- تعليقات على سورة البقرة (2)

قالوا: آمنا

“وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ; (آية 14).

قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفرٌ من أصحاب محمد. فقال عبد الله بن أُبيّ لأصحابه: انظروا كيف أردُّ هؤلاء السفهاء عنكم؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر وقال: مرحباً بالصديق سيد بني تميم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله له . ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق، القوي في دين الله ثم أخذ بيد علي فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه . فقال له علي: اتقِ الله يا عبد الله، ولا تنافق، فإن المنافقين شرّ خليقة الله . فقال: مهلاً يا أبا الحسن، إني لا أقول هذا نفاقاً. والله إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم . ثم تفرّقوا. فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً. فقوله شياطينهم أي رؤساؤهم وكهنتهم (أسباب النزول للسيوطي سبب نزول 2: 14).

ولا حاجة لوحيٍ في هذه العبارة، فهي تورد ما قالوه وتشرح حالهم، ويمكن لأي إنسان أن يصف حال أولئك المنافقين بمثل هذه العبارة القرآنية.

فإذا قيل إن في إسناد هذا الحديث كذاب هو السدي الصغير، وواهٍ هو أبو صالح، قلنا إن جميع كتب الحديث بما في ذلك البخاري ومسلم مطعونٌ فيها. واقرأ إن شئت طبقات المدلِّسين للسيوطي و الضعفاء والمتروكون للنَّسائي.

ما هو الرعد؟

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ; (آية 19).

قال محمد بن مسلم الطائفي: بلغني أن البرق مَلَكٌ له أربعة أوجه: وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد. فإذا رفرف بجناحيه فذلك البرق (تفسير الطبري لهذه الآية).

وقال ابن عباس إن الرعد مَلَكٌ من السماء معه مخاريقٌ من نار يسوق بها السحاب. وإذا ضرب السحاب أضاء، فذلك البرق (سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن في الرعد 13).

هذا هو تفسيرهم وكلام علمائهم، وهو ليس بحاجة إلى أي تعليق. فالقرآن والمفسرون، يخترعون غير ما يقوله الله، وما يرفضه العقل السليم.

سورة من مثله:

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَّزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ; (آية 23).

قال قسّ بن ساعدة أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى. ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً، وأطول آجالاً؟ طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم بتطاوله. فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية (راجع ترجمة قس بن ساعدة في شعراء النصرانية قبل الإسلام، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الطبري، والكامل في التاريخ لابن الأثير).

لقد جاء القرآن بنفس نظم قس بن ساعدة، وقسُّ هذا سابقٌ للقرآن. وقد أورد ابن كثير أن محمداً كان يطلب من أبي بكر أن يُسمعه أشعار قس (البداية والنهاية ترجمة قس بن ساعدة).

وهناك العديد ممّن حاكوا القرآن بعده، أمثال المختار بن عبيد، والمعرّي، وابن المقفع وغيرهم. وممن كانوا قبل الإسلام: أمية بن أبي الصلت وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل (راجع ترجماتهم في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي).

بعوضة فما فوقها:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلَاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ; (آية 26).

(1) لما ضرب محمدٌ المَثَل بالذباب والعنكبوت، وذكر النحل والنمل، قال المعارضون: ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة! إننا لا نعبد إلهاً يذكر هذه الأشياء . فقال محمد: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً . فأجابهم من جنس أقوالهم، ولم يأتِ بجديد!

(2) كان ينبغي أن يقول بعوضة فما تحتها لا بعوضة فما فوقها فما تحتها هو الصحيح في مثل هذا الموقف. وقد حاول علماء المسلمين تفسير هذا، فقالوا فما فوقها أي دونها في الصِّغر!! (الطبري في تفسير البقرة 2: 26).

اعتراض الملائكة على الله:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ َوَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ; (آية 30).

(1) تقول هذه العبارة إن الله استشار الملائكة قبل خَلْق آدم فاعترضوا عليه، وهو غير معقول! فإن الله غنيٌّ عن ذلك. ; يَا لَعُمْقِ غِنَى اللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ! لِأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟ . لِأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الْأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الْأَبَدِ ; (رومية 11: 33-36) فالله غني عن الاستشارة، لأنه عالم بكل شيء.

(2) يعلّمنا كتاب الله أن الملائكة هم خدامه المعصومون عن الخطأ والزلل. أما عبارة القرآن فتفيد أن الملائكة اقترفوا أربع معاصٍ: (أ) أنهم اقترفوا الغَيْبة في حق من يجعله الله خليفةً بأن ذكروا عيوبه.) في كلامهم العُجب وذكر محاسن النفس. (ج) قالوا ما قالوه من نسبة الإفساد والسفك رجماً بالظن، وإلا شاركوا الله في علم الغيب.

(4) فيه إنكار على الله فيما يفعله وهو من أعظم المعاصي (الرازي في تفسير البقرة 2: 30).

ولما رأى علماء المسلمين هذا الخطأ في القرآن قسّموا الملائكة إلى قسمين، قسم في السماء وقسم في الأرض، وقالوا إن الذي في الأرض هم الجن وهم أفسدوا. فإذا سلّمنا بصدق قولهم، فلا يصح أن الله يستشيرهم.

ولما رأوا أنه لا يجوز أن يتصف الملائكة بعلم الغيب، قالوا إن الله أخبرهم بما سيكون من بني آدم من سفك الدماء، أو إنهم لما رأوا أن آدم خُلق من أخلاط مركّبة علموا أنه يكون فيه الحقد والغضب، ومنهما يتولد الفساد وسفك الدماء. مع أن التوراة تخبرنا أن الله خلق آدم في البر والطهارة والقداسة منزَّهاً عن الحقد وباقي الرذائل.

سجود الملائكة لآدم:

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّاشّمَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلّاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ; (آيات 31 - 34).

وورد في الأعراف 7: 11 - 13 “ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .

وورد أيضاً في الحِجْر 15: 28 - 33 “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ; وكذلك ورد في الإسراء 17: 61 أن الملائكة سجدوا لآدم إلا إبليس.

(1) فنسب لله تعجيز الملائكة بطريق الاحتيال. ففي مبدأ الأمر علّم آدم الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة فعجزوا عن التسمية، واعترفوا بالعجز.

(2) أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم، وحاشا لله أن يأمر بالسجود لغير ذاته. قال في التوراة: لا تسجد لإلهٍ آخر، لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو (خروج 34: 14).

(3) ولما استقبح علماء الإسلام ذلك قالوا إن سجود الملائكة كان لله، وآدم كان كالقِبلة لهم. ولكن هذا يشبه سلوك بني إسرائيل، لما عبدوا العجل وقالوا: إننا نعبد الله الذي يشير العجل إليه!

واعتذروا عن ذلك أيضاً بقولهم إن هذا سجود تكرمة وتفضيل، أو إنه امتحان للملائكة ليُظهر تواضعهم. ولكن حاشا لله أن يجعل له شريكاً في مُلكه لابتلاء الملائكة.

وأقام بعض علماء المسلمين أدلة عقلية ونقلية على أفضلية الملائكة على الأنبياء، ولكننا نقول: إن الملائكة أفضل من البشر، بالنظر إلى تمتعهم بمشاهدة أنوار القداسة الإلهية، ولأنهم في السماء محل الطهارة والقداسة. ولكن الذي خلُص بالفداء بالمسيح هو أفضل، لأن الله يدعوه ابناً له. وعلى كل حال فإذا كان البشر أفضل من الملائكة، أو أقل منهم درجة، فلا يجوز السجود لغير الله، ولا يصح أن يسجد الملائكة لآدم لأنهم أقل منه درجة، كما لا يجوز لآدم ولا لأحدٍ من ذريته أن يسجد للملائكة حتى لو كانوا أفضل منه.

فتلقَّى آدمُ من ربه كلماتٍ:

“فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ; (آية 37)

تُرى ما هي تلك الكلمات التي تلقّاها آدم من ربِّه بعد أن أزلَّه الشيطان فأخرجه مما كان فيه؟ حسناً نصح القرآن اصحابه: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالّزُبُرِ ; (النحل 16: 43 ، 44) فإن هذه الكلمات لم ترِد في القرآن، بل جاءت في زبُر (كتب) الأوَّلين، فقد جاء في التكوين 3: 15 أنه بعد سقوط آدم وحواء وعَدَهما الله بمجيء المسيح المخلِّص ودعاه نسل المرأة الذي يسحق رأس الحيَّة. هو المسيح ابن مريم الذي لم يسحق شخصٌ سواه رأسَ الحية (إبليس) فهو الوحيد الذي لم يخطئ أبداً. وفي المسيح نجد رحمة الله على العالمين، لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم (متى 1: 21).

(انظر تعليقنا على الأعراف 7: 26)

بنو إسرائيل والصاعقة:

“وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَحَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ; (آيات 55 - 57).

قال مفسرو المسلمين إن السبعين الذين اختارهم موسى للميقات هم الذين طلبوه. وقيل: عشرة آلاف من قوم موسى هم الذين طلبوا ذلك. وقيل: جاءت نار من السماء أحرقتهم، وقيل: صيحة، وقيل: جنود سمعوا بحسيسها فخرّوا صعقين ميتين يوماً وليلة، ثم بعثهم المولى وسخّر لهم السحاب يظلّلهم من الشمس حين كانوا في التيه. وكذلك ورد في النساء 4: 153 “أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ .

ومن طالع التوراة ظهر له أنه لم يطلب أحد من بني إسرائيل أن يرى الله جهرة، بل بالعكس طلبوا من موسى أن يكلّم هو الله، وأن يأذن لهم بأن يقفوا على بُعد لئلا يموتوا (خروج 20: 18 21) وقد استحسن الله طلبهم (تثنية 5: 23 32). ولكن القرآن قال إنهم علّقوا إيمانهم على هذه الرؤيا.

أما السبعون شخصاً المُشار إليهم في تفاسيرهم، فلم يطلب أحدٌ منهم أن يرى الله جهرة، بل إن الله هو الذي طلب من موسى أن يصعد إليه مع هارون وناداب وأبيهو وسبعين من شيوخ إسرائيل ليسجدوا من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الرب، فامتثلوا للأمر (خروج 24: 1 - 18).

