لزوم كفارة المسيح

كيف تنتفع بكفارة المسيح؟

القسم الثاني من كتاب

فلسفة الغفران في المسيحية

عوض سمعان

 

الباب الثامن

كفارة المسيح في نظر الفلاسفة والعلماء

-1- آراء الفلاسفة والعلماء المسيحيين بالحق

لم يدرس كفارة المسيح رجال الدين المسيحي فحسب، بل درسها أيضاً كثير من الفلاسفة والعلماء المسيحيين بالحق، فعرفوا أهميتها الواردة في الكتاب المقدس، كما اختبروا نتائجها المباركة في نفوسهم اختباراً صادقاً، وفيما يلي بعض آراء هؤلاء الفلاسفة والعلماء:

1 - قال أكليمندس لنتأمل دم المسيح ولنعرف قيمته التي تفوق كل قيمة، فإنه ليس مثل دم الشهداء الذين يموتون من أجل الدفاع عن الحق (وإن كان دم هؤلاء غالياً وثميناً في أعيننا)، بل إنه دم المحبة الإِلهية المعروف قبل إنشاء العالم، للتكفير عن خطايانا جميعاً .

2 - وقال إيريانوس غاية الكفارة هي إيفاء مطالب العدل الإِلهي نيابة عنا. والمسيح بموته على الصليب، وفّى هذه المطالب، ومن ثم كفّر عن خطايانا إلى الأبد .

3 - وقال أقليمس إن المسيح تحمل آلام الخطيئة عوضاً عنا، وبذلك خلصنا منها إلى الأبد .

4 - وقال أغناطيوس نحن نؤمن أن المسيح مات عوضاً عنا من جهة الناسوت، لكنه لم يمت من جهة اللاهوت، لأن اللاهوت غير قابل للموت .

5 - وقال بابياس إن اللوغوس (الكلمة) الذي خلقنا لم يتركنا وشأننا عندما أخطأنا، بل أتى إلى عالمنا وخلصنا من خطايانا ءاللوغوس كلمة يونانية يُراد بها العقل المدبر للكون ، وهي مرادفة في المسيحية لأقنوم الابن أو الكلمة، الذي يعبر عن اللّه ويعلنه، والذي خلق العالم ويدبره (يوحنا 1: 3 ، كولوسي 1: 16).

6 - وقال أوريجانوس اللّه عادل، والعادل لا يبرر الخطاة إلا إذا وفيت مطالب عدالته. وبما أنه لا يمكن أن يقوم بهذه المهمة سواه، لأنه هو وحده الذي يعرف مطالب عدالته. لذلك رضي أن يحل في المسيح ليقوم بالمهمة المذكورة، حتى يبرر كل خاطئ يؤمن به إيماناً حقيقياً .

7 - وقال أثناسيوس الكلمة (أو بالحري المسيح) أتى إلى العالم ليس لكي يهلك الناس، بل لكي يخلصهم من خطاياهم، وذلك بتحمله في نفسه الدينونة التي يستحقونها بسبب هذه الخطايا . 8 - وقال أنسلموس مخاطباً المسيح ماذا فعلت يا يسوع، يا أبرع جمالاً من كل بني البشر، حتى تموت موت الأثمة المجرمين!! أنت لم تفعل خطيئة على الإِطلاق حتى تستحق الموت بسببها، لكنك قبلت الموت بسبب خطاياي وخطايا غيري من الناس .

9 - وقال القديس أوغسطينوس الخطيئة هي خطيئتنا، وقصاصها كان يجب أن يحل بنا، لكن المسيح حمل هذا القصاص عوضاً عنا، وبذلك أعتقنا منه إلى الأبد .

10 - وقال القديس برنار: المسيح وفّى مطالب العدل الإِلهي نيابة عنا، حتى ننال الصفح والغفران ونكون أهلاً للقبول أمام اللّه. لذلك فغاية فلسفتي هي أن أعرف يسوع المسيح وإياه مصلوباً، لأن الصليب هو نقطة التقابل بيننا وبين اللّه في حب متبادل يدوم إلى الأبد.

11 - وقال بطرس اللمباردي: المسيح قدم نفسه للّه كفارة عن خطايانا، حتى لا يُدان كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً .

12 - وقال توما الأكويني: لا يستطيع إيفاء مطالب عدالة اللّه إلا اللّه، ومن ثم حل في المسيح للقيام بهذه المهمة العظيمة . كما قال إن كفارة المسيح أزالت الخطيئة التي كانت تفصل بيننا وبين اللّه، لذلك صار لنا إمتياز الدنو منه والتمتع به .

13 - وقال دكتور كلي كران: السبب الذي جعلني أعتنق المسيحية هو موت المسيح كفارة عن خطايانا. فقد أدركت منذ سنوات أني إنسان خاطئ، وأنه ليس في وسعي أن أتبرر أمام اللّه بأي عمل من الأعمال الصالحة التي أقوم بها، ولذلك كان يتملكني الأسى والحزن كثيراً. لكن لما تحققت أن المسيح مات نيابة عني، حاملاً القصاص الذي أستحقه بسبب خطاياي، استراحت نفسي وامتلأت فرحاً وسلاماً .

14 - وقال القديس فرنسيس: ربي يسوع المسيح! إني ألتمس منك أن تهبني نعمتين قبل أن أموت (الأولى) أن أشعر في نفسي بالآلام التي قاسيتها على الصليب عوضاً عني، حتى أكره الخطيئة مهما كان شأنها. و (الثانية) أن أشعر في نفسي بالمحبة العجيبة التي اضطرمت في قلبك من نحو شخص نظيري، حتى أحبك كما أحببتني .

15 - وقال الرئيس جون كرتز: المسيح المصلوب يشفي القلب الجريح ويريح الضمير المعذب، لأنه يرفع عن المؤمن دينونة الخطيئة ويهيئه للدنو من اللّه والتمتع به .

16 - وقال فورسيت: الآلام التي قاساها المسيح على الصليب هي أقسى أنواع الآلام، لأنها ذات الآلام التي كنا نستحقها في جهنم إلى الأبد بسبب خطايانا. فلنضع هذه الحقيقة أمام نفوسنا، وليكن لها التأثير العملي في حياتنا .

17 - وقال تيللور: اللّه هو الذي خلقنا، والذي خلقنا لا يمكن أن يهملنا لذلك كان من البديهي أن يتنازل ويخلصنا من الخطيئة التي سقطنا فيها - وهذا هو ما فعله في المسيح على الصليب .

18 - وقال جون سكوت: الكلمة (المسيح) هو الوسيط بين اللّه وبيننا، لذلك فهو وحده الذي يستطيع أن يصالحنا مع اللّه، وقد قام بهذا العمل عندما وفّى في نفسه على الصليب مطالب عدالة اللّه، عوضاً عنا .

19 - وقال روبرت برونيز إن حقيقة ظهور اللّه في المسيح لخلاص البشرية وإنقاذها من بؤسها، تحل كل المشاكل التي تعترضنا من جهة موقف اللّه إزاء خطايانا، وقصورنا عن التوافق معه، كما تفسر لنا كل رموز التوراة وتحقق كل نبواتها. إذ لولا الحقيقة المذكورة، لكنا نشكّ في كمال اللّه ومحبته، ولكانت رموز ونبوات العهد القديم بلا معنى على الإِطلاق .

وإننا لا نأتي بهذه الآراء كحجة نعتمد عليها في أن المسيح مات كفارة عن خطايانا، لأن حجتنا الوحيدة في هذا الموضوع، وفي غيره من الموضوعات، هي كلمة الوحي التي بين أيدينا. وهذه الكلمة قد ثبت لنا صدقها بالكثير من الأدلة التاريخية والعقلية، والإختبارية أيضاً. إنما نأتي بالآراء المذكورة لكي نعلن أن الإِنسان عندما يفحص أعماق نفسه، يدرك أنه خاطئ وأنه لا يتسنى له من تلقاء ذاته أن يكفر عن خطاياه أو يتوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية، ومن ثم لا بد أن ينتهي إلى أن اللّه وحده هو الذي يستطيع القيام بالكفارة، وهو وحده الذي يستطيع أن يهب الحياة الروحية اللازمة لهذا التوافق.

-2-

آراء الفلاسفة والعلماء المسيحيين بالإسم، والرد عليها

هؤلاء الفلاسفة والعلماء يختلفون عن السابق ذكرهم، فهم لم يفهموا المسيحية كما هي معلنة في الكتاب المقدس، بل فهموها تبعاً لما أملته عليهم تصوراتهم الشخصية، ولذلك تعددت آراؤهم وتضاربت كثيراً. وفيما يلي هذه الآراء مصحوبة بالرد عليها:

1 - إن خلاص المسيح لنا لا يتوقف على موته على الصليب كما يُقال، بل على تعاليمه السامية التي كشفت بحق عن ماهية الخطيئة، ومن ثم أصبح لنا أن نتجنبّها في كل صورة من صورها.

