السابق

بحث سادس

موقف القرآن السلبى من المعجزة ، و فلسفته عند أهل عصرنا

لقد ثبت ثبوتا قاطعا للعلماء المسلمين موقف القرآن السلبى من كل معجزة تشهد له . و ثبت أيضا أن ما ورد فى الحديث و السيرة من معجزات لمحمد ينقضه صريح القرآن نقضا مبرما ، و أن ما رأوا من معجزات فى الجهاد كان بطولات لا معجزات ، و أن ما ذكره القرآن من " آيات بينات " فيه هى آيات خطابية ، لا أعمال معجزة . فمن يرى فى ذلك معجزة يكذب على النبى ، و القرآن يكذبه .

و برز لعلماء عصرنا المشكل الضخم ، ما بين ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، و بين موقف القرآن السلبى من كل معجزة له . فكان لابد لهم من فلسفة ، فلم يجدوا سبيلا إلا بنقض احدى المقدمتين من القياس ، ليسلموا من حتمية النتيجة أن النبوة المحمدية بلا معجزة . فسار بعضهم على خطة أهل الاعجاز ان " القرآن وحده معجزة محمد " ، متناسين قول المعتزلة " ان اله لم يجعل القرآن دليلا على النبوة " ، و بعضهم رأى الخلاص بنقض المقدمة الكبرى : ليست المعجزة بلازمة لصحة النبوة ، و قد جاء القرآن بما يغنى عنها ، بل بأفضل منها .

و نحن ندرس فى هذا البحث أولا تاريخ فلسفة أهل العصر فى النبوة و المعجزة ، ثانيا عرض نظرياتهم الجديدة فى " أساليب القرآن الجديدة " فى النبوة ، التى تقوم مقام المعجزة . و قد نلجأ الى تكرار بعض الاستشهادات للتذكير و التقرير ، و لإعطاء نظرة شاملة جامعة .

أولا : من تاريخ فلسفة أهل العصر فى النبوة و المعجزة

1 – بدأ النقد الذاتى الحر الجرىء ، تجاه تحديات العلوم القرآنية و التاريخية فى عصرنا ، الاستاذ حسين هيكل فى ( حياة محمد ) . لاحظ تأثير العصر فى العنوان نفسه ، حيث يقول " حياة " بدل " سيرة " . و قد أثار الكتاب ضجة كبرى بين نعض علماء الأزهر . لكنه وجد في

شيخ الأزهر فضيلة مصطفى المراغى سندا له فى " تقديم الطبعة الثانية " ( ص 50 – 51 ) حيث يقول : " و من الحق ان المسلمين قد بلغ اختلافهم بعد وفاة النبى صلعم حدا دعا الدعاة فيهم الى اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث و الروايات ... و لقد كان صلعم حريصا على ان يقدر المسلمون انه بشر مثلهم يوحى اليه ، حتى كان لا يرضى أن ينسب اليه معجزة غير القرآن ، و يصارح أصحابه بذلك ... فالقرآن وحده معجزة محمد " . و ما أجمل و أصدق و أصرح هذا التقرير من شيخ الأزهر المسؤول .

2 – أم الاستاذ حسين هيكل فيقول 1 : " فقد أضافت أكثر كتب السيرة الى حياة النبى ما لا يصدقه العقل ، و لا حاجة اليه فى ثبوت الرسالة " . ثم يقول : " إن كتاب الله هو وحده معجزة محمد " . و هو قول السلف من أهل الاعجاز . هذا التقرير الجامع المانع يقضى على كل معجزة يرونها فى القرآن ، أو يختلقونها فى الحديث و السيرة . و يختم بقوله : " فحياة محمد حياة انسانية بحتة بلغت أسمى ما يستطيع الإنسان أن يبلغ . و لقد كان صلعم حريصا على ان يقدر المسلمون انه بشر مثلهم يوحى اليه ، حتى كان لا يرضى أن تنسب اليه معجزة غير القرآن ، و يصارح أصحابه بذلك ... و هذا الذى جرى عليه النبى ... هو ما حال بين كثير من علماء المسلمين و كتابهم و الوقوف عند ما أضيف الى سيرة النبى من خوارق وضعها بعض الغلاة مضاهاة لما ورد فى القرآن عن عيسى و موسى ، أو دسها ( فى الحديث ) من دسوا الاسرائيليات على الاسلام و نبيه ، ليزيفوا بها العقائد ، و ليبعثوا بها الشك الى نفوس من يؤمنون بأن سنة الله لن تجد لها تبديلا . و ما كان محمد بحاجة الى الخوارق لإثبات رسالته " . و سنرى جديلة هذا التصريح الأخير عن قريب ، نسجل الآن انكاره لكل معجزة حسية تنسب إلى محمد .

3 – و فى ( سيرة الرسول ) عقد الاستاذ دروزة 2 فصلا قيما فى " موقف القرآن السلبى من المعجزة " – نقلناه فى بحث سابق . و يعقب عليه بقوله : " بقيت المعجزات المروية ، و خاصة التى وقعت فى مكة بناء على تحدى الكفار . و نعتقد أنا على صواب ، إذا قلنا : ان سكوت القرآن عنها ، مع كثرة تحدى الكفار ، و اقتصار الأجوبة القرآنية على السلب ، لا

1 حياة محمد ، ص 14 و 157 – 158 و 377 و 449 – 450 .
2 سيرة الرسول 1 : 223 – 226

يمكن أن يشجعا على التسليم بصحبتها . هذا إلى أن الروايات غير متواترة و لا وثيقة . و كثير منها ، إن لم نقل أكثرها ، لم ترد فى المدونات القديمة ، الى ما فيها من تخالف كبي ر فى الوقت نفسه " .

ثم يخلص إلى هذا التصريح الضخم : " و هذه النواحى الايجابية فى النصوص القرآنية يصح أن تكون مفسرة لحكمة ذلك الموقف السلبى ، بحيث يصح أن يستلهم منها و أن يقال و قد المح إلى ذلك غير واحد من الباحثين أيضا – ان حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته ، التى جاءت بأسلوب جديد : هو أسلوب لفت النظر إلى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها ... ثم أسلوب مخاطبة العقل و القلب ... ( جعلها ) فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات " . سنرى جديلة و حقيقة هذا " الأسلوب الجديد " فى النبوة و المعجزة .

4 – و فى كتابه الحر الجرىء ( محمد الرسول البشر ) ، يقول الاستاذ عبد الله السمان 1 – و قد نقلنا شهادته كاملة فى بحث سابق – " لقد غرم كثيرون من المسلمين بأن يحوطوا شخصية الرسول بهالة كبرى من الخوارق ، منذ أن حملت به أمه ، إلى أن لقى ربه ، و بلغ الغلو بهم درجة لا تطاق . و من المتأكد انه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح " .

و يقول عن مصادرهم ، فى السيرة : " و هذه الكتب على كثرتها لا يجوز أن تكون مرجعا أصيلا فى هذا الصدد ، لأنها كتبت فى عصور لم يكن النقد مباحا تماما فيها " ، و فى الحديث : " أصبح الحديث الصحيح فى الحديث الكذب كالشعرة البيضاء فى جلد الثور الأسود – كما يقول الدار قطنى أحد جامعى الحديث المعروفين " .

ثم يقول عن كتبة السيرة من المتقدمين و المحدثين : " إن كثيرا من العلماء الدينيين السابقين حرصوا على أن يكون لمحمد معجزات مشهورة ، حتى لا يكون أقل قدرا من غيره من اخوانه الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين . و هؤلاء لهم عذرهم ، فقد راحوا يجمعون الأحاديث صحيحها و ضعيفها و موضوعها ، دون ما نظر الى ان هذه القضية إنما

1 محمد ، الرسول البشر ، 10 و 13 ، 72 ، 86 ، 113

تحتاج إلى أخبار معتمدة : و ليست هناك آية قرآنية صريحة فى القضية ، و لا حديث واحد متواتر ".

و يختم بقوله فى المعجزات المنسوبة الى النبى : " ان كتب الأحاديث و كتب السيرة قد استوعبت آلاف المعجزات ،و منها ما بلغ الى درجة التطرف الذى يفرض علينا الضحك ... و الأحاديث المعتمدة معدودة على الأصابع ، و كلها آحادية لا تقطع بخبر ... و كتاب السيرة جميعا عنوا عناية كبرى بأمر الخوارق ليؤكدوا أن للرسول آلافا ، بل عشرات الآلاف من المعجزات . و هذه المعجزات أم اعتقاجى ، لابد لتصديقها من خبر قطعى ، و ليست هناك معجزة واحدة يؤكدها خبر قطعى مما نسب إلى رسول الله " .

لكنه يستنتج : " و لكن الله عز و جل أراد أن يرفع من قدر الرسالة فيجعلها عقلية منطقية تخاطب العقل و المنطق . و أيدها بكتاب الله ليعيش معها الى ان يرث الله الأرض و من عليها ، كآية خالدة معجزة . و قد شق محمد لدعوته طريقه الى القلوب و العقول ، غير مؤيد بالخوارق التى لم تصلح من قبل وسيلة لإقناع ، لأن معه نهجا واضحا من كتاب الله ، ليس فيه تعقيد و لا التواء " . و سنرى هذا " النهج الواضح " فى النبوة و المعجزة .

5 – و طلع علينا الدكتور نظمى لوقا فى كتابه " محمد الرسالة و الرسزل " بنظرية جديدة ترد المعجزة كدليل على النبوة ، و تجعل دليل النبوة و الوحى فى " صدق النبى " و مطابقة النبوة للحقيقة . قال : " ما من نبى حمل الينا توكيلا موثقا بأنه ينطق بلسان الوحى ، و إنما كانت آيته صدق ما أتانا به " . و هذه شهادة أخرى : " و أما المعجزات فلا حجية لها إلا لمن شهدها شهود العيان . و بيننا و بين تلك أجيال و أجيال . فتبقى بعد هذه الآيات المغايرة ، الآية الكبرى التى لا يثبت بغيرها صدق ، و لا يغنى عن غيابها ألف دليل مغاير مهما بلغت درجته من الاعجاز . و هذه الآية الكبرى هى صدق الكلمة من حيث هى . فإن الحقيقة آية نفسها تحمل برهانها فى مضمونها ، فيطمئن اليها العقل و يبدو ما يباينها هزيلا واضح البطلان " ( ص 49 ) .

فهو يضع مقياسين لصحة النبوة ، المقياس الأول فى ذات الرسالة : " ليس للمعجزات حجية ، و الآية الكبرى هى أن صدق الرسالة متضمن فى ذات الرسالة " . و المقياس الثانى فى ذات الرسول ، " ان أول مقياس يقاس به صدق صاحب الرسالة هو مبلغ إيمانه بها "

( ص 157 ) . و هذان المقياسان نقض لضرورة المعجزة ، و لوجودها فى الدعوة و السيرة عند محمد ، و تجاهل مقصود لاعجاز القرآن كمعجزة . و سيأتى البحث فى هذه المغالطات .

6 – و فى كتاب المؤتمر الاسلامى : " حقائق الاسلام و أباطيل خصومه " للاستاذ عباس محمود العقاد ، من عام 1376 ه – 1957 م ، جاء فى مبحث " النبوة " قوله :

" نمت فى الاسلام فكرة النبوة كما نمت فيها الفكرة الإلهية ... 1 ) فليست الخوارق مما يغنى النبى فى دعوة المكابر المفتون . إنه ليزعمها اذن ضربا من السحر أو السكر ، و لو فتح له الأنبياء بابا فى السماء ... 2 ) و لقد جاءت الخوارق طائعة لنبى الاسلام ، و أنى لهم أن يصدقوها أو يفهموها على غير حقيقتها ، و لو أنه سكت عنها لحسبوها له معجزة من المعجزات لم يتحقق مثلها من قبل لأحد من المرسلين ( حادث كسوف الشمس ساعة دفن ابنه ابراهيم ... 3 ) و ما نحسب ان النبوة تعظم بكرامة قط أكرم لها من التوكيد بعد التوكيد فى القرآن الكريم بتمحيص هذه الرسالة السماوية لهداية الضمائر و العقول ، غير مشروطة بما غبر فى الأوهام من قيام النبوة كلها على دعوة الخوارق و الإنباء بالمغيبات ... 4 ) فلا يرى عجبا أن تكون هذه النبوة خاتم النبوات ، إذ كان الاصلاح بعدها منوطا بدعوات يستطيعها من لا يدعى خارقة تفوق طاقة الإنسان ، و لا يهول العقول بالكشف عن غيب من الغيوب لا يدريه الإنسان ... 5 ) و الواقع ان النبوة الاسلامية جاءت مصححة متممة لكل ما تقدمها من فكرة عن النبوة ، كما كانت عقيدة الاسلام الإلهية مصححة متممة لكل ما تقدمها من عقائد بنى الإنسان فى الإله " ( ص 58 – 61 ) .

إن تلك المبادىء عند الاستاذ الإمام تنكر مفضوح لضرورة المعجزة و نكران لوجودها فى الدعوة و السيرة عند محمد . و نستغرب قوله : " و لقد جاءت الخوارق طائعة لنبى الاسلام " . و هو يعلم ما قاله زميله الاستاذ عبد الله السمان : " و ليس هناك آية قرآنية صريحة فى القضية ، و لا حديث واحد متواتر " ، " و من المتأكد أنه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح " . و حديثه عن النبوة و المعجزة تجاهل مقصود لاعجاز القرآن كمعجزة .

7 – و فى كتاب المؤتمر الاسلامى " العقائد الاسلامية " للاستاذ العقاد ، من سنة 1383هــ – 1964 م ، جاء فى فصل " الرسل " :

1 ) الأعمال الكبرى التى تمثل نجاح سيدنا محمد

العمل الأول : أنه قضى على الوثنية و أحل محلها الايمان بالله و اليوم الآخر .

العمل الثانى : أنه قضى على رذائل الجاهلية و نقائصها ، و أقام مقامها الفضائل و المكارم و الآداب .

العمل الثالث : أنه أقام الدين الحق الذى يصل بالإنسان إلى أقصى ما قدر له من كمال .

العمل الرابع : أنه أحدث ثورة كبرى غيرت الأوضاع و العقول و القلوب و نظام الحياة الذى درج عليه أهل الجاهلية .

العمل الخامس : أنه صلعم وحد الأمة العربية ، و أقام دولة كبرى تحت راية القرآن ...

" إن القيام بهذه الأعمال و النجاح فيها على هذا النحو لهو المعجزة الكبرى لحضرة رسول الله صلعم – فإذا كان عيسى له معجزة إحياء الموتى ، و موسى له معجزة العصا ، فإن هاتين المعجزتين فى جانب هذه الانتصارات ، و الى جانب هذه المعجزات لا تساوى شيئا " .

