نقد الخطاب الديني

 ثانيا : المنطلقات الفكرية :
الحاكمية :
كانت دعوة الإسلام في جورها دعوة لتأسيس العقل في مجال الفكر، والعدل في مجال
السلوك الاجتماعي، وذلك بوصفهما نقيضين للجهل والظلم، وهما ركيزتا الواقع في
المجتمع العربي الذي خاطبه الوحي أولا، كما سبقت الإشارة، وقد ظل الخطاب الديني
في تاريخ الثقافة الإسلامية بتيارات واتجاهاته المختلفة حريصا على نفي أي تعارض
يمكن أن ينشأ بحكم حركة الواقع المستمر وثبات النصوص بين الوحي والعقل، واتفق
الجميع تقريبا على أن النقل أنا يثبت بالعقل، والعكس ليس صحيحا، العقل هو
الأساس في تقبل الوحي، ثم كان الخلاف فيما بعد ذلك. هل يستقبل العقل بعد أن قام
بدوره في إثبات النقل، أم يظل يمارس فاعليته في فهم النصوص وتأويلها، لكن هذا
الخلاف ظل خلافا نظريا واستمر الخطاب الديني يحرص على إثبات "موافقة صريح
المعقول لصحيح المنقول" كما عنون ابن تيمية أحد كتبه الهامة، وهو الفقيه السني
الأصولي المحافظ، وقد ساهم علماء أصول الدين والفقه في تأسيس مجموعة من المبادئ
المهمة، كالقياس ومراعاة المقاصد والمصالح المرسلة، في مجال فعالية العقل
الإنساني في فهم النصوص وتأويلها، وظلت الثقافة العربية الإسلامية حية نشطة
طالما ظل تأسيس العقل شاغلها الأساسي، وطالما ظلت قائمة على "التعددية" و "حرية
الفكر" وهو ما لم يستمر طويلا بحكم عوامل اجتماعية سياسية سنشير إلى بعضها في
سياق تحليلنا.
وتعود أولى محلولات إلغاء العقل لحساب النص إلى حادثة رفع المصاحف على أسنة
السيوف، والدعاء إلى "تحكيم كتاب الله" من جانب الأمويين في موقعة "صفين" ولا
خلاف على أنها كانت "حيلة" أيدلوجية استطاعت أن تخترق باسم النص صفوف قوات
الخصوم وان توقع بينهم خلافا أنهى الصراع لصالح الأمويين، أن حيلة التحكيم تكشف
عن محتواها الأيدلوجي حين ندرك أنها نقلت الصراع من مجاله الخاص السياسي
الاجتماعي إلى مجال آخر هو مجال الدين والنصوص، وقد أدرك الأمام على ذلك وكان
قوله لرجاله: "عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم، فان معاوية وعمرو
بن العاص (وذكر أسماء أخرى) ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا اعرف بهم منكم، قد
صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر الرجال، ويحكم انهم ما
رفعوها… لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة . وحين يتحول الصراع الاجتماعي السياسي من
مجال الواقع إلى مجال النصوص، يتحول العقل إلى تابع للنص وتتحدد كل مهمته في
استثمار النص لتبرير الواقع أيدلوجيا، وينتهي ذلك إلى تأييد هذا الواقع من جانب
مفكري السلطة المعارضة على السواء، طالما تحول الصراع إلى جدل ديني حول تأويل
النصوص، وبالإضافة إلى ذلك يؤدي تحكيم النصوص، في مجال الصراع الاجتماعي
والسياسي إلى "الشمولية" في فعالية النصوص، حتى وصلت إلى حد الهيمنة في الخطاب
الديني المتأخرة، كما يبدو في مبدأ "الحاكمية" في الخطاب الديني المعاصر.
وإذا كان مبدأ تحكيم النصوص يؤدي إلى القضاء على استقلال العقل بتحويله إلى
تابع يقتات بالنصوص يولد بها ويحتمي، فان هذا ما حدث في تاريخ الثقافة العربية
الإسلامية، بشكل تدريجي حتى تم القضاء على الاعتزال بعد عصر المأمون وتم بالمصل
حصار العقل الفلسفي في دوائر ضيقة، ثم جاء أبو حامد الغزالي ووجه للعقل الضربة
القاضية وليس من الغربي أن يكون العصر الذي شهد خطاب الغزالي وأنصت إليه هو عصر
الانهيار السياسي والتفكك الاجتماعي وسيطرة "العسكر" على شئون الدولة، وهو
العصر الذي انتهى بسقوط بغداد والقضاء على الشكل الرمزي الأخير للدولة
الإسلامية .
كانت ضربة الغزالي للعقل، كما سبقت الإشارة، من زاوية تفكيكي العلاقة بين
الأسباب والنتائج، أو بين العلل ومعلولاتها، وانتهى الأمر إلى حد استعداء
السلاطين من جانب الفقهاء، بعد حوالي قرن من وفاة الغزالي على كل من يتعاطى
الفلسفة تعلما أو تعليما، لان الفلسفة "أسس السفه والانحلال" مادة الحيرة
والضلال ومثار الزيغ والزندقة ، ومن تفلسف عميت عينه من محاسن الشريعة المطهرة
المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وعالما قارنه
الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان….. فالواجب على السلطان أن يدفع عن
المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم عن المدارس ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال
بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام لتخمد
نارهم، وتمحي آثارها وآثارهم". وهكذا ينتهي الخطاب السلفي إلى التعارض مع
الإسلام حين يتعارض مع أهم أساسياته "العقل" ويتصور انه بذلك يؤسس "النقل"
والواقع انه ينفيه بنفي أساسه المعرفي. أن العودة إلى الإسلام لا تتم إلا
بإعادة تأسيس العقل في الفكر والثقافة، وذلك على خلاف ما يدعو إليه الخطاب
الديني المعاصر من تحكيم النصوص، مرددا أصداء نداء أسلافه الأمويين الذي أدى
إلى نتائجه المنطقية في الواقع الإسلامي.