الرد: وإن كان المسيح قد كشف لنا في تعاليمه السامية عن ماهية الخطيئة بدرجة لم نكن نتصورها، غير أن مجرد معرفتنا بذلك لا تعطينا القدرة على الخلاص من الخطيئة أو ترفع عنا النتائج المترتبة على السقوط فيها، بل بالعكس تزيدنا شعوراً بالحاجة إلى حياة إلهية تسمو بنا فوق قصورنا الذاتي، حتى نستطيع التوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية. كما تزيدنا شعوراً بالحاجة إلى كفارة عظيمة تفي مطالب عدالة اللّه نيابة عنا، حتى تهدأ ضمائرنا وتطمئن من جهة علاقته بنا - ولا غرابة في ذلك فإن معرفة المذنب بأنه يستحق القصاص، لا تنجيه منه، أو تؤهله للسلوك من تلقاء ذاته دون ارتكاب ذنب ما.

2 - المسيح أظهر على الصليب محبته الشديدة لنا لكي يحب بعضنا بعضاً كما أحبنا، وبذلك نخلص من الأنانية التي هي السبب في كل الخطايا.

الرد: وإن كان موت المسيح في سبيل محبته لنا مثالاً عظيماً يدعونا لأن يحب بعضنا بعضاً، لكن ليس من المعقول أن يكون قد مات لأجل هذا الغرض، إذ أن في حياته العادية التي كان يحياها بيننا ما يكفي لتعليمنا هذا الدرس الثمين. فضلاً عن ذلك فإن الخلاص من الأنانية وأضرارها المتعددة لا يكون بمحاولة الإقتداء بالمسيح (لأن القصور الذاتي الكامن في طبيعتنا يحول بيننا وبين هذا الإقتداء)، بل أن هذا الخلاص يكون بالحصول على حياة روحية من شأنها أن ترفعنا لدرجة التوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية - وهذه الحياة لا يعطينا اللّه إياها إلا بعد إزالة العداوة التي جعلناها بيننا وبينه، ولا سبيل لإزالة هذه العداوة إلا بالتكفير عن خطايانا كما ذكرنا فيما سلف.

3 - المسيح رضى بالصلب لكي يرينا محبته لنا، حتى نحبه بدورنا. وفي سبيل محبتنا له نكره الخطيئة ونمقتها.

الرد: ليس من المعقول أن يكون هذا هو كل غرض المسيح من احتماله آلام الصلب الشنيعة، لأنه لم يكن ليتحملها لولا أنه رآنا معرضين لها وأراد هو أن ينقذنا منها. فالأب البار لا يضحي (مثلاً) بحياته من أجل أبنائه إلا إذا رآهم معرضين للموت، وأراد هو أن ينقذهم منه. أما إذا كانوا غير معرضين له، فإنه لا يضحي بحياته لكي يظهر فقط محبته لهم. كما أن المحبة للّه والقدرة على الإرتقاء فوق الخطيئة، لا تتولدان من مجرد المعرفة بأن المسيح يحبنا، بل بواسطة الولادة الثانية من اللّه، والدليل على ذلك أن المؤمنين بالإسم يعرفون أن المسيح يحبهم، ومع ذلك لا يستطيعون أن يحبوه أو يرتقوا فوق الخطية الكامنة في طبيعتهم.

4 - المسيح رضي بالصلب لكي يعلمنا أن السبيل إلى السماء هو التضحية بكل غال ونفيس.

الرد: إن المسيح لا يتحمل آلام الصلب لكي يكون مجرد مثال يبين لنا وجود التضحية، لأنه علمناهذا الدرسالثمين في أقواله، كما علمنا إياه في حياته المثالية التي عاشها بيننا على الأرض. فضلاً عن ذلك فإن التضحية بكل غال ونفيس في الدنيا، لا تكون بمجرد التقليد، بل بالحصول على حياة روحية يكون من طبيعتها الإرتقاء فوق الذات بكل مطالبها. وهذه الحياة لا يمكن الحصول عليها إلا من اللّه، ولا يمكن أن يمنحها اللّه لنا إلا بعد التكفير التام عن خطايانا كما ذكرنا.

5 - المسيح رضي بالصلب لكي يرينا كراهية اللّه للخطيئة وما يستحقه الخطاة من عذاب، حتى نتوب عنها.

الرد: إن التوبة عن الخطيئة (كما ذكرنا في الباب الثاني) لا تكفي للحصول على الغفران أو التأهيل لحياة التوافق مع الله، لأن السبيل الوحيد لذلك هو التكفير عن الخطيئة والحصول على حياة روحية تسمو بنا فوق قصورنا الذاتي. كما أنه ليس من المعقول إطلاقاً أن يقبل المسيح آلام الصلب لكي يكون مجرد مثال لما يستحقه الخطاة من عذاب، إذ أن في أقواله وأقوال الأنبياء والرسل ما يكفي لإِثبات هذه الحقيقة.

6 - إن كفارة المسيح التي سترت خطايا البشر تكمن في حياة البر المطلق التي عاشها على الأرض، والتي انتهت بتقديم نفسه شهيداً من أجل الحق. لأن هذه الحياة هي التي أرضت اللّه، فصفح عن البشر جميعاً.

الرد: حقاً إن المسيح عاش حياة البر المطلق، وحقاً إن هذه الحياة أرضت اللّه أكثر مما نفتكر أو نتصور. لكن يجب أن لا يغيب عنا أنه لو كان المسيح مات فقط شهيداً من أجل الحق، لكان اللّه يسر به وحده ويمجده وحده، ولكننا جميعاً نظل كما نحن في خطايانا، عاجزين عن التوافق مع اللّه وواقعين تحت طائلة قصاصه. لكن إذا كان موت المسيح موتاً كفارياً (كما أعلن الكتاب المقدس)، فإن اللّه يصفح عن خطايانا ويهيئنا للتوافق معه.

7 - إن المسيح بموته على الصليب لم يقم بإيفاء مطالب عدالة اللّه نيابة عنا، لأن هذه المطالب لا حد لها، بل إنه فقط استمال عطف اللّه حتى يغفر لنا خطايانا. ومن ثم فإن آلامه ليست عقوبة تعويضية، إنما هي تعويض عن العقوبة القانونية.

الرد: لو كان المسيح قام بالكفارة بمعزل عن اللّه لكان هناك مجال لهذا الإعتراض لكن الأمر لم يكن كذلك، لأن اللّه نفسه كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه (2 كورنثوس 5: 19)، واللّه لكماله وتوافق كل صفاته لا يكون متساهلاً في شيء من مطالب عدالته.

8 - المسيح رضي بالصلب كما رضي سقراط بالسم، لكي يكتب لنفسه الخلود وترسخ مبادئه في نفوس البشر.

الرد: (ا) إن جاز أن يقال عن سقراط إنه رضي بالسم لكي يكتب لنفسه الخلود، لا يجوز أن يقال ذلك عن المسيح من جهة قبوله للصلب، لأن المسيح كان بعيداً كل البعد عن مظاهر العظمة الدنيوية التي يسعى إليها كثير من الناس. والدليل على ذلك أننا إذا رجعنا إلى تاريخ حياته، نرى أنه لم يكن يعمل معجزة ليرضي الناس أو لتكون له الحظوى لديهم (لوقا 23: 8 و 9) بل كان يقوم بها بدافع الشفقة على المرضى والمتألمين والمحتاجين، دون أن ينتظر من أحد مديحاً أو جزاء.

فضلاً عما تقدم فإن المسيح لم يكن يسعى إلى الخلود، لأنه كان يحمل (حتى من الناحية الإِنسانية) دلائل الخلود في نفسه بسبب كماله المطلق وتنزهه عن الخطيئة تنزهاً تاماً. أضف إلى ذلك أنه لم يُرغم على الصلب مثلما أرغم سقراط على شرب السم، بل تقدم للصلب بمحض إختياره كما يتضح من (يوحنا 10: 17 و 18).

