عمل المسيح الكفاري

لم يكن التجسّد أو الظهور الالهي اعتباطياً بلا غاية أو قصد، بل كان من أجل إنقاذ الجنس البشري كله من القصاص المحتوم على كل خاطئ انقاد وراء الضلال وحاد عن الصراط المستقيم، بتماديه في غوايته وضلاله وعصيانه لوصايا الله ونواهيه. والإنسان هو ساقط بطبيعته لأنّه وارث الخطية وهي متأصلة فيه، لأنّه ابن آدم وحواء اللذين أورثا روح العصيان والتمرد للانسانية جمعاء، لأنّهما سقطا أولاً قبل الكل، فانتقلت العدوى من جيل إلى جيل دون أن تستثني أحداً.

ولانّه وارث الخطية، أصبح بطبعه ميالاً للتمرد على الله وعصيانه، ولم يقدر بالتالي أن يستأصل الخطية من ذاته. فراح يجري وراءها يتجرّع سمومها، ويلتذّ بطعمها القاتل.

وقبل أن نتطرق لموضوع الخلاص والمخلّص، علينا أولاً أن نفهم معنى الخطية، وهذا حتما يقودنا لمعرفة الخاطئ.

 

مفهوم الخطية

 جاءت الخطية من خطأ ومعناها »عدم إصابة الهدف«. والخطية تعني ارتكاب الذنب والإثم. وهي ليست الشر الشنيع فحسب، كما يظن البعض، بل هي كل ما هو انحراف وابتعاد عن أمر الله ونواهيه. فالخطية في أصلها ابتعاد الناس عن الله وإرادته الصالحة.

 

من هو الخاطئ؟

الخاطئ في نظر الله هو الذي انفصل عنه، سواء ارتكب خطايا كثيرة، أو فعل خطية واحدة، وسواء أكانت هذه الخطية بالفعل أم بالقول أم بالفكر، سوداء أم بيضاء، كبيرة أم صغيرة. فالكتاب المقدّس يعلن لنا أنّه: »لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ« (يعقوب 2:10). كما أنّ الوحي المقدّس لا يتوقف عند هذا الحد، بل نجده يعلن لنا بأكثر جلاء بأنّ جميع الناس قد تمادوا في الشر والعصيان وأظلمت بصائرهم إذ يقول: »الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللّهِ« (رومية 3:23). كما نقرأ في السفر ذاته: »أن الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ« (رومية 3:12). وهكذا نجد أنّ الخطية التي اقترفها الإنسان سببت عداوة بين الله والناس، فأصبحت هناك هوة سحيقة تفصل الإنسان عن الله. وتحتّم بهذا دينونة الخاطئ بالموت: »لِأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ« (رومية 6:23). وهكذا أصبح الإنسان يعيش بعيداً عن الله، كالخراف التي ضلّت الطريق وابتعدت عن راعيها، فتاهت بعيداً في القفر المخيف المرعب.

لكنّ الله بدافع محبته لنا لم يتركنا في بُعدنا وتيهنا، بل مدّ يده المنقذة ليجتذبنا إليه وينقذنا من حافة الموت التي تترقبنا. وما هذه اليد المخلّصة المنقذة سوى يسوع المسيح عينه، الذي جاء خصيصاً لإنقاذنا من الهلاك الذي نندفع صوبه. فاتّخذ الله هيئة مثلنا وعاش بيننا واختبر كل ما اختبرناه فيما عدا الخطية التي انتصر عليها. فقدّم ذاته فداءً لأجل خلاصنا، لأنّ عدل الله تعالى يطلب القصاص لكل نفس خاطئة: »اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ« (حزقيال 18:20). وبهذا نرى كيف أنّ العدالة الإلهية التحمت بمحبته عندما أُسلم المسيح يسوع للصلب من أجل التكفير عن آثامنا.

فالمسيح يسوع هو الضحية الإلهية الذي لا عيب فيه. قدّم ذاته من أجل حصولنا نحن على العفو الإلهي، كي نمثل قدامه بلا عيب أو لوم، متبررين مجاناً بما فعله على الصليب من أجلنا.