وإذا كانت النهضة الأوروبية الحديثة قامت على أساس تحرير العقل من سلطة
الاحتكام إلى النصوص التي تحتكر الكنيسة تأويلها وفهمها، فقد كان من الطبيعي إن
تجد في عقلانية الثقافة الإسلامية، وهي العقلانية التي حوصرت حتى تم القضاء
عليها، سندا لتوجهاتها، ولعل هذا يفسر لنا أن مفهوم "الجاهلية" في الخطاب
الديني المعاصر يمتد ليشمل كل اتجاهات التفكير العقلي في الثقافة العربية
الإسلامية أو في ثقافة أوروبا على السواء، وقد مر بنا كثير من الاستشهادات التي
تهاجم الشيطان الأوروبي، وترى في كل نتاج الفكر الإسلامي بعد عصر الوحي " النبع
الصافي" انحرافا عن الإسلام، وإذا كان أبو الأعلى المودود، أحد مصادر قطب
الهامة، يجمع "الجاهلية" في ثلاثة اتجاهات : هي الإلحاد، والشرك، أو الوثنية
بكافة أشكالها القديمة، والنزعة الصوفية العرفانية، فانه يرى أن هذه الاتجاهات
الثلاثة قد تسللت إلى الواقع الإسلامي، متسترة بعباءة الإسلام بعد عصر الخلفاء
الراشدين مباشرة، وبدأت تبث سمومها في ثقافته، وانتهى الأمر فيها يرى المودودي
" إلى تدفق خليط من الفلسفة والأدب والعلوم من اليونان والإيرانيين والهنود في
التربة الإسلامية وبذلك بدا الخلاف النظري بين المسلمين، بدأت عقائد المعتزلة
والنزعات الشكية والإلحادية، وقبل ذلك أو على رأسه بدأ الاتجاه إلى الفرقة
والخلاف في مجال العقائد، وأدى إلى وجود فرق واتجاهات جديدة وبالإضافة إلى ذلك
وجدت فنون الرقص والموسيقى والرسم، وهي فنون غير إسلامية، تشجيعا من أولئك
الذين كان محرما عليهم أن يقترفوا هذه الفنون (القبيحة).
هذا الهجوم على التفكير العقلي ورفض الخلاف والتعددية، قديما وحديثاً، يمثل
أساسا من الأسس التي يقوم عليها مفهوم "الحاكمية"، والأساس الثاني والأخطر، هو
وضع "الإنسان" مقابل "الإلهي" والمقارنة الدائمة بين المنهج الإلهي ومناهج
البشر ومن الطبيعي أن تؤدي المقارنة إلى عدمية الجهود الإنسانية: " أن تجارب
البشر كلها تدور في حلقة مفرغة وداخل هذه الحلقة لا تتعداها، حلقة التصور
البشري والتجربة البشرية والخبرة البشرية المشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى،
في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجربة أصلية، تقوم
على قاعدة مختلفة كل الخلاف، قاعدة المنهج الرباني الصادر من علم (بدل الجهل)،
وكمال (بدل النقص)، وقدرة (بدل الضعف)، وحكمة (بدل الهوى)….. القائم على أساس:
إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه، ومثل هذا الفصل
الكامل بين الإلهي والإنساني يتجاهل حقيقة هامة ثابتة في طبيعة الوحي الإلهي
ذاته بوصفه "تنزيلا" أي بوصفه حلقة وصل وخطابا يتواصل به الإلهي والإنساني،
وبعبارة أخرى، إذا كان الخطاب الإلهي، المتضمن لمنهجه، يتوسل بلغة الإنساني
"تنزيلا" مع كل علمه وكماله وقدرته وحكمته، فان العقل الإنساني يتواصل مع
الخطاب الإلهي "تأويلا" بكل جهله ونقصه وضعفه وأهوائه، لكن الخطاب الديني
يتجاهل هذه الحقيقة الكبرى، ويمضي، مقتفيا خطا سلفه الاشعري، ومكرسا أيدلوجية
مشابهة، في نفي الإنسان وتغريبه في الواقع، مفسحا المجال لتحكم سلطوي من طراز
خاص.
ولكي تتعمق الهوة بين الإلهي والإنساني يتم إعادة صياغة المفاهيم الدينية
بإعادة تأويلها لتصب في أيدلوجية " الحاكمية" خاصة مفاهيم "العبادة" و "الإله"
و "الرب" و "الدين" وهي المفاهيم التي افرد لها المودودي رسالة مستقلة، طبعت
طبعات عديدة في عديد من البلاد الإسلامية، كما أنها تعد بمثابة "مانيفستو"
بالنسبة لكثير من الجماعات الإسلامية ويكاد قطب أن يكون شارحا لأفكار المودودي
ومفسرا لها، ويكفينا هنا الوقوف عند شرحه لمفهوم "الألوهية" بوصفه المفهوم
المركزي الذي تتمحور عليه المفاهيم الثلاثة الأخرى، يعتبر قطب أن أهم خصائص
الألوهية، بل أولى هذه الخصائص، " الحاكمية" أو "حق الحاكمية المطلقة، الذي
ينشأ عنه حق التشريع للعباد، وحق وضع المناهج لحياتهم، وحق وضع القيم التي تقوم
عليها هذه الحياة… وكل من ادعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس فقد
ادعى حق الألوهية عليهم، بادعائه اكبر خصائص الألوهية، وكل من أقره منهم على
هذه الادعاء فقد اتخذه آلها من دون الله، بالاعتراف له بأكبر خصائص الألوهية"
والمنهج الإسلامي على ذلك هو المنهج الذي "يقوم على أفراد الله وحده بالألوهية،
متمثلة في الحاكمية، وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية، وعدم الخضوع
للحاكمية بوصفها اكبر خصائص الألوهية يعني التمرد على عبودية الإنسان لله،
ولكنه تمرد يفضي به إلى الوقوع في عبودية البشر، وهي العبودية الكبرى في نظر
الإسلام فيما يرى قطب، موحدا بذلك بين تأويله، وتأويل المودودي، وبين الإسلام،
أن الإسلام جاء في نظر الخطاب الديني ليحرر الإنسان، لكن فهم هذا الخطاب للتحرر
الذي جاء به الإسلام يتم اختزاله في نقل مجال الحاكمية من العقل البشري إلى
الوحي الإلهي : " أن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة
على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على
كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير مرادف:
الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى
البشر ومصدر السلطات فيه هم البشر هو تاليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أربابا من
دون الله".
