التقية في الفقه المالكي

النفاق الشرعي

 

التقية في الفقه المالكي

 

ذكر الإمام مالك بن أنس (ت / 279ه‍) في المدوّنة الكبرى عدم وقوع طلاق المكره على نحو التقية، محتجّاً بذلك بقول الصحابي ابن مسعود : «ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلا كنت متكلّماً به»(1).

ولا شكّ أنّ الاحتجاج بهذا القول يعني جواز إظهار خلاف الواقع في القول عند الإكراه، ولو تمّ بسوطين.

كما أفتى ابن عبد البرّ النمري القرطبي المالكي (ت /463ه‍) بعدم وقوع عتق وطلاق المكره(2) ولو كانت التقية لا تجوز في العتق والطلاق عند الإكراه من ظالم عليهما لقال بوقوعهما.

كما ذهب علماء المالكية إلى جواز التلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه تقية على النفس من التلف، مع وجوب اطمئنان القلب بالإمان.

فقد ذكر ابن العربي المالكي (ت / 543ه‍) انّ من يكفر تقية وقلبه مطمئن

______________________________

(1) المدونة الكبرى / مالك بن أنس 3 : 29 - كتاب الإيمان بالطلاق وطلاق المريض، تحت عنوان : (ما جاء في طلاق النصرانية والمكره والسكران).

(2) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي / ابن عبد البر : 503.

{ 196 }

بالإيمان، لا تجري عليه أحكام المرتد، لعذره في الدنيا، مع المغفرة في الآخرة، ثمّ صرّح بعدم الخلاف في ذلك.

ومن الاُمور التي تصحّ فيها التقيّة عند الإكراه : الزنا، فيجوز الاقدام عليه ولا حدّ على من اُكرِه عليه.

كما صرّح بأنّ الإكراه إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤاخذ المكره بشيء، محتجّاً بالحديث المشهور : «رفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرُهوا عليه»، ويستثنى من ذلك ما خرج بدليل معتبر، كالإكراه على القتل. فإذا اُكره المرء على القتل فقتل، يُقتل.

ثمّ ذكر اختلاف المالكية في الإكراه على اليمين، هل تصحّ التقية فيه ؟ أو لا تصحّ، واختار الأوّل(1).

وذكر ابن جزي المالكي (ت / 741ه‍) جواز التلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها.

امّا السجود للصنم، فقد صرّح بجوازه عند الجمهور، قال : ومنعه بعضهم.

ثمّ قال : «قال مالك : لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتق، ولا شيء فيما بينه وبين اللّه، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد، أو أخذ ماله»(2).

وهذا القول يعني انّ الإمام مالكاً كان يرى التقية في جميع العبادات لأنّها

______________________________

(1) أحكام القرآن / ابن العربي 3 : 1177 / 1182.

(2) تفسير ابن جزي : 366.

{ 197 }

ممّا بين اللّه تعالى والعبد، وأمّا غير ذلك فلا يعني عدم جواز التقية فيه مع الخوف من القتل، كما يفهم من عبارة ابن العربي المالكي، قال في تفسير قوله تعالى : (الّذِين اُخرِجُوا من دِيارِهِم بغيرِ حقٍّ)(1)، هذا : «دليل على نسبة الفعل الموجود من المُلجأ المكرَه إلى الذي ألجأه واكرهه، ويترتّب عليه حكم فعله، ولذلك قال علماؤنا : إنّ المكرِه على اتلاف المال يلزمه الغرم، وكذلك المكرِه على قتل الغير يلزمه القتل»(2).

بمعنى أنّ التقيّة في إتلاف المال جائزة، ولكن الغرم يكون على من أكره على الاتلاف.

امّا القتل فلا يجوز تقية، ويقتل القاتل - كما صرّح به آنفاً - ولكن القصاص يسري إلى المكرِه فيُقتل أيضاً.