فهنا أربعة أخطاء: (1) لم يطلب أحدٌ من بني إسرائيل أن يرى الله جهرة. (2) لم يمت أحد منهم بالصاعقة. (3) لم يبعث الله أحداً من الموت. (4) قالوا كان يظللهم بسحاب في التيه من الشمس، والتوراة تعلّمنا أن الله كان يهديهم في رحلاتهم بعمود سحابٍ في النهار وعمود نارٍ في الليل (خروج 40: 35 - 38 ومزمور 78: 14).

موسى والصخرة:

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ; (آية 60).

وورد في الأعراف 7: 160 “وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَا نْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً .

قال المفسرون إنه كان حجراً طورياً مكعباً حمله معه، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، تسيل كل عين في جدول إلى سبط، وكانوا 600 ألف، وسعة المعسكر 12 ميلاً. أو كان حجراً أهبطه آدم من الجنة ووقع إلى شُعيب، فأعطاه لموسى مع العصا، أو كان الحجر الذي فرّ بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرّأه الله به عما رموه به من الادرة، فأشار إليه جبريل بحمله. وقيل كان الحجر من رخام، وكان ذراعاً في ذراع، والعصا عشرة أذرع في طول موسى من آس الجنة، وله شُعبتان تتقدان في الظلمة (الجلالين وابن كثير على البقرة 2: 60).

ففي عبارة القرآن خطئان: (1) قوله إن موسى ضرب الحجر، والصواب أن الصخرة انفجرت ماءً. ولكن كان يوجد في إيليم 12 عيناً طبيعية. وتقول التوراة في خروج 15: 27 ثم جاء بنو إسرائيل إلى إيليم، وهناك 12 عين ماء و70 نخلة. فنزلوا هناك عند الماء. ثم ارتحلوا من إيليم إلى برية سين، وهي بين إيليم وسينا، ومنها سافروا إلى رفيديم. وهناك ضرب موسى الصخرة في حوريب . فخلط محمد بين ال 12 عيناً الموجودة في إيليم وبين الصخرة التي في حوريب.

وما أكبر الفرق بين عبارة التوراة التي ذكرت الأمكنة التي سافروا إليها بالتفصيل، وما ذكره علماء المسلمين عن هذا الحجر المذكور في القرآن!

الصابئون:

“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَِّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ; (آية 62).

(1) قال سليمان: سألتُ محمداً عن أهل دينٍ كنت معهم، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم. فقال محمد هذه العبارة المذكورة. ورُوي أنه لما قصّ سليمان على محمد قصة أصحابه، قال: هم في النار. فأظلمت عليه الأرض. ثم أورد بعد ذلك قوله إن الذين آمنوا.. إلى قوله ولا هم يحزنون . قال: فكأنما كُشف عني جبل (أسباب النزول للسيوطي سبب نزول البقرة 2: 62).

فكان محمد يراعي ظروف الأحوال، ويجتهد في إرضاء الناس ومراعاة خواطرهم، فلا يصحّ أن يكون الوحي بهذه الصفة، بل أن هذا القول جدير بأن يلحق بالسياسة لا بالدين. أما أنبياء الله الصادقون فهم الذين يعلنون الحق ولا يتراجعون عنه مهما كانت الأسباب البشرية، لأن روح الله يتكلم فيهم.

(2) وردت هذه الآية مرة أخرى صحيحة لغوياً في الحج 22: 17 ووردت مرة ثالثة خاطئة لغوياً في المائدة 5: 69 حيث تقول: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ; (وصحتها: والصابئين) .

مسخ بعض اليهود قردة وخنازير:

“وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ; (آية 65).

وورد في المائدة 5: 60 “وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ; وورد في الأعراف 7: 163 “وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ “وفي عدد 166 “فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ .

قال المفسرون إن بني إسرائيل كانوا بقرية بأرض أيلة، وحرّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت. فكان إذ دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك، حتى لا يُرى الماء من كثرتها. فإذا مضى السبت تفرّقت الحيتان ولزمت قعر البحر فذلك معنى قوله إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم . فوسوس لهم الشيطان: أن اصطادوا يوم السبت، فاصطادوا وملّحوا وأكلوا وباعوا واشتروا، فمسخهم الله وجعلهم قردةً وخنازير (القرطبي في تفسير البقرة 65).

وحاشا لله أن يجرّب عباده على اقتراف المنكر، ويجعل الحيتان تأتي يوم السبت ولا تظهر في باقي الأيام. قال الإنجيل: إن الله لا يجرّب أحداً بالشرور، ولكن كل واحد يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. (يعقوب 1: 13 ، 14) ومما يدل على ذلك أن الله لما أمطر على بني إسرائيل المن، أمرهم أن يلتقطوا يوم الجمعة ما يكفيهم ليوم السبت، لأنه حجب نزول المن يوم السبت (خروج 16).

قصة البقرة:

“وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَِّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاشّفَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاِقعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَِّينْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَا دَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ; (آيات 67 - 73).

(1) خاض مفسرو المسلمين في شرح هذه القصة، فقالوا إنه كان في بني إسرائيل شيخٌ موسِر، فقتل بنو أخيه ابنه طمعاً في ميراثه، وطرحوه على باب المدينة، ثم جاءوا يطالبون بدمه، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرةً. ورُويَ أن شيخاً صالحاً من بني إسرائيل كان له عِجْلة، فأتى بها الغيضة وقال لهم: إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فشبَّت وكانت وحيدة بتلك الصفات، فساموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير (الكشاف في تفسير البقرة 2: 67).

(2) ومن تتبّع تاريخ بني إسرائيل بالتدقيق لا يجد أثراً لمثل هذه القصة، ولكن يظهر أنه أخذ طرفاً منها من الكتاب المقدس، فورد في تثنية 21: 1 - 9 “إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَمْتَلِكَهَا وَاقِعاً فِي الْحَقْلِ، لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ، يَخْرُجُ شُيُوخُكَ وَقُضَاتُكَ وَيَقِيسُونَ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَ الْقَتِيلِ. فَا لْمَدِينَةُ الْقُرْبَى مِنَ الْقَتِيلِ، يَأْخُذُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِجْلَةً مِنَ الْبَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْهَا، لَمْ تَجُرَّ بِالنِّيرِ. وَيَنْحَدِرُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِالْعِجْلَةِ إِلَى وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ لَمْ يُحْرَثْ فِيهِ وَلَمْ يُزْرَعْ، وَيَكْسِرُونَ عُنُقَ الْعِجْلَةِ فِي الْوَادِي. ثُمَّ يَتَقَدَّمُ الْكَهَنَةُ بَنُو لَاوِي - لِأَنَّهُ إِيَّاهُمُ اخْتَارَ الرَّبُّ إِل هُكَ لِيَخْدِمُوهُ وَيُبَارِكُوا بِاسْمِ الرَّبِّ، وَحَسَبَ قَوْلِهِمْ تَكُونُ كُلُّ خُصُومَةٍ وَكُلُّ ضَرْبَةٍ - وَيَغْسِلُ جَمِيعُ شُيُوخِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبِينَ مِنَ الْقَتِيلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الْمَكْسُورَةِ الْعُنُقُِ فِي الْوَادِي، وَيَقُولُونَ: أَيْدِينَا لَمْ تَسْفِكْ ه ذَا الدَّمَ، وَأَعْيُنُنَا لَمْ تُبْصِرْ. اِغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فَدَيْتَ يَا رَبُّ، وَلَا تَجْعَلْ دَمَ بَرِيءٍ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. فَيُغْفَرُ لَهُمُ الدَّمُ. فَتَنْزِعُ الدَّمَ الْبَرِيءَ مِنْ وَسَطِكَ إِذَا عَمِلْتَ الصَّالِحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ .

فإذا تأملنا في العبارتين لا نجد مناسبةً بينهما، فعبارة التوراة هي قانون، غايته إظهار بشاعة القتل ومعرفة القاتل بواسطة قضاة أقرب مدينة، وإنذار لمن يكتم الحقيقة. وقصة القرآن غير واضحة، فلا عجب إذاقال بنو إسرائيل لموسى لما طلب منهم البقرة: أتتَّخذنا هُزُواً؟ .

اليهود:

“وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّاوَإِذَا خَلَابَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ; (آية 76).

قال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا بلى، قال: وهم يهود، فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم مالكم تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم، أفلا تعقلون؟ وقد جاء في الحديث أن محمداً قال: لا يَدْخُلَنَّ عَلَيْنا قَصبَة المَدِينَةِ إلاَّ مُؤْمِنٌ فقال رؤساء اليهود، اذهبوا فقولوا آمنا، واكفروا إذا رجعتم، قال: فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر “وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ; (آل عمران 3: 72).

فالعبارة القرآنية حكاية عن حادثة وقعت لمحمد وليس فيها شيء من الوحي، وهي تدل على أن المسلمين كانوا يتعلّمون من أهل الكتاب كثيراً (الطبري في تفسير البقرة 2: 76).

تمنِّي الموت:

“قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ; (آية 94)

رُويَ أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا. وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. فكذَّبهم محمد بهذه العبارة. وهذا التكذيب مجرد من الأدلة العقلية المنطقية. وبيان ذلك أن أبناء الله لا يتمنُّون الموت، بل يسلّمون الأمر لله، إن شاء أبقاهم لتمجيد اسمه وإذاعة حمده وشكره، وإن شاء نقلهم إلى دار النعيم. من الغرائب أن ابن عباس روى عن محمد أنه قال: لو تمنّوا الموت لغصَّ كل إنسان بريقه، وما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات. وهو كلام غير معقول.

جبريل:

“قُلْ مَنْ كَانَ عَدُّواً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَّزَلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ; (آية 97).

كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة، وكان ممرّه إليها على مِدْراس اليهود، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم. فقالوا يوماً: ما في أصحاب محمد أحبُّ إلينا منك، وإنّا لنطمع فيك. فقال عمر: والله ما آتيكم لحبِّكم، ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني. وإنما أدخل إليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد. فقالوا: من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة؟ قال: جبريل. قالوا: ذلك عدوّنا. فقال عمر: من كان عدوّاً لله وملائكته ورسُله وجبريل وميكال فإن الله عدوّه . فلما سمع محمد بذلك قال: هكذا نزلت، وقال له: لقد وافقك ربك يا عمر (الطبري في تفسير البقرة 2: 97).

(1) كان من الأفضل أن يقول محمد إن عمر وافق ربّه، لا العكس.

