التالي

بحث رابع

متشابه القرآن

نحتكم في هذا البحث الى خاتمة المحققين في (الاتقان 2: 2- 13). إن دعوى الاعجاز في البلاغة القرآنية قائمة على أنه " قرآن عربي " (1 2 : 2؛ 20: 113؛ 41: 3؛ 42: 7؛ 43: 3)، " قرآناً عر ب ياً غير ذي عوج " (39: 28)، " بلسان عربي مبين " (الشعراء


195؛ 46: 12). فهو " قرآن مبين " ( 36: 69؛ 15: 1)، و " كتاب مبين " ( 5: 15؛ 12: 1؛ 6: 59؛ 10: 61؛ 27: 75؛ 34: 3؛ 11: 6)، وهو "ا لبلاغ المبين " ( 5: 92؛ 64: 12؛ قابل 16: 35؛ 24: 54؛ 29: 18؛ 36: 17) " فإنما عليك البلاغ المبين " ( 16: 82)، " لتبيّن للناس ما نزّل اليهم " ( النحل 44).

______________________________

•  في كتابنا الأول (اعجاز القرآن) أوجزنا فصل (الاتقان 2: 2-13) في (متشابه القرآن) في حقيقة واقعه. وهنا نعود اليه – والعود أحمد – لنرى هل يصح هذا الاعجاز معجزة.

__________________________

أوّلاً : شهادة القرآن المتعارضة في إعجاز بيانه

تجاه هذه الدعوى نجد القرآن يصرّح عن نفسه ثلاثة تصاريح متعارضة في بيانه وبلاغته، كما نقلها (الاتقان 2: 2) في نوع " لمحكم والمتشابه " عن النيسابوري قال : " في المسألة ثلاثة أقوال :

" احدها : أن القرآن كله محكم ، لقوله تعالى : " كتاب أحكمت آياته " هود 1)

" لثاني : كله متشابه ، لقوله تعالى : " كتاباً متشابهاً مثاني " ( الزمر 23)

" الثالث : - وهو الصحيح – انقسامه الى محكم ومتشابه لقوله : " منه آيات محكمات – هنّ أم الكتاب – وأخر متشابهات " ( آل عمران 7).

فالنتيجة الأولى الحاسمة ان الاعجاز البياني البلاغي كمعجزة لا يقول به القرآن. يؤيد ذلك أصح التفاسير لتلك الاقوال : كونه " كتاباً متشابهاً " قد يعني أنه " يشبه بعضه بعضاً في الحق والصدق والاعجاز " كما نقل السيوطي. ولكن بقوله : " تاب أحكمت آياته – ثم فصّلت م ن لدن حكيم خبير " ( هود 1) فالاحكام يتعلّق بالكتاب المفّصل أي الكتاب المقدس، والتفصيل بالقرآن لأنه " تفصيل الكتاب " ( يونس 37).

فيبقى لقول الصحيح " الذي به نسخ دعوى الاعجاز : " منه آيات محكمات – هن أم الكتاب – وأخر متشابهات " ( آل عمران 7). واقتصاره – بنصه القاطع – المحكم على الآيات القلائل، بالنسبة الى المجموع، اللواتي " هن أمّ الكتاب " و قضاء قرآني مبرم على الاعجاز القرآني، الذي ينسخه بتقرير المتشابه فيه وهو أكثر القرآن. وهذه هي النتيجة الحاسمة الثانية ان القرآن نفسه نسخ دعوى اعجازه.

ثانياً: التعريف بالمتشابه

وتعريف " المتشابه " في القرآن يبرهن على مدى الاعجاز البياني والبلاغي فيه. يقول ابن خلدون في الآيات المتشابهات انها " هي التي تفتقر الى نظر وتفسير يصحح معناها لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل " لذلك قالوا : تعيين المتشابه لا يقوم إ لاّ على نقل عن الشارع، او على تعارض ظاهر ما بين آية وأخرى يقول به العقل . فهل هذا المتشابه، وهو أكثر القرآن كما سنرى، الذي يفتقر الى نظر وتفسير يصحّح معناه، لتعارضه بعضه مع بعض أو مع العقل، يكون من الاعجاز في البيان والبلاغة ؟

ويقول السيوطي : " المحكم لا تتوقف معرفته على البيان، والمتشابه لا يرجى بيانه " – وكلام لا يُرجى بيانه هل يكون معجزاً للانس والجن ؟

