التالي

بحث حادي عشر

" في مجمله ومبينه" (الإتقان2: 18)

ننقل هذا الفصل أيضاً عن السيوطي لأنه مثال على الاعجاز في البيان.

أولاً: تسعة أبواب من المجمل غير المبين

" المجمل : ما لم تتضح دلالته . وهو واقع في القرآن، خلافاً لداود الظاهري. وفي جواز بقائه مجملاً أقوال؛ أصحها : لا يبقى المكلف بالعمل به، بخلاف غيره. وللاجمال اسباب :

"منها الاشتراك نحو (والليل اذا عسعس) فإنه موضوع (لأقبل وأدبر). ونحو (ثلاث قرؤ) فإن القرء موضوع للحيض والطهر. ونحو (يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) يحتمل الزوج والولي فإن كلاً منهما بيده عقدة النكاح.

" ومنها الحذف نحو (وترغبون أن تنكحوهن ) يحتمل (في) و (عن) .

" ومنها اختلاف مرجع الضمير نحو (اليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه) يحتمل عود ضمير الفاعل في (يرفعه) الى ما عاد عليه ضمير (اليه) وهو الله؛ ويحتمل عودة الى العمل، والمعنى أن العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب؛ ويحتمل عودة الى الكلم الطيب اي ان الكلم الطيب، وهو التوحيد، يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح العمل إلا مع الإيمان.

" ومنها احتمال العطف الاستئناف نحو (وما ي ع ل م تأويله، إلا الله، والراسخون في العلم، يقولون)– أزيد عليه قوله : " شهد الله... أن (إن) الدين عند الله الإسلام " (آل عمران 18- 19).

" ومنها غرابة اللفظ نحو (فلا تعضلوهن ) .

" ومنها عدم كثرة الاستعمال نحو (يلقون السمع ) اي يسمعون؛ (ثاني عطفه ) اي متكبر؛ (فأصبح يقل ّ ب كف ّ يه ) أ ي نادماً.

" ومنها التقديم والتأخير نحو (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى ) اي (ولولا سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزماً). ونحو (يسألونك كأنك حفي عنها) (يسألونك عنها كأنك حفي) .

"ومنها قلب المنقول نحو (طور سينين ) اي سينا؛ ونحو (على ال ياسين) اي (على الياس) .

" ومنها التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر نحو (للذين استضعفوا) اي (لمن آمن منهم) " .

تلك الأبواب التسعة في ما جاء من القرآن مجملاً لا تتضح دلالته بنفسه، بل بغيره من القرائن اللفظية أو المعنوية القريب ة أو البعيدة، فهل هي من "دلائل الاعجاز" في بيان القرآن؟

ثانياً: من المبين بآية أحرى في غير موضع

في المبي ّ ن : " قد يقع التبيين مفصلاً نحو (من الفجر) بعد قوله (الخ ي ط الأبيض من الخيط الأسود ) . ومنفصلاً في آية أخرى نحو (فإن طل ّ قها فلا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجاً غيره) بعد قوله (الطلاق مرتان). فإنها بينت ان المراد بة الطلاق الذي تملك الرجعة بعده، ولولاها لكان الكل منحصراً في الطلقتين.

" وقوله (وجوه يومئذ ٍ ناضرة، الى ربها ناظرة) دال على جواز الرؤية. ويفسره ان المراد بقوله (لا تدركه الابصار) اي لا تحيط به. قلت : قد تنظر الى الله، ولكن لا تراه ! بل ترى مصدر قدرته ومكان عرشه في يوم الدين.

" وقوله (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم)، فسره قوله (حرمت عليكم الميتة...)

" وقوله (مالك يوم الدين ) فسره قوله (وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين )

" وقوله (فتلقى آدم من ربه كلمات ) فسره قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا)

" وقوله (واذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ) فسره قوله في آية النحل (بشر بالانثى ) .

"وقوله أوفوا بعهدي، أوف بعهدكم ) . قال العلماء : بيان هذا العهد قوله : (لئن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي ) فهذا عهده؛ وعهدهم (لأكفرن عنكم سيئاتكم ) .