و نقول : لا يسعنا أن نسلم بهذا المنطق الذى يجعل النجاح مقياس الحقيقة و النبوة . فهل نجاح الهندوكية ، و البوذية ، أو الشيوعية الإلحادية ، مقياس لحقيقتها و دليل نبوتها ؟ ! و هل نجاح الاسكندر ذى القرنين ميزان لادعائه الألوهية ؟ و نرى أن السيد العقاد يدور فى حلقة مفرغة : الدعوة القرآنية منزلة – و هو المطلوب إثباته – لأنها نجحت - ، و كل الدعوات الدينية القائمة منذ آلاف السنين قد نجحت ، فهل هذا دليل على انها منزلة من الله ؟

2 ) دلائل صدقه

" و من دلائل الصدق على أن الرسول انما هو مرسل من عند الله ما يأتى :
أولا : انه كان زاهدا فى الدنيا ...
ثانيا : من دلائل نبوته أنه كان أميا ...
أما الناحية الثالثة فهى الصدق ، فلم يعلم عن الرسول صلعم أنه كذب قط قبل البعثة و لا بعدها " .

و نقول ، هل الزهد فى الدنيا دليل على أن صاحبه مرسل من الله ؟ فما القول اذن بفقراء الهند ؟ هل كلهم رسل أنبياء ؟ ! و من تزوج السيدة خديجة ، ثرية مكة التى كانت تجارتها تعدل تجارة قريش كلها ، و تاجر بمالها خمسة عشر عاما قبل مبعثه ، هل كان من أهل الزهد ؟ و القرآن نفسه يأمر بلسان محمد : " يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا ، و لا تتبعوا خطوات الشيطان ( بالمتناع و الزهد ) ، إنه لكم عدو مبين " ( البقرة 168 ) ، " يا أيها الناس كلوا من طيبات ما رزقناكم ، و اشكروا الله " ( البقرة 172 ) . و يختم كما بدأ : " اليوم أحل لكم الطيبات " ( المائدة 5 ) . فالترغيب بالطيبات ليس من الزهد . و فرض خمس الأنفال " لله و الرسول " ليس من الزهد ، و فرض الفىء كله ( ما استولوا عليه بدون حرب ) ليس من الزهد . قد يكون للمصلحة العامة لكن المصلحة العامة لا تنفى المصلحة الخاصة .

و هل ثبت من القرآن أن محمدا كان أميا ؟ سنرى هذا الموضوع لاحقا

أخيرا هل كل إنسان لا يكذب فى حياته يكون نبيا مرسلا ؟ و كيف نفسر قول الرسول ، فى الحديث الصحيح : " الحرب خدعة " ؟ قد نقول : إنها سياسة . و هل السياسة دليل النبوة ؟

3 ) آيات الرسل

" لم يرسل الله رسولا ليبلغ الناس الدين و يعلمهم الشريعة ، إلا و أيده بالآيات التى تقطع بأنه مرسل من عنده ، و أنه موصول بالملإ الأعلى يتلقى عنه ، و يأخذ تعاليمه منه . و هذه الآيات التى يؤيد الله بها رسله لابد و أن تكون فوق مقدور البشر و خارج نطاق طاقاتهم و علومهم و معارفهم ، كما يجب أن تكون مخالفة للسنن الخاصة بالمادة ، و خارقة للعادات المعروفة و القوانين الطبيعية المألوفة . و لذلك سمى العلماء هذه الآيات معجزات لأنها تعجز العقل عن تفسيرها ، كما تعجز القدرة الانسانية عن الاتيان بمثلها . وعرفوا المعجزة بأنها الأمر الخارق للعادة الذى يجريه الله على يدى نبى مرسل ، ليقيم به الدليل القاطع على صدق نبوته .

" و من ثم كانت المعجزة ضرورية و اظهارها واجبا ، ليتم بها المقصود من تبليغ الرسالة ، و تقام بها حجة الله على الناس . و هذه الآيات ممكنة فى ذاتها ، و العقل لا يمنعها ، و العلم لا ينفيها ، و الواقع يؤيدها .

" الفرق بين آيات الرسل و غيرها من الخوارق : و لا تلتبس معجزات الرسل و آيات الأنبياء ، بما يحدث على يد غيرهم من خوارق العادات ، فإن المعجزات تأتى مصحوبة بالتحدى ، و تصدر عن رجال عرفوا بالتقوى و الصلاح ، و أنهم بلغوا منها الذروة التى لا يتطاول إليها إنسان " .

و نقول : هذا فصل بليغ فى تفصيل المعجزة و شروطها : " إن المعجزة أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة " 1 . فهلا طبق المؤلف تعريف المعجزة و تفصيلها كما جاء به على ما ينسب إلى محمد ؟ ! و على ما نسبه هو إلى محمد من " الأعمال الكبرى " و من " دلائل صدقه " ليرى هل فيها من معجزة تحدى هو بها ، سالمة عن المعارضة ، لإثبات نبوته ؟

4 ) معجزة خاتم الأنبياء

" ما بعث الله رسولا إلا و قد أيده بالآيات الكونية و المعجزات المخالفة للسنن المعروفة للناس ، و الخارجة عن مقدور البشر ، ليكون إظهارها على يديه ، مع بشريته ، دليلا على أنه مرسل من عند الله . فعدم حرق النار إبراهيم ، و ناقة صالح ، و عصا موسى ، و ما ظهر على يدى عيسى من العجائب ، كلها من هذا القبيل .

" و كانت الآيات حسية يوم أن كان العقل الانسانى فى الطور الذى لم يبلغ فيه الرشد بعد ، و يوم ان كانت هذه العجائب تبلغ من نفسية الجماهير مبلغا لا تملك معه إلا الإذعان و التسليم .

" فلما بدأ النوع الانسانى يدخل فى سن الرشد ، و بدأت الحياة العقلية تأخذ طريقها الى الظهور و النماء ، لم تعد تلك العجائب هى الأدلة الوحيد على صدق الرسالة .

" و لم يعد من السهل على العقل أن يذعن لمجرد شىء رآه خارجا عن عرف الحياة . إنه يريد شيئا جديدا يتناسب و الطور الذى وصل اليه : يريد الإيمان الذى لا تخالطه الشكوك و اليقين الذى يبدد الظلمات .

1 السيوطى : الاتقان 2 : 116 .

" و ما كان الله ليمد النوع الانسانى فى طفولته بما يحفظ به حياته الروحية ، ثم يدعه بعد أن أخذ سبيله الى النظر العقلى و الاستقلال الفكرى دون أن يقيم له من الأدلة ما يتناسب و الارتقاء الذى انتهى اليه : فكانت ان بعث محمدا صلعم و أيده بالمعجزة العلمية و الحجة العقلية و هو القرآن الكريم : " قل لئن اجتمعت الانس و الجن على أنه يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا " .

و نقول : ان الاستاذ العقاد يرجع الى منطق علم الكلام ، فيعلن ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، و يعطى اعجاز القرآن أفضل معجزة له .

لكنه جاء بتعليل لا يتماشى مع التاريخ العام ، و لا القرآن نفسه . و قد نقل فى الحاشية التعليل القديم الذى كان ضعيفا : " كان السحر مشتهرا فى عهد موسى ، و كان الطب و إنكار الروح فى عهد عيسى ، و كانت البلاغة فى عهد محمد : فكانت معجزة كل نبى من جنس ما اشتهر على عهده . مع ملاحظة ان المعجزة فوق مقدور البشر فهى أعلى مستوى و أرفع قدرا " .

و فات الاستاذ ان القرآن دعوة قومية قبل أن يمسى دعوة عالمية : " و كذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها " ( الشورى 7 ) . و لغة القرآن تدل على قوميته : " و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " ( ابراهيم 4 ) . فالقرآن دعوة لمكة و ما حولها قبل أن يكون ذكرا للعالمين . فهل كان الحجاز فى الجاهلية قبل البعثة على ما وصفوه فى التعليل القديم و التعليل الجديد ؟

فهل كانت البلاغة فى الحجاز الجاهلى أبلغ منها فى أنطاكية و أثينة و رومة ، ناهيك عن عواصم الهند و الصين ؟ أم هل كانت عناية العصر الجاهلى بالبلاغة أكثر منها بالشعر ؟ و قد قالوا : " الشعر ديوان العرب " . و القرآن ينص : " و ما علمناه الشعر ، و ما ينبغى له " ( ياسين 69 ) . هل كان الطب فى فلسطين على عهد المسيح ، عند شعب مستعمر مقهور مغلوب على امره ، أعظم منه فى دولة الرومان و دولة الفرس ؟ و هل كان السحر فى مصر ، على زمن موسى ، أوغل منه فى كل عصر و مصر ؟ إن تعليلهم هذا لا يصح أن تقوم عليه حجية إعجاز القرآن .

و لا تقوم فلسفة إعجاز القرآن على التعليل الجديد الذى خرج به السيد السابق و أمثاله . فهل بلغت جاهلية الحجاز سن الرشد أبلغ من عواصم الهند و فارس و اليونان و الرومان ؟ بل

هل كان فى الحجاز الجاهلى من الرشد نصيب زهيد مما كان فى دولة الأكاسرة و دولة الأباطرة ؟ أم هل كانت الحياة العقلية فى " أم القرى و ما حولها " أعظم من أنطاكية و أثينة ورومة ؟ هذا الزعم تحد لحقيقة التاريخ . و من المعروف أن العرب لم يأتوا سورية إلا بالدين ، و أخذوا الحضارة و الثقافة عن سورية المسيحية ، فى العهد الأموى . و فى العهد العباسى تكونت الحضارة و الثقافة الإسلاميتان بالعناصر التى أسلمت من الروم و الفرس و الهنود ، كما تشهد أسماء أعلامها الى اليوم ، و بالترجمات عن اليونانية و الفارسية و الهندية ، فكانت خلاصتها كلها .

لقد كانت جاهلية الحجاز فى طفولة عقلية و علمية بحاجة الى معجزة حسية ، أكثر منها الى معجزة عقلية و حجة علمية كالتى يرونها فى اعجاز القرآن ، لإثبات صحة النبوة و التنزيل . و القرآن نفسه شاهد عدل على وضعه التاريخى فى بيئته . فهو صراع متواصل بين محمد و المشركين على معجزة حسية من الله تؤيده : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) . فالمعجزة فى نظر أهل الشرك كما فى نظر القرآن هى " سلطان الله المبين " الذى كان " سنة الأولين " فى إثبات صحة نبوتهم : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) . لكن المعجزة منعت عن محمد منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) و امتنعت عليه منعا واقعيا مطلقا ( الانعام 35 ، الاسراء 93 ) . فجدلية الاستاذ العقاد ينقصها الواقع القرآنى و التاريخى .

8 – و السيد عبد الكريم الخطيب ، فى " النبى صلعم إنسان الإنسانية ، و نبى الأنبياء " – سنة 1963 – يعرف أولا بالمعجزة : " المعجزة عند المؤمنين بالمعجزات : حدث خارق للعادة ، لم يجر على سنن الحياة ، و لا ناموس الطبيعة على الوجه الذى ألفه الناس و عرفوه ... و من أجل هذا لم تكن مخترعات المخترعين و لا أعمال العباقرة فى العلوم و الفنون و الآداب مما تدعى له " المعجزة " أو مما يتحدى به فى مقام الاعجاز ... و من هنا كانت المعجزة مصحوبة بالتحدى من جهة ، و بدعوى النبوة من جهة أخرى ... يقول ابن تيمية : انما تكون المعجزة آية إذا كانت من فعل الله ، مع التحدى بمثلها ، و دعوى " النبوة " ( ص 60 – 61 ) . و الخارق و التحدى و دعوى النبوة هى العناصر الثلاثة المكونة للمعجزة منذ أن قال بها المتكلمون ، و ان نازعهم فى ذلك الفلاسفة المسلمون .

ثانيا يقول مرددا مقالة قومه فى " اختلاف المعجزات باختلاف الأمم ... كما سنرى لماذا كانت معجزة النبى محمد معجزة عقلية تخاطب العقل الانسانى فى أعلى مستوياته و أدناها

جميعا ، فيما حمل القرآن من آيات بينات " ( ص 68 و 71 ) . " الرسالة الإسلامية اذن هى الرسالة التى أدركت الإنسانية حين بلغت رشدها و حين رفعت عنها وصاية السماء التى أقامتها على الناس عن طريق أنبياء الله و رسله الكرام . و شواهد التاريخ تؤيد هذا و تشهد له . فالانسانية لعهد محمد كانت فى آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلى " ( ص 115 ) . " يتحدث الجاحظ فى كتابه ( حجج النبوة ) عن طبيعة الرسالة الاسلامية ، و أنها تتجه الى مجتمع يأخذ الأمور بمعيار العقل ، و ينظر فى اعقابها و ما تؤول إليه " ( ص 117 ) . فنظرية اعجاز القرآن معجزة عقلية ترجع الى الجاحظ . كذلك نظرية بلوغ البشرية فى عهد محمد سن الرشد و النضج العقلى .

ثالثا موقفه الضعيف علميا و نقديا تجاه أساطير السيرة قبل البعثة ، مثل النور فى جبين أبيه عبد الله ، و حلم آمنة أمه ، و قصة ولادته مختونا ، و قصة شق صدره طفلا : " موقفنا من جميع القصص التى رويت عن حياة النبى قبل البعثة ، أننا لا ننظر اليها بحسابها من دلالات النبوة ، و معجزات النبى ، و انما ننظر اليها جميعها على أنها – إن صحت – لم تكن لتزيد فى قدر النبوة و لا فى عظمة النبى ، و أنها – إن لم تصح – لم تكن لتنقص شيئا من قدر النبوة ، و لا من عظمة النبى ! " ( ص 196 ) . كذلك موقفه فى ما يسمونه " إرهاصات بين يدى النبوة " ( ص 197 ) ، و يرى فيها " صورا من الحق " ( ص 201 ) مثل دين الحمس من قريش ، و رجال فى الطليعة الى الاسلام ، و هم الحنفاء ، و أخبار الرهبان من النصارى و الاحبار من اليهود ، و الكهان من العرب الذين ينبئون بمجىء النبى العربى . فهوذا زيد بن نفيل الحنيف يطوف بالبلاد و الشام " فيلتقى براهب ينصح له أن يلتمس الحنيفية دين ابراهيم عند نبى سيبعث فى بلاده ، و ان زمانه قد أظل " ( ص 206 ) : راهب مسيحى ينصح بمتابعة دين غير دينه ، و نبى على غير دينه ! و أحبار اليهود الذين يحتكرون الله و كتابه و أنبياءه يتوعدون العرب بالنبى العربى ( ص 208 ) ! و يتابع السيد الخطيب فيقول : " و كان شق وسطيح أشهر كاهنين فى الجزيرة العربية قبيل مبعث النبى ، و لا نستبعد أن يكون لشق وسطيح استطلاعات فى موكب النبوة " ( ص 217 ) ثم ينقل لهما نبوءة مفصلة عن سيرة محمد و دعوته ( 218 – 220 ) ، و هو يستظرفها و ان شك فيها . كما ينقل لكاهنة مثلها ، و للكاهن ( خطر بن مالك ) ما هو أخطر: " مبعوث عظيم الشأن ، يبعث

بالتنزيل و القرآن ... ثم قال : هذا هو البيان أخبرنى به رئيس الجان . ثم قال : الله أكبر ، جاء الحق و ظهر ، و انقطع عن الجن الخبر ! ثم سكت فأغمى عليه : فما أفاق إلا بعد ثلاث . فقال : لا إله إلا الله ! ... ( ذكر ذلك فى حضرة الرسول ) فقال رسول الله صلعم : لقد نطق عن مثل نبوءة ، و انه ليبعث يوم القيامة أمة وحده " ( ص 221 – 223 ) . فلا يكفى القوم أن يستنطقوا الاحبار و الرهبان فى مبعث محمد ، حتى يستنطقوا الجن و العفاريت على لسان الكهان !