وينقل أيضا: (المحكم ما عُرف المراد منه، إما بالظهور واما بالت أ ويل. وا ل متشابه ما استأثر اللّه بعلمه " على حد قوله (وما يعلم تأويله إلاّ اللّه) – وكلام يستأثر اللّه بعلمه، ولا يعرف تأويله إلاّ هو سبحانه وتعالى، كيف يخاطب به عباده ؟ وكيف يكون معجزاً لهم يحملهم على الايمان بص ح ة التنزيل، وعلى التصديق بصدق النبوة ؟ وكلام لا يعرف المراد منه كيف يكون معجزة البيان والبلاغة ؟

" وقيل : المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه " – فكيف يخاطب اللّه عباده بكلام لا يتضح لهم معناه ؟ وكيف يكون هذا الكلام معجزاً يقوم مقام المعجزة ؟

" وقيل : المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلاّ وجهاً واحداً. وال م تشابه ما احتمل أوجهاً " – والكلام الذي يحمل أوجهاً من المعاني لا يُعرف المراد منه، فكيف يكون معجزاً ؟

" وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه " أي غير معقول المعنى كصفات الذات الجسمية في اللّه تعالى – وكلام غير معقول المعنى، هل يليق باللّه ؟ وهل يصح ان يخاطب اللّه به عباده، وهو يريد بهم الخير ؟

"و قيل : المحكم ما استقل بنفسه؛ والمتشابه ما لا يستقل بنفسه، إلاّ بردّه الى غيره " – وكلام بحاجة الى رده لغيره ليكون مفهوماً، أ يكون معجزاً بذاته ؟

__________________________________

(1) المقدمة، ص 848 فصل " كشف الغطاء عن المتشابهات "

_____________________________________

(وقيل : " المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلاّ بالتأويل " – هذا هو تعريف البيان الحق : " ما تأويله تنزيله " أي يسبق معناه لفظه الى الفهم والادراك. أما الكلام الذي لا يدرك، الاّ بالتأويل ليس " قراآنا عربيا غير ذي عوج " ، وليس " بلسان عربي مبين " .

" وقيل : المحكم ما لم تتكرّر ألفاظه، ومقابله المتشابه " – وهذا تعريف يرتد على صاحبه، فكل شيء في القرآن تتكرر ألفاظه. وهل تكرار اسم " اللّه " بالرفع 980 مرة، وبالخفض 1125، والنصب 592 مرة يجعله من متشابه القرآن ؟

تلك هي التعريفات الواردة في " متشابه القرآن " : فهل هي من " دلائل الاعجاز " ؟ انما هي برهان بدعة الاعجاز في القرآن. تلك هي النتيجة الحاسمة الثالثة، القائمة على تعريف

" متشابه القرآن " .

ثالثاً : هل يمكن الاطّلاع على " متشابه القرآن " ؟

يقول السيوطي : " اختُلف هل المتشابه ممّا يمكن الا طلاع على علمه، أو لا يعلمه إلاّ اللّه – على قولين منشؤهما الاختلاف ف ى قوله (والراسخون في العلم)هل هو معطوف ، و (يقولون)حال؛ أو مبتدأ خبره (يقولون) والواو للا ستئناف.

" وعلى الأول طائفة يسيرة – يقولون بالعطف …… .

" وأمّا الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم من بعدهم – خصوصاً أهل السنة – فذهبوا الى الثاني (أي الاس ت ئناف)وهو اصح الروايات عن ابن عباس.

1) " وقال السمعاني : لم يذهب الى القول الأول إلا شرذمة قليلة

2 ) " ويدل لصحة مذهب الأكثرين " : قراءة ابن عباس : (وما يعلم تأويله إلاّ اللّه، ويقول الراسخون في العلم آمنا به)، فهذا يدل على ان (الواو) للا ستئناف، لأن هذه الرواية، إن لم تثبت بها القراءَ ة، فأقل درجتها ان تكون خبرا بإسناد صحيح الى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذالك على من دونه. " وفي قراء ة ابن مسعود : (وإن تأويله إلاّ عند اللّه، والراسخون في العلم يقولون آمنا به) " . " وحكى الفراء ان قراءَ ة أبي بن كعب ايضاً (ويقولون الراسخون).

وهكذا ايضاً فالقراءات المختلفة تؤيد الاستئناف، واستئثار اللّه بعلم المتشاب ه، واستئثار الله بعلم المتشابه.