أمّا أبو حيّان الأندلسي المالكي (ت / 754ه‍) فيرى صحّة التقية من كل غالب يكره بجور منه، فيدخل في ذلك الكفّار، وجورة الرؤساء، والسلابة، وأهل الجاه في الحواضر. كما تصحّ التقية عنده في حالة الخوف على الجوارح، والضرب بالسوط، والوعيد، وعداوة أهل الجاه الجوَرة، وانّها تكون بالكفر فما دونه، من بيع وهبة ونحو ذلك(3).

وقد فصّل القرطبي المالكي (ت / 671ه‍) القول فيما تصحّ فيه التقيّة، وسنذكر - مع الاختصار - بعض ما ذكره، على النحو الآتي :

1 - تجوز التقية في تلفّظ كلمة الكفر ولا شيء على المكره مع اطمئنان القلب

______________________________

(1) أحكام القرآن / ابن العربي 3 : 1298.

(2) م. ن 3 : 1298.

(3) البحر المحيط / أبو حيان 2 : 424.

{ 198 }

بالإيمان، وقد حكى الإجماع على ذلك.

2 - التقية رخصة، تجوز في القول والفعل على حدّ سواء، قال : «روي ذلك عن عمر بن الخطّاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم، عن مالك أنّ من اُكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان أن الاثم عنه مرفوع».

3 - السجود للصنم تقية جائز.

4 - يجوز الاقدام على الزنا عند الإكراه ويسقط الحدّ.

5 - اختلاف العلماء في طلاق المكره وعتاقه واختار جواز التقية فيه ولا يلزمه شيء من ذلك. ونسبه إلى أكثر العلماء.

6 - نقل إجماع المالكية على أنّ بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز ونسبه إلى الأبهري. ومثله نكاح المكره.

7 - إذا استُكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها.

8 - إذا اُكره الإنسان على تسليم أهله لما لم يحلّ أسلمها، ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل أذيّة في تخليصها ‍‍!!

9 - يمين المُكرَه غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء، قال ابن الماجشون : «وسواء حلف فيما هو طاعة للّه أو فيما هو معصية إذا اُكرِه على اليمين».

10 - لا يقع الحنث عند الإكراه.

11 - الاتّفاق على صحّة توكيل الإنسان حال تقيّته(1).

______________________________

(1) الجامع لأحكام القرآن 10 : 180 - 191 في تفسير الآية (106) من سورة النحل.

{ 199 }

امّا التقيّة عند ابن عطيّة الأندلسي المالكي (ت / 541ه‍) فتجوز في تلفّظ كلمة الكفر، وحكى جواز السجود إلى الصنم عند الإكراه، كما تصّح في البيع، والأيمان، والطلاق، والعتق، والإفطار في شهر رمضان، وشرب الخمر، ونحو ذلك من المعاصي، ثمّ أكّد أنّ هذا هو المروي عن مالك بن أنس من طريق مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وانّه لا يشترط في التقية تحقّق الإكراه المفضي إلى القتل، وإنّما يكفي في ذلك أن يكون الإكراه قيداً، أو سجناً، أو وعيداً مخوّفاً، وإن لم يقع ما يوعد به(1).

وقد سُئل ابن أبي عليش المالكي (ت / 1299ه‍) : «ما قولكم فيمن اُكرِه على شرب الخمر، أو سائر النجاسات، فهل يجوز له ذلك لخوف ضرب مؤلم ؟ أم كيف الحال ؟».

فقال في جواب هذا السؤال : «فأجبت بما نصّه : الحمد للّه، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد رسول اللّه. قال الثنائي، عن سحنون : ولو اُكره على أكل الميتة، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، لم يجز إلا لخوف القتل، انتهى.

وهو مبني على أنّ الإكراه لا يتعلّق بالفعل، والمذهب تعلّقه به، فيكون بما مرّ من خوف مؤلم... إلخ، وهو قول لسحنون أيضاً، وهو المعتمد لا ما ذكره...»(2).

______________________________

(1) الجامع لأحكام القرآن 10 : 376 - 377 - المسألة السادسة من مسائل الآية (19) من سورة الكهف.

(2) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك / أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد عليش 1 : 191.

عودة