السابق

بحث ثالث

نبوءة محمد هداية و اقتداء

قلنا و نقول : إن تعابير " الوحى " و " التنزيل " من متشابهات القرآن ، فلا تقطع بمعنى محدود ، و لا بكيفية معينة . فلا يصح ان يبنى عليها قضية و لا عقيدة . لذلك فتعابير " النى " و " الرسول " لا تقطع بمعنى محدود

و تصاريحه مثل قوله : " إنا أوحينا اليك ، كما أوحينا الى نوح و النبيين من بعده " ( النساء 163 ) لا تدل على المطابقة فى كيفية الوحى ، و لا على المقابلة أو المماثلة ، فإن تصاريح أخرى تقيد معناها ، كقوله : " و ان هذا افى الصحف الأولى " ، " أو لم تأتهم بينة ما فى الصحف الأولى " .

و تصاريحه مثل قوله : " و انه لتنزيل رب العالمين ... " لا تقطع بمعنى محدود لقوله : " و انه لفى زبر الأولين : أولم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بنى اسرائيل " ( الشعراء 192 – 197 ) ، " بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم " ( العنكبوت 49 ) ، " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، ( الانعام 20 ، البقرة 146 ) لأن القرآن العربى له " مثله " عندهم من قبله ( الاحقاف 10 )

فيجب أن نلتمس صفة النبوة المحمدية من القرائن القرآنية .

عند فتور الوحى ، يعدد له الله عليه فيقول : " ووجدك ضالا فهدى " ( الضحى 7 ) . فنبوءته هداية . و هذه الهداية تستمر حتى الفتح المبين ، مع ما تقدم و تأخر من ذنبه : " وليتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما ( الفتح 2 )

و صلاة الفاتحة هى صلاة محمد قبل أمته : " اهدنا الصراط المستقيم " .

و القرآن نفسه ينص على أن رؤيا الوحى اليه كانت هداية الى الايمان بالكتاب و الدعوة له بين العرب و العدل به بين أهل الكتاب : " و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا : ما كنت تدرى ما الكتاب

و لا الايمان ؟ و لكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا ، و إنك لتهدى 1 الى صراط مستقيم " ( الشورى 52 ) ، " فلذلك فادع و استقم كما أمرت ، و لا تتبع أهواءهم ! و قل : آمنت بما أنزل الله من كتاب و أمرت لأعدل بينكم " ، و هذا العدل هو بإقامة دين موسى و عيسى معا ( الشورى 15 مع 13 )

و مما يؤيد أن نبوته هداية الأمر المكرر اليه : " و أمرت أن أكون من المسلمين ، و أن أتلو القرآن " ( النمل 91 – 92 ) " و أمرت أن أكون من المؤمنين " ( يونس 104 ) ، " و أمرت أن أسلم لرب العالمين " ( غافر 66 ) ، " و قل : إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، و أمرت


1 لتهدى قراءة أصح من " لتهدى " لأنها تنسجم مع الأمر بالايمان بالكتاب .

لأن أكون أول المسلمين " ( الزمر 11 – 12 ) . فى رؤيا غار حراء – يؤمر محمد بالايمان بالكتاب ، و بالانضمام الى " المسلمين " الموجودين قبله ، هذه هى الهداية عينها ، كما ينص الحرف عينه : " و إنك لتهدى الى صراط مستقيم " ( الشورى 52 ) .

ان نبوءة محمد مصدرها وحى فى رؤيا حراء ، كما يقول : " و إن اهتديت فيما يوحى الى ربى " ( سبأ 50 ) ، و لكن موضوعها ليس وحيا جديدا ، بل إقامة التوراة و الانجيل معا ( المائدة 68 ) ، على دين موسى و عيسى معا ( الشورى 13 على طريقة " المسلمين " الذين أمر ان ينضم اليهم ( النمل 91 ) ، و هو يشهد بالقرآن ، " تفصيل الكتاب " ، مع هؤلاء " المسلمين " النصارى ، أولى العلم المقسطين ، الراسخين فى العلم : " أن الدين عند الله الاسلام " ( آل عمران 18 – 19 مع 7 ) .

إن محمدا ، فى رؤيا حراء ، اهتدى الى الايمان بالكتاب ، و الى اسلام المسلمين من قبله ، النصارى من بنى اسرائيل ، و هو بالقرآن يدعو الى هذا الاسلام " النصرانى " . لذلك يأتيه الامر المتواتر : " الذين آتيناهم الكتاب و الحكم ( الحكمة ) و النبوة ... أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ( الانعام 89 – 90 ) . اهتدى نهائيا برؤيا غار حراء ، لكن الأمر له ان يقتدى على الدوام بهدى أهل " الكتاب و الحكمة " الذين يقيمون التوراة و الانجيل معا ، على دين موسى و عيسى معا ، و هم النصارى من بنى اسرائيل .