ثم ينتقل الشيخ الخطيب الى " معجزات الرسول بعد البعثة " ( ص 223 ) ، فيقول فيها قبل أن يعددها : " فإذا كان من الممكن ان يسلم – عقلا – بأن تخلو سيرة الرسول الى مبعثه من غير اشارات و دلالات تشير الى النبوة ... – و هو ما لا يمكن أن يسلم به أو يقبل بحال أبدا – فإن امكان عدم التسليم بهذا فى الفترة السابقة من حياة النبى قبل مبعثه يرتفع الى درجة المستحيل ان تخلو سيرة النبى خلال فترة النبوة من آيات و معجزات تشهد له " ( ص 224 ) . نحيل السيد الخطيب إلى أقوال زملائه " بأن القرآن وحده معجزة محمد " ، و إن استدرك فقال : " انها ليست من باب المعجزات التى تجىء للتحدى و تعجيز الناس عن الاتيان بمثلها ، ليعترفوا للنبى بمثلها " ( ص 225 ) ، بل " من نفحات النبوة ، و من شذاها العطر الذى لا ينفصل عنها بحال " ( ص 227 ) . فهو يقبل بها معجزات من النبوة ، لا معجزات تحدى لصحة النبوة ، مثل نبع الماء من أنامله ، وتكثير الطعام ، و شجرة تتكلم و تشهد لأعرابى ان محمدا رسول الله ، و شجرة يستنطقها فتشهد للنبى انه نبى : " فإذا تكلم الطير ! و سبح الحجر ! و مشى الشجر ! و شكا البعير ! و حن الجذع بين يدى الرسول ! فذلك مما لا ينكر أو يدفع " ( ص 236 ) . و ترى الخطيب يذهب بين الشك و اليقين فى أمر هذه المعجزات فيقول تارة : " و لا نريد أن نعيد القول هنا فيما يدور فى هذه المعجزات من جدل حول وقوعها أو عدم وقوعها على الوجه الذى رويت فيه و على الكثيرة التى تكاد تجعل حياة النبى و أعماله كلها خوارق و معجزات " ( ص 236 ) و يقول للحال : " و نعود فنقرر مرة أخرى ان كل هذه المعجزات و الخوارق التى رويت عن نبى الاسلام لم تكن – ان كانت – إلا شرارات من جذوة النبوة و إلاشعاعات من شموسها المشرقة . أما معجزة النبى الكبرى و آيته الخالدة فهى القرآن الكريم " ( 237 ) . لاحظ قوله : " لم تكن – إن كانت – إلا شرارات من جذوة النبوة " و صفة " معجزة النبى الكبرى " : أى تلك المعجزات كلها صغرى قائمة .

فهذا السير بين الشك و اليقين غير مقبول . لكن نشهد له انه أصاب الحق فى قصة " انشقاق القمر " من انه " سيقع حين تقترب الساعة " ( ص 241 ) ، و ان " الاسراء – على ما تشهد به الآية – لم يكن للإعجاز و انما هو رحلة روحية الى بيت المقدس ، مجمع الأنبياء ، و أول قبلة للإسلام " ( ص 243 ) .

رابعا و أخيرا يصل الى معجزة اعجاز القرآن : " الرسول و المعجزة الكبرى " ( ص 265 ) . فيقرر لها الأساس القديم ، " و الدليل على أنه معجزة خارقة للعادة تدل على ان موحيه هو الله وحده ، ليس من اختراع البشر ، هو انه جاء على لسان أمى لم يتعلم الكتابة ، و لم يمارس العلوم " ( 271 – 272 ) . و عن عناية المسلمين بعلوم القرآن يشهد : " لهذا كان ذلك الاختلاف المتشعب فى كل علم و فى كل فن من فنون العربية و علومها ... و من هنا كان الاختلاف الذى لا يكاد يحصر ، و الذى لا نجد له شبيها عند أمة من الأمم ، أو فى لغة من اللغات . و حسبنا أن نشير الى الفقه و ما فى أحكامه من آراء ! و النحو و ما فى مسائله من خلاف " ( ص 273 ) . فهل هذا كله شاهد لمعجزة الاعجاز ؟

ثم يقول : " إن دلائل الاعجاز فى القرآن – مع أنها تنتظم القرآن كله و تجرى فى كل آية من آياته – لا تكفى وحدها فى حسن استقبال الناس لها ، و فى صدق نظرتهم اليها ، ووزنها بميزان الحق و الانصاف " ( ص 277 ) . فهل هذه الظاهرة تجعل اعجاز القرآن معجزة للعالمين ؟

و فى مقابلة معجزات الرسل بإعجاز القرآن يقول : " إن الاعجاز القرآنى يخاطب العقل و يناجى الوجدان . على حين ان الاعجاز فى معجزات الرسل إنما يجابه الحواس و يصادم ناموس الطبيعة القائم فى الناس ، فيحدث فى الحياة زلزلة عنيفة تنبه الغافلين و توقظ النيام . لهذا كان الاعجاز القرآنى فى حاجة ملزمة الى قوة تظاهره و تفتح له القلوب و توجه اليه العقول و تقيم له فى الحياة مكانا راسخا و تجعل له فى الناس قدما ثابتة . و هذه القوة التى يحتاج الاعجاز القرآنى الى مظاهرتها ينبغى أن تكون هى ذاتها معجزة ... فكان هو صلعم عنوان هذا الكتاب الكريم " ( ص 279 ) . فحاجة القرآن الملزمة الى معجزة شخصية تظاهره هى البرهان على ان اعجاز القرآن ليس بمعجزة فى ذاته . و سنرى المعجزة الشخصية فى فصل آخر

و يرى معجزة أخرى تؤيد اعجاز القرآن فى خلق العرب دولة تفتح دولة الفرس و دولة الرومان ، " هذا الاعجاز الرائع لقوة الايمان " ( ص 305 ) . فهل هذا أيضا يشهد لمعجزة الاعجاز فى ذاته ؟

و يرى أيضا فى الشريعة القرآنية معجزة . و فاته ما قاله من اختلاف فى الفقه المبنى على أحكام القرآن و شريعته .

فجل ما عند الشيخ الخطيب ان معجزة الشخصية النبوية لازمة لإظهار اعجاز القرآن لقد شذ عن سربه ، و جعل قوة المعجزة فى غير اعجاز القرآن نفسه .

9 – و السيد محمد الغزالى فى ( عقيدة المسلم ) الذى تواترت طبعاته فى مصر و لبنان و الكويت و غيرها ، يقول فى ضرورة المعجزة لصحة النبوة : " من حق الناس أن يسألوا كل رجل يزعم انه مرسل لهم من عند الله : ما دليلك على صدق قولك ؟ " ( ص 239 ) " و الدليل على صدق أية دعوى قد يكون بامور حارجة ، أو يكون بحقيقتها فى نفسها " ( 241 ) . " و قد كان التعويل فى العصور الأولى على الخوارق المادية فحسب ، أما ما تضمنته الأديان من حقائق فكانت منزلته ثانوية ، حتى جاء الاسلام فغض من شأن الاعجاز المادى ، و نوه بالاعجاز العقلى و القيم المعنوية للرسالات " . " كانت معجزات الأنبياء شيئا آخر غير الرسالات التى يبشرون بها و يدعون اليها . إلا ان الله شاء أن يجعل معجزة الرسالة الأخيرة شيئا لا ينفصل عن جوهرها . فجعل حقائق الرسالة و دلائل صحتها كتابا واحدا " باعجاز القرآن ( ص 243 ) . " فلتكن اذا معجزة نبى الاسلام عقلية " ( 245 ) . هذا ما يردده المتكلمون منذ الجاحظ ، و الفلاسفة الاسلاميون منذ ابن رشد . فلم يأتنا السيد الغزالى بجديد .

لكن الجديد عنده موقفه من المعجزات فى القرآن و السيرة : " إن الحكمة الإلهية اقتضت أن تبث فى طريق الرسول أنواعا من الخوارق التى أيد بها النبيون الأولون ، فجاءت هذه الخوارق تحمل طابعا خاصا ينبغى أن نعرفه حتى لا نتجاوز به حدوده الصحيحة . هذه الخوارق ثانوية الدلالة فى تصديق النبوة و الشهادة لها .

" و الطريقة التى أرسلت بها من عند الله تشير الى ان الحكمة الإلهية لم تعلق عليها كبير أهمية ، و لم تغض بها من قيمة المعجزة العقلية التى انفرد بها الرسول . فقد حدثت جملة من

هذه الخوارق بين المؤمنين ... وحدث بعض آخر أمام أعين الكافرين . بيد ان الصورة التى تم بها تثير الدهشة ، اذ كانوا يقترحون معجزة فتأتيهم أخرى ، أو يأتى ما يقترحون بعد سنين طوال ، و على وجه يبدو منه أن إجابتهم الى ما طلبوا لم تقصد أصلا . و ربما تهمل مقترحاتهم كلها فلا ينظر لها قط " ( ص 246 ).

فالسيد الغزالى يقبل اذا بصحة و تاريخية الخوارق و المعجزات المنسوبة الى محمد فى السيرة و الحديث . نحيله الى قول زميله الاستاذ عبد الله السمان الذى نقلناه : " و من المتأكد انه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح " . فنظرية الغزالى ساقطة لاغية . و الاصرار عليها ضعف ، و ان اعتبرها " ثانوية الدلالة " .

و الجديد عنده أيضا نظريته فى الشخصية النبوية : " لئن كانت العبقرية امتدادا فى موهبة واحدة أو فى جملة مواهب ، إن النبوة امتداد فى المواهب كلها ، و اكتمال عقلى و عاطفى و بدنى ، و عصمة من الدنايا و رسوخ فى الفضائل كلها و عراقة فى النبل و الفضل " ( ص 254 ) . و مع النبى العربى " انتقل العالم من عهد الى عهد . و الكلام فى عظمة الشخصية التى حملت عبء هذه الرسالة يطول . و حسبنا ان الله عز و جل جمع فى سيدنا محمد صلعم من شارات السيادة و النبل ما تفرق فى النبيين من قبل " ( ص 256 ) ، " فإن خصال الكمال التى توزعت عليهم التقت أطرافها فى شخصية الكريم " ( ص 257 ) . و سنرى فى فصل " المعجزة الشخصية " فى السيرة و النبوة و فى الرسالة مدى الاعجاز فيها ، و هل " جمع الله ما تفرق فى النبيين من قبل " . تكفى شهادة القرآن التى عنها يغفلون : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ، و ما تأخر " ( الفتح 1 ) ، " ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذى أنقض ظهرك " ( الشرح 1 – 3 ) . و الوزر الذى ينقض الظهر ليس " باللحم " و لا بالصغيرة ، و هذا يدحض تفسير السيد الغزالى فى قصة استغفار محمد : " فليس استغفار الانبياء عن مثل ما نقارف من خطايا ، أو ترتكب من سيئات " ( ص 239 ) .

و الجديد عنده أخيرا تطرفه على أقرانه فى قصة تحريف التوراة و الانجيل و العقيدة فيهما : " و سريان الفساد الى الديانتين الكبيرتين السابقتين على الاسلام ، اليهودية و النصرانية ، و ما طرأ عليهما من تغيير ، و داخل كتبهما من تحريف ، جعل الاسلام هو الطريق الفذ للإيمان

السليم " ( ص 262 ) ، " و لا تحسبن هذا غلو فى تزكية مخلوق ، أو افتياتا على حق الخالق ، أو تجنيا على أتباع الرسل الأولين . فإن عيسى و موسى صلوات الله عليهما سارا بالناس الى الله على بصيرة ، و هم لا يدرون ما فعل أتباعهم من بعدهم . و لو عادوا إلينا لكانوا أول من يبرأ من الكتب الدسوسة عليهم ، و أول من يستمع الى آيات الذكر الحكيم و يبادر الى تنفيذ أحكامها ووصاياها ؟ " ( ص 263 ) . هذا غلو و تجن على القرآن نفسه الذى يعتبر الكتاب كله ، و على عهده نفسه " كتاب الله " فى عشر سور ( 2 : 101 ، 3 : 23 ، 5 : 44 ، 8 : 75 ، 9 : 36 ، 22 : 8 ، 30 : 56 ، 31 : 20 ، 33 : 6 ، 35 : 29 ) . يكفى قوله فى اليهود و النصارى : " الذين يتلون كتاب الله " ( 35 : 29 ) ، و يكفى تحدى القرآن للمشركين بالكتاب و القرآن على السواء : " قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين " ( 28 : 49 ) . و تسمية القرآن للتوراة و الانجيل " كتاب الله " بتواتر شاهد قاطع على فساد مقالتهم بتحريف التوراة و الإنجيل القائم على تفسير خاطىء مغرض للفظة " تحريف " الواردة بمعنى تأويل مخالف " للكلم عن مواضعه " فى آية أو آيتين من التوراة ، و لا ذكر فيه للإنجيل على الاطلاق 1 . و قد نقلنا فى كتابنا ( مدخل الى الحوار الاسلامى المسيحى ) عشر شهادات كل واحدة من مجموعات قرآنية تشهد ان " صحة الكتاب و الانجيل عقيدة فى القرآن " ( ص 94 – 124 ) . و شهادة القرآن ان " هدى " القرآن و الكتاب واحد ( 28 : 49 ) برهان قاطع على ان عقيدة أهل التوراة و أهل الانجيل سالمة سليمة كما وصلت الى زمن محمد . و هذه الشهادة القرآنية الناطقة تسقط قول السيد الغزالى الذى يتهجم على عقيدة المسيحيين بقوله : " لم تصادف خرافة من الرواج فى العالم مثل اخرافة التى تعد عيسى إلها لهذا العالم – أو شريكا فيه مع الله ! ! " ( ص 65 ) . و نسى ان القرآن نفسه ينسب مرتين الى السيد المسيح المقدرة على الخلق ، مرة على لسان السيد المسيح : " انى أخلق لكم من الطين " ( آل عمران 49 ) ، و مرة على لسان الله نفسه : " و إذ تخلق من الطين " ( المائدة 110 ) . و لا غرابة فى قول السيد الغزالى بحق المسيحية ، فقد بلغ نقده القرآن نفسه ، حيث ينكر بعث المسيح و رفعه حيا الى الله ، قال : " لأنه فى حياته عبد ضعيف ، و بعد مماته رفات موارى فى حفرة من التراب " ( ص 67 ) . فما نظر حضرته بقوله :

1 راجع كتابنا : الانجيل فى القرآن ، ص 64 – 88 ، و كتابنا : مدخل الى الحوار الاسلامى المسيحى ، ص 80 – 94

و ما قتلوه و ما صلبوه ، و لكن شبه لهم " ؟ ( النساء 157 ) . و ما نظر حضرته فى قوله : " يا عيسى انى متوفيك و رافعك الى " ( آل عمؤان 55 ) ، " بل رفعه الله اليه " ( النساء 158 ) . ان رفع المسيح الى الله حصل فى آخرته على الأرض ، و لا ينتظر اليوم الآخر ، حتى يجعله السيد الغزالى " بعد مماته رفاتا موارى فى حفرة من التراب " !

