التالي

بحث ثامن

طريقة الوحي القرآني أدنى طرق الوحي

للقرآن نظرية جامعة في طرق الوحي ، وتحديد منزلة الوحي القرآني منها : "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحيا – أو من وراء حجاب – أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه عليٌّ حكيم" ؛ " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ، ولكن جعلناه نورا نهدي به مَن نشاء من عبادنا ، وإنك لتُهدَى الى صراط مستقيم" (الشورى 51 – 52 )

أولا : القرآن وحي بالواسطة

بحسب القرآن نفسه ، طُرق الوحي الإلهي ثلاث : الوحي المباشر من الله للنبي ؛ والوحي من وراء حجاب ؛ والوحي بواسطة رسول يوحي بإذنه تعالى ما يشاء .

أما الوحي بواسطة رسول فهو طريقة الوحي لمحمد ، كما يشهد بذلك القرآن كله مع آية (الشورى 52) : "نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين" (الشعراء 193 – 194) ؛ "قل : نزَّله روح القدس من ربك بالحق" (النحل 102) ؛ "قل : مَنْ كان عدوًا لجبريل ؟ فإنه نزّله على قلبك ، بإذن الله ، مصدقا لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين" (البقرة 97) . فالروح الأمين ، روح القدس ، جبريل هو "روح من أمرنا" الذي بتنزيل القرآن على قلب محمد هداه الى الايمان بالكتاب الذي جعله الله نورا يهدي به مَن يشاء من عباده . فتعبير "روح من أمرنا" لا يعني القرآن ، بسبب قوله "أوحينا" – الذي ورد على المشاكلة مع قوله السابق : "أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء" – بل "روح" من عالم الأمر والخلق الذي تذكره سائر الآيات : فلو كان "روح من أمرنا" يعني القرآن ، لكان القرآن مخلوقا من عالم الأمر . مع ذلك فالقرآن وحي بالواسطة .

أما الوحي "من وراء حجاب" فهو ميزة الوحي الموسوي الذي كان تكليما من الله مباشرا ، لكن بدون رؤية ولا مشاهدة : "وكلّم الله موسى تكليما" (النساء 164) ؛ فهو يفضل الأنبياء بهذا التكليم المباشر (البقرة 253) "من وراء حجاب" (51:42) .

أما الوحي المباشر ، القائم على الرؤية ، فيبقى من نصيب السيد المسيح من حيث هو "كلمة الله" القائم في ذات الله قبل أن يُلقى الى مريم . فصار كلام الله فيه عينَ "كلمة الله" . فالوحي المسيحي الانجيلي هو وحي مباشر من الله بدون حجاب . فهو فوق التنزيل القرآني بالواسطة ، وفوق التكليم الموسوي "من وراء حجاب" : إنه ذروة الوحي والتنزيل ، بالاتصال المباشر بالله ، والمشاهدة بالعيان

جاء في الصحيحين حديث مشهور على لسان عائشة : "مَن زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية" ! واستشهدت بالآية : "لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار" (الأنعام 103) . فلم ير محمد ربه في تنزيل ، ولا في اسراء ، ولا في غيرهما . وكان الوحي اليه تنزيلا بواسطة الروح الأمين ، روح القدس ، جبريل .

وجاء في فاتحة الانجيل بحسب يوحنا : "في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان في الله ، والله كان الكلمة ، فهو منذ البدء في الله ... والكلمة صار بشرًا وسكن فيما بيننا ، وقد شاهدنا مجده ، مجد الآب على ابنه الوحيد ... إن الله لم يره أحد قط ، إلاّ الابن الوحيد القائم في ذات الله ، وهو الذي كشف عنه" (1 و14 و18) . قال السيد المسيح لعلاّمة اسرائيل نيقوديم : "الحق الحق أقول لك : إننا ننطق بما نعلم ، ونشهد بما رأينا ... فإنه لم يصعد أحد الى السماء إلاّ الذي نزل من السماء ، ابن البشر (لقب المسيح) الكائن في السماء" (يوحنا 11:3-13) .

فالوحي الانجيلي كشف ؛ والوحي التوراتي تكليم ؛ والوحي القرآني تنزيل بالواسطة ، لذلك فهو ، بحسب نظرية القرآن نفسها (الشورى 51–52) أدنى طرق الوحي .

