التالي

بحث ثالث

القرآن ينسخ التحدّى بإعجازه

وكانت آية البقرة (23) آخر عهد للتحدى العابر باعجاز القرآن، بعد عجز محمد عن معجزة تشهد له ويدينون بها. ولمّا اصطدم القرآن بأهل الكتاب من اليهود، وقف التحدّى بالقرآن عند حدّه.

والتحدى بإعجاز القرآن يوجّه بيسر الى المشركين؛ ولكنه لا يوجه بحال الى أهل الكتاب، لأن القرآن " تفصيل الكتاب" (يونس 37)، ولأن الكتاب "إمام" القرآن فى الهدى والبيان (هود 17 ؛ الاحقاف 12). لذلك لمّا وجّه الدعوة الى أهل الكتاب، نسخ القرآن للحال تحدّيه بالاعجاز فى الهدى والبيان.

أولاً: نسخ القرآن تحدّيه بالإعجاز فى الهدى والأحكام

  يذكر أهل الكتاب أن "التبديل" فى آى القرآن (النحل 101) و "المحو" فيها (الرعد 39) سبّبا ردة أولى وثانية بين جماعة محمد فى مكة. ولاحظوا فى المدينة واقع النسخ فى احكامه، والنسيان المقصود من الله أو النبى فى آية، فأخذوا يشنّعون على النبى بين جماعته، ويقولون: " إن محمداً يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غداً" (الجلالان)، فنزلت: " ماننسخ من آية - أو ننسها - نأت بخير منها، أومثلها؛ ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير" (البقرة 106).

قال السيوطى: " النسخ، ممّا اختصّ الله به هذه الأمة" . وهذه الظاهرة القرآنية تنسخ اعجاز القرآن فى الأحكام. أجل إنه تعالى على كل شىء قدير؛ لكنه حكيم عليم يعرف ما ينزّل من أحكام: فكيف به ينزّلها اليوم وينسخها غداً؟ ينزّلها فى سورة وينسخها فى أخرى؟ ينزّلها فى آية وينسخها فى آية أخرى من السورة نفسها، وحتى فى الآية التى تليها، كما نسخ آية الوسوسة (البقرة 284) بآية التوسعة فيها(البقرة 286).

من المعروف فى التشريع العام " إنما تبدّا الأحكام بتبدّل الأزمان " : والزمن النبوى فى المدينة واحد، من عشر سنين، فلا يصح النسخ فيه. فقد يصح النسخ من نبى الى نبى، ومن كتاب الى كتاب؛ ولكن لا يصح النسخ مع النبى نفسه، وفى القرآن ذاته لأحكامه، وأحياناً فى السورة الواحدة. فلا مراء ان ظاهرة النسخ القرآنية تنسخ اعجاز القرآن فى الأحكام. ولذلك سكت القرآن نهائياً عن التحدى بإعجازه!

ثانياً: نسخ القرآن تحديه بالإعجاز فى البيان والتبيين

قارن أهل الكتاب من اليهود القرآن بالكتاب فوجدوا أكثره من المتشابه، فأخذوا يطعنون فى صحة الرسالة وصحة القرآن. فردّ القرآن عليهم أولاً ان التوراة والانجيل والقرآن هى الكتاب نفسه نزل على موسى وعيسى ومحمد، يصدّق بعضه بعضاً "آلم. الله، لا إله إلاّهو، الحى القيوم، نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والانجيل من قبلُ هدى للناس. وأنزل الفرقان" (آل عمران 1 – 4). فكتاب الله فى التوراة والانجيل والقرآن واحد، وهداه واحد، واعجازه فى جميعها واحد، لأنها جميعاً " تنزيل الحى القيوم" على حدّ تعبيره.

لكن القرآن امتاز على التوراة والانجيل بالمتشابه فى أوصافه وأخباره. واضطر الى اعلان هذه الظاهرة القرآنية: "هو الذى أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب، وأخر متشابهات. فأمّا الذين فى قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة. وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلاّ الله. والراسخون فى العلم يقولون: آمنّا به، كلُ من عند ربنا. وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب" (آل عمران 7).

