نقد الخطاب الديني

 اليقين الذهني والحسم الفكري
 
سبق وأن أشرنا إلى التلاحم العضوي بين هذه الآلية وآلية "التوحيد بين الفكر والدين" الأمر الذي نأمل أن تجليه هذه الفقرة ولا شك أن هذا التلاحم العضوي بين
هاتين الآليتين في الخطاب الديني المعاصر هو الذي يقود أصحابه إلى المسارعة بتجهيل الخصوم أحياناً وتكفيرهم أحياناً أخرى ، إن هذا الخطاب لا يتحمل أي خلاف
جذري وأن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية وكيف يحتمل الخلاف الجذري وهو يزعم  امتلاكه للحقيقة الشاملة المطلقة .؟ أن ظاهرة "الجماعات الإسلامية" مثلاً لا  يصح أن يسمح بمناقشتها أو بالكتابة عنها إلا للعلماء "أهل العلم بالإسلام" ذلك " أن أقلاماً كثيرة : جاهلة أو حاقدة أو مأجورة خاضت في الموضوع بغير علم ولا
هدى ولا كتاب منير فكان على أقلام أهل العلم بالإسلام أن تبين ولا تكتم فتأتي البيت من بابه وتضع الحق في نصابه وفي محاولة لتقديم تعريف لما هو "التطرف" وهو  ظاهرة معقدة تحتاج لتعاون مجموعة من المتخصصين في مجالات مختلفة – يصر الخطاب  الديني أنه جهة الاختصاص الوحيدة ، فلا قيمة لأي بيان أو حكم ما لم يكن مستنداً  إلى المفاهيم الإسلامية الأصيلة وإلى النصوص والقواعد الشرعية ، لا إلى الآراء  المجردة وقول فلان وعلان من الناس فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله وبناء  على هذه الأصول – التي يستند فيها الكاتب بالطبع إلى آراء فلان وعلان من  القدماء – يخرج من إطار "التطرف" الآراء المتشددة التي يتبناها الشباب في مجال  "الغناء والموسيقى والرسم والتصوير وغيرها" مما يخالف اجتهادي شخصياً في هذه  الأمور واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين ولكنه يتفق مع العديد من علماء  المسلمين متقدمين ومتأخرين ومعاصرين والواقع أن كثيراً مما ينكر على من نسميهم  المتطرفين مما قد يعتبر من التشدد والتنطع له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا ،  تبناه بعض المعاصرين ودافعوا عنه ودعوا إليه ويدخل في هذا الكثير "المؤصل" في  التراث التزام المرآة بالحجاب والنقاب وإطلاق اللحية للرجال وليس الجلباب بدل  القميص والبنطلون وتقصيره إلى ما فوق الكعبين والامتناع عن مصافحة النساء  وغيرها .
وهكذا فالحطاب الديني حين يزعم امتلاكه وحده للحقيقة لا يقبل من الخلاف في  الرأي إلا ما كان في الجزئيات والتفاصيل وهنا يبدو تسامحه واتساع صدره واضحاً
ومثيراً للإعجاب يتسع للتشدد والتنطع بل وللتطرف ولكن الخلاف إذا تجاوز السطح  إلى الأعماق والجذور احتمى الخطاب الديني بدعوى الحقيقة المطلقة التي يمثلها
ولجأ إلى لغة أنه يفصل بين الاعتدال والتطرف .
وإذا كان البعض يرى أن وصف الآخرين بالكفر حتى لو كانوا يختلفون في عقائدهم  ومنطلقاتهم الفكرية معنا تطرف وتعصب بل ومسلك غير متحضر فإن الخطاب الديني يرى  أن هذا المسلك من أس الإيمان الديني " ورأينا من يرى أن اعتبار الآخرين من غير  المؤمنين بدينه كفاراً تعصباً وتطرفاً مع أن أساس الإيمان الديني أن يعتقد  المؤمن أنه على حق وان مخالفة على باطل ولا مجاملة في هذه الحقيقة " .
