السابق

بحث خامس

الناسخ والمنسوخ شبهة خامسة

على البلاغة القرآنية

نحتكم أيضاً في هذا البحث الى السيوطي، خاتمة المحققين في ) الاتقان 2: 20 – 27)

نشاهد في هذا البحث ظواهرغريبة من الواقع القرآني تدل على مدى اعجازه في البيان والبلاغة.

ظاهرة أولى : " النسخ ممّا خصّ اللّه به هذه الأمة "

يفتتح بحثه بقوله : " في ناسخه ومنسوخه : أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون … قال الأئمة : لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب اللّه إلاّ بعد ان يعرف الناسخ والمنسوخ. وقد قال علي لقاض : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا! قال : هلكت وأهلكت "

___________________________________________

•  في كتاب نا الأول : اعجاز القرآن ، ص 127 – 134 عرضنا لواقع النسخ في القرآن. هنا نبحث تقييم الواقع وهل ينسجم مع دعوى الاعجاز في البيان والبلاغة. وقد سبق بحث آخر في الاعجاز في الشريعة ومبدأ النسخ.

_____________________________________________

فالقول بوقوع النسخ في القرآن عليه إجماع، ولذلك يقول السيوطي في مطلع بحثه : " النسخ ممّا خص اللّه به هذه الأمة لحكم، منها التيسير " فميزة القرآن النسخ في آياته. ولا نسخ في الانجيل ولا في الكتاب. والنسخ في احكام القرآن، كالمتشابه في أخباره وأوصافه، شبهة على اعجازه، لأن الحكم المحكم لا يُنسخ في الكتاب الواحد، مع النبي الواحد، في الزمن الواحد، وقد لا يمضي على تنزيل المنسوخ اعوام أم شهور أم أيام. جاء في (اسباب النزول) للسيوطي على آية الوسوسة : " وان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه " ( البقرة 284) أنها لما نزلت " اشتد ذالك على الصحابة.. فقالوا قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها … فأنزل اللّه في أثرها : آمن الرسول.. لا يكلف اللّه نفساً إلاّ وسعها " ( البقرة 285- 286) فنسخها " رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن ابي هريرة؛ وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه. والغرابة في هذا النسخ أنه جاءَ بعد تنزيل اللّه نزولاً على رغبة الجماعة.

يقول السيوطي : " وقد أجمع المسلمون على جواز النسخ . وأنكره اليهود ظنّاً منهم أنه ب ُدَاء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له. وهو باطل لأنه بيان مدة الحكم " ينكر اليهود ذلك لأنهم لا يتصورون ان اللّه ينسخ شريعة التوراة الى قيام الساعة ولكن في التشريع قد يتبع اللّه سُنّة التطور التي قضاها على الانسان فيجعل " لكل أجل كتاباً " . ولكن لا يليق باللّه النسخ في كتاب واحد، مع نبي واحد، في زمان واحد، فهذا النسخ فيه شبهة البُداء. أجل " تتبدل الأحكام بتغيّر الأزمان " ولكن لا بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد. وتغيّر التشريع بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد. وتغيّر التشريع بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد القصير بُداء لا يليق بالحكيم العليم. لذلك فميزة النسخ التي " خص اللّه بها هذه الأمة " هي ميزة مشبوهة بحد ذاتها.

ظاهرة ثانية : من النسخ في معناه العام

جاءَ مبدأ النسخ وواقعه في قوله : ما ننسخ من آية، أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها " البقرة 106). وجاء تطبيفه ومعناه في قوله : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلآّ اذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته، فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان ثم يحكم اللّه آياته " ( الحج 52) فالنسخ إحكام لآيات اللّه.

ينتج عن هذا الوصف أن النسخ يُحكم آيات اللّه التي كانت قبله غير محكمة. وبتنزيل آيات غير محكمة في تنزيلها، و تكون بحاجة الى إحكام بعد تنزيلها، هل هي من الاعجاز في البيان والبلاغة ؟ فالنسخ، في معناه العام نفسه، شبهة على الاعجاز في التنزيل وفي بيانه.

ظاهرة ثالثة : نسخ آية بآية يعني التعارض في التنزيل

نقل السيوطي : " قال ابن الحصار: انما يُرجَع في النسخ الى قول صريح عن رسول اللّه(صلى اللّه عليه وسلم) أو عن صحابي يقول آية كذا نسخت كذا. وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به ، مع علم التاريخ، ليُعرف المتقدم والمتأخر قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوام المفسرين ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة ، لأن النسخ يتضمن رفع حكم واثبات حكم تقرّر في عهده (صلى اللّه عليه وسلم) ". فالنسخ يقوم على معارضة بيّنة بين آية وآية، أو بين آية وآيات كنسخ الخمر والربا. فمبدأ النسخ وواقعه شاهد على تعارض الآيات في التنزيل والتشريع. وكتاب يقول بالنسخ في تنزيله وأحكامه، أي بالتعارض بينها، أيدل على اعجاز في البيان والبلاغة ؟

ظاهرة رابعة : من معاني النسخ المختلفة

يقول في(الاتقان 2: 20) : " يرد النسخ بمعنى الإزالة ومنه قوله (فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان ثم يحكم اللّه آياته).

