التالي

بحث ثان

هل من معجزة في اختيار لسان العرب للقرآن ؟

تنزيل الله معجز بحد ذاته بأيّ لسان أُنزل . وقد نزل وحي الله باللسان العبري فالأرامي فاليوناني ، قبل أن يُفصّل في القرآن العربي . فمن حيث الأوّلية في التنزيل ليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن . وليس اختيار لسان العرب للقرآن لأنه أحق بالشفعة والامتياز للاعجاز اللغوي والبياني .

فالقرآن نفسه يشهد للكتاب بالإمامة في التنزيل ، ويشهد لنفسه بأنه تابع : "أفمن كان على بيّنة من ربه – ويتلوه شاهد منه ؛ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة – اولئك يؤمنون به ؛ ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده : فلا تكُ في مرية منه ، انه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (هود 17) . إن القرآن يأمر محمدا بأن لا يشك من القرآن البالغ له لثلاثة أسباب : لأن مَن هم على بيّنة من ربهم في الوحي والتنزيل يؤمنون به ؛ ثم لأن "من قبله كتاب موسى إماما" ، فإمامة الكتاب للقرآن العربي برهان على صحته ؛ ويتلو القرآن العربي على محمد شاهد من قِبَله تعالى ؛ وهو مثل قوله : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) فمثل القرآن العربي عند بني اسرائيل النصارى – نقول النصارى لأنه على خلاف دائم مع اليهود ، ولأن القرآن يقسم بني اسرائيل الى طائفتين (الانعام 156) ، "فآمنت طائفة (بالمسيح) وكفرت طائفة" (الصف 14) – "ويتلوه شاهد منه"

ما على محمد أن يشك بلقائه بالكتاب في القرآن العربي ، لأن أئمته يهدون محمدا اليه بأمر الله : "ولقد آتينا موسى الكتاب ، فلا تكن في مرية من لقائه ، وجعلناه هدى لبني اسرائيل ، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" (السجدة 23 – 24) . فما على محمد أن يشك

بلقاء الكتاب في القرآن لأن الله جعل من بني اسرائيل النصارى أئمة يهدون الى هدى الكتاب الذي معهم . فمحمد بالقرآن العربي يهتدي الى هدى الكتاب بواسطة أئمة بني اسرائيل النصارى . لذلك فهو يسمّي هؤلاء الأئمة "الراسخين في العلم" ، وهو يستشهد بإيمانهم "بما أُنزل اليك وما أُنزل من قبلك" (النساء 162) ، ويستشهد بإيمانهم بمتشابه القرآن كما بمحكمه : "والراسخون في العلم يقولون : آمنّا به كلٌ من عند ربنا" (آل عمران 7) .

وهذا كله لأن القرآن العربي ليس إلاّ تصديقا للكتاب بلسان عربي : "قل : أرأيتم إنْ كان من عند الله ، وكفرتم به – وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم – إن الله لا يهدي القوم الظالمين ... ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ، وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا ، لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين" (الاحقاف 10 – 12) . فالقرآن من عند الله لأن شاهدا من بني اسرائيل النصارى "شهد على مثله" ، ولان "من قبله كتاب موسى إماما ورحكمة" ، فإمامة الكتاب للقرآن ، بعد "المثل" النصراني هما البرهان على أن القرآن العربي من الله ، وصفته الكبرى انه "كتاب مصدق لسانا عربيا" فميزته الخاصة تصديق الكتاب بلسان عربي ، ليس فيه سوى هذا . وهذا المعنى متواتر في القرآن . ففي هاتين الآيتين سر القرآن كله : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) ، "ويتلوه شاهد منه" (هود 17) . إن "مثل" القرآن عند انصارى من بني اسرائيل ، ويتلوه على محمد شاهد منهم بأمره تعالى . وبما أن ميزة القرآن العربي تصديق الكتاب ، عن طريق "المثل" ، بلسان عربي ، فليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن ، فهو ليس سوى مصدّق .

فتعريف القرآن العربي أنه "تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين" (يونس 37) . إنه "تفصيل الكتاب" أي تعريبه بلغة القرآن . فالميزة باختيار اللسان ليست للمفصِّل ، بل للمفصَّل ؛ وحسب النسخة المعرَّبة أن تكون مثل الإمام الأصْل ، طبق "المِثْل" الذي "يتلوه شاهد منه" ، "شاهد من بني اسرائيل على مثله" . وهذا المعنى متواتر أيضا في القرآن : فهو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ؛ "كتاب أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير" (هود 1 ) ؛ وتنزيل من الرحمان الرحيم " كتاب فُصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " (فصلت 2 – 3) . فالتنزيل هو أولا في الكتاب الإمام ، وفي

"المثل" ، ثم تُرجمت آياته قرآنا عربيا ، بواسطة حكيم خبير . لذلك فهو يجزم : " وإنه لتنزيل رب العالمين ... وانه لفي زبر الأولين : أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل" النصارى (الشواء 192 – 197) . فالقرآن هو تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين ، أي "كتبهم كالتوراة والانجيل" (الجلالان) . وآية محمد أن الراسخين في العلم يعلمون ذلك ، ويشهدون به ، ويؤمنون به . وهذه الشهادة تكفيه : "ويقول الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا ومن عنده علم الكتاب" (الرعد 43) . فشهادة القرآن لنفسه أنه تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين ؛ وأنه "تفصيل الكتاب" ؛ وانه تصديق الكتاب " لسانا عربيا " ؛ وأن إمامه الكتاب في الهدى والبيان ؛ وأن "مثل" القرآن عند بني اسرائيل النصارى يتلونه على النبي ويفصله له حكيم خبير – كلها ميزات يشهد بها القرآن ان الفضل للسان الإمام قبل أن يكون للسان المفصَّل قرآنا عربيا .

قد يقولون : إنَّ التحدي بالسان لم يقع في الكتاب الإمام ، بل بالقرآن العربي ، فالفضل للسان العربي على السنة العالمين . يُردّ عليه بأن التحدي بإعجاز القرآن لم يكن بلسانه بل بهداه : "قل فاتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما أتّبعه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) . والفضل في الهدى للكتاب المفصَّل ، لا للكتاب المفصِل .وقد رأينا أن التحدّي بإعجاز القرآن كان بمكة وحدها للمشركين ؛ فلمّا تحوّل الخطاب في القرآن المدني لأهل الكتاب سكت عنه بعد (البقرة 23) ، ونسخه بالنسخ في أحكامه (البقرة 106) والمتشابه في اخباره وأوصافه (آل عمران 7) وهو أكثر القرآن . فالواقع القرآني نفسه يشهد بأنه ليس من معجزة في اختيار اللسان العربي للقرآن ، فهو "تفصيل الكتاب" للعرب ، وتعليمهم "الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل .

التالي