السابق

بحث رابع

سيرة محمد الجهادية

كانت الهجرة النبوية الى المدينة ثورة و انقلابا : انقلابا فى الرسول ، و انقلابا فى الرسالة ، و انقلابا فى طريقة الدعوة و انقلابا فى الاسلام كله .

و الانقلاب الأكبر فى طريقة الدعوة . كانت " بالحكمة و الموعظة الحسنة " مثل سائر النبيين ، فصارت بالجهاد ، و " بالحديد الذى فيه بأس شديد و منافع للناس " ( الحديد 25 ) . يقول محمد صبيح 1 : " و كانت مهمة النبى ، و هو يهاجر ، واضحة : و هى أن يكره قريشا على الاسلام بحد السيف ، بعد أن بذل لها النصح ثلاثة عشر عاما ، فلم تزدهم إلا عتوا " .

و الجهاد حول الدين الى دولة دينية . يقول عمر فروخ : " كان للهجرة قيمة خاصة فى تاريخ الاسلام : لقد كانت حدا فاصلا بين عهد كان فيه الاسلام دعوة دينية ، يحميها نفر قليلون مستضعفون ، و بين عهد أصبح الاسلام فيه دولة قوية مرهوبة " ؟

أولا : شريعة الجهاد و الحرب

شريعة الجهاد و القتال تملأ القرآن كله . " و الآيات القرآنية فى موضوع الجهاد قد شغلت من حيث كثرتها حيزا كبيرا يكاد يبلغ نصف القرآن المدنى . و فى هذا دلالة على ان هذا الموضوع كان من أهم أدوار السيرة النبوية فى العهد المدنى ، أو أهمها " 2 .

1 عن القرآن ، ص 62 .
2 العرب و الاسلام ، ص 42

و انقضت السيرة النبوية فى العهد المدنى كله فى الجهاد و القتال و الحروب . " و يكفيك أن تعلم مثلا أن عدد الغزوات و السرايا و البعوث قد بلغ خمسا و ستين ، قاد النبى صلعم منها بنفسه سبعا و عشرين ، و كل ذلك فى نحو عشر سنين – لتقدر خطورة الدور الذى كان للجهاد فى هذا العهد ، و تفهم حكمة ما شغل موضوعه ذلك الحيز الكبير من القرآن " 1 .

" و الآيات فى هذا الموضوع على نوعين : نوع تضمن دعوة عامة الى الجهاد بالنفس و المال ... و ما كان من أزمات حادة فى سبيل ذلك . و نوع ثان أشير فيه الى وقائع الجهاد النبوى البارزة و ما كان فيها ، و من الجدير بالتنبيه أن آيات النوع الثانى قد نزلت بعد الوقائع : مما يسوغ القول إن الوقائع قد كانت بأمر النبى صلعم و رأيه و بدون وحى قرآنى ، كما هو شأن أكثر أحداث السيرة النبوية " .

و صار الجهاد ركنا من أركان الإسلام : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) ، كما كان الصوم : " كتب عليكم الصيام " ( البقرة 183 ) . و جعل الجهاد المقدس ركنا من أركان الدين ، هو الذى صبغ الاسلام القرآنى بصبغته الحربية ، سواء فى الدفاع عن الدين ، أم فى الهجوم لنشر الاسلام .

و فى الواقع يقسم القرآن المدنى الى عهدين : عهد الدفاع بالسلاح عن الاسلام ، مدة خمس سنوات نزل فيه اثنتل عشرة سورة ، و عهد الهجوم بالسلاح لفرض الاسلام على الحجاز و الجزيرة ، مدة خمس سنوات ، نزل فيه أيضا اثنتا عشرة سورة . فلم يكن الجهاد فى حد ذاته لحماية الاسلام و الدفاع عنه فقط ، بل تطور فى العهد الثانى المدنى ، بعد صلح الحديبية ، الى حرب أهلية لفرض الاسلام بالقوة على العرب . و هذه هى الصورة الرهيبة التى ينقلها التاريخ القرآنى للسيرة النبوية فى المدينة : نبى يقاتل عشيرته و قومه ليفرض عليهم دينه بالسيف فرضا – و لا محاباة فى سبيل الله .

و قد تطورت شرعة الجهاد بسرعة فائقة : بدأ بالإذن بالقتال : " أذن للذين يقاتلون ، بأنهم ظلموا – و إن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا : ربنا الله ! و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ! و لينصرن الله من ينصره – إن الله لقوى عزيز " ( الحج 39

1 دروزة : سيرة الرسول 2 : 221 – 222 .

– 40 ) . فالقتال مشروع لسببين . الأول لرد الظلم ، و الانتقام من أهل مكة الذين ألجأوهم إلى الهجرة . الثانى لبناء الدين . و لولا الجهاد لهدمت بيوت الدين و العبادة ! فحماية الدين بالقوة تحمل فى أكنافها إرادة فرضه و قيامه بالقوة .

و منذ السورة المدنية الأولى يعلن الشرعة فى صورتها الكاملة : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم ! و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خيرلكم ، و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم ، و الله يعلم و أنتم لا تعلمون " ( البقرة 216 ) . فالقتال فريضة دينية مكتوبة ، و هى خير لهم .

و فلسفة القتال فى سبيل الدين أن الفتنة فيه أشد من القتل : " و قاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ، و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، و اقتلوهم حيث ثقفتموهم ، و أخرجوهم من حيث أخرجوكم ، و الفتنة أشد من القتل " ( البقرة 190 – 191 ) . إن تبرير القتال برد الفتنة يرفع الحرية الدينية . و لا ينفع مع هذه الفلسفة الدينية الحربية قوله : " لا إكراه فى الدين ، قد تبين الرشد من الغى " ( البقرة 256 ) . إن الحرية الدينية و القتال فى سبيل ضدان لا يجتمعان . فغاية الجهاد منع الفتنة عن الدين ، و فرض الدين كله لله : " قل للذين كفروا ، إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، و إن يعودوا فقد مضت سنة الأولين : و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، و يكون الدين كله لله " ( الانفال 38 – 39 ) .

و صوفية الجهاد مزدوجة . إنها أولا شراء الحياة الدنيا يالآخرة : " فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة : و من يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ( النساء 74 ) . و إنها ثانيا فتح و مغانم و منافع : " إنا أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس " ( الحديد 25 ) ، " و أثابهم فتحا قريبا ، و مغانم كثيرة يأخذونها و كان الله عزيزا حكيما . وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، و كف أيدى الناس عنكم ، و لتكون آية للمؤمنين " ( الفتح 18 – 20 ) . إن الفتح و المغانم الكثيرة آية من عزة الله و حكمته للمؤمنين . فالذين يدعون أن المغانم ليست الهدف الثانى للجهاد ، فقد ظلموا أنفسهم و ظلموا علمهم بالقرآن .

