الإخوان المسلمين في مصر 

د.رفعت السعيد

 

وبدأت رحلة جماعة الإخوان المسلمين ..

 

الاسم : قال حسن البنا لأتباعه "نحن أخوة في الإسلام ومن ثم فنحن "الإخوان المسلمون"

 

تاريخ الميلاد : شهر ذي القعدة عام 1347 هجريه [ ويلاحظ أن حسن البنا أورد التاريخ الميلادي المرادف له "مارس 1928" لكن روز نتال في مقال "الإخوان المسلمون في مصر" المنشور في مجلة عالم الإسلام أكتوبر 1947 اكتشفت من مقارنته التقويمين أن ذي القعدة 1347 هـ يوافق إبريل – مايو 1929. ونلاحظ أن الجماعة قد احتفلت بعيد تأسيسها العاشر في يناير 1929 لكنها عادت فاحتفلت بعيدها العشرين في سبتمبر 1948 ]

 

الهيكل القيادي : مكتب الإرشاد ويعمل تحت إمرة المرشد العام – وهو بمثابة مجلس الشورى. لكن صالح عشماوي أحد قادة الجماعة يقول وهو يمتدح المرشد "عند أول عهدي بعضوية مكتب الإرشاد ثار البحث هل الشورى في الإسلام ملزمة أم غير ملزمة؟ أي هل يتقيد فضيلة المرشد العام برأي مكتب الإرشاد، أم أن المكتب هيئة استشارية له أن يأخذ برأيها أو يخالفه إن شاء .. وكان رأي المرشد أن الشورى غير ملزمة، وأن من حقه مخالفة رأي المكتب" .. مرة أخرى كتب عشماوي ذلك مادحاً وليس ناقداً .

 

محل الميلاد : الإسماعيلية

 

الحالة المالية : أول تبرع مالي تلقته الجماعة كان من شركة قناة السويس [ الفرنسية ] وقد أكد حسن البنا ذلك وقال إن التبرع كان خمسمائة جنيه وهو مبلغ كبير بمقياس هذا العصر وعند حل الجماعة عام 1948 اتضح أنها كانت أغنى الجمعيات والأحزاب السياسية في مصر.

 

طبيعة الجماعة : حرص حسن البنا على أن يضفي صبغة ضبابية على الجماعة وألا يقدم تفسيراً واضحاً لأهدافها أو طبيعتها حتى يوائم بينها وبين تقلبات الأحوال.

 

قال حسن البنا : "أيها الإخوان : أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزباً سياسياً، ولا هيئة موضوعية الأهداف محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسري في قلب الأمة" ..

عبارة مطاطة لا يمكن الإمساك بأي من أطرافها ..

 

البرنامج : لا يوجد

 

سئل حسن البنا عن البرنامج فقال "ولم البرنامج ؟ إنه يفرقنا" .. واكتفى بعبارة عامة "القرآن دستورنا والرسول زعيمنا".

 

ولقد ظل البنا في بداية الأمر ينكر أن لجماعته علاقة بالسياسة، لكنه ما أن قوي عود جماعته حتى أعلن على صفحات مجلة النذير أن الجماعة سوف "تنتقل من دعوة الكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال" وتوجه إلى أتباعه متحدثاً عن السياسيين جميعاً قائلاً "ستخاصمون هؤلاء جميعاً في الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة إن لم يستجيبوا لكم"

ولم يلبث البنا أن صارح الجميع بهدفه الأساسي، وهو أنه يطمح إلى الحكم ليقيم دولة دينية وقال "الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد .. والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول .. فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء"

وأيضاً .. "الذين يقولون أن تعاليم الإسلام إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون .. فالإسلام عبادة وقيادة، دين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، ومصحف وسيف، لا ينفك أحدها عن الآخر".

وبغير ذلك لم يقل البنا .. لم يقل ما موقف جماعته من مشكلات الحياة اليومية .. ولا من الجديد فيها .. فقط عموميات لا يمكن الإمساك بشيء منها ..

 

العلامات المميزة :

 

تميزت جماعة الإخوان المسلمين عن غيرها من القوى السياسية المعاصرة بعلامتين مميزتين أساسيتين .. البيعة والجهاز السري.

أما عن البيعة فقد استند فيها حسن البنا إلى حديثين شريفين الأول يقول "من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية" والثاني يقول "من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليعطه إن استطاع، فإن جاء آخر ونازعه فاضربوا عنق الآخر"

واستند أيضاً إلى أقوال أبو الأعلى المودودي "لا ينتخب للإمارة إلا من كان المسلمون يثقون به، وبسيرته، وبطباعه، وبخلقه، فإذا انتخبوه فهو ولي الأمر المطاع في حكمه ولا يعصى له أمر ولا نهي".

ويقول أن الإمام أو الأمير من حقه أن يملي رأيه حتى على الأغلبية "فالإسلام لا يجعل من كثرة الأصوات ميزاناً للحق والباطل، فإنه من الممكن في نظر الإسلام أن يكون الرجل الفرد أصوب رأياً وأحد بصراً من سائر أعضاء المجلس"

وقد بايع الأتباع إمامهم بيعة كاملة في المنشط والمكره، وعاهدوه على السمع والطاعة ..

ولم يكن حسن البنا يخفي ذلك على الناس، فهو لم يكن يقبل منهم بأقل من السمع والطاعة، دون نقاش.

"يجب على الأخ أن يعد نفسه إعداداً تاماً ليلبي أمر القائد في أية ناحية، إن الدعوة تتطلب منا أن نكون جنوداً طائعين بقيادة موحدة، لنا عليها الاستماع للنصيحة، ولها علينا الطاعة، كل الطاعة في المنشط والمكره" وأيضاً "يتعين على العضو الثقة بالقائد والإخلاص والسمع والطاعة في العسر واليسر"

ويصف البعض ولاء الأتباع قائلين "إن سيطرة البنا على أتباعه كانت مطلقة وكاملة وتصل إلى درجة السحر"

وتصف الأمر جريدة مصرية فتقول في تهكم واضح " إذا عطس المرشد في القاهرة، قال له الإخوان في أسوان يرحمكم الله" ولقد ترتب على البيعة بمفهوم البنا أنه ليس مسموحاً بالخلاف مع المرشد. بل إن كلمة "ليس مسموحاً" هذه ليست أمراً معنوياً فحسب، وإنما كان العنف والإرهاب المعلن والتباهي به سبيلاً لفرضها.

فمنذ البداية دب الخلاف في شعبة الإسماعيلية، وحاول البعض التمرد على البنا وأبلغوا النيابة العامة ضده في مخالفات مالية، فكان رد فعل البنا عنيفاً، فقد جمع عدداً من أتباعه حيث "اعتدوا على المخالفين بالضرب".

ويعترف البنا بذلك ويتباهى به ويبرره بأن "المخالفين قد تلبسهم الشيطان وزين لهم ذلك، وأن من يشق عصا الجمع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان" ويتأسف البنا على رفض البعض لضرب المخالفين وردعهم قائلاً "إننا قد تأثرنا إلى حد كبير بالنظم المائعة التي يسترونها بألفاظ الديموقراطية والحرية الشخصية".

أما العلامة المميزة الثانية فهي الجهاز السري الذي مارس عمليات إرهاب وقتل – كانت البداية والنموذج والقدوة للإرهاب المتأسلم. وقد تدرج الفكر التنظيمي لحسن البنا في سلاسة ويسر ليصل إلى هذا الهدف غير المعلن، فبدأ "بالجوالة" بهدف تعويد الإخوان على النظام شبه العسكري، وتدريبهم على الطاعة التامة والتفاني المطلق.

ثم كانت "كتائب أنصار الله" وهي مجموعات تضم كل منها أربعين عضواً من الأعضاء النشطين في الجماعة يلتقون معاً ليلة كل أسبوع حيث يقضون الليل في العبادة والتلاوة ... والعيون اليقظة تتابع ذلك لتفرز منه من يصلحون للجهاز الخاص ..

ولقد أنكر البنا طويلاً أنه يوجد ثمة جهاز خاص، ونفى ذلك نفياً قاطعاً، بل لقد وصف القائمين بأعمال النسف والتفجير والقتل عام 1948 – 1949 بأنهم "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"

وظلت الجماعة على إنكارها لوجود الجهاز الخاص حتى برغم اعترافات عشرات بل مئات من أعضائه أمام محكمة الشعب، وقيل ساعتها أنها أكاذيب أمليت وترددت تحت وطأة التعذيب ..

ثم لا تلبث الحقيقة أن تظهر عندما يتنافس رجال الإرهاب الإخواني القدامى في كتابة مذكرات يحاول كل منها أن ينسب إلى نفسه أكبر قدر من القتل والإرهاب .. فكانت مذكرات صلاح شادي – أحمد عادل كمال – عبد المنعم عبد الرؤوف – محمود الصباغ. وقد اعترفوا جميعاً بأعمال إرهابية بشكل مثير للدهشة، لأنهم تحدثوا في تباه وتمجيد للفعل الإرهابي، مؤكدين انتسابهم إلى الجهاز السري والتزامهم بصيغته وأهدافه.

***

وقد ظل حسن البنا طوال عشر سنوات كاملة ينكر أية صفة سياسية لجماعته ويؤكد في إلحاح أنه لا علاقة له بالسياسة، ولكنه ما أن شعر بالقوة وبضعف الآخرين حتى جاهر بدوره السياسي:

الدين شيء والسياسة غيره .. دعوى نحاربها بكل سلاح

ثم ما لبث أن قال بصراحة "أستطيع أن أجهر بصراحة بأن المسلم لا يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً بعيد النظر في شئون أمته مهتماً بها غيوراً عليها"

لكن الأمر لا يكون مستقيماً أبداً مع الشيخ البنا.

فهو يعود ليغمض القول "هل نحن طريقة صوفية، مؤسسة اجتماعية، حزب سياسي"؟

ويجيب على هذه الأسئلة بالنفي مؤكداً "نحن دعوة القرآن الحق الشامل .."

لكنه لا يلبث أن يعود ليؤكد "إن الإخوان دعوة سلفية، طريقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة ثقافية، شركة اقتصادية، فكرة اجتماعية"

متى تستطيع أن تمسك بالزئبق؟ فالشيخ يعود لينفي ما قال "أيها الإخوان أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزباً سياسياً، ولا هيئة موضعية الأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد ونور جديد، وصوت داو"

.. ومع ذلك فإن أحداً لا ينكر أن الإخوان قد تداخلوا في السياسة، وشاركوا في غمارها مشاركة كاملة ..

وحتى في المبادئ الجوهرية كان الإخوان يتلاعبون تلاعب السياسيين غير المبدئيين.

فبعد أن يوجه البنا نقداً شديداً للدستور قائلاً "إن فيه ما يراه الإخوان مبهماً غامضاً يدع مجالاً واسعاً للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء"

لكنه يعود فيتراجع تحت ضغط قيل أنه قد أتى من القصر الملكي ليعلن" إن الدستور بروحه وأهدافه العامة لا يتناقض مع القرآن .. وإن ما نحتاج إلى تعديل منه يمكن أن يعدل بالطريقة التي رسمها الدستور ذاته".

