الفصل الثالث

مصحفا عبد الله بن مسعود و أبي بن كعب

1-الخبرة الكبيرة لعبد الله بن مسعود في مجال القرآن.

لا يمكن لأية دراسة لموضوع تناقل النص القرآني في بدايته أن تكتمل إلا بإلقاء الضوء على مساهمة عبد الله بن مسعود. لقد كان من بين كبار صحابة محمد و من إتباعه الأوائل و قيل أنه "كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله بمكة" كما ذُكر في سيرة بن هشام (المجلد الثاني ص 157). طيلة السنوات الإثني عشرة التي قضاها محمد في مكة يدعو للإسلام إلى غاية وفاته بالمدينة عشر سنوات بعد هجرته إليها كلَّف بن مسعود نفسه عناء حفظ القرآن و اكتساب علومه. هناك روايات عدة تُظهِر أن محمد كان يعتبر بن مسعود من أكبر العارفين بالقرآن إن لم يكن يعتبره الأكبر على الإطلاق كما يُستفاد من الحديث التالي :

"حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبدالله بن عمرو عبدالله بن مسعود فقال لا أزال أحبه سمعت النبي صلى اللهم عليه وسلم يقول خذوا القرآن من أربعة من عبدالله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب " (صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4615)

نفس الرواية موجودة في كتب الحديث الأخرى و تشير إلى أن محمد "بدأ به" (1) و هذه إشارة إلى أنه كان يعتبره المرجع الأول في مجال القرآن. من بين الصحابة الآخرين الذين تم ذكرهم نجد أبي بن كعب الذي جمع هو كذلك مصحفا خاصا به كان مصيره النهائي هو الإحراق بأمر من عثمان كما ذٌكِر سابقا. عدم ذكر زيد بن ثابت ضمن الائحة أمر له دلالة خاصة حيث يتبين من خلاله أن محمد كان يعتبر بن مسعود و أبي بن كعب أكثر منه خبرة و معرفة بالقرآن :

"حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا مسلم عن مسروق قال قال عبدالله رضي اللهم عنهم والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه" (صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4618)

قيل في رواية من نفس القبيل إن بن مسعود قرأ ما يزيد عن سبعين سورة في حضرة محمد. يدل هذا على أن الصحابة كانوا يدرون أن لا أحد أكثر علما بالقرآن من بن مسعود. يضيف شقيق في حديث مسلم : "فجلست في حلق أصحاب محمد صلى اللهم عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه" (صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة 4502)

من البديهي إذن أن عبد الله بن مسعود كانت له معرفة خاصة و عميقة بالقرآن. بما أن محمد أمر كل من يريد تعلم القرآن أن يأخده عنه بالدرجة الأولى فمن المنطقي أن تكون للمصحف الذي جمعه موثوقية ما إذ ليس هنالك أدنى شك في أنه جمع مصحفا خاصا به مستقلا عن مصحف زيد بن ثابت. لذلك خصص بن أبي داود ما لا يقل عن 19 صفحة من كتاب المصاحف لعرض الإختلافات التي كانت موجودة بين قراءتي بن مسعود و زيد (كتاب المصاحف 54-73)

لكونه اعتنق الإسلام مبكرا حيث سبق في ذلك الخليفة عمر و كونه كان من بين المهاجرين للحبشة و يثرب فقد صارت له مكانة كبيرة عند محمد. شارك في غزوتي بدر و أحد و مكنت علاقته الخاصة بالرسول و كذا معرفته العميقة للقرآن أن تصبح لمصحفه مكانة عالية عند أهل الكوفة قبل أن يأمر عثمان بجمع المصحف الذي فُرِض قوة على الأمة الإسلامية. رد فعل بن مسعود على إثر قرار عثمان إحراق مصحفه له دلالة عميقة.


(1) "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن شقيق عن مسروق قال كنا نأتي عبد الله بن عمرو فنتحدث إليه وقال ابن نمير عنده فذكرنا يوما عبد الله بن مسعود فقال لقد ذكرتم رجلا لا أزال أحبه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى اللهم عليه وسلم سمعت رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يقول خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة" (صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة -4504)

رجوع