و هذا الأمر بالاقتداء المتواصل فى دعوته بهدى " المسلمين " من قبله ، برهان ايضا على ان نبوة محمد كانت هداية الى إسلام النصارى من بنى اسرائيل . يؤيد ذلك ايضا هذه الظاهرة الكبرى المستغربة : إن القرآن العربى اخبار عن " القرآن " ، اخبار عن غيره ، لا عن نفسه . لم ينزل القرآن العربى بعد ، و هو يؤمر منذ مطلعه : " و رتل القرآن ترتيلا " ( المزمل 4 ) – لاحظ التعريف المطلق : " القرآن " . و قد أمر فى رؤيا حراء أن يكون من المسلمين و أن يتلو معهم " القرآن " ( النمل 91 – 92 ) . لذلك يستفتح كثيرا من سورة بالاشارة الى تلاوة " القرآن " المطلق ، ثم يعلق عليه بالسورة الورادة : " ذلك الكتاب ، لا ريب فيه ، هدى للمتقين " من العرب ( البقرة 1 – 2 ) ، " تلك آيات القرآن و كتاب مبين ، هذى و بشرى للمؤمنين " ( النمل 1 – 2 ) اى ، بحسب اصطلاحه ، توراة و انجيل معا للمؤمنين المسلمين ، أولى العلم المقسطين ، " تلك آيات الكتاب المبين " ( الشعراء 2 ، القصص 2 ) ، " تلك

آيات الكتاب الحكيم " ( يونس 1 ) ، " تلك آيات الكتاب و قرآن مبين " ( الحجر 1 ) – لاحظ المقابلة مع ( النمل 1 – 2 ) – " تلك آيات الكتاب الحكيم " ( لقمان 2 ) ، " تلك آيات الكتاب " ( الرعد 1 ) .

كلها إشارات الى ما تلا من الكتاب أى قرآن الكتاب ، ثم يليها فى سورة القرآن العربى تعليق عليه ، كما يتضح ايضا من قوله : " تلك آيات الكتاب المبين : إنا أنزلناه . قرآنا عربيا " ( يوسف 1 – 2 ) . فالقرآن العربى هو غير الكتاب المبين و غير القرآن المبين : إنه إخبار عنه و تعليق عليه . و قوله : " إنا أنزلناه قرآنا عربيا يعنى : إنا جعلناه قرآنا عربيا كما يقسم : " و الكتاب المبين : إنا جعلناه قرآنا عربيا " ( الزخرف 2 – 3 ) .

و التمييز بين القرآن المنزل القرآن العربى الذى يفصله صريح قوله : " تنزيل من الرحمان لرحيم : كتاب – فصلت آياته قرآنا عربيا " ( فصلت 2 – 3 ) ، فهما : " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن خبير حكيم " ( هود 1 ) . فالقرآن العربى ، القرآن المفصل ، هو إخبار عن القرآن المحكم ، " القرآن العظيم " ، القرآن المفصل . و كما يستفتح بالاشارة الى " القرآن " المطلق ، فى الكتاب الذى مع أهل الكتاب ، فهو يستفتح أيضا بالقسم به على صحة الدعوة بالقرآن العربى : فالتمييز بين القرآن المقسم به ، و القرآن العربى المقسم عليه متواتر مترادف ، و لا يصح ان يكون المقسم به و المقسم عليه واحدا :

" ق . و القرآن المجيد ... " ( ق 1 )
" ص . و القرآن ذى الذكر ... " ( ص 1 )
" يس . و القرآن الحكيم ... " ( يس 1 – 2 )

فالقرآن الحكيم القرآن ذى الذكر ، القرآن المجيد ، ليس القرآن العربى كما يتضح من القسم به . يتضح أيضا من القسم به على حقيقة القرآن العربى :

" و الكتاب المبين : إنا جعلناه قرآنا عربيا " ( الزخرف 2 – 3 )

" و الكتاب المبين : إنا أنزلناه فى ليلة مباركة ... أمرا من عندنا ، إنا كنا مرسلين " ( الدخان 2 – 5 ) . ان الضمير المستتر المتواتر فى مثل هذه المواطن لا يعنى القرآن العربى بل الأمر بالهداية الى قرآن الكتاب ، و تلاوته على العرب .

فالقرآن المشهور المعروف الذى يخبر عنه القرآن العربى هو غيره ، بصريح قوله أيضا : " و لقد آتيناك سبعا من المثانى و القرآن العظيم ... كما أنزلناه على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " ( الحجر 87 و 90 – 91 ) . فسره الجلالان : " الذين جعلوا القرآن اى كتبهم المنزلة عليهم ، ( عضين ) أجزاء ، حيث آمنوا ببعض و كفروا ببعض " .

فالقرآن على الاطلاق هو الكتاب المقدس ، و القرآن العربى إنما هو إخبار عنه و دعوة اليه ، لأنه " تفصيل الكتاب " ( يونس 37 ) .

و هكذا يتضح لنا ، من الواقع القرآنى ، ان نبوءة محمد هداية الى اسلام " المسلمين " من قبله ، النصارى من بنى اسرائيل ، و اقتداء دائم بهداهم فى الكتاب الإمام ، القرآن العظيم ، بحسب " المثل " الكريم الذى معهم : " و شهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله " ( الاحقاف 10 ) فقد " شرع " الله للعرب دين موسى و عيسى دينا واحدا ( الشورى 13 ) بحسب " مثله " الذى من قبله . فلا جدال فى ذلك مع أهل الكتاب النصارى ، لأن الإله واحد و التنزيل واحد و الاسلام واحد معهم ( العنكبوت 46 ) .

السابق