"القرآن" وصورة أخرى لليهود والنصارى

نظرة القرآن إلى اليهود والنّصارَى

بالتأمُّل فيها أيضاً نجدها تتعارَض مع فكرة التحريف .. ومع فكرة كونهم كَفَرَة أو مُشرِكين . فلو لحق التوراة أوالإنجيل التحريف قبل أو أثناء ظهور الإسلام ما كان القرآن ينظر إلى اليهود والنّصارَى هذه النّظرة.

[ 1 ] وصفَهُم بالإيمان بالله وعبادته وعمل الخير :

ففي ( آل عمران : 113 115 ) : " لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ . يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ " .

قال د. محمد عمارة في هذه الآية : ( ... فَفِيهِم مؤمنون صالحون ، وهُم أهل كتاب غير مؤمنين بالشريعة المُحَمّدية ... ) .

(د. محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية – ص100– كتاب الهلال العدد 338 – ربيع الأول 1399هـ – فبراير 1979م)

ويقول في هذا الصدد أيضاً ما يلي :

[ وفي إطار الفِكر القرآني الذي حرص على عدم التّعميم في الأحكام ، وعَمَد إلى التّمييز بين أهل الكتاب الذين ظلّوا على شريعتهم قائمين بعد البعثة المحمدية ، ومع ذلك سلكوا سلوك الناجين ، وبين أولئك الذين انحازوا إلى أعداء المسلمين من المشركين .. في هذا الإطار تأتي آيات القرآن التي تقول عنهم أنهم : " لَيْسُوا سَوَاءً ....... " ( 113 -115 ) من سورة آل عمران .

فالحديث هنا عن جماعة " أمة " كانت قائمة وموجودة بعد ظهور الإسلام وبَعثة
محمد (ص) ، وهي قد ظلّت على شريعتها ، مُهتَدِيَة بهُدَى هذه الشريعة ، دون أن تؤمن بشريعة محمد الإسلامية ، ومع ذلك فَهُم من " الصالحين " ، وما قَدّمَته أيديهم من خير فلَن يُصيبُه الإحباط ، ولن يُكفَروه " وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ " ..

وعن هذه الآية التي تبرز العدل الإلهي والإنصاف الرّباني يتحدّث الإمام محمد عبده فيقول : " هذه الآية من العدل الإلهي في بيان حقيقة الواقع .. وهي دليل على أن دين الله واحد على ألسِنَة جميع الأنبياء ، وأنّ كل مَن أخذه بإذعانٍ ، وعمل فيه بإخلاصٍ ، فأمر بالمعروف ونَهَى عن المُنكر ، فهو من الصالحين .

وظاهر أن هذا الذي قبله في أهل الكتاب حال كَونِهم على دينهم ، خلافاً للمفسرين الذين حملوا المدح على مَن أسلَمَ منهم ، فإن المسلمين لا يُمدَحون بوصف أنّهم أهل كتاب ، وإنما يُمدَحون بعنوان المؤمنين ... ] .                                  (المصدر السابق – ص 118 ، 119)

ما سبق ذكرُه يؤكده السيوطي في أسباب نزول الآيات السابقة من سورة آل عمران حيث جاء : " أخرَجَ أحمد وغيره عن ابن مسعود قال : أخّرَ رسول الله ( صلعم ) صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أمّا إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم ، فأُنزلت هذه الآية ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ) حتّى بلغ ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) .

(لباب النقول فى أسباب النزول – للسيوطى – ص 115- دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع –
بيروت – ص.ب : 6318/113)

وأكّده الواحدي والنيسابوري أيضاً في أسباب النزول حيث قال :

نزلت في أهل الكتاب عندما قال النّبي ( ص ) : " إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب " .

(أسباب النزول للواحدى – دار الحديث – القاهرة – ص.ب : 102 – تحقيق أمين صالح شعبان – الطبعة الرابعة 1419هـ - 1998م – رقم الإيداع : 5095/98 – الترقيم الدولي : ISBN 977-300-002-8  )

[ 2 ] وصفهم بالإيمان بكتابهم وتلاوته حق التلاوة :

ففي ( البقرة : 121 ) : " الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " .

جاء في التفسير : قال عبد الرازق ، عن معمر عن قتادة : هم اليهود والنّصارى . وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن اسلَم ، واختاره ابن جرير . وقال أبو العالية : قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرّم حرامه ، ويقرأه كما أنزله  الله ، ولا يُحَرّف الكَلِم عن مواضعه ، ولا يَتأوَّل منه شيء على غير تأويله ، ..... .

وعن عِكرِمة عن ابن عبّاس : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يتبعونه حق اتباعه . وقال الحَسَن البصري : يعملون بمُحكَمِه ، ويؤمنون بمُتشابِهِه ، ويَكِلون ما أَشكَلَ عليهم إلى عالِمه .

وعن عبد الله ابن مسعود في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) قال يتبعونه حق
اتباعه
.  
       (تفسير ابن كثير - سورة البقرة - المجلد الأول – ص 235، 236 - الطبعة السابقة)

وقال الجلالان ( يتلونه حق تلاوته ) أي يقرأونه كما أُنزِل . ( ومَن يكفر به ) أي بالكتاب المُؤتَى به بأن يحرفه .                                (تفسير الجلالين – سورة البقرة – ص 17)

والبيضاوي أيضاً أعاد الضمير في " به " على الكتاب .

(تفسير البيضاوى - سورة البقرة – الجزء الأول – ص 393 – تحقيق الشيخ عبد القادر عرفات – إشراف مكتب البحوث والدراسات – دار الفِكر – بيروت – لبنان - طبعة 1416هـ / 1996م)

ويلاحظ من الآية " يتلونه " فعل مضارع ، أي الكتاب الموجود زمن النبي ( ص ) .

وفي ( العنكبوت : 47 ) : " وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ " .

قال د. محمد عمارة في هذه الآية : " وعن مثل هؤلاء القوم من أهل الكتاب تتحدّث الآية التي تثبت لطائفة منهم الإيمان بكتابهم ( العنكبوت : 47 ) ، فهُم مؤمنون بكتابهم ولذلك ميّزهم القرآن عن الجاحدين الكافرين " .

(د. محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية – ص 116 – كتاب الهلال العدد 338 – ربيع الأول 1399هـ – فبراير 1979م)

لذلك ..

[ 3 ] قال لهم : " وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ " . ( البقرة : 45 ) :

جاء في أسباب النزول : " عند أكثر أهل العِلم : إن هذه الآية خطاب لأهل الكتاب .. وهو القول الأظهر " .                      (أسباب النزول للواحدى النيسابورى – ص 28 - مصدر سابق)

[ 4 ] وصفهم بأنهم يهدون بالحق وبه يعدِلون :

ففي ( الأعراف : 159 ) : " وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " .

جاء في التفسير : يقول تعالى مُخبِراً عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به ، كما قال تعالى : " .. مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ " ( آل عمران : 113).

(تفسير ابن كثير - سورة الأعراف – المجلد الثالث – ص 490 - الطبعة السابقة)

جاء أيضاً في التفسير : ( ومن قوم موسى ) جماعة ( يهدون ) الناس ( بالحق وبه يعدلون ) في الحكم .

(تفسير الجلالين –  سورة الأعراف – ص 139 - طبعة الشمرلي – وقد طبع بتصريح من مشيخة الأزهر الشريف ومراقبة البحوث الثقافية الإسلامية ، وتقرير اللجنة المختصة الصادر برقم 297 بتاريخ 5 / 5 / 1977 – تحقيق وتعليق د. محمد إسماعيل المُدَرِّس بجامعة الأزهر وعضو لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف)

وقد قال د. محمد عمارة في صدد هذه الآية :

وفي آية أخرى يتحدّث القرآن عن طائفة من اليهود ظَلّوا على يهوديتهم أي ظلوا من قوم " موسى " لا من قوم محمد ، ومع ذلك وصفهم بأنهم " يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ " ( الأعراف : 159 ) . ويستخدم القرآن هنا فعل المضارعة ، وهو المُعَبِّر عن الفعل الواقع في الحال والمستمر للمستقبل " يهدون بالحق وبه يعدلون".

(د. محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية – ص 116 -  مصدر سابق)

[ 5 ] ومَيَّزَ وفَصَل أهل الكتاب عن الذين كفروا والذين أشركوا والذين في قلوبهم مرض بآيات واضحة صريحة :

ففي ( الحج : 17 ) : " إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " .

