التالي

بحث أوّل

القرآن يتحدّى المشركين بهدى الكتاب

أولا : القرآن يحصر التحدّي بالهدى وبالمشركين

إن مطلع التحدّي بإعجاز القرآن كان التحدّي بالهدى ، في قوله : فلمّا جاءَهم الحق من عندنا قالوا : لولا أُوتي مثل ما أوتي موسى ! – أو لم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل ؟ قالوا : سحْران تظاهرا ! وقالوا : إنّا بكلٍّ كافرون ! قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو

أهدى منهما أتّبعْه ، إن كنتم صادقين ! فإن لم يستجيبوا لك ، فاعلمْ أنّما يتّبعون أهواءَهم ... الذين آتيناهم الكتاب من قبله ، هم به يؤمنون وإذا يُتلى عليهم قالوا : آمنّا به ، إنه الحقّ من ربنا ، إنّا كنّا من قبله مسلمين ؛ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ..." (القصص 48 – 54) .

في هذا الفصل يفصّل القول في موقف الأمّيين العرب وأهل الكتاب (النصارى من بني إسرائيل) من الدعوة القرآنية ، فالمشركون يكفرون بالكتاب والقرآن ، فيتحداهم "بكتاب هو من عند الله أهدى منهما" ، ويعلن عن عجزهم . هذا هو التحدّي القرآني الحق ، لا التحدي بالنظم والبيان . وهو تحدٍّ للكافرين ، لا لأهل الكتاب . وفي قوله : " أهدى منهما " يحصر التحدي في الهدى ، ويجمع الكتاب والقرآن في إعجاز واحد بالهدى . وبما أنه يعتبر الكتاب "إمامه" في الهدى (الاحقاف 12 ؛ هود 17) ، فلا يمكن أن يوجه تحدّيه للكتاب وأهله .

وأهل الكتاب (النصارى من بني اسرائيل) يتضامنون مع القرآن في الدعوة للإسلام ، لأن اسلام القرآن من اسلامهم : "إنا كنّا من قبله مسلمين" . والقرآن يعتز بإيمانهم به ويعطيه حجة للمشركين ، ويعلن فضل هؤلاء الكتابيين على جماعة محمد أنفسهم : "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" ، لإيمانهم الأول بإسلامهم ، ولإيمانهم أيضا بالدعوة القرآنية . ومن كانوا مسلمين قبل القرآن ، ولهم مع القرآن الأجر مرتين ، فلا يصح توجيه التحدي بالهدى ، أو بإعجاز القرآن لهم . إن هدى القرآن من هداهم ، واسلامه من اسلامهم ، وإعجاز القرآن من إعجاز الكتاب . فالتصريح واضح : "أهدى منهما ... إنا كنا من قبله مسلمين ... أولئك ؟ يؤتون أجرهم مرتين" .

فهل يصح ، بعد هذا النص القاطع ، تحدّي الكتاب وأهله بهدى القرآن ؟

ثانيا : ظهور الإسلام "على الدين كلّه" هو ظهور "للإسلام" من قبله

يقول : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون" (التوبة 33 ؛ الفتح 28 ؛ الصف 9) . لكن هذا التحدّي "بالهدى ودين الحق" على "الدين كله" ليس مطلقا ؛ إنما هو مقصورٌ نصّاً على المشركين : "ولو كره المشركون" !

ويرد هذا التحدي لأول مرة في سورة (الفتح 28) ما بين الفتح القريب لشمال الحجاز والفتح الأكبر لمكة (الفتح 27) ؛ ممّا يدل على أنه مقصور على المشركين العرب ؛ فهو تخصيص في معرض التعميم . ولو جاءت الآية نفسها في معرض قتال أهل الكتاب (التوبة 34) فلا تعنيهم لأن صفة "المشركين" لا يطلقها القرآن أبدًا على أهل الكتاب .

ثالثا : جدال القرآن كان بالكتاب المنير

يؤيد ذلك تحديه للمشركين : "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20 ؛ الحج 8) . وهذا التحدي يرد في مكة وفي المدينة . فالناس كناية عن العرب المشركين : إنهم يجادلون بغير هدى الكتاب ، ولا عِلم الانجيل ، أي بلا سند من "الكتاب المنير" . أما محمد فهو يجادلهم بعلم وهدى "الكتاب المنير" . وهذا الجدال دليل على معنى التحدي "بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون" .

