التالي

بحث رابع

هل من إعجاز في الدعوة الى التوحيد بمكّة ؟

يقولون : إن رجلا "أمّيا" ، لا يقرأ ولا يكتب ، وذلك في الحجاز المحجوز عن المعمورة برماله وصحاريه ، في بيئة جاهلية وثنية ، يقوم ويدعو للتوحيد الخالص ، تلك هي المعجزة الكبرى في الرسول والرسالة . فهل في ظروف "النبي الأمي" ، وظروف الزمان والمكان في البيئة ، وظروف الدعوة نفسها ، ما يفرض القول بالاعجاز في الدعوة للتوحيد بمكة ؟

أولا : هل من إعجاز في حال "النبي الأمّي"

لقد رأينا أن أمية محمد ينقضها القرآن كله . وقد رأينا أن محمد "درس" الكتاب والحكمة أي التوراة والانجيل ، على يد نسيبه ورقة بن نوفل ، قسّ مكة وعلاّمتها الذي يدعو الى نصرانيته بترجمة الانجيل الى العربية وقد رأينا أن محمدا في القرآن "يعلمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل .

فليس من إعجاز في حال محمد .

ثانيا : هل من إعجاز في ظروف البيئة ؟

إن التاريخ المتصل بالمشاهدة العيان يشهد ، كما نقلنا عن الأستاذ دروزة ، أن الحجاز لم يكن محجوزا عن الحضارة والثقافة . بل كان أهل مكة ، ومحمد على رأسهم ، منذ زواجه حتى مبعثه ، صلة الوصل بين حضارة الشرق في الهند وحضارة الغرب في الشام وعند الروم ، لسيطرهم على طريق القوافل . وقد أشاد القرآن نفسه بنعم الله على بني قومه ، "لايلاف قريش ، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف" ما بين اليمن وما وراءه ، وبين الشام وما وراءه . واتصالهم بحضارتين عظيمتين ، بفارس والروم ، جعلهم ميدان الصراع لهما حتى في الدين . فنادى القرآن "ولا تعبدوا الهين اثنين" ، "ولا تقولوا : ثلاثة" .

والقرآن نفسه خير شاهد على أن البيئة الحجازية ، وعلى رأسها مكة ، لم تكن على الوثنية في شئ . بل ، بفضل الدعوة الكتابية فيها ، قد تحولت وثنية العرب الى شرك ، أي الى عبادة الله مع شريك له من خلقه . وشيئا فشيئا أُفرغ هذا الشرك من معناه ، فأمسى شركا شكليا ؛ كما يعلن القرآن نفسه على لسانهم : "ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى" (الزمر 3) .

والدكتور جواد علي ، من المجمع العلمي العراقي ، ينهي كتابة (تاريخ العرب قبل الاسلام 424:5 و 428) بهذه النتيجة الحاسمة : "إن عقيدة الجاهليين في الله ، وحجّهم الى البيت وقسمهم به ، نتيجة تطور طويل مرّ على الحياة الدينية لعرب الجاهلية ، اختُتم بظهور الاسلام ، ودخول أكثرهم فيه . فقد كان أهل مكة على مقالة من التوحيد والدين ، وعلى تيقّظ وشك في أمر الشفعاء والشركاء والأصنام ، حمل الكثيرين على الشك في ديانة قومهم ، وعلى الدعوة الى الاصلاح ... فعبادة أهل مكة هي عبادة محمد ؛ وتوحيدهم توحيد اسلامي ، أو توحيد قريب من التوحيد الاسلامي " .

وقد تغلغل الصراع بين المسيحية واليهودية ، من أطراف الجزيرة كلها الى قلب الحجاز ، وقام بين اليهودية والمسيحية فرقة "النصارى" من بني اسرائيل ، التي هاجرت الى مكة ، وكانت على أساس نهضتها التجارية والثقافية والدينية . وكانوا يدعون العرب الى دين موسى وعيسى معا ، الى إقامة التوراة والانجيل معا ، حتى أمست مكة والحجاز كله مستعدين للدعوة القرآنية . فجاءَ أمر الله الى محمد بالانضمام اليهم والدعوة بدعوتهم : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النحل 91 – 92) ، "تفصيل الكتاب" (يونس 37) .