وفي ( المُدّثّر : 31 ) : " وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ " .

وفي ( المائدة : 82 ) : " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ " .

وفي ( سبأ : 31 ) : " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ".

ولأن أهل الكتاب يؤمنون بالذي بين يديه - إذاً فهم غير الذين كفروا .

انظر أيضاً : ( آل عمران : 186 ) ، ( القلم "ن" : 36 ) ، ( التوبة : 299 ) ، ( المائدة :
5 ) ، ( البقرة : 221 ) ، ( البينة : 1 ) .

وفي شرح الآية الأخيرة ( البينة : 1 ) لفضيلة الدكتور المرحوم أحمد الشرباصي ، الأستاذ بجامعة الأزهر ( سابقاً ) قال : [ فقد عطف المشركين على أهل الكتاب فكأنهما صنفان لا صنفاً واحداً ، لأن ظاهر العطف بالواو بين أهل الكتاب والمشركين يقتضي المغايرة ، فهؤلاء غير أولئك . ولذلك قال بعض العلماء في الإفتاء : ذهب بعض السّلَف إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج بغير المُسلِمة مطلقاً ، ولكن الجمهور من السّلف والخَلَف قد أحل الزواج بالكِتابية ، وحرّم الزواج بالمُشرِكة ، ويريدون بالكتابية اليهودية والنصرانية ، وأحل بعضهم المجوسية أيضاً ، ويريدون بالمُشركة الوثنية مطلقاً ، بل عَدّوا جميع الناس وثنيين ما عدا اليهود والنصارى ، ومن الناس مَن قال أنهم من المشركين ، ولكن التحقيق أنهم لا يُطلَق عليهم لقب المشركين . لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين ، أو الذين أشركوا صنفاً ، وأهل الكتاب صنفاً آخر . يعطف أحدهما على الآخر والعطف يقتضي المغايَرَة كما هو مُقَرّر* وليس هناك فرق في هذا الحُكم بين أهل الكتاب في الزمن القديم وأهل الكتاب في الزمن الحديث ، فالكل أبناء دين واحد . فليس هناك مانع شرعي يلزم المسلم بعدم الزواج من نساء أهل الكتاب الآن .. ]

(يسألونك فى الدين والحياة – فضيلة د.أحمد الشرباصى ( الأستاذ بجامعة الأزهر ) الجزء الأول – ص 221 ، 222 – الطبعة الثالثة 1977 – دار الجيل – بيروت)

هذا ما جاء في القرآن في مسألة الفصل والتمييز بين أهل الكتاب والمشركين . أما ما جاء في السّنة النبوية في هذا الموضوع فيتضح من الروايات الآتية :

1. روى الإمام أحمد في مُسنَدِه : عن أبي أمامة قال : إني لَتَحت راحلة رسول الله
( ص ) يوم الفتح فقال قولاً حسناً جميلاً وقال فيما قال :

" مَن أسلَمَ من أهل الكتاب فله أجره مرتين ، وله ما لنا وعليه ما علينا ، ومَن أسلم من المشركين فله أجره وله ما لنا وعليه ما علينا " .             (تفسير ابن كثير - المجلد السادس – ص 254 -  مصدر سابق)

2. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلعم ) : ما مِن مولود إلا يولد على الفِطرة فأبواه يُهَوّدانه أو يُنَصّرانه أو يُشركانه .. " .

(بغية كل مسلم من صحيح الإمام مسلم – ص 270 – طبعة 1389هـ - 1996م – مؤسسة الحلبى للطبع والنشر)

قال السدي : لو سألت النصراني ما دينك ؟ لقال : نصراني واليهودي ما دينك ؟ لقال : يهودي والصابئي ، لقال : صابئي ، والمشرك لقال : مُشرِك .

(تفسير ابن كثير – سورة براءة - المجلد الرابع – ص 62 - الطبعة السابقة)

كذلك لو كان أهل الكتاب كفرة أو مشركين لَما أوصَى النبي بقبط مِصر (النّصارَى) :
" استوصوا بالقِبط خيراً ، فإن لهم ذِمّةً ورَحِماً " .

(د. عائشة عبد الرحمن – نساء النبى – طبعة دار المعارف 1979 – ص 236)

يتضح مما سبق أن أهل الكتاب غير الذين كفروا والذين أشركوا والذين في قلوبهم مرض .

فلو كانوا حرّفوا كتابهم لوضعهم القرآن تحت أي عنوان غير عنوان أهل الكتاب -لأنه كيف يدعوهم " أهل الكتاب " وقد حَرّفوا الكتاب ؟!

[ 6 ] واعتبر مؤمني أهل الكتاب مؤمنين موحدين من قَبل القرآن :

ففي ( الحديد : 28 ) : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ " .

جاء في التفسير : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ) بعيسى ( اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ ) محمد
( ص ) وعيسى ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ ) نصيبَين ( مِنْ رَحْمَتِهِ ) لإيمانكم بالنبيين .

(تفسير الجلالين – سورة الحديد – ص 459 - الطبعة السابقة)

وجاء أيضاً في التفسير : " قد تقدّم في رواية النّسائي عن ابن عباس أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب ، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في ( القصص : 54 ) وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله ( ص ) :

ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه فله أجران ، ... " .

(تفسير ابن كثير – سورة الحديد - المجلد الثامن – ص 57 - الطبعة السابقة)

فلو كان أهل الكتاب قد حرّفوا التوراة أو الإنجيل ما اعتبرهم القرآن مؤمنين ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ) .

وفي ( القصص : 52 54 ) : " الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ . أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ... " * .

جاء في التفسير : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) موحّدين ( أولئك ) يؤتَون أجرهم
مرّتَين بإيمانهم بالكتابَين .               (تفسير الجلالين – سورة القصص – ص 328 - الطبعة السابقة)

جاء أيضاً في التفسير : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) موحدين لله مستجيبين له .
( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) أي هؤلاء المُتّصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الكتاب الثاني .  
               (تفسير ابن كثير – سورة القصص - المجلد السادس – ص 254 - الطبعة السابقة)

مما سبق يتبيّن أن أهل الكتاب - مطلوب منهم الإيمان بالقرآن ( الكتاب الثاني ) حتّى يؤتَون أجرهم مرتين وإلا سيُؤتَون أجرهم مرة واحدة لإيمانهم بالكتاب الأول فقط ولأنهم كانوا من قبل الكتاب الثاني (القرآن ) موحدين مخلصين لله مستجيبين له ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ ) .

كل هذا ينفي عنهم الكفر والشّرك وتحريفهم لكتابهم ( الكتاب الأول ) الذي يؤمنون به ومُدِحوا على ذلك !

[ 7 ] ويرثي نصارَى نجران الشهداء :

ففي ( البروج : 4 7 ) : " قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ "

جاء في التفسير : " لقد لعن الله أصحاب الشّق المستطيل في الأرض أصحاب النار ذات الوقود التي أضرموها لعذاب المؤمنين . إذ هُم على حافّتها قعود يشْهَدون عذاب المؤمنين " .

(تفسير المنتخب – سورة البروج – ص 896 - الطبعة السابقة)

ويقول فضيلة د. عبد الجليل شلبي* : " ... وكان ذو نواس آخر ملوك الحِميَرِيين - من ذَوِي التّعَصُّب الشديد ضد المسيحية ، وإليه تُنسَب مذبحة تاريخية في نجران ، ويُقال أنّه أحرق المَسيحيين ، وأنه هو الذي وردت الإشارة إليه في الآية الرابعة وما بعدها من سورة البروج ...

ويقول فضيلته : إنه في سنة 500م** صارت نجران مركزاً للمسيحية وكانت تتبع المذهب المونوفستي القائل بالطبيعة الواحدة وفي سنة 525م دخلها الأحباش وظلّوا بها نحو خمسين عاماً ، فأنشأوا لهم كاتدرائية كبيرة في صنعاء " .

(فضيلة د. عبد الجليل شلبى – الإسلام والمستشرقون – طبعة دار الشعب – ص13، 16 – رقم الإيداع : 1911 / 77 – الترقيم الدولى : ISBN 77-296-57-5)

وذكر البيضاوي قول بعض العلماء : " لمّا تنَصّر نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حِميَر ، فأحرق في الأخاديد مَن لم يَرتَدّ " .

