التالي

بحث أوّل

وجه الإعجاز مجهول، فلا يصح التحدى به كمعجزة

لقد خاضوا فى القول بإعجاز القرآن منذ ألف سنة. ونحن اليوم حيث بدأوا. إن وجه الاعجاز مجهول. واعجاز يجهلون وجهة، ويختلفون فيه، أيصح ان يكون معجزة للتحدى فى النبوة والتنزيل؟

1) إن خاتمة المحققين، فى ختام العصر الذهبى من الاسلام، السيوطى فى (الاتقان فى علوم القرآن) يصرّح: " لمّا ثبت كون القرآن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم، وجب الاهتمام بمعرفة وجه الاعجاز. وقد خاض الناس فى ذلك كثيراً فبين محسن ومسىء" . وهو ينقل أقوالهم المختلفة فى وجه الاعجاز، فلا يستقر لهم قرار. يبدأ بذكر قول ثم يرد عليه: " فزعم قوم أن التحدى وقع بالكلام القديم الذى هو صفة الذات. وأن العرب كُلفت فى ذلك ما لا يُطاق، به وقع عجزها. وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدى به! والصواب ما قاله الجمهور: انه وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ".

ونحن نردّ بأن وجه الاعجاز فى لفظ القرآن مجهول. وبما أنه مجهول، بعد محاولات ألف سنة، فلا يصح التحدى به " لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوّر التحدى به" !
2- يُعتبر الخطابى اسبق علماء المسلمين الى البحث عن الاعجاز بحثا علمياً. والخطابى كان أول من أقرّ باستحالة معرفة وجه الاعجاز. قال: " قد أكثر الناس الكلام فى هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كل مذهب من القول. وما وجدناهم بعد صدروا عن رأى، وذلك لتعذر معرفة وجه الاعجاز فى القرآن، ومعرفة الأمر فى الوقوف على كيفيته"

فالجهل بمعرفة وجه الاعجاز ليس واقعاً فحسب، انما هى قضية مبدإ ، " وذلك لتعذر معرفة وجه الاعجاز فى القرآن" . لذلك يصح ان نردد: " ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصور التحدى به".

3- وفى عصرنا لم نزل حيث كانوا. فها محمد زغلول سلام فى " أثر القرآن فى تطور النقد العربى، الى آخر القرن الرابع الهجرى، يختم كتابه بقوله: " فقامت جهود العلماء فى دراسات القرآن، على جلاء تلك المسائل الغنية والجمالية فى الاسلوب، لحل اللغز الذى حير الناس، وهو " الاعجاز" . وكانت محاولات شتى للوصول الى حل له والاهتداء الى تعليل. عللوه أولاً بمسائل فلسفية وكلامية؛ لكنه لم يستقم، وقامت حوله اعتراضات ومطاعن. واجتنبوا به ناحية بيانية فتوصلوا الى نتائج خدمت الأدب والنقد جميعاً - لكنها لم تخدم اعجاز القرآن لأنه ظل " اللغز الذى حير الناس".

ولغز حيّر الناس، لا يصح ان يكون معجزة القرآن للتحدى به على صحة النبوة والتنزيل.

4- وأكبر من تصدى للبحث فى اعجاز القرآن، فى عصرنا، كان مصطفى صادق الرافعى. " لقد كان اول من دخل هذه الحلبة من ابناء هذا العصر . . . وكان آخر من دخل هذه الحلبة هو جلال الدين السيوطى ". و" جاء الرافعى فكان مقداماً جريئاً".

" يأخذ الرافعى فى عرض آراء السابقين فى الاعجاز، ويستنفذ جهداً كبيراً فى عرض هذه الآراء ومناقشتها. ثم ينتهى به المطاف الى رفض هذه الآراء جميعاً" ، يقول عبد الكريم الخطيب .

فعلم من الأعلام فى القول " بإعجاز القرآن" ينقض أقوال السلف جميعهم فيه. فلا يزال وجه الاعجاز مجهولاً. ومعجزة مجهولة حتى اليوم، كيف يصح أن يتحدى بها الله منذ نحو الف وأربعمائة سنة؟

ثم يعرض الرافعى لسر الاعجاز فى القرآن فرأى وجوه الاعجاز فيه:

1 - تاريخه 2 - أثره النفسانى 3 - حقائقه.

فيأتى عبد الكريم الخطيب ويردها جميعاً، لأنها إمّا خارجة عن ذات القرآن، وإمّا جانبية لا تقوم على النظم، " والنظم هو سر الاعجاز فيه".

وعبد الكريم الخطيب الذى يرد على الرافعى، وقد درس " الاعجاز فى دراسات السابقين" ، و " الاعجاز فى مفهوم جديد، " ، لا يزال حيث نحن من جهل وجه الاعجاز. فهو يصرّح مراراً وتكراراً: " إن اعجاز القرآن - فى نظرنا - سر محجوب عن الأنظار" (1 : 36): " غير ان هناك دراسات اتجهت مباشرةً للبحث عن وجوه الاعجاز ودلائله فى القرآن، فلم يكن من همّها شىء، إلاّ ان تكشف النقاب عن هذا السر المحجب " (1 : 125) ، " السرّ المضمر الذى اشتمل عليه القرآن" (1 : 315).

فالإجماع اليوم، كما كان قبل الف سنة، ان اعجاز القرآن هو " اللغز الذى حيّر الناس" . فيحق لكل منطق ان يردّد كلمة السيوطى: " ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصور التحدى به" . وبما أن اعجاز القرآن سرّ ولغز لم يقفوا له بعد على وجه، فلا يصح بحال التحدى به كمعجزة الهية على صحة التنزيل وصدق النبوة. لذلك فإن اعجاز القرآن ليس بمعجزه للقرآن.

(1) محمد خلف الله: ثلاث رسائل فى الاعجاز. للخطابى: " بيان اعجاز القرآن".

(2) اعجاز القرآن 1 : 304

التالي