الصليب وبيان محبة الله

إذا كان الرسول بولس، مفكر المسيحية، قد أوضح أن الصليب بيَّن بر الله، فإن الرسول يوحنا، رسول المحبة، أوضح أن الصليب أظهر حب الله (1يوحنا4: 9، 10).

عندما كنا نتحدث عن الخطية الأولى (تكوين3) ذكرنا الافتراء الذي ذكرته الحية في الكلمات السامة التي قالتها للمرأة:

الله غير صادق: فلقد قال لكما يوم تأكلان منه (ثمر شجرة المعرفة) تموتان، والحقيقة أنكما «لن تموتا».

الله غير عادل: إذ منعكما من التسلط على هذه الشجرة مع أنكما رأسا الخليقة.

الله غير محب: لو كان يحبكما لما حرمكما من التمتع بشيء، ولسمح لكما أن تصيرا مثله.

وعندما أكلت المرأة من الشجرة، وأعطت رجلها فأكل، كان معنى ذلك أنها صدّقت كل هذه الافتراءات. وكانت هذه إهانة بالغة لله أمام كل الخليقة. والله أجّل الرد على تلك الافتراءات الشيطانية نحو أربعة آلاف سنة، حتى جاء المسيح ومات فوق صليب الجلجثة.

هناك في الصليب أثبت المسيح أن الشيطان كاذب. لقد قال الشيطان في الجنة «لن تموتا» لكن عندما مات المسيح على الصليب أثبت صدق كلمة الله «أن أجرة الخطية هي موت» (رومية6: 23). وعلى الصليب أعلن المسيح بر الله وعدله، فمع أن ابنه الحبيب القدوس هو الذي كان يحمل الخطايا، لكنه تحمل عنها الدينونة كاملة. لكن الشيء الآخر العظيم الذي أثبته الصليب، والذي ما كان يمكن أن يظهر بدون الصليب، هو أن الله محبة. فهل من إعلان عن محبة الله نظير صليب المسيح؟! ليس أنه – كما افترى الشيطان كذباً – حرمنا من ثمرة شجرة، بل لقد بذل ابنه الوحيد لأجلنا.

يقول الرسول يوحنا عن المسيح: «لأجل هذا أُظهر ابن الله لكي ينقُض أعمال إبليس» (1يوحنا3: 8).

في الصليب نحن لا نرى فقط كراهية الإنسان نحو الله، الأمر الذي تمثل في صلبهم لابنه، معلقين إياه على خشبة، بل إننا نرى شيئاً آخر أعجب، نرى محبة الله للإنسان، إذ قبل أن يبذل ابنه وحيده عنا.

ومن المهم أن نعرف أنه ليس موت المسيح على الصليب هو الذي غيّر قلب الله من نحونا وجعله يحبنا، العكس هو الصحيح، فإن الله في محبته، قَبِلَ هذه التكلفة الكبيرة: أن يبذل ابنه الوحيد لأجل خلاصنا. ليس الابن المحب قدّم نفسه للآب الغاضب، حاشا، بل إن الآب المحب بذل ابنه الوحيد نيابة عنا.

إن الارتباط بين محبة الله والكفارة التي قُدمت في الجلجثة، ارتباط وثيق. فيمكن القول إن الكفارة هي إسكات غضب الله، بواسطة محبة الله، عن طريق ما قدمه وبذله الله. وإن كانت خطايانا قد أغضبت الله القدوس البار، الذي ضده أخطأنا، والذي كان ينبغي تهدئة غضبه البار المقدس، فإنه - تبارك اسمه إلى الأبد - في نعمة فاقت التصور - أرسل الله ابنه وقدمه كفارة!

«الله بيَّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية5: 8).

«بهذا أُظهرت محبة الله فينا (أو تجاهنا) أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يوحنا4: 9،10).

«لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا3: 16).

* * * *

والآن أختم تأملاتي هذه بكلمات قرأتها لواحد كان يتعجب فيها من أمر المسيحيين، الذين بحسب تعبيره يصرون على موضوع الصليب، وهو لا يفهم معنى لهذا. ويقول إن الصليب أمر يذكِّر بالهوان الذي احتمله المسيح، فما هو وجه الإصرار عليه والاعتزاز به؟ ونجيب: إننا فعلاً نفتخر بالمسيح، ونفتخر بالصليب، كما أننا نؤمن يقيناً أن صلبه لم يكن عجزاً منه أو ضعفاً، بل حباً وإيثاراً.