(ب) أما من جهة رسوخ مبادئ المسيح في نفوسنا، فلا يتحقق على الإِطلاق بمجهودنا الذاتي تحت التأثر بصلبه، فكثيرون يتأثرون بالصليب لكنهم لا يعملون بشيء من وصايا المسيح، إذ أن العمل بها لا يتأتى إلا بواسطة الحياة الروحية التي يمنحنا اللّه إياها عندما نسلم نفوسنا له تسليماً كاملاً. فضلاً عن ذلك فإن رسوخ هذه المبادئ في نفوسنا لا يخلصنا من قصاص خطايانا، لأنه لا خلاص لنا منه إلا بإيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته من نحونا، ولا سبيل إلى إيفائها إلا بالفداء الذي عمله المسيح، كما ذكرنا.

مما تقدم يتضح لنا أن أصحاب الآراء السابقة لم يفهموا شيئاً عن الكفارة وضرورتها، وكل ما عرفوه من آلام المسيح على الصليب، أنها آلام الإستشهاد في سبيل الحق. ولا شك أن هذه الآلام تؤثر في نفوس بعض الناس، فتصرفهم عن الإِثم والشر، كما تفعل التضحية التي يقوم بها المخلصون من القادة والزعماء. فمثلاً عندما كان غاندي يرى أتباعه قد انحرفوا عن تعاليمه، كان يحزن في نفسه كثيراً، ويمتنع عن الطعام أمداً طويلاً، فكانوا يندمون على إنحرافهم ويعودون للسير في الطريق الذي رسمه لهم. وقد أشار أفلاطون قديماً إلى تأثير التضحية في نفوس الناس فقال في كتابه (السياسة ج 4 ص 74) ما ملخصه إن الإِنسان الكامل الذي دون أن يفعل شراً، يقبل على نفسه أقسى أنواع الظلم، فيحتمل الجلد والضرب حتى الموت، هو الذي يستطيع أن يعيد حياة البر إلى البشر وليس البر الذي ارتآه أفلاطون هو التوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية، بل هو فقط الكف عن الجرائم الشنيعة - وهذا ما يفعله حتى الأشرار عند تأثرهم بوفاة أحد أقربائهم، أو بنزول بعض الكوارث بهم. أما التوافق مع اللّه في صفاته المذكورة، فلا يكون إلا بعمله في نفوس المؤمنين الحقيقيين. وقد احتمل المسيح الصلب لغرض أسمى من هذا بكثير، وهذا الغرض كما ذكرنا مراراً وتكراراً، هو التكفير عن خطايانا وإمدادنا بحياة روحية تؤهلنا للتوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية إلى أبد الآباد.

-3-

الإعتراضات الدينية والرد عليها

1 - لماذا تفرد الابن أو الكلمة بعمل الفداء؟ وألا يدل تفرده بالقيام به على أنه يحب البشر أكثر من الآب والروح القدس؟.

الرد: (ا) إن إبن اللّه أو كلمة اللّه هو الذي يعلن اللّه ويتمم مقاصده لذلك فهو الذي خلق العالم وكل ما فيه، فقد قال الوحي عنه كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان (يوحنا 1: 3)، وأن فيه خُلق الكل. ما في السموات وما على الأرض ، وأن الكل به وله قد خُلق (كولوسي 1: 16). ومن خلق العالم، هو الذي يهتم شخصياً به وبكل ما فيه. ومن ثم فالابن أو الكلمة هو الذي كان يظهر للأنبياء في العهد القديم، ليعلن لهم مشيئة اللّه أو اللاهوت من جهة محبته للبشر ورغبته في تقريبهم إليه، ومنحهم كل ما يحتاجون إليه من بركات، كما ذكرنا فيما سلف. وإذا كان الأمر كذلك، كان من البديهي أنه هو بعينه الذي يتجسد أيضاً، ويعلن في نفسه محبة اللّه وخلاصه لنا من الخطيئة ونتائجها.

(ب) أما من جهة الآب و الروح القدس ، فإن محبتهما لنا لا تقل عن محبة الابن ، لأنهما واحد معه في الجوهر، وفي كل الصفات والخصائص والأعمال، وكل ما في الأمر أن كل أقنوم يُظهر من أعمال اللاهوت ما يتوافق مع أقنوميته. لذلك وإن كان الابن هو الذي قام أمامنا بالفداء، غير أن هذا العمل يسند إلى اللّه بأقانيمه الثلاثة. فقد قال الوحي إن اللّه (أو بالحري اللاهوت) كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم (2 كورنثوس 5: 19 - 21). كما أن الابن وإن كان قد بذل نفسه، لكنه لم يقم بهذا العمل بالإستقلال عن الأقنومين الآخرين، لأنه واحد معها في الجوهر. ولذلك يعلن الوحي أن الابن بُذل بواسطة اللّه (يوحنا 3: 16)، وأنه بالروح القدس قدم نفسه أو بذلها (عبرانيين 9: 14) - ومما يثبت أن كلاً من الآب والروح القدس يحبنا كالابن تماماً، أن الوحي أعلن لنا أن الآب نفسه يحبنا (يوحنا 17: 23)، وأن الروح القدس هو روح المحبة (2 تيموثاوس 1: 7) وأن اللّه من جهة أقانيمه الثلاثة هو محبة (1 يوحنا 4: 8).

2 - إذا كان اللّه لا يصلب ولا يموت، فكيف يكون هو الذي افتدانا؟.

الرد: (ا) نظراً لأن اللّه (أو اللاهوت) كان حالاً في المسيح حلولاً مطلقاً فمكتوب فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي 2: 9) ولذلك نرى في أعمال المسيح ما هو خاص بالناسوت وما هو خاص باللاهوت. فمثلاً عندما كان يبحر مرة مع تلاميذه، نام في السفينة - فهذا النوم كان طبعاً بالناسوت لأن اللاهوت لا ينام. ولما انتهر الريح والبحر بعد ذلك فصار هدوء عظيم (متى 8: 24 و 26) كان العامل حينئذ هو اللاهوت، لأن اللّه هو الذي يأمر الطبيعة فتخضع له - إذاً فكل عمل أتاه المسيح، يكون اللّه هو الذي أتاه، وكل شيء قوبل المسيح به في العالم، يكون اللّه هو الذي قوبل به. ولذلك فاللّه وإن لم يكن قد صُلب أو مات، لكن بقبوله تنفيذ الصلب في الناسوت الذي كان حالاً فيه (مع قدرته التامة على تجنيب الناسوت هذا الصلب لو كان قد أراد)، يكون هو الذي قبل آلام الصلب، وبالتبعية يكون هو الفادي الذي فدانا.

(ب) ولإِيضاح هذه الحقيقة إلى حد ما نقول: إذا ارتدى ملك ثياب عامة الناس وخرج إليهم كواحد منهم، ليقرّبهم إليه ويعرف مشاكلهم ويقدم لهم كل معونة يحتاجون إليها، كما كان يفعل هرون الرشيد مثلاً، وفي أثناء القيام بهذه المهمة الجليلة، اعتدى عليه بعض الأشرار وأهانوه. فإن هذه الإِهانة لا تكون قد وقعت على شخص عادي، بل على ذات الملك. وعلى هذا القياس، مع الفارق الذي لا بد منه نقول: إن آلام الصليب وإن كانت قد أصابت الناسوت الظاهر لنا، لكنها تعتبر في الواقع أنها أصابت اللّه غير الظاهر لنا، وذلك بطريقة لا يدركها سواه. ومن ثم قال الوحي عن دم المسيح الذي سُفك على الصليب إنه دم اللّه (أعمال 20: 28)، كما قال عن اللّه نفسه، إنه مخلصنا (تيطس 1: 3).

3 - هل من الجائز أن يُنسَب الألم إلى اللّه؟ .

الرد: (ا) لو كان اللّه مجرد فكرة أو طاقة أو كائناً لا يتصف بصفة، كما يقول بعض الفلاسفة، لما جاز أن ننسب إليه الألم (أو السرور) بأي معنى من المعاني. لكنه كائن حقيقي يتَّصف بكل صفات الكمال، وفي الوقت نفسه يتصل بنا كل الإتصال، ولذلك فإنه، كما يُسَرُّ على نحو يتفق مع روحانيته المطلقة، بالأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمنون الحقيقيون، كذلك يحزن على نحو يتفق مع روحانيته المطلقة، بسبب الشرور التي تصدر من غيرهم وما يترتب عليها من حلول التعاسة بهم. (تكوين 6: 6 ، مزمور 78: 40 ، إشعياء 63: 10). وإذا كان من الممكن أن يحزن اللّه على نحو ما، يمكن أيضاً أن يتألم على نحو ما، لأنه لولا ذلك لكان مجرداً من الشعور والإِدراك، وهذا محال.