و منذ صلح الحديبية ، الحد الفاصل بين عهد الدفاع و عهد الهجوم ، لم يعد الجهاد لرد العدوان ، بل لفرض الاسلام : " قل للمخلفين من الاعراب : ستدعون الى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " ( الفتح 16 ) . لقد ظهرت أخيرا غاية الجهاد الأولى : " هو

الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و كفى بالله شهيدا " ( الفتح 28 ) . ان معنى الجهاد كله لإظهار الاسلام " على الدين كله " ، و هو شهادة الله بصحة الاسلام . هذه الغاية المزدوجة ، الظهور و الشهادة ، هى شريعة الجهاد و فلسفته و صوفيته . و لذلك يركز الدعوة فى العهد الأخير عليها ، فيكرر : " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ، ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون " ! ( الصف 9 ) . و يختم حياته الجهادية بقوله : " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون "( التوبة 33 ) . فالجهاد كان لإظهار الاسلام على الدين كله ، على كره من الجميع ، و هو آية محمد الكبرى ( الفتح 28 ) .

لذلك فالذين يدعون ان الجهاد انما كان للدفاع فقط ، فهم يتجاهلون أو يجهلون صريح القرآن و تطور شريعة الجهاد . لقد تطورت شريعة الجهاد من الدفاع الى الهجوم : " تقاتلونهم أو يسلمون " ( الفتح 16 ) ، " ليظهره على الدين كله " ( الفتح 28 ، الصف 9 ، التوبة 33 ) .

إن غاية الهجرة النبوية الى المدينة ، و جمع الانصار و المهاجرين ، إنما كانت لفرض الاسلام بالسيف على أهل مكة و العرب : " و كانت مهمة النبى ، و هو يهاجر واضحة : و هى أن يكره قريشا ( و من ورائهاالعرب على الاسلام بالسيف " 1

هذه هى شريعة الجهاد و الحرب فى القرآن . و كل أطوارها تنقض المبدأ الموقوت الذى وضع حين الضعف : " لا اكراه فى الدين " ( البقرة 256 ) . إن شريعة القتال القرآنية هى عين الاكراه فى الدين و تؤيدها شرعة قتل المرتد عن الاسلام : " و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر " ( البقرة 217 ) .

فشريعة الجهاد القرآنية صورة عن " نبى الملحمة " . هل يفرض الله دينه على الناس فرضا ؟ و إذا كان ذلك ، فماذا يبقى الحرية الانسانية ؟ و ماذا يكون من مبدإ التكليف ، و من مبدإ الجزاء ؟ فهل فى شيريعة الجهاد القرآنية صورة كاملة للاعجاز فى الشخصية النبوية ؟

1 محمد صبيح : عن الثرآن ، ص 62 .

ثانيا : صدى شريعة الجهاد فى نفوس المسلمين

إن أهوال شريعة الجهاد القرآنية تظهر آثارها فى نفوس المسلمين أنفسهم .

الأثر الأول هو الكره الذى رافق الشريعة منذ سنها : " كتب عليكم القتال و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) . إن العرب الذين كانوا يعيشون علة الغزو و السبى كانوا أول من استفظع شريعة الجهاد و القتال ، و تقبلوها مرغمين .

الأثر الثانى و هو الخوف منها : " فلما كتب عليهم القتال ، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله ، أو أشد خشية . و قالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ؟ " ( النساء 77 ) . لقد نزلت عليهم شريعة القتال نزول الصاعقة ! و حال الناس المنافقين كانت أشد هلعا: " و يقول الذين آمنوا: لولا نُزلت سورة ! فإذا أنزلت سورة محكمة، و ذكر فيها القتال ، رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت "(محمد 20) صورة قرآنية رائعة لأهوال شريعة الجهاد فى نفوس العرب و المسلمين عينهم.

الأثر الثالث كان استفظاع الحرب الأهلية بسبب الدين ! يقول فى تهيئة فتح مكة : " يا أيها الذين آمنوا ، لا تتخذوا آباءكم و إخوانكم أولياء ، إن استحبوا الكفر عن الايمان ، و من يتولهم منكم فأولئك هو الظالمون . قل : إن كان آباكم و أبناؤكم و اخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها ، و تجارة تخشون كسادها ، و مساكن ترضونها ، أحب اليكم من الله و رسوله و جهاد فى سبيله ، فتربصوا حتى يأتى الله بأمره ، و الله لا يهدى القوم الفاسقين " ( التوبة 23 – 24 ) .

علق عليه دروزة 1 : " المتبادر أن النهى الشديد الوارد فى الآيات موجه الى المهاجرين ، و أن الآيات نزلت قبيل الفتح المكى ... و الآيات تدلنا على أن بعض المسلمين المهاجرين كانوا يقاسون أزمات نفسية فى اضطرارهم الى الوقوف من ذوى قرباهم موقف العداء ، و أن بعضهم كان رغم اخلاصه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الاستشعار لصلة الرحم ... إذ كان لبعض المهاجرين آباء أو أبناء ما يزالون كفارا فى مكة مندمجين مع أهلها فى موقف العداء من النبى و المسلمين و آبائهم و أبنائهم المهاجرين معه " .

1 سيرة الرسول 2 : 249

و فى هذا الموقف المدنى من الآباء و الأبناء تطور جديد لموقف القرآن المكى منهم فى حسن لمعاشرة و الصحبة و البر بهم ( لقمان 14 – 15 ، العنكبوت 8 ) . فالاسلام يقطع الصلة ما بين لآباء و الأبناء ، إن استحبوا الكفر على الايمان ، و يوجب قتالهم لإظهار دين الله عليهم . و فى هذا كل أهوال الحرب الأهلية بسبب الدين !