ويؤكد " وما كان لجماعة الإخوان المسلمين أن تنكر الاحترام الواجب للدستور باعتباره نظام الحكم المقرر في مصر، ولا أن تحاول الطعن فيه .. ما كان لها أن تفعل ذلك وهي جماعة مؤمنة مخلصة تعلم أن إهاجة العامة ثورة، وأن الثورة فتنة، وأن الفتنة في النار".

ولكن لعبة السياسة عند الشيخ استمرت على هذا المنوال قول ونقيضه في آن واحد .. وإن كان الخط الثابت هو المناورة بين الجميع، والتلاعب بالجميع، غير أن الشيخ أدرك وإن متأخراً أن الجميع كانوا يتلاعبون به، بينما يتخيل هو أنه تلاعب بهم.

ولعبة السياسة عند الشيخ بلا مبادئ ولن نطيل وسنكتفي بإشارات.

 

* شركة قناة السويس الاستعمارية قدمت عوناً مالياً وقبله.

* الطاغية إسماعيل صدقي قدم له عوناً مادياً ومعنوياً كبيراً في بداية نشأة الجماعة ..

* علي ماهر داهية القصر والموصوم بعلاقات مريبة خارجية كان الصديق الحميم للجماعة ..

* عقد الإخوان المسلمون مؤتمرهم الرابع خصيصاً للاحتفال باعتلاء "جلالة الملك العرش".

وقام الجوالة بدور المنظم في الاحتفالات الصاخبة بهذه المناسبة

* عندما اختلف النحاس باشا مع الملك وخرج الوفديون في مظاهرات تهتف "الشعب مع النحاس" في مقابلها خرجت مظاهرات الإخوان إلى قصر عابدين تهتف "الله مع الملك".

* كتب أحد قادة البوليس تقريراً يقترح "أن تشجع الحكومة الجماعة وتعمل على تعميم فروعها في البلاد حتى يكون في ذلك أكبر خدمة للأمن والإصلاح" ويتباهى حسن البنا بذلك ويورده في مذكراته"

* يقول ريتشارد ميتشل "منذ أكتوبر 1941 قامت علاقات بين البنا والإنجليز"

* وتؤكد جريدة الإخوان إن اتصالا قد تم مع الإنجليز، وأن الطرف الإنجليزي قد أبدى استعداده لتقديم عون مالي للجماعة، وتقول أن البنا قد رفض ذلك"

* ولكن باحثاً آخر يؤكد استناداً إلى ما أسماه مصدر إخواني كان على علاقة بالسفارة البريطانية "إن عوناً مالياً كبيراً قد قدم بالفعل وخاصة في غضون 1947 "

ومرة أخرى نقف أمام ظاهرة محيرة: يعترف البنا أن الطاغية إسماعيل صدقي قدم عرضاً بمعاونة مالية، وأن الإنجليز قدموا ذات العرض، ويقول أنه رفض، حسناً، ولكن لم لا نسأل أنفسنا لماذا هؤلاء بالذات يعرضون مساعدة الجماعة؟

 

وهل ننسى أحداث 1946، وخروج الإخوان يهتفون للطاغية إسماعيل صدقي صائحين "واذكر في الكتاب اسماعيلاً"؟

وهل ننسى تأييد معاهدة صدقي – بيفن؟

ويورد شاهد محايد – صلاح الشاهد – الواقعة التالية "توهم صدقي أن للإخوان قاعدة شعبية ذات وزن فاستدعى المرشد بعد عودته من لندن بساعتين وأطلعه على مشروع اتفاقية صدقي – بيفن قبل أن يطلع عليه النقراشي وهيكل المشاركين له في الحكم، وحصل على موافقته على المشروع، وعندما تصاعدت المظاهرات الشعبية ضد هذه الاتفاقية طلب صدقي باشا من المرشد أن يركب سيارة سليم زكي باشا مساعد الحكمدار المكشوفة ليعمل على تهدئة الجماهير، واستجاب المرشد لطلب صدقي باشا"

.. وبهذا نكتفي في مجال السياسة .. فكل الخطى متشابهة ..

***

والعنف هو النتيجة المفترضة للخلط المتعمد بين الدين والفكر الديني .. وبذرته الخبيثة موجودة منذ البدايات الأولى للجماعة ..

.. فعندما أصدرت جماعة الإخوان مجلتها النذير، تعجل الشيخ عبد الرحمن الساعاتي [ والد المرشد العام حسن البنا ] في أن يجعلها نذيراً للجميع فكتب في عددها الأول مقالاً عنوانه "استعدوا يا جنود" يقول فيه "استعدوا يا جنود، وليأخذ كل منكم أهبته، ويعد سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، امضوا إلى حيث تؤمرون"

ثم يقول "خذوا هذه الأمة في رفق فما أحوجها إلى العناية والتدليل، وصفوا لها الدواء فكم على ضفاف النيل من قلب يعاني وجسم عليل، اعكفوا على إعداده في صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأمة أبت فأوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه، أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه .. استعدوا يا جنود – فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر، وفي عيونهم عمى"

والعنف هنا مقصود لذاته بل هو السبيل الوحيد، فحسن البنا يقول: "وما كانت القوة إلا كالدواء المُر الذي تحمل عليه الإنسانية العابثة المتهالكة حملاً ليرد جماحها ويكسر جبروتها وطغيانها، هكذا كانت نظرية السيف في الإسلام. لم يكن السيف في يد المسلم إلا كالمشرط في يد الجراح لحسم الداء الاجتماعي"

بل إنهم يعتبرون – وحتى أكثرهم اعتدالاً – أن "القتل" سلاح في العمل السياسي يمكن لآحاد الناس أن يوقعه متى اعتقد أنه يقيم الحد .. ويسأل الشيخ محمد الغزالي [ أحد أكثر الإخوانيين اعتدالاً ] في شهادته أمام المحكمة التي حاكمت قاتل "د. فرج فوده" ويجيب عبر الحوار التالي:

س – من الذي يملك إقامة الحد؟

ج – المفروض أن جهاز القضاء هو الذي يقوم بهذه المهمة ..

س – هل يبقى الحد على أصله من وجوب إقامته؟

ج – حكم الله لا يلغيه أحد، والحد واجب الإيقاع.

س- ماذا لو أوقعه فرد من آحاد الناس؟

ج- يعتبر مفتئتاً على السلطة، أدى ما ينبغي أن تقوم به السلطة.

س- هل هناك عقوبة للإفتئات على السلطة؟

ج- لا أذكر أية عقوبة في الإسلام

يقول هذا بقلب بارد لأن فرج فوده بالنسبة له هو النقيض .. العدو، ناسياً الحديث الشريف "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"  [أخرجه البخاري].

وناسياً رواية المقداد بن الأسود رضي الله عنه إذ قال : " قلت يا رسول الله : أرأيت إذ لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة وقال : أسلمت لله، أأقتله بعد أن قالها؟

فقال رسول الله: لا تقتله

فقلت: إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك؟

فقال النبي: لا تقتله، فإن قتلته كنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته .. أي مباح الدم " [أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود]

وكان فرج فوده يعارضهم بقلمه .. مجرد القلم ولم يقطع لهم يداً ولا إصبعاً، وكان في كل يوم يقر بإسلامه، وبتمسكه بالإسلام.

ونسى فضيلة الشيخ المعتدل قول أحمد بن حنبل "ومرتكب الكبيرة ليس بكافر، ولا هو في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، كما أنه ليس معفواً عنه، وإنما عليه أن يتوب، وأمره إلى الله، فإن زعم أحد أنه كافر فقد زعم أن آدم كافر، وأن أخوة يوسف حين كذبوا أباهم كفار. والحاصل أنه لا يكفر أحد من أهل التوحيد، وإن عمل الكبائر"

ولسنا نعتقد أن فرج فوده بانتقاده لأفكار هؤلاء المتأسلمين قد ارتكب كبيرة أو صغيرة، بل لعله كان الأقرب إلى صحيح الإسلام.

فإذا كانت هذه فتوى الأكثر اعتدالاً .. فإن الأعضاء الآخرين كانوا أكثر صراحة .. وربما أكثر عنفاً.

وما من مجال لسرد كل الدعاوى الإخوانية التي تقرر أن العنف والإرهاب هو أساس الدعوة .. وجوهرها، فلقد يحتاج الأمر إلى مجلدات .. فقط أدعو القارئ إلى قراءة الكتب الآتية التي أصدرها قادة بارزون من الجماعة، بل لعلهم كانوا أبرز القادة الفعليين، فهم قادة الجهاز السري الذي كرس الإرهاب المتأسلم في مصر.

* أحمد عادل كمال – النقط فوق الحروف. ويقول فيه: جماعة دون عنف يحميها .. تهريج.

* صلاح شادي – حصاد العمر [ويورد مئات الوقائع عن ارتكاب أعمال إرهابية].

* عبد المنعم عبد الرؤوف – [أرغمت فاروق على التنازل عن العرش [وفيه يؤكد أن الإخوان هم الذين حاولوا اغتيال عبد الناصر في حادث المنشية ويورد تفاصيل الترتيبات].

* محمود عبد الحليم – الإخوان المسلمون، أحداث صنعت التاريخ [وفيه يؤكد أن رئيس الجهاز السري للإخوان عبد الرحمن السندي هو الذي دبر قتل نائبه سيد فايز ويقول: "وقد ثبت ثبوتاً قاطعاً أن هذه الجريمة الأثيمة كانت بتدبير السندي"

وإذ يطالع القارئ هذه الكتب أو حتى واحداً منها سيجد فيضاً من المعلومات والأدلة والاعترافات والاتهامات المتبادلة .. تكفي وتزيد لإقناعه بأن جماعة الإخوان كانت المصدر الأساسي للإرهاب المتأسلم في العصر الحديث.

ولكن ليأذن لي القارئ أن نتوقف أمام كاتب إخواني من قادة الجهاز السري، نتوقف أمامه لأنه الأصرح والأوضح .. وربما الأفدح، إنه الأستاذ محمود الصباغ، ونقرأ:

يبدأ عضو الجهاز الخاص بالبيعة "يدخل إلى حجرة مطفأة الأنوار، ويجلس على بساط في مواجهة أخ في الإسلام مغطى جسده تماماً من قمة رأسه إلى أخمص قدمه برداء أبيض، ثم يخرج من جانبه مسدساً ويطلب من المبايع أن يتحسسه، وأن يتحسس المصحف الشريف ثم يقول له: فإن خنت العهد أو أفشيت السر، فسوف يؤدي ذلك إلى إخلاء سبيل الجماعة منك، ويكون مأواك جهنم وبئس المصير"

ما معنى "إخلاء سبيل الجماعة منك؟" تأتي الإجابة في صفحة أخرى عندما يورد الأخ الصباغ نصوص لائحة الجهاز الخاص [الجهاز السري لجماعة الإخوان] م13 : "إن أية خيانة، أو إفشاء سر بحسن قصد، أو بسوء قصد يعرض صاحبه للإعدام وإخلاء سبيل الجماعة منه، مهما كانت منزلته، ومهما تحصن بالوسائل، واعتصم بالأسباب التي يراها كفيلة له بالحياة"

بل أنه يعطي لنفسه ولزملائه الحق في القتل المباشر دون إذن من القيادة "إن أعضاء الجهاز يمتلكون-دون إذن أحد-الحق في اغتيال من يشاؤون من خصومهم السياسيين، فكلهم قارئ لسنة رسول الله في إباحة اغتيال أعداء الله". فقط نلاحظ أن "خصومهم السياسيين" هم أعداء الله ويباح اغتيالهم.