فالسيد الغزالى مثل الشيخ الخطيب ، من القوم الذين يصعب عليهم التسليم بواقع القرآن و موقفه السلبى من كل معجزة تنسب الى محمد ، مهما قال العلماء المسلمون الصادقون بانتحال الخوارق و المعجزات لمحمد فى الحديث و السيرة ، كما نقلنا عنهم .

10 – و السيد عفيف عبد الفتاح طبارة أصدر ( روح الدين الاسلامى ) فى أربع طبعات من 1955 إلى 1960 ، أهداه الى " أهل الفكر الانسانى " . و فيه يقسم القول الى فصلين . الأول " بعض وجوه اعجازه " ( ص 20 ) . و سبب اختيار الله لأعجاز القرآن معجزة له أن " العرب كانت مفطورة على حب البلاغة و الأدب و الشعر و الخطابة ... جاء القرآن الكريم أفصح منها فيما هى قوية به " ( ص 27 ) – فهل فاقت العرب ، أم سبقت اليونان و الرومان ، و من قبلهم الهنود و الفرس ، بصناعة الكلام و الفطرة عليه ؟ فمناسبة الاعجاز معجزة ليست العلة القائمة . فما " اقتضت حكمة الله أن تكون معجزته من جنس ما نبغت فيه أمته " ( ص 30 ) . فقد كانت المعجزة الحسية " سنة الأولين " من الأنبياء أجمعين ، بشهادة القرآن نفسه . و المؤلف يكرر ما قالوه قبله . و إنما فاته ان القرآن نسخ التحدى بإعجازه عندما أنهى فترة التحدى به للمشركين – لا لغيرهم – بإعلان " متشابه القرآن " ( آل عمران 7 ) و المتشابه و الاعجاز لا يجتمعان . و بهذا النسخ لإعجازه لم " يسن نهجا جديدا فى البرهان على صحته " ( ص 31 ) ، و لم يقبله العرب حجة على صحة النبوة ، بدليل تحديهم الدائم له بمعجزة مثل الأنبياء الأولين ( الأنبياء 5 ) ، و امتنعوا عن التصديق حتى تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) .

و فى وجه الاعجاز على الاجمال يقول : " و أسلوبه مخالف لأساليب كلام العرب و مناهج نظمها " . و يستشهد على ذلك بأقوال الدكتور طه حسين ، و الباقلانى ، و الرافعى . وفاته وفاتهم أنه أسلوب نظم الكتاب ، كما كان يقرأه مع أستاذه و ابن عمه ورقة بن نوفل

قس مكة ، و ذلك بنص القرآن القاطع : " و شهد شاهد من بنى إسرائيل ( النصارى ) على مثله " ( الاحقاف 10 ) .

ثم يفصل بعض وجوه الاعجاز البيانى فيه : التصوير الفنى ، ضرب الأمثال ، التكرار ، الايقاع الموسيقى ، فى فصل " بعض خصائص أسلوب القرآن " ( ص 34 ) . و ينقل عمن سبقه " وجوه أخرى من إعجاز القرآن " ( ص 37 ) : فصاحته فى كل المواضيع ، وفرة بلاغته ، سلامته من التناقض و الخطإ ، سمو روحه ، غزارة معانيه . هذا هو الوجه البيانى ، الذى لا يمارى فيه أحد . لكن هل اعتبره القرآن معجزة له ؟ و هل يصح بذاته معجزة لتحدى العالمين ؟

و يرى وجها آخر فى " اشتمالته على أنباء غيبية " ( ص 40 ) . و هى على نوعين : نبوءات للمستقبل القريب و البعيد يراها فى استخلاف المسلمين فى الأرض ( النور 55 ) ، و عصمة محمد من الناس اعدائه ( المائدة 67 ) ، انتشار الاسلام بين العرب ( غافر 51 ، التوبة 32 ) ، تفرق المسلمين شيعا و محاربة بعضهم بعضا ( الانعام 65 ) ، و النوع الآخر : " و من الأنباء الغيبية التى أتى بها القرآن ، الأنباء عن قصص الأولين من الأنبياء " ( ص 4 ) . و هو يرى فى القصص القرآنى معجزة لسببين : الأول أمية محمد ، و هى تفسير لا يصح لاصطلاح قرآنى كما سنرى ، و الثانى " مما يشهد للقرآن أنه وحى إلهى أن قصص القرآن تخالف كثيرا ما ورد فى الكتب المقدسة و تسمو عليها " ( ص 41 ) . و فات حضرة المؤلف أن الخلاف الموجود بين القرآن و التوراة فى قصص الأنبياء وارد فى التلمود ، و ان عصمة الأنبياء مما ورد فى التوراة من ذنب لهم أو هفوة هى أيضا فى التلمود . و فات السيد طبارة شهادة القرآن لنبيه : " و لا أعلم الغيب " ( الانعام 50 ) . " و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسنى السوء : إن أنا نذير و بشير لقوم يؤمنون " ( الاعراف 188 ) ، " و لا أقول لكم : عندى خزائن الله ! و لا ( انى ) اعلم الغيب ! و لا أقول : انى ملك ... إنى إذا لمن الظالمين " ( هود 31 ) . فالقرآن يشهد بامتناع المعجزة الغيبية على محمد ، كما يشهد بامتناع المعجزة الحسية عليه ( الاسراء 59 و 93 ، الانعام 35 ) .

و يرى السيد طبارة وجها جديدا من الاعجاز فى روحانية القرآن ( ص 42 ) التى أتت بمعجزتين : الأولى جعل العرب " أمة موحدة قوية تنشر الفضل و الفضيلة و الكمال فى أرجاء

العالم المضطرب : أى حجة أكبر من هذه على أن القرآن وحى الهى ، و انه روح من عند الله " . و الثانية : " هذه الروحانية اشتملت على العلوم الإلهية و أصول العقائد الدينية و قوانين الفضائل و الآداب ، و قواعد التشريع السياسى و المدنى و الاجتماعى و غيرها من الأصول التى أتى بها القرآن ، و سبق بها كل الأوضاع البشرية التى من نوعها و التى يؤلف مجموعها الصرح الأدبى الضخم لهذه المدنية الحديثة ... كل هذا مشمول بالنص ، لا بالتأويل ، فى الأصول التى جاء بها القرآن فى القرن السابع الميلادى " ( ص 42 ) .

هذا ما يسميه " روح القرآن " ( ص 42 ) . و هو يستند إلى هذه الآية :" و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا : ما كنت تدرى ما الكتاب و لا الإيمان ، و لكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا ، و انك لتهدى ( قراءة أخرى أصح : لتهدى ) الى صراط مستقيم " ( الشورى 52 ) . وفاته ان تعبير " روحا من أمرنا " لا يعنى " روح القرآن " أو روحانيته ، بل ملاكا من عالم الأمر أى مخلوقا ، جاءه و هو معتكف فى غار حراء أمره ( الدخان 1 – 5 ) بالإيمان بالكتاب الذى جعله " نورا نهدى به من نشاء من عبادنا " ، لذلك يأمره : " قل : آمنت بما أنزل الله من كتاب " ( الشورى 15 ) . لاحظ القرينة " من أمرنا " و القرآن غير مخلوق فى ملته و اعتقاده .

و السند الثانى للإعجاز فى العقيدة و الشريعة هو أيضا أمية محمد : " فكيف يستطيع رجل أمى لم يقرأ و لم يكتب ، و لا نشأ فى بلد علم و تشريع أن يأتى بمثل ما فى القرآن منها تحقيقا و كمالا ، يؤيده بالحجج و البراهين " ( ص 43 ) . و نعرف أن أمية محمد مبنية على تفسير خاص لاصطلاح قرآنى متواتر . وفاته ان القرآن ينقض الاعجاز فى العقيدة بقوله : " فبهادهم اقتده " ( الانعام 90 ) ، و هو فى الهدى مع الكتاب سواء : " قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين " ( القصص 49 ) . كما ينقض الاعجاز فى الشريعة بقوله : " يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم " ( النساء 26 ) ، أى " الأنبياء فى التحليل و التحريم فتتبعوهم " ( الجلالان ) .

و الاعجاز فى الشرائع و الاخلاق و الآداب لمن يغلب الروح على الجسد ، و الآخرة على الدنيا ، و الدين على الدولة ، و الشريعة القرآنية دين و دولة ، دنيا و آخرة ، جسد و روح ، كما يرى العقاد نفسه ، فقد جمع القرآن مادية التوراة الى روحانية الانجيل فى " أمة وسط " .

و بعد هل من تحد بإعجاز بمثله بعد قوله : " و شهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله " ( الاحقاف 10 ) .

فترى ان السيد طبارة فى هذا الفصل لم يأت بجديد ، بل كرر ما رددته الأجيال من قبله . و علماء العصر المسلمون لا يرون فيه معجزة .

أما الفصل الثانى ، " معجزات القرآن العلمية " فهو من حاجة المحتاجين إلى معجزة لإثبات النبوة . و القرآن مثل الانجيل و التوراة كتاب هداية دينية ، لا كتاب علوم كونية . مع ذلك فهو يقول فى مغالطات مكشوفة : " إن القرآن لم تكن مهمته أن يتحدث الى عقول الناس عن مشكلات الكون و حقائق الوجود العلمية ، و انما هو كتاب هداية و إرشاد للناس فى حياتهم الدينية و الدنيوية . و لكن مع ذلك لم تخل آياته من التعبيرات الدقيقة و لا من الإشارات الخفية الى حقائق كثيرة من المسائل الطبيعية و الطبية و الجغرافية ، مما يدل على اعجاز القرآن و كونه وحيا من عند الله . و من الثابت تاريخيا أن محمدا صلعم ، فضلا عن كونه أميا لا يقرأ و لا يكتب ، قد نشأ فى مكة حيث لم تكن علوم و لا معارف و لا جامعات و لا مدارس تقرأ فيها العلوم الكونية ، كما ان محمدا كان بعيدا عن ذلك المحيط العلمى الذى كان موجودا فى الشام و الاسكندرية و أثينا و رومية . و مع ذلك فإن النظريات العلمية التى أشار اليها القرآن لم تكن معلومة فى ذلك العصر فى القرآن السابع الميلادى ، و لم يكتشف العلم أسرارها إلا منذ أمد قريب " ( ص 44 ) .

هذا هو الجديد الذى أتى به السيد طبارة ، مع من يحذو حذوه : فى القرآن اعجاز علمى ، سبق العلم العصرى بنيف و ثلاثة عشر قرنا . هذه معجزة ضخمة لو صحت . لكنها فى ذاتها و فى ظروفها سراب بسراب . إن أساس هذا الاعجاز العلمى واه جدا ، و هو يبنيه على ثلاث ركائز ضعيفة : أمية محمد ، نشأته فى مكة البعيدة عن مراكز العلم ، و عدم اتصال محمد بتلك المراكز . وفاته أن قريش كانت سيدة التجارة بين أطراف الجزيرة ، و أن محمدا كان شيخ تجارها فى تجارة زوجه خديجة التى " كانت تجارتها تعدل تجارة قريش كلها " ، و القرآن يعد رحلتى الشتاء و الصيف الى اليمن و الشام من نعم الله عليهم ، و أن تجار قريش و سيدهم محمدا كانوا على اتصال بمراكز العلم فى اليمن و دول الشمال العربى حيث علم الروم و الفرس و الهنود يتسرب و يتفاعل ، و حيث كان محمد خصوصا يتصل بالاحبار

و الرهبان حملة العلم فى كل زمان و مكان . و ورقة بن نوفل ، استاذ محمد بعد زواجه من ابنة اخيه خديجة ، كان محجة علم لأنه كان قسا على اتصال بالراهب بحيرة فى بصرى ، كما نقل الحديث و السيرة . و القرآن بنقل : " و أعانه عليه قوم آخرون " ( الفرقان 4 ) ، ان لم يصح قولهم فى القرآن نفسه ، فيصح فى " الكونيات " القرآنية ، و نعرف فى صحابته سلمان الفارسى ، صاحب فكرة الخندق ، و صيب الرومى ، و غيرهما . فقد كانت مكة أكبر سوق للتجارة و الثقافة فى الجزييرة ، و يحضرها التجار العرب و غيرهم ، و التجارة باب الى الثقافة . فإذا لم يذهب محمد فى طلب العلم الى الاسكندرية و الشام و أثينة و رومة ، فقد أتى أهلها بعلمهم و تجارتهم اليه فى مكة و فى أطراف الجزيرة . فأسس الاعجاز العلمى ساقطة .

ثم ان " التعبيرات الدقيقة و الإشارات الخفية الى حقائق علمية " لم يأخذها القرآن على حسب اصطلاحها كما يفعلون به ، و لم يفهمها المخاطبون العرب بحسب هذا الاصطلاح ، بل أخذها القرآن و فهموها بحسب معناها اللغوى ، مثل قوله فى الذرة : " من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره " ( 99 : 7 و 8 ) ، " لا يعزب عنه مثقال ذرة " ، " لا يملكون مثقال ذرة " ( 34 : 3 و 22 ) ، " لا يظلم مثقال ذرة " ( 4 : 39 ) : فالمعنى اللغوى بارز ظاهر ، و ر أدنى اشارة الى اصطلاح علمى . فالقرآن أخذ بلغة قومه و نظرة زمانه الى ظواهر الكون ، و لم يقصد إلى تحدى الناس بالاعجاز العلمى . و كيف فاتتهم عناصر التحدى الثلاثة للمعجزة : العمل الخارق للطبيعة ، التحدى به ، و سلامته من المعارضة لدى العالمين . فأى شىء من هذه العناصر الثلاثة لصحة المعجزة فى " الكونيات " القرآنية ؟ ! حسب أهل المنحى العلمى فى موقف القرآن من كروية الأرض ، فقال مثل أهل زمانه بأنها مبسوطة ، و لذلك سموها " البسيطة " . انظر الى قوله : " و الله جعل لكم الأرض بساطا " ( نوح 19 ) أى " مبسوطة " ( الجلالان ) ، " و الأرض بعد ذلك دحاها " ( النازعات 30 ) أى بسطها و كانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو " ( الجلالان ) : أهذا فى النص و التفسير من العلم فى شىء ؟ و كل تعابيره تدل على أن الأرض مبسوطة لا كروية : " و اذا الأرض مدت " ( 84 : 3 ) ، " و الأرض مددناها " ( 15 : 19 ) ، " و هو الذى مد الأرض " ( 13 : 3 ) ، " ألم نجعل الأرض مهادا " ( 78 : 6 ) ، " جعل لكم الأرض مهدا " ( 20 : 53 ، 43 : 10 ) ، " جعل لكم الأرض فراشا " ( 2 : 22 ) ، " و الأرض فرشناها " ( 51 : 48 ) . و يلاحظ الجلالان أن قول القرآن يخالف قول " علماء الهيئة " . و هل صحيح ان

الجبال رواسى تثبت الأرض و تمنعها أن تميد بالشر بحسب قوله : " و ألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم " ( 16 : 15 ) أى " جبالا ثوابت تتحرك بكم " ( الجلالان ) . و المعجز عنده أن السماوات قائمة بغير عمد تحملها ، و جبال الأرض تمنعها من أن تتحرك : " خلق السماوات بغير عند ترونها ، و ألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم " ( 31 : 10 ) . و العلم عنده أن السماء " سقف " للأرض : " و جعلنا السماء سقفا " ( 21 : 32 ) أى " سقفا للأرض كالسقف للبيت " ( الجلالان ) .