إن السيرة النبوية فى المدينة كانت حربا أهلية بسبب الدين : فهل فى واقع الحال كما يشهد القرآن من اعجاز فى الشخصية النبوية ؟

ثالثا : استباحة الحرمات بسبب شريعة الجهاد

1 – من الحرمات عند العرب كان القتال فى الشهر الحرام ، و القتال عند المسجد الحرام . فبدأ بالنهى عن القتال فيهما إلا إذا بدأهم المشركون : " و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ، كذلك جزاء الكافرين ... " ( البقرة 191 ) ، " الشهر الحرام بالشهر الحرام ، و الحرمات قصاص : فمن اعتدى عليكم فاعتدواعليه بمثل ما اعتدى عليكم " ( البقرة 194 ) . تباح الحرمات قصاصا لمقابلة العدوان بمثله . إنها الشريعة التوراتية ، العين بالعين ، و السن بالسن !

لكن تطورت الشريعة الى الاستباحة المطلقة فى إعلاء الاسلام : " يسألونك عن الشهر الحرام : قتال فيه ؟ = قل : قتال فيه كبير ! و صد عن سبيل الله ، و كفر به و المسجد الحرام ، و اخراج أهله منه ، أكبر عند الله ، و الفتنة أكبر من القتل " ! ( البقرة 217 ) . يستبيح القتال فى الشهر الحرام ، و عند المسجد الحرام لثلاثة أسباب : الصد عن الاسلام ، و إرغام المسلمين على الهجرة ، و محاولة فتنتهم عن دينهم .

2 – و من الحرمات عند العرب و غير العرب حفظ العهود فى عدم الاقتتال . فنزلت البراءة من العهد مع المشركين : " براءة من الله و رسوله الى الذين عاهدتم من المشركين ( 1 ) : فسيحوا فى الارض أربعة أشهر ، و اعلموا أنكم غير مجزى الله و أن الله مخزى الكافرين ( 2 ) – و أذان من الله و رسوله الى الناس يوم الحج الأكبر ان الله برىء من المشركين و رسوله : فإن تبتم فهو خير لكم ، و إن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله ، و بشر الذين كفروا بعذاب أليم ( 3 ) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا و لم

يظاهروا عليكم أحدا ، فأتموا إليهم عهدهم الى مدتهم ، إن الله يحب المتقين ( 4 ) – فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد ، فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم " ( 5 ) ( التوبة ) .

يرتبك المفسرون ارتباكا عظيما فى فهم هذه الآيات . و هذا الارتباك ناجم عن التعارض القائم بين البراءة و بين الأذان فى حق المشركين المعاهدين . وفاتهم أن " الأذان يوم الحج الأكبر " يقطع البراءة المططلقة من المشركين حتى المعاهدين منهم . و القرينة الحاسمة هى الاشهر الأربعة الحرم فى الآية الثانية و الخامسة . فالأذان مقحم على شريعة البراءة المطلقة من المشركين . و ما جاء فى الأذان من الأمر بالوفاء مع المشركين المعاهدين الى مدتهم ، نسخة فى البراءة المطلقة من المشركين حتى المعاهدين منهم . و سياق البراءة هو هذا : " براءة من الله و رسوله الى الذين عاهدتم من المشركين : فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر ، و اعلموا أنكم غير معجزى الله ، و أن الله مخزى الكافرين . فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم ، و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد ، فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم " .

تلك البراءة التى تنقض العهد بعدم الاعتداء هى آية السيف ( التوبة 5 ) فى القرآن

قال النحاس فى ( الناسخ و المنسوخ ، ص 265 ) : " نسخ بهذه ماية و ثلاثة عشر موضعا فى القرآن . و قال ابن حزم : نسخ بهذه الآية ماية وأربع عشرة آية ، فى ثمان و أربعين سورة " . و نقل ( الاتقان 2 : 24 ) للسيوطى : " قال ابن العربى ، كل ما فى القرآن من الصفح عن الكفار و التولى وا الإعراض و الكف عنهم منسوخ بآية السيف " ! إن القرآن شرع قتال المشركين العرب حتى يسلموا ، و فى براءة شرع نقض العهد مع المشركين المعاهدين أنفسهم و فرض قتالهم كسائر المشركين العرب حتى يسلموا . و بهذه الشريعة – البراءة ، مع تحريم المسجد الحرام على المشركين ( التوبة 28 ) دانت العرب للاسلام عنوة و اقتدارا .

3 – و كان صلح الحديبية مع مشركى مكة أن لا يمنع من البيت الحرام أحد . فجاءت سورة براءة بتحريم البيت الحرام على المشركين أجمعين : " يا أيها الذين آمنوا ،

إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " ( التوبة 28 ) . قال النحاس فى ( الناسخ و المنسوخ ، ص 165 ) : " قال أبو جعفر : الآية ناسخة لما كان رسول الله صالح عليه المشركين أن لا يمنع من البيت أحد " .

ففى العرف الدولى ، هل يكفى فارق الدين لنقض المعاهدات ؟

4 – و بعد نصر بدر ووقوع الأسرى من المشركين فى قبضة المسلمين نزل قوله : " ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض : تريدون عرض الدنيا ، و الله يريد الآخرة ، و الله عزيز حكيم ! لولا كتاب من الله سببق ، لمسكم فى ما أخذتم عذاب عظيم ! فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ، و اتقوا الله إن الله غفور رحيم " ( الانفال 67 – 69 ) .

جاء فى الزمخشرى و البيضاوى على الآية ( 4 ) من سورة ( محمد ) : " كانت الشريعة الأولى فى الاسلام : قتل الأسرى . ثم عدلها فخير قومه بين قتل الأسير أو المن أو الفداء " .

و فى ( أسباب النزول ) للسيوطى ، بمناسبة أسرى بدر : " استشار النبى صلعم فى الأسارى يوم بدر . فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب اعناقهم !فاعرض عنه . فقام أبو بكر فقال : نرى أن تعفو عنهم و أن تقبل الفداء ، فعفا عنهم و قبل منهم الفداء . فقال عمر ( ما كان لنبى أن يكون له أسرى ) فنزل القرآن بقول عمر ، و أنزل الله : لولا كتاب من الله سبق ... " بمقالة أبى بكر . قال الجلالان : " و قوله : ( ما كلن لنبى أن يكون له أسرى ) منسوخ بقوله : ( فإما منا بعد و إما فداء ) .

لقد تطورت شريعة الأسرى من الاستباحة الى المن أو الفداء .

5 – و هناك حالة ثالثة وارد غير المن أو الفداء : هى استرقاق الأسرى . قال : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد ، و إما فداء ، حتى تضع الحرب أوزارها " ( محمد 4 ) .