لذلك يسمي القرآن نفسه تنزيلا (السجدة 2 ؛ الزمر 1 ؛ الجاثية 2 ؛ الأحقاف 2) . فهو يصرح : "إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا" (الانسان 23) . انه تنزيل رب العالمين ، ولكن بواسطة الروح الأمين جبريل : "وانه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين" (الشعراء 192–194) . وهذا التنزيل هو من الروح الأمين مباشرة ، لا من الله نفسه : "أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء" (الشورى 51) ؛ فالوحي القرآني هو من الروح الأمين مباشرة ، بإذنه تعالى وان سماه "كلام الله" ؛ فليس من اتصال مباشر في التنزيل القرآني بين الله ومحمد . فالله لم يكلّم بنفسه محمدا ، بل كلّمه ، بإذنه ملاك الوحي .

أجل ينسب القرآن تعابير الوحي والتنزيل الى التوراة والانجيل والقرآن على السواء (آل عمران 3–4) ؛ ولكن على طريق المشاكلة ، لا على طريق المقابلة ؛ فإن تعابير الوحي والتنزيل هي ، كما رأينا ، من متشابهات القرآن التي لا يُعرف مدلولها إلاّ بالقرائن القرآنية . وكل التصاريح والقرائن القرآنية تشهد بأن الوحي القرآني تنزيل بالواسطة ، ومن ملاك الوحي نفسه ، باسم الله واذنه . وهذه أدنى طرق الوحي : فكيف يكون معجزا بالنسبة الى التكليم التوراتي من وراء حجاب ؟ وخصوصا كيف يكون معجزا بالنسبة الى الكشف الانجيلي المباشر بدون حجاب ؟

فليس الوحي القرآني ، من حيث هو تنزيل بالواسطة ، وبتصديق القرآن ، من الاعجاز في التنزيل .

ثانيا : التنزيل القرآني بِوَسَط ووسيط

1– يصرّح القرآن عن نفسه أنه تنزيل بوسط ، لا كلام الله مباشرة للنبي : "بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ " (البروج 21 – 22) . فالقرآن يُنزَّل مباشرة من لوح يصفه أيضا بكتاب مكنون : "إنه لقرآن كريم ، في كتاب مكنون ، لا يمسه إلاّ المطهّرون" (الواقعة 77 – 79) . فهو قراءة لكتاب مكنون ، في لوح محفوظ . وهذا الكتاب المكنون ، المحفوظ في لوح ، يسميه أيضا أمّ الكتاب : "وانه في أمّ الكتاب لدينا ، لعليٌّ حكيم" (الزخرف 4) ، "وعنده أمّ الكتاب" (الرعد 39) .

سنرى في بحث لاحق سر هذه التعابير ومدلولها . يكفينا الآن أن نعلم ان اللوح المحفوظ ، والكتاب المكنون ، وأمّ الكتاب هي الوَسَط الذي نزل منه القرآن ، فهو تنزيل بوَسَط .

2– وهو تنزيل بوسيط . هذا الوسيط في التنزيل القرآني اسمه في مكة : "رسول كريم" (الحاقة ، التكوير) ، "حكيم عليم" (النمل 6) ، "الروح الأمين" (الشعراء 193) ، "روح القدس" (النحل 102) . وظل محمد حتى المدينة ، ومجابهة أهل الكتاب ، ليعرف أن اسمه جبريل : "قل : من كان عدوًا لجبريل ؟ فإنه نزّله على قلبك بإذن الله" (البقرة 97) .

فجبريل يقرأ القرآن على محمد من "كتاب مكنون" ، "في لوح محفوظ" . فهو تنزيل بوسيط ووسط . وتنزيل بوسيط ووسط . وتنزيل بوسيط ووسط ، هل هو من الاعجاز في التنزيل ؟ إنه لا يرقى الى التكليم المباشر ، من وراء حجاب ، كما في الوحي التوراتي . ولا يرقى الى التكليم المباشر ، بدون حجاب ، كما في الوحي الانجيلي .

ثالثا : تعدّد الوسائط في الوحي القرآني

عقد السيوطي فصلا قيّما في "كيفية إنزاله"(1) نرى فيه تعدّد الوسائط في الوحي القرآني . لقد صرّح : "شهر رمضان الذي أُنزٍل فيه القرآن" (البقرة) ؛ وصرح أيضا : إنا أنزلناه في ليلة القدر" (سورة القدر) . فاختلفوا في كيفية انزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال :

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الاتقان 40:1

"أحدها ، وهو الأصح الأشهر : انه نزل الى السماء الدنيا ، ليلة القدر ، جملة واحدة ؛ ثم نزل بعد ذلك منجَمًا في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين ، على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة ... وعن ابن عباس قال : فُصل القرآن من الذكر ، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم . أسانيدها كلها صحيحة . "ونزل جبريل على محمد ص بجواب كلام العباد وأحوالهم " ... فكان المشركون اذا أحدثوا شيئا أحدث الله لهم جوابا " ... وعن ابن عباس أيضا : انه أُنزٍل في رمضان ، في ليلة القدر ، جملة واحدة ، ثم أُنزل على مواقع النجوم رٍسْلاً في الشهور والأيام (رٍسْلاً اي رفقا . وعلى مواقع النجوم اي على مثل مساقطها) .