يقوم الخطـاب الديني مثلاً بافتراض أن الإسلام قد تم عزله وإقصائه عن حركة  الواقع ، تم يقوم – انطلاقا من هذه الفرضية التي يحاولها إلى حقيقة لا تحتمل
الشك – بتفسير كل مشكلات الواقع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية  والأخلاقية ويرى في العودة إلى الإسلام والاحتكام إلى الشريعة حلاً لكل تلك
المشكلات هكذا تبدو هذه القضية بديهية في الخطاب الديني الذي لا ينشغل بطرح أي  تساؤل عن لماذا وكيف ومتى تم إقصاء الإسلام عن واقع المجتمعات الإسلامية أو  التي كانت كذلك مع أنها تساؤلات جوهرية تمثل لب المشكل ودون مواجهة هذه  التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها بطريقة علمية سيظل افتراض إقصاء الإسلام عن  حركة الواقع أمراً قدرياً يستعصي على الفهم والتحليل ولا يقبل التفسير والواقع  أن الأمر يبدو كذلك في الخطاب الديني أي يبدو هذا الانفصام المفترض بين الإسلام  والوقع حدثاً قدرياً ولعل هذا يفسر عجز الخطاب الديني عن تقديم حلول تفصيلية  لمشكلات الواقع اكتفاء برفع شعار "الإسلام هو الحل" ويتم طرح المشكل باختصار  وتبسيط شديدين " كأن بيدنا سلاح استخدمناه مرة للانتصار ثم ألقيناه فمضينا على  طريق الهزيمة والاندثار … … … وعندما يطلق سراح القرآن ، سوف يطلق سراح هذه  الأمة " .
هكذا ينتقل الخطاب الديني من الافتراض إلى توصيف الواقع إلى اقتراح الحل في ثقة  ويقين وحسم قاطع ، وكأنه يطرح أولويات أو بديهات الخلاف حولها "كفر" أو جهل في  أحسن الأحول وإذا كان ذلك التحليل المبسط للواقع يعكس رؤية عاجزة عن فهمه  وإدراكه فإنه يؤدي – من جانب آخر – إلى التستر على حقيقة أوضاعه ومشكلاته وذلك  بإرجاعها جميعاً إلى عامل واحد ويعتمد الخطاب الديني بالطبع في تحليله ذاك على  بعض النصوص الدينية المؤولة تأويلاً خاصاً مثل " لا يصلح آخر أمر هذه الأمة إلا  بما صلح به أمر أولها " ويظن الاستناد إلى النصوص وحدها فيه الكفاية أن هذا  الدين " صنع الأمة المسلمة أول مره وبه يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها  أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة " وليس من الضروري  أن يحدد الخطاب الديني – بنفس الحسم واليقين والقطع – توقيت ذاك الانفصام الذي  وقع بين الواقع والدين ولا أن يرصد علله وأسبابه وإذا كان البعض يعود بهذا  الفصام إلى فترة الصراع الذي وقع بين المسلمين في منتصف القرن الأول أو قبله  بقليل فإن البعض الآخر يرد ذلك إلى الضعف العام الذي أصاب البناء السياسي  للإمبراطورية الإسلامية وانتهى بالقضاء على وحدتها والقضاء على وحدتها والقضاء  على الخلافة ذاتها ورغم استمرار الخلافة استمرار شكلياً تحت سيطرة حكم المماليك  في مصر ثم انتقالها بعد ذلك – أو بالأحرى نقلها عنوة – وبعد سيطرة الأتراك على  مصر إلى تركيا ذاتها فإن الخطاب الديني يعتبر أن ما قام به كمال اتاتورك من  إلغاء لنظام الخلافة الشكلي كان بمثابة طرد للإسلام وقضاء على دولته .