" وبمعنى التبديل ، ومنه : " واذا بدَّ لنا آية مكان آية – واللّه أعلم بما ينزّل – قالوا: انما أنت مفتر)!

" وبمعنى التحويل ، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد الى واحد ". هكذا كان التوارث في مطلع الهجرة الى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار، فنسخه بالتوارث بين الأرحام والقرابات : " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " ( لانفال 75؛ الاحزاب 6).

تلك ميزات ثلاث في التنزيل القرآني وبيانه وبلاغته. فالتبديل في آي القرآن يشهد هو به على نفسه(النحل 101)؛ وكان في آخر العهد بمكة سبب ارتداد بعضهم عن الاسلام. والتحويل له في القرآن شواهد، من تحويل المواريث، ومن تحويل القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام، وهدم عاشوراء بصوم رمضان. والإزالة من التلاوة لا مثال لها من القرآن؛ إنما وجودها قائم بشهادة الأخبار والآثار. نقل السيوطي . " وأمثلة هذا

____________________________

(1) الاتقان 2: 25

_____________________

الضرب كثيرة:عن ابن عمر قال: ليقولن أحدكم قد أخذتُ القرآن كله، وما يدريه ما كله؛ قد ذهب منه قرآن كثير ؛ ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر … وعن عائشة قالت : كانت سورة الاحزاب تُقرأ في زمن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها الاّ ما هو الآن (أي 73 آية ) … . وإن كانت لتعدل سورة البقرة. وعن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو(براءَ ة) ثم رفعت وحفظ منها آية واديين من الحال. وعن ابي موسى الاشعري ايضاً قال : كنّا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أُنسيناها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في اعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة ). وعن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة وأقرأهما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فكانا يقرأان بها؛ فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف؛ فأصبحا غاديين على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فذكرا ذلك له، فقال : أنها ممّا نُسخ فالهوا عنا " .

نتساءَل : فهل تلك الميزات في التنزيل القرآني، التبديل والتحويل والإزالة، من " دلائل الاعجاز " في البيان والبلاغة ؟

ظاهرة خامسة : الإسقاط أو الرفع من التلاوة

من ميزات القرآن الكبرى الاسقاط منه أو الرفع من تلاوته، في زمن التنزيل ثم في زمن التدوين.

ففي زمن التنزيل، " روى البخاري حديثاً عن فاطمة ان النبي(صلى اللّه عليه وسلم) أسرّ اليها بأن جبريل يُعارضه بالقرآن كل سنة ، وأنه عارضه في العام الذي توفي فيه مرتين . وقال: ولا أراه إلاّ حضر أجلي. وروي البخاري حديثاً آخر جاء فيه : كان القرآن يُعرض على النبي كل عام مرة ، فعُرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه " . فهل كان محمد يعرض على جبريل، أم جبريل يعرض على محمد؟ وما معنى هذا العرض المتواتر كل سنة؟ " قال البغوي في(شرح السنة) : إن زيداً بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي " فهذه العرضات المتواترة كانت إذن لإحكام القرآن بتنقيحه، أو الأسقاط منه، ورفع تلاوته. وذلك على زمن التنزيل وبفعل النبي نفسه.

______________________________

(1) دروزة : القرآن المجيد ، ص 69

•  دروزة : القرآن المجيد، ص 55

  ___________________________

وحين التدوين اسقط عثمان من الآيات ومن السور ما وردت به الاخبار والآثار. نقل السيوطي : " عن عبد بن عدي قال : قال عمر كنا نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم)ثم قال لزيد بن ثابت : أكذلك ؟ قال نعم. وعن المسور بن مخزمة قال : قال عمر ل ع بد الرحمن عوف : ألم تجد فيما أُنزل علينا (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة) فإنا لا نجدها؛ قال: أُسقطت فيما أسقط من القرآن!‍‍ ‍ ‍ … .. وعن ابن أبى حميدة بنت ابى يونس قالت : قرأ عليَّ أبي وهو أبن ثمانين سنة في مصحف عائشة (ان اللّه وملائكته يصلون على النبي؛ يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً – وعلى الذين في الصفوف الأولى)، قالت : قبل ان يغيّر عثمان المصاحف " !

قد يقبل العقل والايمان الاسقاط من القرآن والرفع من صاحب التنزيل، أما ان يحصل من أهل التدوين، فهذا لا يقبله إيمان ولا عقل!

وقد يقبل الغقل والايمان رفع القرآن من التلاوة لحكمة يراها منزله؛ فإما ان يُرفع من التلاوة لاختلافهم فيه، فهذا ممّا لا يرضى به عقل ولا ايمان. " أخرج ابن الضريس في(فضائل القرآن) … .. أن عمر خطب الناس فقال : لا تشكوا في الرجم، فإنه حق، ولقد همت أن أكتبه في المصحف. فسألتُ أُبي بن كعب، فقال أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول اللّه(صلى اللّه عليه وسلم)، فدفعت في صدري وقلت : تستقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر! قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع التلاوة وهو الاختلاف ".

وهذه الظاهرة المزدوجة برهان آخر على ان ما نُسخ بالرفع والاسقاط لم يكن من معجز القرآن في البلاغة والبيان.