"القول الثاني أنه نزل الى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ؛ في كل ليلة ما يقدّر الله إنزاله في كل السنة ، ثم نزل بعد ذلك منجّمًا في جميع السنة ...

"القول الثالث أنه ابتُدئ انزاله في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة من سائر الأوقات ...

وقد حكى الماوردي (قولاً رابعاً) أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة ؛ وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة ؛ وأن جبريل نجمه على النبي ص في عشرين سنة ! ... (قلتُ) هذا الذي حكاه الماوردي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال : نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ الى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا . فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة . ونجّمه جبريل على النبي ص عشرين سنة" .

وهكذا ففي تنزيل القرآن ثلاثة تنزيلات على ثلاث مراحل ، الى ثلاثة مواضع : تنزيل أول جملة واحدة الى بيت العزة في السماء الدنيا ، على السفرة الكرام الكاتبين . ونزيل ثان نجم فيه السفرة القرآن في عشرين ليلة الى جبريل في مواقع النجوم . وتنزيل ثالث نجّمه فيه جبريل من مواقع النجوم على الأرض الى محمد ، في مدة عشرين سنة ونيف . وهم يرون في تعدّد الوسائط والتنزيل جملة فنجوما ، تفخيم أمر التنزيل القرآني والنبوة . وفاتهم ان تعدّد الوسائط في التنزيل بين الله والنبي ابتعاد بقدرها عن الاعجاز في التنزيل . فكلما

كان النبي في تلقي كلام الله أقرب اليه تعالى كلما زادت كرامة النبوة والتنزيل . فتعدّد الوسائط في الوحي القرآني يزيده بعدًا عن الاعجاز في التنزيل .

رابعا : تعارض نزول القرآن جملة ومفرّقا

وهم انما قالوا بتعدّد الوسائط في التنزيل القرآني ، وفي نزوله جملة فمفرّقًا ، للجمع بين تعارض القرآن في تصاريحه عن كيفية انزاله ، وللردّ على ادعاء اليهود والمشركين بنزول التوراة جملة .

فالتعارض قائم ما بين تصريح القرآن المتواتر من جهة : "حم . والكتاب المبين ، إنّا أنزلناه في ليلة مباركة – إنّا كنّا منذرين – فيها يُفرق كل أمر حكيم ، أمرًا من عندنا ، إنّا كنا مرسلين" (الدخان 1 – 5) "إنّا أنزلناه في ليلة القدر" (سورة القدر) ؛ "شهر رمضان الذي أُنزٍل فيه القرآن" (البقرة 185) – وتصريحه من جهة أخرى : "وقال الذين كفروا : لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة ! – كذلك ، لنثبّت به فؤادك ورتلناه ترتيلا" (الفرقان 32) ، "وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مُكْث ، ونزّلناه تنزيلا" (الاسراء 106) .

فآية الفرقان تؤكد ضمنا بأن القرآن نزل مفرقا ؛ وآية الاسراء تصرّح به ، وتشير الى ان اسم "قرآن" وفعل "نزّل" يدلاّن على النزول مفرقا . "أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (قالت اليهود : يا أبا القاسم لولا نُزّل هذا القرآن جملة واحدة كما أُنزلت التوراة على موسى) ؟ فنزلت ، وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ (قال المشركون) . وأخرج نحوه عن قتادة والسدي" . فالقرآن نزل مفرقا "لنثبت به فؤادك" ، "وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مُكْث" .

وآية (الدخان) وآية (القدر) تجزمان بأن القرآن نزل جملة في ليلة مباركة هي ليلة القدر ، من شهر رمضان .