(تفسير البيضاوى – سورة البروج – الجزء الخامس – ص 473 - الطبعة السابقة)

يؤكد ذلك تاريخياً أحمد أمين فيقول : وكان نصارى نجران – على ما يستظهر
( أوليري ) – على مذهب اليعاقبة
( أصحاب الطبيعة الواحدة ) ، وهذا يعلل اتصالهم بالحبشة
( لأنهم كانوا يَعَاقِبَة أيضاً ) أكثر من اتصالهم بالرومان .

(فجر الإسلام – أحمد أمين – ص44 – القراءة للجميع 2000 – الهيئة المصرية العامة للكتاب – رقم الإيداع بدار الكتب 8542/2000 – ISBN 977-01-6692-8)

ما ذكره فضيلة د. عبد الجليل شلبي وما ذكره البيضاوي من قول بعض العلماء وما ذكره أحمد أمين يوضح أن النصارى الذين ذكرهم القرآن ورثاهم واعتبرهم مؤمنين - هم أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة - أي الذين يؤمنون بطبيعة واحدة للمسيح .

وعن طبيعة المسيح وعلاقتها بالتوحيد قال أحمد عبد المعطي حجازي :

" نحن نعرف أن المسيحيين الأرثوذكس عامّةً والأقباط خاصة موحدون ، لا يفصلون في المسيح بين طبيعته البشرية وطبيعته الإلهية كما يفعل الكاثوليك ، بل يعتقدون أنه طبيعة واحدة تجمع بين الكلمة والجسد أو بين الله والإنسان ( يسوع ) ، وهذا هو المذهب المعروف بالمونوفيزم  * ... " .

(الأهرام – 1 يناير 1997م)

لذلك ...

[ 8 ] لم يفضل القرآن المسلمين على اليهود والنّصارى عندما تفاخر كل فريق على الآخر :

" لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً " ( النساء : 123 124 )

أخرج ابن جرير عن مسروق قال : تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء : نحن أفضل منكم ، وقال هؤلاء نحن أفضل منكم ، فأنزل الله : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ) .

وأخرج نحوه عن قتادة والضّحّاك والسدي وأبي صالح ، ولفظهم تفاخر أهل الأديان ،

وفي لفظ : جلس ناس من اليهود وناس من النّصارى وناس من المسلمين فقال هؤلاء :
نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ، فنزلت .

وأخرج أيضاً عن مسروق قال : لما نزلت ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ) قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء ، فنزلت هذه الآية : ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) .             (لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى – ص 171 -  مصدر سابق)

[ 9 ] وأحَلّ زواج الكِتابية يهودية كانت أم نصرانية وحَرّم الزواج من المُشرِكة :

وهذا أيضاً يدخل في موضوع الفصل والتّمييز بين أهل الكتاب وبين الذين كفروا والذين أشركوا ..

ففي ( المائدة : 5 ) : " الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... " الآية .

فهنا نجد القرآن قد أحل زواج الكِتابية في الوقت الذي حَرّم فيه الزواج من المُشرِكة حَتّى تؤمن .

ففي ( البقرة : 221 ) : " وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ... " الآية . لذلك قال قوم من العلماء أن أهل الكتاب ليسوا مُشرِكين .

(نواسخ القرآن للإمام ابن الجوزي ( 508-597 هـ ) – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – ص.ب : 9424/11 – تلكس : Nasher 41245 Le)

وقد جاء في هذا الصدد على لسان الإمام محمد عبده ما يلي :

" إن الكتابية ليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة ، فإنها تؤمن بالله وتعبده وتؤمن بالأنبياء وبالحياة الأخرى وما فيها من الجزاء وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشّر .. الفرق الجوهري والعظيم بينهما هو الإيمان بنبوة محمد ( ص ) ومزاياها في التوحيد والتهذيب ... . فكيف يكون أهل الكتاب كالمشركين في حُكمِه تعالى ؟ " .                    (د. محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية – ص 51 - مصدر سابق)

وفي موضع آخر يقول الإمام : " إن القرآن شرع شريعة الوفاق وقررها في العمل ، فأباح للمسلم أن يتزوج من أهل الكتاب ، وسَوّغ مؤاكلتهم ، وأوصَى أن تكون مجادلتهم بالتي هي أحسن " .

(رسالة التوحيد للإمام محمد عبده – د. محمد عمارة – ص 146 – كتاب الهلال – العدد 355 – شعبان 1400هـ - يوليه 1980م)

ويقول الإمام أيضاً : " وإنما يبعد المسلم عن غيره جهله بحقيقة دينه ، وهذه آيات القرآن شاهدة على ما نقول . إن القرآن وهو منبع الدين يقارب بين المسلمين وأهل الكتاب ، حتّى يظن المتأمّل فيه أنّهم منهم ، لا يختلفون عنهم إلا في أحكام قليلة " .

(كتبها محمد علم الدين – مفتش سابق بالتربية والتعليم – قال : من مقال لحكيم من حكماء المسلمين وإمام من أئمتهم هو المرحوم الشيخ محمد عبده نشرت فى أوائل هذا القرن تحت عنوان ( طبيعة المصريين ) – ( جريدة الأخبار 18/4/1980م – ص 3 )

وفي شرح الآية السابقة يقول فضيلة د. أحمد الشرباصي :

" فقد نَصّت الآية على أنه يجوز للمسلم أن يتزوج المرأة المُحصَنَة من أهل الكتـاب .

 والمسيحية من أهل الكتاب . وقد قرر حل هذا الزواج كثير من الصحابة والتّابعين ، ... .

وكذلك ثبت أن عثمان بن عفان تزوج امرأة مسيحية واسمها " نائلة بنت
القرافصة " ، وعثمان هو الصحابي الجليل والخليفة الراشد الثالث وذو النورين كما يلقب في
الإسلام .    
                (يسألونك فى الدين والحياة – فضيلة د.أحمد الشرباصى ( 1/291 ) - مصدر سابق)

[ 10 ] وأحل ذبائح اليهود والنّصارى وحَرَّم ذبائح الكفار والمشركين : ( المائدة : 5 )

قال فضيلة د. أحمد الشرباصي : " يحل للمسلم أن يأكل من طعام أهل الكتاب كالنصارى وذبائحهم سواء كانوا في الشرق أو في الغرب ، لأن الله تبارك وتعالى يقول     في سورة المائدة : " الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ " . والمراد هنا بالطعام الذبائح واللحوم كما رُوِيَ ذلك عن عبد الله بن عباس وغيره . وقال ابن زيد : أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئاً . وقال أبو الدرداء : إنما هم أهل الكتاب طعامهم حِلٌ لنا وطعامنا حِلٌ لهم ، ولقد أكل رسول الله من شاة قدمتها إليه امرأة يهودية . وكان الصحابة رضوان الله عليهم يأكلون من طعام النّصارى في الشام بلا نكير عليهم .

وقد قرر الفقهاء أن ذبيحة الكِتابي تحل للمسلم إذا كان المسلم لم يحضر حين ذبحها ، أو لم يعلم عن طريقة الذبح شيئاً وسواء أذكر الذابح اسم الله على الذبيحة أو لم يذكره ، لأن الله تعالى أباح لنا ذبيحة الكِتابي وقد علم الله أننا لا نطلع على ذبح كل ذابح ولكن لا تحل للمسلم ذبيحة الوثني الذي يعبد الصنم ولا ذبيحة المجوسي الذي يعبد النار ، ولا ذبيحة مَن لا يَدين بدين ، كما يحرم أكل الذبيحة التي يعلم المسلم أن ذابحها قد ذكر عليها اسم معبود غير الله ، سواء أكان هذا الاسم اسم إنسان أو حيوان أو جماد أو كواكب ، وهذا النوع المُحَرّم من الذبائح هو الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله في سورة المائدة : " ومَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِه " .. لأن الله تبارك وتعالى قد أحل لنا طعامهم ومن الطعام الذبائح " .

(يسألونك فى الدين والحياة – فضيلة د.أحمد الشرباصى ( 1/453 ، 454 ) -  مصدر سابق) 

وفي تفسير الآية السابقة أيضاً قال ابن كثير : " ثم ذكر حُكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى فقال : ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) . قال ابن عباس وأبو أمامة

ومجاهد وسعيد بن جبير وعِكرِمة وعطاء والحَسَن ومَكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيّان : يعني ذبائحهم . وهذا أمر مجمع عليه من العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبائح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ... " .