علق دروزة 1 : " قد احتوت تقريرا لمبدإ تشريعى عام : إذا جعل أمر الأسرى للنبى صلعم بعد أن تنتهى المعركة ، فإما أن يسرحهم عفوا و منا فداء ، و إما أن يستوفى منهم الفدية و يسرحهم . و مما يلفت النظر أنه ليس فى هذا المبدإ استرقاق للأسرى . مع ان

1 سيرة الرسول 2 : 254 .

بعض الروايات ذكرت أن النبى صلعم ذهب الى استرقاق سبى هوزان و انه استرق سبى بنى قريظة و باعه . و عدم احتواء المبدإ القرآنى تشريع الاسترقاق يجعلنا نتوقف فى التسليم بالروايات ، إلا أن يكون ما ذكرته – إذا صحت – كان قبل نزول الآية ، و من قبيل الاجتهاد المستمد من العرف العام السائد فى عصر النبى و فى مختلف البيئات . أو من قبيل التفسير النبوى لما سكتت عنه الآية ، و هو مصير الذين لا يطلق سراحهم منا و لا يفتدون أنفسهم " .

و فات الاستاذ أن استرقاق سبى هوزان كان بعد غزوة حنين و بعد سورة ( محمد أو القتال ) بزمن بعيد .

6 – و ظل القرآن كله يمنع الجدال إلا بالتى هى أحسن مع أهل الكتاب – إلا الذين ظلموا منهم أى اليهود – حتى آخر العهد بالمدينة . و فى آخر سورة نزلت قبل ( براءة ) أو فى زمنها ، ( المائدة ) كان النصارى أهل " المودة ) حتى النهاية . و إذا بالقرآن كله يختتم بالأمر بقتال النصارى مع أهل الكتاب" حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون ) ( براءة 29 ) . أجل لا يشرع عليهم القتال أو الاسلام مثل المشركين ، أنما يشرع عليهم القتال حتى الخضوع لدولة الاسلام ، كى " لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان " 1 . لكن بهذه الآية الأخيرة نسخ القرآن فى المعاملة " بالتى هى أحسن " أى الأمر المتواتر : " و قولوا : آما بالذى أنزل الينا و أنزل اليكم و إلهنا و إلهكم واحد ، و نحن له مسلمون " ( العنكبوت 46 ) أى التنزيل واحد و الاله واحد و الاسلام واحد –مع أهل " المودة " حتى النهاية ( المائدة 82 ) . و على هذه الآية ، من دون القرآن كله ، سار التاريخ الاسلامى كله .

فهل فى استباحة الحرمات ، بسبب شريعة الجهاد ، اعجاز فى الشخصية النبوية ؟

رابعا : الاغتيالات السياسية ، نتيجة شريعة الجهاد

بالهجرة الى المدينة تحول الدين الى دولة دينية ! يقول عمر فروخ 2 : " الاسلام دولة ، فى المدينة أصبح الاسلام دينا و دولة معا . فبدأت قواعد الدولة الاسلامية بالرسوخ . و أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية التى يجب أن تقوم عليها الدولة " .

1 السيرة ، لابن هشام 3 : 368 .
2 السيرة ، لابن هشام 4 : 266 .

و الدولة الدينية لها سياسة ، و السياسة قد تطغى عليها . و قد تقتضى سياسة الدولة ما لا يقتضيه الدين و النبوة و القداسة ، من الاغتيالات السياسية . جاء فى الحديث : " اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله فى سبيل الله " !

من تلك الاغتيالات و القتل ما تروى السيرة لابن هشام :

1 – غزوة عبد الله بن رواحة لقتل اليسير بن رزام الذى كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله .

2 – غزوة عبد الله بن عتيك خيبر لاغتيال أبى رافع بن أبى الحقيق 1 .

3 – بعث رسول الله عبد الله بن أنيس لقتل خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى ، الذى كان بنخلة أو بعزبة يجمع لرسول الله الناس ليغزوه ، فقتله 2 .

4 – بعث عبد الله بن أبى حدر لقتل رفاعة بن قيس الجشمى الذى نزل بالغابة يجمع قيسا على حرب رسول الله . قال : " نفحته بسهمى ، فاحتززت رأسه و جئت برأسه أحمله معى " 3 .

5 – بعث عمرو بن أمية الضمرى لاغتيال أبى سفيان بن حرب فى مكة ، بحبيب بن عدى و أصحابه . فعرفه القوم . فنجا ، و فى طريقه قتل قريشا لحق بهم ، ثم بكريا بالغار 4 .

6 – " نجم نفاق أبى عفك ، حين قتل رسول الله صلعم الحارث بن سويد الصامت – وهجا الرسول ، و هو ابن مائة و عشرين سنة ! – فقال رسول الله : من لى بهذا الخبيث ؟ فخرج سالم بن عمير فقتله " 5 .

7 – " فلما قتل أبو عفك ، نافقت عصماء بن مروان ، فقالت شعرا تعيب الاسلام و أهله . فقال رسول الله صلعم حين بلغه ذلك : ألا آخذ لى من ابنة مروان ؟ فسمع ذلك

1 السيرة ، لابن هشام 4 : 267 .
2 السيرة ، لابن هشام 4 : 267 .
3 السيرة ، لابن هشام 4 : 268 .
4 السيرة ، لابن هشام 4 : 282 .
5 السيرة ، لابن هشام 4 : 284 .

عمير بن عدى الخطمى ، و هو عنده ، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها فى بيتها فقتلها . ثم أصبح مع رسول الله صلعم فقال : يا رسول الله إنى قد قتلتها ! فقال : نصرت الله و رسوله ، يا عمير ! ... و أسلم ، يوم قتلت ابنة مروان ، رجال من بنى خطمة ، لما رأوه من عز الاسلام " ! 1 .

8 – " أصاب رسول الله فى غزوة عبدا يقال له يسار . فجعله فى لقاح له كانت ترعى فى ناحية الجماء ( أو الحمى ) . فقدم على رسول الله نفر من قيس قبة ، قبيلة من بجيلة ، قد استوبئوا و طحلوا ، فقال لهم رسول الله : لو خرجتم الى اللقاح فشربتم من ألبانها و أبوالها . فخرجوا اليها . فلما صحوا عدوا على راعى رسول الله فذبحوه و غرزوا الشوك فى عينيه ، و استاقوا اللقاح . فبعث رسول الله فى آثارهم كرز ابن جابر فلحقهم فأتى بهم رسول الله صلعم فقطع أيديهم و أرجلهم و سمل أعينهم " 2 .