رابعا : الكتاب من قبله "هدى للمتّقين" من العرب

والكتاب المنير هو أيضا هدى للمتقين من العرب : "ذلك الكتاب ، لا ريب فيه ، هدى للمتقين ... الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أُنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون" (البقرة 1 – 4) . فالإشارة "ذلك الكتاب" تشير إلى البعيد المجهول ، فلا تعني القرآن العربي ، بل الكتاب "الإمام" : فكأنه تلا منه آيات ، ويعلّق عليها بآيات القرآن العربي . و"المتقون" في اصطلاحه كناية عن "الذين آمنوا" من العرب ، كما كان عند أهل الكتاب من يهود ونصارى كناية عن غير أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتاب وليسوا في الأصل من أهله . فالمتقون من العرب مع محمد يؤمنون بالتنزيل القرآني كما يؤمنون بالتنزيل الكتابي . فهدى الكتاب هو "هدى للمتقين" ؛ فلا يكون تحدي القرآن بالهدى لأهل الكتاب ، بل لغيرهم .

خامسا : هدى القرآن من هدى الكتاب

يقول : "قلْ : إن هدى الله هو الهدى" (البقرة 120 ؛ الانعام 71) ، "قلْ : إن الهدى هدى الله" (آل عمران 73) . لكن هذا الهدى من قبله : "ولقد آتينا موسى الهدى" (غافر 53) ؛ وهو في الكتاب : "وآتينا موسى الكتاب ، وجعلناه هدى لبني اسرائيل" (الاسراء

2) ، وللناس أجمعين : "وما قدروا الله حقَّ قدره ، إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شئ ! – قلْ : مَن أنزل الكتاب الذي جاءَ به موسى نورا وهدى للناس ؟" (الانعام 91) . فالهدى في الكتاب قبل أن يكون في القرآن .

سادسا : هدى القرآن من هدى "المسلمين" من قبله

والقرآن تثبيت للجماعة ، وهدى وبشرى ، أي توراة وانجيل بحسب اصطلاحه ، للمؤمنين المسلمين من قبله : "واذا بدَّلنا آية مكان آية – والله أعلم بما ينزّل – قالوا : إنما أنت مفتر ! – بل أكثرهم لا يعلمون . قلْ : نزّله روح القدس من ربك بالحق ، ليثبّت الذين آمنوا ، وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل 101 – 102) . لاحظ التمييز الصريح بين "الذين آمنوا" وهم جماعة محمد ، و"المسلمين" . فاسم "المسلمين" في القرآن لا يعني جماعة محمد الذين يصفهم بتواتر "بالمتقين" و"الذين آمنوا" ؛ بل الطائفة المسلمة من قبله التي أُمر بأن ينضم إليها ويتلو معها قرآن الكتاب (النمل 91) . والقرائن القرآنية تدل على أنهم "النصارى من بني اسرائيل" (قابل الصف 14) . فالقرآن تثبيت لجماعة محمد ؛ بينما هو "هدى وبشرى للمسلمين" ؛ إنه هدى الكتاب وبشرى الانجيل معا .

سابعا : القرآن يشهد للاسلام بشهادة أهله "الراسخين في العلم"

فالقرآن لا يتحدّى بالهدى هؤلاء "المسلمين" من قبله (القصص 49) ، بل يُؤمر بالانضمام اليهم وتلاوة قرآن الكتاب معهم : " وأمرت أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . والقرآن العربي كله يشهد بهذا الاسلام الذي يشهد به هؤلاء المسلمون من قبله ، الذين يسميهم "الراسخين في العلم" (آل عمران 7) ، "وأولي العلم قائما بالقسط" ، يقول : "شهد الله أن لا إله إلاّ هو ، والملائكة ، وأولو العلم قائما بالقسط ... أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) . فالقرآن يشهد بشهادة النصارى ، أولي العلم المقسطين "أن الدين عند الله الاسلام" – فلا يمكن أن يفكّر بتحديهم بإعجاز القرآن في الهدى . وهكذا فإن القرآن يتحدّى بالهدى غير أهل الكتاب . فتحديه محصور مقصور ، مقطوع ممنوع . فليس الاعجاز القرآني في الهدى تحديا للكتاب
وأهله . بل هو يتحدى المشركين بالكتاب والقرآن معا : "أهدى منهما" (القصص 49) فهما متضامنان متكافلان في الهدى وإعجازه . والنبي العربي هو في الهدى تابع لا متبوع : "فبهداهم اقتدهْ" (الانعام 90) .

التالي