و نحن نقول : إن هذه التعابير لغوية بيانية تقول بظواهر الكون كما فهمها أهل زمانه ، و تشنيع على القرآن إذا أخذ بها بحسب اللغة و مجازها و بيانها . لكن هذا الواقع يمنع أمثال السيد طبارة من أن يرى معجزات علمية فى بعض أوصاف القرآن الكونية مثل : وحدة الكون و سر الحياة ( الأنبياء 30 ) ، نشأة الكون من دخان ( فصلت 9 – 11 ) ، تمدد الكون و سعته ( الذاريات 47 ) ، تحركات الشمس و القمر و الكرة الأرضية ( يسن 38 – 40 ) ، وجود أحياء فى السماء ( أى الفضاء الكونى ) ( الشورى 29 ، الاسراء 44 ، و 55 ، مريم 93 ) ، نقص الأوكسجين فى الارتفاعات ( الأنعام 125 ) ، تقسيم الذرة ( يونس 61 ) ، الزوجية فى كل شىء ( الذاريات 49 ) ، تلقيح السحاب ( النور 43 ، الحجر 22 ) ، اهتزاز الأرض بسبب المطر ( الحج 5 ، حم السجدة 27 ) ، توازن العناصر الكونية ( الرعد 8 ، الحجر 19 ) ، الأمواج الداخلية و السطحية ( النور 40 ) ، عالم الحيوان و الطير " أمم أمثالكم " فهو شبيه بعالم الانسان ( الانعام 38 ) ، مراحل نمو الجنين ( المؤمنون 12 – 14 ) ، أغشية الجنين فى " ظلمات ثلاث " ( الزمر 6 ) ، مصدر تكون الانسان من " الظهر " ( الاعراف 172 ) ، كيفية تكون الذكر و الأنثى من منى الرجل وحده الحامل صبغيات ذكرية أو أنثوية ( القيامة 37 – 39 ) ، الحيوان المنوى للانسان يشبه العلق ( العلق 1 و 2 ) ، اختلاف بصمات الانسان ( القيامة 1 – 4 ) . إذا أضفنا اليها العسل الذى " فيه شفاء للناس " ( النحل 68 – 69 )، فتلك عشرون معجزة علمية للقرآن تشهد بأنه " وحى إلهى " ( ص 44 – 59 ) .

يقول السيد طبارة فيها : " و هذه ( تلقيح السحاب ) مسألة لم يكن شىء منها يخطر ببال بشر قبل هذا العصر " ( ص 54 ) ، " و هذه الآية ( خلق الانسان من علق ) معجزة بليغة من معجزات القرآن لم تظهر وقت نزولها و لا بعده بمئات السنين ، الى ان اكتشف

المكروسكوب و عرف كيف يتكون الانسان من هذه الحيوانات " ( ص 58 ) . إن السيد طبارة بتسميته تلك الأوصاف الطبيعية " معجزات " يحيد عن جادة الصواب ، لأنه ليس فيها شىء من شروط المعجزة كما حددها علماء الكلام ، و لا اتخذها القرآن معجزة له على الاطلاق . و هو " يحرف الكلم عن مواضعه " ليقوله ما لا يريد ، ليرى فيه إعجاز علميا . فيه ما يرونه من اعجاز علمى ، فقد خاطب القرآن أهل زمانه و المسلمين ، قبل ثلاثة عشر قرنا بما لا طاقة لهم بمعرفته و فهمه ، و خطاب يعجز الناس عن إدراكه ليس بمعجز على الاطلاق . و القول الفصل هنا أيضا أن المعجزة منعت مبدئيا عن محمد ، و امتنعت عليه واقعيا ، فاكتشاف معجزات فى القرآن تناقض معه و نقض له .

11 – نختم ، من حيث وجب أن نبدأ ، بالسيد مصطفى صادق الرافعى فى ( إعجاز القرآن ، و البلاغة النبوية ) . صدر سنة 1923 . و لدى الطبعة الخامسة من سنة 1952 . لقد حاول الرافعى ان يفتح فتحا جديدا فى معجزة القرآن ، غير ما تداوله أهل الاعجاز ، فجاء كتابة قسمين . الأول يحاول أن يجد معجزة تاريخية فى " تاريخ القرآن " ( ص 30 – 74 ) " فالقرآن معجز فى تاريخه دون سائر الكتب ( ص 175 ) ، وفاته التفسير الصحيح لحديث الاحرف السبعة كما فصله الطبرى ، و معجزة لغوية فى تخليد العربية بخلود القرآن ( ص 74 – 86 ) وفاته تاريخ توحيد اللغات من قبل القرآن و من بعده ، فها التوراة تخلد العبرية ، و الانجيل يخلد اليونانية ، و معجزة سياسية فى تكوين القرآن للعرب دولة تفتح العالم و تؤدبه بأدب القرآن ( ص 86 – 99 ) ، و فاته تاريخ تكوين الامم و الامبراطوريات من قبل الاسلام و من بعده ، و معجزة اجتماعية بالاعجاز الأدبى الذى لقن الناس آداب الفطرة فى الاجتماع الانسانى ( 99 – 125 ) ،و فاته ان الفتح العربى لم يأت دول الهند و الفرس و الروم إلا بالدين ، و استجمع الاسلام حضارته من صفوة الحضارات المغلوبة ، و معجزة علمية ، و هى على نوعين ، الأول كان القرآن على أساس العلوم العربية كلها – و هذا لا مماراة فيه ، و الثانى " الآيات الكونية و العلمية فى القرآن " ( ص 126 – 155 ) فكان الرافعى على أساس القول بالاعجاز العلمى المشبوه فى القرآن . تلك خمس معجزات ليس فيها شرط من شروط المعجزة كما حددها المتكلمون من قبله . إنها من أفضال القرآن ، لا معجزات له .

يبقى القسم الثانى يسميه " إعجاز القرآن " ( ص 156 ) كما ورثه عن أسلافه . لكنه جدد البحث فيه و طوره الى مداه .

فى فصل أول يفصل " تاريخ الكلام فى القرآن " ( ص 160 ) . فكانت أول مقالة بخلق القرآن للبنانية أو البيانية . و تلقفتها الجعدية " فأضافت الى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة ، و أن الناس يقدرون على مثلها و على أحسن منها " . نجمت مقالة الجعد بن درهم مؤدب مروان بن محمد ، آخر خلفاء بنى أمية ، فى دمشق فأخذها عنه الخليفة نفسه ( ص 161 ) . و فى مطلع العهد العباسى بلغ التطرف قمته . فكانت " الرافضة " و على رأسهم الحكمية ، جماعة هشام بن الحكم " يزعمون ان القرآن بدل و غير و زيد فيه و نقض منه و حرف عن مواضعه " . " أما إنكار أشياء من القرآن نفسه ، على أنها ليست منه ، فقد وقع لبعض الغلاة ، كالعجاردة ، الذين ينسبون الى عبد الكريم بن عجرد ، فى أواخر المائة الأولى . فإنهم ينكرون أن سورة يوسف من القرآن لأنها قصة ، زعموا " ( ص 161 ) .

و ممن أنكر الاعجاز فى القرآن أيضا " الحسينية ، أصحاب الحسين بن القاسم العنانى ، الذين يزعمون أن كتبهم و كلامهم أبلغ و أهدى و أبين من القرآن " ( ص 169 ) .

" و أشدهم بعد الجعد بن درهم ، عيسى ابن صبيح المزدار ، و أصحابه المزدارية " ، " يقولون إن القرآن غير معجز ، لا بقوة القدر ، و لا بضعف القدرة " . " و قد زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة و نظما و بلاغة " ( ص 168 – 169 ) .

و ظهرت المعتزلة فحاولوا الجمع بين قول العامة و قول الخاصة ، فنادت النظامية " بأن الاعجاز كان بالصرفة ، و هى ان الله صرف العرب عن معارضة القرآن ، مع قدرتهم عليها . فكان هذا الصرف خارقا للعادة . قلنا : و كأنه من هذا القبيل هو المعجزة ، لا القرآن " ( ص 162 ) .

و الجاحظ ، مؤسس الجاحظية ، كان على رأيين مختلفين . فكان أول من ألف " نظم القرآن " لبيان إعجاز بيانه الذى جعله فى لفظه و نظمه – و هو القول الحق الى اليوم . لكنه تستر وراء مقالته بخلق القرآن و عدم اعجازه بالقول المشهور عنه : " ان القرآن جسم يجوز أن يقلب مرة رجلا و مرة حيوانا ، أو مرة رجلا و مرة أنثى " ( ص 165 ) .

و اختلف القوم حتى اليوم فى وجه الاعجاز . فنادى أهل الاعجاز فى كتبهم على اختلاف بينهم أنه الاعجاز البيانى ، مثل الواسطى و الرمانى و الباقلانى و الجرجانى و الخطابى و الرازى و ابن أبى الأصبع و الزلكانى ، مدة ثلاثماية سنة ، على اختلاف فى وجه الاعجاز

مع ذلك " فشت مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة " . و لجماعة من المتكلمين و أهل التقسيمات المنطقية ، على اختلاف بينهم ، شبه و مطاعن يوردونها على القرآن ، و هى نحو عشرين وجها " ( ص 167 ) .

و على الجملة فأهل السنة و الجماعة يقولون بإعجاز القرآن البيانى . أما المعتزلة عموما فيقولون : " ان الله لم يجعل القرآن دليلا على النبوة " . و الذين يقولون بالاعجاز ، فهم على خلاف فى وجه الاعجاز فيه . فقضية الاعجاز القرآنى مختلف فيها . و ما أختلف فيه لا يصح أساسا للعقيدة . و سنرى أن القرآن لا يعتبر إعجازه معجزة له .

لكن الرافعى غالى على كل من سبقه فقال بالاعجاز المطلق فى القرآن ، " و انه معجز من كل الوجوه " ، " و انما مذهبنا بيان اعجازه فى نفسه ، من حيث هو كلام عربى " ( ص 176 ) . مع ذلك وجه الاعجاز عنده ان " أسلوب القرآن " ( ص 213 ) " مخالف لكل الأساليب " ، و هذه هى الناحية الأولى من اعجازه . الناحية الثانية ، " سر الاعجاز فى النظم " أى فى تركيب الحروف و الكلمات و الجمل ( ص 238 ) : إعجاز النظم الموسيقى فى الحروف و أصواتها ( ص 241 ) و فى الكلمات و حروفها ( ص 249 ) بأصوات ثلاثة مجتمعة : صوت النفس و صوت العقل و صوت الحس ، و فى الجمل و كلماتها ، " بنظم القرآن صورة واحدة من الكمال ، و ان اختلفت أجزاؤها فى التركيب ، بذلك التناسب البديع فى الترتيبات و الروابط من ربط كل كلمة بأختها ، و كل آية بضريبتها ، و كل سورة بما إليها . " و هو علم عجيب أكثر منه الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره " ( ص 277 ) . ذلك هو الاعجاز فى التركيب و التأليف ، و غرابة أوضاعه التركيبية هى شطر الاعجاز فى القرآن ( ص 283 ) ، و هى الناحية الثالثة منه : " كتاب واحد يستوفى وجوه البلاغة " ، أى الاعجاز بسياستى البيان و المنطق ، أو ما يقال له فى العرف : البيان و البلاغة ( ص 291 ) . و الناحية الرابعة منه هى وجه اعجازه البيانى : " الطريقة النفسية فى الطريقة اللسانية " ( ص 277 ) . و الناحية الخامسة هى وجه اعجازه البلاغى ، على سبيل الخطاب و الجدل ، لا على سبيل البرهان المنطقى إلا ما ندر ( 299 ) . و هذا الوجه كان أول من نبه اليه الفيلسوف ابن رشد . 1

1 " و قد استخرج الإمام الغزالى ( المنطق ) من القرآن " ( ص 300 ) ، و أيده ابن رشد بأن أسلوب القرآن يقوم على

و يختم الرافعى كتابه بقوله : القرآن هو نفس الوحى ، حيث الوحى هو المعجزة ، و المعجزة هى الوحى . و ذلك تمام اعجازه . " و هذا الحديث يجمع كل ما قدمناه من القول فى اعجاز القرآن ، لأنه وحى بمعانيه و ألفاظه ، فهو بائن بنفسه من الكلام الانسانى . و لابد أن يكون فائدة للناس ليعملوا ، و صادقا على الناس كافة ليستفيدوا ، و معجزا للناس كافة ليصدقوا " ( ص 307 ) .

و فات الاستاذ الرافعى فصل ( الاتقان 1 : 44 ) " فى المنزل على النبى صلعم ثلاثة أقوال : ( أحدها ) انه اللفظ و المعنى ، و ( الثانى ) ان جبريل إنما نزل بالمعانى خاصة ، و أنه صلعم علم تلك المعانى و عبر عنها بلغة العرب ، و ( الثالث ) ان جبريل ألقى اليه المعنى و أنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، و أن أهل السماء يقرؤونه بالعربية " . فالتنزيل الإلهى باللفظ و المعنى قول واحد من ثلاثة . و عليه يكون لفظ القرآن و نظمه ، على قولين من ثلاثة ، إما من جبريل ، و إما من محمد نفسه . و هذا يقضى على نظرية الرافعى ان " القرآن هو نفس الوحى " ، و أنه الاعجاز المطلق .

