الخضوع ومشيئة الله

تمهيد

الفصل الأول: تعريف الخضوع

الفصل الثاني: مجالات الخضوع

الفصل الثالث: حتمية الخضوع

الفصل الرابع: دوافع الخضوع

الفصل الخامس: أسلوب الخضوع

الفصل السادس: حدود الخضوع

الفصل السابع: تأمين الخضوع

الفصل الثامن: ثمار الخضوع

الفصل التاسع: خطورة عدم الخضوع

الفصل العاشر: اعتراضات والرد عليها

خاتمة

حمل هذا الكتاب

عودة للصفحة الرئيسية

الفصل السادس حدود الخضوع



هناك عدة أسئلة جوهرية تفرض نفسها على الضمير الروحي وهي: 

1- إلى أي مدى يلزم الخضوع للسلطات؟

2- لو أصدرت السلطات أوامر ضد وصايا الرب هل تنفذها؟ 

ماذا عن الآية القائلة (ينبغي أن يطاع الله اكثر من الناس) (أع29:5)؟



هذه الأسئلة وغيرها تأتى بنا إلى مناقشة جانب جوهري من جوانب الخضوع وهو (حدود الخضوع) أي إلى أي حد يمكن للمؤمن أن يخضع للسلطة، ومتى يكون في حل من هذا الالتزام.



الحقيقة أن المؤمن مطالب بالخضوع للسلطات في كل شئ إذ يقول الكتاب المقدس للأبناء "أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شئ ..."(كو20:3) 

ويقول للنساء "كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شئ" (أف24:5) 

ويقول للعبيد "أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد" (كو22:3) ويقول للمواطنين بخصوص سلطة الدولة "فاخضعوا لكل ترتيب بشرى.." (1بط13:2) 

وبالنسبة لسلطان الكنيسة قال "الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (مت18:18). 



فالمؤمن مطالب بالخضوع في كل شئ على اعتبار أن هذه السلطات مقامة من الله كما قال معلمنا بولس الرسول "لأن ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله" (رو1:13). 



ولكن إذا ما أصدرت السلطات أمراً ضد وصايا الرب كأن يأمر أب ابنـه بالسرقة، أو ابنتـه بالزنا، أو أن يأمر الملك المؤمنين بالسجود للأصنام أو التبخير للأوثان ففي هذه الحالة ينبغي أن يتبع المؤمن الخطوات الست السالفة بكل أمانة ومحبة وضمير صالح، ومتى لم تفلح هذه الخطوات نكون قد وصلنا إلى نهاية حدود الخضوع للسلطة، وعندئذ يتحتم على المؤمن أن يطيع الله أكثر من الناس (أع29:5) 

وهذا ما أكده القديس أنطونيوس الكبير بقوله [إن أُمرت بشيء يوافق مشيئة الله فاحفظه (أي نفذه)، وإن أُمرت بما يخالف الوصايا فقل إن الطاعة لله أولى من الطاعة للناس] (بستان الرهبان ص179) 

والأمثلة على ذلك عديدة منها:

1- الثلاثة فتـية القديسون: فقد رفضوا الخضوع لأوامر الملك بالسجود لتمثال الذهب الذي نصبه. (دا1:3ـ30)

2- دانيال: رفض الأمر الملكي رغم المحبة الشديدة التي تربطه بالملك وصلى إلى إلهه وكواه مفتوحة فطرح في جب الأسود. (دا1:6ـ24) 

3- نابوت اليزرعيلى: رفض طلب الملك بالتخلي عن ميراث آبائه فرجم. 

(1مل1:21ـ16) 

4- يوسف الطاهر: رفض طلب سيدته امرأة فوطيفار فطرح في السجن. (تك7:29ـ20)

5- التلاميذ القديسون: رفضوا أمر رئيس الكهنـة بعدم الكرازة بالسيد المسيح فسجنوا وجلدوا (أع17:5ـ40). 



ولكن على المؤمن في هذه الحالة أن يكمل الخطوات الست السالفة باتخاذ هذه الخطوة السابعة ولكن في التزام كامل بروح المسيح من جهة رفض أوامر السلطة، مراعيا نقاوة الدافع وقداسة الهدف وروحانية الأسلوب، قابلاً حمل الصليب.



أولاً: نقاوة الدافع: 

1- لا يكون الرفض بدافع العناد والتشبث بالرأي، بل من منطلق الأمانة للرب. 

2- ولا يكون بدافع حب الذات والتعالي على الآخرين.



ثانياً: قداسة الهدف: 

1- لا يكون الهدف هو السعي إلى الشهرة وكسب مواقف بطولية.

2- أو الرغبة في التحرر من السلطة والحياة في حرية وهمية.



ثالثاً: روحانية الأسلوب:

1- ينبغي أن يكون سلوك المؤمن في هذا الموقف خالياً من الغطرسة واحتقار الآخرين. 

2- وغير مصحوب بالبغضة والمرارة. فدانيال الذي القي في جب الأسود لم يفقد محبته للملك قط كما يتضح من أسلوب رده عليه "يا أيها الملك عش إلى الأبد" (دا21:6).



رابعاً: حمل الصليب:

ينبغي أن يكون واضحاً منذ البداية حساب النفقة لقرار مثل هذا، وهو حمل الصليب واحتمال الألم بروح راضية، بغير تأفف أو شعور بعقدة الشهيد، والإحساس بالظلم، واتهام الآخرين بالفساد وعدم العدالة والقسوة. فالرب يسوع المسيح قال: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (لو23:9). 



