التالي

بحث ثان

الشمول في موضوع الدين

تلك المواقف القرآنية الصريحة ، وغيرها كثير ، تحدّد الشمول والكمال في موضوع الدين في الاسلام والدعوة القرآنية . إنه شمول وكمال مقصوران على "تفصيل الكتاب" ، وتعليم "الكتاب والحكمة" للعرب ، وتصديق الكتاب الإمام ، والكتاب المنير بين العرب : "وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيا" .

فمهما كان الشمول في الاسلام ، ومهما كان الكمال في الدعوة القرآنية ، فهما شمول وكمال من اسلام أولي العلم المقسطين ، والراسخين في العلم ، الذين أُمر محمد بأن يقتدي بهداهم (الانعام 90) .

أولا : الشمول في توحيد شئون الدنيا والآخرة

يقول العقاد (1) : "كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة" . فالاسلام يهتم بشؤون الدنيا كما يهتم بشؤون الآخرة . وفي هذا كمال وشمول . لكن هل الاهتمام بشؤون الدنيا من أغراض الوحي والتنزيل ؟ إن الله تعالى خلق العقل ، وجعل في كتاب الخلق ميدانا للعقل يتدبّر به الإنسان أمور دنياه ، ويتدبرها بحسب تطور البشرية في الحضارة والثقافة . فالدنيا عالم الشهادة لا يحتاج الى وحي يكشفه لنا . فالعقل هو نبي كتاب الخلق يقرأه كلما اتّسع ادراكه واتسعت معرفته .

والقرآن يقرّر : "إن النفس الأمّارة بالسوء" (يوسف 53) ؛ "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين" (التين 4 – 5) . فبانقلاب الانسان من أحسن تقويم الى أسفل سافلين ، صارت فيه النفس أمّارة بالسوء . هذا التعليم القرآني هو تعليم المسيحية في الخطيئة الموروثة عن آدم ، في ميلها الفطري الى السوء .

فهل الشمول والكمال في التحريض على الزهد في الدنيا ، أم في التحريض على الأخذ بالنصيب من الدنيا : "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا " (القصص 77) "إن النفس الأمّارة بالسوء" ، فهل من الكمال والشمول تحريضها على الاستمتاع بطيبات الدنيا ، بتشريع يزداد في التحريض : "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم" ! (البقرة 172) "يسألونك : ماذا أُحلَّ لهم ؟ – قل : أُحلَّ لكم الطيبات" (المائدة 4) "اليوم أحلَّ لكم الطيبات" (المائدة 5) "يا أيها الذين آمنوا تحرّموا طيّبات ما أُحلَّ لكم ، ولا تعتدوا (أمر الله) إن الله لا يحب المعتدين" (المائدة 87) . قال الجلالان : "نزل لمّا هم قوم من الصحابة أن يلازموا الصوم والقيام (في الليل للصلاة) ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا يناموا على الفراش . (ولا تعتدوا) ولا

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الاسلام في القرن العشرين ص 26

تتجاوزوا أمر الله" . "وكلوا ممّا رزقكم الله حلالا طيبا" (المائدة 88) فقد نسخ القرآن المدني بهذه الدعوة لاستباحة الطيبات من الدنيا ، دعوة القرآن المكي الى الزهد .

ومن طيبات الدنيا المرأة : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء : مثنى وثلاث ورباع – فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . ذلك أدنى ألا تعولوا" أي تجوروا (النساء 3) . إباحة الجمع بين أربع نساء معا من طيبات الحياة . أمّ التسري بملك اليمين من الإماء فلا حدّ له ولا قيد . والحدّ في أربع نساء معا يخرقه إباحة الطلاق ، فيعود الزواج بالنكاح والطلاق بلا حد ولا قيد . أماّ تعبير "ما" بحق النساء ، وهو يُستعمل لغير العاقل ، فالخوف أن يستشفّ من أن المرأة شئ لمتعة الرجل .

ومن تسهيل الدين في سبيل الدنيا : " ما جعل عليكم في الدين من حرج " (الحج 78) .

فهل في رفع الحرج من الدين في طيبات الدنيا ، وإباحة الطيبات من الرزق ومن النساء بالطلاق والتسري ، وأخذ النصيب من الدنيا ، هو من الشمول والكمال في جمع شؤون الدنيا الى شؤون الآخرة ؟

ثانيا : الشمول في الجمع بين الجسد والروح في الدين

يقول العقاد(1) : "كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة ، وبين الجسد والروح ؛ ولا يعاني هذا الانفصام الذي يشق على النفس احتماله ، ويحفزها في الواقع الى طلب العقيدة ، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام ... وينبغي أن تفرّق بين الاعتراف بحقوق الجسد وانكار حقوق الروح ، فإن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم انكار الروحانية ... إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح" .