بل إن الأستاذ الصباغ يغالي فيقول "إن قتل أعداء الله [أي الخصوم السياسيين للجماعة] هو من شرائع الإسلام، ومن خدع الحرب فيها أن يسب المجاهد المسلمين وأن يضلل عدو الله بالكلام حتى يتمكن منه فيقتله"

.. فقط يبقى أن نشير إلى أن الأستاذ مصطفى مشهور مرشد الجماعة الحالي هو صاحب مقدمة هذا الكتاب.

ومادمنا في إطار الحديث عن لائحة الجهاز الخاص وعن أساليبه، فلنطالع بعضاً من أوراقه التي تم ضبطها في القضية الشهيرة المسماة "قضية سيارة الجيب" وقد أوردها الأستاذ عصام حسونه الذي كان وكيل النيابة المحقق، في كتاب له.

فورقة تعليمات صادرة من قيادة الجهاز لأعضائه تقول "إن كل من يحاول مناوأتهم أو الوقوف في سبيلهم مهدر دمه، وإن قاتله مثاب على فعله" و"إن من سياساتنا أن الإسلام يتجاوز عن قتل المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة" و .. "إن من السياسيين من يجب استئصاله وتطهير البلاد منه، فإن لم توجد سلطة شرعية تصدهم، فليتول ذلك من وضعوا أنفسهم للإسلام جنوداً، وأن الإسلام يتجاوز عن احتمال قتل المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة".

.. ومن أشكال العنف .. "الفتوى"، فالمفتي من أعضاء الجماعة يضع السم في الشراب ويترك الآخرين ليتجرعوه، وكمثال نورد الفتوى التالية التي كانت سبباً في موجة للاعتداء على الكنائس وإحراقها.

في مجلة الدعوة [لسان حال الجماعة] وردت الفتوى التالية التي أفتى بها مفتي المجلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب حول حكم بناء الكنائس في ديار الإسلام.

"حكم بناء الكنائس في ديار الإسلام على ثلاثة أقسام:

الأول: بلاد أحدثها المسلمون وأقاموها كالمعادي والعاشر من رمضان وحلوان وهذه البلاد وأمثالها لا يجوز فيها إحداث كنيسة ولا بيعة.

والثاني: ما فتحه المسلمون من البلاد بالقوة كالإسكندرية بمصر والقسطنطينية بتركيا فهذه أيضاً لا يجوز بناء هذه الأشياء [لاحظ كلمة هذه الأشياء] فيها، وبعض العلماء قال بوجوب الهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين.

والثالث: ما فتح صلحاً بين المسلمين وبين سكانها، والمختار هو إبقاء ما وجد بها من كنائس وبيع على ما هي عليه في وقت الفتح، ومنع بناء وإعادة ما هدم منها، وواضح أنه لا يجوز إحداث كنيسة في دار الإسلام"

هذا هو الفكر الإخواني، ولسنا نريد الخوض في تفنيد هذا الرأي وتخطئته شرعياً، وعبر الممارسات الإسلامية على مدى التاريخ من عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وحتى الآن .. وإنما فقط نشير إلى أن فتوى كهذه كانت أساساً لأن يقوم بعض الصبية الذين صدقوها والتزموا بها بالتعدي على الكنائس ومحاولة إحراقها.

.. ولعل هذا يقودنا .. إلى فكرة طالما نادينا بها وهي: أن الإرهاب يبدأ فكراً.

***

.. ومنذ البدايات الأولى حاول الأستاذ حسن البنا – وإن بحذر – أن يضع اللبنات الأولى للمفارقة بين عضو الجماعة والمجتمع حكاماً ومحكومين .. وللمفاصلة التامة بينهما. بل ولتكفير المجتمع .. حكاماً ومحكومين. وإنكار ما يقوم عليه المجتمع من أسس دستورية وقانونية.

وفي رسالة التعاليم يحدد حسن البنا واجبات "الأخ المجاهد" وعددها 38 واجباً، الواجب رقم 25 منها يأمر العضو "أن تقاطع المحاكم والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة"..

والبند رقم 37 يأمره "أن تتخلى عن صلتك بأية هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك"

وعلى نهجه سار الأستاذ عبد القادر عوده .. إذ قرر تكفير كل قائل بالقانون الوضعي [والغريب أنه ظل وحتى آخر حياته محامياً ويدير مكتباً كبيراً للمحاماة التي تعتمد وفقط على التحاكم إلى القانون الوضعي] .. ويقول الأستاذ عوده "من الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع في عصرنا الحالي: الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين الوضعية بدلاً منها"

ويقول: "فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه، فهو كافر قطعاً"

ويقول مفكر إخواني آخر هو الأستاذ علي جريشه "ولا خلاف في جهاد من منع بعض شريعة الله، وأولى به من منع كل الشريعة، والقعود عن الجهاد تهلكة نهى الله عنها"

وغني عن القول أن القول بتكفير كل من يقبل بالقانون الوضعي، وهو تكفير للحكم والمجتمع والمحكومين، أما القعود عن الجهاد ضد هذا المجتمع فهو "تهلكة نهى الله عنها".

دون صعوبة إن نكتشف أن جوهر فكرة التكفير ومن ثم "المفاصلة" مع المجتمع، والعنف ضده، قديمة قدم الدعوة ذاتها، وأن الذي أرسى أساسها هو مؤسس الجماعة ذاته .. الأستاذ حسن البنا.

والذين يتصورون أن الأستاذ سيد قطب أستاذ "التكفير" والذي انبثق من فكره كل دعاة الإرهاب المحدثون [إلى درجة أنهم يسمون بالقطبيين] كان شارداً عن خط الجماعة واهمون .. هو فقط وضع كلمات في موضعها الواضح، ولم يتلاعب بالألفاظ كما فعل سابقوه.

وسيد قطب رجل لا يعرف المساومة ..

فيقول: "إن الإسلام لا يعرف إلا نوعين من المجتمعات: مجتمع إسلامي، ومجتمع جاهلي" والمجتمعات الجاهلية عند سيد قطب هي كل المجتمعات "الشيوعية والوثنية واليهودية والمسيحية، والمجتمعات التي تزعم أنها مسلمة"

وبشكل أوضح يقول: "يدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة على الأرض"

وكما قلنا لا حل وسط فهو يقول: " فنحن وهذه الجاهلية على مفرق الطريق .. فإما إسلام وإما جاهلية ، وإن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات والتقاليد الإسلامية في مكان الجاهلية، ولن يكون هذا بمجاراة الجاهلية في بعض الخطوات لأننا حين نسايرها خطوة، فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق "

وهو لا يعترف بإسلام المسلمين "إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية، ليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد"

تأملوا "لتجعل منهم مسلمين من جديد". وهو لا يعتبر أن الإسلام قائم إلا في حدود جماعته ومن ثم فهو يدعو إلى إعادة "إنشائه" قائلاً "و ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس إعادة إنشاء هذا الدين يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة، حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون، فإذا دخل في هذا الدين عصبة من الناس، فهذه العصبة هي التي يطلق عليها اسم المجتمع المسلم"

وسيد قطب ينكر أية رابطة سوى رابطة الإسلام فهو لا يعترف بالوطن ولا بالوطنية "لا رابطة سوى العقيدة، ولا قبول لرابطة الجنس والأرض واللون والوطن ولمصالح الأرضية والحدود الإقليمية" "إن هي إلا أصنام تعبد من دون الله"

مرة أخرى أنه رجل لا يعرف المساومة "لا حل وسط، ولا منهج بين بين .. إنما هناك حق وباطل، هدى وضلال، إسلام وجاهلية"

ومرة أخرى هو يرفض كل المجتمعات "سواء كان اسمها حكم الفرد أو حكم الشعب، شيوعية أو رأسمالية ، ديموقراطية أو ديكتاتورية، أو أتوقراطية أو ثيوقراطية"

.. ما معنى ذلك كله؟ ما معنى تكفير المسلمين جميعاً .. حكاماً ومحكومين .. معناه ببساطة أنهم جميعاً مرتدون. ثم .. الإرهاب.

وهكذا فإن الإرهاب يأتي منقاداً وبشكل طبيعي للفكرة الأولى الذي وضع بذرتها الأستاذ حسن البنا ومدها على استقامتها الأستاذ سيد قطب ..

ولعل وضوح وصراحة سيد قطب قد دفعت كثيراً من الإخوانيين المعتادين على "التقية" والممالأة، والتلاعب بالكلمات إلى القول بأن سيد قطب قد تباعد عن فكر الجماعة . مستندين في ذلك إلى كتاب "دعاة لا قضاة" الذي أصدره الأستاذ حسن الهضيبي [مرشد الإخوان آنذاك] وهو في السجن. ناسين أن الأستاذ الهضيبي كان كغيره من قادة الجماعة، يجاهر أحياناً بغير ما يعتقد، وملتجئاً إلى "التقية" ولنا على ذلك أدلة عديدة ..

"أرسل الأستاذ الهضيبي من سجن طره إلى الإخوان في الواحات مؤكداً أن تفسير الأخ سيد قطب للقرآن هو الحق الذي لا يسع أي مسلم أن يقول بغيره"

ولقد يقول قائل – ولقد يكون – على حق – أن هذه أقوال متهم قد أجبر عليها تحت وطأة التعذيب.

فلنأت إلى شهادة أخرى، كتبت في الزمن السعيد زمن التهادن بين الإخوان ولسادات.

الأخت زينب الغزالي تقول "إن فضيلة المرشد [الأستاذ الهضيبي] قد قرأ كتاب معالم في الطريق، وأعاد قراءته قبل طبعه، ووافق عليه .. وقال أن هذا الكتاب قد حصر أمله كله في سيد ، وأنه الأمل المرتجى للدعوة الآن"

وفي كتاب آخر أصدره واحد من مفكري الجماعة [الأستاذ صفوت منصور] نقرأ " والأستاذ سيد قطب صاحب كتاب معالم في الطريق يعد في ميزان الرجال عماداً هائلاً في تجديد شباب الحركة الإسلامية والامتداد الفكري والحركي لجماعة الإخوان المسلمين

ويعود فيؤكد أن فكر الأستاذ سيد قطب "هو امتداد لفكر جماعة الإخوان المسلمين، وتجديد لشبابها الفكري والحركي".