ظاهرة سادسة : النسخ على أقسام

" قال مكيّ : الناسخ أقسام : فرض نسخ فرضاً لا يجوز العمل بالأول، كنسخ الحبس للزواني بالحد؛ وفرض نسخ فرضاً ويجوز العمل بالأول، كآية المصاهرة؛ وفرض نسخ ندباً، كالقتال كان ندباً ثم صار فرضاً؛ وندب نسخ فرضاً؛ كقيام ا ل ليل نُسخ بالقراءَة في قوله (فاقرأوا ما تيسّر من القرآن).

_________________________________

(1) الاتقان 2: 25

__________________________

فتكلما غريبتان من غرائبه : " فرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول ، كآية المصاهرة " – وهذا تعارض مكشوف في لفظه نفسه، إذ كيف يبقى مع النسخ جواز عمل بالمنسوخ ؟ " وندب ن نسخ فرضاً " وهذا من باب التخفيف في التشريع : خففّ من شرائع مَن قبلنا؛ ؛ ثم خفّف من شريعته نفسها، فلو كانت محكمة حكيمة، لما احتاجت الى تخفيف في الشريعة الواحدة.

ظاهرة سابعة : النسخ على أضرب

قال السيوطي : " النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب.

" أحدها ما نُسخ تلاوته وحكمه. قالت عائشة : (كان فيما أُنزل عشر رضعات معلومات فنُسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهن ممّا يُقرأ من القرآن – رواه الشيخان) … . وقال أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت !

" الثاني ما نُسخ حكمه دون تلاوته. وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة …

" الثالث ما نُسخ تلاوته دون حكمه " – وينقل السيوطي من الاخبار والآثار ما يشهد لهذا الواقع القرآني، كقوله عن ابن عمر: " قد ذهب منه قرآن كثير " ! وقوله بشهادة عمر وعبد الرحمن عوف : " أُسقطت (آية)فيما أُسقط من القرآن " !

وهنا ترد التساؤلات التي تصدم العقل والايمان في هذا الواقع القرآني :

1 ) ما الحكمة البالغة في تنزيل قرآن يُنسخ تلاوته وحكمه جميعاً ؟ أو بتعبير آخر، ما الحكمة الإلهية في قرآن نزل ثم رُفع ؟ أيصح هذا من الحكيم العليم ؟ يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب : " والقول بأن من القرآن ما نزل وتُلي ثم نُسخ … . قول فيه مدخل الى الفتنة والتخرّص. فإذا ساغ ان ينزل قرآن ويُتلى على المسلمين ثم يُرفع، ساغ لكل مبطل ان يقول ايّ قول، ثم يدَّعي له انه كان قرآناً ثم نُسخ! وهكذا تتداعى على القرآن المفتريات والتلبيسات ويكون لذلك ما يكون من فتنة وبلاء. ثم من جهة أخرى : ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو شهور ثم يُرفع

_________________________

(1) اعجاز القرآن 1: 437

___________________

ثم يقول : " وكيف يكون رفعه ؟ أبقرآن يقول للناس : ان آية كذا قد رُفعت أو نُسخت فلا تجعلوها قرآناً، ولا تقرأوها ؟ أم ان هذا النسخ يقع بمعجزة ترفع من صدور الناس ما قد حفظوا من القرآن المنسوخ؟ واذا رُفع من الصدوربتلك المعجزة فهل تكون معجزة أخرى يُرفع بها ما كُتب بأيدي الكرام الكاتبين من كتاب الوحي بين يدىّ النبي؟ واذا رُفع من الصدور او من الصحف المكتوبة بمعجزة من المعجزات فما الذي يدل على أن قرآناً كان ثمّ رفع ؟ … . أما ان يكون رفع هذه الآيات المنسوخة من صدور الناس بمعجزة حتى يُمح محواً فلا يذكر أحد من أمرها شيئاً، فإن ذلك معناه ألاّ يكون هناك خبر عن هذه الآيات، وألاّ يقوم في الحياة شاهد يشهد لها بأنها كانت ثم ذهبت … ومَن الذي يخبر عنها ويشهد لها، وليس عند أحد علم بها أو ذكر لها ".

ان الشيخ الخطيب ينكر هذا النوع من القرآن المنزل والمرفوع، مع ان شواهده الصحابة أنفسهم كما نقل السيوطي بالتواتر عنهم (الاتقان 2: 25)؛ ان عندهم الخبر اليقين وان تنكّر له، لأنه يجد بحق ان لا حكمة له، وهو مدخل الى الفتنة والبلاء. أجل " ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو شهور ثم يُرفع "؟ – ليس من جواب شاف كاف.

2 ) وما الحكمة البالغة في تنزيل قرآن تُرفع تلاوته ويبقى حكمه ؟ إذا رفع اللّه تنزيله فقد رفع حكمه! ولا يدين الانسان إلاّ بحكم اللّه! اذا اللّه لم يشرع لنا حكماً صريحاً، فلسنا مأمورين به. وهل من الحكمة أن يأمرنا بشيء لا نهتدي به اليه. هذا مجموع المتناقضات.