3 ) الأحاديث المروية عن النبي والصحابة بتقسيم القرآن الى محكم ومتشابه، واستئثار اللّه بعلم المتشابه، وامتداح الراسخين في العلم على قولهم بالايمان به

4 ) يؤيد القراءة على الاستئناف النص والمقارنة.

فالنص يذم الذين يتبعون ما تشابه " ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله " لنهمل أهل الفتنة. يبقى الذين يبتغون تأويله، ويأتي الجواب رداً عليهم : " وما يعلم تأويله إلاّ اللّه " فإذا كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله سقط الجواب، وما كان لمدح إيمانهم بالمتشابه من معنى.

نقل السيوطي عن الطيبي : " ويعضد ذلك اسلوب الآية، وهو الجمع مع التفريق. لأنه تعالى فرَّق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال : (منه آيات محكمات وأخر متشابهات ). وأراد ان يضيف الى كل منهما ما شاء فقال أولاً : (فأما الذين في قلوبهم زيغ)الى ان قال : (والراسخون في العلم يقولون آمنا به )؛ وكان يمكن ان يقال : واما الذين في قلوبهم استقامة " فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذ ل ك (والراسخون في العلم)لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلاّ بعد التثبيت العام والاجتهاد البليغ. فإذا استقام القلب على طرق الارشاد، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق في ال قول الحق. وكفى بدعاء الراسخين في العلم : (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هد يتنا ) شاهداً على ان (الراسخون فى العلم) مقابل لقوله (والذين فى قلوبهم زيغ). وفيه اشارة الى ان الوقف على قوله (إلاّ اللّه) تام، وإلى ا ن علم بعض المتشابه مختص باللّه تعالى ، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار اليه في الحديث بقوله : فاحذرهم " .

والقرينة الحاسمة هي التي تذكر انتظار تأؤيل القرآن : " هل ينظرون إلاّ تأويله ؟ – يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءَ ت رسل ربنا بالحق (الاعراف 53)، ومفاده ان تأويل متشابه القرآن لا ي أتي الاّ في اليوم الآخر.

__________________________________

(1) الاتقان 2: 3

(2) الاتقان 2: 4

(3) آل عمران 8

_____________________________

وما ذهبت " شرذمة قليلة " الى القراءَة على العطف، والقول بأن الراسخين في العلم يعرفون تأويله، إلاّ افتداءً من النتائج الخطيرة المتوقفة على استئثاراللّه وحده بعلم تأويله : " أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : (الراسخون في العلم يعلمون تأويله؛ لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلا له من حرامه، ولا محكمه من متشابهه). واختار هذا القول النووي فقال في شرح (مسلم): إنه الأصح لأنه يبعد ان يخاطب اللّه عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق الى معرفته "

فهذه النتائج الخطيرة هي التي تحمل بعضهم على مخالفة الجمهور بالقراءة والمعنى. فموقف هؤلاء هو موقف العقل المصدوم، لا موقف النقل الصحيح. وفاتهم جميعاً معنى"الراسخين في العلم ": يفهمونه لغوياً، وهو اصطلاح قرآني كناية عن طائفة من أهل الكتاب. كما رأينا ذلك مراراً. يقول : اذا كان الظالمون من أهل الكتاب، أي اليهود، يشكون بالقرآن لوجود المتشابه فيه، فإن "الراسخين في العلم "أي "أولى العلم قائماً بالقسط " آل عمران 7 و 18) يؤمنون بأن المتشابه "من عند ربنا "، فيؤمنون بتنزيل القرآن على ما فيه من محكم ومن متشابه لا يعلم تأويله إلاّ اللّه. وعليه، في موقف "الشرذ مة القليلة "، اذا كان "الراسخون في العلم "من أهل الكتاب يعرفون "ما تشابه منه "، ويعلمون تأويله؛ فإن أهل القرآن لا يعرفون ذلك. ونرجع في النهاية الى استئثار اللّه بعلم متشابه القرآن.

وتكون النتيجة الحاسمة الرابعة تلك النتائج الخطيرة القائمة على هذا الموقع القرآني الراهن :

1) ان اللّه، في القرآن، يخاطب عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق الى معرفته.

2) ان أهل القرآن، بإلجائهم الى جهل تأويله، "لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه ". ولذلك عند جمعه عمد عثمان ولجانه الى اسقاط الكثير من منسوخه الذي كان علي يجمعه، والى اسقاط تلاوة ما تشابه عليهم من القرآن.

