الكبائر النبوية

 

    فصل: في أفعاله . صلى الله عليه و سلم الدنيوية


و أما أفعاله صلى الله عليه و سلم الدنيوية فحكمه فيها من توفى المعاصي و المكروهات ما قد قدمناه ، و من جواز السهو الغلط في بعضها ما ذكرناه .
و كله غير قادح في النبوة ، بلى ، إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد و الصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات و القرب على ما بينا إذ كان صلى الله عليه و سلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورتة ، و ما يقيم رمق جسمه ، و فيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، و يقيم شريعته ، و يسوس أمته ، و ما كان فيما بينه و بين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر [ 234 ] يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ،أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، و كل هذا لاحق بصالح أعماله ، متتظم في زاكي وظائف عباداته ، و قدكان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الحوال ، و يعد للأمور أشباهها ، فيركب ـ في تصرفه لما قرب ـ الحمار ، و في أسفاره الراحلة ، و يركب البغلة في معارك الحرب دليلاً على الثبات ، و يركب الخيل و يعدها ليوم الفزع و إجابه الصارخ .
و كذلك في لباسه و سائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه و مصالح أمته .
و كذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته و سياسة و كراهية لخلافها و إن كان قد يرى غيره خيراً منه ، كما يترك الفعل لهذا ، و قد يرى فعله خيراً منه و قديفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد و جهيه ، كخروجه من المدينة لاحد ، و كان مذهبه التحصن بها ، و تركه قتل المنافقين ، و هو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، و رعاية للمؤمنين من قرابتهم ، و كراهة لأن يقول الناس : إن محمداً يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، و تركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش و تعظيمهم لتغييرها ، و حذراً من نفار قلوبهم لذلك ، و تحريك متقدم عداوتهم للدين و أهله ، فقال لعائشة في الحديث الصحيح : لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم .
و يفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيراً منه ، كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من قريش ، و قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي .
و بسط وجهه للكافر و العدو رجاء استئلافه .
و يصبر للجاهل ، رواية يقول كان إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره . و يبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته و دين ربه . و يتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، و يتسمت في ملئه ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، و حتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ، و يتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يضحك مما يضحكون منه ، قد وسع الناس بشره و عدله ، لا يستفزه الغضب ، و لا يقصر عن الحق و لا يبطن على جلسائه ، يقول ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .
فإن قلت : فما معنى قوله لعائشة رضي الله عنها في داخل عليه : بئس ابن العشيرة . فلما دخل ألان له القول و ضحك معه ، فلما سأله عن ذلك قال كان إن من شرالناس من اتقاه الناس لشره .
و كيف جاز أن يظهر لهما خلاف ما يبطن ، و يقول في ظهره ما قال ؟
فالجواب أن فعله صلى الله عليه و سلم كان استئلافاً لمثله ، و تطييباً لنفسه ، ليتمكن إيمانه ، و يدخل في الإسلام بسبب أتباعه ، و يراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . و مثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . و قد كان النبي يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ .
قال صفوان : لقد أعطاني [ 235 ] و هو أبغض الخلق إيلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي .
و قوله فيه : بئس ابن العشيرة ـ هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ، و يحترز منه ، و لا يوثق بجانبه كل الثقة و لا سيما و كان مطاعاً متبوعاً .
و مثل هذا إذا كان لضرورة و دفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزاً ، بل واجباً في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة و المزكين في الشهود .
فإن قيل : فما معنى المفضل الوارد في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه و سلم لعائشة ، و قد أخبرته أن موالي بريرة أبو بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال صلى الله عليه و سلم : اشتريها و اشترطي لهم الولاء .
ففعلت ، ثم قام خطيباً ،فقال : ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل و النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قد أمرها بالشرط لهم ، و عليه باعوها ، و لولاه ـ و الله أعلم ـ لما باعوها من عائشة ، كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله صلى الله عليه و سلم ، و هو قد حرم الغش و الخديعة .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ، و لتنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشتر لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق ال ديث ، و مع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله تعالى : أولئك لهم اللعنة . و قال : وإن أسأتم فلها [ سورة الإسراء /17، الآية : 7 ] .
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، و يكون قيام النبي صلى الله عليه و سلم و وعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .
و وجه ثاني : أن قوله صلى الله عليه و سلم : اشترطي لهم الولاء ،ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية و الإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعم بعد بيان النبي صلى الله عليه و سلم لهم قبل أن الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .
و إلى هذا ذهب الداودي و غيره ، و توبيخ النبي صلى الله عليه و سلم لهم ، و تقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا .
الوجه الثالث : أن معنى قوله : اشترطي لهم الولاء ، أي أظهري لهم حكمه ، و بيني سنتة بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه و سلم مبيناً ذلك و موبخاً على مخالفة ما تقدم منه فيه .
فإن قيل : فما معنى فعل يوسف عليه السلام بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله و أخذه باسم سرقتها ، و ما جرى علىإخوته في ذلك و قوله تعالى : إنكم لسارقون ، و لم يسرقوا .
فاعلم ـ أكرمك الله ـ أن الآية تدل على أن فعل يوسف كان عن أمر الله ، لقوله تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم [ سورة يوسف /12، الآية : 76 ] .
فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .
و أيضاً فإن يوسف كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من و فقه و رغبته ، و على يقين من عقبى الخير له به ، و إزاحة السوء و المضرة [ 236] عنه بذلك .و أما قوله : أيتها العير إنكم لسارقون ، فليس من قول يوسف . فيلزم عليه جواب لحل شبهه . و لعل قائله إن حسن له التأويل كائناً من كان ظن على صورة الحال ذلك و قد قيل قال ذلك لفعلهم قبل بيوسف و بيعهم له و قيل غير هذا : و لا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم تأت انهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، و لا يلزم الا عتزار عن زلات غيرهم .
 

الصفحة الرئيسية