وكان من البديهي أن لا تظل آلام اللّه بسبب خطايانا سراً فيه، بل أن يعلنها لنا بوضوح وجلاء. والواسطة الوحيدة لإِعلانها هو كلمته أو أبنه ، لأنه هو الذي يعلنه كما ذكرنا. فاللّه في أبنه أظهر محبته لنا، وكشف عن الآلام التي كان يحس بها منذ القديم بسبب خطايانا. أو بتعبير آخر جسَّم لنا الفداء الكامن في نفسه، والذي لم نكن نراه أو نعرف عنه شيئاً سوى أسمه. فيمكننا أن نقول عن يقين إنه لولا المحبة التي لا حدّ لها الكامنة في اللّه، لما كان يتألم لآلامنا، ولما كان أيضاً يكفّر عن خطايانا - هذا مع العلم بأن تألُم اللّه بسبب هذه الخطايا لا يقلل من مجده، بل بالعكس يزيده مجداً في أعيننا. ولا يقلل من كماله، بل بالعكس يعلن هذا الكمال لنا في أسمى معانيه. لأن هذا التألُّم يؤكد لنا أن اللّه ليس غريباً عنا أو غير مبالٍ بنا، بل أنه قريب منا يعطف علينا ويرثي لنا ويهمّه أمرنا.

أخيراً نقول إن تأثر اللّه لم يكن متوقفاً على ظهورنا في العالم، بل إن مبدأ التأثر كان موجوداً في ذاته أزلاً، لأنه قائم بأقانيم، والأقانيم من شأنهم أن يتأثر أحدهم بالآخر. ولذلك عندما تألم اللّه على نحو ما بسبب ما بدا منا من شر، لم ينفعل كما ننفعل نحن، بل أظهر فقط عدم رضاه على هذا الشر، لأن عدم الرضا به هو وجه من وجوه الكمال الذي يتصف به من الأزل إلى الأبد.

4 - هل من العدالة أن يحل اللّه في الإِنسان يسوع المسيح ويدفعه لتحمُّل آلام الصلب المريرة، ليكفّر فيه عن البشر؟.

الرد: إن اللّه لم يدفع المسيح إلى الصلب رغماً عنه كما كانت تساق الحيوانات للذبح كفارة في العهد القديم، حتى كان يجوز القول إن هذا التصرف لا يتفق مع عدالة اللّه. لكن ما حدث هو أن اللّه دبر منذ الأزل أن يقوم بعمل الفداء. وفي الوقت المناسب لنا، اتخذ من المسيح ناسوتاً له وذهب فيه إلى الصليب ليحمل خطايا البشر ويكفر عنها بنفسه. وقد أدرك المسيح من الناحية الناسوتية هذه الحقيقة إدراكاً تاماً، وتوافق مع اللّه الحال فيه كل التوافق من جهتها، وأطاعه كل الطاعة في إتمامها، ومن ثم لا يكون اللّه قد ظلم المسيح من الناحية الناسوتية على الإِطلاق.

فضلاً عن ذلك فقد قدّر اللّه طاعة المسيح من الناحية الناسوتية كل التقدير، فكافأه من ناحيتها بأجل مكافأة. فقد قال الوحي لذلك رفعه اللّه أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل أسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد اللّه الآب (فيلبي 2: 9 - 11)، فلا مجال لهذا الإعتراض على الإِطلاق.

5 - إذا كان المسيح قد توافق مع اللّه كل التوافق من جهة الفداء، فلماذا طلب منه في بستان جثسيماني أن يجنبه الصلب في أول الأمر؟ أليس قوله للآب وقتئذ لكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت دليلاً على أنه قبل آلام الصلب مرغماً؟ فضلاً عن ذلك ألا يتعارض حزنه وقتئذ مع القول إنه قام بالفداء برضى وسرور؟.

الرد: (ا) إن المسيح بسبب كماله المطلق طلب من اللّه أن يجيز عنه كأس الصلب إن أمكن - لأنه من الناحية الناسوتية كان يحسّ بالألم كما نحس به نحن، ومن ثم كان يأبى عليه طهره الفائق أن تحسب عليه خطايانا، ومركزه الرفيع أن ينحني ليحمل في نفسه قضاءها وعقوبتها، ومجده العظيم أن تحل به لعنتها وفضيحتها، وإحساسه الرقيق أن يذوق مرارتها التي تفوق العلقم بما لا يقاس. ولكن لأنه لا يمكن أن يتمجد اللّه ويخلص الناس دون تجرع المسيح لكأس الصلب، لذلك فإنه بسبب كماله المطلق أيضاً رضي بها عن طيب خاطر إتماماً لمشيئة اللّه الصالحة.

هذا، وقد قدّر اللّه موقف المسيح حق التقدير. لذلك وإن كان لم يجز عنه هذه الكأس، غير أنه أرسل له ملاكاً ليعضد جسده الذي كان قد دب فيه الضعف بسبب الإِحساس بمرارتها (لوقا 22: 43)، ومن ثم نهض بكل قوة واستقبل آلام الصلب المريعة ببطولة تنحني أمامها كل بطولة.

(ب) ومن جهة تسليم المسيح الأمر لإِرادة الآب، فليس دليلاً على قبولها مرغماً، بل دليلاً على أنه جعل إرادته الإِنسانية بما لها من مطالب خاصة، طبق الأصل من إرادة الآب، على الرغم مما يتطلبه تنفيذها من تحمل قصاص الخطيئة الأبدي نيابة عن البشر جميعاً، وعمل مثل هذا عمل عظيم لم يكن لغير المسيح أن يقوم به، ونصر مبين لم يكن لغيره أن يحققه.

(ج) أما من جهة حزن المسيح فنقول: إنه ليس هناك أي تعارض بين السرور الروحي وبين الحزن والألم، لأن هذا السرور ليس هو الطرب والمرح، بل هو الرضا بالقيام بالواجب من نحو اللّه والناس بكل محبة وإخلاص. لذلك فإنه لا يكون خالياً من الحزن والألم بل خالياً من التضجر والتذمر. والإختبار يعلمنا هذه الحقيقة، فنحن نرى الآباء البررة مع تحملهم المتاعب والآلام في سبيل خدمة أبنائهم، والجنود المخلصين مع تحملهم المشقات المتعددة في سبيل إعلاء شأن بلادهم، يشعرون جميعاً في قرارة نفوسهم بكل غبطة وسرور على الرغم من كل ما يتحملون من آلام. فليس هناك مجال للاعتراض على أن المسيح كان مسروراً بآلام تقديم نفسه كفارة.

وقد أشار اللّه إلى هذه الحقيقة في بعض الذبائح، التي كانت ترمز إلى المسيح في العهد القديم. فذبيحة المحرقة التي كان يتطوع صاحبها بتقديمها للّه لمجرد إكرامه وتمجيده دون الإرتباط بخطيئة ما، كانت مراسيمها تدل على الفرح (لاويين 1). أما ذبيحة الخطيئة أو الإِثم، التي كان الخاطئ يقدمها كفارة عن نفسه فكانت مراسيمها تدل على الحزن (لاويين 4)، الأمر الذي كان ينبئ منذ القديم عن إقتران فرح المسيح لتحقيق مقاصد اللّه وتمجيده، مع حزنه لتحمل قصاص الخطيئة وشناعتها.

6 - إذا كان المسيح قد قام من الناحية الناسوتية بالفداء طاعة لأمر اللّه، يكون اللّه وحده هو الذي يستحق المحبة والإكرام.

الرد: إذا كان المسيح قد قام بالفداء لمجرد الطاعة لأمر اللّه، لا يكون قد قام به برضا، ولا يكون اللّه قد ضحى بشيء، فلا يكون أحدهما يستحق المحبة أو الإكرام. وإذا كان اللّه قد أرغم المسيح على احتمال الآلام لكي يُحبه الناس، لا يكون مستحقاً للمحبة بل للبغضة، ويكون المسيح مستحقاً للعطف والشفقة. وإذا كان المسيح قد قام بالفداء بمعزل عن اللّه، لكان هو وحده الأولى بالمحبة (لأننا لا نحب شخصاً لما عمله شخص آخر)، غير أنه يكون في هذه الحالة قد سلب من اللّه مجده، إذ يكون قد نال من دونه إكرام الناس ومحبتهم - ولكن الحقيقة هي أن اللّه نفسه كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه (2 كورنثوس 5: 19)، وأن المسيح حتى بوصفه إبن الإِنسان كان مسروراً كل السرور بهذا العمل، ولذلك ليس هناك مجال لهذا الإعتراض.

7 - إذا كان المسيح مات كفارة، فليس من المعقول أن يكون قد كفّر فقط عن خطايا المؤمنين الحقيقيين، بل لا بد أن يكون قد كفر أيضاً عن خطايا البشر جميعاً. وبناء عليه لا يكون هناك داع للإِيمان الشخصي به.