وقائد إخواني مبرز هو الأستاذ صلاح شادي يكتب كتاباً أسماه "الشهيدان – حسن البنا وسيد قطب" يقول فيه "لقد كان حسن البنا البذرة الصالحة للفكر الإسلامي، وكان سيد قطب الثمرة الناضجة لهذا الفكر"

*************************

ونأتي إلى ساحة الممارسة. ولقد تعودنا من جماعة الإخوان أن تختلف الأقوال عن الأفعال .. وفي البداية يحدد محمد شريف مسئول مكتب العمال بالجماعة الهدف الأساسي للجماعة من العمل وسط جماهير العمال " أكد محمد شريف أن معاداة الشيوعية كانت أحد هدفين أساسيين استهدفتهما الجماعة من عملها المنظم في صفوف الطبقة العاملة أما الهدف الآخر فهو السعي لنشر دعوة الإسلام في الأوساط العمالية ".

ولا شك أن نشاطاً من هذا القبيل قد لقي ترحيباً شديداً من جانب الحكومات والرأسماليين على السواء ..

والحقيقة أن تركيز الإخوان في نشاطهم على مقاومة الشيوعية قد أوقعهم في محاذير شديدة الخطر، فدفعوا عضويتهم إلى التجسس على العمال النشطين، وعلى الشيوعيين عموماً وإبلاغ السلطات عنهم ..

وأمام محكمة الشعب ( التي شكلتها سلطة يوليو لمحاكمة الإخوان عندما تصادمت معهم ) وقف أحد قادة الجماعة وهو صلاح الدين أبو الخير ليعترف صراحة " أن قسم الأخبار في الجماعةكان يقوم بجمع الأخبار المهمة التي تهم الجماعة وأيضاً نشوف حاجة .. خلية شيوعية مثلاً .. وأنا أعرف أن الإخوان ضبطوا عدة خلايا وأبلغوا عنها ".

ولكن أغلب النشاط الإخواني التجسسي ضد اليسار عموماً، تركز أساساً في المجال العمالي " حيث كانت أعين واهتمامات أجهزة الأمن والقصر والرأسماليين مركزة أيضاً ".

ويعتقد ريتشارد ميتشل وهو باحث متخصص في تاريخ الجماعة .. أن هذا الموقف قد أضر إضراراً شديداً بالنشاط الإخواني وسط العمال بحيث وصل به قرابة عام 1948 إلى ما يشبه التصفية.

ولعل هذا الموقف هو الذي دفع العديد من الأبحاث الأكاديمية إلى دراسة ممارسات جماعة الإخوان في صفوف العمال من خلال أو بالتوازي مع دراستهم مع الشيوعيين .. ففي كتاب workers on the Nile نقرأ:

" وقد انعكس ذلك في صفوف العمال في شكل تصادم حاد مع الشيوعيين حيثما وجد لهم نفوذ، فلقد بدأ الإخوان المسلمون في معارضة كل محاولة للشيوعيين لاستقلال النقابات والعمل النقابي عن رؤساء العمال في المصانع ، ولتصعيد النضال العمالي الذي اعتبره الإخوان دعوة لإثارة الخلاف بين المسلمين .

وفي نفس الوقت دأبت الجماعة على مقاومة كل أشكال النفوذ الشيوعي سواء بالدعاية أو حتى بالتدخل العملي، ومن ثم فإن منطقة شبرا الخيمة وصناعة النسيج بشكل عام أصبحت أحد أهم مجلات الصراع المحتدم بين الإخوان والشيوعيين في صفوف الحركة العمالية ".

.. ويمكن القول أن الظروف كانت مواتية كي يمارس الإخوان دوراً أزيد بكثير مما فعلوا.

فهناك أولاً المشاعر الدينية المسيطرة على جماهير العمال باتجاه الجماعة . وهناك أيضاً الفراغ السياسي في صفوف الطبقة العاملة في مطلع الثلاثينيات عند نشأة الجماعة.

فالحزب الشيوعي المصري وجهت له ضربات عنيفة. والاتحاد العام لنقابات العمال الذي أسسه الحزب عام 1921 تم حله أيضاً وصودرت ممتلكاته وسجن قادته، وحلت محله اتحادات عمالية شكلية تابعة بشكل مباشر للأحزاب البرجوازية أو للقصر الملكي، وتولى رئاستها بكوات وباشوات ، بل وأحد نبلاء الأسرة المالكة. وكانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية تدفع بالعمال إلى العمل المباشر ..

لكننا نعتقد أن المناورة السياسية والمراهنة على القصر الملكي وعلى عدم إغضاب كبار الملاك والرأسماليين بالإضافة إلى المنطلق المعتقدي، كل ذلك أدى بالجماعة إلى العجز عن الاستفادة من كل هذه الممكنات.

وبرغم ذلك فلابد لنا أن نلاحظ وباهتمام أن أول من انضم إلى حسن البنا في عملية تأسيس الجماعة كان ستة من العمال لكن الإسهام المكثف في عملية التأسيس لم يتواصل معه تواجد جدي للجماعة في صفوف العمال.

وعلى أية حال فقد تطور موقف الإخوان إزاء الطبقة العاملة من الاتصالات الفردية .. إلى العمل المباشر والمنظم ، شهد عام 1938 بداية هذا التوجه ففي 22 أغسطس 1938 " التقى بالمركز العام للجماعة مجموعة من العمال "المتعلمين" وتداولوا الأوضاع السيئة التي تعيشها الحركة العمالية وحول إمكانية تأسيس حزب عمالي".

ويعلق أحد الباحثين على هذه المحاولة قائلاً: " ويبدو أن هذا الحزب قد تكون من عدد محدود ولفترة وجيزة. واتخذ له مقراً المركز العام للجماعة. ويبدو أنه كان مجرد واحدة من المناورات التي حاكها القصر ضد الوفد ".

وبعد عدة أشهر من هذه المحاولة الفاشلة أي في عام 1939 أضرب ثمانية من قادة العمال بمدينة المحلة الكبرى عن الطعام احتجاجاً على سوء أحوال الطبقة العاملة ومطالبين الحكومة بإصدار تشريع يسمح بحق التنظيم النقابي.

وقد اهتمت مجلة النذير (لسان حال الجماعة في ذلك الوقت) بهذا الإضراب بالرغم من أن المضربين كانوا يساريين أو قريبين من اليسار، وهاجمت الحكومات المصرية المتعاقبة لأنها لم تف بوعودها للعمال وطالبت الوزارة بإصدار تشريعات منصفة لهم. لكنها في الوقت نفسه هاجمت الإضراب كوسيلة وكأسلوب، وأكدت أنه يتنافى مع تعاليم الإسلام.

وتأتي الأربعينيات لتشهد انطلاقة يسارية واسعة، ونشاطاً شيوعياً في صفوف العمال، ولعل هذا هو الذي دفع الجماعة لبذل اهتمام مضاعف بالقضايا العمالية.

وفي 29 أغسطس 1942 صدر العدد الأول من جريدة "الإخوان المسلمون" ليعلن تأسيس "قسم الشئون الاجتماعية" بالجماعة .. مما يعني بداية اهتمام منظم ومنتظم بهذه المسألة.

ويلاحظ مؤلفاًًً كتاب "العمال على ضفاف النيل". "أن المقالات التي نشرت عن الإصلاح الاجتماعي منذ ذلك التاريخ وحتى لحظة التوقف المؤقت للجريدة في يناير 1944 كانت مقالات عامة، ومجردة تعكس فقط الرؤية الإسلامية الاجتماعية. ولم نجد بينها مقالاً واحداً يمتلك رؤية محددة حول مسألة عمالية محددة".

لكن الجريدة إذ عاودت الصدور في ديسمبر 1944، عادت بتوجه جديد ومباشر نحو الطبقة العاملة – واتسمت مقالاتها عموماً بالبساطة والشعبية والنبرة السياسية والاجتماعية الأكثر حدة. وتوافق ذلك مع توجه الجماعة لعمل نشط وسط العمال.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة أسست الجماعة "قسم العمال" بالمركز العام، لكنها حرصت على التأكيد بأن "الغرض من إنشاء هذا القسم ليس التدخل في شئون العمال النقابية، ولا التنافس مع الهيئات العمالية، أو التعرض للعمال في مصانعهم أو شركاتهم، ولكنه أنشئ بغرض توصيل الدعوة إلى نفوسهم وحتى يكون دافعاً لتمسكهم بتعاليم الدين".

ومرة أخرى فإن أغلب مؤرخي هذه الفترة يربطون بين توجه الإخوان للعمال وبين تصاعد النفوذ الشيوعي في صفوفهم ويؤكدون أن واجب "العداء للشيوعية" كان أحد دوافع الإخوان للنشاط وسط العمال ..

وقد حاول الإخوان أيضاً " إقامة نقابات عمالية تستوحي أفكارهم وقد حققوا في ذلك نجاحاً ما، ونشرت صحيفتهم أن عمال النقل قد قرروا تأسيس نقابة تعمل على هدى رسالة الإخوان. كذلك أصبح لهم نفوذ فعال في عمال البترول بالسويس، مع بعض مجموعات من عمال النسيج في المحلة وشبرا الخيمة "

لكن بعض الباحثين والخصوم السياسيين للإخوان يؤكدون أن الجماعة وجريدتها كانت تبالغ إلى حد كبير في نشر معلومات عن النشاط الإخواني وسط العمال.

وكمثال على ذلك نروي الواقعة التالية: ففي أعقاب تأسيس "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة" (وهي تجمع يساري جماهيري ضم ممثلين للشيوعيين ويسار الوفد في صفوف الطلاب والعمال، وقاد تحركاً وطنياً واسعاً ضد قوات الاحتلال، وقاد مظاهرات صاخبة في 21 فبراير و4 مارس 1946) ، نشرت جريدة الإخوان المسلمون أنه قد تأسست لجان للجماعة في مختلف مصانع منطقة شبرا الخيمة (كبرى المناطق الصناعية بالقاهرة) وتأسست لجنة عليا لمندوبي هذه المصانع.

وعلى الأثر أصدر قادة اللجنة الوطنية لعمال شبرا الخيمة ( أحد القوى الأساسية المكونة للجنة الوطنية للعمال والطلبة ) بياناً جاء فيه:

" نشرت جريدة الإخوان المسلمين أنه قد تألفت لجنة في كل مصنع من مصانع شبرا الخيمة، وتألفت لجنة عليا من هذه اللجان، والحقيقة أنه لم تتألف لجان برغم المساعي الشديدة لهذه الجماعة، ولقد ذهبنا نحن ممثلي العمال لمقابلة المسئولين في الجماعة وسألناهم عن هذه المحاولات التي تتم في مواجهة نقابات العمال فلم نظفر بجواب مقنع بل وجدناهم يتكلمون بلغة المستعمر وأصحاب الأعمال. وأمام هذا أعلنا لهم عدم موافقتنا على تشكيل أي لجنة .. وهذه حقيقة نعلنها للرأي العام "

كذلك أصدر التشكيل النقابي الأساسي في مصر في ذلك الحين "مؤتمر نقابات عمال الشركات الأهلية" بياناً جاء فيه:

" دأبت جماعة الإخوان المسلمين منذ فجر البعث الوطني الحالي على بث الدسائس وتدبير المؤامرات التي ترمي في مجموعها إلى القضاء على الحركة الوطنية أو تحويلها عن أهدافها مما لا يخدم غير الاستعمار. ولما كانت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة هي اللجنة الشرعية الممثلة للطلبة والعمال والموظفين، والمنتخبة انتخاباً ديموقراطياً، والمنظمة لكفاح طوائف الشعب حتى يقضي على الاستعمار .. فقد دبر الإخوان مؤامرتهم خاصة ضد اللجنة ، وبدأوا في إعلان تكوين لجان خاصة بهم وسط العمال .. ويعلن المؤتمر أنه والهيئات الوطنية للعمال والطلبة ، يحذرون الزملاء العمال من الانضمام إلى أية لجنة من لجانها لا يمثل إلا نفسه.

