التالي

بحث ثالث

تشريع بحسب الحاجة ، ولا ينزل مبتدئا

ميزة التنزيل والتشريع في القرآن أنه نُزّل تنزيلا وفُرّق تفريقا ، من بعض الآية ، حتى خمس آيات أو عشر : "وقال الذين كفروا : لولا أُنزل عليه القرآن جملة واحدة ! – كذلك ، لنثبت به فؤادك ، ورتلناه ترتيلا ؛ ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" (الفرقان 32 – 33) ؛ "وقرآنا فرّقناه لنقرأه على الناس على مكث ، ونزّلناه تنزيلا" (الاسراء 106) . فبحسب نص القرآن القاطع ، ان القرآن نزل مفرّقا " بجواب كلام العباد وأعمالهم " كما قال ابن عباس (1) ، واستشهد بقوله : "ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" . والسر والحكمة في تنزيل القرآن نجوما ، مفرّقا ، ما نقله أيضا السيوطي : " إنما لم ينزل جملة واحدة ، لأن منه الناسخ والمنسوخ ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أُنزِل مفرّقا . ومنه ما هو جواب لسؤال . ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فِعل فُعل . وقد تقدم ذلك في قول ابن

ــــــــــــــــــــــــ

(1) السيوطي : الاتقان 41:1 و43

عباس : نزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم " . فكان التنزيل القرآني والتشريع فيه بحسب الحاجة وظروف الحال .

وهذه هي الظاهرة الكبرى في الشريعة القرآنية . قال محمد صبيح : "أورد كتاب (تاريخ التشريع) : كانت الآيات التشريعية ، وهي آيات الأحكام ، تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغالب جوابا لحوادث في المجتمع الاسلامي . وتعرف هذه الحوادث ( بأسباب النزول ) . وقد اعتنى بها جماعة من المفسرين وألفوا فيها كتبا وجعلوها أساسا لفهم القرآن . وأحيانا كانت تنزل الآيات جوابا على أسئلة يسألها بعض المؤمنين . وقليلا ما كانت تنزل الأحكام مبتدئة ... فقلّما ترى حكما لم يذكر له المفسرون حادثا أُنزل الحكم مرتّبا عليه" (1) . فميزة التشريع القرآني الذاتية مزدوجة : انه تشريع المناسبة الطارئة ؛ وقليلا ما كان ينزل مبتدئا . والنتيجة الحاسمة لتلك الميزة هي أيضا مزدوجة : تشريع يأتي بحسب الحاجة الطارئة وظروف الحال العابرة ، لا يكون من الاعجاز في التشريع الذي يتحدّى كل تشريع ، حتى يصح أن يكون معجزة . والأصل في التشريع المنزل أو الوضعي أن يأتي مبتدئا ، يوضع وتسير الدعوة والسيرة على هداه . فالشريعة نور وهدى في النبوة والرسالة تسيران على ضوئهما ، لا تتسكعان وراءَهما . وما يرفع الاعجاز عن التشريع القرآني قوله : "ولا يأتونك بمثل ، إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" (الفرقان 33) ؛ كأن جبريل والكفار في سباق على أفضل مثل وأحسن تفسير . فالتشريع المعجز الذي يصح التحدّي به هو الذي ينزل مبتدئا ، وتجري السيرة والنبوة على هداه ، لا الذي يأتي طارئا بحسب الحاجة وضرورة الحال . فالتشريع التوراتي نزل مبتدئا على موسى في سيناء ، في الكلمات العشر ، وسارت الرسالة على هداه . والتشريع الانجيلي وضع السيد المسيح دستوره في خطبته التأسيسيّة على الجبل (متى 5 – 7) ، وسارت الدعوة على هداه ، وعلى نوره يقضي السيد المسيح في المسائل والمشاكل الطارئة . وتشريع لا ينزل مبتدئا ، بل بحسب الحاجة وظروف الحال ، هل هو من الاعجاز في التشريع !

ــــــــــــــــــــــــ

(1) عن القرآن

التالي