3 ) بقي النوع المأثور في الناسخ والمنسوخ؛ فقالوا : " انما حق الناسخ والمنسوخ ان تكون آية نسخت آية ". ولقد لحظ أهل القرآن تعارض العقل والايمان في هذا النسخ بمعناه الحصري، والذي " أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون " . يقول السيوطي : " ما الحكمة في رفع الحكم (بالناسخ) وبقاء التلاوة (في المنسوخ)؟ فالجواب من وجهين : أحدهما ان القرآن كما يُتلى ليُعرف الحكم منه والعمل به، فيتلى لكونه كلام اللّه فيثاب عليه، فتُركت التلاوة لهذه الحكمة. والثاني أن النسخ يكون غالباً للتخفيف فأُبقيت التلاوة تذكيراً للنعمة ورفع المشقة ".

ليس من حكمة في هذا الجواب المزدوج : ان التعبّد بتلاوة المنسوخ، والتذكير بنعمة التخفيف في المنسوخ، كلاهما تلبيس لمراد اللّه من تنزيله، وتجهيل به؛ فإذا كان العلماء

يختلفون على وجود الناسخ والمنسوخ ، وعلى تحديده، وعلى شموله، فكم بالأحرى العامة ؟ فالعامة عندما يقرأون كلام اللّه المنسوخ يظنونه قائماً يجب ان يمتثلوا به. فحاشى لحكمة اللّه أن تورّط في الجهل من أمرها من شاءَت لهم البيان والهدى. إنه " قرآن مبين " ، لا قرآن على بيانه شبهة.

فلا حكمة في تنزيل المنسوخ. واذا كان هذا المنسوخ في نظر اللّه أمراً طارئاً ، فيليق باللّه ان يجعله أمراً أو نهياً صريحاً الى أجل، كقوله : " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي اللّه بأمره ".

ولا حكمة في تنزيله على الاطلاق للتعارض القائم بين التنزيل واللوح المحفوظ : فما في اللوح المحفوظ، هل المنسوخ ام الناسخ ؟ بما أنهما متناقضان في حكم اللّه، فلا شك ان الناسخ هو المكتوب في اللوح المحفوظ : فمن أين اذن جاءَ المنسوخ ؟ ولا يصح بحال ان يكون النقيضان معاً، المنسوخ والناسخ، كلاهما جميعاً في اللوح المحفوظ : فمن أين نزل المنسوخ ؟

والنتيجة الحاسمة أن المنسوخ بحد ذاته شبهة على التنزيل، وشبهة على الاعجاز في البيان والتبيين.

ظاهرة ثامنة : النسخ على كيفيات غريبة

جاءَ في (الاتقان 2: 24) : " فوائد منثورة : "

1 ) " قال بعضهم : ليس في القرآن ناسخ إلاّ والمنسوخ قبله في الترتيب، إلاّ في آيتين : آية العدة (في البقرة) حيث الناسخ (الآية 234) جاءَ قبل المنسوخ (الآية 240) – وقوله " لا يحل لك من النساء من بعد " ( الاحزاب 52)، وهي منسوخة بما قبلها " إنا أحللنا لك " ( الاحزاب 50).

2 ) " وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتوّلي والاعراض والكفّ عنهم منسوخ بآية السيف وهي (فإذا انسخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) ، نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها.

________________________

(1) سورة التوبة 5

_____________________

3 ) " وقال (ابن العربي) ايضاً : من عجيب المنسوخ قوله تعالى : خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) ، فإن أولها (أخذ العفو) وآخرها (وإعرض عن الجاهلين) منسوخ، ووسطها محكم وهو (وأمر بال ع رف).

4 ) " وقال : من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ ، لا نظير لها، وهي قوله :

(عليكم أنفسكم، لا يضركم مَن ضَلَّ اذا اهتديتم) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله (عليكم انفسكم).

5 ) " وقال السعيدي : لم ي مك ث منسوخ مدة أكثر من قوله تعالى (قل : ما كنت بدْعاً من الرسل) مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول (الفتح) عام الحديبيّة.

6 ) " وذكر هبة اللّه بن سلامة الضرير أنه قال : في قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حُبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) – ان المنسوخ من هذا الجملة (وأسيراً)، والمراد بذلك أسير المشركين. فقُرئ عليه الكتاب وابنته تسمع؛ فلما انتهى الى هذا الموضع قالت له : أخطأت يا أبتِ؛ فال : وكيف ؟ قالت : اجمع المسلمون إلى ان (الأسير)يُطعم ولا يُقتل جوعاً. فقال : صدقت .

7 ) " قال شيدلة في (البرهان ): يجوز نسخ الناسخ فيصيرمنسوخاً ، كقوله (لكم دينكم ولي دينِ)نسخها قوله تعالى (فاقتلوا المشركين)ثم نسخ هذه بقوله (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ). قال : وفيه نظر من وجهين : أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه؛ والأخر أن قوله (حتى يُعطوا الجزية) مخصص للآية ، لا نا سخ. نعم يمثل له بآخر سورة (المزمّل) فإنه ن اسخ لأولها، منسوخ بفرض الصلوات الخمس، وقوله (انظروا خفافاً وثقالاً) ناسخ لآيات الكهف، منسوخ بآيات العذر ".