     

لتحيا اللجنة الوطنية للعمال والطلبة.

 

 

  1. لتسقط الفاشية.

     

     

  2. ليسقط الاستعمار ".

     

     

وقد أثبتت الأحداث اللاحقة أنه لا صحة لما أعلنته جريدة الجماعة من تأسيس لجان في المصانع بشبرا الخيمة تابعة للجماعة إذ لم يبرز نشاط لهذه اللجان، وإن كانت الجماعة قد ظلت تمتلك تواجداً محدوداً في مصانع هذه المنطقة.

 

 

ويؤكد مؤلفا "العمال على ضفاف النيل":

 

 

  1. "إن قادة عمال النسيج في شبرا الخيمة الذين تمسكوا بالخط السياسي للجنة الوطنية للعمال والطلبة لم يخفوا عداءهم لمحاولات التسلل الإخوانية في صفوفهم"

     

والحقيقة إن موجة العداء التي تصاعدت ضد الإخوان وسك صفوف العمال لم تكن فقط بسبب الممارسات السياسية المعادية للمشاعر الوطنية، والتي وقفت بالإخوان في صف رئيس الوزراء الطاغية إسماعيل صدقي، وضد حركة الجماهير الشعبية المعادية للاستعمار بقيادة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وإنما كانت بسبب ممارسات محددة ضد مصالح العمال المباشرة، وكنموذج لهذه الممارسات يذكر الباحثون في تاريخ هذه الفترة .. إضراب شبرا الخيمة الشهير ..

ففي سبتمبر 1945 قاد الشيوعيون إضراباً شاملاً وناجحاً في منطقة شبرا الخيمة حيث توقفت كل مصانع تلك المنطقة عن العمل، وتشكلت قيادة سرية للإضراب عجز البوليس عن الوصول إليها .. وفي البداية أيدت جماعة الإخوان الإضراب لكنها ما لبثت أن انسحبت منه، وبدأت حملتها ضده، بل لقد أرسلت وفوداً من دعاتها إلى المنطقة لإقناع العمال بالعدول عن الإضراب بحجة " أن الدين يحرم الإضراب لأن فيه خسارة لأصحاب المصانع من المسلمين ".

وعاد عمال شبرا الخيمة إلى الإضراب من جديد، في إضراب أكثر شمولاً وأكثر تنظيماً استمر طوال شهري مايو – يوليو 1946 .. ومنذ البداية وقف الإخوان ضد الإضراب ..

واتهم قادة الإضراب – وأيدتهم في ذلك صحف الوفد – أعضاء جماعة الإخوان " بأنهم قد سلموا البوليس قوائم بأسماء وعناوين القادة السريين للإضراب ونتيجة لهذه المعلومات ألقي القبض على أكثر من مائة من القادة العماليين ".

لكن الإضراب استمر رغم ذلك. وصمم أصحاب المصانع على عدم السماح للعمال بالعودة للعمل إلا إذا تعهدوا كتابة بعدم العودة للإضراب. وأيدت جريدة الإخوان ذلك، ودعت العمال " إلى إنهاء الإضراب والتوقيع على التعهد الذي طلبه منهم أصحاب المصانع ومكتب العمل بعدم اللجوء إلى سلاح الإضراب في المستقبل "

وقالت الجريدة أنها " تؤمل بعد عودة العمال للعمل وتوقيعهم على التعهد المطلوب أن تعمل الحكومة على حل مشاكل العمال "

بل أن جريدة الجماعة تواطأت مع السلطات في محاولة تخريب الإضراب فنشرت خبراً غير صحيح يستهدف تصفية الإضراب. فقالت: " أن وفداً من عمال شبرا الخيمة أعلن اعتزام العمال إنهاء الإضراب ".

وردت عليها إحدى صحف حزب الوفد ببيان لقيادة الإضراب نفت فيه هذه الواقعة. وأكدت أن الإخوان يتجسسون في صفوف العمال لحساب البوليس.

وواصلت صحيفة الجماعة الدفاع عن موقف معلن وصريح يستهدف تصفية الإضراب وأكدت أن منظمي الإضراب   " مهيجون محترفون ".

وعندما انتهى الإضراب، وبدأت الحكومة وأصحاب الأعمال هجومهم العام على العمال، وصدر قرار بحل نقابة العمال بالمنطقة، قرر العمال الامتناع عن تشكيل نقابة جديدة واللجوء إلى القضاء لطلب إلغاء قرار الحل. وكان معلوماً بوضوح أن تشكيل نقابة جديدة يعني شطب القضية. ولكن الإخوان أعلنوا تشكيل نقابة جديدة لعمال شبرا الخيمة ووجهوا بذلك ضربة شديدة للتقاليد النقابية ..

وقد أكد العمال رفضهم لهذه الخطوة بمقاطعتهم لهذه النقابة التي لم يزد عدد أعضائها عن 200 عضو فقط ولعل هذه الممارسات كانت كافية تماماً لعزلة الخط الإخواني عن جماهير العمال برغم جاذبية الدين وتغلغله الشديد في صفوفهم.

وفي هذا الصدد يقول مؤلفا " العمال على ضفاف النيل ": " إن الظروف الموضوعية للطبقة العاملة، وأسلوب وتصرفات جماعة الإخوان المسلمين في صفوف هذه الطبقة قد لعبت دوراً حاسماً في فرض محدودية واضحة لدور الإسلام السياسي في حركة العمال المصريين ".

ويؤكد ذلك أيضاً "ريتشارد ميتشل" قائلاً .. أن عام 1948 قد شهد تصفية شاملة لنفوذ الجماعة وسط العمال. لكن الإخوان وبرغم ذلك كانوا يمتلكون مقومات أخرى لتحقيق تواجد ما في صفوف العمال، فالإخوان جماعة غنية، حسنة التمويل، ومن ثم بدأت في تأسيس العديد من المصانع التي حرصت ألا يعمل فيها إلا أعضاء في الجماعة .. وفي سبتمبر 1948 أسست الجماعة " مصنع الإخوان المسلمين للغزل والنسيج بشبرا الخيمة " ونظراً للأهمية البالغة لمنطقة شبرا الخيمة فقد تولى إدارة المصنع محمد شريف رئيس قسم العمال بالجماعة وكان المصنع يضم 40 آلة   و60 عاملاً.

ولم يكن هذا المصنع وحده، ففي ديسمبر 1948 كانت الجماعة تمتلك الشركات التالية:

     

  1. * شركة الإخوان للصحافة.

     

     

  2. * شركة الإخوان للطباعة.

     

     

  3. * شركة الإعلانات العربية.

     

     

  4. * شركة المعاملات الإسلامية.

     

     

  5. * شركة العربية للمناجم والمحاجر.

     

     

  6. * شركة التجارة والأشغال الهندسية.

     

     

  7. * شركة التوكيلات التجارية بالسويس.

     

     

  8. * شركة مزرعة العركي (800 فدان)

     

وكان العاملون بهذه الشركات جميعاً يشكلون قاعدة مضمونة للجماعة، كما أن ثراء الجماعة ( هناك تأكيدات عديدة بتمويل أجنبي ) قد مكنها من إعطاء مزايا للعمال الأعضاء فيها، وتؤكد جريدة الرخوان أن " فرع شبرا الخيمة في قسم العمال بالجماعة كان يصرف للعمال المتعطلين من أعضاء الجماعة كامل مرتباتهم ".

ولعل مما يثير الدهشة أن يؤكد نقابي يساري وهو محمد متولي الشعراوي أحد قادة النشاط النقابي في شركة مصر للغزل الرفيع بكفر الدوار " أنه في عام 1948 وعندما بدأ نشاطه النقابي يتسبب في تصادمه مع الشركة انضم لجماعة الإخوان وسدد اشتراك شهرين كي يحصل على ضمانة مالية لمستقبله "

كذلك فقد استخدمت الجماعة مختلف أشكال الضغط لضم العمال لصفوفها، وتنشر إحدى الصحف الوفدية " أن أحد رؤساء العمال في شركة النيل بشبرا الخيمة وكان من الإخوان المسلمين حاول أن يضم أحد قادة العمال للجماعة فلما رفض فصله من العمل. وهنا قام العمال بالاعتصام في المصنع مطالبين بعودة زميلهم إلى العمل".

ويقرر القادة النقابيون في شبرا الخيمة أنه في أعقاب إسهام الإخوان في إفشال الإضراب الكبير (1946) بدأ أصحاب المصانع في تعيين العديد من الإخوان كرؤساء للعمال ليضمنوا خصومته لأي توجه يساري وسط العمال .. وقد مكن ذلك الجماعة من استقطاب عدد محدود من العمال وإن كان قد اكسبها كراهية ونفوراً وسط الجموع العمالية.

ولعل أحد الأدلة الهامة على ضعف النشاط العمالي للجماعة أن المذكرة التفسيرية للأمر العسكري الصادر بحل الجماعة في عام 1948 تتحدث عن نشاط الجماعة تفصيلاً فتشير إلى نشاطها وسط الطلبة والموظفين والفلاحين ولا إشارة واحدة للنشاط وسط العمال .. إن ثلاثة عشر بنداً تتضمنها المذكرة تفصيلاً أنشطة الجماعة في مختلف مناحي الحياة ولا إشارة واحدة للعمال

ويفسر البعض ذلك بأن نشاط الجماعة وسط العمال كان دوماً في خدمة أجهزة الأمن وبالتنسيق معها.

وعندما عادت الجماعة للنشاط في نهاية 1950 حاولت أن تتخطى أخطاء الفترة السابقة، وأن تواكب المد الثوري الملتهب والذي اتخذ منحى ثورياً .. وأن تتكلم بلغته كي تكسب موقعاً ما وسط صفوف العمال.

فكتب سيد قطب كثيراً عن اشتراكية الإسلام .. وتنشر مجلة "الدعوة" مقالات ملتهبة تهاجم الرأسماليين (لأول مرة) وتدافع عن حق العمال في الإضراب (بعد أن أكدوا كمن قبل أنه ضد تعاليم الإسلام) .. وثمة مقال لمحمد الفولي بعنوان: أيها الرأسماليون لا تحاربوا النقابات، يهاجم فيها قانون 1940 لأنه يحرم تكوين اتحادات عمالية، كما أنه يحرم العمال من حق الإضراب الذي هو سلاحهم الوحيد في مواجهة بطش الرأسماليين بهم وبحقوقهم.