9 – جاء فى ( أسباب نزول ) الآية : " و إذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين " ( الانفال 31 ) – " أخرج بن جرير ابن سعيد بن جبيرقال : قتل النبى صلعم يوم بدر صبرا عقبة بن أبى معيط و طعيمة ابن عدى و النضر بن الحارث ( ثلاثة من الأسرى ) . و كان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله ، أسيرى ! فقال رسول الله صلعم إنه كان يقول فى كتاب الله ما يقول ! و فيه نزلت الآية " . و لما أمر على بن أبى طالب – أو عاصم بن ثابت – بقتل عقبة ، قال عقبة : فمن للصبية ، يا محمد ؟ قال : النار " !

10 – و كان عند رسول الله أسيران من بدر : أبو عزة الجمحى و معاوية بن المغيرة ، و قد من عليهما . فلما كانت هزيمة أحد ، قال أبو عزة للنبى : أقلنى ! فقال رسول الله : اضرب عنقه ، يا زبير ! فضرب عنقه . و أرسل فى إثر معاوية بن المغيرة قوما فقتلوه 3 .

11 – و كان كعب بن الأشرف ، من بنى النضير اليهود ، قد خشى تفوق محمد ، بعد بدر " فخرج حتى قدم مكة ، و جعل يحرض على رسول الله ، و ينشد الاشعار ، و يبكى

1 السيرة ، لابن هشام 4 : 287 .
2 السيرة ، لابن هشام 4 : 290 .
3 السيرة ، لابن هشام 3 : 110 .

أصحاب القليب من قريش ... و رجع الى المدينة ، فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهن ! فقال رسول الله : من لى بابن الأشرف ؟ فتصدى له أبو نائلة سلكان ابن سلامة ، أخو كعب من الرضاعة ، فى نفر ، و قد " مشى معهم رسول الله الى بقيع الفرقد ثم وجههم فقال : انطلقوا على اسم الله ، اللهم أعنهم " . و رجع . فقصدوا خيبر فى الليل ، و احتالوا على كعب فأخرجوه من داره ، و تماشوا معه بعيدا عن الحصن ، و ضربوه ضربة رجل واحد . و رجعوا الى محمد " و هو قائم يصلى . فسلمنا عليه ، فخرج الينا . فأخبرناه بقتل عدو الله " . 1

و هكذا قتلت الأوس ، بأمر محمد ، كعب بن الأشرف حليف الخزرج .

12 – فاستأذن الخزرج الرسول فى قتل سلام بن أبى الحقيق ، حليف الأوس . فأذن لهم . و أمر عليهم فى قتله عبد الله بن عتيك . ففعلوا .

13 – و قال رسول الله : " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ! فوثب محيصة ابن مسعود على ابن سنينة ، رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم ، فقتله ! فلامه أخوه . فقال لأخيه : و الله لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لضربت عنقك " !

14 – و تفاقم نفاق ابن أبى ، زعيم المدينة . " فخطب رسول الله صلعم الناس فقال : من لى بمن يؤذينى ؟ و يجمع فى بيته من يؤذينى ؟ " . و اختلف الأوس و الخزرج فى قتله فئتين . فأنقذه اختلافهم من القتل . 2

15 – قبل فتح مكة ، " كان رسول الله صلعم قد عهد الى امرائه من المسلمين ، حين أمرهم أن يدخلوا مكة ، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد فى نفر سماهم أمر بقتلهم و إن وجدوا تحت أستار الكعبة ! منهم : عبد الله بن سعد لأنه كان قد أسلم و كان يكتب الوحى لرسول الله صلعم فارتد مشركا راجعا الى قريش . و كانت له قينتان ، فرتنى و صاحبتها . و كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلعم فأمر بقتلهما معه . و الحويرث بن نقيذ بن وهب بن قصى ، و كان ممن يؤذيه بمكة . و سارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب ، و كانت سارة ممن يؤذيه بمكة . و عكرمة بن أبى جهل " – ابن عمه . 3

1 السيرة ، لابن هشام 3 : 54 .
2 السيوطى : أسباب نزول الآية 87 من سورة النساء .
3 السيرة ، لابن هشام 4 : 51 – 52 .

" و كتب بجبير بن زهير بن أبى سلمى الى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلعم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه و يؤذيه ، و أن من بقى من شعراء قريش قد هربوا فى كل وجه . فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر الى رسول الله صلعم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا . و ان أنت لم تفعل فانج إلى نجائك فى الأرض " 1 . فنظم قصيدته ( بانت سعاد ) و جاء مسلما ليسلم .

– فأين هذا كله من عفو المسيح لصالبيه ، و هو على الصليب ، على ما يرويه الانجيل : " يا أبتاه اغفر لهم ، فإنهم لا يدركون ما يفعلون " ! فأين الأعجاز فى الشخصية النبوية ؟

خامسا : الشبهات على شريعة الجهاد فى القرآن

كانت الهجرة الى المدينة ، و ما تبعها من شريعة الجهاد و القتال ، انقلابا فى الرسول و الرسالة ، و انقلابا فى الدعوة و الدين .

1 – انقلاب النبوة الى إمارة

لقد لاحظ المؤرخون المسلمون الانقلاب العميق فى سيرة النبى العربى ، بعد الهجرة الى المدينة . قال حسين هيكل 2 . " هنا يبدأ الدور السياسى ... و هذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه اليه نبى أو رسول . فقد كان عيسى ، و كان موسى ، و كان من سبقهما من الأنبياء ، يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل ، و من طريق المعجزة . ثم يتركون لمن بعدهم من الساسة و ذوى السلطان أن ينشروا هذه الدعوة بالمقدرة السياسية ، و بالدفاع عن حرية ايمان الناس بها ... و كذلك أمر سائر الأديان فى شرق العالم و غربه . فأما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الإسلام و انتصار كلمة الحق على يديه ، و أن يكون الرسول و السياسى و المجاهد و الفاتح " .

هذه الظاهرة الفريدة ، فى تاريخ النبوة و الدين ، تعنى انقلاب النبوة الى إمارة . فالنبوة تأسيس دين ، لا تكوين دولة ! و النبوة رسالة السماء ، لا سياسة الدنيا !