3) والقراءات الثابتة المخالفة لفظاً لقراءَ ة المصحف العثماني مثل قراءَ ة ابن مسعود، وقراءَ ة أبي بن كعب اللذين أوصى النبي بأخذ القرآن عنهما، وقراءَ ة ابن عباس عن أُبي بن كعب، برهان قائم على ان الجمع العثماني كان من اهدافه تنقيح النص القرآني ، فلم يسلم كما نزل وكما تلي قبل التد وين العثماني، كما يشهد اتلاف الاحرف الستة، والمنع بقراءَ ة غير قراءَ ة المصحف الاميري، فسقطت قراءَ ة ابن مسعود، وقراءَ ة أبي بن كعب وقراءَ ة ابن عباس ترجمان القرآن.

وهكذا يثبت ان متشابه القرآن لا يمكن الاطلاع عليه، وأنه "ما يعلم تأويله الاّ اللّه ".

رابعاً : تعيين المحكم والمتشابه

اختلفوا فيه إلى أقوال :

•  " قيل : المحكم الفرائض والوعد والوعيد. والمتشابه القصص والامثال.

•  " عن ابن عباس قال : المحكمات ناسخه وحلا له وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به. والمتشابهات منسوخه، ومقدَّ مه ومؤخره، وأمثاله وأ قسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به.

•  " ن مجاهد قال : المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذالك من متشابه يصدّق بعضه بعضاً.

•  " ن الربيع قال : المحكمات هي أوامره الزاجرة " .

وهكذا فلا إجماع إلاّ على أوامره الزاجرة في الحلال والحرام أي على احكام الشريعة ف ى أوامرها الناهية الزاجرة، فهذه هي " أم الكتاب " والحال أن احكام القرآن من أمر ونهي تتراوح ما بين المائة والخمسين، وبين الخمسمائة آية. " قال الغزالي وغيره : آيات الأحكام خمسمائة آية، وقال بعضهم مائة وخمسون. قيل : ولعل مرادهم المصرح به " . وفي التشريع لا يقضي إلاّ بالمصرح به. وهذا المصرح به مائة وخمسون آية، بالاجماع. فما هي الأحكام ابناهية الزاجرة فيها ؟

وهكذا يقتصر المحكم في القرآن على الاحكام فقط، وهي أقل من الخمسمائة آية . فيبقى القرآن كله تقريباً من التشابه، والذي " ما لا يعلم تأويله إلاّ اللّه " . إنها نتيجة حامسة : ولا يتعلق الاعجاز القرآني في البيان والبلاغة إلاّ بأحكام الشريعة المحكمة. فليس إذن من اعجاز في آيات التوحيد وبراهينه؛ وليس من اعجاز في اوصاف اليوم الآخر، والحساب، والجنة والنار، وليس من اعجاز في قصص القرآن وأمثاله؛ وليس من اعجاز في أقسام القرآن وأنواع خطاباته؛ وليس من اعجاز في آيات الترهيب والترغيب، وآيات التند يد والجدل والحجاج؛ وليس من اعجاز في كونيات

___________________________

(1) الاتقان 2: 130

___________________________

القرآن، ولا في غيبياته؛ إن القرآن باعلان " المتشابه " فيه، قضى قضاءً مبرماً على دعوى الاعجاز فيه.

وكتاب أكثره المطلق من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاّ اللّه – وهب الراسخون في العلم ايضاً – كيف يكون معجزة البيان والبلاغة ؟

خامساً : واقع المتشابه في القرآن

نقل السيوطي عن الراغب في (مفردات القرآن)قال : " الآيات عن د اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب : محكم ع لى الاطلاق، ومتشابه على الاطلاق، ومحكم من وجه ومتشابه من وجه.

" فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب : متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من ج هتهما.

" فالأول (من جهة اللفظ) ضربان : أحدهما يرجع الى الألفاظ المفردة، إما من جهة الغرابة نحو (الأب – ويزفون)أو الأشتراك، كاليد واليمين (بحق اللّه). وثانيهما يرجع الى جملة الكلام المركب. وذلك ثلاثة أضرب : ضرب لا ختصار الكلام نحو (وان خفتم ان لا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم)؛ وضرب لبسطه نحو (ليس كمثله شيء) لأ ن لو قيل (ليس مثله شيء) كان أظهر للسامع؛ وضرب لنظم الكلام نحو (أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، قيّماً)وتقديره (أنزل إلى عبده الكتاب قيّماً، ولم يجعل له عوجاً).

" المتشابه من جهة المعنى أوصاف اللّه تعالى وأوصاف القيامة، فإن تلك الأوصاف لا تتصوّر لنا، اذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم تحسبه، أو ليس من جنسه.

" والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب : الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو (اقتلوا المشركين). والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو (فانكحوا ما طاب لكم من النساء). والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو (اتقوا اللّه حقّ تقاته).

_________________________________

(1) وقد فصلنا في الكتاب الأول أنواع المتشابه في القران، نقلاً عن (الاتقان).أوجزنا هنا النتائج.

______________________________

والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو (وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها)، (انما النسيء زيادة في الكفر)، فإنه من لا يعرف عاد تهم في الجاهلية يتعذر عليه تقسير هذه الآية. الخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط الصلاة والنكاح. وقال : وهذه الجملة اذا تُصوّرت عُلم ان كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم " .

هذا هو واقع المتشابه في القرآن. وهو يتعلق بالألفاظ المفردة، وبالجمل المركبة، وبالنظم نفسه – والنظم هو أم الاعجاز. فقد دخل المتشابه نظم القرآن من كل جهاته. وهو يتعلق أيضاً بمعاني القرآن كأوصاف اللّه وأوصاف اليوم الآخر. وهو يتعلق اخيراً باللفظ والمعنى معاً في عامه وخاصه، وفي ناسخه ومنسوخه، وفي معلوماته، وفي شروط احكامه. فقد دخل المتشابه في العقيدة والشريعة، وفي نظم القرآن نفسه.

وكتاب يكتنفه المتشابه في لفظه ونظمه، وفي عقيدته وشريعته، كيف يصح ان يكون معجزاً في الفصاحة والبلاغة والبيان ؟ تلك هي النتيجة السادسة، من واقع المتشابه في القرآن.

سادساً : ما الحكمة في تنزيل كتاب أكثره متشابه ؟

1 ) يقول ابن قتيبة : " واما قولهم : ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن مَن أرادَ لعباده الهدى ؟ والجواب : لو كان القرآن كله ظاهراً مكشوفاً حتى يستوي في معرفته العالم الجاهل. لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة ، وماتت الخواطر. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة " .

انها حكمة، ينقضها القرآن بقوله : " فانما عليك البلاغ المبين " النحل 82) لا المتشابه؛ " لتبين للناس ما نزّل اليهم " (النحل 44)، لا للعلماء والفقهاء وحدهم. فالجاهل هو الأولى بهداية الرحمن الرحيم.

2 ) يقول صاحب كتاب المباني : " فإن قيل : ولأية علة أنزل المتشابه، وهو يحتمل التأويلات ؟ فهلاّ جعله كله محكماً دالاً على ما أراده ، ليكون أكشف للحق وأقمع لل ش بهة مع

____________________________

•  عن عبد الكريم الخطيب : اعجاز القرآن 1: 403

•  عن عبد الكريم الخطيب : اعجاز القرآن 1: 406

  _____________________

قوله تعالى : (ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ! واذا لم يكن في المتشابه المأخوذ منه المراد لبْس ولا خفاء، فهو الى التشكك أقرب، وكان متناقضا ً، ولم يكن من عند حكيم. والكلام المبين لا تتداخل فيه الشكوك أشبه بكلام الحكيم الذي يريد هداية عبيده.

" والجواب عليه أن اللّه سبحانه احتج على العرب بالقرآن، اذ كان فخرهم ورياستهم بالبلاغة وحسن البيان، والاختصار والاطناب. وكان كلامهم على ضربين : أحدهما الواضح الموجز الذي لا يخفى على سامعه ولا يحتمل غير ظاهره؛ والاخر على المجاز والكنايات والاشارت والتلويحات وهذا الضرب هو المستحلى عندهم، الغريب من الفاظهم، البديع في كلامهم … .. فلما قرعهم اللّه سبحانه فعجَّزهم عن المعارضة بمثل سور أو سورة منه، أنزله على الضربين ليصبح العجز منهم وتتاكد الحجج ولزومها إياهم "

انها أيضاً حكمة ينقضها القرآن نفسه. فالكلام " على المجاز والكنايات والاشارات والتلويحات " هو موضوع الشعر، وما علمناه الشعر، وما ينبغي له؛ إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين "

(يس 69).

