خاتمة

هناك براهين كثيرة من الحديث ومن مفسري القرآن تبرهن وجود اختلافات متنوعة في قراءات مصاحف الصحابة، مما يناقض القول إن المصحف الحالي نسخة ضوئية من الأصل. ولكن اختلاف القراءات هذا لا يزعج أحداً، فلم يحدث تحريف ولا تغيير في رسالة محمد.

ولا يمكن أن يقول أحد إن الإنجيل الذي بين أيدينا اليوم هو صورة ضوئية من الإنجيل الأصلي. ولكن اختلاف قراءاته لا يغيّر شيئاً من رسالة المسيح الأصلية.

(د) مقارنة الصراع والنزاع في أوائل العهد المسيحي

بالصراع والنزاع في أوائل العهد الإسلامي

ركّز د. بوكاي في الفصل الثاني من كتابه على الصراع الداخلي في الجماعة المسيحية الناشئة، ليبيّن تأثير هذا النزاع على صحّة الرسالة الإنجيلية. ويمكن أن نلخّص ما قاله في ما يلي:

1 - كان هناك نزاع بين فريق اتّبع عقيدة بولس، وفريق اتّبع عقيدة اليهود المتنصّرين بقيادة الرسولين بطرس ويوحنا ومعهما يعقوب أخي يسوع.

2 - كُتب كثير من أسفار العهد الجديد كنتيجة لهذا الصراع.

3 - خسر فريق اليهود المتنصرين في النزاع وأُطلق على كتبهم اسم الأبوكريفا فقاومتها الكنيسة وخُبّئت.

ويعلّق د. بوكاي على هذه النقاط الثلاث بقوله:

1 - بين اللحظة التي غادر المسيح فيها هذه الأرض (30م) وحتى منتصف القرن الثاني (150م) كانت هناك معركة بين اتجاهين: بين ما يمكن تسميته بالمسيحية البولُسية وبين يهودية المتنصّرين.. ولم يحلّ الاتجاه الأول محل الثاني إلا بشكل شديد التدرّج... لكن يهودية المتنصرين كانت تمثّل حتى عام 70م غالبية الكنيسة، وكان بولس منعزلاً. وكان رئيس الجماعة يعقوب قريب يسوع. وكان معه في البداية بطرس ويوحنا. ويمكن اعتبار يعقوب كعمود اليهود المتنصرين الذي ظل عن إرادة ملتزماً بخط اليهودية أمام المسيحية البولسية...

وإذا كان بولس أكثر وجوه المسيحية موضعاً للنقاش، وإذا كان قد اعتُبر خائناً لفكر المسيح، كما وصفته بذلك أسرة المسيح والحواريين الذين بقوا بأورشليم حول يعقوب، فذلك لأنه قد كوَّن المسيحية على حساب هؤلاء الذين جمعهم المسيح من حوله لنشر تعاليمه (ص71-73).

وكل من يقرأ ما كتبه د. بوكاي بغير وعي سيظن أن الإنجيل الأصلي قد أُخفي في هذا الصراع، ليظهر عليه تعليم بولس الذي خان المسيح!

ويقول د. بوكاي في نقطته الثانية إن أسفاراً كثيرة من العهد الجديد تمت كتابتها كنتيجة لهذا النزاع، فيقول:

2 - فيما يخص الأناجيل، فليست هناك مجازفة كبيرة في أنه لولا جوّ الصراع بين الطوائف التي وُلدت بسبب انشقاق بولس، لما حصلنا على الكتابات التي في حوزتنا اليوم. إن هذه الكتابات الخصامية (كما يصفها الأب كانينجيسر) قد ظهرت في فترة صراع حاد بين الطائفتين، وانبعثت من حشد كتابات عن المسيح (ص 73).

ثم يتقدم د. بوكاي إلى نقطته الثالثة فيقول:

3 - ففي هذا العصر شكلت المسيحية البولُسية بعد نصرها النهائي مجموعة نصوصها الرسمية (أي القانون) الذي يستبعد كل الوثائق الأخرى التي لم تكن توافق الخط الذي اختارته الكنيسة (ص 74).