فتلك سبع حالات أو كيفيات في اسلوب النسخ، وهي من " غرائبه التي لا تنتهي " : كيف يأتي ناسخ قبل منسوخ ؟ وكيف تنسخ آية واحدة، آية السيف (التوبة 5) سائر القرآن

كله أي 124 آية في سور عديدة ؟ وكيف تنزل آية (العقد) يكون أولها وآخرها منسوخين بوسطهما المحكم؟ أو كيف تنزل آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ؟ وكيف ينزل تعليم في نبوة محمد ثم ينسخ بعد ست عشرة سنة؟ وما هذا العبث في التنزيل – نسخ الناسخ فيصير بدوره منسوخاً؟!

إن هذه الكيفيات الغريبة في التنزيل تجعله عبثاً في حكمة اللّه البالغة، وحاشا للّه من العبث ! فهي كلها شبهات على الاعجاز في البيان والبلاغة.

______________________________________

(1) سورة الأعراف 199

(2) سورة الدهر 8

(3) وعليه تكون كلمة (أسيراً) منسوخة بالقرآن، محكمة بالاجماع. ومنهم ميّز فيها بين أسير المشركين، والأسير "المحبوس بحق" (الجلالان).

(4) هنا وهمة الجميع: انهما حكمان مختلفان: الأول للمشركين؛ والثانى لأهل الكتاب.

___________________________________________

ظاهرة تاسعة : النسخ على مراحل.

يرون ذلك في تحريم الخمر وتحريم الربا.

1 - جاءَ قوله في الخمر أولاً : " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتّخذون منه سَكَراً ورزقاً حسناً " ( النحل 67 ). ان السَكَر هو " المسكر " (الجلالان)، وهو رزق حسن، ك م ا يظهر من عطف البيان. وظل الأمر كذلك طول العهد بمكة. وفي اول العهد بالمدينة قال : " يسألونك عن الخمر والميسر ؟ قلْ : ف يهما إثم كبير ومنافع للناس؛ و اثمهما أكبر من نفعهما " ( البقرة 219). وهذا حكم وحكمة مستقلان : فكل طعام أو شراب حسن، ما لم ينحرف الى افراط إثمه أكبر من نفعه. وفي منتصف العهد بالمدينة يقول : " يا أيها الذين آمنوا، لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون " ( النساء 43). وفي آخر العهد بالمدينة بأتي قوله: " انما الخمر والميسر، والانصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان قأجتنبوه " (المائدة 90). فيجيء الحكم القاطع بتحريم الخمر، لكن بتعبير غير تعبير التحريم، " فاجتنبوه " مما يدع شبهة .

أما الاجماع فإن الآية الأخيرة تحريم بحكم قاطع. وهذه القصة في الخمر شاهد على ان مراحل النسخ متتابعة، ي ن سخ بعضها بعضاً، اللاحق منها ينسخ السابق، فيصير الناسخ منسوخاً مرتين. فما حكمة هذا النسخ المتتابع؟ وهل يداور اللّه عباده في تصدير أمره ؟ وكيف يمكن التوفيق بين هذه الاحكام المختلفة في أمر واحد هو الخمر : فهي رزق حسن؛ وفيها

نفع واثم؛ ويحرم على السكران دخول المسجد أو الاشتراك بالصلاة؛ أخيراً هي رجس من عمل الشيطان. وكيف تبدأ رزقاً حسناً وتنتهي رجساً من عمل الشيطان ؟

_________________________

(1) لذلك اختلفوا في تكفير شارب الخمر أو تأثيمه فقط

___________________________________

هذا النسخ المتتابع المتناسخ قد يجدون فيه حكمه بالتدرج الى التحريم الكامل، تلطفاً من االلّه بعباده الغارقين في إثم الخمر؛ لكن ليس هذا من حكمة القدير، فإنه " اذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون " ( 2: 1 17؛ 3: 47؛ 19: 35؛ 40: 68). وهل تشريع اللّه في أمر واحد ليعطي المؤمن في كل حالة لبوسها ؟ هل هذا من الاعجاز في التشريع، ومن الاعجاز في البلاغة والبيان؟

2 - وفي الربا جاء قوله أولاً: " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس، فلا ي ربو عند اللّه " (الروم 39). هذا ذم وتقبيح له. ثم جاءَ بحق اليهود : " وأخذهم الربا، وقد نُهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل " ( لنساء 161)؛ هذا هداية الى " سنن الذين من قبلكم " ( النساء 26) ثم جاء قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، واتقوا اللّه لعلكم تفلحون " ( آل عمران 130)؛ هنا تحريم في حال " الاضعاف المضاعفة " في الربا. ثم جاء قوله : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه، وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين؛ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ور سو له؛ وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون " ( البقرة 278- 279).

هذا هو التسلسل والترابط المأثور في تحريم الرّبا. ونلاحظ ان التحريم يأتي قي سورة البقرة (279)، وهي أول القرآن نزولاً بالمدينة، لأن الآية من آخر ما نزل من القرآن بحسب (اسباب النزول).

أما اذا أخذنا الواقع القرآني على حاله كما جمع – وهذا هو الظاهر الذي لا يصح العدول عنه إلاّ بقرينة ظاهرة – ف يظهر أنه بدأ بشدة (البقرة 279)، ثم ت را خى الى حال " الاضعاف المضاعفة " (آل عمران 130)؛ أخيراً اذا ذكر النهي ع ن الربا وأكل أموال الناس بالباطل، ذمّاً لليهود (النساء 161) فلا يمنع ان ينتهي الى " تخفيف من ربكم " بحسب مبدإ التيسير في التشريع الذي يأخذ به القرآن.