(2) من هذه الحادثة نرى أن محمداً وأصحابه كانوا يلتقطون قصص الأنبياء وغيرها من أهل الكتاب، فقد كان عمر يقف عند حلقات اليهود يلتقط المعارف الدينية منهم.

(3) قال ابن عباس: أقبل اليهود على محمد، فقالوا: ياأبا القاسم، إنّا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبي. فسألوه عما حرَّم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبي، وعن الرعد وصوته، وكيف تُذكّر المرأة وتُؤنَّث، وعمَّن يأتيه بخبر السماء، إلى أن قالوا: فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل. قالوا: ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوّنا. لو قلت ميكال الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطر لكان خيراً. فقال: من كان عدوّاً، إلى آخره (سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن باب سورة الرعد آية 13).

وقد كان غرض اليهود من ذلك إرباكه والتهكم عليه، بأن يقول مرة إن الذي يأتيه بالوحي جبريل، ثم يغيّر قوله بأن يقول ميكائيل، وهكذا يدور بين نقضٍ وإثبات كما فعل في القِبلة.

السحر وسليمان:

“وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُِونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ; (آية 102).

قال مفسِّرو المسلمين إن الشياطين كتبوا السحر على لسان آصف (هذا ما علم آصفُ بن برخيا سليمانَ الملك) وكتبوه ودفنوه تحت كرسيه، وذلك حين نزع الله منه المُلك ولم يشعر بذلك. وقيل إن بني إسرائيل اشتغلوا بتعليم السِحر في زمانه فمنعهم سليمان من ذلك، وأخذ كتبهم ودفنها تحت سريره. فلما مات استخرجها الشياطين وقالوا للناس: إنما مَلَكَكُم سليمانُ بهذا، فتعلَّموه. وأنكر اليهود نبوّة سليمان، وقالوا إنما حصل له هذا المُلك وسُخِّرت الجنُّ والإنس له بسبب السِحر، فردّ عليهم القرآن بقوله: وما كفر سليمان .

وقال ابن عباس: إن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس، عيّروهم وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم وهم يعصونك، فقال الله: أو أنزلكم في الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتكم مثل ما ركبوا. قالوا: سبحانك، ما كان لنا أن نعصيك. قال الله: اختاروا مَلَكين من خياركم أُهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة. فركّب الله فيهما الشهوة، واهبطهما إلى الأرض، وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق، ونهاهما عن الشِرك، والقتل بغير الحق، والزِنا، وشرب الخمر. فكانا يقضيان في النهار ويصعدان في الليل. فأتت إليهما امرأة من أجمل أهل فارس، فافتتنا بها، فحكما لها، بل عبدا الصنم حباً فيها. ولما رغبا الصعود إلى السماء لم تطاوعهما أجنحتهما، فتوجَّها إلى إدريس النبي وسألاه أن يشفع لهما، فخيّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، وهما لغاية الآن معلّقان ببابل من شعورهما إلى قيام الساعة (القرطبي في تفسير البقرة 2: 102).

(1) الخطأ الأول في عبارة القرآن: أنه لم يكن في عهد النبي سليمان شياطين يعلّمون الناس السِحر، وأقبح من ذلك قوله إن الله أنزل على الملَكين السِّحر، يعني الغش. ولما رأى علماء المسلمين قُبْح هذا قال الطبري: إنه سبحانه علّم الملَكين السِحر ليجعلهما فتنة لعباده من بني آدم، ولكنهما كانا يخبران من جاء يتعلّم ذلك بأنهما فِتنة . وحاشا لله أن يضع عثرة للبشر بأن يقيم فيهم من يعلّمهم الضلال وهو القائل: “لَا تَدَعْ سَاحِرَةً تَعِيشُ ; (خروج 22: 18). وأمر في اللاويين 19: 27 برجم كل ساحر. ونهى عن السِحر بقوله: “لَا يُوجَدْ فِيكَ لَا سَاحِرٌ,,, وَلَا مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً، وَلَا مَنْ يَسْأَلُ جَانّاً أَوْ تَابِعَةً، وَلَا مَنْ يَسْتَشِيرُ الْمَوْتَى ; (تثنية 18: 10 و11).

ولا نتصوّر أنّ الله الذي أمر بإبادة الساحر، وملاشاة كل عمل غش وكذب يُنزل على الملَكين الأكاذيب والضلالات للتفريق بين المرء وزوجه، والإنجيل يعلّمنا أنه لما اهتدى الوثنيون إلى المسيحية واقتنعوا بصدقها، أحرقوا كتب سحرهم، وحسبوا أثمانها فوجدوها 50 ألفاً من الفضة (أعمال 19: 19) لأن صناعة السحر هي صناعة غشٍّ وتدليس.

(2) الملائكة معصومون من الخطية لأنهم خدَّام الله القائمون بطاعته. والقرآن هنا يفيد أنهم غير معصومين، مع أنه ورد فيه أيضاً ما يفيد عصمتهم “مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ; (التحريم 66: 6) وفي الأنبياء 21: 20 “يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ; وفي النحل 16: 50 “يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .

غير أن مسألة هاروت وماروت شَوَّشَت عقول المسلمين فتارة قالوا بعصمة الملائكة، وأخرى نفوها عنهم. وهذه القصة مأخوذة من الخرافات الوثنية القديمة.

(3) لم يرد في التوراة أن اليهود نسبوا إلى سليمان الكفر وإنهم لم يؤمنوا به، بل كانوا متعلّقين به وكانت له منزلة رفيعة عندهم. والتوراة تشهد أن الله أعطى سليمان حكمة وفهماً كثيراً، وأن حكمته فاقت حكمة الجميع، وأنه تكلّم بثلاثة آلاف مَثَل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً، وكان الملوك يأتون ليسمعوا حكمته (1 ملوك 4: 30 34) وزادت الثروة في مدته زيادة فائقة حتى كانت الفضة كالحجارة في الكثرة.

(4) من الأخطاء قوله إن الملَكين ظهرا ببابل، وسليمان كان في أورشليم. فكأنه ظن أن بابل هي أورشليم.

لا تقولوا: راعنا :

يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا، وقولوا انظُرْنا، واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (آية 104).

كان المسلمون يقولون لمحمد: راعنا يا رسول الله (من المراعاة) أي ارعنا سمعك وانتبه لكلامنا. وكانت هذه اللفظة سبّاً قبيحاً بلغة اليهود، ومعناها عندهم اسمع لا سمعت! . وقيل من الرعونة إذا أرادوا أن يحمِّقوا إنساناً قالوا: راعنا، يعني أحمق. فلما سمعت اليهود هذه الكلمة من المسلمين، قالوا فيما بينهم: كنا نسبّ محمد سراً فأعلنوا به الآن . فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ، ففطن لها، وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود: لئن سمعنا من أحدٍ منكم يقولها لمحمد لأضربنّ عنقه . فقالوا: أَوَلستم تقولونها؟ فكان ذلك موجباً لمحمد أن يقول: لا تقولوا راعنا، حتى لا يجد اليهود بذلك سبيلاً إلى شَتْمه (المنار في تفسير البقرة 2: 104).

فهذا لا يستلزم وحياً ولا إلهاماً، فإنه تنبيهٌ لأصحابه أن لا يخاطبوه بعبارة تحتمل سبّه. ومع ذلك قالوا إن سعد بن معاذ كان أول من عرف مكيدة اليهود وسبّهم. فلو كان محمد من الذين يوحي الله إليهم حقيقةً، لعرف من نفسه مكائد اليهود بدون سعد!

النسخ:

“مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ; (آية 106).

قالت العرب: إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً. ما يقول إلا من تلقاء نفسه . وكان ذلك سبب ضياع ثقتهم به. وجاء في النحل 16: 101 “وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُأَعْلَمُ بِمَا يُنَّزِلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ “والحق أن كلام الله ثابت لا يتغيّر. قال المسيح: “إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ ; (متى 5: 18) فالعرب قالوا إن محمداً افترى على الله بقوله إنه ينسخ كلامه ويبدّل آياته.

وعن ابن عباس قال: كان ربما ينزل على محمد الوحي بالليل ونسيه بالنهار فأورد قوله ما ننسخ إلى آخره (الطبري في تفسير هذه الآية، وأسباب النزول للسيوطي في سبب نزولها). وعلى كل حال فلا يليق بالله أن يأمر بشيءٍ ثم ينهاهم عنه، فكلامه كذاته وصفاته لا يتغيّر. أما البشر فكلامهم يتغيّر لأن صفاتهم الضعف والجهل والعجز، ولذا أنكرت طائفةٌ من المسلمين إمكان وقوع النسخ في القرآن.

ومن الغرائب أن محمداً كان ينسى بالنهار ما يُوحَى إليه بالليل، فإن الله يعلّم الرسل والأنبياء الحكمة والفهم، ويحفظهم من الخطأ والنسيان. وبما أن محمداً كان ينسى فهو ليس منهم. وقوله إن الله على كل شيء قدير، بعد قوله إن الله ينسخ آياته ليس في محله، فكأنه قال إن الله قادر أن يغيّر ذاته وصفاته، مع أن قدرة الله لا تتعلَّق إلا بالممكنات لا بالواجبات، كما هو مقرَّر في علم الكلام.

وقد أجمع المسلمون على عدم امتناع النسيان من الأنبياء، ومع ذلك قال محمد: نما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون (مشكاة المصابيح تحقيق الألباني حديث 1016). كما أنه نسي أيضاً في أمور مختصة بالمعاملات والعبادات، حتى قيل له في التوبة 9: 43 “عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ “قال المفسرون: اثنتان فعلهما محمد لم يُؤمر بشيء فيهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من أسارى بدر. وورد في الأنفال 8: 67 “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا “وورد في التحريم 66: 1 “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ “وورد في الأحزاب 33: 37 “تَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُوكذا نسيانه في الصلاة، فقام من ركعتين وسلم، حتى سألوه: أقصرتَ الصلاة أم نسيتَ يا رسول الله؟ .

معجزات محمد:

“أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ; (آية 108).

قال اليهود لمحمد: ائتنا بكتابٍ من السماء جملةً كما أتى موسى بالتوراة، أو فجِّرْ لنا أنهاراً، نتبعك ونصدّقك كما فعل موسى، فإنه ضرب الصخرة فانفجرت المياه . فقال لهم: أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟ . وسألوه هذا السؤال مراراً وعجز عن إجابتهم (الطبري في تفسير البقرة 2: 108).