وصحيح أن بعض أسفار العهد الجديد تحمل آثار نزاعٍ عقائدي، ولكن يجب أن نثير سؤالين:

هل صحيح ما يقوله د. بوكاي إن ذلك الصراع كان بين الرسول بولس وباقي رسل المسيح؟

هل يثبت هذا النزاع أن أسفار العهد الجديد لم تُكتَب بوحي الروح القدس؟

هل اختلف بطرس ويوحنا ويعقوب

مع الرسول بولس

في مسائل أساسية؟

يعلن العهد الجديد أن هؤلاء الرسل كانوا أصدقاء، على اتفاق تام في العقيدة:

(أ) يقول الرسول بولس: ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا,,, صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلَانٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ,,, لِئَلَّا أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ المُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا (بطرس) وَيُوحَنَّا، المُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ,,, غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الفُقَرَاءَ. وَه ذَا عَيْنُهُ كُنْتُ ا عْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ (غلاطية 2: 1 و2 و9 و10).

(ب) نقرأ عن رحلة بولس الأخيرة إلى أورشليم في أعمال 21:17-20 قبل موته بنحو خمس سنوات: وَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَنَا الإِخْوَةُ بِفَرَحٍ. وَفِي الغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ المَشَايِخِ. فَبَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ شَيْئاً فَشَيْئاً بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ اللّه بَيْنَ الأُمَمِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ. فَلَمَّا سَمِعُوا كَانُوا يُمَجِّدُونَ الرَّبَّ .

(ج) ثم نقرأ في الرسالة الثانية لبطرس الرسول: وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلَاصاً، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضاً بِحَسَبِ الحِكْمَةِ المُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضاً، مُتَكَلِّماً فِيهَا عَنْ هذِهِ الأُمُورِ، التِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ العُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الكُتُبِ أَيْضاً، لِهَلَاكِ أَنْفُسِهِمْ (2بطرس 3:15 و16).

ويظهَر من هذه الآيات أن بولس سافر إلى أورشليم ليرى إن كانت تعاليمه مطابقةً لتعاليم بطرس ويوحنا ويعقوب، كما يظهَر أيضاً أنه كان على علاقة طيبة بيعقوب حتى نهاية حياته، ويسمّي الرسول بطرس رسائل بولس كتباً مقدسة.

ونقرأ في غلاطية 2:11-16 عن مواجهة بين بولس وبطرس، وبَّخ فيها بولس زميله بطرس. غير أن ما كتبه بطرس بعد ذلك يُظهِر أن هذا الاختلاف كان اختلافاً موضوعياً، وحُسم.

فلماذا يتغافل د. بوكايّ هذه الآيات؟.. لو أني أخفيتُ بعض آيات القرآن أثناء نقاش، ألا يكون هذه إساءةً للحق وإخفاءً للبراهين؟ كأني أقول إنه كان هناك خلاف بين أبي بكر وعمر وعثمان، رغم أن السُّنة تقول خلاف ذلك!

نعم كانت هناك منازعة، ولكنها كانت بين بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب في جانب، والجماعة اليهود المتنصرين في الجانب الآخر.

تأثير هذا النزاع على العهد الجديد

نجد في سفر أعمال الرسل ورسائل بولس ثلاثة مستويات للنزاع:

(أ) نزاعاً بين بولس وعابدي الوثن. فقد اعتنق وثنيون كثيرون المسيحية نتيجة وعظ بولس، فتحوّلوا من الأوثان الميتة ليعبدوا الله الحي وتوقَّفوا عن شراء الأصنام الفضية والذهبية، فغضب الصياغ لأن مكسبهم تهدّد، وأجبروا بولس أن يترك البلد (أعمال 19).