فما بين ظاهر القرآن في هذا التراخي والتخفيف، والاجماع على التحريم، شبهة على الجمع والتدوين، وشبهة على التعارض في التشريع ألجأهم الى القول بالنسخ.

وهذا النسخ على مراحل يجعل شبهة في التشريع واعجازه في بلاغته وبيانه. فهو ليس تربية للأمة، كما يكون الحال بدستور ينزل مبتدئاً صريحاً محكما، وتسير السيرة والدعوة على هديه.

ظاهرة عاشرة : كثرة المنسوخ في تشريع القرآن

بلغ عدد الآيات المنسوخة في المصحف الحالي، عند النحاس وعند ابن حزم نيفاً ومئتي آية. وجزم السيوطي في (الاتقان 2: 23) : (فهذه احدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها، لا يصح دعوة النسخ في غيرها . والأصح في آية الاس ت ئذان والقسمة الإحكام، فصارت تسعة عشرة. ويضم إليها قوله تعالى (فأينما تولوا فثّم وجه اللّه)على رأي ابن عباس انها منسوخة ب قوله " فولّ ِ وجهك شطر المسجد الحرام " ، فتمت عشرون ".

فهذا التفاوت في العدد ناجم على اختلافهم في " حق الناسخ والمنسوخ " فإن بعضهم يعد منسوخاً أحكاماً مفروضة وهي مندوبة، وفي المفروضة بيان الندوبة، لا نسخها. وهناك قسم مخصوص قد يعتبره بعضهم من الناسخ للعام المنسوخ، كقول بعضهم إن دفع الجزية في قتال أهل الكتاب (التوبة 29) ي نسخ قتال المشركين، وهما حكمان مستقلان في فئتين مختلفتين، أحدُهما عام للمشركين، والثاني خاص بأهل ال كتاب. وقسم في الآيات التي فيها استشناء وغاية محدودة كقوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمِنَّ " فقد ظن بعضهم انها منسوخة بقوله : " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " وهو مخصوص بأهل الكتاب. " وقسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية – أو في شرائع مَن قبلنا – أو في اول الاسلام، ولم ينزل في القرآن "، ولذلك ليس فيه نسخ آية بأية كما هو حق الناسخ والمنسوخ. فتلك الاقسام الأربعة قد يعدها بعضهم من باب النسخ على العموم، و ي نكر ذلك بعضهم في باب النسخ على الخصوص.

ولكن فاتهم أمران. الأول ان الناسخ والمنسوخ الباقيين في المصحف الأم ب ري، انما هما نتيجة تصفية ق رآنية مزدوجة. فقد روت الآثار والاخبار ان تصفية أولى للمنسوخ قد تمت على يد النبي نفسه في عرضات القرآن السنوية الموسمية، والعرضة الأخيرة؛ وأن تصفية ثانية للمنسوخ قد جرت في التدوين العثماني الذي اسقط المنسوخ الذي كان يحتفظ به مصحف علي. فلا غرو ان يبقى من المنسوخ فقط ما هو موجود.

والأمر الثاني هو وجود النسخ في القرآن، واقعاً ومبداً؛ والقليل الباقي دليل على الكثير الساقط. والنسخ في الأحكام، كالمشابه في الأخبار، شبهة على التنزيل، وشبهة على الاعجاز فى البلاغة والبيان. فقرآن مبين، كما يصف نفسه مراراً، لا ي كون فيه نسخ.

ظاهرة حادية عشرة : علّة المنسوخ

فسواءٌ قلَ المنسوخ أو كثر في القرآن، فوجوده بلاء في تنزيل القرآن، وشبهة على اعجازه في البلاغة والبيان. فمن آمن بالمنسوخ وجد نفسه أمام مأزق حرج لا مناص منه : ما الحكمة الإلهية في تنزيل قرآن لأيام أو أشهر معدودات، يزول حكمه بقرآن آخر محكم لا يزول ؟ إنها محنة، لا حكمة. ومن أنكر النسخ في القرآن، لجأ الى اعتبار المنسوخ أحكاماً عابرة لأحوال عابرة. والتشريع هو أم القرآن؛ فإذا كان بعض تشريعه لأحوال عابرة، فهذا يجعل القرآن محدوداً في الزمان والمكان. وكتاب فيه احكام عابرة لأحوال عابرة لا يكون كتاب اللّه لكل زمان ومكان.

ظاهرة ثانية عشرة : اجتماع الناسخ والمنسوخ في سورة واحدة

يقول السيوطي : (قال بعضهم : سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام : قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاثٌ وأربعون … . وقسم فيه النلسخ فقط وهو ستٌ … . وقسم فيه المنسوخ فقط وهو أربعون …… وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، والحج والنور والفرقان والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والاحزاب وسبأ والمؤمن والشورى والذاريات والطور والواقعة والمجادلة والمزمل والمدثر وكورت والعصر " . مع ان مكّي يقول : " لم يقع في المكّي ناسخ ".