وربما يسأل سائل: لم كل هذه الدراما المثيرة؟ ألم يكن بوسع الله أن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء؟ ثم ألم يجد الله طريقة أخرى يكفر بها عن آثامنا دون سفك الدماء وصلب المسيح؟

إنّ الله عادل، وبمقتضى عدله أعطى الحرية لعباده في أن يختاروا فعل الخير أو الشر، الطاعة له أو عصيانه. كما أنّ إرادته ومشيئته لا تطلب هلاك أي نفس بل خلاصها. حيث نقرأ في كلمة الله المدونة في الإنجيل: »إنّ اللّهَ،  يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ. لِأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللّهِ وَالنَّاسِ: الْإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لِأَجْلِ الْجَمِيعِ« (1 تيموثاوس 2:4-6).

الخلاص هو هبة مجانية من الله لكل من يؤمن بعمل المسيح الفدائي الذي أتمّه على الصليب. وهذا العمل شبيه بما حدث في القديم مع شعب الله في برية سيناء، عندما لدغتهم الحيات السامة. فأمر الله موسى برفع حية نحاسية على عمود ، وطلب من كل من لدغته حية، أن ينظر إلى الحية النحاسية المرفوعة على العمود، فينال الشفاء من الموت المؤكد. وبذات المعنى عُلّق المسيح على خشبة الصليب، فكل من يؤمن بعمله الفدائي ينال الخلاص والنجاة من دينونة الله العادلة القاضية بقصاص كل مَن يخطئ. كما ورد في الوحي المقدّس: »وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الْإِنْسَانِ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:14).

فالله يطلب منا الايمان به، وقبول هذا الخلاص الذي أعدّه لنا في المسيح يسوع، »لاَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:16).

الله هو المخلّص والمنقذ. هو الرحمان الرحيم الرؤوف بعباده. وهكذا لا يبقى أي مجال للإنسان في أن يفتخر على الله في شيء. مصداقاً لقول الله الذي جاء على لسان بولس الرسول: »لِأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالْإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللّهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ« (أفسس 2:8-9).

ثم لو أنّ الله يغفر لمن يشاء، ويعاقب من يشاء لكان ظالما، وهذا محال في طبيعته تعالى. ثم لو دبّر طريقة أخرى غير الصليب، لبقي السؤال هو هو: لماذا لم يختر طريقة أخرى غير هذه؟ فالصليب وحده هو الطريق الذي تلتحم فيه المحبة بالعدالة الالهية الحقة. وإذا كان الإنسان اليوم يعترف بأن العار لا يُغسل إلا بالدم، فكم بالحري خطايا الإنسان! وأي دم هذا يقدر على غسل آثام وأقذار بني الإنسان؟

فالإنسان هو تاج خليقة الله، الذي يحمل في كيانه نسمة الله تعالى. أولا يستحق هذا المخلوق فداء من ربه؟

إنّ الله خصّ الإنسان بعناية تامة ومحبة فائقة الوصف دفعت به أن يقدّم من أجل هذا الإنسان كفارةً لا مثيل لها، إذ قدّم ابنه الوحيد كفارة من أجل خطايانا.

ثم ضمن عملية الفداء، القيامة المجيدة. لأنّه لو بقي المسيح في القبر ولم يقُم، لكان إيماننا باطلاً والكفارة لا معنى لها. كما أشار إلى ذلك الرسول بولس بواسطة الوحي المقدّس: »وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ« (1 كورنثوس 15:14).

فقيامة المسيح في اليوم الثالث من بين الأموات عربون على قيامتنا معه، وحصولنا على غفرانه تعالى. ولقيامة المسيح يسوع من بين الأموات، شهود وإثباتات كثيرة نذكر منها 

 

شهادة النبوات في أسفار العهد القديم، التي تشير بوضوح إلى موت وقيامة المسيح بعد صلبه واختباره أوجاع الموت.

 

شهادة المسيح عن نفسه. قد تحدّث المسيح مراراً وتكراراً عن طريق الصليب الذي هو سائر باتجاهه، ثم قيامته منتصراً على سلطان الموت.

 

شهادة الرسل والكرازة  بقيامة المسيح بعد الصلب.

 

شهادة مؤرخين يهود ووثنيين أمثال: يوسيفوس اليهودي، وتاسيتوس الوثني الروماني، ولوسيان اليوناني. (أشار كل هؤلاء إلى حادث صلب المسيح).

 

شهادة التواتر. فالكنيسة منذ نشأتها تشهد للصليب والقيامة. وقد تناقل أبناء الكنيسة المسيحية عبر الأجيال حادث الصلب، وكان مركز تعليمهم ورمز انتسابهم للمسيح المصلوب والمقام من بين الأموات ظافراً.