(تفسير ابن كثير - المجلد الثالث ص36 - الطبعة السابقة)

وهذه النقطة توضح لنا الآتي :

1.  أهل الكتاب يذكرون على ذبائحهم اسم الله بعكس الكفار والمشركين لذلك
أحل القرآن ذبائحهم .

2.    هنا تمييز بين أهل الكتاب وبين المشركين والذين كفروا .

3.    قول النبي (ص ) : " ... ولا يأكل طعامك إلا تَقِيّ "

(رواه أبو داود والترمذى – حديث رقم 365 – رياض الصالحين للنووي – طبعة أولى 1413هـ - 1993م – الدار المصرية اللبنانية – ص 172 ، 365 – كما جاء فى مسند الإمام أحمد ( 3/38 ) – انظر تفسير ابن كثير ( 8/264 ))

يصبح دليلاً على تقوى أهل الكتاب - بحسب الآية القرآنية السابقة وتفاسيرها .

[ 11 ] واكتفى بالجِزيَة* لأهل الكتاب في الوقت الذي أمر فيه بقتال المشركين
        والكفار :

إن الآيات القرآنية في قتال المشركين والكفار كثيرة نذكر منها على سبيل المثال :

" .. فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .. " . ( التوبة : 5 )

" فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ... " . ( محمد : 4 )

أما عن أهل الكتاب ( اليهود والنّصارى ) فقد اكتفى بالجزية . ( التوبة : 29 )

وحقن دماء اليهود والنصارى وإباحة دم الكفار والمشركين يُعَدُّ دليلاً آخر على حرص القرآن على الفصل والتمييز بين اليهود والنّصارى من ناحية وبين الكفار والمشركين من ناحية أخرى .

[ 12 ] وجعل اليهود والنصارى شهوداً مع الله بين النبي والذين كفروا :

ففي ( الرعد : 43 ) : " وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ " .

قال ابن كثير : وقوله : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ، قيل نزلت في عبد الله ابن سلام . وهذا القول غريب ، لأن هذه الآية مَكّيّة ، وعبد الله بن سلام ، إنما أسلم في أول مقدم رسول الله ( ص ) المدينة .

والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس فقال : هم اليهود والنصارى .

(تفسير ابن كثير – سورة الرعد - المجلد الرابع – ص 394 - الطبعة السابقة)

وقول ابن عباس هذا اختاره ابن جرير ( 13/118 ) .

(كتاب مفحمات الأقران فى مبهمات القرآن للسيوطى ص 127 – تحقيق إياد خالد الطبّاع – مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية 1409هـ - 1988م)

يلاحظ هنا أيضاً الفصل بين أهل الكتاب والذين كفروا .

[ 13 ] وأعطى لهم حق المجادلة في الله والدين في الوقت الذي أنكره على الكفار والمشركين :

ففي ( الحج : 8 ) : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ " . وتكررت في ( لقمان : 20 )

قال الجلالان في تفسير ( آل عمران : 184 ) : إن الكتاب المنير هو الكتاب الواضح كالتوراة والإنجيل .                  (تفسير الجلالين –  سورة آل عمران – ص 62 - الطبعة السابقة)

وعليه ، فالتوراة والإنجيل كتابان منيران يحق لأهلهما أن يجادلوا في الدّين - الأمر الذي لا يحق للمشركين والكفار ومَن هُم دون العِلم والهُدى والكِتاب المُنير .

وفي ( الصافات : 154 157 ) : " مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . أَفَلا تَذَكَّرُونَ . أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ . فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " .

جاء في التفسير : ( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ ) أي هاتوا برهاناً على ذلك يكون مستنداً إلى    
( كتاب منزل ) من السماء عن الله .

(تفسير ابن كثير – سورة الصافات - المجلد السابع – ص 37 - الطبعة السابقة)

وفي ( فاطر : 40 ) : " أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ " .

جاء قي التفسير ( بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) حُجّة منه .

(تفسير الجلالين – سورة فاطر – ص 368 - الطبعة السابقة)

وفي ( القلم "ن" : 35 37 ) : " أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ " .

جاء في التفسير : أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف متضمن حكماً مؤكداً كما تدعونه ؟  .

(تفسير ابن كثير – سورة القلم - المجلد الثامن – ص 224 - الطبعة السابقة)

وفي ( الزخرف : 21 ) : " أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ " .

جاء في التفسير : ( مِنْ قَبْلِهِ ) أي من قبل القرآن .

(المصدر السابق – سورة الزخرف - المجلد السابع – ص211 ، تفسير الجلالين
ص412 - الطبعة السابقة)

كل هذه الآيات جاءت في مُشرِكِي العرب وأنكرت عليهم المجادلة في الدّين والله لأنه ليس لهم عِلم ولا هُدَىً ولا كتاب منير واضح مُنزَل من السماء كالتوراة والإنجيل على بينة أو حجة منه يدرسونه ويحفظونه ويتداولونه بنقل الخلف عن السّلَف .

أما أهل الكتاب فقد توَفَّرَت فيهم من الصفات ما أنكره القرآن على المشركين ، لذلك أعطاهم القرآن حق المجادلة في الدّين .

ففي ( العنكبوت : 46 ) : " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ".

وهذا أيضاً تميِيز لأهل الكتاب عن الكفار والمشركين .

ولم يُعطِ القرآن اليهود والنّصارَى حق المجادلة في الله فقط بل الأكثر من ذلك
نجده : 

[ 14 ] يضع اليهود والنصارى في مركز الإفتاء في الدّين ( المرجع ) :

ففي ( الزخرف : 45 ) : " وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ " .

جاء في تفسير ابن كثير : " قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود :

( وَاسْأَلْ الذين أَرْسَلْنَا إليهم قَبْلكَ رُسُلنَا ) . وهكذا حكاه قتادة والضّحاك والسدي عن ابن مسعود واختار هذا التفسير ابن جرير ".

(تفسير ابن كثير – سورة الزخرف - المجلد السابع – ص 217 - الطبعة السابقة)

وجاء في الجلالين : وقيل المراد أُمم من أي أهل الكتابين ...

(تفسير الجلالين – سورة الزخرف – ص 414 - الطبعة السابقة)

وقال البيضاوي : أي واسأل أممهم وعلماء دينهم .

(تفسير البيضاوى – سورة الزخرف – الجزء الخامس – ص147 - الطبعة السابقة)

وجاء في تفسير المُنتَخَب : وانظر في شرائع مَن أرسلنا مِن قبلِك من رسلنا ، أجاءت فيها دعوة الناس إلى عبادة غير الله ! لم يجيء ذلك ، ...

(تفسير المنتخب – سورة الزخرف – ص 728 - الطبعة السابقة)

وفي ( يونس :  94 ) : " فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ " .

قال الجلالان : ( فَإِنْ كُنْتَ ) يا محمد ( فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ) من القَصص فرضاً ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ ) التوراة ( مِنْ قَبْلِكَ ) فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصِدقِه .                              

(تفسير الجلالين – سورة يونس – ص 79 - الطبعة السابقة)

وجاء في تفسير المُنتَخَب : " فإن سَاوَرَك أو ساوَرَ أحداً غيرك شكٌ فيما أنزلنا من وَحْيٍ ، فاسأل أهل الكُتُب السابقة المنزلة على أنبيائهم ، تجد عندهم الجواب القاطع .. فلا تُجَارِ غيرك في الشّك والتردد " .

(تفسير المنتخب – سورة يونس ص 302 - الطبعة السابقة)

وقد كان النبي ( ص ) يسألهم فعلاً انظر النقطة [ 20 ] من هذا الفصل   مصدر رقم ( 90 ) .

وفي ( النحل : 43 ) ، ومؤكدة في ( الأنبياء : 7 ) : يقول لمُشرِكي مكة :

" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ " .

جاء في تفسير الجلالين : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) العلماء بالتوراة والإنجيل ( إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ذلك فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد .

(تفسير الجلالين – ص 224 ، 269 - الطبعة السابقة)

وجاء في تفسير ابن كثير : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) يعني أهل الكُتُب المُتقدِّمة وهكذا رُوي عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أن المراد بأهل الذِّكر : أهل الكتاب ، وقاله مجاهد والأعمش .