فكان يجب أن يأتيهم بمعجزةٍ واحدةٍ كما فعل موسى وغيره من الأنبياء الصادقين، ولكنه لم يفعل ذلك وأظهر عجزه بقوله: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل؟ . ولم يشكّ أحد من بني إسرائيل في موسى كما شكّ العرب في محمد، لأن محمداً لم يأتهم بمعجزة ولا ببرهان على صحّة دعواه، ولكنه اعتذر وشبّه نفسه بموسى. وشتَّان بينهما! فموسى فعل المعجزات الباهرة، فضرب المصريين عشر ضربات، وشقَّ البحر الأحمر وأغرق المصريين، وفجّر الصخرة ماءً، وكلّم الله تكليماً.

محاولة اليهود ردّ المسلمين:

“وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ ; (آية 109).

قال فنحاحي اليهودي لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، بعد وقعة اُحد: لو كنتم على الحق ما هربتم، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلاً منكم . فلم يرضيا، وتوجّها إلى محمد وأخبراه بذلك، فقال: أصبتما الخير وأفلحتما ثم قال ودّ كثير ..

فهذا ليس بوحيٍ، لأنه حكايةٌ عن أمر حصل لاثنين من أصحابه، وهما أخبراه بما حصل. ولا نستغرب قوله فاعفوا واصفحوا فقد أجمع المفسرون على أن هذه العبارة نُسخت بآية السيف (التوبة 9: 5) (الرازي في تفسير 2: 109).

النصارى واليهود:

“وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفوُنَ ; (آية 113).

لما قَدِم وفْدُ نجران على محمد أتاهم أحبار اليهود وتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيءٍ من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت النصارى لليهود: ما أنتم على شيءٍ من الدين وكفروا بموسى والتوراة (ابن كثير في تفسير البقرة 2: 113).

ولم نسمع أن النصارى كفروا بموسى، ولا أن أقوال الطوائف في حق بعضهم تُعدُّ وحياً. ومن المعلوم أن كل طائفة تقول وقت انفعالاتها ومناظراتها في الأخرى ما لا يجوز النطق به وقت التروّي. وما أحسن ما قاله الخازن: إن الإنجيل الذي تدين بصحته النصارى يحقِّق ما في التوراة من نبوة موسى وما فرض الله فيها على بني إسرائيل من الفرائض، وإن التوراة التي تدين بصحتها اليهود تحقق نبوة عيسى وما جاء به من عند ربه من الأحكام .

وغاية محمد من إيراد هذا الخبر أن يوضّح أن العرب قالوا عنه إنه ليس على شيء، كما قالت اليهود للمسيحيين إنهم ليسوا على شيء، وكما قال المسيحيون لليهود إنهم ليسوا على شيء. ثم قال إن الله يحكم بينهم يوم القيامة، وكان الأولى به أن يحكم بينهم ويوضّح الحق كما فعل المفسرون.

المسيحيون أعانوا بختنصَّر!

“وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ; (آية 114).

قال الطبري وابن كثير والقرطبي في تفسير هذه الآية إنها نزلت في المسيحيين لأنهم أعانوا بختنصر (يُقصد نبوخذ نصر) البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس لبغضهم لليهود. وطبعاً هذا خطأ تاريخي فاضح، لأن نبوخذ نصر هذا كان قبل المسيح بأكثر من 500 سنة.

تغيير القِبلة:

“وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ; (آية 115).

قال ابن عباس: لما هاجر محمد إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود. فاستقبلها بضعة عشر شهراً، وكان يحب قِبلة إبراهيم، وكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل: فولوا وجوهكم شطره. فارتاب في ذلك اليهود وقالوا: ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال: قل لله المشرق والمغرب. فأينما تُولّوا فثمَّ وجه الله. وورد في الحديث أنه لما تحوَّلت القِبلة إلى الكعبة ارتدَّ قومٌ إلى اليهودية وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه وترك قِبلة اليهود التي هي على حق، وقال حُيَيّ بن أخطب وأصحابه من اليهود للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس. إن كانت على هدى، فقد تحولتم عنه. وإن كانت على ضلالة، فقد دنتم الله بها، ومن مات عليها فقد مات على ضلاله . وكان قد مات قبل أن تُحوّل القِبلة إلى الكعبة أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة، وكانا من النقباء، ورجال آخرون. فانطلقت عشائرهم إلى محمد فطيَّب خاطرهم. وقد ذكر القرآن هذه الحادثة في البقرة 142: “سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ “فطعن في الذين اعترضوا عليه، وقال إنهم سفهاء مع أنهم أوفر الناس عقلاً وفهماً. وقال في عدد 143 “وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ “فترى من هنا أن كثيرين تخلّفوا عن محمد لتقلُُّبه في العبادة التي هي أهم أركان الدين. ثم ورد في عدد 144 “فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ; ثم قال: “فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ; عدد 150 (ابن كثير في تفسير البقرة 2: 115).

لما رأى محمد أهل الكتاب يُصلّون صوب بيت المقدس، وكان يعتقد أن ديانتهم صحيحة، وكانت قِبلة العرب هي الكعبة، لم يحب أن يتبع العرب في قِبلتهم ويسير مسراهم، لأن العرب مشركون. فآثر أن يتبع قِبلة اليهود لأنهم أهل كتاب مُنزَل. ولكن لما رأى معارضة اليهود له، ورأى أن الاستمرار على قِبلتهم لا يخدم دعواه، اتَّبع الكعبة وهي قِبلة المشركين، وفضّلها على قِبلة أهل الكتاب، لأن معارضة المشركين ليست في قوة معارضة أهل الكتاب له، لأن أدلّتهم واهنة، فضلاً عن جهلهم. وعلى هذا ورد في عدد 144 “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .

قال المفسرون إن محمداً وأصحابه كانوا يصلّون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أحبّ أن يستقبل بيت المقدس، يسترضي بذلك اليهود. فصلّى إلى بيت المقدس بعد الهجرة 16 أو 17 شهراً. وكان يحب أن يتوجَّه إلى الكعبة لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قِبلتنا . فقال محمد إنه قال لجبريل: وددت لو حوّلني الله إلى الكعبة . فقال جبريل: إنّما أنا عبدٌ مثلك وأنت كريمٌ على ربك، فسَلْ أنت ربَّك . فجعل ينظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القِبلة، فأنزل قد نرى تقلّب وجهك في السماء يعني تردُّد وجهك وصرْف نظرك إلى جهة السماء. ولما تحوَّلت القِبلة إلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد، ما هو إلا شيء ابتدعتَه من تلقاء نفسك، فتارةً تصلي إلى بيت المقدس، وتارة إلى الكعبة. ولو ثبتَّ على قِبلتنا لكُنّا نرجو أن تكون صاحبنا .

واليهود معذورون في معارضته لأنهم رأوه في مبدأ الأمر يصلي جهة الكعبة، ثم اتّبع قِبلتهم، وبعد ذلك عاد إلى قِبلة المشركين. وكانت غايته من هذه التقلبات أن يتبعه اليهود. ولما خاب ظنه تركهم، وكذلك فعل مع المشركين، فمدح اللات والعُزَّى فقال عنهماتلك الغرانيق العلي وإنّ شفاعتهنَّ لتُرتجَى ولما رأى أن ذلك لا يساعده سحب كلامه. فلا عجب إذا لم يتبع اليهود قِبلته،فقال في البقرة 145 “وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ .

معجزات محمد:

“وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ; (آية 118).

قال رافع بن خزيمة لمحمد: إن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله فليكلِّمنا حتى نسمع كلامه، أو اصنع آيةً حتى نؤمن بك . فأجابه: إن اليهود سألوا موسى أن يريهم الله جهرةً. وهو خطأ، لأن اليهود لم يطلبوا هذا من موسى (الطبري تفسير البقرة 2: 118).

مقام إبراهيم:

“وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ; (آية 125).

روى البخاري وغيره عن عمر قال: وافقتُ ربي في ثلاث: قلتُ يا رسولَ اللهِ لو اتخذْتَ من مقام إبراهيم مُصلَّى فاقتبسها وأوردها في قرآنه!ى وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهنّ البَرُّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن فاقتبسها وأوردها في الأحزاب 33: 53. واجتمع على محمد نساؤه في الغيرة فقال عمر لهنّ: عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدّله أزواجاً خيراً منكنّ فاقتبسها وأوردها في التحريم 66: 5.(البخاري كتاب المناقب، باب مناقب عمر).

وفي رواية أنه لما مرّ عمر من مقام إبراهيم قال: يا رسول الله، أليس نقوم مقام خليل ربنا؟ قال: بلى. قال: أفلا نتَّخذه مُصلّى؟ فلم نلبث إلا يسيراً حتى نزلت (أسباب النزول للسيوطي سبب نزول البقرة 2: 125).

(1) لا يجوز أن يُؤخذ كلام الوحي من أقوال الناس أو من رأيهم، وإلا فيلزم أن يكون عمر رسولاً ونبياً، وهو ليس كذلك.

(2) اتَّبع محمد رأي عمر في مسألة نسائه، فأشار عليه أن يمنع الناس عن الدخول عليهن فسمع له، وقال إن الله أوحى إليه بذلك. كما اتَّبع رأي عمر في غيرة نسائه من بعضهن. وكان الواجب على محمد أن يقتصر على إتِّباع رأي عمر في أموره الخاصة، ولا يورد ذلك في القرآن، فإنه لا يترتّب على نصيحة عمر عبادةٌ ولا حكمٌ.

إبراهيم والكعبة:

“وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَِهّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً,,, وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ; (آيات 125 - 127).

قالوا إن مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وهو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت. وقيل كان عليه أثر أصابع رجليّ إبراهيم فاندرست بكثرة المسح. والمراد بقوله بيتي الكعبة، وإن الله استجاب دعاء إبراهيم بأن جعله بلداً آمِناً فلم يقصده جبّار إلا انهزم.