وإذا كان المنهج يرتد في النهاية إلى فهم البشر للوحي وتأويلهم له كما سبقت
الإشارة مرار، فان مفهوم الخطاب الديني للتحرر الذي جاء به الإسلام للإنسان
يتبدد كاشفا عن الغطاء الأيدلوجي لمفهوم الحاكمية، بكل ما يحايثه من إلغاء
لفاعلية العقل وتسليم الإنسان، مقيدا إلى تحكم سلطوي من نمط خاص، لقد جاء
الإسلام بعقيدة التوحيد تحريرا للعقل البشري من سلطة الأوهام والأساطير،
وتأسيسا لحريته في ممارسة فعاليته في الفكر والواقع الطبيعي والاجتماعي على
السواء، هذا بالإضافة إلى مخاطبة هذه العقيدة، التوحيد، للواقع الاجتماعي
ومساهمتها في إعادة صياغة العلاقات بين قبائله المتصارعة، وتأسيس علاقات جديدة
جوهرها العدل والمساواة، لكن الخطاب الديني يختزل هذه الحقيقة، ويؤول منطوقها.
ويسند هذا التأويل المختزل إلى العربي المعاصر للوحي: "لا اله إلا الله كما
يدركها العربي العارف بمدلول لغته لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله لا
سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله" أن هذا التوحيد بين الألوهية
والحاكمية الشاملة المطلقة في كل شئون الواقع والحياة ينتهي إلى اختزال الإنسان
في بعد "العبودية" ويعتقد الخطاب الديني أن التأكيد على هذا البعد وحدة في
مسألة علاقة الإنسان بالله هو قمة التحرر التي يمنحها الإسلام للإنسان،
والحقيقة أن التركيز على هذا البعد، له مردودة الخطير على مستوى علاقات الأفراد
في المؤسسات الاجتماعية المختلفة من جهة وفي علاقتهم بممثلي السلطة آية سلطة
على أي مستوى من جهة أخرى ويعتمد الخطاب الديني في تكريسه لعبودية الإنسان على
سلطة النصوص الدينية الكثيرة بالطبع دون أدراك أن للنصوص جميعا، ومنها الدينية
تاريخيتها التي لا تتناقض مع الأيمان بمصدرها الإلهي فالوحي، كما سبقت الإشارة
واقعة تاريخية لا مجال لانتزاع لغته من سياق بعدها الاجتماعي ولأننا سنناقش في
الفقرة التالية ، بتفصيل كاف، معضلة النص في الخطاب الديني فعلينا أن نمضي في
هذه الفقرة في تحليل ما يرتبط بمفهوم الحاكمية، ولم يبق أمامنا إلا البحث عن
الأسباب الحقيقية لسيطرته على الخطاب الديني بدءا من فترة الستينات من جهة
والكشف عن مردودة في الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي الفكري من جهة أخرى.
بدأ الخطاب الديني التركيز على مفهوم الحاكمية من خلال كتابات سيد قطب مفكر
جماعة الأخوان المسلمين، خاصة في فترة الستينات، وبعد الصدام الكبير الذي وقع
بينها وبين السلطة السياسية في منتصف الخمسينيات تقريبا، وهو الصدام الذي أدى
إلى حل الجماعة، ومحاكمة أعضائها، حيث تم إعدام عدد من القيادات، وحكم على
الأعضاء بالسجن لمدد متفاوتة حسب موقعهم التنظيمي، وإذا كان الأخوان قد أنكروا
ولا يزالون ينكرون علاقة التنظيم بحادث المنشية، بل يذهب كثير منهم إلى أن
الحادث كان "تمثيلية" مدبرة من جانب السلطة السياسية لإيجاد مبرر للقضاء على
نشاط الجماعة ومصادرة فكرها، فان نشاط أعضاء الجماعة في الحقيقة لم يتوقف، بل
تحول إلى "السرية" وكان سيد قطب من أعضاء الجماعة الذي خاضوا تجربة السجن، لكنه
لم يتوقف عن الكتابة، ولعل هذه الفترة هي التي جعلت منه مفكر الجماعة والمعبر
عن أيدلوجيتها، لذلك يميل الكثير من الدارسين إلى القول بان التركيز على مفهوم
الحاكمية في كتابات قطب بكل ما ترتب عليه من تكفير للمجتمع، ومحاكمة كل الأنظمة
والإنسان الاجتماعية والسياسية والفكرية في تاريخ البشرية يمكن تفسيره
بالاضطهاد والتعذيب الذي عانى منه الأخوان، ومعهم سيد قطب، في السجون
والمعتقلات، أنها أذن عقدة "الاضطهاد" هي التي جمعت بين قطب والمودودي، وجعلت
الأول ينقل عن الثاني، لكن هذا الرأي في الحقيقة يقدم تبريرا اكثر مما يقدم
تفسيرا، خاصة بعد أن كشفنا في كثير مما سبق أن مفهوم الحاكمية محاديث للخطاب
الديني الذي ساد تاريخ الإسلام الثقافي، وانه من ثم كامن في بنية هذا الخطاب،
يتجلى حينا ويتخفى حينا آخر، أن عقدة الاضطهاد قد تصلح لتفسير الظواهر السلوكية
عند بعض الشباب الذي حمل أفكار قطب، وتشربها داخل السوجونن وخرج بعد ذلك يحولها
إلى واقع ولو بالاستشهاد، وأذ جاز لعقدة الاضطهاد أن تفسر تجلى المفهوم في خطاب
قطب، فأنها لا تفسره في المصدر الذي اعتمد عليه قطب، خطاب المودودي، ويظل