(تفسير ابن كثير - المجلد الرابع ص 492 ، المجلد الخامس ص 327 - الطبعة السابقة)

هنا ونذكر ما قاله طيب تيزيني في صفات أهل الذِّكر قال :

" الذين يعرفون ( النحل : 43 ) عمقاً وعمقاً الله فيخشَونه ( فاطر : 28 ) ،
ويتقربون منه ( آل عمران : 31 ) ، ويتوكلون عليه ( الأحزاب : 3 ) ، ويحبونه واثقين به

 وبرحمته ، غير قانطين ( الزمر : 53 ) .

(النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة – دار الينابيع – دمشق ص.ب : 6348 – طبعة 1997 ص 294)

مما سبق كان من الطبيعي أن يقول المستشار محمد سعيد العشماوي :

" فالقرآن حَثّ على احترام الشرائع الأخرى ، وأمر بسؤال أهل اليهودية والمسيحية عَمّا غُمّ أمره علينا ، بل وأمر بإقامة التوراة والإنجيل .. ثم ذكر الآيات ( البقرة : 62 ) ،
( النحل : 43 ) ، ( المائدة : 43 ، 44 ) , ( المائدة : 47 )
وهي آيات في حق أهل الكتاب ثم قال : فدِراسة ما قبل الإسلام ليست مما ينهَى عنه الإسلام ، بل هي ما يأمر
به ... "

(أصول الشريعة للمستشار محمد سعيد العشماوى – مكتبة مدبولى الصغير – الطبعة الرابعة –  1416هـ - 1996م – رقم الإيداع 9339/95 – ص 84)

يمكن تلخيص هذه النقطة في الآتي :

1.    وضع القرآن العلماء بالتوراة والإنجيل في مركز الإفتاء في الدّين .

2.  أن القرآن يحيل النّبي ( ص ) والمؤمنين والكفار إلى اليهود والنصارى لِكَي يستفتوهم فيما يرتابون فيه من أمور الدّين ( خاصة عقيدة التوحيد ) لأن عندهم الجواب القاطع كما جاء في تفسير المُنتَخَب .

3.  تكرار آيات الإحالة لأهل التوراة والإنجيل يؤكد جدارتهم واستحقاقهم لهذا الوضع وهذا المركز لأنهم يعلمون كما قال الجلالان .

4.    صفات أهل الكتاب التي ذكرها طيب تيزيني مستشهِداً بالآيات القرآنية تؤكّد هذه الجدارة وهذا الاستحقاق .

5.  صدق أهل الكتاب أهل الذّكر وعدم كتمانهم الحق يؤكد أيضاً هذه الجدارة وهذا الاستحقاق حيث قال الجلالان ( فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصِدقِه ) .

ألا نتعجب بعد ذلك مِمَّن يقول أن الكتب التي كانت في أيدي أولئك العلماء من أهل الذكر مُحَرَّفَة !! أو أن أهل الذكر هؤلاء الذين جعلهم القرآن مرجعاً في الدين حرّفوا كتابهم الذي جاءهم من ربهم !!

[ 15 ] وأمَر المسلمين أن يَبَرّوهم ( اليهود والنّصارى ) ويُقسِطوا إليهم :

ففي ( المُمتَحنة : 8 ) : " لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " .

قال الأستاذ الشيخ محمود أبو رَيّة : وأمرنا الله أن نَبَرّ أهل الكتاب ونُقسِط
إليهم .
                         (دين الله واحد – تأليف محمود أبو رية – دار الكرنك للنشر – ص 68)

فلو كان اليهود والنّصارَى حرّفوا كتابَهم لَما أمر القرآن بذلك كما أن ذلك يتنافَى مع الشّرك والكُفر حيث أنّ رأي القرآن واضح في المشركين والكُفّار – فلا بر ولا
قِسط
( النقطة [ 11 ] والنقطة [ 18 ] ) .

[ 16 ] وجعل أماكن العبادة لليهود والنصارى والمسلمين متساوية يُذكر فيها جميعاً اسم
الله
:

ففي ( الحج : 40 ) : " وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ... " .

جاء في تفسير المنتخب : ولولا أن الله سَخّر للحق أعواناً ينصرونه ويدفعون عنه طغيان الظالمين لَساد الباطل ، وتمادَى الطُّغاة ، وأخمَدوا صوت الحق . ولم يتركوا للنصارى كنائس ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود معابد ، ولا للمسلمين مساجد يُذكر فيها اسم الله ذكراً كثيراً ...

(تفسير المنتخب – سورة الحج – ص 494 - الطبعة السابقة)

وفي تفسير الجلالين : ( صَوَامِعُ ) الرهبان ( وَبِيَعٌ ) كنائس للنصارى و ( صَلَوَاتٌ ) كنائس لليهود بالعبرانية ( وَمَسَاجِدُ ) للمسلمين ( يُذْكَرُ فِيهَا ) أي في المواضع المذكورة ( اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) وتنقطع العبادات بخرابها .                          (تفسير الجلالين – سورة الحج – ص 281 - الطبعة السابقة)

نفس هذه التفاسير ذكرها ابن كثير في تفسيره ونقل عن الضحاك قوله : الجميع يُذكر فيها اسم الله كثيراً .                (تفسير ابن كثير – سورة الحج - المجلد الخامس – ص 432 ، 433 - الطبعة السابقة)

إذاً فصوامع الرهبان وكنائس النصارى وصلوات اليهود يُذكر فيها اسم الله كثيراً كما يذكر في المساجد وأن الله يدفع بعض الناس ببعض حتى لا تنقطع العبادات بخراب الأماكن المذكورة ويخمد صوت الحق .

[ 17 ] وأن إله اليهود والنصارى وإله المسلمين واحد :

ففي ( العنكبوت : 46 ) : " .. وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " .

جاء في تفسير المنتخب : وقولوا .. صدّقنا بما أنزل الله إلينا من القرآن وما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل ومعبودنا ومعبودكم واحد ، ونحن له وحده مُنقادون .

(تفسير المنتخب – سورة العنكبوت – ص 598 - الطبعة السابقة)

إذن يتضح من الآية أن إله المسلمين واليهود والنصارى إله واحد الكل له منقادون .

كل ذلك يتنافَى مع كَون اليهود والنّصارى كَفَرَة أو مشركين كما يتنافَى مع اتباعهم كتاب محرف !

[ 18 ] ويأمر النبي ( ص ) أن يلين في خطابه مع أهل الكتاب في الوقت الذي أمره وأصحابه أن يكونوا أشداء على الكفار :

ففي ( سبأ : 24 ) : " وإِنَّا أَو إيَّاكُم لعَلَى هُدَىً أو فِي ضلالٍ مُبِين " .

قال فضيلة د. أحمد الشرباصي : لقد أمر الله تعالى نبيه ( ص ) أن يلين في خطابه مع أهل الكتاب بقوله : " وإِنَّا أَو إيَّاكُم لعَلَى هُدَىً أو فِي ضلالٍ مُبِين " .

(يسألونك فى الدين والحياة – فضيلة د.أحمد الشرباصى - المجلد الثانى ص 641 -  مصدر سابق)

أما بالنسبة للكفار فقد جاء الآتي : " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذين مَعَه أشِدَّاءُ على الكُفَّار.." ( الفتح : 29)، كذلك أمر النبي ( ص ) والمؤمنين بحُسن مجادلة أهل الكتاب ( العنكبوت : 46 ) في الوقت الذي أنكر على المشركين المجادلة في الدين – النقطة [ 13 ] .

[ 19 ] ودعاهم أهل الكتاب وأهل الذِّكر : ( انظر النقطة [ 14 ] ) .

يقول محمد آركون* :  ... بالطبع فإن موقف الإسلام إزاء اليهودية والمسيحية
مختلف ، فاليهود والمسيحيون مُعتَبرون بمثابة
أهل الكتاب ( كتبها هكذا بخط مُشَدَّد ) فقد تلقوا الوحي من خلال أنبياء مُعتَرَف بهم ومُبَجَّلين ...

(الفِكر الإسلامى – نقد واجتهاد – محمد أركون – ترجمة وتعليق هاشم صالح – ص 143 ، 144 – دار الساقي – طبعة ثالثة 1998 – بيروت لبنان – لندن)

        وصفة أهل الذكر وأهل الكتاب تتنافى مع تحريفهم الكتاب ‍‍‍!

[ 20 ] وجعل الذين اتبعوا المسيح فوق الذين كفروا بالمسيح إلى يوم القيامة : ( آل عمران : 55 )

        ووجود مؤمنين بالمسيح وتابعين له إلى يوم القيامة دليل على وجود إنجيل سليم يقود إلى الإيمان بالمسيح إلى يوم القيامة .