ولكن الحجّاج غزا مكة وخرَّب الكعبة، وخلع ابن الزبير من الخلافة. وادَّعوا أن إبراهيم بنى البيت، ولهم في ذلك أقوال غريبة. فقالوا إن الله بعث السكينة لتدُلَّه على موضع البيت، وهي ريحٌ خجوج لها رأسان تشبه الحية. والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب، وقيل هي المقلوبة في هبوبها. وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فتبعها إبراهيم حيث أتت موضع البيت. فقال ابن عباس: بعث الله على قدر الكعبة، فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلِّها. إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودى منها: يا إبراهيم، أنِ ابْنِ على قدر ظلِّها. لا تزِد ولا تُنقِص . وقيل إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول، وهذا هو معنى ما ورد في الحج 22: 26 “وَإِذْ بَّوَأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ “وكان إبراهيم يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة، وهذا معنى قوله: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت (ابن كثير في تفسير البقرة 2: 125 - 127).

والتوراة لا تُعلِّمنا أن إبراهيم توجَّه إلى الكعبة ولا إلى بلاد العرب، بل خرج مع أبيه تارح من أور الكلدانيين وأقاما في حاران، ثم تغرّب إلى كنعان، وأتى إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، ثم انتقل من هناك إلى الجبل شرقيّ بيت إيل ونصب خيمته. وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق، فبنى هناك مذبحاً للرب ودعا باسم الرب . ثم توجّه إلى الجنوب، ثم تغرّب في أرض مصر، ثم سار من الجنوب بين بيت إيل وعاي إلى مكان المذبح الذي صنعه أولاً. ولما فارق لوطاً سكن في أرض كنعان. ولم يرِد في كتاب الله أنه توجه إلى الكعبة أو بنى البيت.

أية قِبلة؟

“سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ; (آية 142).

الخطاب لأهل الكتاب، فإنهم أكثروا الخوض في أمر القِبلة حين حُوّلت، وادّعت كل طائفة أنّ البر هو التوجّه إلى قِبلتها. فردّ محمد عليهم وقال: ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ. فهذا مثال الناسخ والمنسوخ، وهو من أعظم التناقض.

(راجع تعليقنا على البقرة 115).

الصفا والمروة:

“إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ; (آية 158).

قال المفسرون: كان على الصفا والمروة (وهما جبلان) صنمان يقال لهما أساف ونائلة، فكان أساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً للصنمين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأصنام تحرَّج المسلمون عن السعي بين الصفا والمروة، فاستفهموا من محمد عن ذلك، فأذن لهم، بل قال إنه من شعائر الله.

قال ابن عباس: كانت الشياطين في الجاهلية تطوف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكان بينهما أصنام لهم. فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شيء كنا نصنعه في الجاهلية. فقال لهم: إنه من شعائر الله (أسباب النزول للسيوطي سبب نزول البقرة 2: 158).

الرَّفَث إلى النساء:

“أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ; (آية 187).

كان في ابتداء الأمر بالصوم إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والجِماع إلى أن يصلّي العِشاء الأخيرة، أو يرقد قبلها. فإذا صلّى أو رقد حُرِّم عليه ذلك كله إلى الليلة التالية. فواقع عمر بن الخطاب أهله بعدما صلّى العِشاء، فلما اغتسل لام نفسه، ثم أتى محمداً فقال: يا رسول الله، أعتذر إلى الله وإليك من هذه الخطيئة. إني رجعتُ إلى أهلي بعدما صليتُ العشاء فوجدت رائحةً طيبة، فسوَّلَتْ لي نفسي، فجامعْتُ أهلي . وقام رجالٌ فاعترفوا بمثل ذلك. فقال محمد، مراعاة لعمر وأصحابه: أُحِل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (القرطبي في تفسير البقرة 2: 187) والرَّفث كلام يُستقبح لفظه مع ذكر الجماع ودواعيه، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً.

والوحي الحقيقي يعلّمنا أن الصوم هو التذلل أمام الله بالخشوع، والحزن بسبب الخطايا، فلا محمل للتلذُّذ والتنعُّم بل هو مُنافٍ لذلك.

كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً، وصوم يوم عاشوراء. ثم نُسخ ذلك بفريضة صوم شهر رمضان. قال ابن عباس: أول ما نُسخ بعد الهجرة أمر القِبلة ثم الصوم . وعن عائشة قالت: يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان محمد يصومه في الجاهلية . وعلى هذا أخذ محمد الصوم من الجاهلية ومن المسيحيين، والدليل على ذلك قوله في عدد 183 “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

قال المفسرون إن الصوم عبادة قديمة. قالوا إن صيام شهر رمضان كان واجباً على النصارى فصاموا رمضان زماناً، فربما وقع في الحر الشديد والبرد الشديد. وكان يشقُّ ذلك عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم، فجعلوه في فصل الربيع، ثم زادوا فيه عشرة أيام فصاموا أربعين يوماً.

فاعتدوا عليه:

“فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ; (آية 194).

أما المسيح فقال: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ ; (متى 5: 44). والقرآن مشحونٌ بما يحضُّ على قتل من خالف المسلمين في الدين، فإذا وُجدت آية قرآنية تأمر بمعروفٍ أو إحسانٍ نُسخت بما يحضّ المسلمين على القتال، كما قال علماء المسلمين الذين ألّفوا كتاب الناسخ والمنسوخ، مثل أبي القاسم هبة الله ابن سلامة أبي النصر وابن حزم وغيرهما، فقرروا أن عبارة القتال نَسَخت وألغت كل عبارات الرفق واللين. وعليه فالمعمول به هو قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ; (التوبة 9: 5) وهذه الآية نسخت 124 آية من القرآن تأمر بالعفو. وقوله في التوبة 29 “قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ; إلى أن قال “حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ “وورد في التوبة 73 “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ “وورد في النساء 4: 89 “فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً “ولا يخفى أن محمداً أمر المسلمين بقتال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب.

الحج والعمرة:

“وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ; (آية 196).

أركان الحج خمسة: الإحرام، والوقوفبعرفة،والطواف والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو التقصير. وأركان العُمرة أربعة: الإحرام والطواف والسعي والحلق والتقصير، وهي مأخوذة من مشركي العرب في الجاهلية (جواد علي. المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام المجلد الخامس).

الحج:

“وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ; (آية 197).

كان بعض أهل الجاهلية يقف بعرفة وبعضهم بمزدلفة، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة، وكلٌّ يقول: إن الصواب فيما فعله. فقال محمد: لا شك أنّ الحج في ذي الحجة (عدد 197) قال: “تَزَّوَدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الّزَادِ التَّقْوَى “وسبب هذا أن بعض أهل اليمن كانوا يخرجون للحج من غير زاد، ويقولون: نحجّ بيت ربنا، أفلا يطعمنا؟ فإذا قَدِموا مكة سألوا الناس، وربما أفضى بهم الحال إلى السلب والنهب. فقال لهم محمد فتزوَّدوا وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى وحي! (القرطبي في تفسير البقرة 2: 197).

الاتِّجار في المواسم:

“لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ; (آية 198).

كان العرب في الجاهلية يتّجرون في أسواق تسمّى عُكاظ ومجنة وذا الحجاز. وكانت لها مواسم، فكانوا يقيمون بعُكاظ 20 يوماً من ذي القِعدة، ثم ينتقلون إلى مجنة وهي عند عرفة فيقيمون بها 18 يوماً، 10 أيام من آخر ذي القِعدة، و 8 أيام من أول ذي الحجة، ثم يخرجون إلى عرفة. فلما جاء الإسلام تأثَّموا أن يتَّجروا في المواسم، فأجاز محمدٌ لهم ذلك.

وعن أبي إمامة التيمي قال: كنت أجري في هذا الوجه، وكان الناس يقولون لي إنه ليس لك حج. فلقيت ابن عمر وسألته عن ذلك، فقال: إن لك حجاً. وجاء رجل إلى محمد فسأله عن مثل ذلك فسكت ولم يجبه، وأخيراً قال بالجواز. (ابن كثير في تفسير البقرة 2: 198).

الإفاضة:

“ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ; (آية 199).

قال طاوس: كانوا في الجاهلية يدفعون عن عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن المزدلفة بعد طلوعها. وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير. فأتى محمد فأخَّر الإفاضة من عرفة إلى ما بعد غروب الشمس، وقدم الإفاضة من المزدلفة إلى ما قبل طلوعها.

وثبير جبل بمكة. ومعنى قولهم: أشرق ثبير: ادخل أيها الجبل في الشروق، وهو نور الشمس. وقولهم كيما نغير أي ندفع للنحر. يقال أغار إذا أسرع ووقع في عَدْوه.

قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون أشرق ثبير، فخالفهم محمد فأفاض قبل طلوع الشمس (الإفاضة الدفع بكثرة). قال أهل التفسير: كانت قريش، ومن دان بدينها، وهم الحمُس (سُمُّوا حمساً لتشدُّدهم في دينهم، والحماسة الشدة، وهم قريش وكنانة وخزاعة) يقفون بالمزدلفة (أي المشعر الحرام، وسُميت مزدلفة من الازدلاف، وهو الاقتراب لنزول الناس بها زُلف الليل، وقيل لاجتماع الناس بها. وتُسمّى المزدلفة جمعاً لأنه يجمع فيها بين المغرب والعِشاء) ويقولون نحن أهل الله، وقطّان حرمه، ولا نخلف الحرم ولا نخرج منه. ويتعاظمون أن يقفوا مع سائر الناس بعرفات. فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمُس من المزدلفة. فلما جاء محمد أمرهم أن يقفوا بعرفات مع سائر الناس، ثم يفيضوا منها إلى جمع، وهذا معنى قوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس . وقيل المراد من هذه العبارة أن الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، وأراد بالناس الأمم السابقة (ابن كثير في تفسير البقرة 2: 199).

ذكر الله:

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ; (آية 200).

قال أهل التفسير: كانت العرب في الجاهلية إذا فرغوا من حجّهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، وقيل عند البيت، فيذكرون مفاخر آبائهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم ومناقبهم، فيقول أحدهم: كان أبي كبير الجفنة رحب الفناء يُقري الضيف . ويتناشدون الأشعار في ذلك، ويتكلمون بالمنثور والمنظوم من الكلام الفصيح، وغرضهم الشهرة والسُّمعة والرِّفعة بذكر مناقب سَلَفهم وآبائهم. فلما أتى محمدٌ أمرهم أن يذكروا الله. وفي عدد 200 قال فمِن الناس من يقول: ربَّنا آتِنا في الدنيا، وما له في الآخِرة من خَلاق يعني أن المشركين كانوا يسألون الله في حجّهم الدنيا ونعيمها. كانوا يقولون: اللهم أعطنا إبلاً وغنماً وبقراً وعبيداً وإماءً، وكان أحدهم يقوم فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الفثة كبير الجفنة كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيتَه. ولم يذكر الآخرة بشيء لعدم اعتقادهم بالبعث والنشور، فأتى محمد وأيّد العادة الجارية، وإنما استبدل ذكر الآباء بذكر الله. (أسباب النزول للسيوطي سبب نزول البقرة 2: 200).