1 السيرة ، لابن هشام 4 : 144 .
2 حياة محمد ، ص 190

لكن تلك الظاهرة الغريبة فى تاريخ الأديان تنبع ، بحسب ابن خلدون ، من واقع الأمة العربية فى الحجاز . قال : " إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية ، من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة . و السبب فى ذلك أنهم لخلق التوحش الذى فيهم ، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة ، و بعد الهمه و المنافسة فى الرئاسة " 1 .

و هذه الثنائية ، فى دمج الدين بالدولة ، أصيلة فى المجتمع العربى ، لذلك انتهى اليها الاسلام فى تأسيسه : " فالديانة فى المجتمع العربى البدائى كان يعبر عنها ، كما كانت تنظم ، بطريقة سياسية ، لعدم وجود شكل آخر للعبير عنها و تنظيمها . و بالعكس كانت الديانة وحدها هى التى تعد أساس كل حكومة عند العرب الذين كان كل تصور للسلطة السياسية غريبا عنهم " . 2

و الشهادات من السيرة النبوية على تحويل النبوة إلى إمارة كثيرة . فقد رأى الأنصار و المعارضون فى المدينة ، منذ مطلع العهد بالمدينة ، فى محمد ، ملكا أكثر منه نبيا .

فهذا زعيم المعارضة فى المدينة ، عبد الله بن أبى العوفى " رأى أن محمدا قد استلبه الملك " 3 . و شاع بين الناس قول ابن أبى . فقال سعد ، أحد سادة المدينة ، للرسول : " يا رسول الله ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، و إنا لننظم له الخرز لنتوجه . فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا 4 ! " هذا رأى الأنصار .

و تلك كانت نظرة اليهود الى محمد . لما أسلم عبد الله بن سلام ، قال له اليهود : " ما تكون النبوة فى العرب ، و لكن صاحبك ملك " ! 5 و ظل هذا رأى اليهود حتى النهاية . ففى غزوة خيبر رأت صفية بنت حيى بن أخطب فى منامها ان قمرا وقع فى حجرها . فعرضت رؤياها على زوجها . فقال : " ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمد ! فلطم وجهها لطمة خضر عينيها منها " . 6

1 المقدمة – نشر دار كتاب اللبنانى ، ص 269 .
2 كتاب : العرب فى التاريخ ، ص 54 و 57 .
3 السيرة ، لابن هشام 2 : 234 .
4 السيرة ، لابن هشام 2 : 238 .
5 السيرة ، لابن هشام 2 : 240 .
6 السيرة ، لابن هشام 3 : 350

و هذا كان أيضا رأى زعماء المشركين فى مكة . فى فتح مكة انضم العباس عم النبى الى المسلمين . و جاء بأمر محمد يفاوض أبا سفيان بن حرب زعيم مكة على فتحها بدون حرب . أمره بالشهادة لله ، فتشهد . و أمره بالشهادة للنبى ، فأجاب أبو سفيان : " أما هذه ، و الله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئا ! فقال له العباس : ويحك ، أسلم و اشهد أن لا إله إلا الله و ان محمدا رسول الله قبل ان تضرب عنقك ! قال : فشهد شهادة الحق فأسلم ... ثم قال أبو سفيان للعباس : لقد أصبح ملك الن أخيك الغداة عظيما ! قال : يا أبا سفيان انها النبوة ! قال : نعم اذن " . 1

و بعد فتح مكة ، ظل المكيون الذين أسلموا بالفتح على هذا الرأى . هرب من وجه محمد صفوان بن أمية ، سيد قومه . فاستأمنه عمير بن وهب لدى النبى ، و خرج فى طلبه " و قال له : هذا أمان من رسول الله صلعم . قال : ويحك ! اغرب عنى ، فلا تكلمنى . قال : أى صفوان ، فداك أبى و أمى ! أفضل الناس ، و أبر الناس ، و أحلم الناس ، و خير الناس ! ابن عمك ، عزة عزك ، و شرفه شرفك ، و ملكه ملكك " ! فرجع معه مسلما . 2

و فى معركة حنين ، " لما انهزم الناس ، رأى من كان مع رسول الله صلعم من جفاة مكة ، الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن . فقال أبو سفيان ابن حرب : لا تنتهى هزيمتهم دون البحر ! و صرح جبلة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم ! فقال له صفوان بن أمية : اسكت ! فض الله فاك ! فوالله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوزان " 3 !

فالرأى العام المعاصر للسيرة النبوية ، رأى فى محمد ملكا أكثر منه نبيا .

و فى القرآن نفسه نرى أن النبى العربى اتخذ فى سيرته مظاهر الإمارة و الملك . فقد أخذ يقتفى فى المدينة آثار الملوك الأنبياء من بنى إسرائيل ، حتى حسده اليهود و عيروه ، فنزل : " أم يحسدون الناس ( أى محمدا ) على ما آتاهم الله من فضله ! فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب و الحكمة ، و آتيناهم ملكا عظيما ! " ( النساء 54 ) . فسره الجلالان : " فضل الله : النبوة

1 السيرة ، لابن هشام 4 : 46 – 47 .
2 السيرة ، لابن هشام 4 : 60 .
3 السيرة ، لابن هشام 4 : 86 .

و كثرة النساء ! و كانت كثرة النساء من مظاهر الإمارة و الملك . فمثال محمد النبوة و الملك العظيم ، و ذلك بنص القرآن القاطع .

و قد أباح القرآن لمحمد ما فرض على المسلمين ( النساء 3 مع الاحزاب 50 ) لئلا يكون على النبى حرج ، " سنة الله فى الذين خلوا من قبل " ( الاحزاب 38 ) . قال الجلالان : " سنة الله فى الذين خلوا من الأنبياء أن لا حرج عليهم فى ذلك ، توسعة لهم فى النكاح " !

و من مظاهر السلطان كثرة الاسرى و الغنائم . و قد كان محمد يعلم أنه " ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض " ! فأباح له الأسرى و الغنائم ، من دون الأنبياء : " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " ( الأنفال 67 – 69 ) .

و سلك محمد فى مكة مسلك عيسى فى النبوة فكان يدعو الى الزهد فى الدنيا . و لكن بالهجرة الى المدينة أخذ يسلك مسلك الملوك الأنبياء ، فشرع القرآن له و للمؤمنين : " اليوم أحل لكم الطيبات " ( المائدة 5 ) .