هنا يعرّض العقاد بالموسوية وماديتها على حساب الروح ، وبالمسيحيّة وروحانيتها على حساب الجسد ، كما يقولون . والشمول يجده في الاسلام الذي يعترف بحقوق الجسد ، كما يعترف بحقوق الروح .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الاسلام في القرن العشرين ص 26 و 28

أجل يقول الانجيل : "لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ! ولا لأجسادكم بما تلبسون" (متى 25:6) . لكن هذا لا يعني التنكّر لحقوق الجسد ، بل الفصل كله تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد : يستفتح بالمبدأ : "لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال" لأن عبادة المال وثنية على حساب عبادة الله : "لا يستطيع أحد أن يخدم سيدين : فإنه إمّا يبغض الواحد ويُحب الآخر ، أو يلزم الواحد ويرذل الآخر" (متى 24:6) . ويستنتج من ذلك : "من أجل ذلك أقول لكم : لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ، ولا لأجسادكم بما تلبسون : أليست النفس أعظم من الطعام ، والجسد أعظم من اللباس" (متى 25:6) فالقضية قضية تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد ، وحق الروح أفضل من حق الجسد . فالذي يقوت طير السماء ، ويلبس زنابق الحقل ، "كم بالأحرى يلبسكم أنتم ، يا قليلي الايمان ؟ فلا تقلقوا إذن قائلين : ماذا نأكل ؟ أو ماذا نشرب ؟ أو ماذا نلبس ؟ – فهذا كله يطلبه الأمّيون ، وأبوكم السماوي عالم بأنكم تحتاجون الى هذا كله" (متى 26:6 – 32) . والنتيجة المطلوبة هي هذا التعليم السامي الذي يضع شؤون الروح وشؤون الجسد كلا في مكانها : "فاطلبوا أولا ملكوت الله وبِرَّه ، وهذا كله يُزاد لكم" (متى 33:6) . ففي سبيل الله يجب الاهتمام أولا بالروح ، من دون اهمال للجسد ؛ لأن حق الروح علينا أفضل من حق الجسد . وهذا التقييم ليس انكارا لحق الجسد ، ولا يجعل انفصاما في الانسان يشق عليه احتماله ، فيهيم بين الحيرة والانقسام . لكن هذا التقييم يعصم الانسان من الانزلاق في شهوات الجسد على حساب الروح .

فالروح قائم في الجسد ، غارق في الحسّ وفي دنيا المحسوسات ، حتى صارت "النفس أمّارة بالسوء" ؛ فقد "زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والانعام والحرث – ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب" (آل عمران 14) .

فليس الانسان بحاجة الى تذكيره بحقوق الجسد ، فإنه متكالب عليها . إنم هو بحاجة الى حمله علىالقيام بحقوق الروح في سبيل الله واليوم الآخِر : "وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو ، وللدّار الآخرة خير للذين يتّقون ، أفلا تعقلون" (الأنعام 32) . فليس الانسان بحاجة الى تخفيف في أحكام الجسد ، ليلة الصيام : "أحلَّ لكم ، ليلة الصيام ، الرَّفَث الى نسائكم : هنَّ لباس لكم ، وأنتم لباس لهن . علم الله أنكم كنتم تختانون ( تخونون ) أنفسكم ، فتاب

عليكم وعفا عنكم : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" (البقرة 187) . وهكذا يُبطل الليل ما حرّم النهار .

وليس بحاجة الى تخفيف في كيفية مباشرة النساء . قال : "فإذا تطهّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله" (البقرة 222) . فاعترض عمر ومَن معه فنزل للحال : "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم" (البقرة 223) . وفي (أسباب النزول) نقل السيوطي أنها "رخصة في إتيان الدبر" ونقل أيضا أن الأنصار كانوا "يرون لأهل الكتاب فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم . وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلاّ على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة . وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك ؛ وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا ، ويتلذّذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرت عليه وقالت : إنّما كنّا نؤتى على حرف . فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم" !

فميزة القرآن التخفيف من سنن أهل الكتاب : يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم ... يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا " (النساء 26 و28)

إن مسايرة الضعف الانساني ، في احكام الله ، للتخفيف منها ، هل هو من الاعجاز في التشريع ؟ وهل تخفيف أحكام الله في سبيل حقوق الجسد ، من الاعجاز في الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد ؟ أجل إن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم إنكار الروحانية ، في الدعوة القرآنية . أجل أيضا "لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد ، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر

الروح" ! لكن هل يوصف بالشمول والكمال دين يركّز دعوته على حقوق الجسد ، كما يركّزها على حقوق الروح ؟ أليس الشمول والكمال في تقييم حقوق الروح والجسد في سلّم القيم ؟

إن في رفع الحرج في الدين "بين الدنيا والآخرة ، أو بين الجسد والروح" خطر على الروح وعلى الآخرة : "إن النفس لأمّارة بالسوء" . وهذا ما تنبّه له الأستاذ العقاد(1) في