لكن هذا التطور لم يستمر سوى فترة قصيرة جداً ولم يثمر نفوذاً ما وسط العمال .. وبدت الجماعة وكأنها تفقد أملها في هذه الطبقة، وفي وجود نفوذ حقيقي لها في صفوفها ، ومن ثم راهنت ومن جديد على القوى الأخرى.

وعندما قامت ثورة 1952، كانت تتنازعها مواقف متعددة إزاء قضية الطبقة العاملة، واختار الإخوان الانحياز إلى أكثر العناصر محافظة وعداء لحقوق العمال ..

وفي الأيام الأولى للثورة تولى د. محمد فؤاد جلال وزارة الشئون الاجتماعية وهو معروف بأنه من رجال "جمعية الفلاح" ذات التوجه اليميني الواضح وكان يشرف على أعمال الوزارة من قبل مجلس الثورة الضابط المعروف بتوجهه اليميني وعلاقاته الوثيقة بالسفارة الأمريكية عبد المنعم أمين (وكان أيضاً رئيس المحكمة العسكرية التي حاكمت العاملين خميس والبقري بتهمة تنظيم إضراب في كفر الدوار وحكمت عليهما بالإعدام) ومع هذين الاثنين بالتحديد عمل كمساعد ومستشار للشئون العمالية سيد قطب أحد قادة الإخوان المسلمين.

ويروي فتحي كامل وهو قائد نقابي مخضرم كيف أنه ذهب إلى وزارة الشئون الاجتماعية ليتفاوض بشأن تكوين اتحاد عام للعمال .. وحضر الاجتماع الوزير محمد فؤاد جلال، والضابط عبد المنعم أمين عضو مجلس قيادة الثورة ، وشخص لم يعرفه أول الأمر ثم عرف فيما بعد أنه سيد قطب .. ويقول فتحي كامل أن سيد قطب كان أكثر الحاضرين رفضاً لفكرة الاتحاد العام، وأكد أن النقابات بحاجة أولاً إلى أن تطهر صفوفها من الشيوعيين

ولعله من الضروري الإشارة إلى أن الجماعة بينما كانت تتخذ من خلف الستار مواقف معادية للعمال، كانت وفي هذه الفترة بالذات – وكما رأينا من قبل – تتخذ موقف المزايدة على الجميع مدعية الدفاع عن العمال.

وكان من الضروري أن يتواجه اليسار والإخوان في كل موقع عمالي .. فعلى أثر التداخل الصريح لممثل الجماعة لدى وزير الشئون الاجتماعية في فرض توجهات معادية للعمال ومنها الإصرار على بقاء المادة 39 من قانون عقد العمل الفردي التي كانت تجيز الفصل التعسفي للعمال .. قدم خالد محيي الدين أحد قادة اليساريين البارزين بحركة الضباط وعضو مجلس قيادة الثورة استقالته من المجلس احتجاجاً ..

وجاء في خطاب استقالته " إنني قد فقدت القوة الدافعة على العمل نتيجة أنني أرى أن أقل ما كانت تصبو إليه نفسي من أفكار ومبادئ لا أستطيع تنفيذها " .. ويعلن في الاستقالة رفضه لهذه المادة " التي تريد أن تبني مكانها اللائق بين الأمم "

ومرة أخرى يهزم التوجه الإخواني إزاء العمال فقد استطاعت استقالة خالد محيي الدين أن تستقطب إلى جانبه جمال عبد الناصر الذي كان متغيباً عن الجلسة التي وقع فيها الصدام .. وعقدت جلسة جديدة ، وتم اتخاذ موقف جديد، وبدأ نفوذ سيد قطب يتقلص في مجال وزارة الشئون الاجتماعية، ما لبث أن أبعد عن موقعه ..

ولعل مواقف كهذه قد انعكست بالسلب أيضاً على علاقة الإخوان بالعمال ..

ويمكن القول أن هذه العلاقة ظلت وحتى الآن محدودة ، فبرغم تصاعد المد الإسلامي وتزايد نفوذ الجماعات الإسلامية ومنها الإخوان المسلمين وسط فئات المجتمع المختلفة، وبرغم تزايد نفوذ الإخوان في عدد من النقابات المهنية (المهندسين – الأطباء) فإن المرشحين الإسلاميين قد فشلوا فشلاً ذريعاً في انتخابات النقابات العمالية الأخيرة.

ولعل ذلك كله ليس منفصلاً عن مجمل مواقف الجماعة سواء الأيديولوجية منها أو العملية.

***

وبعد كل ذلك وفي يناير 1948 أعلن البوليس أنه اكتشف بمحض الصدفة مجموعة من الشبان سراً على السلاح في منطقة جبل المقطم، وأنه بمداهمة المجموعة – التي قاومت لبعض الوقت – ضبط البوليس 165 قنبلة ومجموعات من الأسلحة .. وقال زعيم المجموعة سيد فايز (وكان اسمه جديداً تماماً على البوليس برغم أنه كان أحد القادة الأساسيين للجهاز السري) " إن السلاح يجري تجميعه من أجل فلسطين وأن الشباب يتدرب من أجل فلسطين "، وقال " أنهم اشتروا السلاح من العرب (البدو) من أجل العرب (الفلسطينيين) " وتحت ضغوط ووساطات من الجماعة أفرج عن سيد فايز وزملائه ..

لكن أنظار البوليس بدأت تتجه ناحية شباب الجماعة.

وتكون الخطوة الثانية في 22 مارس 1948 عندما يقتل اثنان من الإخوان المستشار أحمد بك الخزندار، وذلك بسبب إصداره حكماً قاسياً على عضو بالجماعة سبق أن اتهم بالهجوم على مجموعة من الجنود الإنجليز في أحد الملاهي الليلية، ويكتشف البوليس الصلة بين الشابين وبين مجموعة المقطم وبين جهاز سري مسلح داخل جمعية الإخوان المسلمين .. ويقبض لوقت قصير على المرشد نفسه، ولكنه لا يلبث أن يفرج عنه لعدم توافر الأدلة.

وإذا كان أعضاء الجماعة قد استنكروا الحادث علناً (كعادتهم دوماً)، فلابد أن مشاعر مختلفة كانت تهتز في داخلهم، فالجهاد حق، وهو واجب، والقتيل ارتكب جرماً في نظرهم لأنه حكم بالسجن على شاب مسلم عضو بالجماعة لأنه هاجم مجموعة من الكفرة المحتلين أعداء الإسلام .. ولعل مثل هذه المشاعر لم تكن جديدة على مصر .. فعلى أثر انتشار موجة الاغتيالات وخاصة اغتيال أحمد ماهر، وأمين عثمان، وغيرهما تحولت ساحات المحاكم كما يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي " إلى منابر لتمجيد القتل والجريمة "

ولم يكن هذا الحادث سوى مقدمة.

فقد كانت حرب فلسطين تشتعل، وإذ أسهم الإخوان المسلمون في إشعالها فقد أسهموا أيضاً – وبقدر متزايد – في إذكاء مشاعر عنصرية ضد اليهود المصريين، وحاولوا جهد طاقتهم تحويل المعركة من عرب ضد استعمار وصهيونية إلى مسلمين ضد يهود.

وكان طبيعياً أن يسهم الجهاز الخاص المدجج حتى أسنانه بالسلاح، والمستفز المشاعر، سواء بسبب تعثر مسيرة القتال وخيانة الحكومات العربية العميلة، أو بسبب القبض على " أخوة الجهاد " الذي قتلوا الخازندار .. كان طبيعياً أن يسهم في إذكاء نيران التعصب الديني مستخدماً الديناميت ..

وفي 20 يونيو 1948 اشتعلت النيران في بعض منازل حارة اليهود ، وفي 19 يوليو تم تفجير محلي شيكوريل وأركو وهما مملوكان لتجار من اليهود.

وإذ توقع الهدنة الأولى في حرب فلسطين يستشعر الناس ريح الخيانة والتسليم، ويسرع الديناميت ليتكلم في الداخل ضد اليهود المصريين، بعد أن أحبطت الجهود ضد الصهيونية في فلسطين.

ويكون الأسبوع الأخير من يوليو والأول من أغسطس هما أسبوعي الرعب بالقاهرة حيث تتوالى الانفجارات في ممتلكات اليهود وتهتز المرة تلو الأخرى شوارع قلب العاصمة بتفجيرات عنيفة راح ضحيتها الكثيرون، وخلال أسبوعين دمرت محلات بنزايون وجاتينيو وشركة الدلتا التجارية ومحطة ماركوني للتلغراف اللاسلكي. وفي 22 سبتمبر دمرت عدة منازل في حارة اليهود ثم وقع انفجار عنيف في مبنى شركة الإعلانات الشرقية.

ولسنا بحاجة إلى القول بأن الضحايا كانوا كثيرين وأنهم جميعاً من الأبرياء ..

وكانت أعين البوليس التي استيقظت مؤخراً قد اكتشفت أحد أطراف الخيط ، إذ ضبطت ترسانة سلاح ضخمة في عزبة بالإسماعيلية يمتلكها الشيخ محمد فرغلي قائد كتائب الإخوان في فلسطين ..

وفي 15 نوفمبر ضبطت سيارة الجيب الشهيرة ..

تقول مصادر البوليس أن ضبط السيارة تم مصادفة، ولو أن الكثيرين يستبعدون ذلك، وعلى أية حال فإن واقعة سيارة الجيب قد وضعت يد البوليس في ضربة من ضربات الحظ على اثنين وثلاثين من أهم كوادر الجهاز السري، وعلى وثائق وأرشيفات الجهاز بأكمله بما فيها خططه وتشكيلاته وأسماء الكثيرين من قادته وأعضائه.

وكان البنا قد أمضى معظم شهر أكتوبر وبضعة أيام من نوفمبر مؤدياً فريضة الحج، فما أن عاد تعرض للقبض عليه بمقولة وجود دليل ضده في سيارة الجيب المضبوطة، وبمقولة مسؤوليته المباشرة عن حادث نسف شركة الإعلانات

وخرج البنا من السجن ليبذل جهوداً لإيقاف عجلة الأحداث محاولاً إنقاذ الجماعة من الوقوع فريسة لنظام أصبح غير راض عنها، بل وراغب في الخلاص منها ..

لكن سرعة الأحداث كانت تفوق قدرة الشيخ على الحركة..

والشيخ الذي اعتاد المناورة بالسياسة والسياسيين وجد نفسه محاصراً تماماً عاجزاً عن الفعل، فالقصر والسعديون خلفاء الأمس القريب، والذين شجعوا الإخوان ونظروا لتحركهم باتجاه قضية فلسطين بعين الرضا بغية صرف الأنظار عن معركة الجلاء عن مصر، وعن قضايا الداخل المختلفة، بدءوا يخونون قضية فلسطين كما خانوا من قبل قضية مصر ..

