التالي

بحث أول

معنى آية الحفظ

إن معجزة إعجاز القرآن في حرفه تقوم على معجزة حفظه سالما كما أُنزِل . ويقولون إن في قوله : "إنّا نحن نزّلنا الذكر ، وإنّا له لحافظون" (الحجر 9) نبوءة عن حفظه ، وشهادة بمعجزة حفظه . وفاتهم أن القرائن القريبة والبعيدة لا تقتصر "الذكر" على القرآن ، بل هو مرادف للكتاب ، كما أن "أهل الذكر" مرادف "لأهل الكتاب" .

ترد آية الحفظ في ردّه عليهم في تهمة الجنون : "وقالوا : يا أيها الذي نزّل عليه الذكر ، إنك لمجنون ! لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين !

(ردّ اول) – ما نزّل الملائكة إلاّ بالحق ، وما كانوا إذًا منظَرين !

(جملة معترضة) – إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون

(ردّ ثانٍ) – ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين . وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزِئون . كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به ، وقد خلق سُنة الأولين .

(ردّ ثالث) – ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ، لقالوا : "إنما سُكّرت أبصارنا ، بل نحن قوم مسحورون" ! (6 – 15) .

يعتبر المشركون ادعاء تنزيل الذكر على محمد جنونا ، ويطلبون شاهدا على صحة ادعائه من إتيان الملائكة معه . فيردّ عليهم أولا بأن نزول الملائكة مع القرآن سبب بلاء عظيم لهم

(8) . ويرد عليهم ثانيا بأن الاستهزاء بالرسل مرض قديم وأن سُنة الله هي تعذيبهم بتكذيب أنبيائهم (10 – 13) . ويرد عليهم ثالثا بأنه اذا فتح الله بابا من السماء فظل الملائكة فيه يعرجون ، لقالوا : انما سُكّرت أبصارنا ! بل نحن قوم مسحورون ! (14 – 15) .

فالأجوبة الثلاثة متناسقة مترابطة في الردّ عليهم . لكن ما صلة حفظ الذكر بالرد على تهمة الجنون أو تنزيل الملائكة ؟ إنها آية مقحمة على السياق ، فهي في غير موضعها .

ثم نلاحظ الاطلاق في تعبير "الذكر" في الآية (9) كما في الآية (6) . فليس التعبير خاصا بالقرآن حتى يكون تعهّد الله بحفظه خاصا بالقرآن وحده . فالذكر ، في لغة القرآن ، مرادف للكتاب . وعلى الحصر ، فهو مخصوص بالتوراة ، كقوله : "ولقد كتبنا في الزبور ، من بعد الذكر ، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" (الأنبياء 105) ؛ كما هو مخصوص بالإنجيل كقوله : "ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم" (آل عمران 58) . "ذلك" أي قصص عيسى وآل عمران (33 – 58) . فالذكر الحكيم ، خلافا لما يتوهمه العامة ، مرادف للانجيل . وتخصيص الذكر بالكتاب ، أي التوراة والانجيل ، يتّضح من تسمية القرآن "أهل الكتاب" "أهل الذكر" : "فاسألوا أهل الذكر ، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر" (النحل 43 – 44) ؛ كقوله دائما : "فاسألوا أهل الذكر ، إن كنتم لا تعلمون" (الأنبياء 7) . فالذكر على الاطلاق هو الذي عند أهل الكتاب ، أهل الذكر . وما الذكر الذي نزل على محمد سوى تفصيل للذكر الحكيم ، كما أن القرآن هو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) . فإنه بعد استشهاده بأهل الذكر يقول للحال : "وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزل اليهم ولعلّهم يتفكرون" (النحل 44) . فالذكر نزل في الكتاب الإمام ، "والذكر الحكيم" نزل في الانجيل ؛ والقرآن انما هو بيان الذكر الذي نزل من قبل للناس . فتعهد الله بحفظ الذكر المنزل إنما يتعلّق أولا بالكتاب ثم بالقرآن .

ومطلع سورة الحجر يشهد بذلك : "آلر . تلك آيات الكتاب ، وقرآن مبين" (1) . إن النبي ، كما يظهر من الاشارة " تلك " قد تلا "آيات الكتاب" في قرآن عربي مبين لها ، ثم علّق عليها بما تيسّر في سورة الحجر . فاسم الاشارة "تلك" يتعلق بما سبق ، لا بما يأتي . فالذكر الذي يتعهد الله بحفظه هو "آيات الكتاب وقرآنٍ مبين" ، قبل ما يأتي في سورة الحجر ، وسائر سور القرآن العربي .

وتنزيل "الذكر" الى النبي العربي ، تعبير متشابه لا يجزم بكيفيّة ، كقوله في السورة عينها : "وإن من شئ إلاّ عندنا خزائنه ، وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم . وأرسلنا الرياح لواقح ، فأنزلنا من السماء ماء ، فأسقيناكموه ، وما أنتم له بخازنين" (الحجر 21 – 22) . فالله أنزل القرآن العربي ، كما أنزل من السماء ماء ، وكما ينزّل من كل شئ بقدر معلوم . فتنزيل القرآن هو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ، وهو "تيسير" القرآن أي الكتاب للذكر ، كما يردّد : "ولقد يسّرنا القرآن للذكر" (القمر 17 و22 و32 و40) ؛ وكما يُقسم : "والقرآن ذي الذكر" (ص 1) ، فلا يكون القرآن العربي المقسَم به والمقسَم عليه معا : فهو يقسم "بالقرآن ذي الذكر" على أمرٍ ما ، "وجواب هذا القسم محذوف" (الجلالان) . فالقرآن ذو الذكر هو الكتاب الإمام ! "والذكر الحكيم" هو الانجيل . فالذكر على الاطلاق الذي تعهّد الله بحفظه هو أولا الكتاب ، أي التوراة والانجيل ، ثم القرآن العربي ، لأنه "تفصيل الكتاب" (يونس 37) وتلاوة من آي "الذكر الحكيم" . هذا معنى آية "الحفظ في قرائنها القريبة والبعيدة . فليس فيها برهان على نبوءة بحفظ القرآن العربي ، ولا على معجزة في حفظه سالما .

وحفظ القرآن العربي قد يقوم بتواتر معناه من دون حرفه . فقد أجاز النبي ، وعمل الخلفاء الراشدون بإجازة قراءة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف . وهم إنما أجازوا قراءَة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف ، لأنها في نظرهم "لم تختلف في شئ من شرائع الاسلام ؛ ولا يتنافى هذا مع قوله جلّ شأنه (إنّا نحن نزّلنا الذكر ، وإنّا له لحافظون) لأن المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ لا منطوقها ... لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستَدلّ بها على معانٍ مخصوصة ، قُصد بها أوامر ونواه ، وعبادات ومعاملات . وجميعها مصان محفوظ مهما تقادم الدهر وتطاول العمر"(1) .

فحفظ القرآن العربي لا يقتضي حفظ حرفه ، بل حفظ معناه . وهذه النتيجة الحاسمة ، القائمة على رخصة قراءَة القرآن بالمعنى من دون الحرف ، قبل جمعه ، شبهة قائمة على سلامة حفظ حرف القرآن من التحريف أو على اعجاز الحرف العثماني . فليس في آية "الحفظ" (الحجر 9) نبوءة بحفظ القرآن العربي ؛ وليس فيها شهادة بمعجزة حفظه سالمًا كما نزل .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) ابن الخطيب : الفرقان ص 52

التالي