الرد: (ا) إن لكفارة المسيح طرفين (الأول) متعلق باللّه من جهة إيفاء مطالب عدالته وقداسته، وعلى أساسه يقدم الخلاص لكل الناس دون استثناء، فقد قال الوحي: هكذا أحب اللّه العالم (أجمع) حتى بذل أبنه الوحيد . (الثاني) متعلق بالناس من جهة استعدادهم لقبول المسيح، أو بالحري الإِيمان الحقيقي به. فقد قال الوحي: لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16).

(ب) أما من جهة الشطر الثاني من الإعتراض فنقول: كلنا يعلم أن الهدايا (مثلاً) وإن كانت تُقدم مجاناً لمن تُهدى إليهم، غير أن تمتعهم بها يتوقف على قبولهم إياها. وهكذا الحال من جهة الخلاص من الخطيئة، فالمسيح وإن كان قد دفع ثمنه بنفسه ويقدمه للناس هبة مجانية، لكن لا يمكن أن يتمتع به واحد منهم إلا إذا قبله، وقبوله هو عين الإِيمان الحقيقي بالمسيح.

-4-

الإعتراضات العقلانية والفلسفية والرد عليها

1 - المسيح لا يجوز أن يكون نائباً عنا، لأنه ولد من إمرأة دون رجل. ولو جاز أن يكون نائباً، فإنه لا يكون إلا نائباً عن الرجال وحدهم، لأنه كان رجلاً.

الرد: فضلاً عن أن ولادة المسيح العذراوية ضرورة اقتضتها أزليته وقيامه بحياة ذاتية خاصة به، وفضلاً عن أن التفرقة بين الرجل والمرأة هي تفرقة نسبية في الوقت الحاضر فحسب، لأنهما معاً في نظر اللّه بشر، إذ أن كلا منهما إنسان (1 كورنثوس 11: 11)، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الإعتراض نقول:

(أولاً) إن المسيح لا يُدعى إبن رجل أو إمرأة، بل يدعى إبن الإِنسان أي الذي تمثلت فيه الإِنسانية كنائبها (ثانياً) إن حواء ليست كائناً منفصلاً عن آدم بل كانت في الأصل جزءاً منه، حتى أن الوحي ينسب الخطيئة إلى آدم وحده، فيقول: في آدم يموت الجميع (1 كورنثوس 15: 22). (ثالثاً) إن المسيح لم يفرق بين رجل وإمرأة من جهة العلاقة به، فقد قال لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات، هو أخي وأختي وأمي (متى 12: 50)، ولذلك لا مجال لهذا الإعتراض كما ذكرنا.

2 - لو كان اللّه يريد أن يكفر عن خطايانا في المسيح، فلماذا لم يقم بهذا العمل بينه وبين المسيح، دون أن يكون لأحد من البشر يد في صلبه؟.

الرد: إن الهدف الذي كان اللّه يرمي إليه، ليس أن يكفر عن خطايانا فحسب، بل أن يكشف لنا أيضاً عن مقدار الشر الكامن في نفوسنا من نحوه، وعدم إستحقاقنا لأي محبة أو عطف منه، حتى نقدّر كفارته حق التقدير. لذلك سمح لنا أولاً أن نعامله بكل شر يمكن أن يخطر ببالنا، قبل أن يعلن لنا كرد على هذه المعاملة، مقدار محبته لنا وعطفه علينا، حتى بضدها تتميز الأمور، كما يقولون. أما لو كان اللّه قد كفر عن خطايانا في المسيح بعيداً عن الصليب، لما اكتشفنا مقدار شر نفوسنا وعدم استحقاقنا لأي إحسان منه، ولما عرفنا أيضاً محبته الفائقة التي لا نستحق منها شيئاً، أو أدركنا قدراً زهيداً من الآلام التي تحملها بسبب خطايانا. لذلك إذا رجعنا إلى التاريخ، نرى المخلصين من اليهود وغير اليهود تأثروا بصلب المسيح تأثراً عظيماً، فأقبلوا إليه وآمنوا به إيماناً حقيقياً، كما أحبوه وأكرموه بدرجة لم يكن لهم أن يبلغوها، لو كان قد قدّم نفسه كفارة بعيداً عنهم. فتحقق بذلك قول المسيح وأنا إن ارتفعت (على الصليب) أجذب إليّ الجميع (يوحنا 12: 32).

3 - إذا كان اللّه يحب جميع الناس، لماذا سمح أن يأتي المسيح من اليهود دون غيرهم، لأن في تصرفه هذا تحيزاً لأمة دون أخرى.

الرد: فضلاً عن أنه لو لم يأت المسيح من أمة اليهود لكان قد أتى من أمة غيرها، وفي هذه الحالة يمكن أن يقال أيضاً عنه إنه تحيز لأمة دون أخرى، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الإعتراض نقول: إن اللّه ظهر في أول الأمر لواحد من الوثنيين (لأنه لم يكن هناك سواهم على وجه الأرض وقتئذ) يُدعى إبراهيم، فآمن هذا به إيماناً صادقاً، ثم دعاه اللّه إليه، فأطاعه طاعة كاملة. وتقديراً لإِيمانه وطاعته وعده أن في نسله ستتبارك كل أمم الأرض دون استثناء (تكوين 12: 3). وبذلك لم يكن اللّه متحيزاً لجنس من الأجناس أو شخص من الأشخاص. ولما وُلد لإبراهيم إسماعيل وإسحق، خصّ اللّه أبناء الأول ببركات أرضية، وخصَّ أبناء الثاني ببركات روحية، ولذلك كان يرسل لهم الأنبياء من وقت لآخر ليعلنوا لهم مشيئته من جهة الفداء، حتى يتهيئوا لقبول المسيح عند مجيئه إليهم. ولذلك إذا رجعنا إلى تاريخ اليهود نرى أن الأتقياء منهم كانوا يتوقعون مجيء المسيح إلى العالم (لوقا 2: 25 ، 26) وبمجرد أن رأوه رحبوا به (يوحنا 1: 47 - 49)، بينما لو كان المسيح قد أتى من أمة أخرى لم تكن لديها نبوات عن المسيح، لما وجد فيها من ينتظره أو من يفهم رسالته.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن المسيح وإن كان قد أتى من اليهود، لكنه لم يكن متحيزاً لهم، فقد كان يحب جميع الناس ويرحب بهم. فضلاً عن ذلك كان يعلن أن الوثنيين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون في حضن إبراهيم، أما اليهود غير المؤمنين فسيُطرحون خارجاً (لوقا 13: 28)، كما أوصى تلاميذه الذين حملوا رسالته أن ينادوا بها ليس في اليهودية فحسب، بل وفي كل أنحاء العالم أيضاً (مرقس 16: 15)، ففعلوا كما أوصاهم تماماً.

4 - لو فرضنا أن اليهود لم يصلبوا المسيح، فكيف كان يُكفر عن خطايانا؟.

الرد: فضلاً عن أنه لم يكن من الممكن أن يحدث لشخص قدوس طاهر يعيش وسط جماعة من الأشرار، موبخاً إياهم على شرورهم وآثامهم، غير ما حدث للمسيح. فالأشرار في كل عصر يبغضون الحق ويقاومونه، لذلك لو كان المسيح قد عاش في أي عصر من العصور، أو في أي بلد من البلاد، لظهر شر معاصريه فيها أيضاً، بالصورة التي ظهر بها شر اليهود من قبل، فإن الآلام التي تحملها المسيح من اليهود عندما صلبوه، كانت الآلام الكفارية بينه وبين عدالة اللّه مباشرة، فكان من الممكن أن يتحملها في أي وقت من الأوقات، وبأي وسيلة من الوسائل الخاصة به، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الإعتراض. نقول: إن اللّه قصد منذ الأزل أن يكون مجيء المسيح إلى العالم نوراً يكشف للناس عن فداحة خطاياهم في ابتعادهم عنه، ورفضهم لحقه، وفي الوقت نفسه يكشف لهم بتكفيره عنهم مقدار محبته لهم، وعطفه عليهم.

5 - إذا كان اللّه قد قصد بصلب المسيح أن يعلن لنا تكفيره عن خطايانا، يكون اليهود الذين صلبوا المسيح قد تمموا مشيئة اللّه وأسهموا في خلاص العالم. وبناء على ذلك لا يكونون قد فعلوا جريمة ما!!.