والبنا الذي شحن نفوس أتباعه وإلى أقصى مدى بالمشاعر الإسلامية المتوترة تجاه قضية فلسطين يجد نفسه مطالباً إما بأن يواجه القصر والحكومة وإما أن يواجه أتباعه .. وحاول أن يتخذ موقفاً وسطاً، ولعله راح ضحية هذه المحاولة.

وكان شباب الجامعة من الإخوان وغيرهم يغلي رفضاً للشروط المهينة التي خضعت لها الحكومة في اتفاقية الهدنة في فلسطين، ولعل البنا حاول أن يلعب بآخر أوراقه (نفوذه وسط طلاب الجامعة)، ليخفف قبضة الحكومة عن عنق الجماعة، وخرج البوليس ليردعهم كعادته هذه الأيام، ودارت معارك مسلحة أمام فناء كلية طب القصر العيني أحد مراكز القوة بالنسبة لطلاب الإخوان ..

واستخدم البوليس الرصاص، واستخدم الإخوان المتفجرات، وإذ كان حكمدار العاصمة سليم زكي يقود المعركة من سيارته (تلك السيارة التي ركبها حسن البنا منذ أقل من عام ونصف ليهدئ المتظاهرين)، سددت نحوه قنبلة أصابته إصابة مباشرة .. واتهم بيان حكومي جماعة الإخوان المسلمين بقتله ..

وعلى أثر ذلك ، صدر قرار من الحاكم العسكري، (كانت الأحكام العرفية معلنة بسبب حرب فلسطين) بإيقاف صحيفة الجماعة .. وحاول البنا يائساً إنقاذ الجماعة .. اتصل بكل أصدقائه وحتى خصومه، ولعب بكل أوراقه، حاول الاتصال بالملك، بإبراهيم عبد الهادي رئيس الديوان الملكي، وبعبد الرحمن عمار (صديقه الشخصي وصديق الجماعة) وكان وكيلاً لوزارة الداخلية.

ولأن الشيخ قد فقد أسباب قوته، بدأوا يتلاعبون به، ففي الساعة العاشرة من مساء يوم 8 ديسمبر اتصل به عبد الرحمن عمار وأكد له أن شيئاً ما سيحدث لتحسين الموقف، وإنقاذ الجماعة.

واطمأن الشيخ وقبع هو ومجموعة من أنصاره في المركز العام ينتظرون "الإنقاذ" فإذا بالراديو يذيع عليهم قرار مجلس الوزراء بحل الجماعة بناء على مذكرة أعدها عبد الرحمن عمار نفسه.

وإذ حاول البعض الخروج من مقر المركز العام وجدوه محاصراً واقتحمه البوليس ليلقي القبض على كل من فيه باستثناء البنا .. الذي ترك طليقاً بحجة أنه لم يصدر أمر باعتقاله .. وكانت حريته هذه هي عذابه ونهايته.

واشتملت مذكرة عبد الرحمن عمار المرفوعة إلى مجلس الوزراء بشأن طلب حل جماعة الإخوان المسلمين على قرار اتهام طويل يعيد إلى الأذهان كل أعمال العنف التي ارتكبتها الجماعة، حتى تلك التي ارتكبتها بإيعاز من السلطات ولخدمة مصالحها.

فمن بين التهم الثلاث عشرة التي ساقتها المذكرة نجد:

     

  1. أن الجماعة كانت تعد للإطاحة بالنظام السياسي القائم وذلك عن طريق الإرهاب مستخدمة تشكيلات مدربة عسكرياً هي فرق الجوالة.

     

     

  2. مسئولية الجماعة عن مقتل أحد خصومها السياسيين (وفدي) في بورسعيد.

     

     

  3. مسئولية الجماعة بحيازة أسلحة ومفرقعات ومتفجرات (حادث المقطم – مستودع السلاح بعزبة الشيخ محمد فرغلي – ضبط مصنع للمتفجرات بالإسماعيلية)

     

     

  4. نسف فندق الملك جورج بالإسماعيلية

     

     

  5. نسف العديد من المنشآت التجارية المملوكة لليهود.

     

     

  6. الاعتداء على رجال الأمن أثناء تأدية وظيفتهم.

     

     

  7. إرهاب أصحاب المنشآت التجارية وتهديدهم بهدف الحصول على "تبرعات" و"اشتراكات" مدفوعة مقدماً لصحيفة الجماعة.

     

وبناء على هذه المذكرة أصدر الحاكم العسكري العام محمود فهمي النقراشي باشا قراراً عسكرياً من تسعة مواد تنص مادته الأولى: تحل فوراً الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين بشعبها أينما وجدت، وتغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها، وتضبط جميع الأوراق والوثائق والسجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال وعلى العموم كافة الأشياء المملوكة للجمعية.

ويحظر على أتباعها والمنتمين إليها بأية صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية وبوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لإحدى شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها وجمع الإعانات، أو الاشتراكات أو الشروع في شيء من ذلك .. ويعد من الاجتماعات المحظورة في تطبيق هذا الحكم اجتماع خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية المذكورة. كما يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي السماح باستعمال أي مكان تابع له لعقد مثل هذه الاجتماعات، أو تقديم أي مساعدة أدبية أو مادية أخرى.

وتنص المادة الثالثة "على كل شخص كان عضواً في الجمعية المنحلة أو منتمياً لها وكان مؤتمناً على أوراق أو مستندات أو دفاتر أو سجلات أو أدوات أو أشياء أن يسلمها إلى مركز البوليس المقيم في دائرته في خلال خمسة أيام من تاريخ نشر هذا الأمر".

أما المادة الرابعة فتنص على تعيين "مندوب خاص مهمته استلام جميع أموال الجمعية المنحلة وتصفية ما يرى تصفيته، ويخصص الناتج للأعمال الخيرية أو الاجتماعية التي يحددها وزير الشئون".

ودارت ماكينة العنف البوليسي ضد الإخوان .. هؤلاء الذين باركوا دورانها ضد خصومهم من الوفديين والتقدميين والشيوعيين فإذا بغول الديكتاتورية يبتلعهم هم أيضاً.

والمعتقلات التي افتتحت في ظل مباركة الإخوان وتهليلهم يوم 15 مايو (أيار) 1948 (بمناسبة حرب فلسطين) والتي استقبلت خصومهم السياسيين، أخذت تتوسع كي تستقبل الألوف من أعضاء الإخوان.

ويقول البنا أنه قد تم فصل 150 موظفاً، وشرد من القاهرة وحدها إلى الوجه القبلي 500 موظف ، وأبعد عن كليات الجامعة والمدارس الثانوية نحو ألف طالب.

وحاول البنا جهد طاقته أن يوقف طوفان المحنة .. لكنه كان عاجزاً بالفعل. فالحكومة التي هادنها وهادنته، كانت تضرب بعنف وقوة مصممة على تصفية الإخوان، ورفض النقراشي كل محاولات البنا للالتقاء به.

والجماعة التي بناها الشيخ بعرقه وجهده، وشيدها بيديه لبنة لبنة عبر عشرين عاماً تنهار أمام عينيه، وجهازه السري تنقطع خطوط اتصاله، فقد كانت ضربة سيارة الجيب قاصمة بالنسبة لقيادة الجهاز السري، وشبكات اتصالهم، وإذ ضربت قيادة الجهاز فقد البنا اتصاله به بل وفقد سيطرته عليه"

وفي 28 ديسمبر (كانون الأول) وقعت الواقعة التي صعدت المأساة إلى أعلى قممها إذ قام طالب في الثالثة والعشرين من عمره (عبد المجيد أحمد حسن) بإطلاق رصاصتين محكمتي التصويب على رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا.

وشيع أنصار الحكومة جثمان رئيس وزرائهم هاتفين في صراحة "الموت لحسن البنا"

وأتى إبراهيم عبد الهادي ليدير ماكينة العنف الرسمي إلى أقصى مداها، ولتتسع دائرة الاعتقالات في صفوف الإخوان فتشمل 4000 معتقل، وتعرض بعض المعتقلين لأقصى درجات التعذيب الوحشي الذي لم تعرف له مصر مثيلاً من قبل، وباختصار "كانت الستة أشهر التالية لتولي إبراهيم عبد الهادي الحكم صورة راسخة في أذهان المصريين جميعاً للسلطة الرسمية الغاشمة وقد اكتسب عبد الهادي لنفسه خلالها عداء كافة فئات الرأي العام المصري".

وفي زنازين التعذيب الرهيبة – والتي تناولت المتهم وأسرته رجالاً ونساءً – كان أقصى ما يؤلم الإخوان قيام أجهزة الأمن بتعليق الآية الكريمة "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".

ولعل شكوكاً كثيرة قد ساورت هؤلاء الشبان من أعضاء الجهاز السري وهم يعانون من التعذيب الوحشي في جدوى عملية الإرهاب ضد خصومهم، وربما في مدى مشروعيتها.

وفي مدى انطباق "فكرة الجهاد" على ما ارتكبوه من أعمال، ولعل فتاوي مفتي الديار المصرية، وبيانات شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء التي تدين أعمالهم قد أثرت فيهم كثيراً.

لكن الطامة الكبرى جاءت عندما استنكر الشيخ البنا نفسه هذه الأعمال واتهم القائمين بها بأنهم "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"، وهنا انهار المتهمون جميعاً، فقد كان صمودهم واحتمالهم للتعذيب يستمد كل صلابته من "البيعة" التي أقسموا بها بين يدي الشيخ أو من يمثله في حجرة مظلمة .. فإذا تخلى الشيخ عنهم وعن فكرة "الجهاد" كما لقنها لهم .. فماذا يبقى؟

ولقد صمد عبد المجيد حسن ثلاثة أسابيع كاملة في مواجهة تعذيب وحشي ضده وضد أسرته، لكنه ما لبث أن انهار تماماً عندما قرأ بيان الشيخ البنا الذي نشرته الصحف.

والحقيقة أن نزوع الإخوان إلى الإرهاب، كان خطأ فادحاً مكن الخصوم من استخدام العنف الرسمي في أقصى صورة ضدهم.

كذلك فقد عزلهم هذا الإرهاب عن الكثير من القوى التي اعتادت العطف عليهم أو النظر إلى دعوتهم بعين الرضا.

ومع ماكينة التعذيب كانت ماكينة الدعاية تدور لتجرم الجماعة وشيخها ومنهجها وجهازها السري.

     

فتوى مفتي الديار المصرية تدين أفعال الجماعة وتتهم القائمين بها بالكفر.

