معنى المفردات

واضح من المثل الذي ضربته أننا يجب أن نتفق على معاني المفردات قبل أن نبدأ أي مناقشة علمية أو دينية ذات فائدة. وكتب د. بوكاي فصلاً كاملاً عن كلمة العَلَقَة كما كتب أربع صفحات عن الكلمات اليونانية لاليو و أكوو و باراكليتوس . فكيف نحدد معاني الكلمات؟ ومن هو الحَكَم على المعنى الصحيح والمعنى الخاطئ لأية كلمة؟ وكيف يجهّزون قواميس اللغات؟

والإجابة هي: أنت وأنا نجهّز قواميس اللغات، وذلك باستخدامنا للكلمات في فترة معينة من الزمن. ويقوم علماء اللغة بدراسةالاستعمال الشفاهي أو المكتوب لكلمةٍ ما، ومنه يحددون معنى الكلمة. ولما كنا سندرس مفردات من الكتاب المقدس والقرآن، فسأضرب أمثلة من المفردات المكتوبة. وقد شرح الدكتور هاياكاوا أستاذ اللغات بجامعة سان فرانسيسكو طريقة تجهيز قاموس بقوله (1 - أرقام الهوامش في نهاية القسم):

لكي يحدد محرّرو القاموس معنى كلمة ما، يبدأون بقراءة واسعة لكتاباتٍ من الفترة التي سيغطي القاموس مفرداتها، ويختارون الكلمات الهامة والنادرة ويكتبونها على كارتات، ثم يكتبون الجُمل التي وردت بها تلك الكلمات لتتضح لهم القرينة. مثلاً يكتبون كلمة دلو والجملة التي جاءت فيها الكلمة: دلو مزرعة إنتاج اللبن يجيء لبيوتنا بمزيد من اللبن . (جاءت الجملة في كتاب إندميون كيتس ج 1 ص 44 و45). ثم وبعد إكمال هذا العمل يجدون لكل كلمة مئتي أو ثلاث مئة استعمال في جُمل مختلفة- كل جملة على كارت. ولكي يحدد محرّر القاموس معنى أو معاني الكلمة، يضع الكارتات أمامه، ويقدم كل كارت منها استخداماً للكلمة ذا أهمية أدبية أو تاريخية، فيقرأ الكارتات بتأنٍ ويستبعد بعضها، ويعيد قراءة البعض الآخَر، ويقسم الكارتات حسب ما يعتقد أنه المعاني المختلفة للكلمة، ثم يحدد معنى أو معاني الكلمة في نور أن كل معنى يجب أن يُبنى على ما يحدده الاقتباس الذي أمامه.

ويقول الأستاذ هاياكاوا:

لا يحدد مؤلف القاموس بنفسه معاني الكلمات كما يروق له، بل هو يسجل بقدر إمكانه معاني الكلمة كما حدده المؤلفون في الماضي القريب أو البعيد. فمؤلف القاموس مؤرخ وليس مشرّعاً .

استعمال الكلمة يحدد معناها

ونقدم هنا مثلاً لتحديد معنى كلمة وِزْر و الوازرة من الجذر وَزَرَ وذلك من استعمالها في جُمل. وقد وردت وزر بتصريفاتها المختلفة في القرآن 24 مرة. فلندرس ورود الكلمة في سورة طه 20:87 وذلك في منتصف الفترة المكية، تصف وزر بني إسرائيل في عبادة العجل الذهبي:

قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ .

فإذا جئنا بكارت كتبنا عليه كلمة وزر بحسب المعنى الوارد في هذا الاقتباس، لحدَّدنا أن معناها الثِقل المفروض عليك أن تحمله: حُمِّلنا .

ثم لنتأمل سورة محمد 47:4 (ويرجع استعمالها للسنة الأولى للهجرة) فقد أُمِر المسلمون أن يحاربوا الكافرين حتى يُخضِعوهم:

فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ .

وكلمة وزر هنا جاءت بمعنى آخر، فهي تشير للذين جُرحوا وماتوا في الحرب، وربما تشير إلى الآلام النفسية التي أصابت أهلهم.

ولنناقش معاني أخرى لكلمة وزر كما جاءت في آيات قرآنية أخرى، ولنكتب كل استعمال على كارت خاص:

سورة فاطر 35:16 و18 (والآيتان من العهد المكي الأول) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ,,, وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى .

سورة النجم 53:36-41 (وهي أيضاً من العهد المكي الأول) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى .

سورة طه 20:100-102 (وهي من العهد المكي الوسيط) مَنْ أعَرْضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ .

سورة الأنعام 6:31 (وهي من العهد المكي المتأخر) قَدْ خَسِرَ الذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ .

سورة الأنعام 6:164 (من العهد المكي المتأخر) وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .

سورة الزُّمَر 39:7 (من العهد المكي المتأخر) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ .

سورة النحل 16:25 (من العهد المكي المتأخر) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ .

سورة الإسراء 17:13-15 (من السنة الأولى للهجرة) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً .

فإذا قارنا هذه الآيات اتَّضح لنا أن كلمة وزر تُستعمَل لنوعٍ آخر من الأحمال. فإذا رفضت رسالة الله وقع على كاهلك حمل. وإذا كفرت سيكون هناك يومُ حسابٍ تنوء تحته بالحِمل. ويحمل كل إنسان حمل نفسه يراه مكتوباً في كتاب يقرأه بنفسه، ويحمله على ظهره، كما أن الله يعلم بذات الصدور (أي القلوب). ومن كل هذه الأفكار يتضح لنا أن الوزر يعني الخطأ.

فإذا قمت بدراسة هذه الآيات يتضح لك أن قبيلة قريش في شبه الجزيرة العربية كانت تستخدم كلمة وزر لتعني حِملاً ثقيلاً جسدياً أو نفسياً. كما أنهم استعملوها للخطية أو الكفر.

وإذا درست كلمة وزر في معجم اللغة العربية المعاصرة تأليف هان زير (2) ستجده يقول إن معناها: حمل ثقيل. ثِقل مرهق. خطية. جريمة. مسئولية.

وهكذا تجد أن معنى كلمة وزر ليس فقط مسئولية ولكنه أيضاً خطية وحمل ثقيل.

أما إذا درست وزر في قاموس فقهي فستجد المزيد من المعاني: فالخاطئ لا يقدر أن يساعد خاطئاً آخر، مهما كان قريباً له. وكل خاطئ سيجد عقابه مسجلاً في كتاب. وإذا أضللت أحداً نالك عقابٌ مضاعف. ولكن لا يوجد في هذه الآيات ما يؤكد أن من لا وزر له يقدر أن يشفع في المخطئ.

الصفحة الرئيسية