ولكل مخلص، في حيرة من أمر الصليب، أقص هذه القصة الواقعية:

كانت هناك امرأة على جانب كبير من الجمال، بينما يداها كانتا قبيحتين للغاية ومشوهتين بشدة. وكان لهذا المرأة بنت صغيرة تحب أمها جداً. لكن البنت كانت متعجبة من أمر يدي أمها المشوهتين، وما كانت البنت تقوى على مجرد النظر إلى هاتين اليدين دون أن تمتلئ بالرعب والتقزز. وذات يوم قررت البنت أن تسأل أمها عن سر هاتين اليدين المشوهتين. قالت البنت: أماه، إني أحب وجهك الجميل، وأحب عينيك الصافيتين، وشعرك الذهبي المسترسل. لكن يا أمي يداك! إنني لا أقدر أن أنظر إليهما. لماذا هما على هذه الحالة من التشوه؟

أجابت الأم: سأقص عليك يا عزيزتي ما حدث ليديَّ، وقد كنت أظن أنني لن أحكي لك ذلك أبداً. لكن يبدو لي الآن أنه من الأفضل أن تعرفيه. من سنوات مضت، عندما كان عمرك ثلاثة أشهر فقط، وفي ذات صباح مزدحم بالأعمال المنزلية، وبعد أن أرضعتك، أضجعتك في مهدك الصغير لتكملي نومك. وانصرفت أنا لأكمل باقي أعمالي المنزلية. وطبعاً كانت أذناي معك لأستمع إلى أول صرخة نداء منك، أو لأي حركة تحدثينها. وظللت في المطبخ وقتاً ليس طويلاً، ولو أنه أطول مما توقعت.

وفجأة سمعت صراخاً. ونظرت من النافذة فرأيت الجيران يهرعون نحو المنزل وعلى ألسنتهم جميعاً صرخة واحدة: النار، النار. جريت من المطبخ إلى البهو الخارجي، فرأيت النار وقد أتت على باب الحجرة التي كنت تنامين فيها، وألسنة اللهب تتصاعد منها. اقتحم الجيران البيت ليقدموا العون لي، أما أنا فأصبت بصدمة شلتني عن التفكير، وعقدت لساني فلم أقو على النطق بكلمة واحدة. رأيت أمامي في البهو غطاء كبيراً، التقطته بسرعة، ولففت به رأسي وأكتافي، واندفعت وسط ألسنة اللهب إلى حجرتك، وخطفتك من مهدك بكل الأغطية والملابس التي كانت تلفك، ثم ضممتك بقوة إلى صدري، وجريت بك كالسهم خارج المنزل. وبفضل الغطاء الذي لففته على رأسي وصدري نجا رأسي وأكتافي، كما نجا وجهي وعنقي. أما يداي وذراعاي فقد احترقت، حتى أن اللحم فيما بعد سقط تماماً، وعرَّى العظام. هذه يا عزيزتي هي قصة يدي ولماذا هما قبيحتان.

سمعت البنت القصة. وامتلأ وجهها بالتأثر الواضح. وكأي بنت تسمع كلاماً كهذا أمسكت بيدي الأم المشوهتين وربتت عليهما بأصابعها الغضة بكل محبة، وقبلتهما بشفتيها الصغيرتين. وبنظرة عرفان وامتنان إلى أمها قالت لها: “أماه إني أحب وجهك الجميل، وعينيك، وعنقك، وشعرك. أما هاتان اليدان فإني أحبهما أكثر من الكل”.

هكذا نحن أيضاً نحب صليب المسيح. فلولا الصليب ماذا كان مصيرنا، سوى بحيرة النار إلى أبد الآبدين؟

والآن هل ما زالت أيها القارئ العزيز لا تعرف لماذا كل المؤمنين يحبون الصليب، ويحبون التحدث عنه. السبب عبر عنه المرنم بالقول:

قد تجلت في الصليبْ
ساعةَ الصلبِ الرهيبْ
وهو مجروحُ الجبينْ
بالدمِ الزكي الثمينْ

 

قصةُ الحبِ العجيبِ
إذ فدى نفسي حبيبي
وهو مسحوقُ الفؤادِ
قد رواها لي حبيبي

هذه المحبة الإلهية العجيبة هي لك أنت أيها القارئ العزيز، فهل تقبلها؟

اقبلها وانجُ من الهلاك.

اقبلها واستمتع بالحياة الأبدية.

اقبلها الآن قبل فوات الأوان

« فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟ » (عبرانيين2: 3).

عودة للرئيسية