 

  1. وبيان من هيئة كبار العلماء.
  2. وبيان ثالث من الأزهر.
  3. وساهم في حملة الإدانة لأعمال العنف والإرهاب الإخوانية مفكرون وكتاب يتمتعون باحترام جمهور مصر العريض.
  4.  
  5. د. طه حسين يقول: "ما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التي تدخر في بيوت الأحياء وفي قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذي يكمن، وما هذه الخطط التي تدبر، وما هذا الكيد الذي يكاد، ولم كل هذا الشر، ولم كل هذه النكر، ولم رخصت حياة المصريين .. يقال أنها إنما رخصت بأمر الإسلام الذي لم يحرم شيئاً كما حرم القتل، ولم ينه عن شيء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان"

     

     

  6. وكامل الشناوي يقول "إنني حزين أن يوجد إنسان واحد، لا جماعات منظمة، يصنع الموت للناس ويحترف التخريب والتدمير، وإن قلبي ليقطر حزناً إذ كانت هذه الجماعة ترتكب جرائمها باسم الإسلام، وتجد من يصدقون دعواه .. إن الإسلام الذي يقول كتابه الكريم "وجادلهم بالتي هي أحسن" لا يقر الجدل بالمسدسات والمدافع والمتفجرات"

لكن استنكار الجهاز السري وجرائمه لم يأت من خارج الجماعة فقط، بل لعله أتى اكثر ما أتى من داخلها .. بل من شيخها ومن منشئها ومؤسس الجهاز السري نفسه.

.. التداعيات

وإذا كان حسن البنا هو البذرة الصالحة فإن سيد قطب هو الثمرة الناضجة .. أو على الأقل هذا هو رأي واحد من كبار رجال الجماعة. الصاغ صلاح شادي الذي كان مسئولاً عن قسم "الوحدات" بالجماعة [ الفرع الأكثر سرية من الجهاز السري، فهو الفرع الخاص بأعضاء الجماعة في الجيش والبوليس ].

ولم يحدث أبداً أن وجه إخواني أياً كان مرتبته أي نقد، أو شبه نقد لممارسات أو كتابات الأستاذ سيد قطب. وسيد قطب – وهو شخصية مثيرة لجدل شديد هو سيد عصر الإرهاب الحالي.

فكل الإرهابيين المتأسلمين الذين ملأوا الدنيا قتلاً وسفكاً للدماء هم " قطبيون " أي أنهم من أتباعه. وفي سجن طره بدأ سيد قطب في استقطاب أكثر عناصر شباب الجماعة تشدداً ليكون منهم تياراً ينتقد اعتدال البعض من رموز الجماعة، ويدعو إلى تكفير المجتمع [ الحاكم والمحكوم على السواء ]

وكان من أبرز تلاميذه في السجن " شكري مصطفى " الذي سرعان ما كون بعد خروجه من السجن " الجماعة المسلمة" التي أسميت إعلامياً بجماعة التكفير والهجرة ، ومن هذه الجماعة الشديدة التشدد والتي تعرضت لضربات قاصمة في أعقاب اختطافها للشيخ الذهبي واغتياله .. تولدت جماعات عدة لعل كل منها كان أكثر تطرفاً مما سبقه.

لكن الأستاذ سيد قطب هو صاحب نواة كرة الثلج التي تضخمت لتفرز لنا كل الإرهابيين المتأسلمين من أعضاء "جماعة الجهاد" و" الجماعة الإسلامية " وما أفرزتاه من تكوينات تالية ..

ولقد يتململ بعض الإخوان من نسبتهم إلى هذه التداعيات ، لكن الشيء المؤكد أن أحداً لم يجرؤ أو يتجاسر أن ينطق بكلمة نقد واحدة لفكرة أو كلمة أو فعل من أقوال أو أفعال الأستاذ سيد قطب.

أليس هو " الثمرة الناضجة " للدعوة. وأليس هو " الأمل المرتجي للدعوة " كما أكد الأستاذ الهضيبي المرشد العام للإخوان على زمن الأستاذ قطب؟

بل أن أحداً من الإخوان لم يوجه أي نقد أو إدانة لكل ما ارتكبه الإرهابيون من مجازر. يتنصلون منها نعم. أما إدانتها وإدانة القائمين بها أو القائلين بضرورتها فلا.

ويبقى معلقاً في عنق الجماعة كل فعل أو قول، وكل قطرة دم أريقت بأيدي المتأسلمين حتى يعلنوا براءتهم منها، ويعلنوا إدانتهم لها.

والغريب أن هؤلاء المتأسلمون يسارعون من قبيل التفقه، وسد منافذ الحياة أمام الناس بتحريم عشرات الأفعال والأقوال والكتابات ، لكن أحداً منهم لم يحرم حرفاً مما كتبه هؤلاء الإرهابيون الجدد ابتداءاً من سيد قطب وحتى عمر عبد الرحمن وعبود الزمر وأسامة بن لادن وأمثالهم.

 ولم يحرم فعلاً مما فعلوا. هو فقط يقول لم أفعل. ولكن أين واجب المسلم في تبيان الحق .. أليس " الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ "

تداعيات التداعيات:

ومع وجود قيادة للجماعة منغلقة على نفسها، ولا تمتلك لا الكفاءة الفكرية ولا التنظيمية التي اعتاد عليها الإخوانيون.

ومع بروز قيادات من الكوادر الوسطى اكتسبت في ظل ظروف محددة بعضاً من وجود جماهيري. وهي قيادات قدمت إلى الجماعة من صفوف " كرة الثلج " التي ولدها سيد قطب. أي من صفوف الجامعات الجهادية كما يسمونها. دخلوا الجماعة شباناً [ طلاباً أو خريجين جدداً ] صعدوا خطوة أو خطوتين ثم .. كفى.

فالحصون العليا في قيادة الجماعة محصنة لا يمسها إلا "المقربون" ابن المرشد المؤسس وابن المرشد التالي. أما هؤلاء الغرباء فلا مكان لهم في قمم القيادة الإخوانية.

ثم بدأت القيادة تلعب لعبة غريبة. تورط قواعدها ولا تتورط هي. هم يسجنون وهي تنجو.

ولعل الأمن قد أسهم في هذه اللعبة ربما [ أقول ربما ] عن وعي.

الأمن يقبض على الكوادر الوسطى، يحاكمها، ويسجنها، بينما " القيادة " تعيش في مأمن.

ويبدو غريباً. وربما مريباً أن يقبض على مئات من أعضاء القيادات الوسطى الإخوانية بتهمة الانضمام إلى الجماعة وهي تنظيم محظور، وتكون الأدلة كتابات ومطبوعات إخوانية كتابها ومؤلفوها من أعضاء مكتب الإرشاد الذي يعيش حراً طليقاً، بل ويعلن أعضاؤه عن مواقعهم في الجماعة.

فالعضو يسجن لأنه يشتبه في أنه منضم للجماعة ، بينما الأستاذ مصطفى مشهور يعلن في كل يوم أنه المرشد العام .. والمستشار مأمون الهضيبي يعلن وعلناً أنه نائبه.

هذا المنطق المفتقد أثار حفيظة الكوادر الوسطى، خاصة وأن المواقع القيادية قد حجبت عنها قصراً.

وإن الجماعة تفتقد أي شكل من أشكال الديموقراطية، فأية ديموقراطية مع من بايعته " أميراً " أو " مرشداً ". بايعته  " على السمع والطاعة في المنشط والمكره " ومن تلقنت دوماً أنه يتحتم عليك أن " تطيعه وإن ضربك على ظهرك وبطنك "؟

وأية ديموقراطية فيما أسمي ببيعة المقابر؟ حيث وبشكل مفاجئ بويع الأستاذ مصطفى مشهور مرشداً للجماعة خلال مراسم دفن المرشد السابق .. بايعه المشيعون دون ترتيب، ودون احتراز من أن يكون المبايعون لا يمثلون الجماعة تمثيلاً حقيقياً. أو حتى لا يكونون أعضاء فيها.

وأية ديموقراطية مع مرشد عام هو واحد من الرعيل الأول لمؤسسي الجهاز السري الذي يفرض طاعة مضاعفة، وخضوعاً لا نقص فيه.

وهكذا بدأ التململ في صفوف الكوادر الوسطى، وظهرت تداعيات جديدة. إنشقاقات منا لجماعة بعضها أسمى نفسه "حزب الوسط" [ تحت التأسيس ] والآخر حزب الشريعة [ أيضاً تحت التأسيس ]

وآخرون كثيرون .. متمردون صامتون، أو منسحبون دون ضجيج، أو يستعدون لذات الشيء.

لكن التداعيات ومهما حاولت أن تتزين تبقى مفعمة بثوابت الأصل. مثله ، مثقلة بكل نوازعه وكل مقولاته المتأسلمة. وإن تزينت أو تجملت أو حاولت ..

ذات يوم شاهد هارون الرشيد سحابة تسرع بعيداً دون أن تمطر فوق بغداد، فنظر إليها متهكماً وقال: " أمطري حيث شئت، فخراجك سيأتيني ".

وأكاد أتخيل فضيلة المرشد العام للإخوان في موقع هارون الرشيد، أما السحابة فهي كل هذه التداعيات وتداعيات التداعيات لكن " الخراج " هنا دماء وقتل وإرهاب وتأسلم.

.. ونعود لنؤكد ما كررنا من قبل أن الإرهاب يبدأ فكراً. يبدأ بفكرة خبيثة متأسلمة، لا تلبث أن تقتاد صاحبها أو متلقيها خطوة خطوة في طريق المفاصلة مع المجتمع، أو مع كل مختلف معه، ويصبح الآخر هو العدو، ولأن الفكر الديني [ الإنساني، النسبي الصحة ] يروج له باعتباره ذات الدين [ الإلهي المحتوى والكلي الصحة ] فإن الآخر العدو يصبح بالضرورة الكافر .. الذي يجب أن يقام عليه حد الردة.

ونعود إلى حكاية عربية قديمة نتذكرها إذ نتحدث عن البذرة الخبيثة التي تتولد منها تداعيات متفجرة " التقى رجل صالح بإبليس، فعاتبه يا مولانا .. أنا أضع البذرة وأتركها وأتركهم هم يفعلون كل شيء. ولما سأله الرجل الصالح كيف ؟ اصطحبه إلى السوق وأمسك بخنفساء ووضعها على الحائط بجوار كلب. لمح الكلب الخنفساء، ارتفع نباحه، وحاول القفز ليلتقط الخنفساء، ففزعت قطة كانت مارة بالمصادفة ، قفزت القطة من فزعها لتصطدم بحلواني يقلي بعض الحلوى في قدر من الزيت. أجفل الرجل، انقلب الوعاء، وانقلب الموقد، فجرى الرجل خلف الكلب ليضربه.

وأتى صاحب الكلب ليضرب الحلواني، وأتى أنصار كل منهم وتشابك السوق مع بعضه البعض في عراك ضار، بينما نار الموقد تمتد، تشعل المحل وتشعل كل محلات السوق .. ولم ينفض العراك إلا مع اختراق السوق بأكمله. ونظر الرجل الصالح إلى إبليس .. دون أن ينطق".

.. البذرة الخبيثة هي تلك الأفكار المتأسلمة .. والتداعيات هي احتراق كل شيء.

والإرهاب المتأسلم .. يبدأ فكرة. أما إبليس فالجميع يعرفونه.

******************

من كتاب التيارات السياسية في مصر

بقلم د . رفعت السعيد

الصفحة الرئيسية