فالتعارض ظاهر بين نزول القرآن جملة ، ونزوله مفرّقا . وللتخلّص من هذا التعارض قيل بنظرية نزول القرآن جملة الى السماء الدنيا ، وتنزيله مفرّقا على محمد . ولا أساس لهذه النظرية في القرآن ؛ والأمر الواقع المشاهد أنه نزل مفرقا مدة ثلاث وعشرين سنة . والنزول جملة لا يعني القرآن نفسه ، بل الأمر بالرسالة ، كما تصرّح به آية (الدخان) : "إنّا أنزلناه في

ليلة مباركة ... أمرا من عندنا ؛ إنا كنا مرسِلين" . وآية (الشورى) تكشف ان هذا الأمر بالرسالة كان هداية الى الايمان بالكتاب : "وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا : ما كنت تدري ما الايمان , ولا الكتاب ، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم" (52) . فملاك الوحي هداه ، ليلة القدر ، الى الايمان بالكتاب ، وهذا هو الصراط المستقيم . وتؤيد سورة القدر سورة الدخان بقولها : "ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " (3 – 4) . فقرائن السورتين تدل على ان الضمير في "أنزلناه" ليس القرآن ، بل الأمر بالايمان بالكتاب والدعوة له . وهكذا يزول التعارض ، وتذوب النظرية القائمة عليه من تنزيل القرآن جملة ثم مفرّقا .

وهل نزلت التوراة جملة ؟ ان الآية : "وقال الذين كفروا : (لولا نُزّل عليه (القرآن جملة واحدة) ؟ – كذلك ، لنثبت به فؤادك" (الفرقان 32) تشير الى ذلك . "فإن قلت : ليس في القرآن التصريح بذلك ، وانما هو على تقدير ثبوت قول الكفار . قلتُ : سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك ، وعدوله الى بيان حكمته دليل على صحته" . وينقل السيوطي رأي المفسرين والمحدثين والمتكلمين في نزول التوراة جملة ، ويختم بقوله : "فهذه آثار صحيحة صريحة في انزال التوراة جملة" .

وهذا الادعاء بنزول التوراة جملة ، الذي أثاره اليهود ومن بعدهم المشركون بوجه القرآن ، ممّا حمل القرآن على ذكره وعلى الرد عليهم . وبناءً على آية الفرقان (32) في الرد على المشركين ، ومن ورائهم اليهود ، بنوا رواية نزول القرآن جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا !

وما هو اجماع عندهم بشأن التوراة نفسها ، لا يقول به الراسخون في العلم من أهل الكتاب . نقل السيوطي (1) أيضا إجماعهم : " ان سائر الكتب أُنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماء وعلى ألسنتهم حتى كاد أن يكون إجماعا . وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك ، وقال : إنه لا دليل ، بل الصواب أنها نزلت مفرقة كالقرآن" . لم ينزل جملة من التوراة الى موسى سوى الوصايا العشر على لوحين ؛ وسائر التوراة نزل مفرقا ، وعلى أجيال .

ونقل أيضا ، في الحكمة بنزول القرآن مفرّقا : "وانما لم ينزل جملة واحدة لأن منه الناسخ والمنسوخ ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أُنزل مفرّقا . ومنه ما هو جواب لسؤال . ومنه ما هو انكار

ــــــــــــــــــــــــ

•  الاتقان 43:1

على قول قيل أو فِعل فُعِل . وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس : " ونزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم " ؛ وفُسِّر به قوله (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق) . أخرجه عنه ابن أبي حاتم" .

فهل ينسجم هذا الواقع القرآني المشهود ، مع التنزيل من لوح محفوظ ؟ إن تنزيل القرآن "بجواب كلام العباد وأعمالهم" ، مفرّقا على مقتضى الحال هل هو من الاعجاز في التنزيل ؟ وانما الاعجاز في التنزيل أن يأتي مبتدئا من الله .

خامسا : نزول القرآن بحسب الحاجة

افرد السيوطي ، في بحث كيفية انزال القرآن ، "فرعًا" بنزوله بحسب الحاجة . قال : "فرع . الذي استُقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة ، خمس آيات ، وعشر آيات وأكثر وأقل . وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة ؛ وصح نزول عشر آيات من أول (المؤمنين) جملة ؛ وصح نزول "غير أولي الضرر" وحدها وهي بعض آية ؛ وكذا قوله "وإن خفتم عيلة" إلى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية ، كما حررناه في (اسباب النزول) ، وذلك بعض آية . وأخرج ابن أشته في كتاب (المصاحف) عن عكرمة في قوله "بمواقع النجوم" قال : أنزل الله القرآن نجوما ، ثلاث آيات ، وأربع آيات ، وخمس آيات . وقال النكزاوي في كتاب (الوقف) : كان القرآن ينزل مفرّقا الآية ، والآيتين والثلاث والأربع وأكثر من ذلك . وما أخرجه ابن عساكر ، من طريق أبي نضرة قال : كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة ، وخمس آيات بالعشي ، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات . وما أخرجه البيهقي في (الشعب) من طريق أبي خلدة ، عن عمر قال : تعلموا القرآن خمس آيات ، خمس آيات ، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمسا خمسا . ومن طريق ضعيف عن علي قال : أُنزل القرآن خمسا خمسا ، إلا سورة الأنعام ، ومَن حفظه خمسا لم ينسه . فالجواب : إنّ معناه ، إن صح ، القاؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القدر حتى يحفظه ، ثم يُلقى اليه الباقي ، لإنزاله بهذا القدر خاصة . ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضا عن خالد بن دينار قال : قال لنا أبو العالية : تعلّموا القرآن خمس آيات ، خمس آيات ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمسا خمسا"

