل وأحب الجميع (1كورنثوس 11:11، غلاطية 3:28). دعنا نطلب من الله أن يمتعنا بنعمة الحكمة