الغدر:

“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ; (الآية 217).

بعث محمدٌ عبدَ الله بنَ جحش، وهو ابن عمته، في سَرِيّة في جمادي الآخرة، قبل قتال بدر بشهر. وأمّره على السَّرية، وكتب له كتاباً وقال له: سِرْ على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين. فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فسِرْ على بركة الله تعالى بمن معك من أصحابك، حتى تنزل بطن نخلة، فارصد بها عِيراً لقريش لعلك تأتينا منها بخير . فمضى وأصحابه معه، وكانوا ثمانية رهط، ولم يتخلّف أحدٌ منهم إلى أن وصلوا في بطن نخلة بين مكة والطائف، وفي العير عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وهرقل بن عبد الله المخزوميان. فلما رأوا أصحاب محمد هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم. فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد ذعروا، فاحلقوا رأس رجل منكم، وليتعرَّضْ لهم. فإذا رأوه محلوقاً أمِنوا. فحلقوا رأس عكاشة بن محصن، ثم أشرف عليهم. فلما رأوه أمِنوا. وكان ذلك في آخر يوم من جمادي الآخرة، وكانوا يرون أنه من رجب، فتشاور القوم فيهم وقالوا: متى تركتموهم هذه الليلة يدخلون الحرم ويمتنعون منكم. فأَجمعوا أمرهم في مواقعة القوم. فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهمٍ فقتله، فكان أول قتيل من المشركين، وأُسر الحكم بن كيسان وعثمان، وكانا أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم. واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على محمد، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام وسفك الدماء وأخذ المال. وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين.

ولما سمع محمدٌ بذلك قال لعبد الله بن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام . ووقف العير والأسيرين ورفض أن يأخذ شيئاً من ذلك، فعظُم ذلك على أصحاب السَّرِيّة وكلّموه في ذلك فاستحلّ ما حصل، كما هو منطوق العبارة القرآنية، وأخذ العير فعزل منها الخُمس، وكان أول خُمسٍ في الإسلام، وأول غنيمة قُسِّمت، وقُسِّم الباقي على أصحاب السرية.

والكثير من أقوال القرآن هي لترضية خواطر أصحاب محمد، وموافقتهم على ما تميل إليه أنفسهم. ففي مبدأ الأمر تكدَّر محمد من غدر أصحابه وما أظهروا من الحيل التي احتالوا بها للفتك والسلب والنهب، حتى عيّرهم العرب. ولكن لما رأى كَدَر أصحاب السرية قال إن الله وافق على فعلهم. (السيرة النبوية لابن كثير سرية عبد الله بن جحش).

محمد شرب الخمر:

“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ; (آية 219).

نهى محمد عن شرب الخمر، ثم جاء في حجة الوداع وشربها فقد جاء في كتب السيرة، في حديث رواه عبد الرحمن بن سليمان عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي طاف وهو شاكٍ (يقال شك الدابة: أي لزق عضده بجنبيها فعرجت) على بعير ومعه محجن (أي كل معوج الرأس كالصولجان) ، فلما مرَّ بالحجر استلمه بالمحجن، حتى إذا انقضى طوافه نزل فصلّى ركعتين ثم أتى السقاية (السقاية: هي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء) فقال: اسقوني من هذا. فقال له العباس: ألا نسقيك مما يُصنع في البيوت؟ قال: لا، ولكن اسقوني مما يشرب الناس. فأتي بقدحٌٍ من النبيذ فذاقه، فقطّب، وقال: هلمُّوا فصبُّوا فيه الماء. ثم قال: زد فيه، مرة أو مرتين أو ثلاثاً. ثم قال: إذا صنع أحدٌ بكم هذا فاصنعوا به هكذا.

والحديث رواه يحيى بن اليمان عن الثوري عن منصور بن خالد عن سعيد عن ابن مسعود الأنصاري: أنّ النبي عطش وهو يطوف بالبيت، فأتي بنبيذٍ من السقاية، فشمّه، فقطب، ثم دعا بذَنوب من ماء زمزم، فصُبّ عليه ثم شربه، فقال له رجل: أحرام هذا يا رسول الله؟ فقال: لا. (العقد الفريد ابن عبد ربه باب احتجاج المحِلّين للنبيذ).

الشهوة:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ; (آية 222).

أجمع علماء المسلمين على جواز الاستمتاع بالمرأة الحائض بما فوق السرَّة ودون الرُّكبة، وجوَّز مضاجعتها وملامستها، وبنوا ذلك على ما رُوي عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، وأراد محمد أن يباشرها أمرها أن تتَّزر بإزار في فور حيضها (أي أول الحيض وبدؤه) ثم يباشرها. وأيُّكم يملك أَرْبَهُ كما كان محمد يملك أرْبه؟ (بسكون الراء وهو العضو، وبفتحها وهو الحاجة). وفي رواية قالت: كنت أغتسل أنا ومحمد من إناءٍ واحد، وكلانا جُنُب، وكان يأمرني فأتَّزر فيباشرني وأنا حائض (صحيح مسلم. كتاب الحيض. باب مباشرة الحائض).

أما كلام الوحي الحقيقي في الإنجيل فيقول: “اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لَا بِمَا عَلَى الْأَرْضِ,,, فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ: الّزِنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، الْأُمُورَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَأْتِي غَضَبُ اللّهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ ; (كولوسي 3: 2 - 6).

رخصة إتيان الدُّبُر:

“نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ; (آية 223).

قال ابن عباس: كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب. فكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العالم، فكانوا يقتدون بكثيرٍ من فعلهم. وكان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة. فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم. وكان هذا الحي من قريش يشرِّحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذّذون بهنّ مُقبِلات ومُدبِرات ومستلقيات. فلما قَدِم المهاجرون المدينة تزوّج رجلٌ منهم امرأةً من الأنصار، فذهب أن يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنّا كنا نُؤتَي على حرفٍ، فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني . حتى سَرَى أمرُهما، فبلغ ذلك محمداً فقال: نساؤكم حرثٌ لكم، فأتوا حرثكم أنَّى شئتم أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فنزلت رخصة في إتيان الدُّبُر (أسباب النزول للسيوطي. سبب نزول البقرة 223).

قوله على حرف الحرف الجانب، وحرف كل شيء جانبه. وقوله يشرّحون النساء يُقال شرح فلان جاريته إذا وطئها على قفاها. فمحمد شجَّع أصحابه على إرخاء العنان للشهوات البهيمية ولم يرضَ بعفاف أهل الكتاب. ولما كان محمد ساعياً في تكثير حزبه أتاهم بما يلائم أهواءهم.

قال ابن عباس: جاء عمر إلى محمد فقال هلكتُ. قال: وما أهلكك؟ قال: حوّلْتُ رحليَ الليلة (هو كناية عن إتيان المرأة في غير المحل المعتاد، أو إنه أتاها في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها) فلم يرُدّ محمدٌ عليه. ثم قال: نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم أي مقبلات مدبرات، فخلع محمد وعمر برقع الأدب، وكان الأَولى بمحمد أن يرشد عمراً إلى طهارة الله وقداسته.

واستدل ابن عمر بالآية على إباحة الوطء في الدُّبُر. وقال إنما نزلت رخصة فيه، (أخرجه البخاري وغيره، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري).

كيفية إرجاع المطلّقة:

“فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ; (آية 230).

جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى محمد وقالت: إني كنت عند رفاعة فطلّقني فبَتَّ طلاقي (أي قطعه، والبت القطع) ، فتزوجْتُ بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب (أي طرف الثوب، وهو كناية عن استرخاء الذكر). فتبسّم محمد وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا! حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته . شبّه لذة الجماع بالعسل وهو كناية عنه (مشكاة المصابيح تحقيق الإلباني حديث رقم 3295).

فانظر إلى هذا القانون. فلا يجوز للرجل أن يرجع إلى امرأته إلا إذا جامعت غيره، وكان الأقرب إلى العفّة والعقل والحكمة أن ترجع المرأة إلى زوجها الأول بدون أن يجامعها رجل آخر.

حزقيال النبي والعظام:

“أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ; (آية 243).

قال مفسرو المسلمين: كانت قرية يقال لها دارودان وقع بها الطاعون، فخرج عشرة آلاف، وقيل سبعون ألفاً، وبقيت طائفة. فسلَّم الذين خرجوا وهلك أكثر من بقي بالقرية. غير أن الله أمات من هرب أيضاً ثم أحياهم، بأن مرّ عليهم حزقيل بن بوذي، وهو ثالث خلفاء بني إسرائيل، وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم، فتعجّب من ذلك. فأوحي إليه: نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله، فنادى فقاموا يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إله إلا أنت (القرطبي في تفسير البقرة 2: 243). والغاية من هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرّض للشهادة وحثّهم على الاستسلام للقضاء.

وقد جاءت القصة في سفر النبي حزقيال بالتوراة مختلفة، ففي عصر حزقيال النبي لم يهرب عشرة آلاف من بني إسرائيل من الطاعون كما قال القرآن، ولا الله أماتهم، ولا النبي حزقيال بعثهم من الموت. ولكن الله أمر حزقيال النبي أن ينزل في وسط بقعة كانت موقعاً لمعركة حربية ملآنة عظاماً ويتنبأ على العظام فتحيا، ويضع عليها الله عَصَباً ولحماً ويبسط عليها جلداً ويجعل فيها روحاً فتحيا: ففعل. وبينما هو يتنبأ كان صوتٌ وإذا رعشٌ، فتقاربت العظام وكُسيت بالعصب واللحم وبُسِط الجلد عليها وليس فيها روح. فأمره الله أن يتنبأ عليها ثانية، فتنبّأ فدخل فيها الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً جداً . فأخبره الله أن هذه العظام هي كل بني إسرائيل يقولون: يبست عظامنا وهلك رجاؤنا فقال لهم: هكذا قال السيد الرب: “هَئَنَذَا أَفتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ.,, وأَجْعَلُ رُوحِي فِيكُمْ فتَحْيُونَ ; (حزقيال 37: 1 - 14).