إن تمييز السيوطي بين الإلقاء الى النبي والانزال سفسطة ، لأن الأصل ما يتلقاه النبي من الوحي والتنزيل . وكان يتلقى القرآن الآية والآيتين والثلاث والأربع والخمس ؛ وأحيانا عشر آيات معا ؛ وأحيانا بعض آية . وذلك كله "بحسب الحاجة " ، "بجواب كلام العباد وأعمالهم" ، "فكان المشركون اذا أحدثوا شيئا أحدث الله لهم جوابا" . هذا كله على لسان ابن عباس ترجمان القرآن . فهل نزول القرآن آيات متفرقات بحسب الحاجة من الاعجاز في التنزيل ؟ ومن الاعجاز في النظم والتأليف ؟ ومن الاعجاز في البيان والتبيين ؟

سادسا : هل التنزيل القرآني وحيٌ ليلي ؟

يُصرّح القرآن عن كيفية إنزاله : "إنّا أنزلناه في ليلة مباركة" (الدخان 3) ؛ "إنا أنزلناه في ليلة القدر" (القدر 1) ؛ "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن" (البقرة 185) . فقد نزل القرآن ، على ظاهر قوله ، في ليلة مباركة ، هي ليلة القدر ، من شهر رمضان . هذا قول أهل السنة والجماعة ، بحسب ظاهر القرآن . وقد قدمنا رأيا مخالفا . ولكن اذا أخذنا بحسب ظاهر القرآن ، وبحسب رأي أهل السنة والجماعة ، ألا يكون تنزيل القرآن وحيًا ليليًا ؟ إن ظاهر الآية "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" (الدخان) ، وظاهر الآية ، "إنا أنزلناه في ليلة القدر" (القدر) ، يقطعان بأن الوحي القرآني ليلي . ويؤيده الحديث الصحيح عن عائشة أن أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة ، بغار حراء . وكانت رؤيا منام . وينقل السيوطي(1) ما نزل ليلا من أحاديث كثيرة : منها آية تحويل القبلة ... ومنها أواخر آل عمران ... ومنها سورة الأنعام ... ومنها سورة مريم ... ومنها أول الحج ... ومنها آية الاذن في خروج النسوة لحاجتهن ... ومنها أول الفتح ... ومنها سورة المنافقين ... ومنها سورة المرسلات ... ومنها المعوذتان . ويختم "بتبنيه : فإن قلت : فما تصنع بحديث جابر مرفوعا " أصدق الرؤيا ما كان نهارا ، لأن الله خصّني بالوحي نهارا" أخرجه الحاكم في (تاريخه) . قلتُ : هذا الحديث منكر ولا يحتج به " .

وقصة الأحداث العظام في السيرة والدعوة كانت وحيًا ليليًّا ، منها قصة الاسراء : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً " (الاسراء 1) ، ومنها قصة دخول المسجد الحرام بمكة : "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخُلُنّ المسجد الحرام ، إن شاء الله" (الفتح 27) .

ــــــــــــــــــــــــ

•  الاتقان 21:1–22

وتنزيل يكون "رؤيا بالحق" ، "ليلا" هل هو من الاعجاز في التنزيل ؟

النتيجة الحاسمة أن الوحي بوسيط ووسط ليس من الاعجاز في التنزيل .

تلك هي بعض ميزات أخرى للتنزيل القرآن : أكثره رؤيا بالحق ليلا ، ومفرّقا بحسب الحاجة ، يأتي آيات متفرقات على مقتضى الحال ، تتعدّد فيها الوسائط ، فهو تنزيل بوسيط ووسط . والقول الفصل : إن القرآن وحي بالواسطة ، لا تنزيل مباشر من الله . فالله نفسه لم يكلّم محمدا ، إنما كلمه بأمره "الروح الأمين" . وأدنى طرق الوحي ، بنص القرآن القاطع ، أن "يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " (الشورى 51) .

فهل الوحي بالواسطة هو من الاعجاز في التنزيل ؟

التالي