المعنى و أنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، و أن أهل السماء يقرؤونه بالعربية " . فالتنزيل الإلهى باللفظ و المعنى قول واحد من ثلاثة . و عليه يكون لفظ القرآن و نظمه ، و على قولين من ثلاثة ، أما من جبريل ، و إما من محمد نفسه . و هذا يقضى على نظرية الرافعى ان " القرآن هو نفس الوحى " ، و أنه الاعجاز المطلق .

و نظرية الرافعى تجعل الدين حرفا ، و الوحى حرفا ، و أهلهما عباد الحرف . و ذلك لارتباط الاعجاز بحرفه و نظمه .

و بما أن حرف القرآن و نظمه هما من جبريل أو من محمد نفسه ، على قولين من الثلاثة ، فهذان القولان ينقضان اعجاز القرآن نفسه بحرفه و نظمه .

فتاريخ الكلام فى اعجاز القرآن يقود أهل العصر من المسلمين أنفسهم ، تجاه اختلاف السلف فى وجهالاعجاز على ايجاد فلسفة جديدة للقرآن يستعيضون بها عن المعجزة و الإعجاز .

" إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة ( بالأسلوب الخطابى و الجدلى ) ، لا على طريقة المنطق " ، بالأسلوب البراهانى ( ص 299 ) . فاخراج طريقة المنطق و البرهان من القرآن ، حوله من أسمى ما وصل اليه الإنسان .

ثانيا : فلسفة أهل العصر فى النبوة و المعجزة

إن علماء الاسلام اليوم ، كما رأيت ، فى حيرة من أمرهم تجاه فلسفة المعجزة و النبوة . فهم تجاه واقع قرآنى صريح قائم ، " موقف القرآن السلبى من كل معجزة له " ، و تجاه خلاف أهل السنة و الجماعة فى وجه الاعجاز القرآنى ، و تجاه أمر كلامى متشابه مشبوه فى صحة اعجاز القرآن معجزة له ، منذ نادى المعتزلة " بأن الله لم يجعل القرآن دليلا على النبوة " .

إن أئمة العلماء المسلمين الذين لا يؤخذون بالتقليد يشهدون أن لا معجزة فى القرآن دليل النبوة – ما عدا الاعجاز البيانى الذى سننظر فيه . و ثبت لديهم أن ما توهمه بعضهم معجزة للنبى فى القرآن و الحديث و السيرة ، " من المتأكد أنه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح " ، " ليس هناك آية قرآنية صريحة فى القضية ، و لا حديث واحد متواتر " كما نقلنا عن الاستاذ عبد الله السمان .

و اعجاز القرآن الذى اختلفوا فى وجهه و فى مداه كان التحدى به عابرا ، و تجاه المشركين وحدهم . و عند لقاء أهل الكتاب فى المدينة نسخه بآية ( آل عمران 7 ) : " منه آيات محكمات ، هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات ... و ما يعلم تأويله إلا الله ، و الراسخون فى العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا " . مع ذلك ظل بعضهم يتمسك به دليلا على النبوة ، لعلمهم بضرورة المعجزة لصحة النبوة ، و ليس فى القرآن غيره .

لكن بما ان القرآن لا يعتبر اعجازه معجزة له ، و لا يصح الاعجاز البيانى الذى هو لخاصة العرب معجزة للعالمين ، فقد اضطر هذا الواقع القرآنى و الكلامى أئمة العلماء فى عصرنا أن يأتوا بفلسفة جديدة فى النبوة و المعجزة . و نحن ندرس الآن بعض نظرياتهم .

1 – قيل : لا ضرورة للمعجزة لصحة النبوة

إن أهون سبيل للخلاص من ذلك الواقع المرير فى القرآن ، هو المناداة بأن لا ضرورة للمعجزة فى بيان صحة النبوة . بدأ هذه الفلسفة الجديدة حسين هيكل فى ( حياة محمد ، ص 490 ) : " ما كان محمد بحاجة الى الخوارق لإثبات رسالته " . و أيده فى ذلك شيخ الأزهر فى مقدمة الكتاب . و سرت النظرية الجديدة بين القوم . ففى ( سيرة الرسول 1: 226 ) يعلن الاستاذ دروزة: " إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد

عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته " كما نقلنا عنه . و جاء الاستاذ العقاد ، فى كتاب المؤتمر الاسلامى ( حقائق الاسلام و أباطيل خصومه ، ص 59 ) فأكمل النظرية : كانت الرسالة المحمدية " غير مشروطة بما غبر فى الأوهام من قيام النبوة كلها على دعوى الخوارق و الإنباء بالمغيبات " . فالمعجزة و الإنباء بالغيب أمسيا " من الأوهام " فى البرهان على النبوة . و هكذا ظنوا أنهم تخلصوا من مرارة الواقع القرآنى " و موقفه السلبى من كل معجزة " لمحمد . لكن هذا الواقع الخطير المرير قد ألجأهم الى منطق غير مقبول .

إن قولهم بعدم ضرورة المعجزة لصحة النبوة ينقصه صريح الكتاب و الانجيل و القرآن ، حيث المعجزة دليل النبوة الأوحد ، كما نقلنا فى صدر هذا الكتاب . فالقرآن نفسه – الذى يعلن منع المعجزة مبدئيا عن محمد ( الاسراء 59 ) و عجزه واقعيا عنها ( الاسراء 93 ) – يصرح أيضا أن المعجزة " سنة الأولين " من النبيين ( الكهف 55 ) ، و فيها " السلطان المبين " دليلا على صحة رسالتهم و صدق دعوتهم ( غافر 23 ) . و هذه السنة الإلهية فى النبوة لن تتحول و لن تتبدل : " فهل ينظرون إلا سنة الأولين : فلن تجد لسنة الله تبديلا ، و لن تجد لسنة الله تحويلا " ( فاطر 43 ) . فالتنكر لضرورة المعجزة لصحة النبوة نقض مفضوح لنص القرآن القاطع الصريح .

و ذلك القول عند علماء العصر ينقض أيضا ما تواتر فى علم الكلام عند أهل التوراة و أهل الانجيل و أهل القرآن ، خصوصا عند المتكلمين المسلمين . فقد ظلوا على الدوام ينادون بأن المعجزة دليل النبوة الأوحد . و قد فلسف الجوينى ذلك فى ( الارشاد ، ص 331 ) كما نقلنا عنه فى صدر الكتاب : " لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ! – قلنا : ذلك غير ممكن " . فعلم الكلام فى جميع الأديان يثبت : أن لا نبوة بدون معجزة .

و هذه الضرورة حملت علماء الكلام – و قد شاهدوا فراغ القرآن من كل معجزة حسية على ابتكار معجزة ( اعجاز القرآن ) دليلا على نبوة النبى العربى . و هذا ما يقول به علماؤهم إلى يومنا . و هكذا فهم يناقضون أنفسهم بأنفسهم : أنهم ينفون ضرورة المعجزة ، مع أنهم يقومون اعجاز القرآن معجزة له كما يقول شيخهم ، حسين هيكل : " إن كتاب الله هو وحده معجزة محمد " 1 . هذا ما كان يقوله أصحاب نظرية ( إعجاز القرآن ) ، مثل شيخهم

1 حياة محمد ، ص 52 و 57 .

الباقلانى 1 : " الذى يوجب الاهتمام التام بمعرفة اعجاز القرآن أن نبوءة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة " .

فتنكرهم لضرورة المعجزة هو إنكار لإعجاز القرآن نفسه كمعجزة .

2 – أصحيح أنه " ليس للمعجزات حجية " ؟

هذا ما تعلمه الدكتور نظمى لوقا من مشايخه العصريين . و قد أعطى الاستاذ دروزة السبب الكلامى : كانت الدعوة القرآنية " فى غنى عن معجزات خارقة للعادة ، لا تتصل بها بالذات " .

أجل أن المعجزة الإلهية التى تشهد للنبى بصدقه فيما يبلغ عن ربه ، لا توضح ذاتها الحقيقية أو الرسالة فى نفسها ، فإنها " لا تتصل بها بالذات " .

و لكن الحقيقة ، سواء كانت منزلة أو بشرية ، هى حقيقة فى ذاتها . فما الضامن أنها من عند الله ؟ لا يمكن أن يكون الضامن من ذاتها – و حينئذ تلتبس علينا الحقيقة الإلهية و الحقيقة البشرية – فلابد لها من قرين معجز يدلنا على مصدرها الإلهى . قال الإمام الجوينى فى ( الارشاد ، ص 331 ) : " ليس فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة : فإن ما يقدر دليلا على الصدق لا يخلو ، إما أن يكون معتادا ، و إما أن يكون غير معتاد ، فإن كان معتادا ( كالحقيقة فى ذاتها ) يستوى به البر و الفاجر ، فيستحيل كونه دليلا ، و إن كان خارقا للعادة – و تعلق به دعوى النبى – فهو المعجزة بعينها " .

و هكذا فالحجية للمعجزة وحدها فى إثبات صحة النبوة من الله ، " و ليس فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة " .

3 – هل تنقضى دلالة المعجزة بانقضاء زمانها ؟

قال الاستاذ دروزة 2 فى سبيل تفضيل ( اعجاز القرآن ) على معجزات الأنبياء الحسية ، و هو يغمز منها : " و فى هذا ما فيه من وضوح مزية الرسالة المحمدية و ترشحها للخلود و التعميم : و آيات الأنبياء السابقين الخارقة حادثات وقعت و انقضت " . و ردد تلميذهم

1 التمهيد ص 16 .
2 سيرة الرسول 1 : 226 .

الدكتور نظمى لوقا 1 : " و أما المعجزات فلا حجية لها إلا لمن شهدها شهود العيان ، و بيننا و بين تلك أجيال و أجيال " . و هكذا فإن دلالة المعجزة تنقضى بانقضاء زمانها ، على حد قولهم .

أجل ان " آيات الأنبياء السابقين الخارقة حادثات وقعت و انقضت " ، لكن دلالتها البرهانية على صدق نبيها لم تنقض معها . و ها القرآن نفسه يشهد بعد ألفى سنة بدلالة معجزات موسى : " و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، فاسأل بنى اسرائيل إذ جاءهم " ( الاسراء 101 ) . و ما قصص الأنبياء فى القرآن سوى دليل قاطع على أن دلالة المعجزة لا تنقضى بانقضاء زمانها .

إن معجزات الأنبياء قد انقضت كحادثات ، لكنها أدت مهمتها فى زمن النبوة شهادة لها ، و بدونها لم يكن للنبوة من شهادة . و مازالت تؤدى مهمتها إلى الأبد ، فالنبى الذى ثبت بالمعجزة انه يتكلم باسم الله ، سيظل كلامه كلام الله إلى الأبد . فدلالة معجزته تدوم دوام كلامه .

و القرآن شاهد عدل على ان المعجزة دليل النبوة بعد آلاف السنين . فلما نادى محمد بنبوته ، كان تحدى المشركين له على الدوام بمعجزة مثل سائر الأنبياء : " فليأتنا كما أرسل الأولون " ( الأنبياء 5 ) ، " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الأنعام 124 ) . فالقرآن يشهد بأن دلالة المعجزة لا تنقضى بانقضاء زمانها .

4 – هل المعجزة الحسية " دليل عهد الطفولة العقلية " ؟

لقد أوجز السيوطى فى ( الاتقان 2 : 116 ) موقف الأقدمين ، قال : " إن المعجزة أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة . و هى إما حسية و إما عقلية . و أكثر معجزات بنى اسرائيل كانت حسية لبلادتهم و قلة بصيرتهم ، و أكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم و كمال أفهامهم . و لأن هذه الشريعة ، لما كانت باقية على صفحات الدهر الى يمو القيامة ، خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذو البصائر " .

1 محمد الرسالة و الرسول ص 49 .

و هذا ما يردده علماء العصر ، مثل الاستاذ عبد الله السمان 1 : " و لكن الله عز و جل أراد أن يرفع من قدر الرسالة فيجعلها عقلية منطقية تخاطب العقل و المنطق ، و أيدها بكتاب الله ليعيش معها الى أن يرث الله الأرض و من عليها كآية خالدة معجزة " .

و قال السيد الصادق 2 : " و ما كان الله ليمد النوع الأنسانى فى طفولته بما يحفظ به حياته الروحية ، ثم يدعه بعد أخذ سبيله الى النظر العقلى و الاستقلال الفكرى دون أن يقيم له من الأدلة ما يتناسب و الارتقاء الذى انتهى اليه : فكان أن بعث محمدا صلعم و أيده بالمعجزة العلمية و الحجة العقلية ، و هو القرآن الكريم " .

نقول : ان هذا فرض نظريات على تاريخ البشرية ما أنزل الله بها من سلطان . نتساءل : ألم تكن جاهلية الحجاز حين الدعوة القرآنية فى طفولة عقلية بعد دعوة المسيح فى فلسطين بستماية سنة و نيف ، تحت حكم الدولة الرومانية و الثقافة الهلنستية و الكتابية ؟ فحين الدعوة المسيحية كانت فلسطين ملتقى الحضارات و الثقافات ، فقد بلغت " سن الرشد " أكثر مما سيحلم به الحجاز فى الجاهلية ، و مع ذلك فقد كانت المعجزة الحسية دليل النبوة فى الانجيل ، مع مخاطبة العقول و الضمائر .

فليست المعجزة الحسية دليل عهد الطفولة العقلية ، و لم تكن " أكثر معجزات بنى اسرائيل ( فى زمن المسيح ) حسية لبلادتهم و قلة بصيرتهم " ، انما كانت معجزات المسيح برهان النبوة و الشخصية لأنه " ليس فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة " .

و القرآن نفسه شاهد عدل : فأهل مكة ظلوا يطالبون محمدا بمعجزة حسية طول عهد النبوة حتى عجز و أقر بعجزه ( الانعام 35 ) و قرر القرآن أن المعجزة منعت عن محمد منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) . فهل تلك المطالبة بمعجزة كالأنبياء الأولين كانت عند أهل مكة دليل عهد الطفولة العقلية ؟ أم هل كانت جاهلية العرب يوم الدعوة القرآنية فى عهد " النظر العقلى و الاستقلال الفكرى " ، بينما رومة و أثينا و أنطاكية و الاسكندرية كانت كلها فى " عهد الطفولة العقلية " ؟

1 محمد الرسول البشر ، ص 113 .
2 العقائد الاسلامية ، ص 216 .

5 – أصحيح أن " المعجزات لم تصلح من قبل وسيلة لإقناع " ؟

قال الاستاذ عبد الله السمان 1 : " و قد شق محمد لدعوته طريقه الى القلوب و العقول غير مؤيد بالخوارق – التى لم تصلح من قبل وسيلة لإقناع " .

نسجل على الاستاذ تصريحه المتواتر بأن الدعوة القرآنية لم تؤيد بمعجزة . لكن نأخذ عليه و على أمته فلسفة هذا الواقع القرآنى : " إن المعجزات لم تصلح من قبل وسيلة لإقناع " .