[ 21 ] واعتبر نصر الروم ( النصارى ) على الفُرس نصر الله وقال حينئذٍ يفرح المؤمنون :

ففي ( الروم : 1 5 ) : " الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " .

[ تقول د. عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ )** :

كان النبي عليه الصلاة والسلام يرقب الصراع الدامي بين الفرس والروم ، وقد آلَمَه انتصار الفُرس المجوس على الروم أهل الكتاب ...

وتقول في موضع آخر : في أسباب النزول روى ( الترمذي ) من حديث ابن عباس ودينار بن مكرم الأسلَمِي ، أن الآيات نزلت وفارس غالبة على الروم ، وكان المسلمون يحبّون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم أهل أوثان " .

وقالت أيضاً : " كان هرقل يقاتل في تخليص الشعب والصليب من أعداء الصليب .. "

حتى كانت الموقعة الحاسمة قرب المدائن في فبراير 628م ، فَرّ كِسرَى بعدها هارباً ذليلاً ... إلخ .

" وأعيد الصندوق الذي فيه الصليب المقدّس إلى هرقل لم يمسسه سوء " ] .

(الأهرام الخميس 27/4/1995 ، الخميس 4/5/1995 . انظر أيضا أسباب نزول ( الروم : 1 ) للواحدى – ص 288 -  مصدر سابق)

لعل موقف القرآن هذا من الروم ( النصارى ) هو الذي جعل النبي ( ص ) يتمَنّى انتصار الروم ويدعو لامبراطور الروم قائلاً : " ثَبّت الله مُلكَه " .

(دولة يثرب – بصائر فى عام الوفود – خليل عبد الكريم – ص 122 – سينا للنشر – الانتشار العربى ( بيروت – لندن ) – الطبعة الأولى 1999م)

كل ما سبق كان نتيجته الطبيعية أن ...

[ 22 ] يَعِد القرآن اليهود والنصارى بالفوز والنّجاة :

ففي ( البقرة : 62 ) : " إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَــنْ

ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ " .

والوعد يتأكد عندما تتكرر الآية في سورة أخرى ...

ففي ( المائدة : 69 ) : " إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ " .

" يقول صاحب تفسير المنار ( جـ7 ص 277 ) تعليقاً على هذه الآية القرآنية الكريمة : " بيان أصول الدين الإلهي على ألسِنة الرُّسُل كلهم هي الإيمان بالله واليوم الآخر ، والعمل الصالح فمَن أقامها من أيّة مِلّة من مِلل الرّسُل كاليهود والنّصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..  

(القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة – د. محمد أحمد خلف الله – ص 54 – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة الأولى 1982)

وقال أيضاً في تفسيره : " ولا إشكال في عدم اشتراط الإيمان
بالنّبي ( صلعم ) .

(تيارات منحرفة فى التفكير الديني المعاصر – د. على العمّارى – ص 57 – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة – العدد 169 – السنة الخامسة عشر 1395هـ / 1975م . يشرف على إصدارها محمد توفيق عويضة)

لذلك يقول د. محمد عمارة : [ فالفوز بأجر الله سبحانه وثوابه والنّجاة من العذاب الذي تحدث عنه القرآن في وعيده الذي توعد به العُصاة والسّعادة الإلهية التي تنفي الحُزن كل ذلك حق وعد به الله سبحانه لا المسلمين المؤمنين بالشريعة المُحَمّدية فقط ، وإنما مُطلَق المُتَدَيِّنين بالدين الإلهي الذين جمعوا إلى إيمانهم بالألوهية الإيمان بالجزاء والحساب وعملوا لذلك عملاً صالحاً .. جميع هؤلاء قد صدق الله لهم الوعد بالنجاة والسعادة والأمن سواء منهم الذين آمَنوا بشريعة محمد ، أو موسى أو عيسى وكذلك الصابِئة " ولعلهم الحُنفاء " وفي ذلك يقول الله سبحانه " إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ .. " ( البقرة : 62 ) ، ونفس المعنى يتأكّد عندما يتكرر في موطن آخر تقول آيته : " إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى " ( المائدة : 69 ) . ولقد جاءت الآية الأولى بعد آية نزلت لتقريع اليهود وتحدّثت كيف أنه قد " ضُرِبَت عَلَيْهِمُ الذِّلّةُ والمَسْكَنَةُ وباءوا بغَضَبٍ مِن الله .. " : فجاءت هذه الآية .. كما يقول الإمام محمد عبده : " بمنزلة الاستثناء من حُكم الآية السابقة .. تبشر بالنجاة جميع مَن تمَسَّك بهَدي نبي سابق وانتسب إلى شريعة سماوية
ماضية .. " ]

(د. محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية – ص 113 : 116 -  مصدر سابق – الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ 4 ص 199)

ويقول د. محمد شحرور : " لذا فقد ورد الموقف الإلهي من الناس كافة في قوله
تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ .. ) الآية . نلاحظ هنا أن هذه الآية تنطبق على كل أديان أهل الأرض السماوية منها وغيرها ، والشرط الأساسي هنا الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح .. والصابئون هنا من صبأ ( خرج ) عن ديانة موسى وعيسى ومحمد ولكنه مؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً " .

(الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة – د. محمد شحرور – سينا للنشر/القاهرة – الأهالي للنشر/دمشق – ص.ب : 9503 – ص 721 ، 722)

وقال سامر إسلامبولي في صدد هذه الآية أيضاً :

فالمقياس لدخول الجنة ليس هو الأسماء والصفات وإنما هو : الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح . فمَن يتحقق به ذلك فالجنة مأواه قَطعاً لا شك بذلك أبداً . ولن يكون أحد فكاك الآخر من النار لأن العدل سوف يعم الجميع وكذلك الرحمة سوف تَسَع الجميع .

(تحرير العقل من النّقل ... – سامر إسلامبولي – ص 235 – الأوائل للنشر – سورية دمشق - ص.ب : 3397 – الطبعة الأولى 2000 – موافقة وزارة الإعلام رقم 42586 – 1999)

ويقول د. محمد أحمد خلف الله :

[ ومن المفسرين للقرآن الكريم مَن يرى أنه في قوله تعالى :

" إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ " يرى فيها أن الالتقاء عند الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعند العمل الصالح الذي يصلح به حال الفرد وحال المجتمع كفيل بتحقيق الأمن للإنسان الأمن في الدنيا والأمن في الآخرة أي أن الأمن في الحياتَين يتحقق مع اختلاف الأديان ما دام هناك إيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالح " .

(د. محمد خلف الله – العروبة والدولة العلمانية – مجلة المستقبل العربى – 1 / 1979)

وفي كتاب دين الله واحد[1] جاء :

فكُل مَن يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويعمل صالحاً فهو ناجٍ بفضل الله إن شاء الله ذلك بأن هذه الصفات الثلاث هي أركان الدّين الأساسية على لسان كل رسول ، فمَن اتّبع أحكامها ، وأقام أصولها ، من أي دين كان فاز برضوان الله ، ومن أخَلّ بشيء منها ، واتبع هواه ، فأمره إذن إلى الله إن شاء رحمه ، وإن شاء عَذّبه ...         (تيارات منحرفة فى التفكير الديني المعاصر للدكتور على العمارى – ص 44،49 -  مصدر سابق)

هل هذا الحكم والذي جاء في الآيتين السابقتين ( البقرة : 62 ) و ( المائدة : 69 ) خاص بأهل كتاب مُعَيَّنين ؟

يرُد المستشار محمد سعيد عشماوي قائلاً :

" ولقد يقال أن حكم القرآن الكريم خاص بأهل الكتاب أيام التنزيل وفي عهد النبي
( صلعم ) وأن عقائدهم قد اختلفت الآن فلم يعودوا أهل الكتاب المقصودين في القرآن .

وهذا القول يُنكِر الحقائق التاريخية لكَي يفسد حكم الإسلام . فعقائد أهل الكتاب يهود ونصارى كانت قد استقرت قبل البعثة النبوية ، وهي لم تتغير قط في أساسياتها منذ عصر التنزيل حتى الآن .

فعَلَى الذي يفسر القرآن الكريم أن يرعَى الله في التفسير وعلى كل مُسلِم أن يُدرِك الحُكم الصحيح في القرآن للعلاقة بين المسلم والكِتابي " .