(ب) نزاعاً بين الرسل واليهود الذين رفضوا الإيمان بالمسيح. ويفيدنا أعمال 12 أن يعقوب شقيق يوحنا قُتل بالسيف، وأن بطرس أُلقي في السجن. ونقرأ في أعمال 14:19 ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا الجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ المَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ .

(ج) نزاعاً بين بطرس ويوحنا وبولس من جانب واليهود المتنصرين من جانب آخر. وهذا ما يتحدث عنه د. بوكاي. وإن المرء يسأل نفسه: من هو اليهودي المتنصّر؟ ألم يكن بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب يهوداً تبعوا المسيح فصاروا مسيحيين؟ فما هو الفرق بينهم وبين اليهود المتنصّرين؟

إيمان اليهود المتنصّرين

كانوا يؤمنون ب العقيدة الإنجيلية . ولكن د. بوكاي يشير إلى دراسات الكاردينال دانيلو في اليهود المتنصرين مرات عديدة، ويقول في ص 37

إن المسيحية التي كانت أولاً يهودية مسيحية والتي درسها جيداً كتّاب محدثون مثل الكاردينال دانيلو، قد تلقَّت بشكل طبيعي جداً ميراث العهد القديم الذي ارتبطت به وثيقاً كتب الأناجيل، وذلك قبل أن يجري عليها التحوُّل الذي حدث بتأثير بولس .

وفي ص 71 يقول:

إنه (دانيلو) يضع خطوط تاريخ المسيحية ويسمح لنا بتحديد ظهور الأناجيل، وذلك في سياق يختلف تماماً عن ذلك الذي تقول به المعلومات الموجَّهة لعامة الجمهور .

وتوحي كتابة د. بوكاي للقارئ أن الكاردينال دانيلو قد وجد في كتابات اليهود المتنصرين عقيدة مخالفة للعقيدة المسيحية. ولكن الذي يقرأ كتابات دانيلو يكتشف أن ما وصل إليه من نتائج يختلف عمّا يقوله د. بوكاي. يقول دانيلو في كتابه الفرنسي لاهوت اليهودية المسيحية (37) الذي يعالج كل وثيقة تم اكتشافها حتى عام 1964:

كان هدف كتابنا هذا أن نفحص كل وثيقة وصلتنا من اليهود المتنصرين زمن المسيحية الأولى لنرسم صورة للاهوت اليهودي المسيحي. (ص 405).. ويهتم هذا اللاهوت بالتاريخ الكوني، من بدء الكون حتى سماء الله الأبدية. ويدور محوره حول ما لا يمكن قياسه من أحداث التجسّد، وحلول المسيح في جسد بشري، وكيف أخفى هذا مجد المسيح (ص 405)..

ولهذا فإن الفداء أمر كوني، فقد امتد عمل الكلمة (المسيح) إلى كل منطقة في الكون الروحي، من الهاوية (شئول) إلى السماء السابعة، ولمس كل مخلوق. والصليب هو المحور المزدوج للكون، فقد مدَّ ذراعيه ليوحّد كل أمم الناس، ورفع رأسه لتتَّصل السماء والأرض (ص 407)..

وهنا، ومبكراً جداً، وفي بعض الأحيان إلى ما وراء العهد الجديد (يقصد ما قبل الإنجيل المكتوب) نجد وجود المسيح الإلهي السابق، الابن والكلمة.. ونجد الشخص الإلهي: الروح القدس.. ونجد الميلاد العذراوي.. ونجد عقيدة الكنيسة المكوَّنة من المؤمنين من كل الأمم.. هذه وأمور أخرى لا تترك مجالاً للشك أن كل مظاهر الإيمان المسيحي بكل تعبيراته كانت وقتها كما هو اليوم (ص 408).

ومن هذا نرى أن الكاردينال دانيلو يؤكد أن اليهود المتنصرين كانوا مشتركين في العقيدة الإنجيلية عن الله والمسيح مع الرسول بولس، بل إن دانيلو يقتبس أقوال الرسول بولس في عشرة أماكن من كتابه (على الأقل) ليشرح عقائد اليهود المتنصرين.