و ها الكتاب شاهد على ان الدعوة الموسوية لم تنجح فى مصر ، و لم تنجح مع بنى اسرائيل إلا بفضل المعجزة . و ها الدعوة المسيحسة فإنها لم تنجح و تكتسح العالم ، إلا بفضل المعجزة ، و قيامة المسيح و رفعه حيا الى السماء ، و ذلك معجزة المعجزات .
و القرآن نفسه شاهد عدل على ان الدعوة السماوية تقوم أولا على المعجزة . فإن القصص القرآنى يشغل حيزا كبيرا من القرآن ، و ما يقصه إلا للتمثيل لأهل زمانه المشركين . و كل قصصه يقوم على ذكر الدعوة و المعجزة التى أيدتها ، و يختمه بمثل قوله : " و تلك الأمثال نضربها للناس " ( العنكبوت 43 ، الحشر 21 ) ، " يضرب الله الأمثال " ( الرعد 17 ، ابراهيم 25 ، النور 35 ) ، " و ضربنا لكم الأمثال " ( ابراهيم 45 ) . فجدلية القرآن مع المشركين فى قصصه هى لإقامة الحجة عليهم بدعوة الرسل و معجزاتها .

و القرآن المكى صراع متواصل مع المشركين على تحديهم محمدا بمعجزة كالأنبياء الأولين لكى يؤمنوا به : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، ثم يتهمون النبى بشتى التهم إذ لم يأتهم بآية معجزة : " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الأنبياء 5 ) . و يذهبون الى الأقسام المغلظة أنهم يؤمنون اذا جاءهم محمد بمعجزة : " و أقسموا بالله جهد ايمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ! قل : انما الآيات عند الله ! " ( الانعام 109 ) . إن أهل مكة يجادلون محمدا فى المعجزة وسيلة للإقناع . فالمعجزة دليل النبوة الأوحد فى نظرهم و فى نظر القرآن . لذلك يسجل عجزه عن معجزة ، و امتناعهم عن الايمان : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ، اذ جاءهم الهدى ... إلا ان تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) .

1 محمد الرسول البشر ، ص 89 .

فالمعجزة " سلطان الله المبين " للبرهنة على صحة النبوة مع الأولين و مع الآخرين و مع العالمين .

فما من رسالة من السماء آمن بها الناس إلا عن طريق المعجزة . لذلك هى الشهادة القاطعة فى التوراة و الانجيل و القرآن . إنها الوسيلة الوحيدة لإقناع الناس ، و الواقع القرآنى شاهد عدل .

فالقول بأن الخوارق لم تصلح وسيلة للإقناع ينقض القرآن الصريح و التاريخ الصحيح .

6 – هل سبيل النبوة الصحيح هو الإقناع بالمنطق السليم ؟

قيل : " بعد أن بلغ الناس سن الرشد ، لا يصلح لإقناعهم سوى المنطق السليم " . و قال السيد الصادق 1 : " فلما بدأ النوع الانسانى يدخل فى سن الرشد ، و بدأت الحياة العقلية تأخذ طريقها الى الظهور و النماء ، لم تعد تلك العجائب هى الأدلة الوحيدة على صدق الرسالة " .

نقول : ان مثل هذه الأقوال يتنافى وواقع التاريخ و البشرية . إن دعوة المسيح ، بشهادة الانجيل و القرآن ، قامت على المعجزة ، و كانت بيئة المسيح ملتقى الحضارات و جماع الثقافات ، فخاطبهم بالحكمة و المعجزة . فهل بلغت بيئة القرآن الجاهلية سن الرشد حين نزول القرآن ، أكثر من أهل فلسطين تحت الحكم الرومانى و الثقافة الكتابية و الهلنستية ، حتى يخاطبهم بالحكمة من دون المعجزة ؟ !

و هل بلغت الجماهير فى العالم الاسلامى ، فى عصرنا ، سن الرشد ، حتى لا يصلح لإقناعهم سوى المنطق السليم ؟ إن الناس الذين يقادون أو ينقادون بالمنطق السليم فى البشرية كلها ، هم قلة محدودة فى كل أمة . و ستظل البشرية فى سوادها شعبا لا يفهم الحق بالمنطق السليم ، و لا تؤمن إلا عن طريق المعجزة ، لأنها بالفطرة " سلطان مبين " من الله ، و " سنة " النبيين الى يوم الدين .

و القرآن المكى شاهد عدل على ان سبيل النبوة الصحيح ليس الإقناع بالمنطق السليم . فقد ظل القرآن يخاطب أهل مكة " بالحكمة و الموعظة الحسنة " مدة اثنتى عشرة سنة ، فما

1 العقائد الإسلامية، ص 216.

أقنعهم بالمنطق السليم ، و ظلوا طول العهد المكى يقولون : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، فجاءهم من المدينة " بالحديد الذى فيه بأس شديد و منافع للناس " فرضخوا لسلطانه . فبيئة القرآن نفسها لم تقبل منطق " الحكمة و الموعظة الحسنة " ، بل تحدت محمدا بمنطق المعجزة .

و هل كانت دعوة بالمنطق السليم ، فى المدينة ، الدعوة التى تشرع الجهاد فى سبيل فرض النبوة ؟ و هل كانت دعوة الى العقول و القلوب و الضمائر ، تلك الدعوة التى يشهد كتابها أن " فيه آيات محكمات هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات ... و ما يعلم تأويله إلا الله ، و الراسخون فى العلم يقولون : " آمنا به " ( آل عمران 7 ) أى " آمنا بالمتشابهأنه من عند الله ، و لا نعلم معناه " ( الجلالان ) ؟ فهل هذا هو المنطق السليم ، و سبيل النبوة الصحيح ؟ فهل خطاب الناس " بمتشابه " القرآن – و هو أكثره – جواب على بلوغ البشرية سن الرشد ، و السبيل الصحيح لإقناعها بالمنطق السليم ، " الذى لا يعلم تأويله إلا الله " ؟

إن سبيل النبوة الصحيح هو الحكمة و المعجززة . و لا تقوم حكمة من عند الله بدون معجزة . المعجزة دليل النبوة الأوحد ، ووسيلة الإقناع الوحيدة على صحة النبوة و الحكمة المنزلة " و ليس فى المقدور نصر دليل على صدق النبى غير المعجزة " .

7 – هل " الآية الكبرى هى صدق الكلمة ، و صدق النبى " ؟

يقول الاستاذ نظمى لوقا : " الآية الكبرى هى صدق الكلمة من حيث هى : فإن الحقيقة آية نفسها تحمل برهانا فى مضمونها ، فيطمئن اليها العقل ، و يبدو ما يباينها هزيلا واضح البطلان " . هذا هو مقياس النبوة الأول . و قد رأينا بطلانه . فهو يضع الوحى و التنزيل موضع العقل و المنطق ، و يضفى صفة الوحى على كل حقيقة بشرية .

و مقياس النبوة الثانى فى صدق الرسول . و هو مزدوج : " آية صدقه ما أتانا به " فى مطابقة الوحى للحقيقة ، " و ان أول مقياس يقاس به صدق صاحب الرسالة هو مبلغ إيمانه بها " . هذا منطق غريب يدور فى حلقة مفرغة : الكلمة منزلة لأنها صادقة ، و هى صادقة لأنها منزلة ! النبى صادق لأن نبوته صادقة ، و نبوته صادقة لأن النبى صادق .

و هذا التخريج لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع القرآنى . يقول : " ان اول مقياس يقاس به صدق صاحب الرسالة هو مبلغ ايمانه بها " . فهل استشهاد سقراط فى سبييل فلسفته دليل

على أنها منزلة ؟ و هل استشهاد الحلاج فى سبيل الحلولية المطلقة برهان على أنها الحقيقة ؟ و هل ايمان الفلاسفة و العلماء بنظرياتهم برهان على أنها منزلة من الله ؟

و هذا المقياس ينقضه ايضا الواقع القرآنى : " فإن كنت فى شك مما أنزلنا اليك ، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك : لقد جاءك الحق من ربك ! فلا تكونن من الممترين ! و لا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ، فتكون من الخاسرين " ( يونس 94 – 95 ) . و التحذير الشديد لمحمد برهان على ان الشك من التنزيل قد بلغ فى نفسه مبلغا . و يلاحقه القرآن : " فلا تكونن من الممترين " ( الانعام 114 ، يونس 94 ، البقرة 147 ) ، " فلا تك فى مرية منه ، إنه الحق من ربك " ( هود 17 ) ، " فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء " ( هود 109 ) .

و يدعوه القرآن مرارا الى الاستقامة فى دعوته : " فاستقم كما أمرت و من تاب معك ، و لا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير " ( هو 112 ) ، " فلذلك ( دين ابراهيم و موسى و عيسى ) فادع و استقم ، كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، و قل : آمنت بما أنزل الله من كتاب " ( الشورى 15 ) . نقل الزمخشرى فى تفسير " فاستقم كما أمرت " ( هو 112 ) عن ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلعم فى جميع القرآن آية كانت أشد و لا أشق عليه من هذه الآية ، و لهذا قال : ( شيبنى هود ) ! و عن بعضهم : ما الذى شيبك منها ! قال : " فاستقم كما أمرت " . ثم قال : أفتقر الى الله بصحة العزم " .

و الأزمات الايمانية متواترة فى القرآن 1 . و هى واقع قرآنى لا مرية فيه . فكيف " يكون أول مقياس يقاس به صدق صاحب الرسالة ، هو مبلغ إيمانه بها " ؟

و ان صح هذا المقياس ، فما البرهان على أن النبى – كل نبى – ليس موهوما ؟ ! فما البرهان ان الوحى عنده ليس وحى الفطرة ، بل وحى الله ؟ إن إخضاع صحة الوحى للعامل النفسانى هو أكبر شبهة عليه ، إ لا عصمة إلا الله .

و صعمة الله فى التنزيل لا تقاس على " مبلغ إيمان النبى به " ، و لا " على صدق الكلمة من حيث هى " . فالتنزيل من الله ، لا يؤيده شىء من الانسان ، انما يؤيده شىء من الله نفسه ، و هذا هو المعجزة .

1 راجع كتابنا : القرآن و الكتاب ( القسم الثانى ) ، ص 697 – 705 .

8 – هل القرآن " أسلوب جديد " فى النبوة ؟

قال الاستاذ دروزة يفلسف حكمة الله فى منع المعجزات عن محمد دلائل على صحة نبوته :

" إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته – التى جاءت بأسلوب جديد هو أسلوب لفت النظر إلى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها ... ثم أسلوب مخاطبة العقل و القلب ... ( و هذا الاسلوب الجديد ) جعلها فى غنى عن معجزات خارقة للعادة لا تتصل بها بالذات ... هو أسلوب خالد حى قوى فى كل زمان و مكان ببراهينه و دلائله و حيويته و نفوذه و فصاحته و معقوليته و منطقه و سموه . و لذلك كان و ظل معجزة النبوة الخالدة الكبرى من هذه النواحى " .

أجل إن أسلوب القرآن " حى خالد قوى ... ببراهينه و دلائله و حيويته و نفوذه و فصاحته و معقوليته و منطقه و سموه " . لكن هل هو " أسلوب جديد " ؟ و هل قبل به أهل مكة برهانا على صحة النبوة و الدعوة ؟ نضيف الى ما قلناه سابقا هذه الاعتبارات .

1 ) لم يقبل أهل مكة " بالاسلوب الجديد " فى القرآن معجزة له . يكفينا شهادة الاستاذ دروزة نفسه ( 1 ) : " فوقف الزعماء ازاء هذا الموقف القرآنى من تحديهم ، و أخذوا يطالبون النبى صلعم بالمعجزات و الآيات برهانا على صدق دعواه أولا . ثم أخذوا يدعمون مطالبهم بتحد آخر و هو سنة الأنبياء السابقين الذين جاؤوا بالآيات و المعجزات ... و لقد تكرر طلب الآيات من الجاحدين ، أو بالأحرى زعمائهم ، كثيرا حتى حكى القرآن المكى ذلك عنهم خمسا و عشرين مرة صريحة ، عدا ما حكى عنهم من التحدى الضمنى ، و من التحدى بالإتيان بالعذاب و التساؤل عن موعده . و لا نعدو الحق اذا قلنا إن المستفاد من الآيات القرآنية المكية أن الموقف تجاه هذا التحدى المتكرر كان سلبيا " .

فالواقع القرآنى شاهد عدل على أن هذا " الاسلوب الجديد " فى القرآن لم يكن برهانا على صحة النبوة و الدعوة ، و لا قام عند العرب مقام المعجزة دليلا على صحة النبوة . فلم يكن هذا الاسلوب الجديد " فى غنى عن معجزات خارقة للعادة " .

1 سيرة الرسول 1 : 215 – 226 .

2 ) و هل كان " أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " " أسلوبا جديدا " فى النبوة ؟

ألم يكن " أسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " على صحة التوحيد أسلوب " الكتاب و الحكم ( الحكمة ) و النبوة " الذى أمر محمد أن يقتدى به ( الأنعام 90 ) ؟ أجل لقد كان أسلوب الكتاب و الأنبياء كأشعيا ، و أسلوب الزبور ، و أسلوب الحكمة ، و أسلوب الانجيل . ففى عرف الكتاب كله ، أن الخليقة تدل على خالقها .

نكتفى من الكتاب بقول الحكمة : " إن جميع الذين لا يعرفون الله هم حمقى من طبعهم . لم يقدروا أن يعلموا الكائن من الآيات المنظورة ؟ و لم يتأمولوا المصنوعات حتى يعرفوا صانعها " ( سفر الحكمة : ف 13 كله ) .

و قال الاستاذ العقاد يصف إعجاز الانجيل فى دعوة السيد المسيح 1 : " و ذوق الجمال باد فى شعوره ، كما هو باد فى تعبيره و تفكيره . و التفاته الدائم الى الأزهار و الكروم و الحدائق التى يكثر من التشبيه بها فى أمثاله ، عنوان لما طبع عليه من ذوق الجمال و الاعجاب بمحاسن الطبيعة . و كثيرا ما كان يرتاد المروج و الحدائق بتلاميذه ، و يتخذ من السفينة على البحيرة – بحيرة طبريا – منبرا يخطب منه المستمعين ، على شاطئها المعشوشب ، كأنما يوقع كلامه على هزات السفينة ، و صفقات الموج ، و خفقات النسيم . و لم يؤثر عنه أنه ألف المدينة كما يألف الخلاء الطلق ، حيث يقضى سويعات الضحى و الأصيل ، أو سهرات الربيع ، فى مناجاة العوالم الأبدية ، على قمم الجبال ، و تحت القبة الزرقاء ... و هم يصغون بأسماعهم و قلوبهم الى ذلك المعلم المحبوب الذى كان يناجيهم بالغرائب و الغيبيات مأنوسة حية " .