وهدف هذه الرؤيا إنعاش بني إسرائيل وإحياء آمالهم بعد اليأس الذي استولى عليهم في السبي فيما بين النهرين، فشبّه حالتهم بالعظام اليابسة المبدَّدة في القبر. غير أن الله علّمهم من حزقيال 37 أنه على كل شيء قدير، يحيي الرفات ويرجعهم من سبيهم. والواجب الإيمان بمواعيده الصادقة.

طلب بني إسرائيل ملكاً:

“أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ; (آية 246 ، 247).

يقول القرآن إن بني إسرائيل رغبوا أن يستلم ملكٌ زمام أمورهم، وسببه كما قال المفسرون أن العمالقة الذين كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين هاجموا بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء الملوك 440 ، وهذا هو معنى قول القرآن وقد أُخرِجنا من ديارنا وأبنائنا . ونجد في هاتين الآيتين أربعة أخطاء:

(1) قوله إن الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى وصوابه بعد القضاة، فإن حكومة بني إسرائيل كانت من بعد موسى حكومة جمهورية يحكمها قضاة مدة 305 سنوات، وكان عددهم 14 قاضياً، آخرهم صموئيل النبي. ولما شاخ صموئيل جعل ابنيه قاضيين، فلم يسيرا سيرة مرضية، فاجتمع شيوخ إسرائيل وقالوا له: أنت شخت، وابناك لم يقتفيا آثارك، فاجعل لنا ملكاً كسائر الشعوب. فساء صموئيل هذا، فصلّى إلى الرب وطلب منه الإرشاد. فأمره الله أن يجيب طلبهم، وقال له: إنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم . فولى عليهم صموئيلُ النبيُّ شاولَ، وكان شاباً حسناً، وكان أطول كل الشعب. وقد وردت كيفية مسحه وتوليته عليهم في 1 صموئيل 8 - 12.

فقول القرآن إن بني إسرائيل طلبوا من نبيّهم ملكاً بعد موسى، أي من بعد وفاته، كما في البيضاوي،خطأ صوابه: بعد صموئيل آخر قضاة بني إسرائيل.

(2) قولهم: أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا خطأ، فإنه لم يكن قد حدث سبيُ بني إسرائيل، ولا أخرجهم أحدٌ من ديارهم، بل إنهم طلبوا الملك ليقضي لهم ويحارب حروبهم ويخرج أمامهم.

(3) قوله إن هذا الملك هو طالوت، خطأ صوابه شاول.

(4) قوله إن بني إسرائيل لم يكونوا راضين عنه، وإنهم قالوا أَنَّى يكون له المُلك ولم يُؤتَ سَعةً من المال خطأ، فالتوراة تقول إنه لما تعيَّن شاول ملكاً هتف كل الشعب: ليحي الملك. غير أن بعض اللئام قالوا: كيف يخلّصنا؟ فاحتقروه ولم يقدموا له هدية، فغضَّ شاول الطرف عنهم.

التابوت والسكينة:

“وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ; (آية 248).

تختلف أقوال المسلمين عن التابوت تماماً عما جاء بالتوراة. قالوا إن الله أنزل التابوت على آدم فيه صورة الأنبياء، وكان من خشب الشمشاد، طوله ثلاثة أذرع في عرض ذراعين، فانتقل من آدم إلى أن وصل إلى موسى، ثم إلى صموئيل.

واختلفوا في السكينة، فقال علي بن أبي طالب هي ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجهٌ كوجه الإنسان. وقال مجاهد: هي شيء يشبه الهِرَّة له رأس كرأس الهرة وذَنَب كذَنَب الهرة. وله جناحان، وقيل له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرّد وزبرجد، كانوا إذا سمعوا صوته تيقّنوا النصر. وقال ابن عباس: هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقال وهب: هي روح من الله تعالى تتكلم إذا اختلفوا في شيءٍ فتخبرهم ببيان ما يريدون. وقال قتادة والكلبي: هي فعيلة من السكون أي طمأنينة من ربكم، ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا.

واختلفوا في تلك البقية التي ترك آل موسى وآل هارون، فقال ابن عباس: هي رضاض من الألواح وعصا موسى. وقيل عصا هارون وشيء من ألواح التوراة. وقيل كانت العلم والتوراة. وقيل كان فيه عصا موسى ونعلاه، وعصا هارون وعمامته. وقوله تحمله الملائكة قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت. وقال الحسن: كان التابوت مع الملائكة في السماء، فلما وُلِّي طالوتُ المُلك حملته الملائكة ووضعته بينهم، وقيل وضعته في دار طالوت، فأصبح في داره فأقرّوا بمُلكه (الرازي الطبري ابن كثير في تفسير البقرة 2: 248).

وسبب اضطراب أقوال المسلمين عن التابوت والسكينة وغيرها هو عدم اطلاعهم على نصوص كتاب الوحي الإلهي. وحقيقة الأمر هي أن الله أمر موسى عند طور سينا أن يصنع خيمة الاجتماع لتقديم الذبائح والعبادة فيها، قبل بناء هيكل سليمان بنحو 480 سنة. وسُميت خيمة لأنها كانت مصنوعة من ألواح، وسُميت خيمة الاجتماع لأن الله كان يجتمع بشعبه فيها، وتُسمّى أيضاً خيمة الشهادة ومسكن الشهادة، لأن لوحي الشهادة وُضعا فيها، وكانت منقوشة بنقوش بديعة، ومغشاة بالذهب وطولها ثلاثون ذراعاً وعرضها عشر أذرع وارتفاعها عشر أذرع. وكانت هذه الخيمة محاطة بدارٍ غير مسقوفة، مستطيلة الشكل، طولها مائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً.

ونجد في البقرة 2أربعة أخطاء:

(1) قوله إن التابوت تحمله الملائكة، ولم يرد في كتاب الله أن الملائكة حملت التابوت وأدخلته إلى بيت شاول علامةً على الملك، بل العلامة التي خصّه الله بها هي أنه لما مسحه صموئيل حلّ عليه روح الله وتغيّر عما كان عليه وهزم العمونيين.

(2) قوله فيه سكينة وصوابه شخنيا، وهي كلمة عبرية معناها الروح . أو هي مأخوذة من شاخونة ومعناها سكن، وكان اليهود يطلقون هذه اللفظة للدلالة على تجلّي الحضرة الإلهية بين الكروبيم والغطاء، وللدلالة على جلاله الأقدس.

(3) قوله فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون . والحقيقة هي إنه لم يكن فيه سوى لوحيّ العهد.

(4) عدم معرفته اسم النبي الذي مسح شاول، ولا يخفى أن اسمه صموئيل.

جدعون والمديانيون:

“فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ; (آية 249).

قال المفسرون إن الذين اغترفوا فقط هم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، فإنهم لما وصلوا إلى النهر أُلقي عليهم العطش، فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل. وكان من اغترف منه غُرفة كما أمره الله كفَتْهُ لشربه وشرب دوابه وقويَ قلبه وصحَّ إيمانه وعبر النهر سالماً. والذين شربوا منه وخالفوا أمر الله اسودّت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا، وجبنوا، وبقوا على شط النهر. وقيل: جاوزوه كلهم، ولكن الذين شربوا لم يحضروا القتال، ولكن قاتل أولئك القليل (الرازي في تفسير البقرة 2: 249).

ونجد في الرواية القرآنية ثلاثة أخطاء:

(1) لم يأخذ شاول جيشه وكان أمامه نهر، فالذي فعل ذلك كان جدعون أحد قضاة بني إسرائيل، وكان قبل الملك طالوت (أي شاول) بمائتي سنة، هو الذي حشد جيشاً جراراً لمحاربة المديانيين. وقال الرب لجدعون: إن الشعب الذي معك كثير عليّ لأدفع المديانيين بيدهم، لئلا يفتخر إسرائيل قائلاً: يدي خلَّصتني. فنادِ في الشعب بأن يرجع كل من كان خائفاً . فرجع 22 ألفاً وبقي عشرة آلاف. وقال الرب لجدعون: لم يزل الشعب كثيراً. إنزل بهم إلى الماء، وكل من يَلَغُ بلسانه من الماء كما يَلَغُ الكلب فأوقِفْه وحده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب . وكان عدد الذين ولغوا بيدهم 300 رجلاً، وأما باقي الشعب فجثوا على ركبهم لشرب الماء. فقال الرب لجدعون: بالثلاث مئة رجل الذين ولغوا أُخلّصكم، وأدفع المديانيين ليدكم . وقد آتاه الله النصر (قضاة 7).

فطالوت (وصوابه شاول) لم ينزل بجيشٍ إلى نهرٍ ما، وإنما الذي نزل هو جدعون.

(2) اختار الله من جيش بني إسرائيل 300 نفراً فقط، لإظهار قوته، وليوضح لهم أنه هو مُؤتي النصر.

(3) لم يحارب جدعونُ ورجالُه جلياتَ، بل واقعة جليات مذكورة في 1 صموئيل 17 ، فإنه لما كان يصطف بنو إسرائيل والفلسطينيون للقتال كان جليات ينزل ويعيّر بني إسرائيل وديانتهم، فنزل داود وكان فتى، وأتاه بقوة رب الجنود، فضربه بالمقلاع، فارتزَّ في جبهته فسقط وقطع داود رأسه.

لقد خلط القرآن قصة جدعون مع المديانيين بقصة شاول وجليات.

أعظم آيات القرآن:

“ا للَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ; (آية 255).

يعتبر المسلمون هذه الآية أعظم آيات القرآن. وقد ورد في تفسير ابن كثير عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رجلٌ من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني، فإن صرَعْتَني علّمتُك آيةً إذا قرأتَها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان؟ فصارعه فصرعه، فقال: إني أراك ضئيلاً شخيتاً (نحيف الجسم) كأن ذراعيك ذراعا كلب. أفهكذا أنتم أيها الجنّ كلكم، أم أنت من بينهم؟ فقال: إني بينهم لضليع فعاوِدْني. فصارعه، فصرعه الإنسي، فقال: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرأها أحدٌ إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خيخ (ضِراط) الحمار . فقيل لابن مسعود: أهو عمر؟ فقال: من عسى أن يكون إلا عمر! (ابن كثير في تفسير الآية).