" وقوله ( صراط الذين انعمت عليهم ) بينه قوله : (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين... ) " .

تلك أمثلة ثمانية لبيان القرآن بآية أخرى منه . فهل الكلام الذي لا يبين إلا بكلام آخر من زمن آخر هو من معجز البيان؟

ثم أضاف السيوطي : " وقد يقع التبيين بالسنة ، مثل (وأقيموا الصلاة)، (وآتوا الزكاة)، (والله على الناس حج البيت). وقد بينت السنة أفعال الصلاة والحج، ومقادير الزكوات في أنواعها ".

فقرآن لا تستبين أحكامه إلا بالسنة، هل هو من الاعجاز المطلق في البيان والتبيين؟

ثالثاً: " اختلف في آيات أهي من قبيل المجمل أو لا":

" ومنها آية السرقة (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاءً بما كسبا- (المائدة38) : قيل : انها مجملة في اليد لأنها تطلق على العضو الى الكوع والى المرفق والى المنكب؛ وفي القطع لأنه يطلق على الإبانة وعلى الجرح؛ ولا ظهور لواحد من ذلك؛ وإبانة الشارع من الكوع تبين ان المراد ذلك. وقيل : لا إجمال فيها لأن القطع ظاهر في الإبانة.

"ومنها (امسحوا برؤوسكم). قيل : انها مجملة لترددها بين مسح الكل والبعض؛ ومسح الشارع الناصية مبين لذلك. وقيل : لا، وانما هي لمطلق المسح الصادق بأ ق ل ما ينطلق عليه الاسم، وبغيره.

" ومنها (حرمت عليكم امهاتكم ) قيل : مجملة، لأن اسناد التحريم الى العين لا يصح، لأنه انما يتعلق بالفعل فلا بد من تقديره هو محتمل لأمور لا حاجة الى جميعها ولا مرجح لبعضها. وقيل : لا، لوجود المرجح وهو العرف، فإنه يقضي بأن المراد تحريم الاستمتاع بوطء ونحوه. ويجري ذلك في كل ما علق فيه التحريم والتحليل بالأعيان .

" ومنها (وأحل الله البيع وحرم الربا ) . قيل : انها مجملة، لأن الربا الزيادة، وما من بيع إلا وفيه زيادة، فافتقر الى بيان ما يحل وما يحرم. وقيل : لا،لأن البيع منقول شرعاً، فح ُ مل على عمومه، ما لم يقم دليل التخصيص. وقال الماوردي للشافعي : في هده الآية أربعة أقوال... لكن لما قام بإزائه من الس ُ ن ّ ة ما يعارضه تدافع العمومان ولم يتعين المراد إلا بالسنة.

"ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية نحو (أقيموا الصلاة)، (وآتوا الزكاة)، (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، (ولله على الناس حج البيت ) . قيل : انها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك، والحج لكل قصد؛ والمراد بها لا تدل عليه اللغة وافتقر الى البيان. وقيل : لا، بل يحمل على كل ما ذكر، إلا ما خص بدليل".

ويختم بهذا التنبيه: " قال ابن الحصار : من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد. قال : والصواب أن المجمل اللفظ المبهم الذي لا يفهم المراد منه؛ والمحتمل اللفظ الواقع بالوضع الأول على معن ي ين مفهومين فصاعداً، سواء كان حقيقة في كلها أو بعضها. قال : والفرق بينهما ان المحتمل يدل على أمور معروفة واللفظ مشترك متردد بينهما؛ والمبهم (المجمل ) لا يدل على أمر معروف. مع القطع بأن الشارع لم يفو ّ ض لأحد بيان المجمل، بخلاف المحتمل ".

تلك الآيات الخمس موجز التشريع التعبدي والاقتصادي. والمراد بها لا تدل عليه اللغة وافتقر إلى البيان. مع القطع بأن الشارع لم يفوض لأحد بيان المجمل فيها. فنحن بإزاء بيان تشريع لا يستبين من نفسه، وقد يقوم بإزائه من السنه ما يعارضه. ولم يتعين المراد منه إلا بالس ُ ن ّ ة. وبيان بحاجة إلى بيان، هل هو من الاعجاز في البيان؟

التالي