فحمل الصليب والحياة تحت الألم بنفس منسحقة وقلب منكسر هو نوع من أنواع الخضوع كما يقول الكتاب عن رب المجد يسوع "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى6:2ـ8). 



في الواقع إن صدور أمر السلطة المضاد لوصية الله غالباً ما يكون خيـاراً بين مطلبين: 



المطلب الأول: هو تنفيذ هذا الأمر الذي يتعارض مع الوصية.

والمطلب الثاني: هو العذاب (بالسجن، أو الإلقاء في النار، أو الموت) أو بتعبير الكتاب (حمل الصليب) والمؤمن أمام المطلبين هو حر في الاختيار أن يرفض الأول ويقبل الثاني بكل خضوع. إذن فالمؤمن خاضع للسلطة على كل حال، ورفضه لأحد المطلبين ليس تمرداً عل السلطة بل استخدام لحق الاختيار الذي أتاحته له السلطة نفسها. 



ورب معترض يقول إن المؤمن ليس أمامه اختيار، لأن العذاب في السجن أو في النار أو الحكم بالموت ما هو إلا نتيجة حتمية لرفض أمر السلطة. لكن الواقع أن المؤمن يكون أمامه أكثر من اختيار كما يتضح مما يلي:



الاختيار الأول: رفض أمر السلطة الذي يتعارض مع الوصية.

الاختيار الثاني: قبول حمل الصليب أو العذاب. 

الاختيار الثالث: تملق السلطة أي الخنوع.

الاختيار الرابع: التمرد على السلطة وإعلان الثورة والجهاد المسلح (كما فعل بطرس في البستان بقطع أذن عبد رئيس الكهنة بالسيف) وتحريض الجماهير بالثورة ضد السلطة، وتدريب مناضلين، وتكوين ميليشيات وأجهزة سرية وتدبير مؤامرات وإثارة الفتن والتآمر مع أعداء السلطة ...الخ. ولكن عندما أمر الرب بطرس بأن يرد السيف إلى غمده أنهى على الاختيار الرابع من حياة كل مؤمن، وأبطل الالتجاء إلى القوة البشرية، وأغلق طريق التمرد إلى الأبد. وعندما سأل تلميذيه يعقوب ويوحنا ابني زبدى قائلا "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا" (مر38:10) حدد أمامهما مبدأ اختيار الصليب لا كنتيجة حتمية لرفض أوامر السلطات المنافية للوصية بل كاختيار إما يستطيعانه أو يرفضانه.



إذا تحمل الصليب وقبول الألم هو نوع من أنواع الخضوع للسلطة، حتى يتمجد الله في الموقف، مع اليقين بأنه في نهاية درب الصليب يوجد قبر، ولكن حول القبر كان هناك بستان، ومن داخل القبر فجَّت أنوار القيامة، أي أن الله سوف يتمجد في النهاية.

من أقوال الآباء القديسين

عن حدود الخضوع



1ـ القديس سمعان اللاهوتي: [ابتهل إلي الله بصلواتك ودعواتك أن يعطيك معلماً باراً خالياً من الانفعالات وادرس أيضاً بنفسك الكتب المقدسة، وبخاصة كتابات الآباء القديسين العملية، لكي تقارن بينها وبين ما تتعلمه من مدرسك ومعلمك. هكذا سوف ترى كما في مرآة إلي أي حد يتفوقون. وعلى ذلك استوعب واستبق في أفكارك ما يطابق المؤلفات الدينية، وبعد دراسة فاحصة ذكية تجنب مالا يطابق، لئلا تقع في الباطل. لأنه يجب عليك أن تعرف أن عدداً كبيراً من المعلمين الأفاقين والمضلين ينتشرون بيننا الآن]. (كتاب الفيلوكاليا ـ ص118)



2ـ القديس سمعان اللاهوتي: [إذا أردت أن تنبذ العالم وتتعلم كيف تعيش حسب تعاليم الأناجيل، تتلمذ علي يد مدرس كفء خبير في معرفة الانفعالات، لئلا بدلاً من أن تحيا حسب تعاليم الأناجيل، تتعلم حياة الشيطان. إن المدرسين الأكفاء يعطون دروساً جيدة، والمدرسون الأردياء تكون دروسهم رديئة. إن البذرة الرديئة تنتج دائما نباناً رديئاً] (كتاب الفيلوكاليا ـ ص118) 



3ـ القديس سمعان اللاهوتي: [كل إنسان لا يرى (أي أعمى روحياً) ويرشد الآخرين، يكون مضلاً، ويلقي بأتباعه في خندق الهلاك. إذ يقول الكتاب "إن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" (مت15: 14)]

(كتاب الفيلوكاليا ـ ص118)

4ـ القديس سمعان اللاهوتي: [إذا راعي الإنسان الطاعة التامة لأبيه الروحي، فإنه يتحرر من كل الاهتمامات ويلقيها مرة واحدة علي كتفي أبيه الروحي … لأن الإنسان إذا سلم نفسه تسليماً تاماً وألقي كل اهتماماته عليه وعلي أبيه الروحي، فهو بإطاعته هذه لا يعيش بعد ذلك حياته الخاصة، ولا يتبع إرادته الذاتية، بل يميت نفسه عن كل الارتباطات الدينية وحاجاته البدنية]. (كتاب الفيلوكاليا ـ ص185)