وإذا كانت نقطة البداية – على أهميتها – غامضة فإن البحث على العلل والأسباب  يتسم أيضاً بقدر هائل من الغموض ويؤدي ذلك كله إلى تعميمات خطابية تتسم بالحسم  واليقين والقطع ومن الطبيعي أن يقود ذلك إلى الخلط بين الأسباب والنتائج وعلى  ذلك يتم تحميل حركة المد الاستعماري الأوربي مسؤولية تخلف العالم الإسلامي ،  تجاهلاً لحقيقة أن تخلف العالم الإسلامي كان أمراً واقعاً سهل لحركة الاستعمار  مهمتها في تعميق هذا التخلف وفي محاولة تأبيده وإذا كانت مناهضة كل أشكال  الاستعمار بكل الوسائل والأساليب الممكنة أمراً لا خلاف عليه ، فان تحميل أوروبا وحدها كل المسؤولية يؤدي في الخطاب الديني إلى تحويلها إلى شيطان يتحتم مناهضة كل ما يصدر عنه لكن الخطاب الديني – والحق يقال – يفصل بين المنجزات المادية والمنجزات الفكرية والثقافية في الحضارة الأوربية فيتسامح مع أخذ الجانب الأول بل يدعو إليه ويحبذا ويحرم الأخذ من الجانب الثاني واصفاً إياه بالجاهلية والكفر إن اتجاهات الفلسفة بجملتها واتجاهات على النفس بجملتها – عدا
الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة له – ومباحث الأخلاق بجملتها ، واتجاهات التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها – فيما عدا المشاهدات
والمعلومات المباشرة ، لا النتائج العامة المستخلصة منها ولا التوجيهات الكلية الناشئة عنها – إن هذا الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي – أي غير الإسلامي –
قديماً وحديثاً متأثرة تأثراً مباشراً بتصورات اعتقادات الجاهلية وقائمة على هذه التصورات ومعظمها – إن لم يكن كلها – يتضمن في أصوله المنهجية عداء ظاهراً
أو خفياً للتصور الديني جملة وللتصور الإسلامي على وجه خاص إن حكاية أن الثقافة تراث أنساني لا وطن له ولا جنس ولا دين هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية ، دون أن تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية الميتافيزيقية لنتائج هذه العلوم ، ولا التفسيرات الفلسفية للإنسان نفسه ونشاطه وتاريخه ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعرية جميعاً ، ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهودية العالمية " .
وهكذا يكون على المسلم المعاصر أن يحيا بجسده في الحاضر معتمداً في تحقيق مطالبة المادية على أوروبا وأن يحيا بروحه وعقله وعاطفته في الماضي مستنداً إلى
تراثه الديني ويتم تكريس هذا الوضع المتردي لواقع المجتمعات الإسلامية باسم الإسلام ذاته وذلك أن الخطاب الديني لا يطرح أفكاره تلك بوصفها اجتهادات وإنما
يجزم أن أطروحته هي الإسلام "إن الإسلام يتسامح في أن يلتقي المسلم عن غير المسلم ، أو عن غير التقى من المسلمين في علم الكيمياء البحتة أو الطبيعة أو
الفلك أو الطب أو الصناعة أو الزراعة أو العمال إدارية والكتابية وأمثالها ..
ولكنة لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته ولا مقدمات تصوره ولا تفسير قرأنه وحديثه وسيرة نبيه ، ولا منهج وتفسير نشاطه ، ولا مذهب مجتمعه ، ولا نظام حكمه ولا منهج سياسته ، ولا موجبات فئة وأدبه وتعبيره … الخ من مصادر غير إسلامية ، ولا أن يلتقي من غير مسلم يثق في دينه وتقواه في شيء من هذا كله " وإذا كان كل ما هو مادي لا جنس له ولا وطن ، فإن كل ما سوى ذلك يدخل مباشرة في مجـال العقــائد والتصورات التي يجب أن تؤخذ عن الله " هذا هو الإسلام … هذا هو وحده " وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به : فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه .. هذه كتلك سواء بسوء لأن هذه تلك على وجه اليقين ولا غرابة بعد هذا كله أن نجد هذه الأطروحات كلها في خطاب الشباب مطروحة بنفس الدرجة من اليقين والحسم والقطع وهذا واضح في البيان الذي أصدرته حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة يهمنا منه هنا هذه الفقرة الخاصة بالدولة القومية وكيف أدخلها الاستعمار الأوروبي إلى العالم الإسلامي بعد أن خلق لنفسه أعواناً من أبناء العالم الإسلامي ذاته .
