التالي

بحث رابع

الإعجاز فى البيان برهان متشابه مشبوه

لكل لسان بيان؛ ولكل بليغ من بنى الانسان بيان. فلا تختص العربية بالبيان. وآداب الأمم قديماً وحديثاً تتبارى فى مضمار البيان. وكل الأمم التى فرضت وجودها على غيرها تدعى لنفسها الاعجاز فى بيانها على غيرها، منذ حكمة الصين، الى صوفية الهند، الى أدب اليونان، الى لغة الرومان، الى معلقات العرب، إلى ملحمات وتمثيليات والطليان والانكليز والاسبان.

فالبيان فى آداب الدين واللغة شائع فى كل لسان. لذلك فالادعاء بانفراده فى لسان على كل لسان لا يقبله إنسان، لأن البيان واللسان توأمان لا ينفصلان.

لكن يحلو للبعض ان يجعل بيان العربية يعلو على كل بيان. يقول الخطيب : " وقد يبدو هذا الكلام غريباً عند بعض الناس، حيث يرون ان " الكلمة" - ونعنى بها اللغة - ليست مقصورة على العرب وحدهم، بل ان الناس جميعاً شركاء لهم فى هذه الظاهرة الطبيعية. فلكل أمة لغتها التى تعيش بها، وتنتقل بها الآراء والافكار بين أفرادها. فكيف ينفرد العرب بوضع خاص فى هذه الظاهرة؟ وكيف يكون للكلمة عندهم شأن غير شأنها حيث تكون على لسان الأمم والشعوب؟ وهذا اعتراض له وجهه ووجاهته! ...

" ولعلك تذكر هنا بلاغة اليونان، وحكمة فارس والهند وفى القديم. كما تذكر أساليب البيان الأوروبى وما نبغ فيه من كتاب وشعراء فى العصر الحديث ... لعلك تذكر هذا، فتعترض به على ما قلنا فى البيان العربى، وتفرّده بمنزلة لا يشاركه فيها غيره. لعلك تذكر

هذا، وربما نذكره نحن ايضا معك، فإننا لا نبخس الناس حقهم حين نتمسك بحقنا وندافع عنه. ولكننا مع هذا لا نرى ان بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند، وبلاغة الادب الأوروبى الحديث - لا نرى شيئاً من هذا يعلو البيان العربى أو يساويه ، وان وقفت منه بعض تلك الآداب موقفاً مدانياً مقارباً.

يرى السيد الخطيب ذروة البيان العربى فى الشعر الجاهلى الذى وقع عليه التحدى بالقرآن فهل يُقاس الشعر الجاهلى بإلياذة هوميرس أو بإلياذة فرجيل أو فردوس دانته أو تمثيليات شكسبير؟

إن الاعجاز البيانى فى القرآن أمر واقع. لكن لكى نجعله معجزة البيان الإنسانى على الاطلاق لا يجوز ان نجعل البيان العربى يعلو كل بيان فى كل لسان. هذه التعميمات لا يقدر أن يقول بها إنسان، لأنه لا يقدر أن يطلع على ما فى كل لسان. إن الاعجاز البيانى فى القرآن هو بيان لسان، وقد يختلف فى فقهه عن بيان غير لسان، فلا يصح بحال ان نجعله معجزة كل بيان فى كل لسان. وكل بيان، فى كل لسان، ينفرد بذاته على كل بيان. ولذلك فالاعجاز البيانى فى القرآن يقتصر فى التحدى على البيان العربى، ولا يصح أن يتعداه إلى كل بيان فى كل لسان. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لكل بليغ من بنى الانسان بيان.

والبيان فى الانسان صفة ذاتية لا ينازعه فيها بيان أى انسان. قد يكون بيان أفضل من بيان - وهذا أمر واقع - ولكن لكل انسان بيان يقدر ان يتحدى به كل بيان عند كل انسان. فهوميروس يقدر ان يتحدى بيانه كل بيان، لأنه لا يمكن لبيان انسان ان يطابق بيان انسان. فالبيان فى الانسان صفة ذاتية كالشخصية لا يشاركنا فيها أحد من بنى الانسان. فكل بليغ فى البيان يقدر أن يتحدى بيان كل انسان لأنه لا يقدر انسان أن يأتى ببيان انسان. لذلك لا يصح التحدى مبدئياً ببيان انسان لكل بيان عند بنى الانسان. هذه هى عقيدة القرآن: " وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم" (ابراهيم 4)؛ " وإنه لذكر لك ولقومك" (الزخرف 44).

لذلك فإن اعجاز القرآن فى البيان - وهو أمر واقع - لا يصح معجزة للقرآن.

________________________________

(1) عبد الكريم الخطيب: اعجاز القرآن 1 : 88 و 113

(1) عبد الكريم الخطيب: اعجاز القرآن 1 : 106

التالي