الرد: إن الآلام التي تحملها المسيح من اليهود على الصليب كانت محصورة في الساعات التي سبقت الظلمة، وهذه الآلام لم تكن الآلام الكفارية بل آلام الإستشهاد فحسب. لأن الآلام الأولى كانت من يد العدالة الإِلهية وحدها كما ذكرنا - فضلاً عن ذلك فإن اليهود لم يصلبوا المسيح لكي يتمموا مشيئة اللّه، بل لأنهم كانوا يبغضون المسيح بسبب كماله الأدبي الذي كان يكشف شرورهم وآثامهم، لذلك فإنهم بصلبهم إياه أرادوا أن يصلبوا الحق والقداسة والكمال، وهذه جريمة دونها كل جريمة في الوجود.

لكن اللّه في حكمته اللانهائية استخدم جريمتهم ضده لإِعلان محبته لهم وللعالم أجمع، إذ بعدما صّوبوا نحوه كل ما في جعبتهم من عدوان، واستحقوا وقتئذ أن تحل عليهم دينونة اللّه بكل هولها، تقدم المسيح وقبل هذه الدينونة في نفسه عوضاً عنهم وعن غيرهم من البشر (لأن الكل عصوا اللّه وتمردوا عليه دون استثناء)، ومن ثم احتمل في نفسه آلام الكفارة (بعد) آلام الإستشهاد، فتحقق بذلك قول الوحي حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً (رومية 5: 20).

6 - لو كان المسيح قد مات كفارة عن خطايانا، لما كان قد قام من بين الأموات، لأن أجرة الخطيئة هي موت أبدي. وأيضاً لما كان الخلاص من الخطيئة هو بالنعمة كما يعلن الكتاب المقدس، بل كان بالعدل، لأن عدالة اللّه تكون قد وفيت مطالبها.

الرد: إن قيامة المسيح من الأموات ليست دليلاً على أن موته لم يكن موتاً كفارياً، بل دليلاً على أن لاهوته غير المحدود أكسب آلامه الكفارية كإنسان قيمة غير محدودة، ولذلك استطاعت أن تفي مطالب عدالة اللّه غير المحدودة، ومن ثم لم يكن هناك مجال لبقائه في القبر. أما لو كان المسيح قد ظل فيه، لكان مثله مثل الذبائح الحيوانية التي لم تحز رضا اللّه، لعدم تكفيرها عن الخطيئة تكفيراً حقيقياً.

كما أن تكفير المسيح عن خطايانا إلى الأبد، وإن كان يجعل حصوله على الخلاص لأجلنا عدلاً، لأنه صار حقاً مكتسباً له، لكن عندما نحصل نحن عليه، يكون ذلك على أساس النعمة، لأننا لم نعمل شيئاً من جانبنا نستحق بسببه هذا الخلاص. ولذلك حق للوحي أن يقول لنا لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإِيمان، وذلك ليس منكم هو عطية اللّه (أفسس 2: 8).

7 - كيف استطاع المسيح أن يفي في ثلاث ساعات الظلمة وحدها، مطالب عدالة اللّه التي لا حد لها مع أن ناسوته محدود لا يتحمل إلا آلاماً محدودة، والآلام المحدودة لا تفي مطالب لا حد لها.

الرد: (ا) من المعلوم لدينا أن الشخص الكفء يستطيع القيام بالأعمال التي تسند إليه في مدة وجيزة، بينما إذا أسندت هذه الأعمال إلى غيره، قد يعجز عن القيام بأي شيء منها. وعلى هذا القياس نقول: بما أن المسيح بسبب كماله المطلق له كفاية غير محدودة، لذلك لا غرابة إذا استطاع أن يفي مطالب عدالة اللّه التي لا حد لها، في الساعات المذكورة التي قضاها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المسيح لم يكن قائماً بالكفارة بمعزل عن اللاهوت، بل أن اللاهوت الحال فيه كان هو القائم بها، أدركنا أن مطالب عدالته قد وفيت تماماً على الصليب، لأن اللّه أو اللاهوت لا يمكن أن يكون متساهلاً أو متهاوناً في شيء من مطالب عدله، كما ذكرنا فيما سلف.

(ب) كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن اللّه كان مسروراً بتقديم المسيح كفارة عنا، وأن المسيح كان مسروراً أيضاً للقيام بهذه المهمة فقد قال الوحي عن اللّه إنه سُرَّ أن يسحق المسيح بالحزن (إشعياء 53: 10)، وقال عن المسيح إنه كان مسروراً بإتمام مشيئة اللّه (مزمور 40: 8)، وإنه من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهيناً بالخزي (عبرانيين 12: 2)ى، اتضح لنا بدليل ليس بعده دليل أن المسيح لا بد أنه وفى مطالب عدالة اللّه (أو بالحري وفاها اللّه فيه) إلى التمام، لأن الذي يقوم بعمله بسرور، لا يترك شيئاً منه على الإِطلاق.

وقيام اللّه بفدائنا بسرور في المسيح، أمر يتفق مع كماله المطلق، لأنه من دواعي هذا الكمال أنه لا يعمل عملاً على الرغم منه، أو كمجرد واجب من الواجبات. كما يتفق أيضاً مع علاقته الكريمة بنا، لأنه يحبنا محبة لا حدّ لها، وهذا ما يجعل لكفارته في أعيننا قيمة تفوق كل قيمة في الوجود.

8 - لو كان اللاهوت متحداً بالناسوت في المسيح، لما اقتضى الأمر أن يظل المسيح في تكفيره عن الخطيئة على الصليب ثلاث ساعات، إذ كان يكفي أن يبقى لحظة واحدة، لأن اللاهوت له كفاية لا حدّ لها.

الرد: إن أساس الزمن في نظرنا ليس هو أساس الزمن في نظر اللّه، لأن يوماً واحداً عند اللّه كألف سنة (في نظرنا). وألف سنة (في نظرنا( كيوم واحد (لديه) (2 بطرس 3: 8). وإذا كان الأمر كذلك، فإن المدة التي نعتبرها بضع ساعات، قد تكون في نظر اللّه لحظة، وقد تكون أيضاً دهراً، وقد تكون كذلك أبدية لا حد لها. وهذا ما يواجهنا أيضاً عند صلب المسيح، وإن كان في صورة أخرى، فهو له المجد تحمّل آلام الكفارة كإنسان محدود، ومع ذلك كان في ذاته هو اللّه غير المحدود فكانت لكفارته فعالية لا نهاية لها. أما السر في أن مدة آلام الإستشهاد كانت ثلاث ساعات، ومدة آلام الكفارة كانت ثلاث ساعات أيضاً، فيرجع إلى أن الرقم (3) في الكتاب المقدس يدل على الكمال. ويكفينا أن نعرف أن المسيح لم ينزل عن الصليب إلا بعد أن قال هذه الكلمة الخالدة قد أُكمل ، إذ أنها أوضح دليل على أنه أكمل الفداء لنا.

9 - إذا كان المسيح بقوله: قد أُكمل أعلن إتمامه لعمل الفداء، فلماذا لم ينزل عن الصليب حياً بعد ما قال هذه العبارة مباشرة.

الرد: نظراً لإبتعاد الناس عن اللّه وارتكابهم ما شاءوا من شر، وُضع لهم أن يموتوا مرة، ثم بعد ذلك الدينونة (عبرانيين 9: 27) فكان ينبغي للمسيح في سبيل تكفيره الكامل عن الناس أن يتحمل الحكمين. فاحتمل آلام دينونة العدل الإِلهي في ساعات الظلمة الثلاث. واحتمل بعد ذلك تنفيذ حكم الموت في جسده الكريم. مما تقدم نرى أن قوله: قد أُكمل ، ليس منفصلاً عن موته بل مقترناً به كل الإقتران، إذ أنه مات بمجرد أن قال هذه العبارة، فيكون المراد بها، أنه أكمل الكفارة بموته على الصليب.

10 - إذا كان الخلاص هو بالمسيح، فلماذا لم يأت مباشرة عندما سقط آدم في الخطيئة، أو بعد سقوطه فيها بمدة يسيرة، ليقدم نفسه كفارة عنه وعن أبنائه، عوضاً عن أن يلزمهم آلاف السنين بتقديم الذبائح الحيوانية، التي لم تكن كافية في ذاتها للتكفير الحقيقي عن خطاياهم؟.