ونحن نقول إن الوحي الصادق أبعد من أن تعلِّمه الشياطين. فالله لا يسمح للشياطين أن يحملوا كلامه للبشر.

إبراهيم ونمرود:

“أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبَرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ; (آية 258).

أجمع علماء الإسلام على أن الذي حاجَّ إبراهيم هو نمرود بن كنعان الجبار، وكانت تلك المحاجّة من طغيان الملك. قال مجاهد: مَلَك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران. فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصّر .

وقالوا: لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه، فقال: مَنْ ربك الذي تدعونا إليه؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت . وقيل إن الناس أصابهم القحط على عهد نمرود وكان الناس يمتارون من عنده الطعام، فكان إذا أتاه أحد يمتار سأله: من ربك؟ فيقول أنت، فيُميره. فخرج إبراهيم إليه يمتار لأهله الطعام، فأتاه فقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت. قال: أنا أُحيي وأُميت. قال إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبُهت نمرود وردّه بغير طعام. فرجع إبراهيم إلى أهله، فمرّ على كثيب رمل أعفر، ووضع في متاعه فوجده أهله طعاماً.

وقد عاقب الله نمرود بأن فتح الله عليه باباً من البَعُوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدةٌ منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عَتِيدَة لذلك، فبقى في البلاء أربعين يوماً. (القرطبي في تفسير البقرة 2: 258)

والتوراة تقول إن إبراهيم كان خليل الله وإنه أبو المؤمنين، وإن الله اصطفاه، ولكنها لم تقل إنه أُلقي في النار وإنه فعل المعجزات المنسوبة إليه هنا.

ولم يكن نمرود معاصراً لإبراهيم، بل كان سابقاً لإبراهيم بنحو 300 سنة، كما يقول سفر التكوين.

موت رجل مئة سنة:

“أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهَيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ َلَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَا نْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ; (آية 259).

اختلفوا في والذي مرَّ . فرُوي عن مجاهد أنه كان كافراً شكّ في البعث. وهذا قول ضعيف لقوله كم لبثْتَ والله لا يخاطب الكافر، ولقوله آيةً للناس وهذا لا يُقال في الكافر، وإنما يُقال في الأنبياء. وقال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي: هو عُزَيرْ بن شرخيا، وإنه لما رجع إلى منزله كان شاباً وأولاده شيوخاً، فإذا حدّثهم بحديث قالوا حديث مائة سنة. ولما قال لهم أنا عُزير كذّبوه، فقرأ التوراة من الحفظ، ولم يحفظها أحدٌ قبله. فعرفوه بذلك، وقالوا هو ابن الله. وأمره الله أن ينظر إلى حماره كيف تفرَّقت عظامه، أو قال له انظر إليه سالماً كما ربطتَه حفظناه بلا ماءٍ وعلفٍ، كما حفظنا الطعام والشراب من التغيير. وقال وهب بن منبّه: هو إرميا بن حلقيا من سبط هارون.

واختلفوا في القرية فقيل هي بيت المقدس، وقيل هي ديرسابر أباد، في فارس. وقيل سلماباد قرية من نواحي جرجان، وقيل هي دير هرقل بين البصرة وعسكر مكرم (ابن كثير القرطبي الطبري في تفسير البقرة 2: 259).

ولو كان لهذه القصة أصل في كتب الوحي الإلهي لذَكَر اسم هذا الشخص، ووفَّر على المفسرين الظن والتخمين.

ومن تأمل في التوراة والإنجيل، لا يجد فيها شيئاً من ذلك، ولكن نجد لها أصلاً في كتب اليونان القديمة. وهي حكاية أبيمنيدس، الكاهن والشاعر اليوناني، وأدرجه البعض في سلك علماء اليونان السبعة عوضاً عن برياندر، وُلد في كريت في القرن السابع قبل المسيح، فروى قومه وهم وثنيون أنه نام نحو 57 سنة في مغارة، وفي أثنائها نزل عليه الوحي. فلما استيقظ (أو لما بُعث كما قال القرآن) انذهل من تغيُّر أحوال أهل وطنه، وقيل إنه عاش نحو 199 سنة. وفي سنة 569 ق م سافر إلى أثينا، بدعوةٍ من سكانها الذين تضايقوا من الحرب والطاعون، فأخبرهم أئمة ديانتهم أن سبب ذلك هو أنهم قتلوا أنصار سولون في هيكل آلهتهم، والواجب أن يكفّروا عن ذنبهم، فاستدعوا أبيمنيدس المشهور بالحكمة ًوالصلاح ليستعطف الآلهة، فأتى وقدّم الذبائح وأجرى الرسوم الدينية، فوقف الطاعون. ثم عاون سولون على تنقيح نظامات أثينا. ولما عزم على العودة إلى وطنه لم يرْضَ أن يقبل هدايا، ولم يطلب سوى غصن شجرة زيتون.

إبراهيم والذبيحة:

“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ; (آية 260).

مهما حاول المفسرون في الاعتذار عن شكّ إبراهيم في قدرة الله على إحياء الموتى، فعبارة القرآن ناطقة بوقوع الشكّ منه في قدرة الله، وإلا لما قال: رب أرني كيف تحيي الموتى. وعن أبي هريرة أنّ محمداً قال: نحن أحق بالشكّ من إبراهيم، إذا قال: ربي أرني كيف تحيي الموتى. قال: أوَلم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي. ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبتُ الداعي . قالوا لما نزلتهذه الآية الواردة في القرآن قال قوم: شكّ إبراهيم ولم يشكّ محمد فردّ ليتستَّروا به على شكوك محمد(ابن كثير في البقرة 2: 260).

قالوا: والأربعة الطيور التي قدمها إبراهيم هي أنه أخذ طاووساً وديكاً وحمامة وغراباً، وقيل نسراً بدل الحمامة. قال ابن عباس: وجعل كل طائرٍ أربعة أجزاء وجعلها على أربعة جبال، على كل جبلٍ رُبعاً من كل طائر، وقيل جزَّأها سبعة أجزاءٍ ووضعها على سبعة جبال وأمسك رؤوسهنّ بيده، ثم دعاهنّ: تعالين بإذن الله، فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل عظم يطير إلى العظم الآخر، ثم أقبلت سعياً إلى رؤوسهن (ابن كثير في البقرة 2: 260).

وكتاب الله يعلّمنا أن إبراهيم لم يشكّ في قدرة الله، بل يُضرَب بإيمانه المثل، ولذا سُمّي أبو المؤمنين. ولما أمره الله أن يقدم ابنه وحيده ذبيحةً أطاع الأمر، مع أنه كان هَرِماً وامرأته متقدمة في السن، ولكنه آمن أن الله قادرٌ أن يقيم من الحجارة أولاداً له. ولما وعده الله أنه سيُكثر نسله ويكون كنجوم السماء في الكثرة آمن بالله، فوعده أن يعطيه أرض الميعاد، ثم أعطاه هذه العلامة وهي أن يأخذ عجلة ثلاثية وعنزة ثلاثية وكبشاً ثلاثياً ويمامةً وحمامة. فأخذها وشقَّها من الوسط، وأما الطير فلم يشقه. ثم غابت الشمس فصارت العتمة، وإذا تنّور دخانٍ ومصباح نارٍ يجوز بين تلك القطع (سفر التكوين 15). فهذه الذبيحة هي لتأييد العهد الذي عقده الله مع إبراهيم، فكانت العادة عند قطع عهد أن يذبحوا الذبيحة إشارة إلى أن من ينكث العهد يمزّقه سيف العدل الإلهي، فالله سبحانه تفضّل وأعطاه هذه العلامة لتأييد العهد وتثبيت إيمانه، وإنه سينجز ما وعده به.

وفي القصة أربعة أخطاء (1) في قوله إن إبراهيم طلب من الله أن يريه كيف يُحيي الموتى وإنه شكّ بالله. (2) في قوله إن الله أمر أن يأخذ أربعة طيور، والحقيقة خلاف ذلك (3) في قوله إن الطيور أتت سعياً. (4) في قوله إن الله أمر أن يضع كل جزءٍ منها على جبل.

وواضح أن الأحوال لم تساعد محمداً على تحرّي الحقائق، فلم يكن عصره عصر تمدّنٍ ومطابع، كما أن كُتَّابه كانوا يتصرَّفون فيما يُمليه عليهم. ذكر في السيرة للعراقي أن كتّابه كانوا اثنين وأربعين، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وهو أول من كتب له من قريش بمكة ثم ارتد، وصار يقول: كنت أصرف محمداً حيث أريد. كان يملي عليّ عزيز حكيم، فأكتب عليم حكيم فيقول: نعم، كلٌّ صواب . ويقول: اكتب كيف شئت . ولما فضحه هذا الكاتب أورد في القرآن قوله: “فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ; (الأعراف 7: 37). ولما كان يوم الفتح أمر محمدٌ بقتله، ففرَّ إلى عثمان بن عفان لأنه كان أخاه من الرضاعة (أرضعت أمُّه عثمانَ) فغيَّبه عثمان عنه، ثم جاء به بعد ما اطمأن الناس واستأمن له محمداً، فصمت محمد طويلاً ثم قال نعم . فلما انصرف عثمان قال محمد لمن حوله: ما صمتُّ عنه إلا لتقتلوه .

(راجع تعليقنا على الأنعام 6: 93).

مداراة محمد لقومه:

“لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ; (آية 286).

روى أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: لما أورد محمد قوله وإنْ تُبْدوا ما في أنفسِكم أو تُخْفوه يحاسِبْكم بهِ اللهُ (عدد 284) اشتدّ ذلك على أصحابه، فأتوا محمداً ثم جثوا على الرُّكب فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا. غفرانك ربنا وإليك المصير . فلما فعلوا ذلك نسخها الله بقوله: لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها (أسباب النزول للسيوطي سبب نزول البقرة 2: 286).

فمن هنا ترى أن محمداً كان يتقلّب مع قومه ويدور معهم حسب ميولهم، وهو من أنواع السياسة، ليرضيهم. والله يرسل أنبياءه الصادقين ليعلّموا الناس إرادته الصالحة، مهما كانت ضد ميولهم وطباعهم.

الصفحة الرئيسية