(مقالة للمستشار محمد سعيد العشماوى – الأهرام – 14/7/1992)

ويقول فضيلة الدكتور أحمد الشرباصي ( الأستاذ بجامعة الأزهر ) عندما كان يتكلم عن زواج المسلم من الكِتابِيّة :

" وليس هناك فرق في هذا الحكم بين أهل الكتاب في الزمن القديم وأهل الكتاب في الزمن الحديث فالكل أبناء دين واحد " .

(يسألونك فى الدين والحياة – فضيلة د.أحمد الشرباصى ( 1/221 ، 222 ) -  مصدر سابق)

ويقول د. محمد شحرور : " ... لأن كلاً من التوراة والإنجيل الحالِيَّين هُما نفس التوراة والإنجيل في القرن السابع .

(الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة – د. محمد شحرور – ص 88 ، 89 -  مصدر سابق)

وهذا يؤيد كلام المستشار العشماوي في أن عقائد أهل الكتاب لم تتغير في أساسياتها منذ عصر التنزيل وحتى الآن كما يؤيد قول فضيلة د. أحمد الشرباصي .

ملحوظة : الآية السابقة ( البقرة : 62 ) والمؤكدة في ( المائدة : 69 ) قد يقول البعض بأنها منسوخة* بالآية التي تقول : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " .  (آل عمران : 85 )

الـرد :

أ. هذه الآية خبريّة والخبر لا يُنسَخ  لأن العلماء قالوا : إن نسخ الخبر يجعل الله كاذباً ( حاشا ) وذلك مُحال وقول عظيم يؤول إلى الكُفر .

(نواسخ القرآن لابن الجوزى القرشى البغدادى – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – ص 22 – ص.ب : 9424/11)

ب. لم يكن من الممكن أن تُنسَخ هذه الآيات بآيات قرآنية من سورة أخرى لأن سورة البقرة مدنية ( أي نزلت بعد حوالي 13 سنة من بداية البعثة النبوية ) - والأكثر من ذلك أن سورة المائدة آخر سورة نزلت وإليك الدليل :

" روى الترمذي عن عبد الله بن عمر - قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة
والفتح . وقد روى الحاكم في مستدركه ( 2/311 ) عن طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي. ثم قال : صحيح على شرط الشّيخَين ولم يُخرِجاه . وروى الحاكم أيضاً عن جبير بن نفير قال : " حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير ، تقرأ المائدة ؟ فقلت نعم . فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه وما وجدتم فيها حراماً فحرّموه . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ( يعني البخاري والمسلم ) ولم يُخرِجاه .

ورواه الإمام أحمد في مُسنَدِه ( 6/188 ) عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح . ورواه النّسائي من حديث ابن مهدي " .

(تفسير ابن كثير – سورة المائدة - المجلد الثالث – ص3 - الطبعة السابقة)

وفي المرجع " يسألونك في الدين والحياة " لفضيلة د. أحمد الشرباصي جاء : " إن آخر سورة نزلت هي سورة المائدة نزلت بعد الفتح والتوبة .

(يسألونك فى الدين والحياة – فضيلة د.أحمد الشرباصى ( 1/315 ) - مصدر سابق)

وقال الجلالان : سورة المائدة مدنية إلا آية ( 3 ) فنزلت بعرفات بحجة الوداع وآياتها 120 نزلت بعد الفتح . وقال الزركشي في البرهان : آخر ما نزل المائدة .  

(تفسير الجلالين – سورة المائدة – ص 87 -  مصدر سابق . انظر أيضاً قول الزركشي في ( كتاب تأريخ القرآن – دار المؤرخ العربي – ص55 – طبعة أولى 1999م – 1420هـ - بيروت لبنان ) – انظر أيضاً مع الشيعة الاثنى عشرية – أ.د علي أحمد السالوس أستاذ الفقه والأصول بكليات الشريعة – ج4 ص37 – دار التقوى للنشر – إيداع 5573/1997م – ISBN 977-5242-24-x)

جـ . لم يكن من الممكن أن تنسخ ( المائدة : 69 ) بآية أخرى من نفس السورة حيث يقال أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة . وإليك الدليل :

" روى الإمام أحمد في مُسنَدِه : عن أسماء بنت زيد قالت : إني لآخذ بزمام العصباء ناقة رسول الله (ص) إذ نزلت عليه " المائدة " كلها وكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة " .

وروى ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها : " أنه كان في مسير مع رسول الله
( ص ) فنزلت عليه " المائدة " فانْدَقّ عنق الراحلة من ثقلها .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله ( ص ) سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها " .

(انظر تفسير ابن كثير – سورة المائدة - المجلد الثالث – ص3 - الطبعة السابقة)

ثم كيف تنسخ آية مكررة والتكرار يفيد التوكيد ؟!

د. كما أن هذا المفهوم ( شروط الفوز والنجاة في الآخرة ) يتأكّد في آيات أخرى :

فمثلاً : في ( البقرة : 111 ، 112 ) : " وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ " .

قال ابن كثير : ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحسِن ) ، أي مَن أخلص العمل لله وحده لا شريك له .

وقال أبو العالية والربيع : ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) ، يقول مَن أخلص لله .

(تفسير ابن كثير - سورة البقرة - المجلد الأول – ص 222 - الطبعة السابقة)

ونفس التفسير قاله البيضاوي : أخلص له نفسه أو قصده .

(تفسير البيضاوى - سورة البقرة – الجزء الأول – ص 384 - الطبعة السابقة)

وقال الجلالان : ( مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) أي انقاد لأمره .

(تفسير الجلالين – سورة البقرة – ص 16 - الطبعة السابقة)

وفي تفسير المُنتخب : الذين يخلصون لله ويتبعون الحق ، ويحسنون ما يؤدّونه من أعمال .

(تفسير المنتخب - سورة البقرة – ص 25 - الطبعة السابقة)

وضح الآن المقياس للفوز والنجاة ودخول الجنة ألا وهو إسلام الوجه لله أي الإيمان به وباليوم الآخر والانقياد لأمره والإخلاص له وحده مع الأعمال الحسنة .

وفي ضوء هذا يمكن فَهم ( آل عمران : 85 ) : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " .

حيث أن كلمة " مسلماً " تعني مطيعاً .. ومسلماً وجهه لله سبحانه ولا تعني أن يكون بالضرورة على شريعة نبي الإسلام .          (د. محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية – ص 47 : 49 -  مصدر سابق)

تصَوّر .. بعد كل ذلك نجد البعض يحلو لهم تكفير أهل الكتاب !!

على العموم هذا ليس أمراً غريباً ، فهؤلاء البعض يكفرون بعضهم البعض أيضاً يقول د. علي عبد الفتاح المغربي : " .. فكل فريق يزعم أنه يمثل جماعة المؤمنين ويحاول أن يطرد خصومه من حظيرة الإيمان ، بالسيف تارة وبالفكر تارة أخرى ، وامتد تعقّب كل فريق لخصمه بالحكم على مصيره في الآخرة وأنه مطرود من رحمة الله ويخلد في النار ، ... " .

(حقيقة الخلاف بين المتكلمين – د. على عبد الفتاح المغربي – كلية الآداب – جامعة عين شمس – ص 53 – الناشر : مكتبة وهبة بعابدين القاهرة – طبعة أولى 1415هـ 1994م – رقم الإيداع 5982/94 – ( I.S.B.N : 977 – 225 – 054 – 3)

    كذلك لو كانت التوراة والإنجيل قد لحقهما التحريف ما كان النبي ( ص ) :

1.               يبيح للصحابة أن ينقلوا عن أقاويل أهل الكتاب :

روى البخاري عن عبد الله بن عمرو : " كان عبد الله بن مسعود وابن عباس ينقلون عن أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله ( ص ) حيث قال : " بلِّغوا عنّي ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرَج " .

(تفسير ابن كثير - المجلد الأول – ص 41 - الطبعة السابقة)

2.               ويصدّق ما يقوله أهل الكتاب في الدين :

جاء في الصحيحين البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : " لما قَدِم النبي ( صلعم ) المدينة واليهود تصوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على
فرعون ، فقال : " نحن أولى بموسى ، فصوموه " .

(تفسير ابن كثير - المجلد الخامس – ص 301 - الطبعة السابقة)

3.               ويستمع للإنجيل بقراءة النصارى :

ففي أسباب نزول ( النحل : 103 ) : أخرج أبي حاتم من طريق حصين عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان* : أحدهما يقال له يسار والآخر جبر ، وكانا صقليين فكانا يقرآن كتابهما ويعلمان علمهما وكان رسول الله ( صلعم ) يمر بهما فيستمع قراءتهما : فقالوا : إنما يتعلم منهما . فنزلت .

(لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى – النحل/103 - ص 264 - مصدر سابق)

4.               ويسأل أهل الكتاب في الدّين :

ففي تفسير ( آل عمران : 188 ) وأسباب نزولها : قال ابن عباس : سألهم ( يقصد يهود المدينة ) النبي (صلعم ) عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره ...

(تفسير ابن كثير -  سورة آل عمران - المجلد الثانى – ص 157 - الطبعة السابقة – وانظر أسباب نزول ( آل عمران:188) للسيوطى)

5.               وكان يأخذ بقَسَم اليهودي عند التنازع بين مسلم ليس عنده بينة ويهودي .

(أسباب نزول ( آل عمران : 77 ) للسيوطى – ص 110 -  مصدر سابق)

6.               ويصَلّي على النّجاشي ( ملك الحبشة ) وقد مات على دين النصارى :

سيأتي التفصيل والشاهد انظر الفصل الثالث .

7.               ويعجب بشهداء النصرانية :

جاء في السُّنّة النبوية : " إن مَن كان قبلكم كان ( أحدهم ) يوضع الميشار على مفرق رأسه

فيخلص إلى قدمَيه . لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه " .               (تفسير ابن كثير - سورة البقرة - المجلد الأول – ص 366 - الطبعة السابقة)

آيات قرآنية أخرى تفيد سلامة التوراة والإنجيل قبل وأثناء ظهور الإسلام

1.               ففي ( البقرة : 44 ) : " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ " .

قال قتادة : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبالبِر ويخالفون ، فعيّرهم الله عز
وجل . وكذلك قال السدِي .

(تفسير ابن كثير - سورة البقرة - المجلد الأول – ص 121 - الطبعة السابقة)

فهل يستطيع اليهود أن يأمروا الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر وهم يتلون كتاباً
محرفاً ؟!
طبعاً لا وإلا ما كان القرآن عيّرهم بمخالفة الحق الذي في الكتاب !

2.               وفي ( الجمعة : 5 ) : " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا   " .

قال فضيلة د. أحمد الشرباصي في هذه الآية : " .. وكأن الآية تقول أن أولئك الذين حُمِّلوا التوراة ، أي كُلِّفوا أن يعملوا بها ، من الحمالة بمعنى الكفالة ، أي أمرهم الله بتنفيذ ما فيها ، " ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا " أي لم يستجيبوا لأمر الله . ولم ينفذوا ما تأمرهم به التوراة ، ولم يؤدّوا حقها ، ولم يحملوها حق حَملِها ، ولم يعملوا بما فيها ، ( كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) والأسفار جمع سِفر ، وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر عن المعنى ، أي يكشفه ويُظهِره .

فشَبَّهَهُم والتوراة معهم ، ولكنهم لا ينفذون أحكامها بحمار يحمل كُتُباً على ظهره ، وليس له من ذلك إلا التعب في الحمل من غير انتفاع بما يحمله ، فاليهود ليس لهم في كتابهم إلا إقامة الحُجّة عليهم " .

(يسألونك فى الدين والحياة – المجلد الأول – ص 401 -  مصدر سابق)

فهُنا يأخذ القرآن على اليهود أنهم لم يعملوا بالتوراة ولم يبالوا بأمر الله بتنفيذ ما فيها ، فلذلك شبههم والتوراة معهم ولكنهم لا يعملون بها بالحِمار الذي يحمل كُتُباً على ظهره فلا ينتفع بها لذلك فليس لهم في كتابهم إلا إقامة الحُجّة عليهم . فهَل تقام الحجة عليهم من كتاب مُحَرّف ؟!

كذلك تشبيه اليهود بالحمار يحمل التوراة دليل على عدم استطاعتهم مس كتاب الله وتحريفه لأن هذا ما لا يستطيعه الحِمار !

إذاً فالعيب ليس في التوراة ولكن في اليهود الذين حملوها دون انتفاع بها .

ومَن يتأمل في الحديث التالي يجد نفس المعنى :

3.               روى ابن ماجة والإمام أحمد في مُسنَدِه عن زياد بن لبيد قال :

ذكر النبي ( ص ) شيئاً فقال : وذاك عند ذهاب العلم . قال قُلنا يا رسول الله ، وكيف يذهب العِلم ونحن نقرأ القرآن ونُقرِئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءَهم إلى يوم القيامة ؟ قال : ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ، إن كنت لأراك [ من ] أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء . قال ابن كثير : الإسناد صحيح .

(تفسير ابن كثير - المجلد الثالث – ص 140 - الطبعة السابقة)

وفي لفظ ابن أبي حاتم .. قال : ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة . أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ، فما أغنَى عنهم حين تركوا
أمر الله . ثم قرأ ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) .               (المصدر السابق)

إذاً فالمشكلة هنا في بعض اليهود والنصارى الموجودين في الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام وليس في التوراة والإنجيل الذَين يحتويا على أمر الله وعلى المنفعة أما باقية أهل الكتاب فإنهم يتلونه حق تلاوته .. ( البقرة : 121 انظر النقطة [ 2 ] تحت عنوان : نظرة القرآن إلى اليهود والنصارى ) .

كذلك يشير الحديث أن ذلك سيحدث مع المسلمين أيضاً رغم استمرار وجود القرآن معهم أيضاً إلى يوم القيامة . فهل العيب في الكتب المقدسة التي بأيدي الناس أم في الناس أنفسهم لأنهم تركوا ما فيها من الحق !!

كذلك لو أن التوراة والإنجيل قد لحقهما التحريف لكان هناك عذر لليهود والنصارى في مخالفتها وعدم الانتفاع بها ولاستخدم النبي ( ص ) عبارات غير ( ولا ينتفعون بما فيهما بشيء ) ، أو ( تركوا أمر الله ) ولما قرأ ( ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل .. ) .

4. وفي تفسير ( البقرة : 91 ) : قال ابن كثير : ثم قال تعالى ( فَلِمَ تَقتُلونَ أنْبِياء الله إن كُنتُم صادِقين) أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلِمَ قتلتم

الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها ، ..

فالكلام هنا موجّه لليهود في وقت ظهور الإسلام . وهنا اعتراف بأن الأنبياء جاءوا بتصديق التوراة التي بأيديهم ( أي بأيدي اليهود وقت الإسلام ) والحكم بها وعدم نسخها . وهذا دليل آخر على صحة التوراة التي بأيدي اليهود وقت ظهور الإسلام .

* العطف يقتضي المغايرة قاله علماء النحو والبلاغة . ( انظر دكتور عبد المتعال الجبري في كتابه " شطحات مصطفى محمود .. ص 44 ، ص 168 دار الاعتصام رقم إيداع  5580/1976 الترقيم الدولي  0 59 7065  ISBN   )

* مسلماً تعني مطيعاً .. ومسلماً وجهه لله سبحانه ولا تعني أن يكون بالضرورة على شريعة نبي الإسلام ، فالقرآن يخبر أن إبراهيم كان مسلماً رغم أنه لم يكن على شريعة نبي الإسلام . ( د. محمد عمارة الإسلام والوحدة الوطنية ص 47 : 49 مصدر سابق). والحديث يقول : المسلم مَن سلم المسلمون من يده ولسانه .

* عمل مدرساً بالمعاهد الأزهرية ، وأميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية ( الأهرام 15/2/1995م )

** أي قبل الإسلام بحوالي قرن من الزمان .

* المونوفيزم  = الطبيعة الواحدة .

* قال كثير من المفكرين الإسلاميين أن الجزية وضعت على أهل الكتاب مقابل عدم اشتراكهم في الحروب الإسلامية ودفاع المسلمين عنهم كما أنها مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون .

*  أستاذ مؤرخ في جامعة السوربون – فرنسا .

** هي أستاذ التفسير والدراسات العُليا بكليات الشريعة .. ( الأهرام 13/5/1986م ) .

[1] للشيخ محمود أبو رية

* النسخ في القرآن هو إلغاء آية أو إبطال مفعولها بآية أخرى .

* كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل فكان رسول الله إذا مَرّ عليهما وقف يسمع ما يقرآن .

الصفحة الرئيسية