السؤال معلقا ينتظر الإجابة. * *
 
 
ولعله من المفيد في محاولة الإجابة عن السؤال أن نرصد بعض ملامح التغير في خطاب
قطب قبل انضمامه لجماعة الإخوان وبعد انضمامه لها، والقارئ لكتابي "معركة
الإسلام والرأسمالية" (1950)، و"العدالة الاجتماعية في الإسلام" (1951) يدرك
مدى انشغال الكاتب بقضايا الواقع الملحة، ومحاولته البحث عن حلول لها في
الإسلام، لكنه أيضا – القارئ – يستطيع بسهولة أن يجد في نفس الكتابين الأصول
العامة التي سيطرت على خطاب قطب بعد ذلك: مثل وضع النظام الإسلامي في علاقة
تعارض تام مع الثقافة الغربية، ومثل نعي الانفصام الذي وقع في الغرب بين
الكنسية والعلم، والهجوم على ممثلي الدعوة إلى التحرير الفكري والعقلي، خاصة
سلامة موسى وطه حسين، لكن الأهم من ذلك انه يرفض التراث الفلسفي العقلي في
الثقافة الإسلامية، على أساس أن للإسلام فلسفته الأصلية الكامنة في أصوله
النظرية والقرآن والحديث، وفي سيرة رسوله وسنته العملية، ما فلسفة ابن سيناء
وابن رشد وأمثالهما ممن يطلق عليهم فلاسفة الإسلام فليست سوى ظلال للفلسفة
الإغريقية لا علاقة لها حقيقة بفلسفة الإسلام، وحينما يقارن بين علماء الأصول
والمذاهب الفقهية من حيث موقف كل منها من إشكالية النص وعلاقته بالمصالح
المرسلة نجده يقف مع المالكية لانهم يجمعون بين المصلحة والنص، ويرفض اجتهاد
الطوفي لتقديمه المصالح المرسلة على النص، كما يرفض موقف الشافعية الذين لا
يعتدونها، لكن هذا الموقف "المعتدل" من علاقة النص والواقع سيتراجع عنه قطب بعد
ذلك لحساب مبدأ أثير – سنناقشه فيما بعد – لدى الخطاب الديني المعاصر بشكل عام
وهو مبدأ لا اجتهاد مع النص.
إذا كانت تلك هي الثواب في خطاب قطب، فان متغيراته تتحدد في الإلحاح على
القضايا الساخنة في الواقع والتي كانت شاغل كثير من القوى السياسية
والاجتماعية، بل كانت شاغل الخطاب المصري والعربي على مستوى الفكر والأدب،
ناهيك بالخطاب السياسي كانت تلك هي قضايا الاستعمار والإقطاع والظلم الاجتماعي
والسياسي، وكان ثمة وعي بالترابط بين هذه القضايا يقول قطب "يدرك الاستعمار إن
قيام حكم إسلامي سيرد الدولة إلى العدالة في الحكم وعدالة في المال فيقلم
أظافره ديكتاتورية الحكم واستبداد المال والاستعمار يهمه دائما أن لا تحكم
الشعوب نفسها لأنه يعز عليه حينئذ إخضاعها، فلا بد من طبقة ديكتاتورية حاكمة
تملك سلطات استبدادية، وتملك ثروة قومية، هذه الطبقة هي التي يستطيع الاستعمار
أن يتعامل معها" وتحقق عدالة توزيع الثروة في الإسلام، فيما يرى قطب – في
مجموعة من الإجراءات التي لا تتعارض مع الحكم الشيوعي أو الاشتراكي، بل إن هذه
الإجراءات كفيلة أن تقدم للبشرية مجتما من طراز آخر، هو المجتمع الإسلامي، الذي
قد "تجد فيه الإنسانية حلمها الذي تحاوله الشيوعية ولكنها تطمسه بوقوفها عند
حدود الطعام والشراب، وتحاول الاشتراكية، ولكن طبيعتها المادية تحرمه الروح
والطلاقة" وبصرف النظر عن ذلك الفهم السطحي القاصر لكل من الاشتراكية
والشيوعية، فان قطب لا يرى تعارضا بنيهما وبين الإسلام إلا فيما يتصل بالحقيقة
في جانبها الروحي، وهذا قريب إلى حد كبير من طرح الميثاق الوطني لثورة يوليو
للاشتراكية العربية، بل إن الإجراءات التي يطرحها قطب لتحقيق عدالة الثروة في
الإسلام لا تختلف كثيرا عن تلك التي تحققت في مرحلة الستينات. إن الإسلام –
فيما يرى قطب – يضع في يد الدولة سلطات واسعة "لتحدد الملكيات والثروات، ولتأخذ
منها ما يلزم لإصلاح المجتمع وتدع ما يضر، ولتتحكم في إيجار العقارات، وفي نسب
الأجور، ولتؤمم المرافق العامة، وتمنع، ولتحرم الربا والربح الفاحش والاستغلال،
هذا الإسلام لا يوافق الطبقات المستغلة ولا يضمن معه المستغلون البقاء"،
ويتجاوز قطب أحيانا هذا الطرح العام ويقدم حلولا تفصيلية، فحل مشكلة الغلاء
مثلا ميسور : "أن تتحكم الدولة في التصدير والاستيراد، وان تشتري لحسابها كل
المحصولات التي تصدر إلى الخارج وفي أوائلها القطن بسعر يجزي الزراعة، ثم
تبيعها هي لحسابها بالأسعار العالية، فأما الحصيلة الناشئة عن الفرق، فتساهم
بها في تخفيض سعر الواردات حين تباع للمستهلك، وتسد بها الفرق بين ثمن شرائها
المرتفع وثمن بيعها المناسب للجماهير".