الرد: (ا) إن البشر كانوا لا يدركون قديماً شر الخطيئة وخطورتها إدراكاً كاملاً، ولذلك لو كان المسيح قدم نفسه كفارة عندما أخطأ آدم مباشرة، أو بعد ذلك بمدة يسيرة (مثلاً)، لما كان هناك شخص يقدرها حق قدرها. أو يتأثر بها ويفيد منها. ومن ثم شاء اللّه، وهو العليم بطبائع البشر وطرق تهذيبهم وتعليمهم، أن يتركهم أولاً لأنفسهم حتى يعرفوا أن الكل زاغوا وفسدوا معاً، وأنه ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد (رومية 3: 10 - 12)، وأن الذبائح الحيوانية، مهما كثرت، لا تكفي للتكفير عن خطيئة واحدة من خطاياهم. وأن يرقى بعد ذلك بأذهانهم شيئاً فشيئاً لتدرك خطورة الخطيئة ليس بالنسبة إلى أنفسهم فقط،بل وأيضاً بالنسبة إليه، حتى يتضح لهم أنهم لا يستطيعون بأي وسيلة من الوسائل أن يؤهلوا ذواتهم في حضرته.

(ب) ولما اتضحت لهم هذه الحقيقة، أخذ يهيئهم لقبول خلاصه في المسيح. وذلك بالنبوات التي كان يرسلها لهم على أفواه أنبيائه من وقت لآخر عن ألقاب المسيح وأسم أسرته، وعن المكان والزمان اللذين سيولد فيهما، وعن صفاته وأعماله المتنوعة، وعن قيامه بنفسه بالتكفير عن الخطيئة (إقرأ مثلاً: إشعياء 7 و 9 و 53 ، دانيال 9 ، ميخا 5 ، ملاخي 3). فإذا رجعنا للكتاب المقدس نرى أن قبيل ظهور المسيح، كان كثيرون من الأتقياء في انتظاره (لوقا 2: 25 و 26 ، يوحنا 1: 41 و 45 و 49 ، 4: 25 و 29، 7: 26 و 27) كما ذكرنا، وإذا كان الأمر كذلك فإن مجيء المسيح لإِعلان خلاص اللّه بعد انتشار الناس في العالم، وقيامهم بإنشاء السجلات التي يدونون فيها ما يقع أمامهم من أحداث، وبعد إدراك المخلصين منهم شر الخطيئة وقصورهم الذاتي عن التوافق مع اللّه بأعمالهم، وظهور الرغبة الصادقة فيهم للخلاص من الخطيئة ونتائجها (لوقا 2: 25 ، 36)، تصرف يتفق مع الحق.

11 - إذا كان اللّه قد تألم بسبب الخطيئة عندما سقط فيها آدم وأولاده منذ القديم (إشعياء 43: 24)، يكون قد كفر عنها بينه وبين نفسه منذ القديم أيضاً، ويكون كل إنسان يُقبل إليه تائباً عن خطاياه، له أن يحظى بالصفح والغفران. فلا يكون الصلب سوى صورة للآلام التي كان اللّه يشعر بها منذ القديم بسبب الخطيئة، وبالتبعية لا يكون أمراً ضرورياً للتكفير عنها.

الرد: حقاً إن اللّه كان يتألم بسبب الخطايا منذ القديم (آلام العطف على البشر، بسبب البؤس الذي تردّوا فيه، وبسبب كسرهم لشريعته التي أعطاها لهم لأجل خيرهم، وبسبب قصورهم في إدراك فضله العظيم عليهم)، وذلك بحالة تتفق مع روحانيته المطلقة. لكن ألمه هذا لم يكن ألماً كفارياً، لأنه كان يدعوه لصبّ القصاص على الفجار من وقت لآخر (تكوين 17 و 19). أما في الصلب فقد احتمل اللّه في المسيح كل آلام دينونة خطايانا، دون أن يصبّ شيئاً منها علينا. ولذلك تكون آلامه على الصليب هي وحدها الآلام الكفارية. ولا غرابة في ذلك، ففي الصليب وفي الصليب وحده، أعلن اللّه أن محبته تفوق كل خطايانا، وأن السيول مهما طمت لا تستطيع أن تطفئ هذه المحبة أو تقلل من شدتها (نشيد 8: 7). ولذلك فعند الصليب نجد نحن الخطاة غفراناً كاملاً، نستريح له كل الراحة ونطمئن له كل الإطمئنان.

12 - إن الكفارة لا تُقدَّم عن الخطايا التي لم تُرتكب بعد، بل عن الخطايا التي ارتُكبت فيما سلف. لذلك فإن كفارة المسيح هي عن الخطايا التي كانت قد ارتُكبت لغاية صلبه فقط.

الرد: لو كان مخلوق ما هو الذي قام بتقديم كفارة عن خطايانا، لكان قد قدمها عن خطايانا الماضية فحسب، لأنه لا علم له بالخطايا التي تُرتكب في المستقبل. أما واللّه نفسه هو الذي قدّم الكفارة، فإنه كان يعلم منذ الأزل كل البشر الذين سيأتون إلى العالم، كما كان يعلم أيضاً كل الخطايا التي سيأتونها. وبما أنه لا يعسر عليه التكفير عنها جميعاً دفعة واحدة، لذلك لم يكن هناك داع أن يكفر في نهاية كل قرن (مثلاً)، عن الخطايا التي ارتكبت فيه. وإذا كان الأمر كذلك، تكون كفارته هي عن البشر في كل البلاد والعصور كما أعلن الوحي. فقد قال عن المسيح لكي يذوق بنعمة اللّه الموت لأجل كل واحد عبرانيين 2: 9).

13 - إن الإعتقاد بالخلاص وتكفير اللّه عن الخطايا، مقتبس من أساطير الوثنيين. فقد كانوا يعتقدون أنه بسفك الدم يخلصون من خطاياهم. كما كانوا يعتقدون أن آلهتهم مثل مثرا وكريشنا وبوذا وتامور وأوزيريس وبروميتيه تألموا، لكي يخلّصوا أتباعهم من خطاياهم.

الرد: فضلاً عن أن الإعتقاد بضرورة سفك دم الذبائح للحصول على المغفرة هو من صميم العقائد التي ينادي بها الكتاب المقدس منذ وجود آدم على الأرض، وأن الوثنيين هم الذين نقلوه عن أجدادهم الذين كانوا فيما سلف يؤمنون باللّه دون سواه، كما ذكرنا في الباب الثالث. وفضلاً عن أن تلاميذ المسيح كانوا يختلفون من جهة النشأة والطباع والثقافة والسن والمركز الإجتماعي، كما أنهم لم يكونوا من رجال الفلسفة أو السياسة أو التاريخ الذين لهم إلمام بأساطير الوثنيين، أو كانوا من التجار الذين يجوبون البلاد ويعرفون شيئاً عن عادات أهلها ودياناتهم، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الإعتراض، فإن ما جاء بالأساطير المذكورة بعيد كل البعد عن العقيدة المسيحية في الخلاص من الخطيئة، كما يتضح مما يلي:

(ا) إن مثرا (كما تقول أسطورته) خرج من صخرة وهو يحمل مدية ومشعلاً، فحارب الشمس وقهرها وجعلها حليفة له. ثم حارب أول مخلوق في الكون، وهو الثور الرهيب الذي كان يزعج الناس، فأرداه قتيلاً، وبذلك صار دم هذا الثور عنواناً لخلاص الناس، إذ بقتل مثرا إياه أنقذهم من بطشه. لكن أعوان أهريمان إله الشر (وهي العقارب والحيات والنمل) طغت على هذا الدم وأضاعت معالمه، ولذلك ترك مثرا الأرض وطار إلى الشمس حليفته - فأية صلة بين هذه الرواية وبين موت المسيح كفارة عن البشر تحقيقاً لمطالب قداسة اللّه وعدالته!!

(ب) وكريشنا كان يرتكب آثاماً لم يرتكب غيره مثلها، حتى أطلق عليه الوثنيون أسم إله الشر . كما أطلقوا عليه أسم المخلص لأن الخلاص في نظرهم لم يكن التحرر من عقوبة الخطيئة وسلطانها على النفس (حتى تستطيع أن تنعم بالتوافق مع اللّه في قداسته كما هي الحال في المسيحية)، بل كان هو الإنغماس الكلي في الدنس، لأن هذا الإنغماس (كما زعموا) يطفئ نار الشهوة المتقدة. فاستخدم المعترضون هذا المعنى النجس للخلاص من الخطيئة، ودون أن يشيروا إلى التناقض الذي لا حدّ له بين المعنى المذكور وبين معنى الخلاص من الخطيئة في المسيحية، قالوا إن أتباع كريشنا كانوا يعتقدون أنه يخلص من الخطيئة كما يقول المسيحيون عن المسيح، لكي يدخلوا في روع البسطاء منهم أن معتقداتهم منقولة من الوثنية.