و اقتضت مظاهر النبوة و السلطان أن يخاطبه الناس كما يخاطبون الملوك بالغض من أصواتهم فى حضرته : " يا ايها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله و رسوله ، و اتقوا الله ... لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ! و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ... إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ... و اعلموا ان فيكم رسول الله " ! ( الحجرات 1 – 7 ) . قال الجلالان : " لا تقدموا : لا تتقدموا بقول أو فعل بدون اذن . نزلت فى مجادلة أبى بكر و عمر عند النبى صلعم . و نزل فى من يرفع صوته عند النبى صلعم " .

و من مظاهر السلطان و الملك أن تحترم الرعية نساء النى " كأمهاتهم " ( الاحزاب 6 ) ، " و لا أن ينكحوا أزواجه من بعده أبدا " ( الاحزاب 53 ) – كما كانت عادة الملوك ! و لا أن يستأنسوا الحديث معهن ! " و إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " ( الاحزاب 53 ) . بذلك تقضى طهارة القلب و ضرورة الملك .

و بلغت الحرمة التى يطلبها النبى لنفسه أن أمرهم القرآن بتقديم " صدقة " قبل مقابلته ( المجادلة 12 ) . لكنه نسخها لما استثقل الجماعة ذلك : " أأشفقتم ان تقدموا بين يدى نجواكم صدقة " ؟ ! ( المجادلة 13 )

أجل لقد كانت الهجرة انقلابا فى الرسول ، فتحولت النبوة إلى إمارة ، بشهادة القرآن و السيرة .

2 – انقلاب الرسالة الى دولة

بيعة العقبة الثانية كانت معاهدة عسكرية ، قبل الهجرة : " بايعهم رسول الله صلعم فى العقبة الأخيرة على حرب الأحمر و الأسود من الناس ... صائحا : الدم الدم ! و الهدم الهدم ! " 1 . و القرآن المدنى صورة لهذه البيعة العسكرية . فكانت الهجرة ، و تحقيق أهدافها بشريعة الجهاد ، انقلابا فى الدين الى دولة ، و فى الرسالة الى سياسة حربية .

قال الإمام حسن البنا ، مرشد الإخوان المسلمين فى مصر : " الاسلام دين و دولة ... و إنه تعرض لشؤون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرض للأعمال التعبدية ... إن الدين جزء من نظام الاسلام ، و الاسلام ينظمه كما ينظم الدنيا ... و من ظن علمه بهذا الاسلام . و جميل قول الإمام الغزالى : " إن الشريعة أصل و الملك حارس ، و ما لا أصل له فمهدوم ، و ما لا حارس له فضائع " 2 .

و يقول عمر فروخ 3 : " كان الاسلام فى مكة دعوة دينية فصار فى المدينة دولة دينية " . ثم يقول : " الاسلام دولة . فى المدينة أصبح الاسلام دينا و دولة معا . فبدأت قواعد الدولة الاسلامية بالرسوخ . و أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية التى يجب أن تقوم عليها الدولة . و سيبرز فى الوحى بعد ذلك ناحيتان : ناحية الجهاد لتثبيت الاسلام و إنشاء الدولة الجديدة ، و ناحية التشريع لإدارة هذه الدولة " .
و التشريع و الجهاد هما القرآن المدنى كله ، و كلاهما لإقامة دولة الاسلام . و بتحويل الدعوة الدينية " بالحكمة و الموعظة الحسنة " الى جهاد و تشريع لإقامة الدولة الاسلامية

1 صحيح البخارى 2 : 217 .
2 عن أحمد محمد جمال : دين و دولة – المقدمة الأولى .
3 العرب و الاسلام : ص 42 و 43

تحولت الرسالة الى دولة : " لقد كان الاسلام الى ذلك الوقت عبارة عن دين فى دولة . أما فى المدينة بعد بدر ، فقد أصبح أكثر من دين دولة : انه أصبح الدولة نفسها . و من هناك ، منذ الوقت ، خرج الى العالم قوة حربية سياسية " 1 .

3 – انقلاب الدعوة الدينية الى حرب أهلية

كان اسلوب القرآن كله فى مكة دعوة دينية سمحاء : " ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ، و جادلهم بالتى هى أحسن : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، و هو أعلم بالمهتدين " ( النحل 125 ) . و كانت الدعوة بمكة فى وحدة تامة مع أهل الكتاب : " و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن – إلا الذين ظلموا منهم ( أى اليهود ) – و قولوا : آمنا بالذى أنزل الينا و أنزل اليكم و إلهنا و إلهكم واحد ، و نحن له مسلمون " ( العنكبوت 46 ) . فحتى آخر العهد بمكة كان التنزيل واحدا ، و الاله واحدا ، و الاسلام واحدا ، بين القرآن و أهل الكتاب النصارى .

و بالهجرة الى المدينة انقلبت الدعوة الدينية الى حرب أهلية .

اولا مع المشركين . فنزل الإذن بالقتال : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و ان الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا : ربنا الله " ( الحج 39 – 40 ) . قال الزمخشرى : " هى أول آية أذن فيها بالقتال ، بعدما نهى عنه فى نيف و سبعين آية " . ثم صار الإذن فريضة و شريعة : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم " ( البقرة 216 ) . فالقتال على المسلم واجب إلهى ، لفرض الاسلام و إقامة دولته .

ثانيا مع اليهود أهل الكتاب فى ديار العرب . و الحرب الأهلية مع اليهود تعقب الجدال الدينى المتواصل معهم فى سورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة . قامت الحرب معهم لأنهم كانوا " أول كافر به " ( البقرة 41 ) ، و لأنهم " كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم لا يؤمنون " ( البقرة 100 ) . فنزل الأمر : " و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء ، ان الله لا يحب الخائنين " ( الأنفال 58 ) . فنابذهم فريقا حتى قضى على بعض منهم و أجلى بعضا عن المدينة ، و حتى أخضعهم فى الشمال ، كخيبر ووادى القرى .

1 الدكتور فيليب حتى : تاريخ العرب 1 : 162 .

و كانت الحرب الأهلية مع اليهود حربا دينية و عنصرية معا لتحرير الجزيرة منهم . تحالف فيها مع النصارى للتنكيل بهم : " فآمنت طائفة من بنى اسرائيل ( بالمسيح ) و كفرت طائفة : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " ( الصف 14 ) . نزلت بعد فتح الشمال و كمال اخضاع اليهود لسلطان الدولة الاسلامية .