هذا هو الشق الأول الخاص بعدالة المال في الإسلام، أما الشق الثاني الخاص
بعدالة الحكم فهو يتحقق بتطبيق مبدأ الشورى بطريقة عصرية، أي بالديمقراطية حيث
الشعب هو مصدر السلطات "فالحاكم في الإسلام يتلقى الحكم من مصدر واحد هو إرادة
المحكومين، والبيعة الاختيارية هي الطريق الوحيد لتلقي الحكم، والواقع التاريخي
قام على هذا المبدأ". وتتحقق البيعة بالانتخاب الحر، ولا تتحقق الحرية الحقيقية
إلا بنفي الاستغلال الاقتصادي، وما يترتب عليه من قهر اجتماعي أولا "كل ما
يحتمه الإسلام هو إزالة القيود التي تجعل الانتخاب غير ممثل لحقيقة الرأي في
الآمة، فلا يكون الناخب تحت رحمة صاحب الأرض أو صاحب العمل أو صاحب السلطان كما
هو واقع الآن" كيف حدث التحول في "أولويات" الخطاب الديني عند قطب، وكيف عبر
هذا التحول عن عداء واضح لكل إنجازات يوليو – وصل إلى التجهيل والتكفير – وهي
الإنجازات التي كانت مطلب ذلك الخطاب؟ ولكن علينا أن نكون على بصيرة من أن
التحول كان تحولا في "الأولويات" لا في المنطلقات، أصبحت الأولوية لقضية
العقيدة – ولم تكن بالقطع غائبة – على قضية العدل واصبح الخطاب يتضمن رفضا
قاطعا لطرح آية اجتهادات تقدم على أساس أنها من قبيل التضليل عن الهدف الأسمى
وهو إقرار المجتمعات البشرية بالعقيدة، واصبح من واجب أصحاب الدعوة الإسلامية
أن يرفضوا السخرية الهازلة في ما يسمى الفقه الإسلامي في مجتمع لا يعلن خضوعه
لشريعة الله ورفضه لكل شريعة سواها، من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل
الجاد، التلهية باستنبات البذور في الهواء وهذه الدعوة في حقيقتها موجهة ضد
فريق من علماء الدين – بعضهم كان من الأخوان – تعاونوا مع رجال يوليو، لكن
الأهم من ذلك أنها تعتمد على مبدأ "الحاكمية" فلا اجتهاد ولا تشريع إلا بعد
الإقرار به وسيادته بوصفه لب العقيدة وجوهرها، وكما اختفت قضية العدل
الاجتماعي، أو تأجل الفصل فيها اللأي ما بعد الإقرار بالحاكمية، كان من الطبيعي
أن يختفي العدل السياسي نهائيا فمفهوم الحاكمية ذاته – كما سبق أن شرحنا – ينفي
التعددية الفكرية والسياسية، ويعادي الديمقراطية، "إن هناك حزبا واحدا لله لا
يتعدد وأحزاب أخرى كلها للشيطان وللطاغوت".
إن طرح مفهوم الحاكمية بهذه الصورة يعكس ظروفا شبيهة بتلك التي طرح فيها
المفهوم أول مرة مع الفارق طبعا بين الظرفين في الزمان والمكان وتعقد الواقع،
وكلنه الصراع على سلطة الحكم، ولجوء أحد طرفي الصراع إلى نقله من إطار الصراع
الأرضي إلى صراع ديني، يسمح له بتزييف وعي الناس وتخديرها للوصول إلى السلطة،
ومن الخطأ البين تصور أن الصراع الذي وقع بين الأخوان وبين الثورة كان صراعا
حول الدين أو العقيدة، بل كان صراعا حول السلطة السياسية، أو حول الحاكمية
بمعنى حكم المجتمع والتحكم في إدارة الوطنية الأخرى التي اختلف معها وقهرها
بعنف أن تحول أولويات الخطاب عند قطب ناتج عن تحقيق نظام يوليو لكل مطالب
الخطاب في مرحلة التقائه بالخطاب العام المسيطر لمجمل فصائل الحركة الوطنية،
فكان من الطبيعي أن تفسح المجال لأسس هذا الخطاب ومنطلقاته الأيدلوجي لخطاب قطب
يكشف عن نفسه في جلا لا يحتمل اللبس لدى القراءة التي تتجاوز القشرة السطحية
دون أن تتعمق في الأغوار البعيدة، وقد مر بنا أن رفضه لتطوير الفقه الإسلامي –
وهو ما اعتبره بمثابة استنبات للبذور في الهواء – كان رفضا لتعاون فريق من
العلماء مع نظام يوليو وبالإضافة إلى ذلك فانه يتوجه بخطابه بشكل مباشر إلى
الشعارات التي صاغها النظام في مرحلة الستينات وهي شعارات : الحرية والاشتراكية
والوحدة. وباستثناء شعار الحرية يتوجه خطاب قطب لتحطيم هذه الشعارات. نافيا
عنها كل مشروعية، ما دامت لا تناسب - في رأيه – على العقيدة / الحاكمية، أن
الاشتراكية – أو العدالة الاجتماعية – والوحدة – التي تقوم على أساس القومية
العربية – أن هي إلا طواغيت أرضية وأصنام جاء الإسلام ليحطمها، أن محمداً "كان
في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع القبائل العربية التي أكلتها
الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من
الإمبراطوريات المستعمرة، الرومان في الشمال والفرس في الجنوب" وربما قيل انه
كان في استطاعته – محمد صلى الله عليه وسلم أن يرفعها راية اجتماعية، وان
يثيرها حربا على طبقة الأشراف، وان يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد
أموال الأغنياء على الفقراء ولأنه لم يفعل ذلك، بل أطلقها دعوة للعقيدة، فليس
من حق أحد أن يفعل غير ذلك لان العالم يعيش في جاهلية كتلك التي جاء الإسلام
ليواجهها، بل أسوأ، هذا خطاب موجه لنظام يوليو في الستينات ولعبد الناصر
تحديدا، وهو النظام الذي استدعيت مقولة "الحاكمية" لمحاربته.