أما الطريقة التي مات بها كريشنا فهي أنه بينما كان يسير مرة في غابة، أخطأ أحد الصيادين فيها مرماه، فنفذت حصاته (كما تقول الرواية) أو سهمه (كما تقول رواية أخرى) إلى مقتل كريشنا، فسقط لساعته ومات. لكن المعترضين أضافوا إلى ذلك من عندياتهم أنه عندما طعن جنب كريشنا بالحربة، قال وهو مصلوب للصياد الذي رماه بالنبلة: إذهب أيها الصياد محفوفاً برحمتي إلى السماء مسكن الآلهة - وهذه الإِضافة فضلاً عن أنها لا تنسجم مطلقاً مع حادثة موت كريشنا، فإنها تدل على أن المعترضين اقتبسوا من الإنجيل قوله إن أحد الجنود طعن المسيح بحربة عندما كان على الصليب، وقال المسيح للص الذي تاب اليوم تكون معي في الفردوس ، ثم حشروا هذين القولين في روايتهم حشراً لا يقره عقل، وذلك ليخرجوها بالصورة التي أرادوها. لكن خانهم التوفيق كما يخون جميع المزّورين، لأن الصلب لم يكن معروفاً عند الهنود بل عند الفينيقيين والمصريين والرومان واليهود فحسب، كما يقول المؤرخون.

(ج) وبوذا كان يرفض مبدأ الكفارة لأنه كان يعتقد أنه لا يستطيع كائن ما أن يخلص أحداً من خطاياه، فكان ينادي بأنه يجب على كل إنسان أن يرتقي بنفسه فوق أهوائه وشهواته حتى يبلغ طور النرفانا الذي يتحرر فيه (كما يقال) من الشهوات تحرراً تاماً. ولذلك كانت كلماته الأخيرة لأتباعه هي كونوا لأنفسكم نوراً وملجأ حصيناً، ولا تلوذوا بغير أنفسكم!! . ولذلك كان البوذيون (كما يقول المؤرخون) يقّومون أنفسهم بأنفسهم دون أن ينتظروا معونة من أحد، ظانين أنهم يستطيعون الإرتقاء فوق قصورهم بقوتهم الذاتية - وقد أشارت جريدة الأهرام الصادرة في 7 مايو سنة 1971 إلى هذه الحقيقة فقالت: إن بوذا كان معلماً لا مخلصاً، وإنه لم يعد إنساناً بمعونة خلا المعونة التي يتلقاها هو من نفسه. وإن من أقواله المأثورة لأتباعه واصلوا جهادكم حتى تبلغوا سبيل الخلاص .

أما الطريقة التي مات بها بوذا فهي أنه عندما كان في بلدة بافا، أراد حداد يُدعى تشوندا أن يكرمه، فقدم له لحماً مشوياً. فلما أكل منه بوذا أحس بألم شديد في أمعائه لم يمهله في الحياة إلا بضع ساعات - ولكن المعترضين ادّعوا أنه قال دعوا الآثام التي ارتكبت في هذا العالم تقع عليّ، لكي يخلص العالم من قصاصها ، حتى يوهموا البسطاء من المسيحيين أن اعتقادهم بخلاص المسيح منقول من الأساطير الهندية!!

(د) وتاموز كان يعتبر عند الوثنيين إله الزراعة والربيع، ولذلك كانوا يعتقدون أنه يحيا بظهور النباتات ويموت بذبولها. وعند موته (أو بالحري عند ذبول النباتات) كانت معظم النساء يبكين عليه كثيراً. وعند ظهوره (أو بالحري ظهور النباتات) كن يفرحن فرحاً عظيماً ويستسلمن للأهواء الجنسية دون قيد أو شرط. وكان هذا العمل يعتبر لديهن خلاصاً، ليس خلاصاً من نجاسة الخطيئة كما هي الحال في المسيحية، بل خلاصاً من قانون الطهارة والعفاف كما ذكرنا فيما سلف. لذلك فالقول إن بعض الوثنيين كانوا يعتقدون أن تاموز تألم من أجل الناس، وأنه كان يدعى المخلص والفادي والمصلوب فضلاً عن أنه مجرد إدعاء، فهو جريمة أدبية شنيعة، لأنه يهدف إلى تشويه الحقائق الثابتة وتشكيك البسطاء في عقائدهم.

(ه) وأوزيريس، كما تقول أسطورة، كان يحب الناس ويخلصهم من متاعبهم، ولكن أخاه ست قتله وقطع جسده إلى أجزاء كثيرة، فجمعت زوجته هذه الأجزاء، وأعادته إلى الحياة. وتقول أسطورة أخرى إنه لما مات أوزيريس بكت عليه زوجته فنزلت دموعها على جسده، ومن ثم قام من الموت. وتقول أسطورة غيرها إن أوزيريس كان يغرق في وقت الفيضان وكانت أيزيس تنزل إلى النيل لكي تنتشله، فكان يموت ويحيا كل عام. ولذلك فقول المعترضين إن بعض قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن أوزيريس يخلص من الخطيئة، هو قول هراء.

(و) وبروميتية، كما تقول أسطورته، كان يقاوم الأرستقراطية في بلاد اليونان، وكان يحب الناس ويساعدهم في شؤونه. فحقد عليه جوبتر رب الآلهة هناك، وصلبه على جبال القوقاز، كما أمر فلكان بتعذيبه. فأخذ هذا يغرس حديداً محمى بالنار في جسمه، كما أثار عليه النسور لكي تمزقه وتأكل منه ما تستطيع أكله، فظل بروميتية على هذه الحالة حتى أنقذه هرقل.

فرواية بروميتية (كما نرى) تختلف عنحادثة صلب المسيح كل الإختلاف، الأمر الذي يقضي على كل ظن بأن هذه الحادثة مقتبسة أيضاً من الرواية المذكورة. فالمسيح قدم نفسه باختياره للموت، أما بروميتية فسيق للموت رغماً عنه. والمسيح قبل الموت كفارة عن خطايا البشر، أما بروميتية فلم يمت عن خطيئة إنسان ما. أما قول المعترضين إن بروميتية جرح بسبب ذنوب الناس، وإنه سحق بسبب عصيانهم ، فليس له وجود في رواية بروميتية، بل هو مسروق من نبوة إشعياء النبي (ص 53)، التي قيلت عن المسيح قبل ظهور رواية بروميتية بمئات السنين. وكان من الواجب على المعترضين إذا أرادوا أن يستعيروا أسلوب الكتاب المقدس في هذا الصدد، أن يقولوا: إن بروميتية جرح بسبب دفاعه عن الديمقراطية، وإنه سحق بسبب إخلاصه لها. ولكنهم شاءوا أن يغيروا الحقائق الثابتة، فأخذوا الآيات التي قيلت عن المسيح وأسندوها إلى بروميتية، لكي يوهموا البسطاء من المسيحيين أن أجدادهم سرقوا العقائد المسيحية من أساطير اليونان، والحال أنهم هم السارقون!!

وقد عرف المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد معنا أن المعترضين تحاملوا على العقائد المسيحية دون مبرر، فقال: إن أصحاب هذه الملاحظات اتخذوا تشابه المراسيم والأخبار دليلاً على تلفيق تاريخ السيد المسيح: ويبدو لي أن نشوء علم المقابلة بين الأديان هو الذي دفع أصحابه في القرن الثامن عشر إلى تحميل المشابهات والمقارنات فوق طاقتها . ثم قال ليس من الصواب أن يقال إن الأناجيل جميعاً عمدة لا يعّول عليها في تاريخ السيد المسيح، وإنما الصواب أنها العمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ. وسواء رجعت هذه الأناجيل إلى مصدر واحد أو أكثر من مصدر واحد، فمن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي عام أحق منها بالإعتماد . (عبقرية المسيح ص 126 واللّه ص 149 - 154).

وقد سبق الأستاذ العقاد إلى هذه الحقيقة سير جيمز فريزر ودكتور إدوارد ماير المؤرخ السويسري. فقد قال الأول في كتاب إن الشكوك التي تثار ضد حقيقة تاريخ المسيح لا يقام لها وزن، وإنها سخافة لا تقل في بطلانها عن محاولة جعل نابليون (مثلاً) أسطورة لا شخصاً حقيقياً . وقال الثاني في كتاب: ليس هناك شيء ما يحملنا على رفض تاريخ المسيح المدّون في الإنجيل - والعالمان المذكوران، كما يتضح من حياة كل منهما، لم يكونا من الأشخاص المتدينين الذين يهمهم تأييد الموضوعات المسيحية الواردة في الإنجيل، بل كانا من علماء التاريخ الذين لا ينظرون إلى هذه الموضوعات إلا من الناحية التاريخية وحدها. ولذلك فشهادتهما، مثل شهادة الأستاذ العقاد، لا يجوز الطعن فيها بحال.

 

الصفحة الرئيسية