فبحسب التاريخ والقرآن نفسه ليس في ظروف البيئة ، والزمان والمكان ؛ وليس في ظروف محمد الشخصية والعائلية والقومية من معجزة في الدعوة للتوحيد بمكة والحجاز .

ثالثا : هل من إعجاز في الدعوة للتوحيد نفسه ؟

تقتصر الوعود القرآنية على التوحيد : "قل : إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى . ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة ، إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (سبأ 46) . فليس فيه من وحي سوى هذا التوحيد : "قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى اليّ

إنما الهكم اله واحد . فاستقيموا له واستغفروه ! وويل للمشركين" ! (فصلت 6) . هذا توحيد ظاهري ، لا يكشف شيئا عن سرّ الله . والاسلام كله تنزيه عن الشرك : "فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وأنْ لا اله إلاّ هو ، فهل أنتم مسلمون" ؟ (هود 14) . فليس في القرآن من كشف عن سر الله سوى توحيده : "والهكم اله واحد ، لا إله إلاّ هو ، الرحمان الرحيم" (البقرة 163) . وسنرى أن التوحيد غارق في التشبيه ، ليس فيه تجريد . إنما إعلانه الصارخ المتواصل هو دائما : "الهكم اله واحد" (22:16؛ 110:18؛ 108:21؛6:41؛ 34:22؛ 163:2) . لذلك كانت الشهادة الاسلامية على وجه الزمان : "لا إله إلاّ الله" . فهي تقتصر على توحيد خارجي ظاهري ، لا يكتشف شيئا عن ذات الله . بل اعتبروا البحث في ذات الله اشراكا .

فهل من إعجاز في الدعوة لهذا التوحيد ، وقد سمعه العرب ، حتى في مكة ، من أهل الكتاب ، قبل محمد والقرآن ، بعشرات ومئات السنين ؟ وقد دان به محمد قبل مبعثه ومنذ زواجه بالسيدة خديجة . بأمر من ابن عمها ورقة بن نوفل ، قسّ مكة وعلامتها ، الذي "درّسه" الكتاب والتوحيد مدة خمسة عشر عاما ، قبل الدعوة لهما ؟

رابعا : القرآن نفسه يشهد بأنّ توحيده من توحيد الكتاب

فالكتاب امامه في التوحيد والهدى :"ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة ، وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا" (الاحقاف 12 ؛ هود 17) فليس فيه من جديد سوى اللسان العربي . وهو يجادل العرب بهدى وعلم الكتاب المنير ، إذ "من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20 ؛ الحج 8) . ويجادل اليهود بوحدة التوحيد معهم : "قل : أتحاجوننا في الله ، وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، ونحن له مخلصون" (البقرة 139) . ويمنع الجدال مع النصارى لوحدة الاله ووحدة التنزيل ووحدة الاسلام : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن – إلاّ الذين ظلموا منهم (اليهود) – وقولوا : آمنا بالذي أُنزل الينا وأُنزل اليكم ، والهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون" (العنكبوت 46) . والأمر صريح بالشهادة بهذه الوحدة بين القرآن والنصارى . والأمر صريح الى محمد بالاسلام على طريقة موسى وعيسى معا : "قل : آمنا بالله وما أنزل علينا ... وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم : لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (آل

عمران 84) . والأمر صريح الى جماعة محمد بهذا الاسلام عينه : "قولوا : آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ... وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم : لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (البقرة 136) . فالإله واحد ، والتوحيد واحد ، والاسلام واحد فهل من إعجاز بهذه الدعوة للتوحيد بمكة ؟

التالي