و كان يجرى التنكيل بفريق من اليهود كلما فشل فى حملة على مشركى مكة : كان التنكيل ببنى قينقاع ، و كانوا أشجع اليهود ، بعد بدر الأخرى لتهكمهم بالنبى ، كما نقل ابن سعد فى ( طبقاته ) : " يا محمد إنك ترى أنا قومك ! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة : إنا و الله إن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس " . و بعد هزيمة أحد حاصر بنى النضير حتى أجلاهم . و بعد حصار غزوة الخندق ، غزا بنى قريظة حتى " استنزلوا من حصونهم فحبسهم رسول الله فى دار . ثم خرج الى سوق المدينة فخندق بها خنادق . ثم بعث اليهم فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق 1 و كانت غزوة الشمال الى خيبر ووادى القرى بعد فشل الحملة فى الحديبية : " أثابهم فتحا قريبا ... و مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، و كف أيدى الناس عنكم ، و لتكون آية للمؤمنين " ( الفتح 18 – 20 ) . حتى صار يساوى فى العداوة والكفر ما بين اليهود و المشركين ( البينة 1 – 6 ، المائدة 82 ) .

ثالثا مع المسيحيين على حدود الشام و فى اليمن ، وهم غير النصارى من بنى اسرائيل المقيمين بمكة و الحجاز . غزاهم النبى لأنهم عرب مسيحيون ، لإقامة الوحدة العربية الشاملة . و فيهم نزلت آية براءة : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر ، و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله ، و لا يدينون دين الحق ، من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون " ( براءة – التوبة 29 ) .

و فى حرب المشركين واليهود و المسيحيين يردد : " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون " و اليهود العرب و المسيحيون العرب .

و يختتم القرآن بهذه الصورة فى الحرب الأهلية القائمة : " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ، فى كتاب الله ، يوم خلق السماوات و الأرض . منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم . و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ! و اعلموا أن

1 السيرة ، لابن هشام 3 : 244 – 246 .

الله مع المتقين " ( براءة 36 ) . فالحرب الأهلية شاملة طول السنة ، مدى الحياة ، ما عدا الأشهر الحرم الأربعة ، و اذا اقتضى الأمر " قتال فيه ( الشهر الحرام ) كبير ( البقرة 217 ) . على هذه الصورة ينتهى القرآن : " و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " .

انها تحويل الدعوة الدينية الى حرب أهلية شاملة .

4 – الرحمان الرحيم ، رب العالمين ، يصير إله الحرب

إن الدعوة المتواصلة ، فى القرآن المدنى ، للجهاد باسم الله ، تعطى إله القرآن ، مثل إله التوراة ، صورة إله الحرب ! " فالرحمان الرحيم " ، الذى باسمه يستفتح كلسورة ، و باسمه يصلى كل صلاة يتوارى وصفه الكريم ذلك فى القرآن المدنى و السيرة النبوية . فقد تبدل التنزيل و النبوة و صار ، الرحمان الرحيم ، رب العالمين ، إله الجهاد و الغزو و القتال .

لقد صار " رب العالمين " عدو الكافرين : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى و عدوكم أولياء ، تلقون إليهم بالمودة ، و قد كفروا بما جاءكم من الحق " ( الممتحنة 1 ) .

و صار " رب العالمين " رئيس حزب : " رضى الله عنهم و رضوا عنه : أولئك حزب الله ! ألا إن حزب الله هم المفلحون " ( المجادلة 22 ) . و حزب الله هم الذين يتبعون محمدا من دون العالمين : " لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله ، و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " ( المجادلة 22 ) ، " انما وليكم الله و رسوله ... و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا ، فإن حزب الله هم الغالبون " ( المائدة 55 – 56 ) .

و صار الرحمان الرحيم فى الجهاد ، خير الماكرين ، لأن " الحرب خدعة " كما يقول الحديث . من مكر الله بالمكذبين استدراجهم الى كيده : " و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ، و أملى لهم إن كيدى متين " ( الاعراف 182 – 183 ) . و من مكر الله بهم استباق الخيانة : " فإما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء " ( الانفال 58 ) و الدفاع عن المحاربين المؤمنين ( الحج 38 ) . فالله يحارب مع النبى ( الأنفال 64 ) و يرسل ملائكته يقاتلون مع المسلمين جنودا لا يرونها ( الانفال 50 ، آل عمران 124 – 125 ) يمدهم طورا بألف من الملائكة مردفين ( الآنفال 9 ) ، و طورا بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ( آل عمران 124 ) . و طورا بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ( آل عمران 125 ) . و هكذا " يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين " ( الانفال 30 )

و من مكر الله بسائر الناس ، " حزب الشيطان " ( المجادلة 19 ) أن يحتال عليهم بواسطة الشيطان : " و اذ زين لهم الشيطان اعمالهم و قال : لا غالب لكم اليوم من الناس ، و انى جار لكم ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه " ( الانفال 48 ) . فالله يحتال على النبى ليقويه : " يريكهم الله فى منامك قليلا " ! و على المسلمين ليشد أزرهم : " و اذ يريكموهم فى أعينكم قليلا " ! و على المشركين ليكيد لهم : " و يقللكم فى أعينهم ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا " ( الأنفال 43 – 44 ) . و يستغل الله عناصر الطبيعة لمحالفة المسلمين : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ! و ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " ! ( الانفال 11 ) .

و يزين الله الجهاد للمؤمنين بالوعد العظيم بالجنة أو بالنصر ، فعاقبة الجهاد " احدى الحسنيين " : استشهاد أو شهادة ( التوبة 52 ) . و يحرض الله على القتال المجاهدين فيعدهم بالغفران و الجنة ، مهما كانت حالهم قبل الجهاد ، و مهما كان سلوكهم فى الجهاد : " فالذين هاجروا ... و قاتلوا و قتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ، و لأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار " ( آل عمران 195 ) . و ما الجهاد ، فى عرف القرآن ، سوى مبايعة الله على القتال و الجنة : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة : يقاتلون فى سبيل الله ، فيقتلون و يقتلون ... و ذلك هو الفوز العظيم " ( التوبة 111 ) .

تلك هى صورة الله فى القرآن المدنى : ان الله ، الرحمان الرحيم ، رب العالمين ، صار إله الحرب الشاملة الدائمة : " و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " طول السنة ، ما عدا الأشهر الأربعة الحرم ، و مدى الحاة ، فإن " الله قد أرس رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون ! فقد كان النبى العربى ، فى شريعة الجهاد ، و القيام بها ، " بدعا من الرسل " ( الاحقاف 9 ) لأنه كان فى رسالة السماء " الرسول و السياسى و المجاهد و الفاتح "

السابق