قد نرضى على مضض بتناسخ في أزمنة متفاوتة وسور مختلفة، أما أن يقع الناسخ والمنسوخ معاً في سورة واحدة، فإن العقل لا يجد لذلك حكمة قاهرة. فانظر أمثال التناسخ في سورة البقرة وحدها، كقوله في الصيام " اياماً معدودات " – أي دون العشرة (184)،

فيصير " شهر رمضان " ( 85)؛ وكقوله : " وعلى الذين يطيقونه فدية " ( 184) فيصير: " ومن شهد منكم الشهر فليصمه " (185)؛ وكقوله في القبلة : "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثّم وجه اللّه " (115) نسخها بعد سنة : " ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام؛ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " (150)؛ ولما نزل اتيان النساء من حيث أمرهم اللّه (222) تحّرجوا فنزلت التوسعة للحال : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم " (223)؛ ونزلت المحاسبة على الوسوسة (284) فاحتج الصحابة : " قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها " فنسخها للحال بقوله : " لا يكلّف اللّه نفساً الاّ وسعها " (286).

هذا أمر مذهل حقاً، ولا يجد العقل والايمان له حكمة : فما معنى تنزيل قرآن، ونسخه للحال ؟ وما معنى تدخّل عمر بن الخطاب والصحابة في التنزيل والتعديل والتبديل ؟ انّ تناسخاً كهذا هل هو من " دلائل الاعجاز " في البلاغة والبيان ؟

_______________________

(1) الاتقان 2: 21

__________________________

ظاهرة ثالثة عشرة : نسخ القرآن بالسنّة أو بالاجماع

يقول السيوطي : " واختلف العلماء : لا يُنسخ القرآن إلاّ بقرآن، كقوله تعالى : (ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها " . قالوا : ولا يكون مثل القرآن وخيراً منه ألاّ قرآن.

" وقيل : بل يُنسخ القرآن بالسنة ، لأنها أيضاً من عند اللّه، وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى، أن هو إلاّ وحي يوحى).

نقول إن الحجة واهية لأنها تصرح بامتناع النطق عن الهوى في الوحي والتنزيل أي في كلام اللّه المنزل، لا في الحديث النبوي، فإنه ليس بكلام اللّه، ولا وحياً غير مكتوب.

وقال بعضهم بنسخ القرآن بإجماع الأ ئمة في الأمة. وهكذا فقد يقع نسخ كلام اللّه بحديث النبي. وقد يقع نسخ كلام اللّه أو حديث النبي بإجماع الأ ئمة.

وهذا يدل على سيطرة ذهنية النسخ في الأمة. وقرآن قد ينسخه، ليُحكم تشريعه، حديث نبوي، أو اجماع الأمة، هل يكون من الاعجاز في التشريع الصالح لكل زمان

ومكان؟ وقرآن بحاجة الى نسخ بقرآن أو حديث نبوة أو إجماع الأ ئمة، هل هو من الاعجاز في البلاغة والبيان ؟

______________________

(1) الاتقان 2: 21

________________

تلك الظواهر مشكل ضخم. ان ب ع ضهم أدرك الشبهات الجسيمة التي تقوم على القرآن من الأخذ بالنسخ في القرآن، فآثروا نفي النسخ فيه من أساسه. كان منهم الزركشي صاحب (البرهان في علوم القرآن). لكن الأمة لم تتبعه. وأتى الشيخ عبد الكريم الخطيب : يجدد المقالة بالاّ نسخ في القرآن تلافياً للشبهات المحتومة التي رأينا أمثلة لها في ظواهر القرآن الأثني عشر. فهو ينظر في متن آية النسخ (البقرة) فيرى أنها شرطية، ويجوز ألاّ يقع شرطها ولا جوابها وتكون من قبل القضايا الفرضية التي يُراد بها العبرة والعظة. ويمثل ل ذلك بقوله للنبي : " لئن أشركت ليحبطّن عملك " – وهو لم يشرك ولم ي حبط عمله. وفاته ان التعبير عن الحقيقة والواقع بلغة الشرط اسلوب بياني في القرآن، كقوله للنبي بعد ما تساهل مع المشركين : " فلا تدْع مع اللّه الهاً آخر، فتكون من المعذبين " (الشعراء 213)، " فلا تكونن ظهيراً للكافرين … . وادعُ الى ربك، ولا تكونن من المشركين ! ولا تدْع مع اللّه الهاً آخر، لا إله إلاّ هو " (القصص 86 – 88) – ولا تحذير إلاّ من خطر جاثم، ولا عتاب إلاّ بعد ذنب. كذلك لا تقرير للنسخ إلاّ بعد واقع. ولا ننس ان مبدأ التبديل في آية القرآن جاءَ أيضاً بصيغة الشرط : " واذا بدلنا آية مكان آية – واللّه اعلم بما ي نزل – قالوا : انما انت مفتر " (النحل 101) وتهمة الافتراء دليل واقع.