إن المتشابه من الاوصاف والأخبار، فى البيان والتبيين، هو أيضاً "ممّا اختص الله به هذه الأمة". فلا التوراة، ولا الانجيل، ينسبان لنفسيهما أن فيهما "آيات متشابهات". إنما ينسب القرآن لنفسه هذه الميزة، لأنها أمر واقع فيه.

ففى آية المتشابه من القرآن خمسة تصاريح تنسخ اعجازه فى البيان:

1) ففيه "أخر متشابهات"، "لا يُفهم معناها" بنفسها (الجلالان).

•  " ما تشبه منه" الذى يتعقّبه الذين فى قلوبهم مرض.

•  التصريح الضخم: " وما يعلم تأويله إلاّ الله" - وكتاب لا يعلم تأويله إلاّ الله، ليس بمعجز للمخلوقين، لأنه من البديهة ان " ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يتصوّر التحدى به" ، "ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها" (البقرة 286).

•  حتى "الراسخون فى العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا". اى نؤمن بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه . (كل) اى المحكم والمتشابه من عند ربنا (الجلالان).

•  "وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب"، بالتفويض به الى الله.

إن المتشابه فى القرآن هو أكثره؛ وقد لا يتعدى المحكم آيات الأحكام من الماية والخمسين الى الخمسماية آية. فأكثر القرآن من المتشابه" الذى لا يعلم تأويله إلاّ الله": ففى هذا الاعلان القضاء على كل دعوى اعجاز فى القرآن. فإذا كان " الراسخون فى العلم" ، اساتذة النبى فى عِلْم الكتاب " يقولون: آمنا" اى يؤمنون بالمتشبه، ولا يعلمون معناه وتأويله، فسائر العالمين يكون القرآن عندهم مغلقاً لا معجزاً؛ والكلام البليغ المعجز ما تسابق معانيه ألفاظه الى الادراك. فليس المتشابه فى القرآن، الذى " لا يعلم تأويله إلاّ الله" والذى يعجز " الراسخون فى العلم" عن فهمه، من الاعجاز البيانى فى شىء. وهو أكثر القرآن. وهذا الحكم ليس منا، بل بنص القرآن القاطع، الذى به نسخ دعوى الاعجاز العابرة.

فبآية آل عمران (7) نسخ القرآن اعجازه فى البيان. وبآية النسخ (البقرة 106) نسخ القرآن اعجازه فى الأحكام والتشريع. وليس القرآن بمعجزة فى الهدى، لأنه تابع للكتاب "إمامه" وهكذا نسخ القرآن نفسه دعوى اعجازه العابرة.

فالواقع القرآنى يشهد: أوّلاً: ان التحدّى بالاعجاز جاءَ متأخراً، عقب العجز عن معجزة طول العهد بمكة. ثانياً: ان دعوى الاعجاز كانت عابرة ، من آخر العهد بمكة، وأول العهد بالمدينة. ثالثاً: ان القرآن نفسه سكت نهائياً عن التحدى بإعجازه لمّا اصطدم مع أهل الكتاب بالمدينة. فلا ذكر له بعد آية البقرة (23). فكان التحدى مقصوراً على المشركين. رابعاً: ان العرب لم تقبل التحدى بالاعجاز لأنه ليس فيه " سلطان مبين" مثل "آية من الأنبياء الأولين" . خامساً: ان محمداً نفسه شك من اعجاز القرآن كمعجزة له. وفضّل على الاعجاز من قبل ومن بعد شهادة " مَن عنده علم الكتاب"إذ هى عنده من شهادة الله. سادساً: ان القرآن نفسه نسخ التحدى بإعجازه حين اعلن واقع النسخ فى أحكامه، والمتشابه فى أخباره وأوصافه. وما كان النسخ صفته، والمتشابه ميزته لا يكون معجزاً. سابعاً: ان التحدى كان دائماً " بمثله" ؛ والقرآن يصرّح بأن "مثله" موجود عند النصارى من بنى اسرائيل (الاحقاف 10). وهذا الكشف الصريح عن سرّه يلغى سرّ اعجازه. فالواقع القرآنى يشهد أن لا معجزة فى اعجاز القرآن.

(1) الاتقان 2 : 20

(1) السيوطى: الاتقان 2 : 2 – 3

التالي