الخلاف بين الرسل واليهود المتنصّرين

إن لم يكن النزاع بسبب الاختلاف حول الإيمان بالمسيح كمخلّص، فلماذا الاختلاف إذاً؟.. يفيدنا العهد الجديد أن النزاع بدأ لما آمن بعض الوثنيين بالمسيح، فثار سؤال: هل يُطلب منهم، علاوة على الإيمان بالمسيح المخلّص أن يُختَتنوا ويمارسوا مطالب الشريعة اليهودية؟.. هل يُطلب من الوثني أن يتهوَّد ليكمل إيمانه المسيحي؟

قال بولس: لقد دفع المسيح بكفارته دَيْن كل خاطئ يؤمن به، كهدية مجانية من نعمة المسيح. وهذا يكفي.

وقال اليهود المتنصّرون: صحيح أن كفارة المسيح تسدّد دَيْن الخطية، ولكن المرء يجب أن يطيع الشريعة الموسوية.

ويصف أعمال 15:1 تعليمهم بالقول: وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا .

وبسبب هذا النزاع سافر بولس وبرنابا إلى أورشليم ليناقشوا الأمر مع باقي الرسل، وقال بطرس في تلك المناقشة لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللّه بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلَامِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلَا نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ ل كِنْ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ نُؤْمِنُ أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً (أعمال 15:10 و11). ويمكن أن نشرح كلمات بطرس هذه بقولنا: نحن كيهود لا نَخْلُص لمجرّد أننا يهود، لكننا نخلص بقبول المسيح فنصبح مسيحيين. فليس لازماً للوثني قبل أن يصير مسيحياً أن يمارس فروض الديانة اليهودية . وقد وصل المجمع المسيحي إلى هذه النتيجة، وقرر عدم وجود داعٍ لختان الوثني الذي يريد اعتناق المسيحية. وتجد المناقشة كاملة في رسالة بولس لكنيسة غلاطية وفي سفر أعمال الرسل 10-15 وفيها ترى التوافق الكامل بين بطرس ويعقوب وبولس. وقد رفض بعض اليهود المتنصّرين قرار اجتماع أورشليم، واعتبروا بولس مسئولاً عن القرار الذي اتُّفِق عليه، واضطهدوه لذلك كثيراً.

الإسلام والوحي السابق له

يبدو أن العلاقة بين الإسلام والوحي السابق له لم تكن موضوع دراسة المسلمين الأوَّلين، ولا أعرف سبباً لذلك. فمن البديهي أن يسأل المرء: إن لم يكن القرآن قد نسخ أوامر التوراة والإنجيل، فهل تلك الأوامر تظل مُلزمة للمسلم؟ ومثال لذلك الأمر بختان الصبي في اليوم الثامن لمولده، كما أمر الله إبرهيم: أَمَّا أَنْتَ فَتَحْفَظُ عَهْدِي، أَنْتَ وَنَسْلُكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ.,, يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ,,, فَيَكُونُ عَلَامَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. اِبْنَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فِي أَجْيَالِكُمْ (تكوين 17:9-12).

ويقول القرآن إنه دين إبرهيم، ولكن المسلمين يختنون أولادهم عادة في ما بين الشهر الثالث والسادس من عمرهم، وهذا يخالف وصية الختان في اليوم الثامن.

ولنفترض جدلاً أن هناك فريقين إسلاميَّين يتحاوران، يقول أحدهما: يجب أن يتم الختان في اليوم الثامن كما أمر الله إبرهيم بينما يقول الآخر لم يعد هذا مُلزماً .. هكذا كان النزاع المسيحي أول الأمر، ولو أنه كان أكثر جوهرية في:

هل نخلص بمجهودنا في تنفيذ شريعة موسى؟ أم أننا نخلص فقط بنعمة الله ورحمته، بعد أن سدد المسيح كل شيء عنّا على الصليب؟

الصفحة الرئيسية