ــــــــــــــــــــــــ

(1) حقائق الاسلام وأباطيل خصومه ص 110

كتابه الى المؤتمر الاسلامي : "في تنبيه المتدين الى حقيقتين لا ينساهما الانسان في حياته الخاصة أو العامة إلاّ هبط الى درك البهيمية في هموم مبتذلة لا فرق بينهما وبين هموم الحيوان الأعجم ، إن صح التعبير عن شواغل الحيوان الأعجم بكلمة الهموم . "إحدى الحقيقتين التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبّه اليها ضمير الانسان على الدوام هي وجوده الروحي الذي ينبغي أن تشغله على الدوام مطالب غير مطالبه الجسدية وشهواته الحيوانية . "والحقيقة الأخرى التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبه اليها ضميره ، هي الوجود الخالد الباقي ، الى جانب وجوده الزائل المحدود في حياته الفردية . ولا مناص من تذكر الفرد لهذا الوجود الخالد الباقي ، إذا أُريد فيه أن يحيا حياة تمتد بآثارها الى ما وراء معيشته اليومية ، ووراء معيشة قومه ، بل معيشة أبناء نوعه"

أليس هذا هو التقييم الذي أراده الانجيل بتفضيل الروح على الجسد ، مع اعطائه حقه ؛ وتفضيل الآخرة على العاجلة ، مع أخذ النصيب الصالح منها ؟

فليس الشمول والكمال في جمع وتوحيد شؤون الجسد والروح معا .

ثالثا : الشمول في جعل الإسلام دينا ودولة معا

يقولون : ومن الشمول في الاسلام أنه دين ودولة معا ؛ فهو نظام حياة كامل . ففي المدينة : "أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعملية التي يجب أن تقوم عليها الدولة"(1) ؛ "وانه تعرَّض لشؤون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرَّض للأعمال التعبدية" كما نقلوا عن الامام حسن البنّا(2) .

لكن اذا كان القرآن المدني تشريعا لبناء الدولة ، وجهادا لحمايتها ، فيكون كله تنزيلا لقيام دولة أكثر مما هو وحي لقيام دين . وهل البشر بحاجة الى وحي وتنزيل لقيام الدولة ، أم بحاجة الى كلام الله لقيام الدين ؟ فليس الكمال في تحويل الدين الى دولة دينية ، يكون الدين فيها رهين الدولة ، وعرضة لتقلباتها . وليس الشمول في توحيد الدين والدولة في عقيدة واحدة ونظام واحد ؛ لأن الدولة قومية ، والدين عالمي فوق القوميات والدول ، ممّا

ــــــــــــــــــــــــ

•  عمر فروخ : العرب والاسلام ص 42

•  أحمد محمد جمال : دين ودولة – المقدمة الأولى

يجعل صراعا مستديما بين الدين والقومية ، وبين الدين والدولة ؛ وممّا يجمّد الدولة على أحكام للدين نزلت في بيئة بدائية .

يقول العقاد(1): "ومن هنا (شمول العقيدة للدين والدولة) لم يذهب الاسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر ... وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين ، وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله" .

وفات الأستاذ أن الانجيل "لم يذهب مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر" ، بل مذهب التمييز لاعطاء قيصر حقه في الحكم واعطاء الله حقه في الدين ، حتى ولو كان قيصر خليفة الله في أرضه ، وأمير المؤمنين . فالتمييز بين الدين والدولة – لا التفرقة – هو الكمال لأنه يُعطي كل ذي حق حقه . فقد يأتي يوم يكون فيه قيصر أحمر ، لا يستطيع المتدين تطويع قيصر لأمر الله . وفي تطور البشرية قد يأتي يوم تصطدم فيه أحكام الدين مع ضرورات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فتصطدم الدولة مع الدين في تشغيل رأس المال بالبنوك كما في التجارة ؛ وفي قطع يد السارق وقد يكون السارقون في الأمة كثيرين ؛ وفي قبول تعدد الأديان والمذاهب في الدولة الواحدة ؛ وفي ضرورة تحديد النسل "خشية املاق" وارهاق لطاقات الأمة ؛ وضرورة تحديد الطلاق ووحدة الزوجة . ففي وحدة الدين والدولة تقييد لتطور الأمم والدول ، لأن أحكام الدين لا ينسخها إلاّ لله ، أمّا أحكام الدولة فيضعه دستورها حسب حاجاتها وطاقاتها ، فيقوم دستور مكان دستور .

فليس الشمول ، ولا الكمال في جمع الدين والدولة معا ، بل في تمييز الدين عن الدولة ، وفي تنزيل أحكام الدين دستورية فوق الزمان والمكان ، لا قانونية مرهونة بزمان ومكان . فلن تقبل البشرية على الدوام أن يكون "حظ الذكر مثل حظ الانثيين" ! ولا تكون الأمة طبقات : "وهو الذي ... رفع بعضكم فوق بعض درجات" (الانعام 165) ؛ ولا أن يكون الطلاق في عصمة الرجل يجري فيه على هواه إن الكمال في تمييز الدين عن الدولة ، لا في دمج الدين بالدولة . ودمج الدين بالدولة شمول مشبوه .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الاسلام في القرن العشرين ص 27

التالي