التالي

بحث ثاني عشر

"في منطوقه ومفهومه " (الإتقان2: 31)

وه ذ ا فصل آخر يدل على مدى الاعجاز في حرف القرآن وبيانه.

أولاً: منطوقه الظاهر بحاجة الى بيان وتأويل

" المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص نحو (فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة اذا رجعتم، تلك عشرة كاملة)- أو مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً فالظاهر، نحو ( فمن اضطر ّ غير باغ ولا عاد ) فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب. ونحو (ولا تقربوهن حتى يطهرن) فإنه يقال للانقطاع طهراً وللوضوء والغسل، وهو في الثاني أظهر"- والاحتمال على الم ر جوح على ثلاثة أنواع:

"وإن حُمل على المرجوح لديل فهو تأويل. ويسمى المرجوح المحمول عليه مؤولاً، كقوله (وهو معكم أينما كنتم ) فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات، فتعين صرفه عن ذلك وحمله على القدرة والعلم والحفظ والرعاية. وكقوله (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة ان يكون للانسان أجنحة، فيحمل على الخضوع وحسن الخلق"

- وهذا هو مجاز القرآن ؛ وهو أكثره.

" وقد يكون مشترك اً بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز ويصح حمله عليهما جميعاً، فيحمل عليهما جميعاً- سواء قلنا بجواز استعمال اللفظ في معنييه أو لا، ووجهه على هذا ان يكون اللفظ قد خوطب به مرتين، مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا. ومن أمثلته (ولا ي ُ ضار كاتب ولا شهيد) فإنه يحتمل (ولا يضارر) – بالكسر-الكاتب والشهيد صاحب الحق بجور فى الكتابة والشهادة؛ (ولا يُضارَر) – بالفتح - اى لا يضارهما صاحب الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما، واجبارهما على الكتابة والشهادة.

" ثم ان توقفت صحة دلالة اللفظ على اضمار سميت دلالة اقتضاء نحو (واسأل القرية) أي أهلها.

"وان لم تتوقف، ودل اللفظ على ما لم تقصد به سميت دلالة اشارة، كدلالة قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الر َ ف َ ث الى نسائكم) على صحة صوم من أصبح جنباً، إذ إباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم جنباً في جزء من النهار".

ان البيان الذي يكون أكثره بحاجة الى ت أويل ودلالة اق ت ضاء ودلالة إشارة، لأنه يفيد معنى مع احتمال غير احتمالاً مرجوجاً، لا يكون من معجز البيان. ان البيان الذي يفيد معنى لا يحتمل غيره، فهو قليل جداً في القرآن كما يدل عليه خلافهم في ندور النص : " وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جداً في الكتاب والسنة. وقد بالغ إمام الحرمين وغيره في الرد، قال : لأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال؛ وهذا، وان عز حصوله بوضع الصيغ رداً الى اللغة، فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية". وهكذا يحصل الاجماع بندور النص جداً في الكتاب والسنة، بوضع الصيغ رداً الى اللغة. والبيان الذي بحاجة الى القرائن الحالية والمقالية لظهور معناه ليس من الاعجاز في البيان. والكتاب العقيدة والشريعة الذي في منطوقه " يندر النص جداً ، هل يكون من معجز البيان ؟

بسبب هذا الواقع القرآني تواتر القول بأن الأحكام الشرعية ظنية. وكتاب الشر يع ة الذي لا تؤخذ الأحكام منه إلا ظنية، هل يكون من محكم البيان؟

ثانياً: مفهومه قد يخالف منطوقه

أما مفهوم القرآن، " فالمفهوم ما دل عليه اللفظ، لا في محل النطق. وهو قسمان : مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.

" فالأول ما يوافق حكمه المنطوق. فإن كان أولى سمي ( فحوى الخطاب) كدلالة " فلا تقل لهما أف " على تحريم الضرب لأنه أشد. وان كان مساويا سمي ( لحن الخطاب) اي معناه كدلالة " الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً" على تحريم الاحراق، لأنه مساو للأكل في الاتلاف. واختلف هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية، مجازية أو حقيقية، على أقوال.

" والثاني ما يخالف حكمه المنطوق. وهو انواع. مفهوم صفة، نعتاً كان أو حالاً أو ظرفاً أو عدداً... ومفهوم شرط... ومفهوم غاية... ومفهوم حصر... واختلف بالاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة. والأصح في الجملة أنها كلها حجة بشروط. منها ان لا يكون المذكور خرج للغالب، ومن ثم لم يعتبر الأكثرون مفهوم قوله (وربائبكم الاتي في حجوركم ) فإن الغالب كون الربائب في حجور الازواج، فلا مفهوم له، انما خص بالذكر لغلبة حضوره في الذهن. و أن لا يكون موافقاً للواقع، ومن ثم لا مفهوم لقوله (ومن يدع مع الله الهاً آخر لا برهان له) به؛ وقوله (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) وقوله (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً)".

وهكذا ففي القرآن ما يخالف حكمه المنطوق به. ففي قوله (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء، إن أردنا تحصناً ) و هل ي عني : إن لم يردن تحصناً، فأكرهوهن على البغاء؟ وقد شعر القرآن نفسه بهذا المتشابه الكثير فيه (آل عمران 7) .

والكتاب الذي يكون أكثره من المتشابه، فلا يبني عليه حكم محكم بنص محكم، لأن فيه ما يخالف حكمه المنطوق به، هل يكون من الاعجاز في البيان ؟

التالي