* *
ولا نحتاج في خطاب قطب للبحث عن مصدر مفهومة للحاكمية، فأبو الأعلى المودودي
حاضر فيه بشكل لا يحتاج لإثبات، ومن المصدرين معا يتلقى خطاب الجماعات
الإسلامية، لا من الخوارج ولا من غيرهم، كما يوحي بذلك أحيانا ممثلو الخطاب
الرسمي "المعتدل" ومن الطريف أن يسكت الأزهر ورجاله ويلزموا الصمت إزاء "معالم"
قطب حين صدر، ثم تتوالى الردود – بعد سجن المؤلف ومصادرة الكتاب – وتجمعها
الدولة في كتاب بعنوان "إخوان الشياطين"، وتتركز الردود كلها في تحميل الخوارج
فكر "المعالم" وقد سبق أن بينا أن الأمويين هو الذين طرحوا مبدأ الاحتكام إلى
القرآن حين رفعوا المصاحف على أسنة السيوف، وخدعوا جماهير المؤمنين الطيبين
الذين أنهكهم القتال، ومن يجرؤ على رفض الاحتكام إلى كتاب الله إلا أن يكون
مظنونا في دينه وعقيدته، وآفاق الجميع والخوارج خاصة على حقيقة أن تحكيم القرآن
يؤدي بالضرورة إلى تحكيم الرجال، فالقرآن كما شرح لهم الأمام على "إنما هو خط
مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال" لذلك فان مبدأ لا حكم إلا لله
الذي أعلنه الخوارج، وبسببه أطلق عليهم اسم "المحكمة" كان ردا على حكم رجال
بأعينهم في قضية محددة، هي قضية الخلاف السياسي بين الطرفين المتصارعين، وذلك
ينفي عن الخوارج التشويه المتعمد الذي يمارس ضد فكرهم منذ أحقاب بعيدة في كتب
الفرق والمقالات، وان كان لا ينفي عنه مثاليته التي دفعت سلوكهم إلى التطرف في
أحيان كثيرة، لقد كانوا على وعي بأن للنصوص مجالات فعاليتها الخاصة، وان أمة
مجالات أخرى لا تتعلق بها هذه الفعالية، فقد سألهم ابن عباس " ما نقمتم من
الحكمين، وقد قال الله عز وجل: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما) فكيف بأمة
محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الخوارج : قلنا : أما ما جعل حكمه إلى الناس،
واقر بالنظر فيه، والإصلاح له، فهو إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه، فليس
للعباد أن ينظروا فيه : حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، فليس
للعباد أن ينظروا في هذا، قال ابن عباس: فالله يقول (يحكم به ذوا عدل منكم)
فقالوا: أو تجعل الحكم في الصيد، والحديث يكون بين المرأة وزوجها، كالحكم في
دماء المسلمين، قالت الخوارج : قلنا له فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن
العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا، فان كان عدلا فلسنا بعدول ونحن أهل
حربة، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عز وجل حكمه كتبتم بينكم
وبينه كتابا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله عز وجل
الاستفاضة والموازعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر
بالجزية، ولم يكن استدعاء مفهوم الحاكمية – بالمعنى الأموي لا الخارجي – في
خطاب المودودي إلا في سياق الصراع على السلطة بين المسلمين والهندوس في شبه
القارة الهندية عشية الاستقلال، وقد اسهم المستعمر البريطاني دون شك في تعميق
الصراع حتى اصبح "انفصال" المسلمين هو الحل الأمثل، وهو حل روجت له الدوائر
الاستعمارية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد انقسم المسلمون فيما بينهم،
فانحازت الأقلية إلى الحل الديمقراطي، بينما أصرت الأغلبية على "الانفصال" وكان
من أهم مبررات الانفصال في الخطاب الديني الدعوة إلى اعتبار الدين – لا الأرض
ولا القومية ولا التاريخ أو الثقافة – أساس أي تجمع بشري وما دام الإسلام يمثل
طريقة في الحياة تغطي جميع المجالات، فمن الضروري أن يكون لمسلمي شبه القارة
الهندية وطنهم المستقل حيث يمكن لهم أن0. ينظموا حياتهم وفقا لتعاليم الإسلام
وإذا كان للمودودي بعض العذر في الحكم على متمعه بالجاهلية تأسيسا على طبيعة
العقائد الهندوسية فان متابعة قطب له في تجهيل مجتمعه لا تفسير لها إلا في
مفهوم الحاكمية ذاته، وعلينا ألا ننسى أن المودودي – ويتابعه قطب – يحكم على كل
المجتمعات والأنظمة التي لا تقر بالحاكمية بأنها مجتمعات وأنظمة جاهلية.
بقي لنا في هذه الفقرة تحليل النتائج الخطيرة – الاجتماعية السياسية بشكل خاص –
التي تترتب على طرح مفهوم الحاكمية، بالإضافة ألي ما يؤدي إليه من إهدار لدور
العقل ومصادرة الفكر على المستوى العلمي والثقافي، أن هذا المفهوم ينتهي إلى
تكريس اشد الأنظمة الاجتماعية والسياسية رجعية وتخلفا، بل انه ينقلب على دعاته
أنفسهم إذا أتيح له أن يتبناه بعض الساسة الانتهازيين كما هو واقع الأمر في
كثير من أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي، وإذا كانت الديكتاتورية هي
المظهر السياسي الكاشف عن مدى تدهور الأوضاع في هذا العالم، فان الخطاب الديني
يصب بمفهوم الحاكمية مباشرة في تأييد هذا المظهر، وتأييد كل ما يتستر وراءه من
أوضاع، وذلك رغم التناقضات التي تطفو على السطح بين الحين والآخر، وهي تناقضات
ترتد في تقديرنا إلى تجاوز في السلوك السياسي الكثير من ارتدادها إلى خلاف في
المنظور الأيدلوجي، كان الخلاف بين الإخوان ونظام يوليو في الستينات – كما
رأينا – خلافا حول الحكم، ولم يكن الإخوان – خلافا لكثير من القوى السياسية
التي اختلفت مع النظام – يقبلون بأقل من سيطرتهم الكاملة – باسم الإسلام
وتحقيقا لحاكمية الله - على شئون المجتمع. كان الانفراد بالحكم إذن هو جوهر
الخلاف، وهذا ما يفسر طبيعة الصدام ومداه، هذا الإضافة إلى أن رجال الحكم في
الستينات كانوا يدركون خطورة السماح بإثارة الحساسيات الدينية في مجتمع يتضمن
اقليه مسيحية لا يستهان بها.