ثم يرى الزركشي أن النسخ المذكور في الآية هو النسْ ء أي التأخير. قال : " وكثير من العلماء أيضاً يرى ان النسخ في القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة ، على نحو ما فهم القائلون بالنسخ، وإنما هو نسْ ء وتأخير، أو مجمل أخّر بيانه لوقت الحاجة " . وفاته أن الآية تنص صريحاً على النسخ وعلى النَسْ ء (او النسيان): " ما ننسخ من آية أو ننسها " فالآية تقيم مقابلة بين النسخ أو النس ء، وتفصل بين النسخ والنسْ ء (النسيان) بكلمة " من آية)، وهذا دليل لغوي آخر على أنهما اثنان، لا مجال فيهما لعطف بيان. وفاته أيضاً أن قراءَ ة " أو ننسها " مختلف منها، فهي إمّا النسيان - وهو المعنى المتوائر في القرآن (87: 6، 6: 68؛ 1: 286، 18: 24 و74) – وإمّا النَسْ ء، ولا ذكر له في ال ق رآن إلاّ في هذه القراءَ ة

المشبوهة. ولا تقوم عقيدة على قراءَة لفظ مشبوه، لا يتواتر معناه فى القرآن. فالآية تنص على النسخ ثم على النسيان؛ والنسْء تخريج بعيد مشبوه. فالنسخ فى القرآن مبدأ قائم وواقع ماثل، لا يمارى فيهما.

___________________________

(1) اعجاز القرآن 1: 435 472

___________________

أخيراً يقول الشيخ الخطيب بتخريج بعيد لأسباب نزول آية النسخ (البقرة 106) فيجعلها مقدمة لسلسلة خطابات وتهيّئ تحويل القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام فى مكة. وفاته ان آية النسخ ترد فى خطاب للمسلمين مستقل (105 – 110) مقحم على السياق فى جدالات متواصلة مع اليهود (40 – 168)، ويأتى حديث تحويل القبلة فى الخطاب الثامن مع اليهود (142 – 152) بعدما انقطعت الصلة انقطاعاً تاماً بين آية النسخ وآية تحويل القبلة. فليس من ترابط محكم لازم بين قصة النسخ وحديث تحويل القبلة، حتى تكون آية النسخ مقدمة مخصوصة بنسخ قبلة واحلال اخرى مكانها. فقد فاته "انما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية" (الاتقان 2: 22)، وليس فى القرآن من آية شرعت القبلة الى المسجد الأقصى ببيت المقدس، حتى يكون تحويل القبلة الى المسجد الحرام بمكة نسخاً لها. لقد اقتفى قبلة أهل الكتاب، ولمّا اشتد ساعده، وصمم على فتح مكة بالقوة هيّأ له بتحويل القبلة إلى مكة لتكون قبلة الجهاد مع الصلاة.

فآية النسخ عامة تقرر مبدأ وواقعاً فى القرآن، وليست مخصوصة على الاطلاق. والقول بأن لا نسخ فى القرآن خروج على الواقع فيه وعلى الاجماع.

يقول الشيخ الخطيب: "كثير من العلماء ايضاً يرى ان النسخ فى القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة على نحو ما فهم القائلون بالنسخ". هذا القول يتعارض مع صريح القرآن فى تقرير واقع ومبدأ التبديل فى آى القرآن: "واذا بدّلنا آية مكان آية" (النحل 101)؛ وهذا التبديل هو الإزالة الحرفية بعينها. مع أنه يصرح مراراً: "لا تبديل لكلمات الله" (10 : 64)، "ولا مبدّل لكلمات الله" (6: 34)، "ولا مبدّل لكلماته" (6: 115؛ 18: 27). تصريح متعارض. وواقع متعارض. والتبديل بمعنى الإزالة قائم؛ وهو برهان على صحة النسخ، بإزالة الحكم وبقاء التلاوة.

وقولهم بأن لا نسخ فى القرآن يتعارض أيضاً مع تقرير واقع ومبدأ المحو والاثبات فى القرآن: "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" (الرعد 39). فالله يزيل من القرآن

ويثبت فيه ما يشاء. وهذه هى الإزالة الحرفية بعينها. وهى برهان آخر على صحة النسخ بإزالة الحكم وبقاء التلاوة، كما هى برهان على إزالة الحكم والتلاوة معاً.

و"أم الكتاب" هى " أصله الذى لا يتغير منه شىء، وهو ماكتبه فى الأزل" (الجلالان). وهنا المعضلة فى النسخ والتبديل والمحو. فإذا كان القرآن مكتوباً منذ الأزل فى أم الكتاب اى اللوح المحفوظ، فمن أين ينزل المنسوخ والمبدل والممحو؟ ثم كيف ينزل المنسوخ والناسخ معاً من "أم الكتاب" واللوح المحفوظ؟ أخيراً هل الناسخ والمنسوخ مكتوبان معاً فى "أم الكتاب" منذ الأزل؟ أيصل التعارض فى التنزيل الى "أصله الذى لا يتغير منه شىء، وهو ما كتبه فى الأزل"؟

إن ظاهرة المحو والتبديل والنسخ فى القرآن شبهة قائمة على التنزيل، شبهة لا تزول على التشريع فيه، شبهة لا ترد على الاعجاز فى البلاغة والبيان. إن القرآن عقيدة وشريعة. ومبدأ النسخ فيه، شبهة على الشريعة، كما ان مبدأ المتشابه فيه، شبهة على العقيدة. فليس من محكم فيه سوى آيات الاحكام الزجرية القلائل. والقرآن بتقرير مبدأ وواقع النسخ فيه ينسخ اعجازه فى الشريعة؛ كما انه بتقرير مبدأ وواقع المتشابه فيه ينسخ اعجازه فى العقيدة. فالنسخ كالمتشابه فيه، شبهة قائمة على الاعجاز فى البلاغة، وبيان العقيدة والشريعة.

السابق