و الشعر و الحكمة و الصوفية فطرة فى السيد المسيح . فيأخذ من مظاهر الكون ، بالمنطق لفطرى السليم ، براهينه على عناية الله بخلقه : " إنى أقول لكم : لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ! و لا لأجسادكم بما تلبسون ! أليست النفس أعظم من الطعام ، و الجسد أفضل من اللباس ؟ انظروا الى طيور السماء ، فإنها لا تزرع و لا تحصد و لا تجمع الى أهراء ، و أبوكم السماوى يقوتها : أفلستم أنتم أفضل منها بكثير ! ... تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو : إنها لا تتعب و لا تغزل ، و أنا أقول لكم : ان سليمان فى كل مجده لم يلبس كواحدة منها ! فإذا كان

1 حياة المسيح ، ص 170 – 177 .

عشب الحقل الذى يكون اليوم ، و يطرح فى التنور غدا ، يلبسه الله هكذا ، فكم بالأحرى يلبسكم أنتم يا قليلى الايمان ! ... و أبوكم السماوى عالم بأنكم تحتاجون الى هذا كله : فاطلبوا أولا ملكوت الله و بره و هذا كله يزاد لكم " ( متى 6 : 25 – 33 ) . هذا هو منطق الفطرة السليم . و هو الاسلوب المعجز فى لفت النظر الى الكونو آياته . لكن السيد المسيح يقرن الحكمة بالمعجزة لأنهما جناحا التنزيل فى الانجيل .

و بولس ، رسول المسيح ، يسير على خطى معلمه ، فيخاطب أهل روممة ، عاصمة المسكونة ، مستعليا بالحكمة المنزلة على الحكمة الهلنستية الرومانية : " إن ما يعرف عن الله واضح لهم ، فقد أبانه الله لهم : فمنذ خلق العالم ، لا تزال صفاته الخفية ، لا سيما قدرته الأزلية و إلهيته ، ظاهر للبصائر فى مخلوقاته . فلا عذر لهم ، لأنهم عرفوا الله و لم يمجدوه و لم يحمدوه كما ينبغى لله ، بل تاهوا فى آرائهم الباطلة ، فأظلمت قلوبهم الغبية . زعموا أنهم حكماء ، فإذا هم حمقى ، قد استبدلوا بمجد الله الخالد صورا تمثل الانسان الزائل و الحيوان من طير و دابة و زحافات " ( 1 : 19 – 23 ) .

فلم يأت القرآن " بأسلوب جديد " فى النبوة و الدعوة . إنما سار على مثال الكتاب كله ، إمامه فى الهدى و البيان : " و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة ، و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا " ( الاحقاف 12 ، هود 17 ) ، فليس فيه من جديد سوى اللسان العربى ، و ذلك بشهادته الصادقة القاطعة . و هو إنما كان " يعلمهم الكتاب و الحكمة " ( البقرة 129 ، آل عمران 164 ، الجمعة 2 ) اى " التوراة و الانجيل " ( آل عمران 48 ، المائدة 110 ) . و يؤكد : " هذا ذكر من معى و ذكر من قبلى " ( الانبياء 24 ) ، " و انه لذكر لك و لقومك " ( الزخرف 44 ) ، " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات و الزبر " ( النحل 43 – 44 ) . إن " الذكر " القرآنى ينتسب إلى " أهل الذكر " أى أهل الكتاب ، و يستشهد بهم على صحة دعوته . هذا هو أسلوب القرآن ، ى غيره .

لقد جاء الكتاب و الانجيل بهذا " الاسلوب الجديد " ، " أسلوب لفت النظر إلى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها " . لكن الكتاب و الانجيل قرنا الحكمة بالمعجزة . و اقتصر القرآن وحده على الحكمة بدون معجزة .

3 ) فهل اقتصار القرآن على " الأسلوب الجديد " المزعوم هو " معجزة النبوة الكبرى الخالدة " ؟ ز هل يصح هذا " الاسلوب الجديد " برهانا على صحة النبوة و صدق الدعوة ؟

إن أسلوب البرهنة بآيات الخليقة على خالقها هو أسلوب جميع المتكلمين فى التوحيد ، من أهل الكتب السماوية ، و من أهل الفلسفة و الكلام فى كل الأديان . فليس هو مقتصرا على القرآن و حده ، ليكون " معجزة النبوة الكبرى الخالدة " !

و هذا " الاسلوب الجديد " يعنى اقتصار التوحيد المنزل على التوحيد العقلى كأنه ليس فى تنزيل الله من غيبه ما يسمو على الانسان و عقله ! فلو لم يكن عند الله ما هو أسمى من الفطرة و من العقل لما أنزله الله ! فما يقدر عليه العقل بفطرته لا حاجة لنا الى وحى به . هذا هو منطق البوذية و البرهمية : لا نبى سوى العقل !

ثم ان إنزال الوحى منزلة العقل هو جعل العقل حكما على التنزيل . و هذا هو موقف الدهريين فى كل زمان . انه تلبيس الوحى بالمنطق . و قد قالوا : " من تمنطق تزندق " !

و ان قياس الحقيقة المنزلة على الحقيقة البشرية و بميزانها يضطرنا الى اعتبار كل حقيقة عقلية أو علمية منزلة ، و اعتبار كل كتاب بشرى – حتى من ملحد – يعلم الحقيقة منزلا ! إذ لم يبق من سبيل الى التمييز فى الحقيقة بين وحى الله و فيض العقل .

و اعجاز القرآن كدليل على وحى الله به ، " لاجتماع الدليل و المدلول عليه فيه " ، لا يتخطى اللغة العربية ، و للخاصة من أهلها ، و يذوب فى الترجمة الى لغات العالمين ، فتبقى الحقيقة المنزلة للعالمين أجمعين بدون دليل على صحتها و مصدرها . و إرغام العالمين على معرفة العربية ، حتى ذوق الجمال الفنى فى القرآن ، هو تكليف الناس بما لا طاقة لهم به ، و يخالف سنن الله فى خلقه ، " و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " .

النتيجة الحاسمة ان الحقيقة فى كلام الخالق و كلام المخلوق واحدة فى ذاتها : فلا شىء فى ذاتها يدل على مصدرها ، من حيث هى حقيقة . لذلك لا يميز الحقيقة ، من حيث مصدرها ، فى كلام الله ، عنها فى كلام الانسان ، سوى دليل إلهى خارج عنها و هذا الدليل الإلهى ، قرين الحقيقة المنزلة للدلالة على مصدرها و على عصمتها ، هو المعجزة . فلا نبوة بل معجزة .

9 – هل " كل رسول تكون معجزته من جنس ما نبغت فيه أمته " ؟

هى مقالة السيد عفيف عبد الفتاح طبارة فى كتابه ( روح الدين الاسلامى ، ص 30 ) ، تواترت اليه عمن سبقه اليها من أمثاله . فاختار الله معجزة لمحمد الاعجاز البيانى فى القرآن ، لأن " العرب كانت مفطورة على حب البلاغة و الأدب و الشعر و الخطابة " ( ص

27 ) . لقد بحثنا نظرية السيد طبارة . هنا نتوقف على هذه المقالة ، تتميما لفلسفة أهل العصر فى النبوة و المعجزة .

إن كتب الأدب لا تعرف لعرب الجاهلية سوى الشعر الغنائى ، و تجهل عندهم الشعر الملحمى و المسرحى . و لا تذكر لهم من الخطابة ما يستحق الذكر . ناهيك عن سائر الفنون الأدبية . و هذا الواقع لا يقاس أبدا بما كان فى أثينة و رومة و الاسكندرية و أنطاكية . فلم ينبع العرب فى الاعجاز البيانى و البلاغى ، قبل القرآن ، الى بعض ما نبغت فيه تلك العواصم ، فى عهدها الوثنى كما فى عهدها المسيحى .

و هل يقاس الأدب الجاهلى بما فى الكتاب القدسى من تشريع و تاريخ و شعر و خطابة و قصص و ملحمة ، حتى ندعى أن بنى قومنا فى جاهلية الحجاز نبغوا فيه أكثر من بنى عمومتهم ؟

و السيد طبارة يناقض نفسه حتى يزعم للقرآن معجزات علمية لم يكتشفها فيه العرب قبل القرن العشرين : فهل نبغوا فى العلوم الكونية حتى تكون هذه المعجزات العلمية " من جنس ما نبغت فيه أمته " !

وهب أن السيد طبارة يتكلم عن العرب وحدهم و نبوغهم فى فن الكلام : فهل اعجاز بيانى و بلاغى فى خطابهم ، يكون معجزة للعالمين ؟ و سنرى أن القرآن لا يعتبر اعجازه معجزة للعالمين ، و لا للعرب الكتابيين .

10 – هل من " المستحيل أن تخلو سيرة النبة من معجزات تشهد له " ؟

لقد درسنا مقالة الشيخ عبد الكريم الخطيب . نقف هنا عند منطقه من وجود المعجزة شهادة للنبوة . انها قضية مبدإ : محمد نبى ، فلا بد من المعجزات تشهد له ، لذلك فهى قائمة ملموسة . يقول : " إذا كان من الممككن أن يسلم عقلا بأن تخلو سيرة الرسول الى مبعثه من إشارات و دلالات تشير إلى النبوة و تحدث عنها ... اذا كان من الممكن ان يسلم بهذا – و هو ما لا يمكن أن يسلم به أو يقبل بحال أبدا – فإن عدم التسليم بهذا فى الفترة السابقة من حياة النبى قبل مبعثه يرتفع الى درجة المستحيل ان تخلو سيرة النبى خلال فترة النبوة من آيات و معجزات تشهد له بأنه ذلك الانسان الذى اختاره الله و اصطفاه و رفع منزلته على منازل الناس جميعا فى الدنيا و الآخرة " ( النبى محمد ، ص 224 ) .

الاستحالة شهادة ناطقة على ضرورة المعجزة لصحة النبوة . لكن مقالته جامعة للمتناقضات :

تناقض بالنزول من المبدإ الى الواقع : يجب أن يكون لمحمد معجزات ، إذن محمد له معجزات تشهد له ، و هذا خلاف صريح القرآن .

تناقض بالدوران فى حلقة مفرغة : ان محمدا نبى ، لذلك يستحيل ان تخلو سيرته من معجزات . إن أمثال الخطيب يرفضون أن يخضعوا للواقع القرآنى الصريح و موقفه السلبى من كل معجزة تشهد له .

تناقض فى موقفه . إنه من جهة يروى " إشارات و دلالات تشير الى النبوة و تحدث عنها " قبل البعثة ، و يقص معجزات ، خلال فترة النبوة ، تشهد له . و من جهة أخرى يعلن : " أما معجزة النبى الكبرى و آيته الخالدة فهى القرآن الكريم " ( ص 237 ) . و العبرة بمعجزة التحدى ، و ليس لمحمد سوى القرآن كما يصرح الخطيب نفسه : " و نحن نقول : ان معجزة الرسول هى القرآن ، و ليس له معجزة سواها " ( ص 72 ) .

و فى معجزة القرآن يناقض أيضا نفسه : " إن الاعجاز القرآنى يخاطب العقل و يناجى الوجدان . على حين ان الاعجاز فى معجزات الرسل إنما يخاطب الحواس و يصادم ناموس الطبيعة القائم فى الناس ، فيحدث فى الحياة زلزلة عنيفة تنبه الغافلين و توقظ النيام . لهذا كان الاعجاز القرآنى فى حاجة ملزممة الى قوة تظاهره و تجعل له فى الناس قدما ثابتة " ( ص 279 ) . فالاعجاز القرآنى بحاجة الى معجزة ، لكن المعجزة ليست بحاجة الى اعجاز . ان الشيخ يسجل ضعف الحجة عند الناس بالاعجاز القرآنى . لكن هذا السلطان المبين ، المعجزة ، " التى تظاهره و تجعل له فى الناس قدما ثابتة " ، لا وجود لها فى القرآن و السيرة بشهادة الراسخين فى العلم من أهل القرآن . فمبدأ الاستحالة الذى ينادى به الشيخ الخطيب يسقط أمام الواقع .

و هكذا فإن فلسفة علماء العصر ، لتعليل امتناع المعجزة فى القرآن و السيرة ، فلسفة تسىء الى الوحى الإلهى و حرمته و عصمته . فلا نبوة بلا معجزة .

خاتمة

ليس للقرآن و النبى من معجزة حسية

لقد أجمع الراسخون فى العلم من أهل العصر على هذه النتائج الحاسمة :

الأولى : " إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام " .

الثانية : " إن القرآن وحده معجزة محمد " بحرفه ونظمه .

الثالثة : من زعم لمحمد معجزة حسية فى القرآن أو الحديث أو السيرة ، " من المتأكد أنه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح " ، " و ليست هناك معجزة واحدة يؤكدها خبر قطعى مما نسب الى رسول الله " – كما أثبت السيد عبد الله السمان .

و يضيف الاستاذ عبد الله السمان فى كتاب ( محمد الرسول البشر ، ص 113 ) : " و الذين تناولوا سيرة الرسول من المتأخرين جدا ، و بعقلية ناضجة ، إنما كتبوا بأسلوب عال لخاصة الناس ، و لا يبلغ هؤلاء الخاصة إلا بضعة آلاف بين الأربعمائة مليون مسلم . أما الكثرة الساحقة ... التى هى غثاء كغثاء السيل لا يكادون يعرفون عن الرسول إلا أنه ولد ولادة شاذة ، و عاش عيشة شاذة ، و مات ميتة شاذة . و أحاط به فى هذه الأحوال الثلاث مئات الألوف من الأمور الخارقة التى نافست خرافات ( ألف ليلة و ليلة ) .

" و تستطيع أن تضحك ملء فيك ، و أنت تقرأ كتب الدين المقررة على طلبة المدارس الابتدائية و التى تعرض للسيرة ، لأن واضعيها سلكوا مسلك كتاب السيرة فى سرد

الحوادث مشبعة بالأمور الخارقة ، ليصبوا فى اذهان النشء ان محمدا لم يكن مجرد بشر عادى ، بل كان جزءا من الله " .

لقد فاتهم كلمة السد المسيح : " تعرفون الحق ، و الحق يحرركم " ( يوحنا 8 : 32 ) .

و نحن نقول لإصحاب المدرسة الحديثة فى النبوة و المعجزة ، الذين ينكرون ضرورة المعجزة لصحة النبوة إنهم خرجوا على نهج ملة ابراهيم فى التوراة و الانجيل و القرآن ، حيث المعجزة برهام النبوة الذى يميز الحقيقة المنزلة من الحقيقة البشرية . و خرجوا على عقيدة السلف الصالح ، و تبعوا سبيل الفلسفة اليونانية التى ثار عليها ذلك السلف الصالح . و خرجوا على إجماع علماء الكرم كما سجله الجوينى ، تلميذ الباقلانى ، و استاذ الغزالى : " ليس فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة " . و موقفهم متناقض : فهم ينكرون ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، و مع ذلك فهم يجعلون اعجاز القرآن معجزة تدل على صحة النبوة . لكن نسجل عليهم جميعا الشهادة الجماعية بأنه ليس للقرآن و النبى من معجزة حسية ، مثل جميع أنبياء الله .

السابق