3) وجاءَ في (الإتقان 2: 12) : " وقال بعضهم: إن قيل ما الحكمة في انزال المتشابه، ف من أراد لعباده البيان والهدى ؟ - قلنا: ان كان مما يمكن علمه فله فوائد، منها الحث للعلماء … ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات اذ لو كان القرآن كله محكما لا يحتاج الى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلفاء، ولم يظهر فضل العالم على غيره. وان كان مما لا يمكن علمه ، فله فوائد: منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم والتعبد بالاش ت غال به كالمنسوخ، وان لم يجز العمل بما فيه. واقامة الحجة عليهم لأنه لمّا نزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف على معناه، مع بلاغتهم وأفهامهم دلَّ على انه نزل من عند اللّه ، وانه الذي أعجزهم عن الوقوف " .

إن الخلق عند اللّه سواسية، وليس في تنزيله إقامة طبقات بين الناس، انما الرحمن الرحيم يريد الهدى والبيان لجميع الناس. فلا داعي الى المتشابه الذي لا يعرفه إلاّ الراسخون في العلم. فالكلام والبيان للخاصة، والتنزيل والدين لعامة الناس. والمتشابه الذي لا يمكن علمه، لا تقوم به حجة، ولو نزل بلغتهم وبيانهم، فإن اللّه يريد لعباده البيان

والهدى، لا المتشابه والشكوك. " والكلام المبين الذي لا تتداخل فيه الشكوك اشبه بكلام الحكيم الذي يريد هداية عبيده " .

- واعجاز الخلق بكلام لا يمكن علمه هو تعجيز، لا اعجاز . وحاشا للحكيم الرحيم اعجاز خلقه بتعجيزهم. تعالى سبحانه عن مثل هذا العبث ! وهذا التعجيز في تنزيل المتشابه لا " يدل على انه نزل من عند اللّه، وأنه الذي اعجزهم عن الوقوف " كما يدعون، لأنه " الى التشكك أقرب، وكان متناقضا، ولم يكن من عند حكيم " وبعبارة واحدة ان واقع المتشابه في الفرآن يناقض هدف التنزيل والنبوة : " فإنما عليك البلاغ المبين " النحل 82) ، " لتبيّن للناس ما نزّل اليهم " ( النحل 44).

وهذا التناقض بين متشابه االقرآن وهدفه في الهدى والبيان ختام النتائج الحاسمة، من الرحمن الرحيم الذي يريد بالناس الهداية، لا البلاء. فمتشابه القرآن " ابتلاء العباد " . هذا هو القول الفصل في حكمته. وهذه الحكمة لا تليق باللّه الحكيم الرحيم.

سابعاً : فصل الخطاب في متشابه القرآن

بإزاء تلك النتائج لمتشابه القرآن، يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب : " واذن فالرأي الذي ينبغي ان نراه في القرآن هو ان كل ما فيه من حروف وكلمات، وآيات، هو محكم بمعنى انه غير محجوب عن انظار الناظرين، ولا محجوز عن فهم المتدبرين والمتذكرين. وهذا الفهم لكلام اللّه على هذا الوجه هو الذي يحفظ وحدة هذا الكتاب ، ويجعل منه آية من آيات اللّه. أما اذا قيل إن من القرآن متشابهاً لا يدنو منه نظر، ولا يتجه اليه عقل، فإن ذلك من شأنه أن يمزق وحدة القرآن ، وان يقيم فيه الحواجز والسدود، وان يجعل بعضه قرآناً، وبعضه أصواتاً تُنطق ولا تُفهم … . واذا كان الذين يقولون بوجود المتشابه في القرآن لا يكفرون به، بل يؤمنون به كما يؤمنون بالمحكم - فإن إيمانهم هذا على وجه واحد وعلى درجة واحدة ايمان عجز واستسلام … . إيمان قلق مذعور ليس له جذور تمسك به في قلب صاحبه "

ان هذا الحلّ الجذري، بالاستئصال ، لواقع المتشلبه في القرآن ومشكله وحكمته، ينقضه القرآن نفسه في صريح تصريحه : " منه آيات محكمات … وأخر متشابهات.. وما

تشابه منه … ما يعلم تأويله إلاّ اللّه " وينقضه اجماع الأئمة في الأمة منذ نزول المتشابه الى اليوم.

وتبقى الخاتمة : ان القول بوجود المتشابه في القرآن " من شأنه ان ي مزّق من وحدة القرآن " ويقود الى " ايمان عجز واستسلام … ايمان قلق مذعور " ويبرز التساؤل : هل متشابه القرآن، كما يصف نفسه، وكما يصف ه أهله، من " لائل الاعجاز " في البيان والبلاغة ؟

_________________________

(1) اعجاز القرآن 1 : 410

___________________________

التالي