التالي

الجزء الأول

الإعجاز القرآني من حيث البيئة

توطئة

الإعجاز من حيث الزمان والمكان معجزة

"الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الانعام 124)

منذ أن قال الجاحظ ، الفارسي المستعرب ، بإعجاز القرآن في لفظه ونظمه ، أخذوا يستنبطون المناسبة في معجزة موسى وعيسى ومحمد . فوجدوا إشاعة السحر في زمن موسى ، وإشاعة الطب ، أو الطب الروحاني ، في زمن عيسى ، وإشاعة سحر الكلمة في زمن محمد وبيئته . فكانت معجزات موسى ممّا يشبه السحر ويُعجزه ، ومعجزات عيسى مما يشبه الطب والابراء ويُعجزه ، ومعجزة محمد ممّا يشبه سحر الكلمة ويُعجزها .

وفي هذه المناسبة " زمان المعجزة ومكانها " كما يقول عبد الكريم الخطيب(1) : "كان من تدبير الحكيم العليم وتقديره أن تقع معجزات الرسل موقعها المناسب ، كي تطلع الثمر المرجو

ــــــــــــــــــــــــ

(1) اعجاز القرآن 83:1 – 118

منها (ص 83) . والذي كان يرصد مجرى الحياة العربية قُبيل البعثة النبوية ، كان يرى أن أوضح ظاهرة في هذه الأمة ، وأقوى قوة عاملة فيها هي الكلمة ... فما عرفت الحياة أمة من الأمم كانت الكلمة مالكة زمامها ، ومصرّفة أمرها ، ومنطلق حياتها ومسبح آلامها وآمالها ، كالأمة العربية منذ جاهليتها الى أن طلع عليها الاسلام ونزل عليها القرآن (ص 87) . وهنا يأتي دور الكلمة فتؤدّي رسالتها العظيمة في هذا المجال . إذ لا يملك العربي إذ ذاك شيئا غيرها : فلا رسم ولا نحت ، ولا تصوير ، ولا تمثيل ، ممّا تسمح به الحياة المستقرة المطمئنة ، الأمر الذي لم يكن ليتاح لأهل البادية وسكان الصحراء – ليس غير الكلمة إذن ... ونستطيع أن نؤكد أن العرب وحدَهم من بين سائر الأمم هم الذين استطاعوا أن يصوغوا الحياة كلها في تلك الكلمات التي أصبحت لغة مكتملة البناء راسخة الأركان ، بما أبدعوا وولدوا من أمهاتها وأصولها . ونستطيع أن نؤكد أيضا أن العرب قد استطاعوا أن يحمّلوا لغتهم كل ما تحمل الفنون الجميلة كلها من ملهمات وأسرار . فالموسيقى بألوانها وأنغامها ومقاماتها قد حواها الشعر العربي في تفاعيله وبحوره وقوافيه (ص 91) . فإن كان ما في الحياة من معطيات الفنون والاداب قد ضمته العربية اليها وجعلته بعضا منها ... فالشعر الجاهلي الذي أدرك الاسلام أو أدركه الاسلام هو الصورة الكاملة للبيان العربي ، وهو الشهادة القاطعة لما بلغته الكلمة في اللسان العربي من امتلاكها كل ما يمكن من قدرة على الابانة عن أدق المشاعر الانسانية ، وأعمق الأحاسيس ، بما لا تقدر عليه وسائل الابانة من لغة ورسم ونحت وتصوير وتمثيل متفرقة أو مجتمعة (ص 92) . ومن الواضح أن الشعر الجاهلي الذي حُفظ عن تلك الفترة اعتُبر الصورة الكاملة للشعر الجاهلي " (ص 94) .

" اللغة العربية ومكانتها بين اللغات . ولعلك تذكر هنا بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند ، في القديم ‍ كما تذكر أساليب البيان الأوربّي وما نبغ فيه من كتاب وشعراء في العصر الحديث . لعلك تذكر هذا فتعترض على ما قلناه في البيان العربي وفي تفرّده بمنزلة لا يشاركه فيها غيره . لعلك تذكر هذا ، وربما نذكره نحن أيضا معك فإننا لا نبخس الناس حقهم حين نتمسك بحقنا وندافع عنه . ولكنا مع هذا لا نرى أن بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند ، وبلاغة الأدب الاوربي الحديث ، لا نرى شيئا من هذا يعلو البيان العربي أو

يساويه ! ‍ وان وقفت منه بعض تلك الآداب موقفا مدانيا مقاربا وشاهدنا على هذا قائم بين أيدينا على مرّ الايام والسنين : وهو القرآن الكريم" (ص 113) .

بعد تلك المقدمات يخلص الى القول : "ونستطيع بعد هذا ان ننتهي الى مقرّرات . أولا : أن القرآن الكريم معجزة في ذاته ، وأن معجزته محمولة في كلماته التي نزل بها . ثانيا : أن المعجزة القرآنية جاءت في زمانها ومكانها ... ولعل في قوله تعالى : " الله اعلم حيث يجعل رسالته " ما يشير الى هذا المعنى . فان كلمة "حيث" يعبّر بها عن المكان . والمكان يحويه زمان . ويعيش فيه اشخاص . وبهذا يكون استعمال القرآن لهذه الكلمة " حيث " معجزة تنطلق منها اشارات مضيئة ، تشير الى الرسول ، والى المرسل اليهم ، والى زمن الرسالة ومكانها . فقد اصابت الرسالة مكانها في شخص الرسول ، وفي العرب المرسل اليهم ، في زمان ومكان معلومين . ثالثا : ان الأدب الجاهلي ، وخاصة الشعر – هو المنظور اليه في معرض التحدي . وهو الذي وقع الاعجاز عليه ، إذ كان هذا الأدب ، وهذا الشعر ، غاية ما يمكن أن يرقى اليه فنّ القول في مجال العمل الإنساني ، في استصحاب الكلمة والتعامل بها" (ص 117 – 118) .

إنّ تعميمات الشيخ عبد الكريم الخطيب عن الآداب العالمية تجاه الأدب العربي ، وعن البيان العالمي تجاه الشعر الجاهلي ليس لها من أساس علمي . ولسنا ندري هل يقرّه علماء الآداب واللغات العالمية على سيادة اللغة العربية عليها ، خصوصا في الأدب الجاهلي وبيانه . فهل يقاس بما اعطته جاهلية اليونان من آداب وفنون من الياذة هميروس ، أو إلياذة فرجيل ، أو فردوس دانته ، أو اسطورة الدهور لفكتور هوجو ؟ ولا أظن أن الأدباء العرب يقرونه على تفضيل الشعر الجاهلي على الشعر العربي كله بدون استثناء . فالمقدمتان الكبرى والصغرى من قياسه ساقطتان .

والآن نبحث وجه الحكمة 1) في اختيار الجزيرة العربية 2) واختيار لسان العرب 3) وفي توقيت الرسالة المحمدية ، لنرى هل من معجزة في بيئتها : إذ "الله أعلم حيث يجعل رسالته " .

التالي