ومع ما أحدثه انقلاب السبعينات من تغيرات في توجهات النظام السياسي والاجتماعي،
حاول أن يضفي على هذه التوجهات طابعا دينيا يوحي بالحادية سلفة في الستينات من
جهة، ويستغل عواطف الجماهير لتبرير توجهاته المعارضة لمصالحها من جهة أخرى،
لذلك لم يكن غريبا أن ترفع شعارات مثل "دولة العلم والإيمان" و "الرئيس المؤمن"
وأن يسيطر على الخطاب السياسي الاستشهاد بالنصوص الدينية، وان يشار إلى السلطة
باسم "الولاية" استدعاء لآليات اختيار الحاكم في العصور القديمة، عصور الخلافة
حتى نهايتها على يد أتاتورك، واصبح يشار إلى الجماهير باسم "شعبي" وإلى الجنود
والطلاب "أبنائي وبناتي"، وحين تظهر بعض آبار البترول في قطعة من أرض الوطن
تكون نعمة من الله على الحاكم شخصياً، وهكذا أصبح الوطن بأرضه وناسه وتراثه
ملكا للحاكم، واصبح كل خلاف في الرأي معه خيانة للوطن، وكل نقاش لسياسته هجوما
على الوطن. ولم يقف الأمر عند هذا الحد من ابتلاع الوطن في شخص الحاكم، بل تخطى
ذلك إلى مقاربة تخوم تالية الحكم لذاته، فهو يعلن في سياق السجال السياسي : "ما
يبدل القول لدي" إن الحاكمية واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، ولا غرابة بعد
ذلك كله أن يكون كل خصوم النظام، بل خصوم الحاكم شخصيا فحسب، كفارا ملاحدة، ولو
كانوا من المشايخ وأصحاب اللحى.
لكن التعارض بين نظام السبعينات وبين الخطاب الديني وممثليه لم يكتشف إلا في
النهاية حين تبين لهم أن الدعم والتأييد الذي شملهم به النظام في بدايته كان
دعما مشروطا بتأييده ومحاربة خصومه السياسيين والقضاء عليهم إذا أمكن، وقد اصبح
معروفا أن السماح الحكومي للجماعات الإسلامية بممارسة نشاطها، بل وتمويلها
ماديا وتدريبيا، في الجامعات وخارجها كان مقصودا به تحجيم نشاط القوى السياسية
الأخرى، الناصريين والشيوعيين تحديدا، التي كانت تمثل خطرا على توجهات النظام،
وحين وصل الصدام إلى منطقة اللاعودة وقع الانفجار الكبير في السادس من أكتوبر،
ولكنه صدام يظل – رغم دويه الهائل – صداما مع شخص الحاكم لا مع نظام الحكم. لقد
قدم الخطاب الديني – الذي تمت صياغته في الستينات – غطاء إيدلوجيا جاهزا
لتحولات السبعينيات وما زال يفعل ذلك، رغم مظاهر التوتر والصدامات الأمنية. إن
نظامنا السياسي الراهن يقوم على أساس احتكار سلطة الحكم، وهذا تأويله للحاكمية
وفهمه لها، وهو تأويل يختلف عن تأويل الخطاب الديني، ومن هذا الخلاف يقع
الصدام. إن الاتفاق بين الخطابين السياسي والدينين اتفاق جوهري. وأما الخلاف
فهو أمر ثانوي، فكلاهما يتأسس على مفهوم واحد.
وإذا كان الخطاب السياسي في مرحلة الثمانينيات قد تغيرت نبرته قليلا، خاصة في
السنوات الخمس الأولى، فان مضمون الخطاب لم يتغير كثيرا، كان تغير النبرة
مرهونا بحالة فقدان التوازن التي أحدثها الصدام السابق، وحين استعادة النظام
توازنه، بدأ الخطاب السياسي يعاوده داؤه القديم، وانتهت الانفراجة الديمقراطية
إلى حاكمية تمتلك وحدها الحقائق الخافية على القوى السياسية الأخرى كلها، بما
فيها تلك التي تشارك في المؤسسات التشريعية، أن دعوى احتكار الحقائق، وما يترتب
عليها من دعوى احتكار القرار، تمثل الأساس النظري لمفهوم الحاكمية الديني كما
شرحت من قبل، ولا يكتفي الخطاب السياسي بهذه الدعوى الخطيرة، بل يقرنها بدعوى
لا تقل عنها خطورة من حيث قيام مفهوم الحاكمية عليها، تلك دعوى الصواب الدائم
وعدم اقتراف أي خطأ، وتتبدى هذه الدعوى واضحة في تحميل الخطاب السياسي كل أوجه
القصور والعجز في سياساته، بل وكل أزمات الواقع ومشكلاته، على أكتاف المواطن
العادي الذي يصفه بأنه قليل الإنتاج، كثير الاستهلاك، كثير التكاثر، عديم
الانتماء، وإذا يجتمع للنظام السياسي العلم التام والقدرة الشاملة والكمال الذي
لا يحتمل الخطأ، في حين تتسم الجماهير بالجهل بالحقائق والعجز والنقص، فهل يصح
له أن يشرك هذه الجماهير في إدارة شئون البلاد؟ وهل للحاكمية في الخطاب الديني
معنى غير هذا؟.
وهذه الحاكمية المحايثة لكل من الخطابين الديني والسياسي على السواء تنتقل في
الخطاب السياسي خاصة لتكون أساسا أيديولوجياً تصوغ عليه القوى الحاكمة
والمسيطرة في الواقع علاقاتها بالقوى الدولية التي تساندها وتحمي ظهرا وتشاركها
استغلال شعوبها. والدليل على ذلك ما دأب نظامنا السياسي على الترويج له من أن
أمريكا – وحدها – تملك 99% من أوراق اللعب في الصراع العربي الإسرائيلي، ووصلت
هذه النسبة في فترة الثمانينيات إلى الاحتكار الكامل، وفقدت القوى المحلية ذلك
الواحد بالمائة الذي كانت تشارك به في إدارة الصراع، وليس هذا في النهاية إلا
تعبيرا عن العجز التام والتبعية المطلقة من جانب النظام في علاقته بقوى
الاستغلال العالمي، وهكذا تكون الحاكمية مفهوما ديكتاتوريا محايثا للخطاب
السياسي الرسمي في علاقته بالقوى السياسية المحلية، حيث تتحدد العلاقة من خلاله
بين النظام والمعارضة من منظور أعلى / أسفل، أو سيد / عبد، على حين تتغير هذه
العلاقة وتصبح أسفل/ أعلى أو عبد / سيد في علاقته بالنظام العالمي. وفي كلا
النمطين يقوم مفهوم الحاكمية على ثنائيات : العلم / الجهل، والقدرة / الجز.