يقول البيان محملا جرم الدولة القومية على عاتق أوروبا وخالطاً بين الأسباب والنتائج في تحليل الواقع : "إن انحدار القوة المدنية العسكرية وجمود الفكر في
العالم الإسلامي الذي بدأ بعد القرن السابع عشر الميلادي ، وإن كان يعود لأسباب كثيرة تراكمت منذ القرون الهجرية الأولى ، هذا الانحدار قابلته الحيوية
المتصاعدة لأوروبا ، ثم تبلور المشروع الاستعمار الغربي ، وفي حين اخترق الاستعمار معظم أنحاء العالم بسهولة نسبية إلا أن الجدار الإسلامي رغم تراكم
الضعف كان لا يزال صلباً قوياً قادراً على المقاومة لأكثر من قرنين كاملين ، ومع تزايد الخلل في ميزان القوى كان لهذا الجدار أن ينهار ، إلا أن انهياره لم
يتم إلا عبر عملية غاية في التعقيد والشمول ، لقد نجح المشروع الاستعماري أولاً في استلاب قطاع واسع من نخبة العالم الإسلامي لصالح رجعيته الثقافية ، ثم نجح
ثانياً في تمزيق العالم الإسلامي بالقوة ، قوة السلاح والجند والاحتلال الدموي ، من معارك ساحل عمان إلى ليبيا ومصر وإلى الحرب الأولى ، ثم نجح ثالثاً في
زراعة دولة الكيان الصهيوني في قلب العرب والإسلام كضمان لديمومة التجزئة والتبعية والإلحاق والهيمنة " ، تبدو الحركة القومية في هذا الخطاب مؤامرة
أوربية لتمزيق وحدة العالم الإسلامي وهذه مقمة – تطرح بوصفها بديهية – لرفض إعلان الدولة الفلسطينية الذي صدر مؤخراً عن المجلس الوطني الفلسطيني . وهذه المقدمة البديهية تنبى في الخطاب الديني العام على أساس أن القومية مقولة علمانية تناقض العقيدة والدين ، وأن أواصر " الجنس والأرض واللون واللغة
والمصالح المشتركة " عوائق حيوانية سخيفة ، وأن الحضارة الإسلامية لم تكن يوماً ما " عربية إنما كانت دائما إسلامية ، ولم تكن يوماً قومية إنما كانت عقيدية "
وبمثل هذا التحليل وبنفس لهجة اليقين والحسم والقطع يفسر الخطاب الديني الواقع الدولي الراهن ويرد مشكلات البشرية إلى مخالفة الفطرة والابتعاد عن منهج الله " لم يكن بد وقد شرد الإنسان عن ربه ومنهجه وهداه … لم يكن بد وقد رفض الإنسان تكريم ربه له ، فاعتبره نفسه حيواناً … وجعل نفسه آله … بل جعل الآلة إلهاً  يحكم فيه بما يريد … وجعل الاقتصاد إلها يحكم بما يريد … لم يكن بد وقد جعل الإنسان من المرآة حيواناً لطيفاً – كما أن الرجل حيوان خشن – غاية الالتقاء
بينهما اللذة وغاية الاتصال بينهما المتاع … لم يكن بد وقد عطل الإنسان خصائصه الإنسانية ليحصر طاقته في الإنتاج المادي … لم يكن بد وقد أقام الإنسان نظامه
على الربا … وفي النهاية لم يكن بد وقد اتخذ الإنسان له آلهة من دون الله فاتخذ من المال إلهاً ومن المشرعين إلهاً ومن المادة إلهاً ومن الإنتاج إلهاً ومن
الأرض إلهاً ومن الجنس إلهاً ومن الهوى إلهاً ومن المشرعين إلهاً يغتصبون اختصاص الله في التشريع والعبادة فيغتصبون بذلك حق الألوهية على عباد الله … لم
يكن بد وقد فعل الإنسان هذا كله بنفسه أن تحل به عقوبة الفطرة وأن يؤدي ضريبة المخالفة عن ندائها العميق ، وأن يؤديها فادحة قاصمة مدمرة وقد كان - … … … - وكتب على البشرية كلها أن تؤدي الضريبة فادحة صارمة ثقيلة : حروباً رهيبة ضحاياها بالملايين قتلى وجرحى ومشوهون ومعتوهون ومعذبون وأزمات تلو أزمات "
بمثل هذا الحسم واليقين والقطع تطرح المشكلات وتقترح الحلول ولا مجال بعد ذلك للخلاف إلا إذا كان في الجزئيات والتفاصيل والأخطر من ذلك أن يتم تقديم هذا كله
على أنه الإسلام الحقيقي .
 

 الصفحة الرئيسية