الصراع إذن – أو بالأحرى مظاهر التوتر التي تشهدها – بين النظام لسياسي
ومؤسساته وبين مجمل فصائل التيارات الدينية ليس صراعا أيدلوجيا حول الأفكار
والمفاهيم، بل هو صراع حول حق تمثيل الحاكمية في إدارة شئون المجتمع، حول من
ينطق باسم هذه الحاكمية ويتذرع بسلاحها، انه صراع بين قوى سياسية متقاربة فكريا
حول السلطة والسيطرة والتحكم.
لكن طرح الحاكمية من منظور ديني يتجاوز مجرد كونه يقدم غطاء أيدلوجيا لنظام
سياسي يزعم الخطاب الديني انه يسعى إلى تغييره بنظام إلهي يحقق للإنسان سعادة
الدنيا والآخرة. إن التغطية الأيدلوجية تمثل وجها، ربما كان غير مقصود، من
خطورة المفهوم، أما الوجه الأشد خطرا فهو الوجه المعلن المقصود يزعم الخطاب
الديني أن النظام الذي يقوم على حاكمية البشر – وهي كل الأنظمة السياسية
والاجتماعية القائمة – يؤدي إلى استعباد بعضهم للبعض الآخر باحتكار حق التشريع
لهم وتنظيم حياتهم، وهو الحق الذي لا يصح أن يكون إلا لله بوصفه سبحانه الخالق
والرازق، والمهمين والمسيطر والعالم القادر الحكيم وان الإنسان يجب ألا يخضع
بالعبودية والطاعة والامتثال إلا لله وما سواه من البشر الذين ينازعونه السلطان
والحاكمية طواغيت جاء الإسلام ليحرر البشرية من سطوتهم وسلطانهم.
ولا خلاف أن الإسلام بالفعل حرر الإنسان من سيطرة الأوهام والأساطير على عقله،
وحرر وجدانه وعقائده من كل ما يعوق حريته، لكن الخطاب الديني يصر على اختصار
علاقة الإنسان بالله في بعد واحد فقط هو العبودية، التي تحصر فاعلية الإنسان في
الطاعة والاذعان، وتحرم عليه السؤال أو النقاش، ولا شك أن الإيمان يقوم على
التسليم بهذه العلاقة على مستوى العقيدة، وهو المستوى القلبي الشعوري الذي لا
مجال فيه للتأويل والاجتهاد، ولا مجال فيه كذلك لتدخل البشر، إنها العلاقة
الذاتية الشخصية بين الإنسان وربه.
وإذا كنا سنتعرض بمزيد من التفصيل في تحليل مسالة العبودية في الفقرة التالية،
فان الذين يعنينا في سياق "الحاكمية" أن الخطاب الديني يجعلها أساسا ينسحب على
مجالات التشريعات التي تحتاج في استنباطها للاجتهاد والتأويل، وتحتمل الخلاف
بحسب اختلاف المصالح، وبحسب اختلاف العوائد والعادات كما أدرك الفقهاء، وهذا من
شأنه أن يؤدي – في احسن الفروض مع افتراض كل النوايا الحسنة في الخطاب الديني –
إلى العبودية لإحكام بعض البشر بالخضوع لاجتهاداتهم، إن التقليد الذي نهى عنه
الإسلام وحرمه بعض الفقهاء وقارنه بالشرك، وبعبارة أخرى : إذا كان الخطاب
الديني يستهدف بمفهوم الحاكمية القضاء على تحكم البشر واستبعادهم لبعضهم البعض،
فان هذا المفهوم ينتهي على المستوى التطبيقي إلى تحكيم بشر من نوع خاص، يزعمون
لانفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل، وانهم هم وحدهم الناقلون عن
الله.
وإذا كانت حاكمية البشر يمكن مقاومتها والنضال ضدها وتغييرها بأساليب النضال
الإنسانية المختلفة، واستبدال أنظمة أكثر عدالة بها، فان النضال ضد حاكمية
الفقهاء يوصم بالكفر والإلحاد والزندقة بوصفه تجديفا وهرطقة ضد حكم الله، ويصبح
المفهوم بذلك سلاحا خطيرا يفقد البشر أية قدرة على تغيير واقعهم أو تعديله،
لانه ينقل مجال الصراع من معركة بين البشر والبشر إلى معركة بين البشر والله.
إن كل الثنائيات التي يتأسس عليها مفهوم الحاكمية تتأسس بدورها على ثنائيات
العلم / الجهل، والقدرة / العجز، والحكمة / الهوى، وكلها تضع الإنسان في علاقة
مقارنة مع الله، ومن شأن هذه المقارنة أن تنتهي إلى الإنسان، الذي لا يمكن أن
يصعد أمام العلم الشامل والقدرة المطلقة والحكمة الكاملة، وبذلك يتعمق في شعور
المؤمن إحساس يؤدي إلى ضياع ثقته في قدراته وإمكانياته، فيركن إلى التواكلية
والسلبية، وهكذا يقدم الخطاب الديني تبريرا للعجز والقهر والاستغلال بتجاهل
الأبعاد الاجتماعية للوجود الإنساني والتركيز على البعد الميتافيزيقي، ويتم ذلك
عبر سلسلة من الوثبات تتجاهل الشروط المعقدة والعلاقات المركبة المتشابكة
للواقع الاجتماعي والإنساني، تختزل الوجود الإنساني في عملية "الخلق" الأولى،
الأمر الذي يؤدي إلى تأييد الواقع الآني الزماني بإضفاء ذلك البعد الميتافيزيقي
عليه، وهكذا يتم تمهيد الأرض بإفراغ وعي الإنسان من كل إيجابياته، حتى يصير
ريشة في مهب الريح، لتحويل الأيديولوجيا إلى واقع، وتسكين الإنساني في "جب"
السلطة، أية سلطة.
 

الصفحة الرئيسية